مجلة «الزهور» المصرية

أنطون الجميل

العدد 1

العدد 1 - بتاريخ: 1 - 3 - 1910 ما هي هذه المجلة؟ بدت منذ مدة من الزمن في كل الأقطار العربية طوالع حركة فكرية، ونهضة أدبية، لا يسع المكابر إنكارها. فلقد نفض الناطقون بالضاد غبار الخمول عنهم، وأفاقوا من سباتهم العميق، فألقوا نظرة إلى مجاوريهم أبناء سائر اللغات، فرأوهم قد ساروا شوطاً بعيداً في مضمار الآداب والفنون، ونظروا إلى العرب أجدادهم، فرأوا أنفسهم قد قصروا عنهم أيما تقصير: فلا السيوف المشرقية، ولا الرماح الهندية، ولا الجياد الأعوجية، يفاخرون بها الأقران، ويفتحون بها الأمصار والبلدان. . . . ولا البيان الدرّيّ، ولا الشعر السحري، ولا الهوى العذري، يخلبون به الألباب ويستولون به على ممالك الأذهان. . . رأوا قد دالت من يدهم دولة الحسام، ودولة الأقلام، وأدركوا أن الأحفاد كادوا يضيعون ذلك الإرث المجيد الذي خلفه لهم الأجداد. فهالهم ما رأوا وما أدركوا عندما تفتحت منهم العيون، بعد مر الأجيال

والقرون. فنهضوا نهضة من يريد أن يعتاض بالاجتهاد، عما أضاعه من الأوقات. وأخذوا ينسجون بجد ونشاط ثوباً يسترون به عريهم قبل أن تسقط أسمالهم البالية. ونفخوا الرماد الذي ذرته الأيام على نار أذهانهم ليوقدوا من القبس الباقي مصباحهم. هذه هي النهضة التي سرت روحها بين غروب القرن التاسع عشر وبزوغ القرن العشرين في مصر والشام والعراق والمغرب وسائر البلاد التي تتفاهم بالعربية. بين غسق القرن الغابر، وغلس القرن الحاضر، بزغت شمس هذه النهضة الفكرية، في سماء البلاد العربية. بعد أن تقدمها شهاب من النور، في السنين السالفة كما يتقدم شروق البدور. ولقد كان لإعلان الدستور في الممالك العثمانية كبير تأثير في هذه الحركة. فإن ثوره الأبلج بدد ما تبقى من السحب، في سماء العرب. فراق الجو، وانقشعت غيومه، وصاف أديمه. بعد أن كادت غياهب الاستبداد تطفئ كل نور ونار. نبغ في الأقطار العربية كتاب أعلام، وشعراء عظام. أخذوا أهبتهم ونزلوا إلى الميدان. فجال فريق منهم جولات صادقة ذكرتنا مفاخر الماضين، فقلنا: إن أولاء الأبناء من أولئك الآباء. وهم - وإن كان عددهم قليلاً - سيكونون لنا خير أساتذة يؤملون بإرجاع العصور الذهبية، للآداب العربية. ونزل فريق إلى المضمار على غير ما يكفى من التمرين والترويض

فجالوا غير آمنين كبوة حصانهم، أو نبوة حسامهم. ومثل هؤلاء في حاجة إلى التنشيط وزيادة التمرين تحت إدارة من يروض جيادهم ويثقف سلاحهم. وأنى يكون ذلك وكل فريق من الكتاب يجري في مضماره بعيداً عن الفريق الآخر فلا يرى أقراناً من ربع غير ربعه يجاريهم، ولا يلاقي فرساناً من حي غير حيه يباريهم. .؟ أنى يكون ذلك ويكاد كتاب القطر الواحد يجهلون حتى أسماء كتاب القطر الثاني. لأن لا صلة بينهم ولا رابطة تربطهم. فحملة الأقلام في مصر يكادون لا يعرفون شيئاً عن زملائهم في الشام، وهؤلاء يعرفون دون القليل عن كتاب العراق. وقس على ذلك في سائر الأقطار العربية. ولقد تذهب هذه النهضة الجميلة بلا جدوى، وتضيع هذه المساعي الإفرادية بلا فائدة إذا لم تتضام وتتضافر ليتولد منها قوة واحدة كبيرة تنهض بالآداب العربية. وإذا ظلت الحال على هذا المنوال يظل الكتاب في الأمصار كالجزر المبعثرة في عرض البحار: لا رابط يربط بعضها ببعض ليستمد بعضها من بعض. فلا تفي كل واحدة بحاجات أهليها، فتنضب وتجدب ويهجرها من فيها. ولذلك فكرنا في العمل على سد هذا الفراغ الذي يشعر به الجميع وعزمنا بعون الله على إنشاء مجلة خاصة - على قدر الإمكان - بهذا الموضوع وبعد مفاوضة السواد الأعظم من مشاهير حملة الأقلام في مصر والشام.

عللنا النفس بأن نجعلها المضمار العام الذي ينزل إليه فرسان الأدب، ليجروا أشواطهم جنباً إلى جنب، فيكون هناك مباراة وتمرين واقتداء ولا فائدة بلا هذه الأمور. أو هي تكون السفينة التي تصل الجزر بعضها ببعض، فتحمل إلى هذه ما تحتاج من تلك، وتحمل إلى تلك ما تحتاج من هذه. وهكذا يتم التعاون والتساند الأدبي. نحن لم يخف علينا ما في ذلك من الصعوبة والمشقة، ولم تغرر بنا النفس حتى نتوهم أننا - على ضعفنا - قادرون على سد هذا الفراغ. لكننا عرضنا هذه الفكرة على أيمة الأدب في القطرين المصري والسوري فأنسنا منهم ارتياحاً كبيراً إلى هذا المشروع وتنشيطاً عظيماً على تحقيقه. ولما رأينا حينذاك أن لدينا القوة اللازمة من الأنصار والمساعدين أقدمنا على تحقيق هذه الأمنية متكلين على موفق الأمور. يفهم القارئ مما تقدم مجمل موضوع هذه المجلة الجديدة وخطتها. فهي تعلل النفس بان تكون صلة تعارف بين كتاب العرب في كل الأقطار، وذلك بنشر ما تجود به قرائحهم الوقادة من النفثات الرائقة، وفتح الميدان وسيعاً بوجههم ليتباروا فيه في موضوعات مختلفة. وسننشر تباعاً رسوم حملة ألوية الأدب ونفتح باباً خصوصياً للتراسل والتباحث فيما بينهم وبالإجمال نتوخى كل ما له علاقة بالحركة الفكرية وما يهم الأدباء الاطلاع عليه. ولا حاجة إلى القول أننا سنقصر في هذه النشرة على الأدبيات والفنيات مبتعدين عن السياسيات والمذهبيات.

وإليك أهم الأبواب التي سنطرقها في هذه المجلة: 1 ً - باب للمقالات التي يدبجها مشاهير الكتاب في مواضيع متنوعة. 2 ً - في رياض الشعر - ننشر تحت هذا العنوان عرائس القصائد التي تجود في قرائح فحول شعرائنا. 3 ً - في جنائن الغرب - ننشر تباعاً في هذا الباب خير ما يؤخذ عن آداب اليونان والرومان والفرنساويين والإنكليز والألمان والإيطاليان والروس وغيرهم من الغربيين قديماً وحديثاً لأن ذلك يكسب لغتنا ثروة طائلة من المعاني الجديدة والمباني الحديثة. وسنعتمد في ذلك على تعريب فريق من الكتاب العارفين بهذا الفن. 4 ً - في حدائق العرب - ننشر فيه صفحات مطوية من خير ما قاله الغابرون من كتاب العرب لأن لدينا كنوزاً مدفونة نحن في أشد الحاجة إلى الانتفاع بها. وسنعمل على قدر الإمكان ليكون نشر هذه الصفحات بمناسبة الحوادث الحاضرة وعلى مقتضى سير الأمور حوالينا. 5 ً - أشواك وأزهار - باب خصوصي للانتقاد والملاحظات على الحوادث الجارية والتعليق عليها بقلم أديب متفنن يريد أن يكتم اسمه. 6 ً - حديقة الأخبار - نورد في هذا الباب ملخص الحوادث وخصوصاً التي لها علاقة بحياة الكتاب. 7 ً - باب خصوصي لدرس كل كتاب نفيس يظهر في عالم المطبوعات درساً أدبياً على طريقة الأوربيين في نقد كتبهم. أو البحث بحثاً وافياً في حياة كاتب من أئمة الكتبة الأقدمين أو المحدثين.

8 ً - الروايات - ولما كان الجمهور قد أصبح كثير الميل إلى الروايات الخيالية المعروفة باسم الرومان لم نشأ أن نحرمه ذلك. ولكن لكي نقرن اللذة بالفائدة الواجب استخراجها من كل مطالعة لم نرض بتلك الروايات التافهة التي يضعها بعض تجار الكتب في أيدي القراء. بل عمدنا إلى اختيار نخبة من طرائف الروايات الأوروبية الشهيرة التي وضعها أشهر كتاب الغرب ووكلنا تعريبها إلى من نعرف فيهم الكفاءة اللازمة. وسننشر تباعاً أشياء كثيرة عن الأدب والفنون والعلوم والتاريخ والاجتماع وغير ذلك مما يهم القراء الاطلاع عليه. المحررون - قلنا أن غايتنا الأولى من هذه النشرة إيجاد صلة التعارف بني كتاب الأقطار العربية وتعريف عموم القراء بمشاهير كتبتنا لما في ذلك من الفوائد التي لا تخفى على أحد ولرغبة جمهور كبير فيم عرفة وحفظ ما تجود به القرائح العربية. ولذلك لم يكن بالإمكان الاقتصار على فريق قليل من المحررين. وعليه فقد أردنا أن نضمن لنفسنا مساعدة كل من أحرزوا شهرة في عالم الكتابة فكان في مقدمهم من اقترح علينا هذا الفكر وهم ليسوا بالنفر القليل. ثم كتبنا إلى فريق آخر فورد منهم الجواب بالإيجاب مع الارتياح العظيم إلى هذا المشروع وقد لبوا هذا الطلب عن طيبة خاطر غيرة منهم على الأدب، وحرصاً على كنوز العرب. وكان بودنا نشر الكتابات العديدة التي تلقيناها من مشاهير كتابنا لما فيها من التنشيط ولكن ضيق المقام يضطرنا إلى الاكتفاء بنشر أسمائهم الكريمة فقط مرجئين نشر جواباتهم إلى فرصة أخرى. وهكذا يمكننا أن نبشر القراء منذ

الآن بمساعدة الكتبة الآتية أسماؤهم مرتبة على حروف الهجاء: إبراهيم أفندي الحوراني إبراهيم أفندي شدودي (الدكتور) أحمد بك شوقي الشيخ أحمد حسن طبارة أحمد أفندي الكاشف أحمد أفندي محرم أحمد أفندي نسيم الشيخ إسكندر العازار إسماعيل باشا صبري إلياس أفندي فياض أمين أفندي الريحاني أمين أفندي الغريب بشارة أفندي عبد الله الخوري توفيق أفندي حبيب حافظ أفندي إبراهيم حفني بك ناصف خليل أفندي مطران داود أفندي بركات شبلي أفندي شميل (الدكتور) شبلي بك ملاط فليكس أفندي فارس الشيخ عبد القادر المغربي محمد أفندي إمام العبد محمد أفندي كرد علي محمد أفندي مسعود محمد أفندي السباعي الشيخ محيي الدين الخياط السيد مصطفى لطفي المنفلوطي نعوم بك شقير نقولا أفندي رزق الله ولي الدين بك يكن يوسف أفندي نخلة ثابت وهناك أيضاً عدد كبير من أئمة الكتبة في مصر والشام وبغداد وتونس وطرابلس الغرب والجزائر وأمريكا إلخ قد باشرنا مفاوضتهم بهذا الشأن لتتم الغاية المطلوبة. فيجد القارئ إن شاء الله في مجلة الزهور خير ما تجود به الأقلام العربية في كل الأصقاع فيكون له فيها أحسن مجموعة أدبية جامعة يحق الاحتفاظ بها.

السباقات - وستفتح المجلة سباقات تتناول مواضيع شتى وتجعل الحكم فيها لنخبة من أعلام الأدباء. منها سباقان كبيران: الواحد في موضوع شعري، والثاني في موضوع نثري. وتعد للمجلين في هذا المضمار مداليات وجوائز ثمينة. الاشتراك - ولما كانت غايتنا تعميم هذه النشرة على قدر الإمكان فقد جعلنا بدل الاشتراك زهيداً للغاية تتحمله كل الجيوب. وقيمته: في القطر المصري: أربعون غرشاً صاغاً في الممالك العثمانية: ثلاثة ريالات مجيدية وفي الخارج: خمسة عشر فرنكاً وجعلنا للمعاهد العلمية وأساتذتها وللأندية الأدبية حسم 30 في المئة. حقوق المشترك - يحق لكل مشترك في مجلة الزهور: 1 - حسم 50 في المئة من ثمن كل كتاب تنشره المجلة. 2 - حسم 25 في المئة من ثمن كل كتاب يُطلب عن يد إدارتها. 3 - الكتاب الخصوصي الذي تنشره المجلة سنوياً يرسل إليه مجاناً. 4 - نشر إعلان خصوصي لا يتجاوز السطرين مرة في السنة. 5 - الاشتراك في كل سباق تفتحه المجلة وذلك دون مقابل. 6 - حضور الاحتفالات الأدبية التي تقيمها إدارة المجلة بمساعدة المعاونين بالتحرير. هذا بعض الشيء عن خطة هذه المجلة الجديدة، والغاية التي ترمي إليها، والأبحاث التي ستتناولها بمساعدة خير من حرر، وأشهر من حبر من كتابنا العصريين. فعسى أن تلاقي رضى القراء وارتياحهم إليها. فيلاقوا فيها فائدة لأذهانهم، وتفكهة لخواطرهم، وعلى الله الاتكال في كل الأعمال.

السباق الشعري الكبير

السباق الشعري الكبير لسنة 1910 الموضوع -: وأما شجرة معرفة الخير والشر فلا تأكل منها. فإنك يوم تأكل منها تموت موتاً - (سفر التكوين ف 2: ع 17) قال اهبطوا بعضكم لبعضٍ عدوٌّ، ولكم في الأرض مستقرٌ ومتاعٌ إلى حين - (سورة الأعراف: 7) بعد صدور الحكم بالموت على الإنسان الأول، جلس آدم وحواء في البرية عند المساء، يتساءلان: ما هو الموت؟ كيف تصوراه. . .؟ نظم قصيدة في تصوراتهما هذه. الموعد -: آخر موعد لقبول القصائد المختصة بهذا لموضع 30 أفريل (نيسان) من السنة الجارية. الحكم -: ويكون الحكم النهائي في الموضوع لحضرة الشاعرين الكبيرين: سعادة إسماعيل باشا صبري وحافظ أفندي إبراهيم. السباق النثري الكبير لسنة 1910 الموضوع: كتابة نبذة لا تتجاوز عشر صفحات من قطع هذه المجلة في الوسائل الواجب اتخاذها لترقية آداب اللغة العربية بعد إيراد لمحة وجيزة في ما كانت عليه أيام الجاهلية وعلى عهد الخلفاء.

الموعد -: آخر موعد لقبول ما يرسل إلينا في هذا الشأن 15 مايو (أيار) من السنة الجارية. الحكم -: وسيحكم بين الباحثين كاتبان اختصاصيان وهما: سعادة القانوني حفني بك ناصف، مدرس الآداب العربية في الجامعة المصرية، وحضرة الباحث الشيخ محمد المهدي المدرس بمدرسة القضاء الشرعي. * * * الجوائز -: سيمنح الفائزون في كل سباق من هذين السباقين جوائز ثمينة متنوعة سنذكرها في عددٍ آت. الشروط -: على كل من يرغب في الاشتراك في أحد هذين السباقين أو في كليهما أن يراعي الشروط الآتية: 1 ً - أن يكون مشتركاً في المجلة - وإلا فعليه أن يرسل طوابع بريد بقيمة فرنكين لنفقات المراسلات. 2 ً - أن يوقع ما يكتبه بتوقيع مستعار. ويكتب اسمه الحقيقي وعنوانه مع اسمه المستعار في ورقة يضعها في ظرف مختوم يدون على ظاهره اسمه المستعار فقط ويضع هذا الظرف مع قصيدته أو مقالته في ظرف ثان ويرسله خالص أجرة البريد بعنوان مجلة الزهور. شارع الفجالة نمرة 1 بمصر. 3 ً - أن يذكر إذا كان يريد، عند نشر الكتابات في المجلة أن يصرح باسمه الحقيقي أو يكتفي باسمه المستعار. 4 ً - أن لا يتأخر بإرسال موضوعه عن الموعد المضروب لكل سباق.

حج الخديوي عباس حلمي وقصائد المدح فيه

حج الخديوي عباس حلمي وقصائد المدح فيه حج سمو خديوي مصر في هذا العام إلى البيت الحرام وعاد محفوفاً باليمن والبركات. وقد تبارت قرائح شعرائنا في وداعه واستقباله. فكان موسم شعر ذكرنا سوق عكاظ. ولا جدال في أن خير ما قيل في حج أمير مصر قصيدة سعادة أحمد بك شوقي أمير الشعر. وقصيدة حضرة حافظ أفندي إبراهيم نابغة مصر. وقد جئنا على بعض ما فيها من الدرر الغوالي في ما يأتي من المقال:

شوقي والبوصيري البردة وطرازها قصيدة البوصيري في مدح نبي الإسلام من خير ما جادت به قرائح الشعراء معنى ومبنى. وقد توالت الأجيال والقرون على هذه البدرة الثمينة، فلم تبل جدتها، ولم تذهب بهجتها، بل أكسبتها الأيام جلال العتق والقدم ولقد شاء احمد بك شوقي أن يُلبسها طرازاً معلماً فنسج طراز البردة بمناسبة عودة سمو أمير مصر من حجه المبرور. ولقد كان ذلك يعد - تهجماً - من أي شاعر كان إلا من أمير الشعر. فهو ذو القريحة

الوقادة والنفس الطويل، القادر على مجاراة فرسان الشعر في أي ميدان كان، فجاءت قصيدته خير طراز يليق أن توشى به تلك البردة البديعة كما سيرى القارئ من المقارنة بين بعض أبيات هذه وتلك. وقد كان بودنا إثبات القصيدتين برمتهما لولا ضيق المقام. لم تخف على شوقي بك وعورة هذا المسلك فنصل قائلاً: المادحون وأرباب الهوى تبع ... (لصاحب البردة) الفيحاء ذي القدم الله يشهد أني لا أعارضه ... من ذا يعارض صوب العارض العرم؟ على أن شوقي - رغم هذا التنصل الذي قضى به حسن الذوق - قد عارض سلفه ولم يقصر عنه في أكثر المواقف: قال البوصيري في الآيات القرآنية: لو ناسبت قدره آياته عظماً ... أحيا اسمه حين يدعى دارس الرمم وكل آيٍّ أتى الرسل الكرام بها ... فإنما اتصلت من نوره بهم آيات حق من الرحمن محدثه ... قديمة صفة الموصوف بالقدم لم تقترن بزمان وهي تخبرنا ... عن المعاد وعن عاد وعن إرم وقال شوقي في مثل هذا المعنى: جاء النبيون بالآيات فانصرمت ... وجئتنا (بحكيم) غير منصرم آياته كلما طال الزمان بها ... يزينهن جلال العتق والقدم يا أفصح الناطقين الضاد قاطبة ... (حديثك) الشهد عند الذائق الفهم حلّيت من عطل جيد الزمان به ... من كل منتثر في حسن منتظم بكل قولٍ كريم أنت قائله ... تحيي القلوب ويحيي ميت الهمم

شريعة لك فجرت العقول بها ... عن زاخر بصنوف العلم ملتطم يلوح حول سنا التوحيد جوهرها ... كالحلي للسيف أو كالوشي للعلم وجاء في البردة عن وصف العالم عند ظهور الدعوة إلى الإسلام: أبان مولده عن طيب عنصره=يا طيب مبتدأ منه ومختتم يوم تفرَّس فيه الفرس أنهم ... قد أنذروا بحلول البؤس والنقم وبات إيوان كسرى وهو منصدع ... كشمل أصحاب كسرى غير ملتئم وجاء في طراز البردة من بديع الوصف ما نأخذ منه: أتيت والناس فوضى لا تمر بهم ... إلا على صنم قد هام في صنم والأرض مملوءة جوراً مسخرة ... لكل طاغية في الخلق محتكم مسيطر الفرس يبغي في رعيته ... وقصير الروم من كبر أصم عمي والخلق يفتك أقواهم بأضعفهم ... كالليث بالبهم أو كالحوت بالبلم أسرى بك الله ليلاً إذ ملائكه ... والرسل في (المسجد الأقصى) على قدم لما خطرت به التفوا بسيدهم ... كالشهب بالبدر أو كالجند بالعلم وهذا المعنى الأخير أخذه شوقي عن البوصيري حيث قال: فإنه شمس فضلٍ هم كواكبها ... يظهرن أنوارها للناس في الظلم وصف صاحب البردة انقشاع غياهب الجهالة أمام أنوار الرسالة النبوية فقال: كم جدلت كلمات الله من جدل ... فيه وكم خصم البرهان من خصم كفاك بالعلم في الأمي معجزة ... في الجاهلية والتأديب في اليتم وتحداه صاحب الطراز فكمل المعنى بنفي الريب والظنون فقال:

والجهل موت فان أوتيت معجزة ... فأبعث من الجهل أو فابعث من الرجم قالوا غزوت ورسل الله ما بعثوا ... لقتل نفس ولا جاءوا لسفك دم جهل وتضليل أحلام وسفسفة ... فتحت بالسيف بعد الفتح بالقلم لما أتى لك عفواً كل ذي حسب ... تكفل السيف بالجهال والعمم والشر أن تلقه بالخير ضقت به ... ذرعاً وإن تلقه بالسيف ينحسم وقال البوصيري واصفاً قتال الأعداء فأبدع في الترشيح في الاستعارة: راعت قلوب العدة أنباء بعثته ... كنبأة أجفلت غفلاً من الغنم هم الجبال فسل عنهم مصادمهم ... ماذا رأى منهم في كل مصطدم المصدري البيض حمراً بعد ما وردت ... من العدى كل مسود من اللمم والكاتبين بسمر الخط ما تركت ... أقلامهم حرف جسم غير منعجم وقال شوقي وقد أضاف إلى ذلك شيئاً من الفلسفة الاجتماعية: علمتهم كل شيء يجهلون به ... حتى القتال وما فيه من الذمم دعوتهم لجهاد فيه سؤددهم ... والحرب أس نظام الكون والأمم لولاه لم نر للدولات في زمن ... ما طال من عمد أو قرّ من دعم بالأمس مالت عروش واعتلت سرر ... لولا القنابل لم تثلم ولم تصم وجاء في البردة من مدح الخلفاء ما لا يقارب ما جاء على لسان صاحب الطراز حيث قال عن العرب وخلفائهم: دع عنك روا وأثينا وما حوتا ... كل اليواقيت في بغداد والتوم وخل كسرى وإيواناً يدل به ... هوى على أثر النيران والأيم واترك رعمسيس إن الملك مظهره ... في نهضة العدل لا في نهضة (الهرم)

دار الشرائع روما كلما ذكرت ... (دار السلام) لها ألقت يد السلم ما ضارعتها بياناً عند ملتئم ... ولا حكتها قضاء عند مختصم ولا احتوت في طراز من قياصرها ... على رشيد ومأمون ومعتصم يطأطئ العلماء الهام أن نبسوا ... من هيبة العلم لا من هيبة الحكم ويمطرون فما في الأرض من محل ... ولا بمن بات فوق الأرض من عدم خلائف الله جلوا عن موزنة ... فلا تقيسن أملاك الورى بهم من في البرية (كالفاروق) معدلة ... و (كابن عبد العزيز) الخاشع الحشم 3 و (كالإمام) إذا ما فض مزدحماً=بمدمع في مآقي القوم مزدحم أو (كابن عفان) والقرآن في يده ... يحنوا عليه كما تحنو على الفطم إلى غير ذلك من التاريخ المسبوك بأجمل قالب شعري. . . وأشار (محمد) البوصيري إلى اسمه فقال: فإن لي ذمة منه بتسميتي ... (محمداً) وهو أوفى الخلق بالذمم وأشار (أحمد) شوقي إلى اسمه أيضاً فقال: يا (أحمد) الخير لي جاه بتسميتي ... وكيف لا يتسامى بالرسول سمي وهناك أيضاً معانٍ كثيرة نسج عليها الشاعران أبياتاً شائقة كنا نود ذكرها لنبين مجرى الأفكار من جيل إلى جيل، ولكن في ما تقدم كفاية لاطلاع القراء على طريقة شاعر الأمس وشاعر اليوم، فيرون أن راز شوفي كان لبردة البوصيري كالحلي للسيف أو كالوشي للعلم.

حافظ والفرزدق قال حافظ من قصيدته مخاطباً أمير مصر: تذكر زين العابدين وجده ... وما كان من قول الفرزدق فيهما وقول الفرزدق فيهما مشهور، ورواية الخبر، أنه لما حج هشام بن عبد الملك في أيام أبيه طاف بالبيت وجهد أن يصل إلى الحجر الأسود ليستلمه فلم يقدر على ذلك لكثرة الزحام. فنصب له كرسي وجلس عليه ينظر الناس ومعه جماعة من أعيان أهل الشام. فبينما هو كذلك إذ أقبل زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب وكان من أجمل الناس وجهاً وأطيبهم أزجهاً. فطاف بالبيت. فلما انتهى إلى الحجر تنحى له الناس حتى استلم الحجر. فقال رجل من أهل الشام لهشام: من هذا الذي هابه الناس هذه الهيبة؟ فقال هشام: لا أعرفه مخافة أن يرغب فيه أهل الشام وكان الفرزدق حاضراً فقال: أنا أعرفه. - فقال الشامي: ومن هو يا أبا فراس؟ فقال الفرزدق: هذا الذي تعرف البطحاء وطأته ... والبيت يعرفه والحل والحرم هذا ابن خير عباد الله كلهم ... هذا التقي النقي الطاهر العلم هذا ابن فاطمة إن كنت جاهله ... بجده أولياء الله قد ختموا وليس قولك من هذا؟ بضائره ... العرب تعرف من أنكرت والعجم

هذا هو قول الفرزدق في زين العابدين الذي يشير إليه حافظ والذي تذكره الركن عند استلام العباس له. تمنى حافظ أن يسير في ركب أميره، فقال: ولو أنني خيرت أن أرى ... لعيسك وحدي حادياً مترنما فلو فرضنا أن الزحام كان شديداً حتى تعذر على أمير مصر أن يصل إلى الحجر وكان حافظ قد سار أمامه حادياً مترنماً بقوله: مشيت كعبة الدنيا إلى كعبة الهدى ... يفيض جلال الملك والدين منهما وفي الركب شمس أنجبت أنجب الورى ... فتى الشرق مولانا الأمير المعظما تسير إلى شمس الهدى في طفاوة ... من العز تحدوها الزواهر أينما لتنحى الناس لهذا الأمير وشاعره ولو كان فيهم صفوة العظماء وخيرة الأمراء. وإذا قابلنا بين قصيدة حافظ وقصيدة الفرزدق فقد لا تفضل هذه تلك. وشاعر زين العابدين معروف بجزالة شعره وفخامته وشدة أسره حتى قدم على الشعراء الإسلاميين. وصف الفرزدق ممدوحه بالكرم فقال: كلتا يديه غياث عم نفعهما ... يستوكفان ولا يعروهما عدم ما قال (لا) قط إلا في تشهده ... لولا التشهد كانت لاءه نعم هم الأسود إذا ما أزمة أزمت ... والأسد أسد الشرى والبأس محتم وقال حافظ:

حللت بأكناف الجزيرة عابراً ... فأنضرت واديها وكنت لها سما دعوا بك واستسقوا فلبى دعاءهم ... من الأفق هتان من المزن قد هما رجعت وقد داويت بالجود فقرهم ... وكنت لهم في موسم الحج موسما وجدت وجادت ربة الطهر والتقى ... على العام حتى أخصب العام منكما فلم تبقيا فوق الجزيرة بائساً ... ولم تتركا في ساحة البيت معدما وإذا كان الفرزدق قد أجاد وأبدع فيم دح أجداد ممدوحه فإن حافظاً لم يقصر عنه في هذا الباب أيضاً حيث قال: سليل ملوك يشهد الله أنهم ... أقاموا عمود الدين لما تهدما لئن بات المجد المؤثل مغرما ... لقد كان (إبراهيم) بالمجد مغرما وإن نام حب المكرمات فؤاده ... لقد كان (إسماعيل) فيها متيما وإن سكنت تقوى المهيمن قلبه ... فقد كان منها قلب (توفيق) مفعما وإن بات ناهضاً بمصر إلى الذرى ... فمن جده الأعلى (علي) تعلما الأمراء والشعراء أمس واليوم كان الأمراء قدماً يدعون أن كرهم علم الشعراء الشعر. وكان الشعراء يجيبون بان شعرهم علم الأمراء الكرم. ولقد يكون الفريقان صادقين فيما يقولان.

وكان الشعراء بالأمس يقفون على أبواب الملوك والعظماء لينشدوهم الشعر، ونراهم اليوم المقربين الجالسين في الصدر. ولقد نظم شوقي بك هذا المعنى فأبدع وأجاد. ولشاعر أمير مصر ولع بشعر ابن هاني شاعر هارون الرشيد وقد أطلق على منزله في المطرية اسم كرمة ابن هاني وكان هذا المنزل مزداناً بأبهج الزينات ليلة عودة سمو الخديوي من الحج فاتفق أن سموه مر تلك الليلة أمام كرمة ابن هاني فألقى شاعره واقفاً على الباب فقال له: يا شوقي أعجبتني قصيدتك كما أعجبتني زينتك فارتجل شوقي بك الأبيات الآتية التي أشرنا إليها، كحاشية لطراز البردة: زين الملوك الصيد مر بزينتي ج كرماً وباب الله طاف ببابي يا ليلة القدر التي بلغتها ... ما فيك بعد اليوم من مرتاب ما كنت أهلاً للنوال وإنما ... فنحات أحمد فوق كل حساب لما بلغت السؤل ليلة مدحه ... بعث الملوك يعظمون جنابي بدران بدر في السماء منور ... وأخوه فوق الأرض نور رحابي هذا (ابن هاني) نال ما قد نلت من ... حسب ندل به على الأحساب قد كان يسعى للرشيد وبابه ... فسعى الرشيد إليه وهو ببابي * * * أما حافظ فقد مثل بحضرة الأمير يوم وصوله وقام في السرادق الفخيم الذي نصبته لجنة الاحتفال في ساحة سراي عابدين فأنشده قصيدته التي سلفت الإشارة إليها. وكان الأمير يصغي إلى منشده بكل انتباه،

الصحافة والصحافيون

فيقول بعد كل بيت مدح: أستغفر الله وبعد كل بيت دعاء: إن شاء الله. فأكرم بالملوك والأمراء الذين يعرفون قدر الأدب والأدباء. . . الصحافة والصحافيون كان حامل القلم كحامل السيف في يمين كليهما سلاح ماض. . . وأصبح حامل القلم، في العصر الحديث، كالقابض على الصولجان: كلاهما نافذ الكلمة، مرعي الجانب. ولكن لا يتم ذلك للكاتب، إلا إذا فهم حقيقة مهمته، وأدرك شرف مهنته. فإذا لم يكن كل من هز الحسام بضارب فكذلك ليس كل من هز اليراع بكاتب وأبعد حملة الأقلام نفوذاً الآن هم الصحافيون، بفضل انتشار الصحف وإقبال الكبير والصغير عليها. وعليه يجب أن تكون الصحافة - كما قال احد كبار المفكرين - شجرة الحقيقة يغرد على فنانها الكتاب الصادقون وإنه ليسرنا أن ندون على صفحات الزهور كلمتين في هذا الموضوع: أحداهما لأمير شرقي كبير، والثانية لشريف غربي خطير. 1 قام دولة الأمير الجليل حسين باشا كامل عم سمو الجناب العالي الخديوي في إحدى جلسات مجلس شورى القوانين ووجه إلى رجال الصحافة كلمات قلما سمعنا مثلها في الشرق من كبرائنا، قال: إن كل أمة متمدنة يجب عليها أن تحترم الصحافة، ونود أن تكون معها يداً في يد، لتتعلم منها وتستفيد مما ينشر من الفوائد. . . .

نتمنى أن يكون التعليم في مصر إجبارياً حتى يصبح الكل يطالعون الصحف ويستفيدون منها ويتنورون بما فيها. . مكثت نحو الثمان سنوات تلميذاً في أوروبا، فرأيت أن تنور العامة جاء من مطالعة الصحف. . الجرائد أكبر من أن تكون مهنة لتعيش أصحابها، بل هي أشرف من ذلك ولها فوائد عامة عديدة إننا نعتبركم جزءاً منا حيث تحضرون جلساتنا ونقبل بارتياح أن تنتقدوا أعمالنا. . وأنتم جميعاً تعلمون مقدار احترامي لكم. . 2 وعقد مؤخراً في إنكلترا مؤتمر الصحافة فألقى اللورد مورلاي خطاباً نقتطف منه الفقرات الآتية: الإنشاء هو تأليف المقالات أو الكتب الضارة والمفيدة. وهو كالتصوير اليدوي يأتي بالصور الجميلة والقبيحة. مهنة الصحافة شريفة وشاقة. قال كارليل: الصحافي، سواء كان قائداً للرأي العام أم لم يكن، أليس هو واحداً من حكام العالم؟ ولا يفهم بالصحافي من يحسن اللغة جيداً ولا من هو كثير التأنق ولا من يرسل الكلام على عواهنه بل الصحافي الحقيقي المفيد هو الذي يحافظ على أدب الكتابة وآداب الاجتماع. ويكفي أن تجتمع في المنشئ، فضيلتان: معرفة الحقوق والبساطة، وجوهر الصحافة والإنشاء قائم في ثلاثة أشياء: حسن النية والخبرة والمقدرة.

الصحافة والإنشاء يحتاجان إلى روية أكثر من الخاطبة. لأن ما يقوله الخطيب ينسى حالاً. وأما ما يقوله الصحافي فيبقى مكتوباً ليطالع ويراجع وينتقد. وكمثله كلام المنشئ: وإنما الصحافي يحتاج إلى ذكاء متقد وإلى رزانة أعظم مما يحتاجه المنشئ لأن هذا يمكنه أن يراجع وأن يشاور. وأما الصحافي فليس له من الوقت ما يمكنه من المراجعة والمشاورة. والمنشئ ينشئ في موضوع أو فن واحد. وأما الصحافي فتعرض له كل المواضيع وكل الفنون. فيجب أن يكون راجح العقل، كثير الإدراك، سريع التحصيل ذا حنكة وحكمة ليحصل على رضى الجمهور. ويكون رأيه هو الأصح وحزبه هو الأقوى ويكون هو المحور الذي تدور حوله الآراء - وعلى الصحافي أن يكون فوق الطبيب والفقيه والصناعي والعالم والجندي والسياسي والملك وأن يكون بعيداً عن أغراض الجميع، ولا يتخذ إلا الحق له غرضاً. الصحافي ليس خادماً في مكتب، بل هو مدير الأفكار بوجهٍ عام: وإذا خطر له مرة أن يفضل الجزئي على الكلي، والعرض على الجوهر، والغرض على الحقيقة، فليتصور أن أمامه الرأي العام يكذبه. وحينذاك تتضح له المسؤولية الكبرى الملقاة على عاتقه، ويفهم أهمية مركزه فيحافظ عليه. الإنشاء كلام منزل كالناموس، إذا قيل مرة فلا يجوز بعد ذلك إزالة حرف منه. هكذا يجب أن تكون الصحافة لتكون مفيدة. والصحافي المفيد هو الذي يقرأ ويحسن الاستنتاج، ويفهم معنى الاستقلال والمسؤولية.

نكبة باريس

وليس الانتقاد في شيء من الطعن. ولا يجب أن يخاطب المنتقد بلهجة العداء. والهجو هو ما يلجأ إليه الأعداء. وذلك محط من شان الصحافة. والصحافة الحديثة تستدعي العناية بالتهذيب. والتهذيب هو عماد السلم والاتحاد والسياسة والاجتماع العصري. ولا يحافظ على الحقوق إلا المهذبون. نكبة باريس طغى نهر السين على مدينة باريس، فنشر في تلك الربوع الجميلة الدمار والخراب ولسنا في حاجة إلى إيراد تفصيل هذا الخطب الجسيم، فقد اطلع القراء على ذلك في الصحف اليومية. وإذا كانت عاصمة فرنسا مهبط الجمال وكل فنون الجمال، فيليق بالشعراء أن يسكبوا عليها في مصابها دمعة الأسف: 1 يا فرنسا لا عدمنا منناً ... لك عند العلم والفن جساما لطف الله بباريس ولا ... لقيت إلا هناء وسلاما روعت قلبي خطوب روعت ... ساهر الأحياء فيها والنياما أنا لا أدعوا (سين) طغى ... إن (للسين) وإن جار ذماما لست بالناسي عليه عيشة ... كانت الشهد وأحباباً كراما شوقي

2 باريس عاصمة ملك حذيت على غير منوال إذا أطرى الواصفون بلدة قالوا: هيا لجنة، أنهارها جارية، وبناياتها شامخة، ورياضها يانعة، وأشجارها ثامرة، وأعوادها زاهرة. . . أوصاف ابتذلتها أقلام الكاتبين، ووقفت عندها بديهات الشعراء. أما باريس فلا تتناولها هذه الأوصاف. كل شيء هو دون

ما وصف به، إلا باريس فهي فوق ما وصفت به. قال أكثر الناس: الجمال غريب لا وطن له. . . كذبوا. باريس وطنه ومشرق شمسه. الذين رأوا باريس عرفوا محاسنها وهم فيها. وأبناؤها عرفوا محاسنها وهم فيها. فلما فارقوها امحت صورها من أذهانهم إلا قليلاً بقي بها ما تحتملها العقول وانضوى ما لا تحتمله. هذه محاسن ترتع فيها النفوس والنواظر معاً. وفيها ما يدخل النفوس لا عن طريق الاستشعار، بل عن طريق الإدراك. وحين تزايل الأبصار أشكالها تزايل البصائر خيالاتها. الطرقات السوية، والقصور العالية، والمصابيح المتلألئة، والجسور الممتدة، والكنائس المرتفعة، والدمى المنصوبة، والمصانع العاملة والندية الحافلة يتأود بينها برج ايفل، كأنه خطيب الحرية بين تلك العجائب، بل كأنه حارس القضاء موكل بسكان البانثيون. سبحانك اللهم ما أكبر قدرتك، بل ما أفصحها وأبلغها من قدرة. . البلدة الطيبة التي فرعت الحوادث مروتها، ثم ضحكت لها وجوهها، ربيبة العز على اختلاف أنواعه: عز الجمال، وعز العلم، وعز الدولة. اختلفت

فيها مواكب الأبهة. دخلها هنري الرابع فاتحاً. وعاودها بونابرت ظافراً ولكن تهادت فيها انطوانت إلى ميدان القصاص. وهي بعد ذلك رقت ودقت وحلت: فكانت الفاتنة يوم فرحها، وكانت الفاتنة يوم ترحها. وإن مواقع الجياد، يوم دخلها غليوم الأول، لهي مواقع القبل من شفاه عشاقها. ذلك أديم تنبو عنه الشقوة، ويترقرق عليه النعيم. لم يسعدني الزمان بزورة لها، وكم اشتقتها، وكم أشتاقها. .! وإنما عشقتها الروح، ولم ترها العين. وما كن عشقي لها على قدر ما نعتها به الناعتون فأقول: الأذن تعشق قبل العين أحياناً ولكن عشقي لها على قدر معرفتي بها. بيني وبينها الفدافد والبحار. لم يستجل مرآتها ناظراي. غير أن نفسي حلقت بسمائها وخواطري جالت في أرجائها. كلما أنشدت بيتاً لهوغو أو لموسه، خلتني أنشد شعرها وأترجم لذاتي عنها. حين أبصر الباريسي الظريف في حديثه الطيب، وشمائله المليحة، أذكر باريس. . . وحين أشاهد الباريسية في شعرها الذهبي، وعينيها السماويتين، وحديثها العذب، أخال جزءاً من باريس يتكلم، بل أحسب روح باريس تمثلت لعيني لتوحي إلي معاني الشعر. ولترسل من أعماق روحي كوامن الإعجاز. . .

تتغير باريس ما بين غمضة عين وانتباهتها: هكذا ينبغي أن تكون. . . للجمال فيها كل آونة شأن جديد الجمال فها موضة فلو تأملوا إحدى فاتناتها، لألفوها صباحاً كالخوخة كللها الندى، وفاح لها شذا. ولرأوها ظهراً، وقد تمشت فيها حرارة الشمس حتى لتجانبها الشفاه إشفافاً، بعد إذ تطامنها لثماً. ولوجدوها مساءً وقد جمد نشرها وبدر، حتى لتنزل عنها الثنايا إذا حاولت لها عضاضاً. الله في باريس وفي فتن باريس! عروس أوروبا الغالية، بنت التمدين، المثال الجمل لكل شيء: يتشبه الناس بأبنائها. يلبسون كملابسهم، ويأكلون كمآكلهم، ثم ينطقون بألسنتهم، ثم يتغتذون بعلمهم كذلك كانت باريس، وكذا ستكون. * * * تعالوا نبكي على باريس في أطلالها ورسومها، وفي أشلاء مواتها، وفي قصورها المتداعية. ابتدرتها سوابق عبرات السماء بمتصلة الثمآبيت، وانشق لها صدر الغمام عن كل متداني الهيدب غداة أقبل عليها السين في أواذيّه المتدافعة، وأزباده المترامية. كم مقلة بالأمس يتكلم إنسانها عن الصبا، جاد غربها اليوم بواكفٍ هتان. وكم وجنة رق عليها ماء الشباب، خددتها مسبلات الدموع. عبست تلك الوجوه الضاحكة، وخلت هاتيك المغاني الآهلة، وعطلت مصانع طالما أجادت تنميق المحاسن في كل البلاد، وباتت بلاد الله تندب حسناءها. . .

الغد

قال أحد أدباء الفرنسويين لكل امرئ وطنان: وطنه الأصلي ووطنه باريس فلبيك إذن على باريس كل الناس، فهي وطن كل الناس. من حقها على من أكرمت وفادتهم ورحبت بهم منزلاً، ونثروا عليها التبر وهي حالية، أن يكرموها في مصابها، وأن ينثروا عليها التبر وهي عاطلة. سأبكي باريس مستمداً دموع الغمائم، مستعيناً بعيون النيرات. فإن تنفد الدموع، فإن من الأسى ما يجدده الشوق، وينميه الغرام. سلام على باريس في مصابها. سلام عليها في جلبابها الأسود. وكأنها العذراء بعثت لتدعو العالم إلى السجود. . . ولي الدين يكن الغد السيد مصطفى لطفي المنفلوطي أشهر من أن يعرف. فلقد نالت كتاباته الرائقة شهرة بعيدة وتناقلتها صحف القطرين. وهو مباشر الآن طبع كتاب تحت عنوان النظرات جمع فيه ما نشره على صفحات الجرائد والمجلات. وسيكون هذا الكتاب النفيس خير متحف جمع بين أسلوب الأقدمين وتفنن المحدثين. وسنعود إليه بالتفصيل بعد بروزه من عالم الطباعة إلى عالم المطالعة. ونحن واثقون بأن كل قارئ سيضمه في مكتبته إلى كتبه الثمينة. وقد تفضل صاحبه بان يترك لنا اختيار ما نريد من الملازم التي نجز طبعها لنحلي به العدد الأول من هذه المجلة. ولذلك أتيح لنا أن نتحف القراء بالمقالة الأولى من كتاب النظرات وهي تحت العنوان المتقدم: عرفت أني فكرت ليلة الأمس فيما أكتب اليوم، وعرفت أني ممسك الساعة قلمي بين أصابعي، وأن بين يدي صحيفة بيضاء، تسودُّ

قليلاً قليلاً، كلما أجريت القلم فيها. ولكني لا أعلم هل يبلغ القلم مداه، أو يكبو دون غايته. وهل أستطيع أن أتمم رسالتي هذه أو يعترض عارض من عوارض الدهر في سبيلها. لأني لا أعرف من شؤون الغد شيئاً. ولأن المستقبل بيد الله. عرفت أني لبست أثوابي في الصباح وأني لا أزال ألبسها حتى الآن. ولكني لا أعلم هل أخلعها بيدي، أو تخلعها يد الغاسل. الغد شبح مبهم يتراءى للناظر من بعيد فربما كان ملكاً رحيماً. وربما كان شيطاناً رجيماً. بل ربما كان سحابة سوداء، إذا هبت عليها ريح باردة، حللت أجزاءها، وفرقت ذراتها، فأصبحت كأنما هي عدم من الأعدام التي لم يسبقها وجود. الغد بحر خضم يعب عبابه، وتصطخب أمواجه، فما يدريك غن كان في جوفه الدر والجوهر، أو الموت الأحمر. لقد غمض الغد عن العقول ودق شخصه عن الأنظار، حتى لو أن إنساناً رفع قدمه ليضعها لا يدري أيضعها على عتبة القصر، أو على حافة القبر. الغد صدر مملوء بالأسرار الغزار تحوم حوله البصائر وتتسقطه العقول وتستدرجه الأنظار، فلا يبوح بسر من أسراره إلا إذا جادت الصخرة بالماء الزلال.

كأني بالغد وهو كامن في مكمنه، رابض في مجثمه متلفع بفضل إزاره، ينظر إلى آمالنا وأمانينا نظرات الهزوء والسخرية، ويبتسم ابتسامات الاستخفاف والازدراء. يقول في نفسه لو علم هذا الجامع أنه يجمع للوارث، وهذا الباني أنه يبني للخراب، وهذا الوالد أنه يلد للموت، ما جمع الجامع ولا بنى الباني ولا ولد الوالد. ذلل الإنسان كل عقبة في هذا العالم، فاتخذ نفقاً في الأرض، وصعد بسلم إلى السماء، وعقد ما بين المشرق والمغرب بأسباب من حديد وخيوط من نحاس. انتقل بعقله إلى العالم العلوي فعاش في كواكبه، وعرف أغوارها وأنجادها وسهولها وبطاحها وعامرها وغامرها ورطبها ويابسها. وضع المقاييس لمعرفة أبعاد النجوم ومسافات الأشعة، والموازين لوزن كرة الأرض مجموعة ومتفرقة. غاص في البحار فعرف أعماقها وفحص تربتها وأزعج سكانها ونبش دفائنها وسلبها كنوزها وغلبها على لآلئها وجواهرها. نفذ من بين الأحجار والآكام إلى القرون الخالية فرأى أصحابها

وعرف كيف يعيشون، وأين يسكنون، وماذا يأكلون ويشربون. تسرب من منافذ الحواس الظاهرة إلى الحواس الباطنة فعرف النفوس وطبائعها. والعقول ومذاهبها. والمدارك ومراكزها. حتى كاد يسمه حديث النفس ودبيب المنى. اخترق بذكائه كل حجاب، وفتح كل باب، ولكنه سقط أمام باب الغد عاجزاً مقهوراً لا يجرؤ على فتحه، بل لا يجسر على قرعه، لأنه باب الله. والله لا يطلع على غيبه أحداً. أيها الشبح الملثم بلثام الغيب. هل لك أن ترفع عن وجهك هذا اللثام قليلاً لنرى لمحة واحدة من لمحات وجهك، أو لا، فاقترب منا علنا نستطيع أن نستشف خيالك من وراء هذا اللثام المسدول فقد طارت قلوبنا شوقاً إليك، وذابت أكبادنا وجداً عليك. أيها الغد. إن لنا آمالاً كباراً وصغاراً، وأماني حساناً وغير حسان. فحدثنا عن آمالنا أين مكانها منك. وخبرنا عن أمانينا ماذا صنعت بها. أأذلتها وأهنتها، أم كنت لها من المكرمين. لا لا. صن سرك في صدرك، وابق لثامك على وجهك، ولا تحدثنا حديثاً واحداً عن آمالنا وأمانينا حتى لا تفجعنا فيها، فتفجعنا في أرواحنا ونفوسنا فإنما نحن أحياء بالآمال وإن كانت باطلة. وسعداء بالأماني وإن كانت كاذبة. وليست حياة المرء إلا أمانيا ... إذا هي ضاعت فالحياة على الأثر مصطفى لطفي المنفلوطي

ساعة الوداع

ساعة الوداع لسعادة إسماعيل باشا صبري أترى أنت خاذلي ساعة التو ... ديع يا قلب في غد أم نصيري ويك قل لي متى أراك بجنبي ... راضياً عن مكانك المهجور ساعة البين قطعة أنت قدّت ... للمحبين من عذاب السعير لا تحيني روحي الفداء لماحي ... ك غداً من صحيفة المقدور أزهار وأشواك حول الزهور رغبت إلي إدارة هذه المجلة في تحرير هذا الباب، وغاية هذه المجلة شريفة، فاضطررت إلى إجابة هذا الطلب. على أني أحجمت كثيراً قبلما أقدمت. لأني إذا كنت سأجني أزهاراً طيبة يروقني ويروق قرائي شذاها ومرآها، فلقد أجني أيضاً كثيراً من الأشواك، فيؤلمني وخزها ويؤلمهم، ولربما يدميني ويدميهم. ولكن القراء الكرام سيرضون عني كما أنا راضٍ الآن بهذه المهمة الشاقة. سأجني من أنوار الرياض شهداً وبلسماً وعنبراً فيه لذة للذوق، ومداواة للجرح، وطيب للناس. وما هذا وذاك وذلك إلا من جني الزهور، فقد جاء في تاج العروس في مادة عنبر أنه شمع عسل ببلاد الهند مرعى نحله من الزهور الطيبة يكتسب طيبه منها.

فسأسكب عنبراً وبلسماً، إذا رأيت في الحوادث والأعمال زهوراً طيبة وإلا كان جنيي صاباً وعلقماً. وجاء في لسان العرب إن الزهور تلألؤ السراج الزاهر. فعسى أن يقطر ما أجنيه زيتاً صافياً يزيد تلألؤ هذه المجلة الزاهرة، لا سائلاً عكراً يبعث دخاناً تدمع له العيون، وتشمئز منه الأنوف. وعلى كل فجل رغائبي أن تتوثق عرى الصداقة شيئاً فشيئاً بيني وبين قرائي الأحياء. فنتبادل ما نشاء من الأفكار بين الأزهار والأشواك. فنبتسم معاً ونتألم معاً. متذكرين أن لا ورد بلا شوك. وأن أشواكاً كثيرة بلا ورد. إدمون روستان وحافظ إبراهيم إدمون روستان هو أحد كبار شعراء فرنسا في هذه الأيام. ذكره طبق الآفاق، ورواياته مثلت على أكثر مراسح العالم، فصفقوا لها في كل عواصم أوروبا، وهتفوا لمؤلفها في أمريكا وآسيا وأفريقيا. ألف فاشتهر، وصنف فاغتنى، فما أحسن حظه وما أسعد نجمه. .! جمع من رواية الايجلون أو فرخ النسر ومن رواية سيرانوده برجراك ما يقدر بالملايين من الفرنكات. وها قد أنجز الآن رواية شانتكلير وهي رواية غريبة الشكل والوضع، لأن كل أشخاصها من الحيوانات. . . غير الناطقة. لكن بلاغة مؤلفها أنطقتها بما تكاد تعجز عنه الحيوانات الناطقة. بيد أني لا انظر الآن إلى هذا الأمر. بل أريد أن يعرف القراء أن مدير مجلة الالوستراسيون قد اشترى حق نشر هذه الرواية في مجلته بمبلغ. . . .

زهيد لا يتجاوز المليون فرنك: أربعة فصول: لا يتجاوز الفصل 500 شعر - بمليون فرنك. فيكون ثمن الشعر الواحد من أشعار روستان يباع بخمسمئة فرنك أي بعشرين جنيهاً وثمن الكلمة إذا قدرنا عشر كلمات في كل بيت جنيهان فضلاً عما ينال المؤلف من تمثيل روايته. وإذا عرفت أنها ستمثل كأسلافها ألوفاً من المرات تعرف أن روستان يقبض ثمن الحرف الواحد من أشعاره مالاً جزيلاً قد لا يناله كتابنا من الصفحات الطويلة فحرفه إذن يساوي مجلداً من كتبنا. . . الرائجة. يعد روستان عندهم بمثابة حافظ إبراهيم عندنا. فهل يا ترى تعود قصيدة من حافظ بل ديوانه برمته بما يعود بيت من روستان على صاحبه.؟ مسكين حافظ تنقده مجلاتنا وجرائدنا كلمات النابغة، وشاعر مصر ثمن قصائده وتنقد روستان مجلة واحدة مليون فرنك ثمن رواية واحدة. . . هناك يدفعون لروستان درراً وجواهر، وهنا نكتفي بان نجد الدرر والجواهر في نفثات شعرائنا. فشعراؤنا إذن أغنياء، فنأخذ منهم، وشعراؤهم فقراء، فيعطونهم. فيا ليتني كنت شاعراً إفرنجياً تجود علي الجرائد والمجلات بالدرر لا شاعراً عربياً تجد الجرائد والمجلات تلك الدرر في أشعاري. .! * * * النادي العائلي اسمه لطيف ذلك النادي الذي أسسه في بيروت فريق من الأفاضل والأدباء. وأول عمل عرفناه عنه ألطف. . . جعل جائزة قدرها خمسمئة فرنك للكاتب الذي يؤلف خير رواية تمثيلية في موضوع وطني.

النادي يشترط أن تكون الرواية مؤلفة لا معربة. ورواياتنا المؤلفة تعد على أصابع اليد الواحدة لا اليدين والجائزة التي وضعها النادي زهيدة لا تعادل المليون الذي يقبضه روستان عن روايته. ولكنه خطا خطوة حسنة يستحق عليها كلمة برافو وها نحن نقولها لرئيسه الفاضل وسكرتيره الأديب وأعضائه الكرام. ونهنئ سلفاً الكاتب الذي سينال نصب السبق كما كان يقول العرب. ويا ليتني أعرف كيف تنسق المشاهد والفصول لأنزل إلى هذا الميدان. ومثل هذا الثناء جدير ببلدية الإسكندرية، فقد منحت جوق سليم أفندي عطا الله مئة جنيه مساعدة له: عطاء. . . البلدية قليل بجانب عطاء. . . الله. ولكنها باكورة تنشيط البلديات والحكومات الشرقية للأجواق العربية وكل باكورة لذيذة. . . جنون الطبيعة الطبيعة تجن كالأفراد، وترتكب مثلهم في حالة الجنون جرائم وفظائع. وجنونها هائل في هذه المدة، ثارت العناصر الواحد تلو الثاني على بني البشر: زلزلت الأرض فانجابت بمن فيها، وتفجرت نيرانها فأودت بمن عليها، وزمجرت العواصف فأهلكت وأغرقت، وأرغت المياه وأزبدت فجرفت واقتلعت، فكأن داء الهيستيريا قد هز المادة فتمردت على العقل المتسلط عليها، المستبد بها. فيا لله من جنون الطبيعة. . .! ويا لله مت تمردها. . . حاصد

حديقة الأخبار

حديقة الأخبار - وافقت الدول على تمديد أجل المحاكم المختلطة في مصر إلى خمس سنوات ابتداءً من غرة فبراير المنصرم. - في التاسع من الشهر الغابر افتتحت الجمعية العمومية المعقودة للنظر في مسألة إطالة امتياز قناة السويس. - قرر سعادة زغلول باشا ناظر المعارف تعليم اختزال الخط. وكانت الحلقة الأخيرة في سلسلة مآثره في نظارة المعارف المصرية قبل أن يغادرها. - ظهر في مصر حزب سياسي جديد الحزب الدستوري وزعيمه عطوفة إدريس بك راغب. - اجتمع فريق من كريمات السيدات في سراي صاحبة الدولة الأميرة عين الحياة هانم أفندي وألفن جمعية باسم محمد علي جد العائلة الخديوية العلوية لحماية الأطفال والأمهات فأكرم بالإحسان حلية للحسان. - جرى في عين شمس أسبوع الطيران. فرأينا النسور البشرية تحلق في الجو. فتذكرنا قول شوقي عن البشر: حين ضاق البر والبحر بهم ... أسرجوا الجو وساموه اللجاما وقول الرصافي: طائرُ في الفضاء طولاً وعرضاً ... بجناح من القوى غير باد - في 20 الماضي أطلق إبراهيم ناصف الورداني على رئيس النظارة

أيها القارئ العزيز

بطرس باشا غالي خمس رصاصات، وثاني يوم توفي الرئيس رحمه الله. وتألف الوزارة الجديدة كما يأتي: محمد باشا سعيد للرئاسة والداخلية. سعد باشا زغلول للحقانية. رشدي باشا للخارجية حشمت باشا للمالية. يوسف سابا باشا للمالية. وسري باشا للأشغال والحربية والبحرية - سعيد أصغر النظار سناً صار رئيسهم. فحق قول الشاعر بنتاؤور الذي هنأه يوم توليه نظارة الداخلية بقوله: أهلاً سعيداً وسهلاً ... أنت الكبير الصغير دعنا نقل عن قريب ... أنت الكبير الكبير - استقال دولة البرنس حسين باشا كامل من رئاسة مجلس الشورى والجمعية العمومية. أيها القارئ العزيز أرسلنا إليك هذا العدد الأول من مجلة الزهور لاعتقادنا بغيرتك على النهضة الأدبية ورغبتك في الاطلاع على سيرها في القطار العربية. فإذا وجدت في خطة هذه المجلة ما يحقق رغائبك فتفضل بتوقيع الطلب الواصل طيه وإرساله مع قيمة الاشتراك الموضحة فيه أو التعهد بدفعها إلى وكيل المجلة في أول فرصة. والسلام. إدارة مجلة الزهور بشارع الفجالة نمرة 1 بمصر

العدد 2

العدد 2 - بتاريخ: 1 - 4 - 1910 نظرة إلى ما فوقنا مذنب هاللي مالت الشمس إلى المغيب، وكاد قرصها الذهبي يتوارى وراء خط الأفق المحمر، فانعكست أشعتها الصفراء، في مياه البحار الزرقاء، حتى خيل إلى الناظر أن تلك البحار مرآة صافية مرصعة بالزمرد والفيروز، وأن أمواجها تدحرج في طياتها المائعة فضة وذهباً فتتكسر على الشاطئ العابس لفراق عروس النهار، وابنة الأنوار، التي كانت تملأ القلوب بهجةً وأملاً. ولا يلبث أن يشوب هذا المنظر كدرة تتحول شيئاً فشيئاً إلى سواد قاتم لأن الليل قد مد رواقه على نصف الكرة الأرضية. . . وإذ ذاك يظهر البدر من المشرق بظلمته البهية، تخفره الزهرة ونجمة المساء ونجمة الراعي وسائر الأجرام السماوية، وهو يخطر بينها دلالاً، ويميس اختيالاً. وتأخذ السماء تزهر زهوراً بكواكب لامعة، ونجوم ساطعة، طالما تغزل بمحاسنها الشعراء فعشقوها، وبحث في كنه أسرارها العلماء وما فقهوها: حياة جديدة تبدو في العلى فتدعو النفس إلى الطيران إليها. . .

تستحب الجواهر والحجارة الكريمة في جيد النساء، لكنك تجدها أبهى وأسنى في صدر السماء، فأين بهاء الجواهر، من بهاء الكواكب؟ وكان أجرام النجوم لوامعاً ... درر نثرن على بساط أزرق صاغها الخالق ونثرها في الفضاء، وهي لا تزال من ذاك الحين إلى ما شاء الله تسير على خطة وضعت لها. . . لمعت فوق رؤوس أفراد أعلام، وشعوبٍ عظام، اتخذوها سميراً فنفت عنهم الأكدار، واستنطقوها فأوحت إليهم رائع الحكم ورقيق الأشعار. . . درست تلك الشعوب ودفنت تحت أطلال مدنيتها المندثرة، والكواكب لا تزال تسطع وتضيء محدثة بعظمة الحي الباقي. . . فيا أيها الليل الرهيب، الساطع بأنوار لا تعد. . . قد كتب في طياتك السوداء بحروف الكواكب سر عجيب. . لولاك لما كانت أعيننا تشاهد سكان السماء، بل كنا على كرتنا الصغيرة نجهل ما يحدق بنا. أيها الليل المقدس إن كنت تحجب عنا النور، فأنت تبدي لنا الحقيقة بأجلى مظاهرها، وتسكب على قلوبنا التعبة بلسم الراحة والسلوان، تنسينا ما ينتابنا على هذه الأرض من الأكدار والكروب وما يدهمنا من الدواهي والخطوب. تنسينا ما يحدق بنا من الشقاء والفساد. نحن نحبك أيها الليل لأنك صادق لا تخدعنا. نحبك لأنك تصلنا بعالمٍ خفي يبين لنا أن نتصوره أحسن من عالمنا. نحبك لأنك تشعل في أفئدتنا نور الأمل وتجعلنا من سكان اللانهاية ونحن في هذه البقعة المحدودة. . .

فأي كتاب تلذ مطالعته أكثر من كتاب السماء. وأية قصيدة تروق معانيها أكثر من القصيدة المسطرة بحروف الكواكب الزهراء على لوح القبة الزرقاء. وهذا الكتاب سنطالعه أيها القارئ العزيز من حين إلى حين، ونقلب صفحاته المرة بعد المرة. فيكون لنا خير سلوى. وسترى أن التمتع بأسرار هذه الكواكب لا يقل لذة عن التمتع بمرآها. وأول ما نبدأ به اليوم إيراد شيء عن مذنب هاللي لأن قرب ظهوره يتطلب منا تقديم هذا البحث على سواه. * * * ريع سكان الأرض من نباء ظهور مذنب هاللي واصطدامه القريب بكرتنا. وأخذ الكثيرون ينذرونا بخراب العالم في ذاك اليوم المشؤوم وقد أطلق على ذلك المذنب اسم الفلكي الإنكليزي الذي ضبط حساب ظهوره. وسيظهر هذه السنة تماماً في 18 مايو (أيار) الساعة الرابعة عشرة من الوقت الفلكي الذي يبتدئ عند الظهر أعني الساعة الثانية من صباح 19 مايو ويجتاز في ساعة من الزمن الكرة الشمسية التي يبلغ قطرها 108 مرات قطر كرتنا وتدل الحسابات الفلكية على أن المذنب سيكون على مسافة 128 مليون كيلومتر من الشمس أعني على مسافة 23 كيلومتراً من كرتنا الأرضية. فإذا كان ذنبه يبلغ هذا الطول فإنه يمسنا في طريقه وهذا ليس من المحال. فمن المذنبات ما يبلغ طول ذنبها 40 أو 50 أو مئة مليون كيلومتر. على أن مذنب هاللي ليس من هذا النوع فهو من

المذنبات المتوسطة. لكن قد لوحظ أن ذنبه يختلف طولاً كل مرة يظهر فيها. ولم يتمكن العلماء حتى الآن من تقرير ذلك. وهذا المذنب يظهر مرة كل 75 سنة بعد أن يكون قد اجتاز في الفضاء خمسة مليارات من الكيلومترات وقد ظهر منذ سنة 467 قبل المسيح ثلاثين مرة. وإذا قدرنا أن ذنب هاللي يبلغ طولاً كافياً ليمسنا في طريقه فما سوف تكون نتيجة ذلك؟ الجواب متوقف على معرفة الغاز المتركب منه هذا الذنب. فقد يكون من الغازات السامة كالسيانوجين (المركب من الآزوت والكربون) فيقضي على سكان نصف الكرة الأرضية خنقاً. وتحدث صدمته بنا هياجاً في العناصر فيتأثر منها سكان النصف الثاني من كرتنا، فتثور البحار، وتخسف الجبال إلى غير ذلك من النكبات التي تنشأ عن كل تبلبل يطرأ على نواميس الطبيعة. على أن العلامة فلاماريون قد نفى ذلك وسكن الخواطر القلقة، مستنداً إلى الأدلة الآتية: أولاً: إنه ليس من المقرر أن يبلغ طول الذنب أرضنا هذه. ثانياً: إن أذناب المذنبات على غاية الدقة حتى أنها لا تزال شفافة ولو بلغ ثخنها عدة ملايين من الكيلومترات فنظل قادرين على رؤية النجوم من خلالها. ثالثاً: أنه لم يتقرر إذا كان السيانوجين الموجود في قلب المذنب ممتداً إلى ذنبه.

عجائب غرائب

رابعاً: تسير كرتنا بسرعة 106 آلاف كيلومتر في الساعة ويسير المذنب سيراً معاكساً لسيرنا سرعته 170 ألف كيلومتر. فيكون مرور الكرة الأرضية في ذلك الذنب أشبه بمرور قنبلة المدفع في الغيمة. فلا يتأثر الهواء الذي ننشقه من الغازات السامة إلى درجة تجعل حياتنا في خطر. وعليه فيرى القارئ أن انتهاء العالم الذي تنبأوا عنه لم يحن حينه ولم تأت ساعته - حتى في 18 مايو القادم. . . عجائب غرائب نقرأ في كتاب ألف ليلة وليلة من عجائب الحوادث، وغرائب الأوصاف، ما لا نصدق احتمال وجوده أو وقوعه، وننسب هذه الأمور المدهشة إلى مخيلة الكاتب التي غالت فوصفت ما لا وجود له إلا في عالم الخيال. وقد نكون في ذلك واهمين، وقد تكون هذه الأمور واقعية. وكل ما في الأمر أن المنشئ قد عول في وصفه على عبارة قوية، أو على استعارة تمثل دقائق الأمور، فبهرنا أسلوبه الكتابي، وأثر فينا تعبيره المجازي. ولول وصفنا على هذا النمط منزلاً من منازلنا الحاضرة وما فيه مما نعده من لوازم المعيشة، أو لو روينا على هذا الأسلوب حادثة من حوادثنا اليومية وذكرنا علاقة التلغراف أو التلفون بها مثلاً لما رأى الفلاح والقروي الساذج بينها وبين مرويات ألف ليلة وليلة من فرق عظيم. على أننا ألفنا هذه المناظر وتلك الحوادث، فلم يبق لها فينا من تأثير شديد. ولكن من لم

يرها ولم يتعودها يلاحظ في وصفها ما لا نلاحظه ويبهره من دقائقها ما لا نلتفت إليه. يشهد بذلك الكتاب الذي وضعه أحد الصينيين وجاء فيه على تفاصيل سفره إلى باريس. ويرى فيه القارئ من الغرائب والعجائب ما يحمله على التصور انه يطالع فصلاً من كتاب ألف ليلة وليلة أو أسفار السندبان البحري. عاد الرحالة الفرنسوي المسيو جاك باكو من رحلة قام بها في الصين، واستصحب معه إلى باريس رجلاً من التيبت كان دليله في أسفاره في الأصقاع الصينية. فكتب الرجل بلغته ما تم له في سفره إلى أوروبا، وعلق ملاحظاته على ما رأى وسمع. وترجم الكتاب إلى الفرنسوية فأحببنا أن نقتطف عنه بعض الشيء. عنوان الكتاب: رحلة المدعو اجروب غمبو من باتونغ مع الرجل الفرنسوي العظيم (با) وفيه تفصيل ما جرى لي من الحوادث ثم يبدأ بسرد هذه الحوادث بأسلوب ساذج وكما ترتسم على لوح مخيلته. . . . . . وصلنا إلى تخوم الهند. فوجدت أن شكل الناس هناك غير شكلنا، ولغتهم وأشغالهم غير لغتنا وعاداتنا. فتذكرت أخي وبكيت، وعزمت على الرجوع من حيث أتيت. ولكنت فعلت لولا أننا كنا نسافر بلا تعب ونحن جالسون على مقاعد حريرية متلذذون بأطيب المآكل. . . . . . وفي اليوم الخامس عشر من القمر الخامس نزلنا في بيت كبير يسير في البحر نهاراً وليلاً لأنه يستضيء بنور الكواكب في سراه.

وعند وصولهم إلى مرسيليا نزلوا في فندق من فنادق المدينة وصفه الصيني قال: في هذا البيت مسافرون كثيرون، وكل واحد منهم في غرفة له. وفي هذه الغرف نصبت أسرة مغطاة بأقمشة من حرير وإلى جانبها طاولات مزخرفة وعليها أشياء جميلة. وكنا نجلس للأكل على مائدة كبيرة. فنتناول صباحاً شيئاً من اللبن والقهوة المحلاة بالسكر ونأكل في الظهر وفي المساء لحوماً وأسماكاً وأثماراً وحلويات. ويجب على كل واحد قبل الأكل أن ينفض الغبار عنه ويغسل يديه. ولاشك في أن أبناء وطني سيتهموني بالكذب ويسمونني كلباً دنساً، عندما سأروي لهم هذه الأمور الغريبة، ويضعون أصابعهم في آذانهم لئلا يسمعوا هذه الخرافات. . . ويوم الأحد بعد وصولنا قال لي سيدي الفرنسوي: - نحن قد بلغنا هذه المدينة بسلامة، وبالقرب من كنيسة يصلي فيها القسيس فلنذهب إليها. فذهبت معه بفرح عظيم، ورأيت في الكنيسة قديسين وعذارى، فجثوت على ركبتي وصليت قائلاً: أيها الإله القدير الموجود في كل مكان، أنا أجثو أمامك يا من خلق هذا العالم وأشكرك لأنك حميتني، إذ أنا الآن أمامك بكل عافية وسلامة وليس بي من ألم. اطلب منك أن تنظر إلي دائماً لتحميني ثم زار المدينة فكتب: النساء هنا جميلات كالرجال، وملابس الجميع نظيفة. ولم أر في هذه البلاد حبوباً لأن الناس لا يأكلون إلا لحماً

وخضاراً وحلويات. وعدد السكان يزيد عن عدد سكان ثلاث مقاطعات في التيبت وكلهم أغنياء، وليس بينهم فقير. ولا أحد يضر أحداً. ولولا أخي وأختي لقضيت أيامي هنا. ثم ذكر سفره إلى باريس في السكة الحديدية فقال: لو سافرنا على الطريقة الصينية، لقضينا عشرين يوماً. لكن يوماً واحداً يكفي على الطريقة الفرنسوية. وقد جلسنا في بيوت صغيرة مرتفعة على عجلات من حديد، وسمعنا صفيراً حاداً وأخذت النار تحرك العجلات والبيوت الصغيرة تجري كالريح على طريق من حديد، مخترقة الجبال والوديان والأحراج، بل كانت تدخل في الأرض وتخرج (يشير إلى النفق=تونل). وعلى هذه الطريقة وصل اجروب إلى منزل سيده في باريس. فاسمع كيف يصفه، وقابل بينه وبين قصور الجان والمردة التي نقرأ وصفها في كتاب ألف ليلة وليلة. . . . المنزل مركب من تسعة طوابق قائمة فوق بعضها بعض إلى علو شاهق، وفيها أكثر من مئة غرفة، وأرضها من الخشب الجميل اللامع، وقد فرشت فوقه الطنافس البديعة. ولا يسمح بالدخول إلى هذا القصر إلا لمن كان نظيف الثياب. وهناك علبة كبيرة تسع ثلاثة أنفار تحركها قوة غريبة فتصعد بك إلى حيث تشاء (يشير إلى المصعد: أسانسور) وفي الجدران أزرار صغيرة، تضغط عليها بإصبعك، فتبعث نوراً أو ماء أو حرارة. والغريب أن ليس هنالك نار ولا زيت ولا عين ماء. فيا لله من هذه العجائب التي تحير العقول. . .!.

عنترة وعلبة

هذا تأثير مدينتنا الحديثة على ابن التيبت الساذج. ولا مجال هنا لإيراد كل ملاحظاته على ما رأى وشاهد. وله آراء وأفكار في حالتنا الاجتماعية لا تخلو من دقة النظر. وقد ذكر عرضاً علائق الرجال بالنساء فقال: . . . وفي هذه البلاد يجلس الرجال والنساء معاً حول مائدة. ويقدم الرجل ذراعه للمرأة، فيتأبط ذراعها ويدخلان بهذه الصورة إلى غرفة الطعام. وحب الرجال للنساء شديد، فهم يحنون ظهورهم لمخاطبتهن بأعذب الأصوات، والابتسامة على ثغورهم. وإذا زنت عندهم امرأة متزوجة فلا يقتلها زوجها كما يفعل الرجل الشريف في بلادنا أو في الصين، بل هو يكاد لا يكترث للأمر. لكن الناس يضحكون كلما مر ويقولون أن جبينه يشبه جبين الثور.!! ولم أفهم المقصود من ذلك. . .؟ فالذي يطالع هذا الوصف مع ما فيه من الحقيقة، ولم تسبق له معرفة بأسرار الكهرباء والبخار، يتصور أنه يطالع سفراً من الأسفار التي نسميها خرافات. عنترة وعلبة يغزوان باريس طالعت صحف باريس وما فيها عن رواية عنتر التي مثلت في ملعب إمارة مونتي كارلو وملعب الأديون - وعنتر رواية نظمها بالشعر الفرنساوي العالي شكري أفندي غانم - فما أطربني نجاح صديقي المؤلف في نظمها كما أطربني تخيل عنترة بطل البوادي والقفار، ونزيل

المضارب والخيام، آكل الجشب، ولابس الخشن، في ثوبٍ من الخز يهز بكلامه قلب باريس، بل قلب أوروبا، كما يهز قلب العرب في شطر آسيا وشطر أفريقيا، ببيت من الشعر قد لا يناظره بمثله فيكتور هوغو، ولا يلاحقه شكسبير، ولا يدانيه دانتي. أجل إنه ليطربني اليوم من بطل البادية، وربيب القفر، وفوقه في أم الحضارة، ناظراً إلى خليلته عبلة، وغانم يضع في فيه بلغة باريس، قوله بلغة بني عبس: ولقد ذكرتك والرماح نواهل ... مني وبيض الهند تقطر من دمي فوددت تقبيل السيوف لأنها ... لمعت كبارق ثغرك المبتسم فيملي بهذا الشعر على أبطال الغرب كيف تكون الأبطال، ويملي على عشاقهم كيف تكون رجولة العشاق، بل يملي على كتابهم كيف يحلق الكاتب في سماء الخيال، حتى تكاد تتقطع دون الوصول إليه البصائر والأبصار. وإذا أنشد قوله أغشى الوغى وأعف عن المغنم تمثل لعيني السامع إقدام الشجاع، ونزاهة الكريم، ومرؤة الجواد، وشهامة الغطريف. فلا تأنف باريس أن تعشق البدوي الأسود لفضائله، والفضيلة ملك الإنسانية كلها، فهي ليست بدوية ولا حضرية فأينما وجدت ملكت وسادت، وأينما أذيعت أكرمت وأجلت. وكرم الخلال وكرامة النفوس في أمة، تظهر وتبدو في لغتها وآدابها، وفي أناشيدها وأشعارها. فلا تعيبها نبرات لهجة، ولا مخارج حروف، مادامت الألفاظ وعاء للمعاني،

ومادامت المعاني في ألفاظ اللغات كالدرر في الصدف. ولا تكون قيمتها بقائلها بل بنفسها. وإذا دلت على شيء فعلى فضل الأمة الذائعة فيها، والمأثورة عنها. وما قول عنترة العرب إلا حجة: تعيرني العدا بسواد جلدي ... وبيض شمائلي تمحو السوادا فتلك الشمائل البدوية لا تنكرها الفضائل الحضرية، ولا العلوم الفلسفية، مادامت حكمة الأمم مستمدة من أخلاقها لتهذيب أخلاقها، ودام قدر الأمم مرفوعاً بفضائلها، كما يرفع قدر العرب إعلان فضائلهم بين من جهلهم. وإني موقن بأن ناظماً كغانم، في بطل كعنترة، يستوحي روح ابن شداد بالفرنساوية، لا يعجزه أن يفتح للعربية باريس، وأن يغزو بحمالها أوروبا، إذا صال وجال، وهو يردد وينشد مع العبسي: حصاني كان دلال المنايا ... فخاض غبارها وشرى وباعا وسيفي كان في الهيجا طبيباً ... يداوي رأس من يشكو الصداعا أنا البطل الذي خبرت عنه ... وقد عاينتني فدع السماعا فأي قلب يجمد، وأي كبد تقسو لمثل هذا الكلام؟ بل أي أريج يفوق أريج زهرياته، إذا وصف الربيع الواصفون، وغناه المغنون وابن شداد هو القائل: زار الربيع رياضنا وزها بها ... فنباتها جليت بأنواع الحلي فالروض بين تألف وتهفهف ... وتعطف وتصرف وتململ بل ما أجمل الباريسية يلبسها غانم دثار البدوية، ويطلق لسانها

بشعر له نوطة في القلب، وعلوق بالنفس، بود درك للحاجة، يدق معناه، ويلطف مبناه، وتعطف حواشيه، وتنير معانيه. كأنه إشراك القلوب، إذا بسط لها ترتمي عليه ولا تنفلت منه. . . ألا أن لنا من كنوز آبائنا العرب الغطاريف حلياً أو لبسناها خالصة من الصدأ لبهرت لها عيون المتمدنين؛ وسلاحاً لو جردناه مشحوذ الغرار، لاستسلم له كل عاتٍ عنيد. ولكنا قصرنا وعجزنا حقبة من الدهر عن أن نزدان أمام العالم المتمدن بذياك الحلي الباهر. فقال الجاهلون مزدرين: عرب هؤلاء وما هي قيمة العرب؟ ولغة هي العربية؛ وأين هي من سامي اللغات ورقيقها؟؟ ولكنا قد أفقنا اليوم من السبات، وعرفنا قيمة ما بقي من تراثنا ولم تلعب به يد الشتات، فأبرز مردروس ألف ليلة وليلة للعالم الأوروبي بوشاح إفرنجي، فغض الروائيون أبصارهم حياء لسناها وبهائها. وأبرز آخر شعر حسن بن الخيام بثوب إنكليزي فتعشقه بعضهم حتى العبادة. وألبس الريحاني رباعيات أبي العلاء رداء سكسونياً، فكبروا له وهللوا، وسبحوا وحمدلوا، واليوم أنزل غانم إلى باريس عنترة البطل المغوار وعبلة الحسناء. فجاءتنا صحفهم تري بطل العرب بل آداب العرب وتقاليدهم. فالريحاني ومردروس وغانم وأضرابهم وأمثالهم هم اليوم أبطال العرب، يفتحون بعقول أجدادهم بلاد الغرب للشرق. ويعلون مقام أمتهم في العالم المتمدن. فإذا كثر عديد هؤلاء الأبطال. رد إلى العرب شرفهم الذي ابتذل بالضعف والضياع. ومجدهم الذي دفن مع ملكهم وألحد مع

زهوهم حتى استنكروا على العارفين. وكادوا يخفون عن عيون المنقبين الباحثين، وصات كلمة عربي في أوروبا وأمريكا سباباً للعرب والمستعربين. وقد قرأت في الصحف أن الذين شهدوا عنترة وعبلة كانوا آلافاً جنوا بهما سروراً وفرحاً. فلم تبق في نفسي ريبة بأن أولئك الألوف الذين سمعوا كلام عنترة قد عرفوا مجد العرب وفضائلهم فلا يجسر واحد منهم - أو هو يدعو على لسانه بالقطع - أن يعيب الغربي أجداده ونسبه بعدما عرف شيئاً عن مجد أولئك الأجداد ونسبهم. فمن مصر إذن بل من الشرق العربي أمد مع كل أدب يدي إلى مصافحة غانم وشكره والثناء عليه. فليس الغزاة من يفتحون البلاد بالمدفع والحسام فقط، بل أجل منهم وأنبل من يفتحون القلوب باليراعة ويملكونها بخالب الفصاحة - وغانم منهم. داود بركات (الزهور) إنا نسدي شكري أفندي غانم خالص التهاني على فوزه الباهر ولا نمدحه إلا بما أطراه به الأجانب أنفسهم فقد كتبت مجلة الالوستراسيون في عدد 19 فبراير الفائت ما يأتي: في ملعب الأديون رواية جديدة تستحق أن تنجح - وقد نجحت نجاحاً ساطعاً - فهي ترضي العين والأذن والعقل، مؤلفها عربي باريسي وهو رئيس الغرفة التجارية العثمانية في باريس. . . . وقد أحيا شكري غانم بأشعار لطيفة صافية منسجمة انسجام الماء ذكر عنترة البطل العربي الشاعر العاشق ومثل ذلك قالت الطان والفيغارو والجورنال وغيرها من أمهات الصحف.

بذور للزراعيين

وقد حادث أحد الصحافيين السيد علياً سلطان جزائر القمور عن رحلته في فرنسا وسأله عما راقه مما رأى وسمع في عاصمة التمدن والجمال فقال: إن رواية عنتر هي خير ما رأيت وسمعت. . . فمع ابن باريس ومع ابن القمور نحيي الغانم ناشر أمجاد العرب. . . . بذور للزراعيين لتكن غايتك أكبر من مقدرتك، فيصبح عملك اليوم أحسن من عملك البارح، وعمل الغد أحسن من عملا ليوم. الفضيلة الكبرى في الأعمال هي أن يكون كل عمل بذاته الغاية والواسطة. وان تكون لذته فيه لا في نتيجته. الناس أشباح تحركها الأغراض والأهواء. وتتقاذفها في بحار الحب والبغض الرياح والأنواء. النفوس أدوية يشترك في مزجها الله والإنسان. فمنها المرة، ومنها الحلوة، ومنها الحامضة، ومنها - وهذه اكره من كل الأدوية - ما لا طعم ولا لون لها. إن من يكتفي بمسحة من العلم والحكمة كمن يكتفي بغسل وجهه إذا دخل الحمام. وليس بالأمر الصعب على مثل هذا أن يفوز بقصب السبق إما في الثقالة وإما في الرعونة. وإذا ركب إلى غرضه فرس سيبويه يعود وفي يده القصبتان، فنقرأ إذ نراه التعويذتين. - أمين ريحاني

في رياض الشعر

في رياض الشعر دمعة سكبها كبير شعرائنا سعادة إسماعيل باشا صبري يوم مقتل المرحوم بطرس باشا غالي، فجاءت دراً مسبوكاً في أبيات غراء تفضل سعاته بإرسالها إلى المجلة وكان العدد الأول قيد الطبع. ونحن ننشرها الآن موقنين إن مثل هذه الأقوال تكون خير بلسم على كل قلب ملكوم وأشد رابط للسلام. وما أحسن السلام. . . لهف الرياسات على راحل ... قد كان ملء العين والمسمع لهف العلى قد عطلت من سنا ... بدر هوى من اوجها الأرفع تبكي المرؤات على بطرس ... ذاك الهمام الماجد الأروع فتشت - لما لم أجد مقلتي ... كفوءاً - عن الفضل ليبكي معي فقيل لي قد سار في إثره ... يوم دفناه ولم يرجع يا مجرياً دمع الملا أبحراً ... أدركهمو يا مرقئ الأدمع يا نازلاً بين وفود البلى ... آنستهم يا موحش الأربع عيني فيك اليوم قبطية ... تروي الأسى عن مسلم موجع يهيم من وجد ومن لوعة ... في الجانب الأيسر من أضلعي ويحفظ العهد كما شاءه ... أحمد سمحاً واسع المشرع يا من سقاني الجم من وده ... هذا ودادي كله فاكرع يا حاملا لقلب الكبير الذي ... لم ينقض الميثاق قم واسمع إسماعيل صبري

الزهرات الثلاث أنشدها ناظمها الشاعر المصري في حفلة عقدت لتوديع عزتلو القاضي النزيه الفاضل عبد الهادي بك الجندي بمناسبة انتقاله من المحلة إلى طنطا. وقد صاغها الشاعر من بحر جديد الشطر الأول فيه أربع فاعلاتن والشطر الثاني فاعلاتن واحدة. وتفضل بإهداء هذه الزهرات النضرة إلى مجلة الزهور: صبح الأزهار طيف ملكي يبهر ... بالزهور يا لها بكراً كحور الخلد هبت تخطر ... في البكور قلدت جبهتها في نسق زاهي البياض ... تاج عهن وأعارت ثوبها من خير ألوان الرياض ... كل حسن أمل باد وسعد مستعير شخص نور ... للعيون وبهاء في حياء مستعير للظهور ... بالظنون نجم صبح كل آن يجتلي فيه سناه ... فهو فجر

من تكونين حماك الله يا هذه الفتاه؟ ... - أنا مصر * * * درت الأزهار ما جاءت له تلك العروس ... من مرام غن للأزهار أبصاراً ترى سر النفوس ... من لمام فأحست ذاك منهن وقالت قول فكر ... لا لسان أفمنكن ثلاث يتقدمن لأجر ... يا حسان؟ * * * قالت الوردة: ما للعدل مثلي من مثال ... فاجتليني في بياضي واحمراري آيتا الحكم الحلال ... فاجتنيني قالت الزنبقة الغراء: إني رسم حس ... للنزاهة

هي شكلي وقوامي ولها عفة نفسي ... والنباهة قالت السوسنة البيضاء شفافاً سناها ... عن سماحه أنا والرحمة كالمرآة والوجه اشتباها ... وصباحه * * * بعد ذاك اجتمعت تلك المجيبات الحسان ... للهدية في نظام اكسبتهن به تلك البنان ... صوغ حليه حلية باليد زانتك بها مصر الفتاه ... رسم حال رسم أبهى ما به يحلى على الدهر القضاه ... من خلال خليل مطران

يا شعراء الشام يا طائر البان أثرت الغرام ... هل أنت مثلي مغرم يا حمام جددت بي دائي وغادرتني ... كأنني سقم بصدر السقام لو فرقوا ما بي على أمة ... عزريل لا يحسن فيها القيام جسم كظن المرء في ربه ... لا تدرك الناس له من نظام كأنني إن تعصف الربح في ... ركب ابن داوود وبردي لتام وغن ضعفي عز بأسيهما ... لا الغاز بي قام ولا الجن قام حظ كحظ البدر عند الضحى ... وعزمة جازت طباق الغمام وعزة قد أكبرت ربها ... عن صحبة الجيش وحمل الحسام وسيرة مثل افترار الحيا ... أو كابتسام البدر تحت الظلام لا كنت لي يا أدبي حرفة ... إن كان من يعليك قدراً يضام مصر بنا ضاقت فما حالكم ... في أرضكم يا شعراء الشام؟؟؟ لو أنصفتنا قومنا طأطأت ... - إن قيل راحوا أو غدوا - كل هام هل انتم في أرضكم مثلنا ... ترون سحب الجود تبدو جهام (لأولا بنيات كزغب القطا) ... ونسوة خطبي عليها جسام وحب أرضٍ طال عودي بها ... وبعض قوم في رباها كرام

لما وضعنا الدهر رحلاً بها ... ولا ضربنا في رباها خيام ولانتجعنا الشام حتى نرى ... نضارة العيش وطيب المقام - عبد الحليم المصري أرسل إلينا حضرة الشاعر الأديب هذه الأبيات وطلب جواباً عليها من شعراء سورية. ثم جاءنا منه كتاب يذكر فيه اجتماعه بصديقه محمد أفندي إمام العبد وتلاوة هذه القصيدة عليه قال:. . . فما وصلت إلى ذكر الشعراء في مصر حتى نال منه الوجدان واغرورقت عيناه وارتد حزنه لإلى فؤادي بعد أن ارتسم على أسارير الجبهة، فأخذ يقرأ هذه السطور الخيالية بلسان الشاعرية ويسابقه في النطق بها لسان الدمع. . . وقد نظم المصري في ذلك بيتين أضافهما إلى قصيدته وهما: أصبحت لا أصبحت في حالة ... وهكذا أمسى صديقي إمام إن كان هذا الحظ لا ينجلي ... يا دولة الشعر عليك السلام وموعدنا العدد القادم إن شاء الله في نشر جواب شعراء سورية ليطلعونا على ما هم عليه. . .

في حدائق العرب

في حدائق العرب ننشر في هذا الباب صفحات مطوية لمشاهير الكتاب الغابرين. لأن في كتبهم ومخطوطاتهم التي نسجت عليها عناكب الأيام كنوزاً نحن في أشد الحاجة إليها. وها نحن نورد اليوم ملخص فصل كتبه فارس الشدياق منذ 55 سنة عن الألقاب والمغالاة في الكتابة. وقلما قرأنا كاتباً عربياً فيه ملكة الملاحظة - التي يفاخر بها الإفرنج ويقولون إنها سر الإجادة في الإنشاء - أقوى مما هي في الشدياق ولا نتعرض لمبادئ الرجل وأطواره بل نورد شيئاً من قلمه لبيان أسلوبه الكتابي. وهو مأخوذ من كتابه الساق على الساق المطبوع في باريس على نفقة المرحوم رافائيل كحلا الدمشقي. وصل الفارياق - وهو اسم مستعار لنفس المؤلف - إلى مصر فهداه أحد الظرفاء إلى شاعر مصري له وجاهة ونباهة عند جميع الأعيان. وهنا نترك الكلام للمؤلف: الألقاب والمغالاة (قال الظريف) نصحي لك أن تكتب كتاباً إلى هذا العلامة وتلتمس منه فيما تطري به عليه مواجهته. وإذا تكرم بذلك فاذكر له حينئذ ما أنت تعاينه واستنجد به. فلا بد من أن يجيبك، فإنه رجل متصف بمكارم الأخلاق ويحب دغدغة الافتخار. ولاسيما أنه يرغب في مجالسة ذوي الأدب وتيسير أسباب معيشتهم. فتلطف إليه في المقال، وأنا ضامن لك أن تفوز منه بالآمال. فشكره الفارياق على نصحه ورجع إلى محله راضياً مستبشراً. فلما جن الليل أخذ القلم والقرطاس وكتب ما نصه:

أهدي سلاماً لو حمله النسيم لعطر الآفاق، ولو جعل للبدر هالة لما اعتراه المحاق، ولو مزجت به الصهباء لما أعقبت شربها صداعاً، ولو استفه مريض أو لعقه لما لقي برحاء أوجاعاً، ولو علق على شجر لزهت في الحال أوراقها ولو في الخريف، ولو سقيه الروض لأنبت من كل زهر بهيج طريف، ولو جعل على أوتار عود لأطربت دون عازف، ولو تغنى به في مجلس لأغنى عن المشموم والمعازف، ولو علق في الآذان لكان شنوفاً، ولو صقل به سيف كليل لجاء رهيفاً، ولو مثل لكان حدائق ورياضً، وسلسبيلاً ومحاضاً، ولو نيط بالعمائم لأغنى عن التمائم، ول تحتم به ولهان لا جزأه مجزأ السلوان، ولو كتب على رجام لألهى الثاكل عن النواح، أو على خصر هيفاء لقام لها مقام الوشاح، أو على أنف مزكوم لما أحوجه إلى السعوط، أو على ساق أعرج لكان له من قفزه سبق وفروط، أو على لسان أبكم لانحلت عقدته، أو على كف بخيل لهان عليه في البذل ذهبه وفضته. . . وتحيات فاخرة، ذكية عاطرة، أرق من النسيم، وأشهى من العافية على قلب السقيم، وأجلى للعين من الأثمد، وأغلى للناقد من العسجد، وأصفى من الماء الزلال، واعلق بالقلب من أمل الوصال. . . وأزهر من نور الصباح، وأزهى من نور الأقاح، وأثمن من الجوهر النفيس، وأعز عند البستي من التجنيس، وعند أبي العتاهية من الزهديات، وعند أبي نواس من الخمريات، وعند الفرزدق من الفخريات، وعند جرير من الغزليات، وعند أبي تمام من الحكم، وعند المتنبي من جزل الكلم تُهدى إلى الجناب المكرم، المقام المحترم، ملاذ الملهوفين، مستغاث

المضيعين، منهل القاصدين، مورد الطالبين. . . إلخ. (ثم ذكر حاجته إليه). . . قال الفارياق: فلما بلغت الرسالة إلى المذكور وطالع ما في شرح السلام من التشابيه المكلفة، لم يتمالك أن ضحك منها وقهقه، وقال لبعض جلسائه ممن ألم بالأدب: سبحان الله قد رأيت أكثر الكتاب يتهوسون في إهداء السلام والتحيات إلى المخاطب كأنما هم مهدون إليه عرش بلقيس أو خاتم سيدنا سليمان. فتراهم يشبهونه بما ليس يشبهه، ويغرقونه في الإغراق، ويغلونه في الغلو، حتى يأتي مبلولاً محروقاً. . . وما أدري ما الذي حسن لأرباب فن الإنشاء أن يضيعوا وقتهم بهذه الاستعارات والتشبيهات المبتذلة، وبنظم الفقر المتماثلة في المعنى. مع أن العالم يتأتى له أن يبدي علمه بعبارة واحدة إذا كانت رشيقة اللفظ بليغة المعنى. وهذه ألف ومئتا سنة قد مضت ومازلنا نرى زيداً يلوك ما لفظه عمرو، وعمراً يمضغ ما قاله زيد، وقد سرى هذا الداء في جميع الكتاب. (ثم استطرد الكاتب بعد كلام بمعنى ما تقدم إلى ذكر الألقاب بطريقة التهكمية المعتادة قال:) حد اللقب عند المشرقيين أنه هينة ناتئة، أو زنمة أو علاوة زائدة متدلدلة تناط بكونية الإنسان، وعليه قول صاحب القاموس العلاقي الألقاب لأنها تعلق على الناس. وعند الغربيين أي عند الإفرنج أنه جليدة تكوّر في الجسم. وشرح ذلك أن الهنة يمكن قطعها واستئصالها مع السهولة. وكذا الزنمة وكذا العلاوة يمكن ركسها وقلبها. فأما الجليدة فلا

يمكن فصلها عن الجسم إلا بإيصال الضرر إلى صاحبه. وحاشية ذلك، إذ الشرح لابد له من حاشية، إن الزنمة عند أهل الشرق غير موروثة، والجليدة عند الإفرنج متوارثة كابراً عن صاغر. مثال ذلك لقب الباشا والبيك والأفندي والآغا بل الملك إنما هو محصور في ذات الملقب به فلا ينطلق منه إلى ولده، فقد يمكن أن يكون ابن الوزير أو املك كاتباً أو نوتياً. أما عند الإفرنج فلا يصح أن يقال لابن المركيز إلا مركيز. . . واصل الزنمة والجليدة في الغالب أكال يحدث في ذوي الأمر والنهي، لهيجان الدم عليهم. فلا يمكن تسكين هذا الهيجان وحك ذلك الأكال إلا بإحداث الهنة أو الجليدة. والغرض من كل ذلك انفراد شخص عن غيره بصفة ما. . . . وأعلم أن الخواجا والمعلم والشيخ ليست ألقاباً معدودة في الهنات ولا في الجليدات. . . إنما هي خرقة تستر عورة الاسم الذي أطلق على المسمى، وهي غير مخيطة فيه ولا مكفوفة، ولا مسرجة ولا ملفوفة. بل هي كالبطاقة شدت إلى لابسها ليعرف بها سعره. إلا أنه كثيراً ما يقع الغلط في إلصاقها بمن ليس بينه وبينها من علاقة. . . فارس الشدياق

أول ممثل شرقي

أول ممثل شرقي ونعني به جورج أفندي أبيض، أو كما تسميه جرائد أوروبا المسيو أبيض الممثل المصري الفنى. لا تدهش أيها القارئ لهذا العنوان، ولا تستغرب هذا الوصف إذا ما وصفنا به هذا الشاب مع كثرة الأجواق ووفرة الممثلين عندنا. فهو أول ممثل تخرج في المدارس العالية ودرس هذا الفن على أربابه في أوروبا شأن الممثلين في الغرب. أذاعت الجرائد المحلية خبر قدومه القريب إلى الإسكندرية ومصر مع جوق فرنسوي. ورحبت به تلك الصحف ترحيباً يستحقه، كما ودعته صحف باريس بأطيب كلمات الوداع، وأحر كلمات التنشيط، وما فتحت هذه الأيام جريدة فرنسوية حتى رأيت فيها رسم أبيض وقرأت فيها ثناء جماً على حسن استعداده. قالت الطان: أحرز الفن التمثيلي الفرنسوي نجاحاً جديداً بتخريج هذا الشاب الأجنبي الذي أعرب عن صفات بديعة. وقالت الماتان: سيسمع المصريون لأول مرة رواياتنا الجميلة على لسان ممثل مصري. وقالت الجورنال: فتى كان بالأمس مجهولاً وسيصبح غداً مشهوراً. وأفاضت هذه الجرائد وغيرها كالفيغارو والبتي جورنال وجريدة المراسح في الكلام عن ممثلنا الجديد.

شكري غانم فتح الملاعب الفرنسوية بروايته، وجورج أبيض استولى عليها بإلقائه. عرفت جورج أبيض منذ سنتين وقابلته طويلاً ثاني مرة منذ سنة قبل رجوعه إلى باريس لتأليف الجوق العائد إلينا به الآن. وقد سمعته يمثل قطعاً من أشهر الروايات في بعض المجالس الخصوصية. فرأيت منه ممثلاً بارعاً قادراً، ينشد الشعر بفخامة وجزالة في الصوت، ولطافة ورشاقة في الحركة، وحدة وبريق في العينين، فتتغلغل نبراته من السمع إلى القلب، وتستوقف حركاته النظر، وتنفذ نظراته في الفؤاد، حتى إذا ما ترك المرسح وعاد يحدثك، رأيت فيه شاباً لطيفاً طيب المعشر، بل تكاد تجد فيه شيئاً من البرودة والجمود. وقد خصته الطبيعة بصفات ثمينة للمثل، فهو عذب النطق فصيحه، عريض الصدر قويه، يتدفق صحة وعافية، يحب فنه الجديد حباً أشبه العبادة، وقد قرن كل ذلك بإرادة شديدة حملته على تذليل كل الصعاب للوصول إلى تحقيق أمنيته، ومضاهاة الغربيين في فن الإلقاء. وقف على المرسح لأول مرة في مدرسة الحكمة في بيروت حيث مثل وهو تلميذ صغير دوراً في رواية الدراهم الحمراء فسر وأعجب من سمعه. وجعل التمثيل منذ ذاك العهد نصب عينيه. كبر التلميذ وأنهى دروسه، ودخل العالم ذلك المرسح الكبير حيث تتمثل أمامنا كل يوم ألف رواية. . واتفق منذ خمس سنوات أنه لما كان رئيساً لمحطة سيدي جابر أقيمت

حفلة خيرية في الإسكندرية تحت رعاية سمو الجناب الخديوي، مثلت فيه رواية البرج الهائل وكان جورج أبيض يمثل فيها دور بوريدان. فسر سمو أمير مصر من حسن استعداد الشاب وما عرف عن ميله إلى مزاولة تشخيص الروايات. فأرسله إلى باريس، ليتقن هذا الفن، ويطلع على دقائق أسراره. ذهب الشاب إلى عاصمة الفن الكبرى وملء قلبه السرور وملء صدره النشاط. فقضى هناك خمس سنوات يدرس ويتمرن على أيدي الممثل الأشهر سلفان حتى أصبح الأستاذ مراراً كثيرة يعهد بأدواره إلى تلميذه. قال لي أبيض قبيل سفره الأخير: أنا ذاهب هذه المرة لأعود إليكم بجوق سأؤلفه هناك فأعرض على أبناء وطني نتيجة جدي وكدي فعسى أن يرضوا بها. وتلقيت منه رسالة في هذا الأسبوع يقول فيها: ها قد أنجزت وعدي، ووصلت إلى غايتي. في آخر الشهر تقابلني في الأوبرا الخديوية إن شاء الله وهنا سنقابله، وهناك سنصفق له إعجاباً، في روايات: بريتانيكوس وأدويب الملك والبورغراف وهوراس واندروماخ إلخ. . . ومهما أخلصنا له التهاني الآن، ومهما أسمعناه من كلمات الإطراء فهي لا تعادل ما سنقابله به يوم يبرز لنا في رواية عربية مع جوق وطني، فيومذاك فقط يكون قد قام بالخدمة المطلوبة.

في جنائن الغرب

في جنائن الغرب ننشر تباعاً تحت هذا العنوان خير ما يؤخذ عن آداب الغربيين قديماً وحديثاً. لأن ذلك يكسب لغتنا ثروة طائلة من المعاني والأفكار الجديدة، ويطلعنا على مجرى الحركة الأدبية عند الأمم. رواية شانتكلير ومن لم يسمع برواية شانتكلير؟ فإن ذكر مؤلفها - ادمون روستان - قد طبق الآفاق. وحديثها قد شغل الصحف والأندية والمجتمعات الأدبية لما فيها من الجمال الفتان والتفنن الغريب. 1 - حول الرواية قضى روستان عدة سنين في تنسيق مشاهد هذه الرواية وصياغة أشعارها والعالم الأدبي ينتظر بذاهب الصبر شقيقة روايتي الايجلون وسيرانو ده برجراك إلى أن كان الشهر الماضي فبرزت رواية شانتكلير على ملعب بورت سان مارتن فقوبلت بهاتف إعجاب لم تصادفه رواية قبلها وتردد صداها من باريس إلى شمالي أوروبا وجنوبا، وإلى شرقا وغربها، بل تجاوز البحار وبلغ أربعة أنحاء المعمور. عمد المؤلف إلى الحيوانات وجعلها أشخاصاً ناطقة في روايته بما بهر الأبصار وخلب الألباب من رونق المناظر وجزالة الشعر. وقد عرف القراء أن مدير مجلة الالوستراسيون قد حفظ لنفسه حق نشر هذه الرواية في مجلته مقابل مبلغ مليون من الفرنكات. وأفادنا روتر

أن الريش الذي لزم لملابس الممثلين كلف خمسين ألف فرنك وكلفت الأسلاك والأقمشة أربعين ألف. وبلغ وزن الريش تسعمائة كيلو وبلغت ألوانه المختلفة اثنين وثلاثين لوناً. وقد وضع منه على رأس مدام سيمون (ممثلة دور الدجاجة) ما يساوي خمسمئة فرنك. وكلف ريس الديك (بطل الرواية) ألفاً ومئتي فرنك. أما الستارات فهي أبدع ما شوهد على ملعب تمثيل فما قول الشيخ سلامة وإسكندر أفندي فرج؟. . وفي الرواية من الحيوانات الممثلة مئة وثلاثون حيواناً من ذوات الأجنحة وذوات الأربع منها: ثمانية وأربعون نوعاً من الديوك والدجاج وعشرون بومة وثمانية أرانب ومثلها من الضفادع وثلاث حمامات وكلبان وثلاثة وطاويط وفأر وخلد وفراشة ونحل إلخ. . . وقد اشتغل بالملابس اللازمة ثلاثون عاملاً مدة أربعة أشهر تسع ساعات في اليوم أعني 32 ألفاً و400 ساعة. واشترك في معداتها أرباب ثماني عشرة حرفة من خياطين ونساجين ونجارين وحفارين ونقاشين ومزينين إلخ. . . ومن عرف كل ذلك يفهم معنى قول مدير المرسح عند رفع الستار لتمثل الرواية لأول مرة: - إن ستمئة ألف فرنك معلقة بهذا الستار. . . . وقد بلغت نفقات التلغرافات التي تبودلت بشأن ترجمة شانتكلير وتمثيلها في عواصم أوروبا عشرين ألف فرنك. وستترجم إلى تسع عشرة لغة بعد دفع رسوم الترجمة. ومثلت خلال شهر واحد في أماكن مختلفة

بين جبل طارق وبطرسبورج أربعمئة مرة أعني أكثر من ثلاث عشرة مرة في كل ليلة. والمفهوم أننا سنراها قريباً في مصر. فأهلاً ومرحباً. . . وبلغ دخل المرسح في الليلة الأولى خمسة وثلاثين ألف فرنك. ويقدرون أن ادمون روستان سيربح من تمثيلها ونشرها بالطبع عشرة ملايين فرنك. . فما رأي المؤلفين وأصحاب المطابع في مصر وسورية. .؟ وكان المسيو جيتري ممثل دور الديك قد أبى تمثيل دوره دون إشارات بيديه. وكان هذا موضوع خلاف بينه وبين المؤلف. فاتفق ذات يوم أن زار الممثل أحد أصدقائه وكان المسيو جيتري في الحمام ينشد تحية الشمس من دوره على خرير الماء فسمعه صديقه فشاقته تلك النبرات الخالبة فباغته في غرفة الحمام فوجده ضاماً يديه إلى فخذيه رافع الرأس شاخص العينين يتلو دوره على أفخم أسلوب. فصاح به: ما أبدعك هكذا. . .! فاقتنع الممثل ورضي بإخفاء يديه تحت الجناحين. 2 - الموضوع أقام أصحاب الحق بنشر رواية شانتكلير قضية على بعض المجلات والصحف يتقاضونها مبلغاً وافراً من المال لأنها نشرت قبل التمثيل موضوع هذه الرواية وبعض فقرات تمكنت من الحصول عليها. أما وقد برزت الرواية الآن على الملاعب ونشرتها المجلة صاحبة الحق بنشرها، فلا خوف علينا من القضايا إذا نحن لخصنا موضوعا للقراء وترجمنا لهم بعض مقاطيع منها.

الفصل الأول: يمثل المرسح حوش الدجاج في إحدى المزارع. وتبتدئ الرواية بمؤامرة الطيور الداجنة على الديك (شانتكلير) لأنه قد استبد بسلطته وهو فوق ذلك يدعي أن الشمس لا تشرق في كل صباح إلا بفضل صياحه. وبينما ذوات الأجنحة على هذه الحال، إذا بطلقات نارية قد دوت في الفضاء، ووقعت في الحوش دجاجة برية. فأسرع الديك إلى استقبالها وما لبث أن وقع في جبال هواها. وبينما هو يطارحها أحاديث الغرام، تأخذ هي تصف للطيور الداجنة أفضيلة عيشة الطيور في الغابات والأحراج، وتشرح أجمل شرح معنى الحرية. الفصل الثاني: يمثل المرسح جانباً من الغابة في الليل، وطيور الظلام تتواطئ على الإيقاع بالديك، لأن صياحه في كل صباح ينذرها بطلوع الشمس التي لا تتحملها عيون طيور الليل. وبينما طائر البوم يخطب في الجماعة محرضاً على الفتك بشانتكلير يسمع صياح الديك معناً إقبال كتائب النور واندحار جيوش الظلام. وكان الديك قد غادر حوش الدجاج في المزرعة، ولحق بالدجاجة البرية في الغابة. ولما كان قضى ليلته بعيداً عن رفيقاته الداجنات، متتبعاً إثر عشيقته الجديدة، أحب أن يستطلع طلع أخبارهن، فعمد إلى زهرة هناك ليكلمهن بالتلفون؟ فعرف ما أصابهن من الغم والهم أثناء غيابه عن مملكته، فزاده ذلك إعجاباً بنفسه. وبينما هو على هذه الحالة أقبلت عليه الدجاجة البرية، وأخذت تعاتبه عتاب الأحباب على انشغاله بغيرها عنها. فعاد يبثها ما بين جناحيه من لواعج الهيام. . .

الفصل الثالث: لا تزال في الغابة بين أشجار السنديان والصنوبر وشانتكلير والدجاجة البرية في شهرهما العسلي. وهي لا تزال تغريه بالحرية وتفند قوله بأن شروق الشمس متوقف على صياحه. على انه يبقى متشبثاً برأيه ومعتقداً بأن مبعث النور من حلقه. وكانت جماعة الضفادع قد عرفت بمجيئه وفضلت صياحه على تغريد البلبل سلطان الغابة فقصدته لتعرض عليه إقامته مقام البلبل الغرد. فوعدها الديك خيراً. وقصد البلبل، وكان هذا واقفاً على غصن شجرة قريبة، وبينما هو يحادثه أطلقت بندقية فأصاب طلقها البلبل، ووقع على الحضيض وظهر كلب الصياد حارس المزرعة ليأخذ الطريدة، فوجد شانتكلير صديقه، فعرض عليه الرجوع معه إلى المزرعة فأبى الديك لأن الحرية والحب قد أسرا فؤاده على ما فيهما من المخاطر. فعاد الكلب حزيناً، والديك يصفق بجناحيه ويصيح منشداً نشيد الغابة. الفصل الرابع: وفيه حل عقدة الرواية على أجمل أسلوب فإن الدجاجة البرية - وقد صور فيها المؤلف الأنثى من الحيوانات الناطقة وغير الناطقة - أسكرت الديك بحبها وقضت الليل تغازله حتى أنه استغرق في النوم صباحاً، وأشرقت الشمس وهو لا يعي. ولما أفاق من سباته العميق، وجد كوكب النهار قد اعتلى في الأفق على عادته دون الحاجة إلى صياحه. فحزن واكتأب واضمحلت أحلامه واشتد به اليأس حتى قضي عليه. . .

3 - مقاطيع من الرواية وها نحن نترجم بعض فقر من هذه الرواية الشائقة لتكون أنموذجاً. يعرف القارئ منه بعض ما فيها من رقيق الشعور وسامي التصورات. ومن طالع الأصل يجد هذه الترجمة خيالاً ضئيلاً له لأنه يشق على المترجم أن يؤدي في ترجمته تلاعب روستان في الكلام والمعاني تلاعباً يستحيل أحياناً نقله إلى لغة غير اللغة التي كتب فيها. نشيد الشمس وهي قصيدة ينشدها الديك في الفصل الأول ليحيي الشمس عند بزوغها: أنا أعبدك أيتها الشمس، أنت التي تنشف دموع أدق النباتات، وتحول الزهرة الذابلة إلى فراشة حية عندما يتلاعب هواء جبال البيرينه بزهر اللوز في وادي روسيليون بعد أن ينثره كما ينثر حظوظ البشر. . . أعبدك يا من تدخل أشعتها في كل زهرة وفي كل كوخ وتبارك كل جبهة وتنضج كل خلية فهي تتجزأ ولكنها تبقى كاملة كحب الأم. أنا أتغنى بك ويمكنك أن تقبليني عابداً لك يا من تنعكس على فقاقيع الدنان الزرقاء، وتختار عند مغيبها زجاج نافذة حقيرة لترسل وداعها الأخير. أنت تديرين زهرة دوار الشمس وتضيئين شقيقي الذهبي في أعلى القبة. وعند ما تمرين من خلال أغصان الزيزفون تعكسين

وتحركين على الأرض دائرات ساطعة يستوقف جمالها الماشي فلا يجرأ أن يدوسها. تحولين طلاء الآنية إلى ترصيع بديع كما تحولين الخرقة إلى لواء خفاق. فالمجد لك في الحقول، ولك المجد في الكروم. ولتكوني مباركة بين العشب وعلى رتاج القصور، في عين الضب وعلى جناح الإوز اللامع. . . أنت تشقين لكل مخلوق شقيقاً يمتد وراءه فأوجدت لكل شيء ظلاً كثيراً ما يكون أبهى منه وهكذا جعلت كل ما يبهجنا مزدوجاً. أعبك يا شمس: أنت تنثرين ورداً في الهواء، وتنيرين شعاعاً في الماء، وتضعين إلهاً في الأدغال. فتؤلهين الشجرة الشاحبة. فلولاك أيتها الشمس لبقيت الأشياء على ماهيتها. معنى صياح الديك في الفصل الثاني تحاول الدجاجة البرية أن تعرف من الديك سر صياحه. فيتمنع عن أن يبوح به، ثم يتغلب عليه الحب فيأخذ يشرح ذلك بأبيات بديعة كأنه الشاعر يصف مهمته في هذه الدنيا: الديك: لاحظيني وأنا بذاهب الصبر ومنتهى العجب أجرح الأرض بأظفاري كأنني أفتش دائماً في الأرض عن شيء ما. . . الدجاجة البرية: تكون على ما أعرف تفتش حينذاك عن شيء من الحبوب.

الديك: لا ليس ذلك ما أبحث عنه. وإذا وجدت عرضاً في حين من الأحيان شيئاً من الحب فإني أدعه لدجاجاتي. الدجاجة: وعم تفتش إذن وأنت تبحث في الأرض. .؟ الديك: أفتش عن مكان أنشب فيه لأصيح، ولا أصيح إلا متى تمكنت أظافري في الأرض بعد تقليه العشب وإبعاد الحصى. وعند ما تخالط نفسي الأرض الطيبة أغني وأنشد. وهذا بعض سر صياحي. وهو لا يشبه الغاني التي تنشد بعد التفتيش عنها ولكنه يصعد من الأرض إلي كما تصعد المادة الحيوية إلى الشجرة. ويكون ذلك خصوصاً عندما يقف الفجر متردداً على طرف السماء القاتمة فتتكلم الأرض فيّ ولا أبقى في تلك الساعة طائراً أياً كان. بل أصير النفير الذي ينطلق منه صوت الأرض إلى السماء. وهذا الصراخ الذي ينبعث من الأرض هو صراخ الشوق إلى النور، هو هتاف الحب الشديد الهائل نحو ذاك الكائن الذهبي الذي نسميه للنهار وهو ما تتوق إليه كل الكائنات. وهو هتاف الرجاء الذي يبعثه الحقل لمبتل طالباً قوس قزح لكل بقعة خضراء، والغابة راجيةً نوراً لكل منعطف مظلم فيها. هذا الهتاف الذي يمر بي ليصعد إلى السماء الزرقاء هو هتاف كل ما يشعر أنه في هاوية وقد غضبت عليه الشمس دون أن يعرف السبب. هو هتاف الوردة الواجفة وحدها في الظلام، هو هتاف الهشيم الذي يريد أن ينشف لينقل إلى الرحى، هو هتاف الأدوات وقد تركها الحاصد في الخلاء

فباتت تخشى الصدأ، هو هتاف كل أبيض ناصع ليكون لامعاً ساطعاً. هو هتاف كل الحيوانات الطاهرة التي لا تود ستر أعمالها، هو هتاف النهر الذي يريد أن تصل عين الناظر إلى قمره، هو هتاف الوحل الذي يريد أن ينشف ليعود تربة خصبة، هو هتاف فخيم ينطلق من المزارع التي تريد أن تشعر بالنبات يتحرك في جوفها، هو هتاف الشجرة التي تريد أن تزيد على زهرها زهراً، هو هتاف عنقود العنب الأخضر الذي يريد أن يحمرّ جانبه، هو هتاف الجسر الذي يتشوف إلى خفقان الأقدام عليه، وإلى تلاعب ظل العصافير بين ظل الأغصان فوقه، هو هتاف كل من يريد الإنشاد وخلع ثياب الحداد، والعودة إلى الحياة. . . هو هتاف إلى النور ينطلق من كل جمال وكل عافية، ومن كل من يريدان يعمل عمله في النور فيرى ذلك العمل ويراه الغير. . . . وعندما يتصاعد في هذا النداء للنهار أكبر نفسي لتكون أكثر اتساعاً وبالتالي أكثر رنيناً. وقبل أن أطلق هذا النداء أردده في صدري بخشوع ثم ينبعث صياحي واضحاً قاطعاً فخيماً حتى أن الأفق الخافق احمراراً يطيع ندائي هذا. وعبثاً يحاول الليل أن يرضيني بنور الغلس الضئيل فإني لا أزال أصيح حتى أجل الشمس تتلألأ.

روزفلت في وادي النيل

روزفلت في وادي النيل مر مستر روزفلت رئيس الولايات المتحدة سابقاً بوادي النيل أثناء عودته من الصيد والقنص في أواسط أفريقيا فقال لنا أشياء كثيرة في الخطب والمحاضرات التي ألقاها وأعربنا له عن أشياء كثيرة على صفحات جرائدنا السيارة. وها نحن نثبت شيئاً من كل ذلك. 1 - ما قال لنا * من خطبة ألقاها في الخرطوم في 16 مارس لا أريد أن أرى كلية من كليات الإرسالية جاعلة غايتها الرئيسية من التعليم مجرد تخريج طلبة لإحراز الوظائف في مناصب الحكومة. بل أريد أن أرى المتخرج مستعداً للعمل باستقلال وبدون اهتمام بأية مساعدة ينالها من راتب يتقاضاه من الحكومة. فإن أفضل الوطنيين شأناً هو من برع في الهندسة أو الزراعة أو الصناعة. ومن سوء الحظ أن يسري في الأذهان سواء في أمريكا وأوروبا وأفريقيا فكرة مآلها أن الرجل المتعلم يجب أن يجعل غايته الأولى التوظف في الحكومة. من كلام قاله في الوليمة التي أعدها له حضرة الوجيه جورج بك ويصا على النيل إذا لم أستطع أن أزور إلا بلاداً واحدة فإني أزور مصر وأفضلها على كل بلاد أخرى، وإذا أردت أن أرسل ابني لتكميل دروسه بالسياحة والمشاهدة فإني أرسله إلى القطر المصري ليرى آثاره ويقابل بين درجات ماضيه وحاضره. (وتكلم عن أجداد المصريين والسوريين فقال) أنتم

أعرق في العمران منا، فإنه لما كان أسلافكم المصريون والفينيقيون يبنون المدن ويجوبون البحار كان أسلافنا يعيشون في غيابات الجهل وغابات التوحش. * من كلام وجهه إلى ممثلي الصحافة المصرية لما زاروه في فندق شبرد في 27 مارس إن كانت عندي كلمة نصح للمصري فهي أن يعامل المسلم المسيحي بتمام العدل كما يعامل المسيحي المسلم. إني انصح بهذا هنا، وحيثما كان لي نفوذ ألح في عمله. ولما كانت القوة في يدي لم أكن أسمح للمسيحي بأن يظلم مسلماً ولا لمسلم بأن يظلم مسيحياً وما دام لي شيء من النفوذ لا أسمح بشيء من ذلك. . . إن في أيدي رجالي الصحافة سلاحاً من أمضى السلاح في العصر الحديث فيجب أن يستعملوه إلا لمقاصد حسنة، فإن محرر الجريدة أو مراسلها في هذا الزمان إنما هو خادم عمومي. * من المحاضرة التي ألقاها في الجامعة المصرية في 28 مارس تجنبوا الادعاء الفارغ كما تتجنبون التعصب الديني والجنسي والسياسي. وأهم من تجنب النقص العلمي أن تتجنبوا النقص الأدبي. وعل الذين يذهبون إلى أوروبا أن يشعروا أن هناك أموراً كثيرة يجب أن يتعلموها وأموراً كثيرة يجب أن يتجنبوها، فليأتوا إلى بلادهم بالحسنات ولينبذوا ظهرياً السيئات واذكروا أن الأخلاق أهم من الصفات، ولا يفوتنكم أن الأمر الخطير هو أن تتم الأعمال بأمانة وكفاءة بقطع النظر عن مركز الرجل العامل سواء في ذلك الرفيع أو الوضيع مادام عمله للمجموع

2 - ما قلناه له * من خطاب مفتوح لسعاد الشيخ علي يوسف مدير سياسة المؤيد أيها الضيف العظيم: إنك الآن تخترق وادي النيل وترى النيل تكتنفه المزارع وأزهار الربيع من جانبه وترى الجو رائقاً والهواء صافياً والسكينة تملأ ربوع البلاد، فلا تظن أن هذه منحة اللورد كرومر التي منحها البلاد في ربع القرن الذي أقامه. * من قصيدة لشوقي بك قف بتلك (القصور) في اليم غرقى ... ممسكاً بعضها من الذعر بعضا كعذارى أخفين في الماء بضا ... سابحات به وأبدين بضا مشرفات على الزوال وكانت ... مشرفات على الكواكب نهضا صنعة تدهش العقول وفن ... كان إتقانه على القوم فرضا وأنا المحتفي بتاريخ مصر ... من يصن مجد قومه صان عرضا لم تمت أمة ولا باد شعب ... أقرضوا الذكر والأحاديث قرضا قل لها في الدعاء لو كان يجدي ... يا سماء الجلال لا صرت أرضا يا إمام الشعوب بالأمس واليو ... م ستعطى من الثناء فترضى مصر بالنازلين من ساح (معن) ... وحمى الجود (حاتم) الجود أفضى كن ظهيراً لأهلها ونصيراً ... وأبذل النصح بعد ذلك محضا قل لقوم على (الولايات) أيقا ... ظ إذا ذاقت البرية غمضا شيمة النيل أن يفي وعجيب ... أحرجوه فضيع العهد نقضا

النظرات والريحانيات

* من قصيدة لحافظ أفندي إبراهيم قف غداً أيها الرئيس وعلم ... أهل مصر حرية التعبير وأخبر الناس كيف سدتم على النا ... س وجئتم بمعجزات الدهور وملكتم أعنة الريح والما ... ء ودستم على رقاب العصور قف وعدد مآثر العلم واذكر ... نعم الله ذكر عبد شكور وإذا ما ذكرت أنسه الكبرى فلا تنس نعمة الدستور إنما النيل والميسيسيبي صنوا ... ن هما حليتان للمعمور وعجيب يفوز هذا باطلا ... ق وهذا في ذلة المأسور * الدكتور شبلي شميل أحيي فيك مروض الوحوش - وحوش المال في أمريكا ووحوش الحيوان في أفريقيا - وقد لا تكون مصيباً في هذه، ولكنك مصيب في تلك، فأهلاً وسهلاً بقاتل الوحشين. النظرات والريحانيات أبرز عالم الطباعة إلى عالم القراءة في هذا الشهر كتابين نفيسين، بل

سفرين جليلين. جادت علينا بالأولو ادي النيل ونفحتنا بالثاني جبال لبنان. بعد أن أقحطت هذه وتلك مدة من الزمن، وبخلت علينا سماؤهما بما يشفي الغليل من المزن. المنفلوطي صاحب النظرات الصائبات عرفته

مصر وتنافلت نفثاته صحف الأقطار فعرفته البلاد العربية، والريحاني صاحب الريحانيات الزهرات عرفته سورية وأمريكا ومصر كاتباً عربيةً كما عرفه الأنكلوساكسون كاتباً إنكليزياً، ولكلا الكاتبين مقام رفيع في قومه، ومنزلة سامية عند قرائه. وهما يتشابهان بأشياء ويختلفان بأشياء. عرفت الاثنين فعرفت فيهما نفسين منزهتين وإن اختلفا في المبدأ والنظر إلى الأمور. يدافع كل منهما عن رأيه وفكره دون أن يغضبك في رأيك وفكرك، رائدهما الوئام، وغايتهما السلام، يقول لك المنفلوطي: ورضا البعض فيه للبعض سخط ... ورضا الكل غاية لا تنال ويقول الريحاني لقارئه: في كل حالٍ لا أنسى انك أكلت من جفنتي وشربت من إبريقي ونمت في خيمتي فأنت إذن أخي وإن كنت خصمي، فإن افترقنا فكما ترافقنا متحابين لا متخاصمين. فقد تجد بعد هذا في آراء الكاتبين وأحكامهما في العالم الكتابي أو الاجتماعي ما لا يوافق رأيك أو حكمك ولكنك لا تغضب ولو رأيت منهما ما يؤلم. قال أحد المؤرخين: يختلف الحكم على الثورة الفرنسوية باختلاف المكان الذي نظر الناس إليها منه. فمنهم من رآها وهو في الشارع، ومنهم من رآها من شرفات بيته، ومنهم من رآها من أعلى آلة الإعدام، وكل يحكم حسب ما رأى. نظر المنفلوطي والريحاني إلى المجتمع الإنساني، فحكم عليه كل منهما حسب المكان الذي وقف فيه لينظر: لم يعرف الأول من بلاد الله إلا مصر ولكن مصر مجتمع قارات ثلاث فكأنه عرف بلاداً كثيرة إذ

عرفها. . . وزار الثاني آسيا وأفريقيا وأوروبا وأمريكا فعلاً. وبعد هذه السياحة عاد الاثنان إلى عيشة الانفراد والخلاء وأخذا ينظران إلى الإنسان ومدنيته من خلال نظارات الطبيعة الصافية فهزأ الريحاني من سخافات الإنسان وضحك ورأى في زخارف المدينة المعبودة، مئة مصيبة منقودة وأنَّ المنفلوطي منها وشكا. فكأن قلمه ما وصفه به: فتراه ورقاء تندب شجواً ... وتراه رقطاء تنفث نارا ولكن الاثنين، هذا في تألمه وذاك في تهكمه، قد أحبا الإنسانية

حباً جماً ولعل هذا معنى الابتسامة التي لا تفارق ثغر الاثنين: ابتسامة عطف ورحمة بعض أحلام المنفلوطي حقائق، وبعض حقائق الريحاني أحلام، ولقد تؤلمنا هذه وتلك أحياناً. . . ويكاد يصح فيهما مع بعض الاستدراك ما قيل قدماً عن راسين وكورنيل: يصفنا الأول كما نحن، ويصورنا الثاني كما يجب أن نكون. فلهذا نعجب بالأول لأنه عرفنا حق المعرفة، ونحب الثاني لأنه يحسن الظن بنا. . . وقلم هذا وذاك. هو جسر تمشي القلوب عليه ... لتلاقي بين القلوب قرارا * * * ألبس المنفلوطي معانيه حلة قشيبة فاختالت فيها تيهاً وفخراً، وباهت بها الحاليات من معاني الأقدمين والمحدثين نثراً وشعراً، وكسا الريحاني أفكاره ثوباً بسيطاً ساذجاً نسجه من خيوط الشمس ولونه بألوان الحقول بكل دقة واعتناء، فرات العين في الحلة المنفلوطية ما يبهجها، وشامت في الثوب الريحاني ما يؤنسها. ومن القرويات من تضاهي الأميرات حسناً وجمالاً. . . درس صاحب الريحانيات لغات الأجانب وعرف كيف يستمد منها ما يناجي به النفس، واكتفى صاحب النظرات بلغة أجداده فتمكن أن يستخرج من أسرارها ما يناغي به الروح ولو بالهمس. لقيت السيد المنفلوطي منذ بضعة أيام وفي يدي الريحانيات فقال: ما بيدك؟ - فقلت: شقيقة النظرات ودفعت إليه الكتاب فأعاده إلي ثاني يوم وقد كتب في أول صفحة منه:

نظرت في هذا الكتاب كتاب الريحانيات الذي أعارنيه صديقي. . . انطون أفندي الجميل فلم أجد فيه من اللغة العربية إلا حروفها دائماً، ومفرداتها غالباً، وجملها نادراً. فلم أحفل بذلك كثيراً لأني وجدت فيه من سمو الخيال الشعري، ودقة الملك النظري، ما استوقفني ساعتين كاملتين، وهي المرة الثانية التي وقفت بها هذه المدة أمام كتاب عصري منذ أعوام بعد كتاب روح الاجتماع. . . . وبالحقيقة إن في النظرات والريحانيات ما يستوقف القارئ ساعات. فيحفظ الكتابين في مكتبته ويعود إليهما من حين إلى حين. . . * * * ديوان المصري - وهو شباب شعر عبد الحليم أفندي المصري وشعر شبابه زفه إلى قراء العربية وهو خير هدية يهديها شاب إلى أمته: باكورة سعيه واجتهاده. . . ي شعر المصري كل صفات الشباب: نخوة وإباء وهمة وإعجاب وحياة تتدفق كالماء الصافي من الصخرة البيضاء. وفي شعره أيضاً عيوب الشباب - إن كان للشباب عيوب - وأي سن بلا عيب. بل ربما كان جمال كل سن في ما يعد عيوباً. جرد الشاب من اندفاعه وهوسه وعدم مبالاته بالعواقب فترى أمامك ما يمجه الذوق كالثمرة الناضجة قبل أوانها. وإذا آخذنا المصري بشيء فنؤاخذه بمحاولته الخروج في بعض قصائده من رياض الشباب إلى كهف الشيخوخة.

أشواك وأزهار

فتبدو في شعره آثار التصنع. ولكن إن هي إلا سحابة صيف تنقشع أمام شمس الطبيعة الساطعة. ولسنا نغلط في حكمنا إذا وضعنا المصري في طليعة شعراء الطور الجديد وقد أحله ديوان هذا المحل وأكسبه منزلة هو جدير بها. ونحن ندعو له بان يمتد حبل عمره، ويشتد أزر شعره، لنرى الفرق بين شعر الطفولة وشعر الكهولة. (ونرجئ الكلام في سائر ما لدينا من المطبوعات إلى العدد القادم) أشواك وأزهار العرَج والفرَج الجنون فنون: ماتت في برشلونة عاصمة البلاد البرتغالية امرأة عرجاء - والعرج والجنون لا ينفيان الغنى ماتت عن ثروة طائلة وأوصت بمبلغ خمسمئة فرنك لكل أعرج يمشي في جنازتها. فكم من أعرج في ذاك اليوم عد نفسه سعيداً وشكر للطبيعة تقصيرها لإحدى قائمتيه، وكم من سالم تمنى لو بلي بالعرج، وكم من محتال تظاهر بالعرج، فسار في الجنازة وهو يردد قول بطل مقامات بديع الزمان: تعارجت لا رغبة في العرج ... ولكن لأقرع باب الفرَج نيشان الافتخار قرأت في صحف البريد أن الحكومة العثمانية تنوي إنشاء فرع لنيشان الافتخار تسميه نيشان الاستحقاق ويكون أشبه بوسام

اللجيون دونور الفرنسوي. . . ما أكثر الأوسمة والنياشين والمداليات عندنا. هي أكثر من الذين يستحقونها. بل نحن نوجدها قبل إيجاد صدور تحتها قلوب شريفة، لنضع فوقها علامة الشرف. سألني سائل: هل تحمل وساماً؟ فلم أعرف بما أجيب: إن قلت لا فقد يستحقرني لعدم نيلي ما يناله الجميع بسهولة اعتقاداً منه بعجزي. أو قلت نعم فقد يستصغرني على خفتي ظناً منه أنني سعيت وراء هذا الشرف الموهوم الذي تساوى به كل الناس. وعليه فإنه من العار أن تتحلى بوسام كما انه من العار أن تكون عاطلاً منه. . . وما غاية الحكومة من تجديد نيشان الافتخار وقد كاد يزين كل الصدور: أما لو أنه شيء جديد ... لقلنا حبذاك الافتخار ولكن مثله فينا قديماً ... كثير لا يباع ولا يعار أول أفريل أو كذبة نيسان: شهر أفريل من أجمل شهور السنة، واسمه مشتق من فعل لاتيني معناه تفتّح إشارة إلى تفتح الزهر في الرياض والحقول. على أن البشر قد شوهوا طلعته وسودوا سمعته بما سموه كذبة نيسان أو سمكة أفريل. ويرجع عهد هذه الكذبة إلى أواسط القرن السادس عشر حيث أصدر شارل التاسع ملك فرنسا سنة 1564 منشوراً قرر فيه أن يكون ابتداء العام في غرة يناير بدلاً من أول أفريل. فأصبحت التهاني والهدايا التي تتبادل في غرة هذا الشهر كاذبة. وقد ذكروا لهذه العادة المألوفة عادة الكذب الحلال في هذا اليوم أسباباً غير ما قدمنا لا مجال

من الإدارة

لعدها الآن. على أن شيوع هذه العادة عند جميع الشعوب تقريباً لمما يدل على ميل غريزي في البشرية إلى الكذب. فأقمنا له هذا العيد الرسمي. وأجمعنا على الاحتفال به على اختلاف مذاهبنا. ومن أشهر الكذبات كذبة جريدة إنكليزية نشرت في 31 مارس سنة 1846 أن سيقام معرض عام للحمير ثاني يوم (أول أفريل) في نقطة معينة من لندرا. فاجتمع جمهور كبير للفرجة وإذ ذاك قهقهة أحد الحاضرين وقال تم المعرض. . . وكم من الناس يعدون كل يوم أول أفريل. حاصد من الإدارة 1 - نذكر الأدباء أن آخر الشهر الجاري هو آخر موعد للسباق الشاعري ومنتصف الشهر القادم آخر موعد للسباق النثري (راجع موضوع السباقين وشروطهما في ص 9 و10 من الجزء الأول). 2 - نرجو الذين لم يفيدونا عن رغبتهم في الاشتراك أن يفعلوا بعد وصول هذا العدد. 3 - كتب إلينا أحد الأدباء يقول نلتمس أن لا تعتمدوا على نوابغ الكتاب فقط فإن ذلك يحول دون ظهور الباقين. فكم من زهرة غراء ذبلت بين رمال الصحراء، وكم من درة حسناء ضاعت بين كهوف البحار وتدافع الأمواج. . . وكتب إلينا كثيرون بهذا المعنى ونحن قد وضعنا هذه الغاية نصب أعيننا منذ إنشاء المجلة قلنا: إن عندنا فريقاً من الكتاب في حاجة إلى التنشيط والتمرين تحت إدارة أساتذة الكتابة وأيمة الكلام (راجع المقدمة ص 4). 4 - وفي الختام لابد من كلمة شكر حميم نسديها لكل الصحف والمجلات في جميع الأقطار العربية لما صاغته من كلمات الترحيب والاستئناس بهذه المجلة. حقق الله الظن بنا. - الإدارة

العدد 3

العدد 3 - بتاريخ: 1 - 5 - 1910 نطاق العالم البحري السويس وبناما هي العقول السامية المدارك ترينا في عالم الاختراعات ما تزدهي به البلاد ويستفيد منه العباد، فترقى بالحضارة والهيئة الاجتماعية في مراقي التقدم والفلاح. . . وقد تجلت تلك العقول البعيدة المرامي في أفراد جاؤوا الوجود في أحقاب مختلفة وخصوا ما أتاهم الله من ثقوب الفهم ومضاء الفكر بالتنقيب عن أسرار الطبيعة واستخدام قواها، وتوصلوا بثباتهم إلى ما عاد على المجتمع الإنساني بالخير الجزيل. من أعظم ما حققه الإنسان في الأزمنة الحديثة توسيع نطاق فن البحارة وتمهيد سبل النجارة في وجه أربابها. فاقتصد الوقت الثمين وقرب الأمكنة البعيدة: شاد المرافئ، ترغم أنف الماء الثائر، ورفع المنائر تهدي حائرات المراكب. فكم من برزخ نفضه، وخليج سده، وغدير أيبسه. ولم يكن ما في ذلك من المصاعب ليثبط منه العزائم. فهذه قناة السويس

تكفل لفردينان ده لسبس ما كفلت أهرام مصر لمن بناها: اسماً ماجداً وذكراً خالداً. وهذه ترعة بناما التي يتم فتحها في القريب من الزمن سيكون لها شأن يذكر في تقريب المسافات وتسهيل الموصلات. السويس وبناما بابا أربعة بحور عظام وهما كمنطقة تحدق بالكرة الأرضية عن طريقهما تمر تجارة المعمور وإليهما ومنهما مصيرها ومنفذها. وسوف يبقيان الطريق الكبرى اللاحبة بين آسيا وأوروبا مادام العالم السياسي على ما هو وبقيت الأرض على شكلها. عرف القراء مجمل ما يتعلق بقناة السويس بعد تمحيص هذه المسألة في الجمعية العمومية وقيام مصر من شرقها إلى غربها ومن جنوبها إلى شمالها للدفاع عن استقلال قناتها، وإننا لذاكرون هنا فقط شيئاً عن ترعة بناما فنقول: بناما عبارة عن برزخ يعترض ني الأوقيانوسين الاتلانتكي والباسفيكي، واقع بني كولومبيا وكوستاريكا، جامع بين أمريكا الشمالية وأمريكا الجنوبية، وقف عقبة في وجه التجارة ويبلغ عرضه ستة وخمسين كيلومتراً بين مدينة كولون ومدينة بناما. والأولى في 22 َ و9 عرضاً و15َ و82ْ طولاً والثانية في 56َ و8ْ عرضاً و30َ و79ْ طولاً. وفتح هذا البرزخ - أي فصل العالم الجديد إلى شطرين - مشروع خطير جليل الفوائد. ولقد عنّ هذا الفكر لعلماء أعلام وحكام عظام وخطر لعقول نيرة ومدارك سامية أن يبرزوه إلى حيز العمل. فنشرته الأقلام والألسنة فكبّر سامعوه وقالوا: هذا من باب المستحيل. . .

ومنذ القرن السادس عشر دار في خلد أحد البحارة نقض هذا البرزخ فاقترح ذلك على الحكومة الإسبانية. وفي هاتيك المدة أيضاً حدث الهمة بالسيد فرنندو كورتز فاتح البلاد المكسيكية إلى القيام بهذا الأمر الخطير فألف لجنة من المهندسين وعهد إليهم تخطيط رسم ترعة تجمع بين الأوقيانوسين. وضع الرسوم على صفحات القرطاس ولم يلاق في ذاك العهد من يقوم بها فيضعها قيد الفعل. فتصرم قرنان كاملان وفتح هذه في عالم الرسوم، حتى أواخر القرن الثامن عشر إذ أوفد الملك كارلس الثالث لجنة ترود تلك لأماكن وتنظر في الأمر، فتضاربت الآراء وتفرقت الكلمة ولم ينجم عن ذلك نتيجة تذكر. وبعد سنين قلائل عهد ذلك المشروع إلى مسيو ده همبلدت فلم يصب نجاحاً. وفي السنة الخامسة والعشرين بعد الثمانمئة والألف نال البارون تييري من بوليفار محرر جمهورية كولومبيا امتيازاً يخوله حفر ترعة بناما، فعمل ولم يفلح ومن مشاهير الرجال الذين بحثوا في هذا المشروع الإمبراطور نابليون الثالث. قيل أنه كان يقضي ساعات طوالاً وهو في قلعة هام، يعمل النظر، ويشغل الفكر في التنقيب عن هذه القضية. ومما تقدم يرى القارئ أن هذا المشروع قد بدا لعقول كثيرة، على أن المتمولين أصحاب الذهب لم يكونوا يعدون تحقيقه إلا من باب الأوهام وخطرات البال. ولذلك لم تؤلف قط شركة لهذا الغرض، ولم تقم عصابة مالية للأخذ بناصر هؤلاء العلماء وبسط يد المساعدة لهم وكان الأمريكان أنفسهم، أصحاب الجد والنشاط، لا ينظرون إلى هذا المسعى إلا بعين الهزء

والسخرية، حتى رأوا النجاح مكللاً أتعاب ذاك الهمام المقدام فاتح قناة السويس، فعقدوا حينذاك لجنة من حذاق المهندسين لينظروا في الأمر ولكنهم فشلوا في مسعاهم ولم يفوزوا بالمرام. وقام ده لسبس يحاول أن يحقق في بناما ما حققه في السويس، فأرسل العالمين أرمان ركلو ولوسيان ويز سنة 1879، فتفقدا تلك الحزون والبطاح ووضعا الرسوم اللازمة، ونالا الامتياز من جمهورية كولومبيا، وألف هو الشركة المالية بعد أن قدر المبالغ اللازمة ب 658 مليون فرنك. فتلاعبت الأيدي بالمال وكانت هذه الحادثة من أهم المسائل السياسية التي هزت فرنسا في النصف الأخير من القرن الغابر. وجل ما نتج عن كل هذه الأبحاث مد خط حديدي بين كولون وبناما في سنة 1855. ومن أكبر الأسباب التي حالت دون فتح ترعة بناما، ميل الأمريكان إلى ترعة أخرى مارة ببحيرة نيكاراغوا ونهر سان جوان، وذلك لقتل المشروع الفرنسوي في مهده، سيما وقد توهم القوم بادئ بدء أن حفر هذه الترعة أقل صعوبة من نقض برزخ بناما. وظل الأمريكان على هذا الزعم حتى سنة 1903، حيث عادوا إلى الفكرة الأولى بفضل مساعي العالم فيليب بونوفيلا ومستر مرقس حنا أحد النواب، فظهر للجميع عدم صلاحية نيكاراغوا لجمع الأوقيانوسين نظراً لقوة النهر وعلو الأراضي عن سطح البحر وكثرة المواد البركانية في تلك النواحي. فوضع الأمريكان يدهم على هذا المشروع وأخذوا على أنفسهم تحقيقه بعد التسويف والتأجيل

وهو ناجز عن قريب فيشطر أمريكا إلى شطرين، هذا وكل يعرف أن أكثر رواج التجارة بين آسيا مهد التمدن القديم وأوروبا مهد التمدن الحديث، ومن هنا تتأتى أهمية الطرق الجامعة بين القارتين. ولبيان أهمية ترعة بناما لابد لنا من إلقاء نظرة إلى الطريق القديمة والمقابلة بينها وبين طريق الغد فتتضح لنا فوائدها التجارية والسياسية معاً لأن التجارة أصبحت اليوم محور السياسة وأساس المعاهدات والمحالفات. قال أحد كبار السياسيين: لا تحارب الدول ولا تسالم بعضها بعضاً إلا في سبيل التجارة، فالتجارة سلطانه الدنيا. 1 - الطريق عن البرزخ الأفريقي: أقدم طريق من أوروبا إلى آسيا طريق البرزخ (الأفريقي) أعني مصر فالنيل فالبحر الأحمر فالأوقيانس الهندي، وهذا ما رفع شأن الإسكندرية ووفر غناها وجعل فيما بعد للبندقية أيضاً نصيباً عظيماً من الثروة. وجد بين أوراق كتبها نابوليون بين سنة 1786 و1793 ما يلي تعريبه: إن مركز التجارة وسوق رواجها غنما هي الإسكندرية التي شاهدها الإسكندر على النيل وهكذا عمرت مصر على عهد البطالة فقامت مدينة برنيقه على شواطئ البحر الأحمر، وكانت تجارة بلاد فارس والهند مع إيطاليا وأوروبا عن طريق البحر الأحمر فالنيل. . بيد أن هذه الطريق كانت من الصعوبة على جانب عظيم، سيما وأنها بحرية وبرية، فكانت تستغرق وقتاً طويلاً ومصروفاً جزيلاً، لنقل البضائع من البحر إلى البر ومن البر إلى البحر. 2 - الطريق عن رأس الرجاء الصالح: وفي سنة 1498 جاز فسكو

ده غاما رأس الرجاء الصالح واختط طريقاً بحرية محضة إلى الموانئ الآسيوية فتبعته السفن التجارية وهجرت طريق البحر المتوسط فتأخرت أحوال الإسكندرية والبندقية. قال فولتير في معرض كلامه عن الآداب: إن رحلة فسكو ده غاما إلى مملكة كالكوتا في الهند عن طريق رأس الرجاء الصالح قد غيرت تجارة العالم القديم تغييراً تاماً. وكانت الإسكندرية محور التجارة ورابطة الأمم على عهد البطالة والرومان والعرب بل كانت البلاد المصرية المستودع الوحيد بين الأصقاع الأوروبية والأمصار الآسيوية ومنها كانت البندقية تستجلب محاصيل الحبوب لأوروبا فاغتنت وازدهى فيها العمران ولولا اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح لكانت البندقية الآن من أعظم الدول. 3 - الطريق عن ترعة السويس: بيد أنه في أواسط القرن التاسع عشر عادت الطريق إلى الهند من حيث كانت، وذلك بنقض البرزخ الأفريقي وجمع البحر المتوسط والبحر الأحمر. . تلك أمنية طالما سعى وراءها الفراعنة والبطالسة وأشار إليها بونابرت فحققها ده لسبس، وأعاد إلى مصر مجدها الغابر وبهاءها السابق إذ عادت كذي قبل الطريق بين آسيا وأوروبا. 4 - الطريق عن البرزخ الأمريكي (بناما): هذا وفي سنة 1492 دعت ناهضة النشاط بكرستوف كولمب إلى السير إلى الهند عن طريق جديدة. وكان قد ظن - ونعم الظن - أنه نظراً لكروية الأرض لابد من أن يصل إلى الهند عن طريق ثانية مواجهة للطريق الأولى فبدلاً عن السفر في البحر المتوسط والأوقيانوس الهندي حاول أن يسافر في

نبوكدنصر الشحاذ

ما ندعوه اليوم الأوقيانوس الباسيفيكي. ولما بدت له أرض عن بعيد، ظن أنه وصل إلى الهند، وهكذا اكتشف أمريكا. قال أحد المؤرخين: أمريكا جزيرة عظيمة معلقة بالقطب تشطر الأوقيانوس إلى شطرين، فكان إذن كولمب قد أخطأ بظنه ولكن يا حبذا الخطأ وما أعظم ما ناله بخطأه وقد اكتشف بالوقت نفسه طريقاً جديدة إلى آسيا على غير علم منه وذلك بنقض البرزخ الجامع بين أمريكا الجنوبية وأمريكا الشمالية وهذا ما سنراه عن قريب فتتصل مياه الأتلنتيكي بمياه الباسيفيكي وتزداد المتاجرة بين أوروبا وشعوب الشرق الأقصى. وعليه فإن السويس وبناما قد جمعا بين البحار وجعلا للكرة الأرضية نطاقاً بحرياً يحيط بها. وهل يخفى على أحد ما في ذلك من الأهمية والفوائد الخطيرة. . .؟ نبوكدنصر الشحاذ ولم تنبح الكلاب، من ذا الذي في الباب؟ إن في الباب مليكاً دوخه الزمان، إن في الباب شبحاً محنياً نحن وفاضه متكئاً على هراوته، يمد يده باكياً، ويهينم شاكياً، شبح مخيف يرتعد كالمحموم، لا يعرف أمن البشر هو أم مما فوق أو تحت طبقات البشر

طيف من أطياف العياء والمذلة، نهب داء وفاقة، يطوف البلاد كفارة عما اقترفه من الآثام سواه، تصرخ فيه معدة ظالمة، فتذل فيه صورة الصمد المتعال، تصفر في رأسه الرياح فتصرعه، فيردد صداها شبح الوساوس والأيام، يهذي فيتساقط اللعاب من فيه، أسير أسقام وأوهام، يدق صدره مستعطفاً فيرتجف هيكله الهشيم ارتجاف قصبة في الرياح، إن في الباب شحاذاً يستنبح الكلاب، إن في الباب مليكاً دوخه الزمان، * * * وإليك بخبره من فيه - أنا نبوكدنصر من بين النهرين - نبوكدنصر الشحاذ. الملك. ملك بابل وآشور - الله سبحانه يطوف بي في العالم مثقلاً بما ترونه من ذلة وفقر ومرض وصرع وجوع وأوجاع. . . اعطوني الله يعطيكم ولله من ملك تخرق عيناه اللقمة قبل أن تدخل اللقمة فمه، لله من ملك طي هذه الأطمار في هذا الهيكل الهشيم المخيف، على كتفيه وفاضه، وعلى ذراعيه مواعينه، وفي يده هراوة يستعين بها على الدهر والكلاب، لله من ملك على رجليه من آثار المفاوز أشواكها، وفي ساقيه جروحها، وقد ركمت عليها الأسفار غبارها، لله من ملك يتساقط الدم من أنفه، والدمع من عينيه، فيتجمد هذا على

لحيته، وذاك على صدره، يورد الصرع خديه، فتلتهب الأحلام في محجريه، هنالك شيء من الهول ألبسه الدهر قميصاً حاكتها شياطينه، بل هناك غور غدور من ظلمات الزمان، ونبأ من عصور عقم فيها الهيكل والصولجان، وفي ناظريه ساعة الصرع غيظ يحتدم - ولا غيط من علو العروش مجداً، في ناظريه يتجسم الويل وقد ذاب عظماً وعزاً ووجداً، * * * ها هو أمامك مغمي عليه قد ذبل الورد في وجهه، واضطرم الوهم في ناظريه، قد ذهب التلجلج من فيه والرجف من يديه، فهو لا يهينم الآن شاكياً ولا يمد يده باكياً، هو يرغي ويزبد لا كالصريع، بل كالمليك المنيع، وقد شخص إلى الفضاء يصب عليه لظى تغيظه، كأن في الفضاء ملكه، وكأن هنالك نصب عرشه، - أنا نبوكدنصر ملك بابل وآشور - تاجي. صولجاني. وزرائي. موعدكم غداً - إلي بآلة الصيد - لا - لا - أشعلوا الأنوار. أين الإماء الحسان - حركوا الأوتار - تعالي. . . تعالي إلي - ليس الآن وقت العبيد - سوقوهم إلى السجن - إلى النار - الخائنة - الفاسقة - إلى النار - آه علي آه عليك. آه علي أو آه على ملكي. .

وهذا مليك دوخه الزمان، وعضه الويل في الكبد والوهم في الجنان، * * * إن في الخيال الثائب إلى رشده الواقف أمامك الآن، الناطق بخليط من لغات العرب والكلدان، نبأ من غور ظلمات الزمان، إن فيه تجسم ظلم الدهور وعدل الزمان، بل فيه تتجسد أرواح من جاروا على الإنسان، بلى. إن في مثل هذا المتسول الصريع المجنون، ليتقنص الظالمون، * * * ولم تنبح الكلاب؟ إنما نحيب الكلاب هذا لا نباحهم، نحيبهم على من في الباب. على مليك صرعه الزمان، على شحاذ عضه الوهم في الكبد والويل في الجنان، حتى الكلاب ينحبون ويتساءلون - وأين الروح التي نفخها الله في هذا الذي خلقه على شكله ومثاله؟ وأين الكرامة التي تميز البشر عن الحيوان. وأين الإباءة التي ترفعه على أسياده إلى خالقه؟ أين من الرجال عزة النفس والحمية والعزم والحزم والنشاط؟ * * * إن في الباب شحاذاً من بؤساء الكلدان ممن أرهقهم سيف ابن عثمان، طوّاف يطوف البلاد متسولاً - كفارة عن ذنوبه وآثامه؟

حملة الأقلام في بر الشام

كلا - كفارة عن جرائر حكامه، هو حجة الزمان، على طغاة الزمان، هو دمّل من دماميل مجتمع الإنسان، هو ثمرة طغيانكم أيها الرؤساء والأسياد والحكام، هو صنع يدكم الأثيمة لا صنع يد الله. أمين ريحاني حملة الأقلام في بر الشام * إبراهيم الحوراني (محرر النشرة) - غزرت مادته فأتت أقواله (من كل فاكهة بها زوجان) * الشيخ إسكندر العازار - كل ما كتبه ويكتبه هو من السهل الممتنع * إبراهيم أبي خاطر - يسرك كخطيب. ولا يسوءك ككاتب * أمين الريحاني - جمع بين لطافة الهواء. وسلاسة الماء * أمين الغريب (صاحب المهاجر سابقاً وأحد صاحبي النصير حالاً) - أقدر صحافي لإرضاء مشتركيه. وترغيبهم في مطالعته * أسعد رستم - لا يجاريه في البرية فرد في ضروب الفكاهة الرستمية * أميل الخوري - لو أكمل الشوط لبلغ الغاية * بشارة الخوري (صاحب البرق) - هو كجريدته. فيه من كل فن خبر * بشري رمضان (صاحب الكوثر) - لم أقر له كثيراً. ولكنني أرى في مجلته مادة غزيرة. * بطرس مختاره المعلوف - لو رام الشهرة لكان شانه في لبنان الجميل

شأن حافظ في وادي النيل * جبر ضومط - فكر من ذهب. في قالب من خشب * جرجي نقولا باز (صاحب الحسناء) - أجاد قبل إنشاء المجلة. فكان أفضل من كتب في الاجتماعيات * جورج شاهين عطيه (صاحب المراقب) - بين أفكاره السامية ولغته نسب * جميل المعلوف - أنضج كاتب في السياسة * خليل زينية (محرر الثبات) - له في كل واد أثر * داود مجاعص (صاحب الحرية) - قلمه كمخلب الخطاف. إذا نشب أدمى * سعيد الشرتوني - كل شيء منه مقبول - إلا الشعر * الشيخ رشيد نفاع - أقوى حافظةً من أبي العلاء * سليم العقاد (محرر الأحوال) - كاتب مجيد صبور. آثر التستر على الظهور * شبلي ملاط (صاحب الوطن) - تكاد تلمس حدته من خلال سطوره * شبل ناصيف دموس - شديد اللجهة. طويل النفس * شكيب أرسلان - جال جولة رفعته إلى رتبة المشاهير. ثم أشغلته السياسة عن متابعة التحبير * عبد الله البستاني - قريع وحده في أساليب البلاغة * عبد الغني العريسي (صاحف المفيد) - خير مثال للحمية العربية * عيسى إسكندر المعلوف - كثرت كتابته. فتوزعت مادته * فارس الخوري - يحذو حذو حافظ في شعره. ولكنه لن يدانيه في نثره * فيلكس فارس (صاحب لسان الاتحاد) هو في نثره أشعر منه في شعره * كامل حميه (محرر النفائس) - إذا كان الإنشاء هو الإنسان فاقرأ النفائس. . . * محيي الدين الخياط (محرر الإقبال والاتحاد العثماني) - هو في شعره فوقه في نثره. * مصفى الغلاييني (صاحب النبراس) - أفضل ما أتمثه خطيباً

ملكة الجمال

* محمد كرد علي (صاحب المقتبسين) - لا تعرف منزلة نبي في وطنه * محمد الباقر (صاحب المنتقد) - كل من سار على الدرب وصل * نعوم لبكي (صاحب المناظر) - ترى ظلمة خفيفة. من خلال بلاغته اللامعة. * يوسف نخلة ثابت - هو في تعريبه أصح لغة من أكثر المنشئين. * * * هذا ما وصلت إليه طاقتي القاصرة. كتبته ورتبته على حروف الهجاء. وهناك أيضاً قسم كبير من الكتاب والشعراء المجيدين من النبت الجديد وسأذكرهم على حدة في مقالة أخرى إن شاء الله. حليم إبراهيم دموس (بيروت) ملكة الجمال أو زهرة لبنان إقامة الأفراح في أيام المرافع عادة شائعة، ومن العادة أيضاً في بعض البلاد إقامة ملكة ترأس العيد. وقد جرت هذه السنة في الجمهورية الدومينيكانية حادثة غريبة، نقتطفها عن الجرائد الأمريكية تفكهة للقراء: أراد فريق من الأهالي أن تكون ملكة العيد في هذا العام الآنسة أماندا (محبوبة) كريمة الشيخ نجيب العازار أو (زهرة لبنان) كما يسميها الوطنيون، وقد تفردت بلطفها وجمالها. وأراد فريق آخر أن تكون إحدى الوطنيات من كريمات أعيان البلاد. وقد حمي الخلاف لدرجة لم يسبق لها مثيل في تاريخ الأعياد، اشترك فيه الوزراء وكبار رجال الحكومة ووجهاء القوم، وأخذت القضية دوراً خطيراً حتى توسط في الأمر الجنرال

راموند كاساري رئيس الجمهورية وأعلن انتخاب ملكتين فرضي الفريقان. وفي المساء أقام الرئيس ليلة راقصة في المنتدى العالي إكراماً للملكتين، وكانت الراية العثمانية تخفق بجانب الراية الوطنية. وثاني يوم جرى الاحتفال بتتويج الملكتين، وكانت الملكة السورية لابسة ثوباً من الراية الدومينيكانية، والملكة الوطنية لابسة ثوباً مصنوعاً من الراية العثمانية، وعلى صدرها النجمة والهلال، والجميع يصيحون فلتحيى الملكة وقد شرب رئيس الجمهورية نخب العثمانيين الأحرار ونخب النزالة السورية. وفي اليوم التالي ركبت الملكة السورية يختاً مزيناً، وعن شمالها الملكة الوطنية، وراية الهلال تخفق على الساري، ووراء اليخت مدرعتان من حاميات السواحل تقلان الرئيس والوزراء والأعيان ومئات من الزوارق وكلها رافعة الراية العثمانية. وعند اقتراب اليخت الملكي أطلقت القلعة 21 مدفعاً وصدحت الموسيقى بالنشيد العثماني وكانت جميع أيام الاحتفال أعياداً زاهية لم يسبق لها مثيل في تاريخ هذه البلاد. وقد أطنبت الجرائد بمدح العثمانيين وأثنت عليهم لتعاضدهم وشكرت للرئيس حكمته لأنه وفق بني كرامة الوطنيين والنزلاء. وقد رأينا صورة الآنسة اللبنانية في الجرائد الأمريكية فوجدناها كما وصفوها.

في رياض الشعر

في رياض الشعر أيها العرب أين الرجال وأين الأسطول لم يغن تحذير ولا إغراء ... فقد استوى الأموات والأحياء إني صرخت فلم يكن إلا صدى ... مرت به الأرياح والأنواء أين الرجال فلم تقع عيني على ... رجل فهل أرض الشام خلاء إني سمعت هتافهم فإذا به ... عند الحقيقة أنّةٌ وبكاء يا قوم ما هذا الجمود فحسبكم ... أن الجمود إذا استطال فناء قد أطلق الدستور عن أبوابه ... فانحوه فهو محجة بيضاء ومضى العتاب بقضه وقضيضه ... واقتص من سوء الظنون إخاء الله أكبر هل جهلتم أنكم ... نهب القوي وأنتم ضعفاء ساد التنازع في البقاء فلم يعد ... فيه لمن نبذ الجهاد بقاء ننعي على الزمن القديم وليته ... في الشرق والزمن الحديث سواء فلقد سخرنا اليوم من آبائنا ... وكذاك تسخر بعدنا الأبناء أين الحضارة والنضارة والعلى ... بل أين ما جاءت به العلماء إن الرزية أن تكون بلادكم ... بيد الغريب وأنتم الغرباء إني أرى شركاته إشراكه ... يرمي بها فيصيد كيف يشاء وإذا توطد أمره في أرضكم ... فستصبحون وكلكم أجراء فاض النعيم له وما من نغبة ... فزتم بها لكنكم انضاء

ومخضتموه ولاءكم فسطا على ... خير البلاد ولم يزعه ولاء إني امرؤ اغتشه وأرى به ... متلوناً من دونه الحرباء وتمرسي بالدهر أدبني فما ... طاحت بي الأغراض والأهواء والله لا يضع العدى أوزارهم ... ولئن علا للمصلحين نداء هتفوا (بتعزيز السلام) وإنما ... هي خدعة يرضى بها الجهلاء أفلم تروا سفناً تنوء بجندهم ... ضاق الفضاء بها وغص الماء ركبوا البخار فأدركوا ما أملوا ... سيان أرض عندهم وسماء فتقحموا الغمرات لا تتلكأوا ... وتعهدوا الأسطول فهو نجاء فإذا مدافعه انبرت لخصومه ... وتكلمت خرست لها الأعداء وإذا بوارجه بدت في مأزق ... تنشق عنه الليلة الظلماء لا ترهبوا من بعده متحزباً ... ترغي وتزبد حوله النصراء قالوا العدى مثل النطاق عليكم ... يتحفزون وكلهم رقباء يتربصون بأرضكم ريب الردى ... فبلادكم بعيونهم أقذاء صدقوا بما زعموا ولكن حبذا ... موت إليه تسوقنا العلياء أفما دروا أن الرشاد أعزنا ... فاليوم لا وهن ولا إبطاء فإذا أسارير الزمان تجهمت ... وجرى الرصاص تصبه الهيجاء وتدفقت زيم الجيوش ففيلق ... في فيلق سالت به البيداء وقف القضاء فما تدور صروفه ... إلا وكان لنا عليه قضاء أحييت يا عصر الرشاد رجاءنا ... ولقد يكون وليس فيه ذماء جددت عهد (الراشدين) فلم نقل ... من بعدهم قد ماتت الخلفاء

يا أيها العرب الكرام إليكم ... أشكو وقد فدحت بناء الأرزاء هذا هو الأسطول يطلب رحمة ... منكم فهل في أرضكم رحماء إن تبخل الدنيا عليه فما لكم ... عذر بذاك وأنتم الكرماء هذا المجال لديكم فتشمروا ... إن الكريم تهزه الآلاء أيرى (بنو عثمان) من أسطولهم ... جبلاً أشم له السحاب لواء يترنح (البسفور) إعجاباً به ... وتخر نحو (هلاله) الجوزاء أفتقعدون وللنساء حمية ... ثارت بهن وهمة شماء بعن الحلي وبذلن ما يملكنه ... كرماً فيا ليت الرجال نساء - الخرطوم فؤاد الخطيب إلى امرئ القيس سائل التاريخ عاماً ثم عاما ... أي يومٍ خفر العرب الذماما أي عهد نكثوا آياته ... أي جار لم يعزوه مقاما المروآت هدى أعمالهم ... والوفا الدين الذي فيهم تسامى عبدوا الأصنام لكن عبدوا ... قبلها العرض فصانوه كراما ألهوا العزة واللات لدن ... جعلوا للنفس بالعز اعتصاما * * * القصور الغر تفدي خيماً ... لبني كندة تبتز الخياما لابن حجر في ذراها خيمة ... ظللت منه الفتى الحر الهماما ملك في طي يروي ملكه ... شاعر أبدع حتى لن يراما أمراء الشعر تحني رأسها ... لأمير الشعر حباً واحتشاما

يا أميري إن للعرب إذا ... ذكر المجد لآيات جساما إن تكن قد قمت فيهم ملكاً ... كم مليك بعدك الدهر أقاما لم يخلد ذكرك الملك كما ... خلد الشعر لك الذكر دواما وبكيت التاج يوماً ذلة ... وبكيت الطلل البالي هياما ما أذل الدمع للملك وما ... أشرف الدمع إذا سال غراما حبذا العرب ومن أندى يداً ... حبذا العرب ومن أمضى حساما أكبر التاريخ ذكراهم لدن ... ملأوا الأيام أعمالاً عظاما حيثما كانوا فهم أهل العلى ... لو هم لا يتحدون الخصاما أنا لو كنت أمرأ القيس لهم ... لأجدت القول فيهم والكلاما قفا نبك حبيباً لم أقل ... بل قفا نبك اتحاداً ووئاما - الأستانة أمين تقي الدين بائعة الزهور مرت بزهر الياسم ... ين على الرفاق الحضر تختال في ثوب سما ... وي جميل المنظر قالت وقد مدت يداً ... بالزهر هل من مشتري؟ قلت المحيا منك كال ... بدر التمام المسفر والياسمين كأنجم ... نظمت بكفك فانظري قالت صدقت وهذه ... لك زهرة يا مشتري فؤاد سليم

بين شعراء مصر والشام

بين شعراء مصر والشام نشرنا في العدد الماضي قصيدة لعبد الحليم أفندي المصري يشكو فيها إلى شعراء الشام كساد سوق الأدب في مصر ويسألهم عن حالهم في بلادهم (راجع القصيدة ص 59) وننشر اليوم جوابين وردا علينا الأول من سعادة الأمير نسيب أرسلان والثاني من حضرة عيسى أفندي إسكندر المعلوف. 1 - أشتاق وادي النيل يا بازي الجيش غداة الصدام ... من لم البيزان سجع الحمام بلغت سمعي يا فتى رنة ... قد اخضلت نحري بدمع سجام شرارة من خاطر ثاقب ... كانت لقلبي يا ابن ودي ضرام وطرفة من شاعر نابت ... في مصر يسقى من نمير الكلام قد صاحب الجيش زماناً وكم ... أبلى لدى الحرب وضنك المقام وانفك عنه كافياً نفسه ... بالمنطق الفصل رهيف الحسام لا أعرف الشاعر عيناً وقد ... يشف عما يحتويه اللثام هيجت (يا مصري) شجوي وما ... أحلى جوى أذكيته في العظام أفديك يا بدر التمام الذي ... أرقني بالهم ليل التمام في بثه تبدو لنا خلة ... خلة ندب المعي همام طابت لريب الدهر إذ مسها ... كما تمس الريح بنت الخزام يا عاتباً حيناً على حظه ... فقبلك كم من عاتب في الأنام إما لقيت الحيف في موطن ... فاصبر رعاك الله صبر الكرام

عسى ترى الظلام مرفضة ... كالعقد لما انبت منه النظام الزهر قد نم بأنفاسه ... لابد أن ينشق عنه الكمام أشتاق وادي النيل فاعلم بذا ... يا من غدا يشتاق أرض الشام إن سار كل يبتغي وجهه ... سمعت مني في العريش السلام - بيروت نسيب أرسلان 2 - صدى الشكوى قد ضاق للشعر بمصر المقام ... وانتابه العقم ببر الشام لذا ترى عبد الحليم اشتكى ... وردد الشكوى لديه الإمام أبناء سوريا ترد الصدى ... وتندب الشعر بدمع سجام يا لهف أعراب على شعرهم ... وقد قضى لهفي بداء عقام قد ضاقت الدنيا على شاعر ... حتى تمنى أن يحين الحمام لكنه جنى على نفسه ... جناية المرء عليها حرام أبناء سوريا ومصر أنشدوا ... يا دولة الشعر عليك السلام زحلة عيسى إسكندر المعلوف

في حدائق العرب

في حدائق العرب أجبن الناس وأحيل الناس وأشجع الناس دخل عمرو بن معدي كرب الزبيدي على عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، فقال عمر: أخبرني من أجبن من لقيت وأحيل من لقيت وأشجع من لقيت. قال: يا أمير المؤمنين خرجت مرة أريد الغارة، فبينما أنا سائر، إذا بفرس مشدود ورمح مركوز، وإذا رجل جالس كأعظم ما يكون الرجال خلقاً، وهو محتبي بحمائل سيفه. فقلت: خذ حذرك فإني قاتلك - فاقل: ومن أنت؟ - قلت: أنا عمرو بن معدي كرب الزبيدي. .! فشهق شهقة فمات. فهذا يا أمير المؤمنين أجبن من رأيت. وخرجت مرة حتى انتهيت إلى حي، فإذا أنا بفرس مشدود ورمح مركوز، وإذا صاحبه في وهدة يقضي له حاجة. فقلت: خذ حذرك، فإني قاتلك - فقال: ومن أنت؟ فأعلمته بي. فقال: يا أبا ثور، ما أنصفتني، أنت على ظهر فرسك وأنا على الأرض، فأعطني عهداً أنك لا تقتلني حتى أركب فرسي فأعطيته عهداً. فخرج من الموضع الذي كان فيه، واحتبى بحمائل سيفه، وجلس. فقلت: ما هذا؟ فقال: ما أنا براكب فرسي، ولا بمقاتلك، فإن نكثت عهدك، فأنت أعلم بناكث العهد فتركته ومضيت.

فهذا يا أمير المؤمنين أحيل من رأيت. . . وخرجت مرة حتى انتهيت إلى موضع كنت أقطع فيه الطريق. فلم أرد أحداً، فأجريت فرسي يميناً وشمالاً، وإذا أنا بفارس فلما دنا مني فإذا هو غلام حسن، نبت عذاره، من أجمل ما رأيت من الفتيان وأحسنهم. وإذا هو قد أقبل من نحو اليمامة. فلما قرب منسي سلم علي، فرددت عليه السلام وقلت: من الفتى؟ - قال: الحارث بن سعد فارس الشهباء - فقلت: خذ حذرك فإني قاتلك - فقال: الويل لك، فمن أنت؟ - قلت: عمرو بن معدي كرب الزبيدي - قال: الذليل الحقير، والله ما يمنعني من قتلك إلا استصغارك فتصاغرت نفسي يا أمير المؤمنين، وعظم عندي ما استقبلني به. فقلت: دع هذا، وخذ حذرك، والله لا ينصرف إلا أحدنا. - فقال: ثكلتك أمك، فأنا من أهل ما أثكلنا فارس قط - قلت: هو الذي تسمعه - قال: اختر لنفسك، فإما أن تطرد لي، وإما أن اطرد لك فاغتنمتها منه وقلت: اطرد لي فاطرد وحملت عليه، فظننت أني وضعت الرمح بين كتفيه، فإذا هو صار حزاماً لفرسه، ثم عطف علي، فقنع بالقناة رأسي وقال: يا عمرو خذها إليك واحدة ولولا أني أكره قتل مثلك لقتلتك. فتصاغرت نفسي عندي، وكان الموت يا أمير المؤمنين أحب إلي مما رأيت. فقلت: والله لا ينصرف إلا أحدنا فعرض علي مقالته الأولى، فقلت له: اطرد لي فاطرد، فظننت أني تمكنت منه فاتبعته

حتى ظننت أني وضعت الرمح بين كتفيه. فإذا هو صار لبباً لفرسه، ثم عطف علي فقنع بالقناة رأسي وقال: خذها إليك يا عمرو ثانية فتصاغرت إلي نفسي وقلت: والله لا ينصرف إلا أحدنا فاطرد لي فاطرد حتى ظننت أني وضعت الرمح بين كتفيه، فوثب عن فرسه فإذا هو على الأرض فأخطأته. ثم استوى على فرسه واتبعني حتى قنع بالقناة رأسي، وقال: خذها إليك يا عمرو ثالثة، ولولا كراهتي لقتل مثلك لقتلتك - فقلت: أقتلني أحب إلي. ولا تسمع فرسان العرب بهذا - فقال: يا عمر وإنما العفو عن ثلاث. وإذا تمكنت منك في الرابعة قتلتك. وأنشد يقول: وكدت إغلاظاً من الإيمان ... أن عدت يا عمروا إلى الطعان لتجدن لهب السنان ... أو لا فلست من بين شيبان فهبته هيبة شديدة وقلت له: إن لي إليك حاجة - قال: وما هي؟ - قلت: أكون صاحباً لك - قال: لست من أصحابي. ويحك أتدري أين أريد؟ - قلت: لا والله - قل: أريد الموت الأحمر عياناً - قلت: أريد الموت معك - قال: امض بنا. فسرنا يوماً أجمع حتى أتانا الليل ومضى شطره فوردنا على حي من أحياء العرب فقال لي: يا عمرو في هذا الحي الموت الأحمر فإما أن تمسك علي فرسي فأنزل وآتي بحجاتي، وإما أن تنزل وأمسك فرسك فتأتيني بحاجتي. فقلت: بل انزل أنت، فأنت أخبر بحاجتك مني فرمى إلي بعنان فرسه، ورضيت والله يا أمير المؤمنين بأن أكون له سايساً.

ثم مضى إلى قبة فأخرج منها جارية لم تر عيناي أحسن منها حسناً وجمالاً، فحملها على ناقة ثم قال: يا عمرو إما أن تحميني وأقود الناقة، أو أحميك وتقودها أنت - قلت: لا بل أقودها وتحميني أنت فرمى إلي بزمام الناقة، ثم سرنا حتى أصبحنا. قال: يا عمرو - قلت: ما تشاء؟ - قال التفت فانظر، هل ترى أحداً، فالتفت فرأيت جمالاً فقتل: أغذذ السير. قال: انظر، إن كانوا قليلاً فالجلد والقوة وهو الموت الأحمر، وإن كانوا كثيراً فليسوا بشيء قلت: هم أربعة أو خمسة - قال: أغذذ السير ففعلت ووقف وسمع وقع حوافر الخيل عن قرب فقال: يا عمرو كن عن يمين الطريق، وقف، وحول وجه دوابنا إلى الطريق ففعلت ووقفت عن يمين الراحلة ووقف عن يسارها ودنا القوم منا، وإذا هم ثلاثة نفر شابان وشيخ كبير، وهو أبو الجارية والشابان أخواها. فسلموا فرددنا السلام فقال الشيخ: خل عن الجارية يا ابن أخي - فقال: ما كنت لأخليها ولا لهذا أخذتها - فقال لأحد بنيه: اخرج إليه، فخرج وهو يجر رمحه فحمل عليه الحارث وهو يقول: من دون ما ترجوه خضب الزايل ... من فارس ملثم مقاتل ينمي إلى شيبان خير وائل ... ما كان يسري نحوها بباطل ثم شد على ابن الشيخ بطعنة قد بها صلبه فسقط ميتاً فقال الشيخ لابنه الآخر: اخرج إليه فلا خير في الحياة على الذل فأقبل الحارث وهو يقول: لقد رأيت كف كانت طعنتي ... والطعن للقرم الشديد الهمة

والموت خير من فراق خلتي ... فقتلتي اليوم ولا مذلتي ثم شد على ابن الشيخ بطعنة سقط منها ميتاً. فقال له الشيخ: خل عن الظعينة يا ابن أخي فإني لست كمن رأيت - فقال: ما كنت لأخليها ولا لهذا قصدت - فقال الشيخ: يا ابن أخي اختر لنفسك، فإن شئت نازلتك، وإن شئت طاردتك فاغتنمها الفتى ونزل، فنزل الشيخ وهو يقول: ما ارتجي عند فناء عمري ... سأجعل التسعين مثل شهر تخافني الشجعان طول دهري ... أن استباح البيض قصم الظهر فأقبل الحارث وهو ينشد: بعد ارتحالي وطال سفري ... وقد ظفرت وشفيت صدري فالموت خير من لبان الغدر ... والعار أهديه لحي بكر ثم دنا فقال له الشيخ: يا ابن أخي إن شئت ضربتك فإن أبقيت فيك بقية فاضربني. وإن شئت فاضربني فإن أبقيت في بقية ضربتك فاغتنمها الفتى وقال: أنا أبدأ - فقال الشيخ: هات فرفع الحارث يده بالسيف فلما نظر الشيخ أنه قد أهوى به إلى رأسه ضرب له بطنه بطعنة قد منها أمعاءه ووقعت ضربة الفتى على رأس عمه، فسقطا ميتين. . . فأخذت يا أمير المؤمنين أربعة أسياف وأربعة أفراس. ثم أقبلت إلى الناقة فقالت الجارية: يا عمرو إلى أين ولست بصاحبتك ولست لي بصاحب، ولست كمن رأيت. فقلت: اسكتي - قالت: إن كنت لي صاحباً فأعطني سيفاً أو رمحاً فإن غلبتني فأنا لك وإن غلبتك قتلتك - فقلت: ما أنا بمعطٍ

ذلك وقد عرفت أهلك وجرأة قومك وشجاعتهم فرمت نفسها عن البعير. ثم أقبلت تقول: أبعد شيخي ثم بعد إخوتي ... يطيب عيشي بعدهم ولذتي وأصبحن من لم يكن ذا همة ... هلا تكون قبل ذا منيتي ثم هوت إلى الرمح وكادت تنزعه من يدي فلما رأيت ذلك منها خفت أن ظفرت بي قتلتني، فقتلتها. فهذا يا أمير المؤمنين أشجع من رأيت. الاتليدي

في جنائن الغرب

في جنائن الغرب ننشر تباعاً تحت هذا العنوان خير ما يؤخذ عن آداب الغربيين قديماً وحديثاً، لأن ذلك يكسب لغتنا ثروة طائلة من المعاني والأفكار الجديدة فيطلعنا على مجرى الحركة الأدبية عند الأمم. وقد كان لما عربناه في العدد الماضي (راجع ص 68) من رواية شانتكلير وقع حسن عند جمهور القراء وتناقلت الترجمة جرائد عديدة. وقد أحببنا اليوم أن نأخذ شيئاً من قصة أندروماك بمناسبة تمثيل روايتها الفرنسوية على مرسح الأوبرا الخديوية أثناء وجود جوق جورج أفندي أبيض في مصر. أندروماك ثلاثة شعراء كبار طرقوا هذا الموضوع الجليل: هوميروس اليوناني وفرجيل اللاتيني وراسين الفرنسوي. وأندروماك هذه امرأة هكتور الطروادي الذي قتله آخيل وقد كانت بين السبايا من نصيب بيروس بن آخيل. وأبت الاقتران به محافظة على عهد زوجها المقتول. وإننا ناقلون شيئاً من إلياذة هوميروس ورواية راسين مكتفين بالقليل من الكثير لضيق المقام. 1 - وداع هكتور لأندروماك قبل نزول هكتور لمبارزة آخيل أقبل يودع امرأته وولده هذه القطعة من أرق ما جادت به قرائح البشر. قالت أندروماك لزوجها: يا شقي البخت ذا اليأس الوخيم ... سوف يلقيك بلجات الجحيم ولي الإرمال والطفل يتيم

سوف تلقاك جماهير عداك ... وتلقيك مضاضات الهلاك فلمن أبقى إذا مت سواك أه لو ألقى إلى جوف الثرى ... قبل أن تلقى على الأرض قتيل إن تموتن الأسى يخلد لي ... وعنا النفس ودمع المقل لا أب أسلو به لا أم لي أنت كل الأهل لي إذا أنت حي ... آه فارحم وانعطف رفقاً علي آه فارفق بي وبالطفل لدي. . قال: ما يشجيك يؤليني الشجا ... إنما الموقف أضحى حرجا نزل الروع وبي العزم أبى ... أن يكون الروع في القلب نزيل بين أقوامي وربات السدول ... لست أرضى العار أن تعل النصول أو عن الهيجاء يثنيني الخمول وأنا دوماً بصدر الفيلق ... شأن (فريام) وشأني أتقي وأقي قومي بحد المخفق آه لكن فؤادي والحجى ... ينبئاني أن صمصامي كليل سوف تندك (باليون) القلاع ... وتوافينا الملمات الفظاع كل هذا قلبي منه لا يراع. . . بيد أن الخطب كل الخطب آه ... أن تكوني في سبيات العداه تذرفين الدمع عن مر الحياه

تستقين الماء كالعبد الأسير ... من (مسيس) أو ينابيع (هفير) تنسجين القطن والقلب كسير كل بؤس كل رزء وعنا ... كله إن حل ذا الرزء قليل كله لا شيء إن صح الصحيح ... والذي يلقاك بي هزءاً يصيح تلكم زوجة هكتور الشديد ... خير ما في القوم من قرم عنيد كم له قرع بدراع الحديد تل صدر الجيش تلاً وهنا ... سبيت زوجته وهو تليل فتصحين وتصلين السعير ... تستجيرين ولكن من يجير. . . يا لحود الأرض واريني التراب ... قل أن يدهمني هذا المصاب وأنلني أيها الخطب البلا ... قبلما زوجي للسبي تنيل ثم مد اليد للطفل فصد ... جازعاً لما رأى تلك العدد من نواص سابحات وزرد وبصدر المرضع الطفل ارتمى ... فلديه أبواه بسما وبرفق عنه هكتور رمى ذلك المغفر. والطفل بدا ... بيديه بين تقبيل يجيل ودعا يسأل أسياد الأنام ... أنت يا (زفس) وأرباباً عظام عونكم أسأله في ذا الغلام فليكن مثلي هصار الأسود ... وإذا من موقف الحرب يعود

فليقل فوق أبيه قد سما ... سل سيف الفوز يا نعم السليل فليجندل كل جبار أبي ... فائزاً منه بحر السلب تتلقاه ببادي الطرب أمه جاذلة مما ترى ... ثم ألقاه لها مستبشراً وهي ضمته لصدر عطرا لبس المغفر حالاً ووثب ... ومضت تلفت من حيث ذهب تذرف العبرة والقلب التهب هوميروس: النشيد السادس من الإلياذة تعريب سليمان البستاني 2 - وفاء أندروماك أندروماك الآن أسيرة بيروس بن آخيل قاتل زوجها وهو يعرض عليها الاقتران به لينقذ لها ولدها وإلا اضطر إلى قتله مرضاة لليونان. وهي بين عامل الحب لابنها وعامل الوفاء لزوجها (من رواية راسين). أندروماك - لا تظهر الضعف فإنك في البسالة آية. وانعم بإحسان مجرد، فخير الإحسان ما كان بلا غاية. أيغلبك العشق فتخضع له اضطراراً ولا تخاف في إظهاره عاراً. وتزعم أن أندروماك يطب لها هذا الغرام، وهي على ما ترى من الأسر والحزن

والسقام. وأي جمال يلوح لك في عينين حكمت عليهما فعالك بالبكاء؟ فخلهما واحترم مشهد تعاستنا بعد النعمة والهناء. وأنقذ غلاماً بات في أسرك ذليلاً، وكان من قبل جليلاً. ورده على والدة حزينة باكية، ولا تجعلها تفديه ببقية مهجة بالية. أنقده ولو أبت أمه إجابة طلبك، فهو جارك وجار الكريم لا يضام. فذلك عمل يليق بابن آخيل الهمام. بيروس - أعيذك من البغض اللازم، والقصاص الدائم. فقد أسقمتني بالتجني والصد، وأتلفتني بعدوان ما له حد. فإن كنت قد أبكيتك دمعاً يوم كانت يدي ملطخة بدم أقوامك، فقد أبكيتني دماً في غرامك. وإن كنت لقيت بسببي عذاباً فقد احتملت صنوف عذاب في الغرام عذاب فكفانا يا سيدتي معاقبة تقضي بإتلافنا وليكن أعداء ولدك أعدائي سبباً لائتلافنا. (ثم يجدد لها تأكيد حبه ويعرض عليها تلقاء يدها أن يحمي ابنها ويعيده إلى مجد أبيه). أندروماك - سيدي إن جميع هذه الوعود لا تغني في حزني شيئاً. وكنت أعد بها ابني لو كان أبوه حيا. . . فيا أيها الأطلال البالية وأيا أيتها الأوطان الفقيدة الغالية. إن في قلبنا من الشوق إليك ناراً حامية. ومن لنا بأن نراك بعد موت المقاتلة والحامية. . . رحماك يا مولاي إن دمعي الهامع لا يسالك غير الرحيل فهو غاية رجاه. فاسمح لي أن أذهب بابني فأخفيه وأبكي أباه. وقد علمت أن ميلك إلينا يورثك بغض قومك والويل - فارغب في هرميون عني (هرميون خطيبته اليونانية).

بيروس -. . . ليس بإمكاني أن أرغب في هرميون وأميل إليها. . وقد ملكتك قلبي فلك فيه الأمر والسلطان، فكيف أهواها وليس لي قلبان: من يرى مالك عندي ولا يظن أنك الأميرة وأنها الأسيرة. أواه قول مغرم لو سمعته هرميون لنال فؤادها مناه. أندروماك - أمل يكفها سوء حالي وأسري وإذلالي. أم تريد أن تضرم في قبر هكتور ناراً. أي ذكر رهيب لهكتور من حبا أباك مجداً كما حبوتك بدمعي اشتهاراً. بيروس - لقد عز الصبر ولم يبق للعفو منال. . . واعلمي أن بغضي يكون كحبي شديداً. وإن الابن يؤخذ بأعمال أمه لا محال فسأسلمه إلى اليونان. . . أندروماك - يموت ابني. . . ابني يموت ولا معين له ولا شافع إلا دمعي. . . وعسى أن يقصر ذلك عذابي ويريحني مما ألاقيه فألحق به لنلتقي معاً بأبيه. . . . (راسين) تعريب أديب إسحق

الأميران في سورية

الأميران في سورية أميران جليلان زارا سورية في الشهر الغابر، وتنقلا بين آثارها وربوعها: البرنس فردريك ايتل نجل أكبر عاهل غربي، والأمير محمد علي شقيق أعظم أمير شرقي. جاء الأول القدس الشريف للاحتفال بتدشين المستشفى الألماني، وزار الثاني سورية ولبنان سائحاً متجولاً. فكان في زيارة الأميرين أكبر معنى، وأشرف مغزى. 1 فلسطين وطن الأنبياء، ومهد الشعر والشعراء: وقف أرميا في ربوعها راثياً، فسالت قريحته بأرق الأشعار، وقام على أطلالها نادباً باكياً، فعلم الشعراء كيف يكون الوقوف والبكاء على الأطلال. وأنشد النبي داود متغزلاً بابنة صهيون على المزمار والقيثارة، فأوقف العالم على سر الغزل والإنشاد. . . ورفع سليمان في أورشليم، عمد هيكله العظيم، فعلم الملوك كيف تبنى الهياكل، وترفع الأعماد. . . شعوب إثر شعوب، وملوك تلو ملوك، توالت على تلك الناحية وعرفت منتهى العظمة والعمران، وذاقت ثمالة المذلة والهوان. هذه هي فلسطين التي ترحب اليوم بابن عاهل الألمان ومواطن جوت وشولر، ترحب وتؤهل ذاكرة ملوكها وشعراءها، وقد حظيت في جوفها رفاتهم، وفي هوائها أنفاسهم، وعلى آثارها وفي هياكلها ذكرهم وأسماءهم.

ومن تلك الآثار العافية، والهياكل الدارسة، ينبعث صوت الإرشاد والذكرى. وفوق أشلاء المدن، وتراب الممالك التي يدوسها اليوم ابن الإمبراطور تقرأ سطور العظمة والعبرة فعسى أن يكون قد ذكر واتغظ واعتبر يصعد الرحالة النشيط مجرى النيل ليقف على منبعه، وكذلك صعد الأمير الألماني إلى جبل الزيتون ليجد الدين هناك سالماً طاهراً، قبلما تشوب صفاءه كدرة أهواء البشر وأغراضهم، وتفسد طعمه العذب مرارة تراهاتهم وسخافاتهم. فعسى أن يكون قد فاز بتلك الأمنية. وحينئذ يعود إلى بلاده، حاملاً في برديه، كلمة الوئام والسلام، بعدما اتعظت نفسه بعواقب العدوان والخصام. ويدرك معنى الثورات والانقلابات، بعد أن راد بلاداً حدثت فيها الثورات الكبار، فأكلت العروش، وقرضت الجماعات والأجيال. ويعرف كيف تساس الأمم، وتقاد الشعوب، وكيف يكون التاج المرصع على مفرق القياصرة، بعدما رأى إكليل الشوك مدمياً جبهة ابن داود. . . هذا ما نريد أن يعود به أمير الغرب من الشرق، ولا نريد أن نفهم لزيارته غير ذلك من المعاني في الماضي أرسل هارون الرشيد مفاتيح البيعة إلى كارلس الأكبر

إمبراطور الفرنجة دليل الاتفاق والسلام، واليوم يزور البيعة ابن الإمبراطور الأكبر فليكن ذلك دليل التصافي بعد الخصام. 2 مصر وسورية قطران شقيقان، وبلدان متاخمان. يجمعهما التاريخ وتربطهما اللغة والعادات والتقاليد. ولقد أصبح الأدب، أشد رابطة بينهما من صلة النسب. نحن في عصر كثرت فيه المزاحمة، واشتدت المنافسة، حتى كادت كل أمة تخشى أن تمشي وحدها، فعاهدت وحالفت للتضافر والتآزر في سيرها العمراني. وكل شيء يمهد للقطرين المصري والسوري سبل التعاهد والتحالف، ليسيرا جنباً إلى جنب في مدارج الرقي، ولا يخفى على أحد ما في ذلك من الفوائد الجمة. زار الأمير محمد علي ربوع الشام، وقد عرفت الشام ما بينها وبين مصر، فنهضت نهضة واحدة لتكرم مثوى الأمير المصري، وهي تكرم في شخصه الكريم كل سكان وادي النيل. ولائم ومآدب، وخطب وقصائد، وجموع هازجة، وجماهير مهللة، في بيروت ولبنان ودمشق وحمص وحماه وحلب وطرابلس وفي كل مدينة حلها الأمير ضيفاً كريماً على السوريين. أمراء عظام، وضيوف أعلام زاروا سورية قبل الدستور وبعده، فاستقبلتهم الحكومة استقبالاً رسمياً، ولكن لم يحتفل بهم الأهالي

احتفالاً عاماً أهلياً لأن زائر اليوم ضيف ولا كالضيوف، وأمير ولا كالأمراء. هو شقيق مصر، ومصر شقيقة سورية: في الماضي والحاضر والمستقبل، في السراء والضراء. صفقت أفنان رياض الشام، وأغصان أرز لبنان لوصول الأمير المصري واهتزت آثار بعلبك وترنحت طرباً للقاء من ربي بجوار الأهرام وانسابت مياه العاصي والليطاني لتحية ابن النيل وقامت جبال سورية تنظر إلى سليل إبراهيم باشا لأن اسم إبراهيم قد ملأ تلك الأنحاء، وذكر عدله قد سكن قلوب بنيها ولئن طافها العلم المصري في يد إبراهيم غازياً، فهو يطوفها اليوم في يد محمد علي مسالماً مصافياً. في جوار بيروت غابة الصنوبر زرعها إبراهيم باشا على ما يقال ليرد عن المدينة غارات الرمال، فكانت تلك الغابة إكليلاً أخضر على جبهة بيروت في تلك الغابة استقبلت بيروت حفيد إبراهيم، وهي لعمري فكرة جميلة، لم تخف على الأمير. جلس الأمير في ظل تلك الأشجار الباسقة الملتفة الأغصان، فذكر جده. وسمع بين حفيف الأوراق صوتاً معروفاً ينشده: لئن بت بالمجد المؤثل مغرماً ... فقد كان إبراهيم بالمجد مغرما و (الزهور) السورية البذرة، المصرية المنبت، تنتظم إكليلاً باهراً على جبهة مصر وسورية، لتحية ابن مصر نزيل سورية.

ثمرات المطابع

ثمرات المطابع من أكثر أبواب المجلات فائدة باب درس المطبوعات. لأن في ذلك إعلاناً للكتب المفيدة وترويجاً لها لتعميم فائدتها، وخدمة لمؤلفيها بإفراغ أفكارهم ومبادئهم في كير البحث لتمييز الجيد من الفاسد. ومن جهة ثانية ترى السواد الأعظم من القراء لا يمكنه وقته أو كيسه من مطالعة كلما يطبع ولو كانت رغبته في ذلك شديدة، فيتيسر له بواسطة المجلة التي يطالعها أن يقف على مجرى الحركة العلمية والنهضة الأدبية بمطالعة زبدة الآراء التي يستخلصها له غيره. ولما كان هذا الباب من الأهمية بمكان عظيم لم نشأ أن نحصر تحريره بكاتب واحد لأنه يتعذر عليه درس كل ما يظهر من الكتب درساً مدققاً، فعهدنا إلى فريق من الكتاب من أصدقاء هذه المجلة أن يطرقوا هذا الباب مناوبة خدمة للعلم والأدب. على طاولتي كتب كثيرة أرسلها إلي مدير الزهور لأطلع عليها وأقول لكمتي فيها فأطلع القراء على مضمونها. وأنا أقوم بذلك بكل سرور، وأعد القارئ بالأمانة التامة، ولو أغضبت الصراحة فريقاً من المؤلفين علي، مع أن غضب الزملاء ليس بالأمر الذي يستهان به. وإذا شط بي القلم عن جادة الحق، فذلك عن قصر في النظر وضعف في الرأي، لا عن هوى في النفس وتحيز في القلب. وبعد هذه المقدمة أبدأ حديثي عن الكتب التي أمامي وهي واردة من أنحاء مختلفة. (النجوى) رسالة وجهها فليكس أفندي فارس صاحب جريدة لسان الاتحاد إلى نساء سورية ويصح أن توجه إلى نساء الرق بل إلى نساء العالم بأجمعه. فالمرأة هي هي في كل مكان وزمان، وإن اختلفت في

بعض أطوارها: هي الحاكمة أو المحكومة، والملاك أو الشيطان، والزهرة أو الشوكة، والعسل أو الحنظل، والابتسامة أو الدمعة. . . النساء نصف الجنس البشري تقريباً فالبحث في شؤونهن واجب على كل مفكر. أردف فارس أفندي رسالته برواية. والرسالة والرواية متساويتان من حيث الأفكار المسبوكة بألطف قالب شعري. لم أقرأ للشاب شعراً - وأقوال الشاب لأن صورته في صدر كتابه تدل على نضارة العمر - وأعتقد أنه يجيده لأنه في نثره سامي الخيال جميل التصور رقيق الشعور. بل هو يقول عن نفسه لأنه لا ينظر إلى الحياة إلا من وجه الشعور والعواطف. وقد يتعب القارئ في قراءاته لتراكم الصور والاستعارات ويمل أحياناً من وحدة السياق سيما والكتاب لم يقسم إلى أبواب بل هو أنة واحدة صعدت من صدر الكاتب دفعة واحدة ولم تته إلا في آخر سطر وذلك يدل على غزارة مادة وقوة عارضة. فعلى صاحب هذه الصفات الثمينة أن يعرف كيف يستفيد منها. . . لم يحاول صاحب النجوى أن يكسر سلاسل الأسير بل أراد أن يعلمه كيف يحرك قيوده لتسمعه رنيناً مطرباً وقد حقق ما قال. ولكن هل هنّ يا ترى كثيرات النساء اللواتي قرأن هذا السِفر المكتوب لهن؟ وكما أن الجدال شديد حول النسائيات في عصرنا هذا فإن الحرب قائمة بين الروحيين والماديين. وكل فريق يعمل على تأييد مذهبه، وتفنيد مذاهب خصمه بالقلم واللسان. وقد نزل إلى هذا الميدان سيادة الحبر الجليل العلامة كيريوس بولس أبي مراد متروبوليت دمياط النائب

البطريركي العام في القدس يافا وجال جولات تشهد له بطول الباع في كتابه البرهان السديد فدافع دفاعاً صادقاً عن الحقائق التي أقرها أكابر الفلاسفة وعلمها أساطين العلماء وهي من أمس الضرورات لنظام الاجتماع البشري إذ عليها تتأسس الشرائع والسنن التي تساس بها الهيئة الاجتماعية وهي مصدر الواجب والفضيلة وركن الضمير الشخصي وأساس التمييز بني الخير والشر وهنا أترك الكلام لأحد كبار العلماء المسلمين. تصفح هذا الكتاب فقال: إن صاحب البرهان السديد سديد البرهان، قوي الحجة، يحذو حذو الصوفيين في الإسلام ويحلق في سماء الروحانيات بعد أن يدحض أقوال ذوي المذاهب الذين لا يعرفون غير المادة، وكتابه جليل في بابه وهو بعيد النظر في الأمور. ولا أخرج عن هذا الموضوع إذا تكلمت عن كتاب أو عن كتب حضرة المفضال الخور فسقفوس جرجس شلحت السرياني وأمامي منها كتاب النجوى في الصناعة والعلم والدين، وحواشيه المجموعة تحت اسم الجدوى ومنظومات الكون والمعبد والطراز المعلم وأكثر هذه التآليف مسبوكة شعراً سهلاً سيالاً على أنه لا يخلو من التطويل وشيء من التكلف وقد ذكرت عند قراءته فرحات والصائغ في تغزلاتهم الروحانية على أنه أكثر منهما تفنناً في طرق المواضيع المتنوعة. ولقد أعجبني من المؤلف حواشي كتابه التي دلت على معارف جمة في

التاريخ والأدب والاجتماع قديماً وحديثاً. وكثيراً ما وقفت عندها أكثر مما وقفت عند المتن. ويظهر أن لهذا الكاتب البليغ في كل فن أثراً. فكتبه تدل على اجتهاد قلما عرف في كتّاب الشرق. وكأنه أراد أن يأخذ على نفسه إعادة من نبغ في حلب الشهباء من أعلام الأدباء. فيقضي أوقاته بالتأليف والتصنيف ولا تخلو النتيجة من أمثال فنلون التي عربها نثراً ونظماً من رشاقة وجزالة في التعبير ولكن الإنشاء الساذج كان أولى بها. وكنت قرأت منها شيئاً في مجلة الضياء فاستحسنتها. ومن غرائب الاتفاق أنني ما انتهيت من تلاوة البرهان السديد ومؤلفات الأب شلحت حتى فتحت مقدمة السبرمان تأليف سلامة أفندي موسى والسبرمان هو ما يسميه الإفرنج أو أي فوق الإنسان وهو مذهب نيتشه الفيلسوف الألماني الرامي إلى استئصال الرحمة من بني الإنسان لأنها ضربة على الإنسانية وجريمة فظيعة لأنها تخلد الصفات الرديئة في الشعوب فيجب تفسير الحياة بحب القوة وكره الضعف، والعلم على ترقية الإنسان إلى درجة السبرمان وذلك بالتحرير الاقتصادي القائم على السوسيالية وبالتحرير الأدبي بشكلٍ ينقرض معه الدنيء ليبقى العالي. وهذا مذهب يطول البحث فيه ولا مجال لي اليوم إذ لا يزال أمامي كتب عديدة وأنا مضطر إلى إرجاء الكلام عنها إلى العدد القادم. - ناقد

جمالان في معرض

جمالان في معرض بعد ظهر السبت في 23 أبريل كان افتتاح المعرض السنوي الخامس من معارض الزهور في كازينو سان استفانو في الإسكندرية بحضور سمو الجناب الخديوي وهو عبد الزهر والجمال. وقد جاءتنا الرسالة الآتية بهذا الموضوع. ومن أولى من مجلة الزهور بالاهتمام بمعرض الزهور: أخذت الشمس تبزغ ساطعة في أفق صافٍ هو جزء من جو انقشعت سحابته التي كانت تبدو تارة سنجابية رامزة إلى البرد والعواصف، وتارة كثيفة سوداء منذرة بالبرق والرعد والمطر - أخذت تبزغ فتتهادى متجلية في هذا الجو اللازوردي مانحة روح الحياة إلى الطبيعة. فانجلت عبوستها مسفرة عن مجموع جمالي طبيعي رائع كاسف لسواه من الجمال. فهو الحياة في سن الشباب الزاهر، بل البهاء السائد على القلوب، بل الرواء الآسر للأميال السامية، بل الشذا الذي تحرك النسمات مصدره فيعطر الأرجاء، بل الروح التي تمتزج في نفس اليائس فتولد فيه الأمل، وتمر بالعبوس المكتئب فتنفس كربته، ويستنشقها الحزين فتخفف ما به، وتصل إلى معاطس العليل فتنعشه، بل هي التي يراها السعيد فتضاف إلى سعادته سعادة أخرى، وتلمسها أنامل الحسناء فترى مستقبلها في نطاق الغبطة، ويشاهدها المعاقر فيتجلى له الحبب للآلئ، ويضمها العاشق فيود لو ينزع قلبه فيهديه إلى عشيقته، بل هي التي ينساب الماء في مجاريها فتنمو، وتنبعث الحرارة الشمسية في عيدانها فتحيا، ويداعب الهواء البليل أوراقها فيسمع لتلامسها صوت هو الشدو، أي هي الورود - بين أحمر

قانٍ، وأصفر فاقع، وأبيض ناصع - وقد تفتح. والقرنفل على تباين ألوانه وقد برز من أغشيته المخضرة. والياسمين وقد كسا أغصانه التي هي كجدائل العذارى بخيطانه البيضاء. والفل وقد كللت نواصي عيدانه برمز الطهر والثالوث وقد بدا كأنموذج لألوان الكشمير و. و. إلى غاية ما هناك من الزهور والرياحين ولا غرو في هذا كله فقد أخذت وصيفات الربيع تقرعن باب الجمال فلاحت عروس مايو مفترقة للوجود عن ذلك المجموع، قائلة للشاعر تغزل، وللكاتب تصور وللعاشق تأمل، وللمصور صور فإن فيّ آية الآيات. * * * هو ذا البستان والحديقة والحقل بل هو ذا المكان الذي بدت فيه هذه الزهور زاهرة يانعة، ولكن ما هذه اليد الإنسانية التي تمتد إلى الأغصان فتنزع حلاها منها، وتنقض على العيدان فتنزع منها الثمر، وتغوص في الأرض فترفع الشجيرات من أصولها؟؟. . . . . . . . . * * * هناك. على ذاك الشاطئ الرملي الذي سورته يد الإنسان ليدرأ عن البر هجمات البحر، وحيث يبدو هذا البحر كصحيفة من لجين لانحراف الشمس نحو الغرب فتكسبه لوناً أرجوانياً. هناك حيث امتزج دوي الأمواج المزبدة بأصوات المئات من الأنفس بنغمات الآلات العازفة فينقل الهواء هذه النغمات إلى بعد بعيد - إلى هناك حيث نادي سان استيفانو الذي هو مصيف الإسكندرية الأكبر - نقلت تلك اليد هذه الورود

والزهور والرياحين نقلاً، ورصتها فيه رصاً، ونسقتها تنسيقاً هندسياً أفرغ في قالب الحسن الوضعي فأطلق على النادي في ذاك اليوم اسم معرض الزهور * * * غص النادي فحوى الجمالين. جمال الحسان وجمال الزهور. فتباريا متزاحمين. أحدهما خليع طائش وثانيهما ساحر ثابت. يبدو أحدهما حيناً من السهام المندفعة من عيون الحسان فيلوح الآخر في الوقت ذاته من وراء الزهور. تتمايل الحسان حيناً آخر تمايل الدلال على نغمات الآلات العازفة فتتمايل الزهور تمايل الاستمالة للنسمات الهابة. تقع العين على حمرة الخدود فتصادف حمرة الورود. تشاهد بياض الأذرع العاجي والصدور النقية فيلوح بها الفل وهو يفوق العاج، والياسمين وهو النقاوة نفسها. * * * غير أنه لتنازع لم يستول على مجموع قوانا. فإننا لم نلبث حتى فطنا إلى حقيقة حجبتها عنا هذه المظاهر التي سحرتنا لأول وهلة. وهي حقيقة قد جردتنا من الإعجاب بالظواهر، فرأينا البواطن فارتسمت علينا ملامح الامتعاض وقلنا والسويداء مستولية علينا: بئساً لكما من جمالين قد خرجا عن طورهما الطبيعي ففقدا أعظم مواهبهما السامية. دخلت التصنعات على كليكما فهبطتما من ذروة الإعجاب التي تسنمتمانها في نفسنا. دخلت التصنعات على الحسان ميلاً منهن إليها بغية الإبداع

أزهار وأشواك

فداخلت الإنسان الريب المحسوسة في تكوينهن. ودخلت على الزهور قصد إكسابها رونقاً على رونق ففقدت رونقها الأول. * * * صدى الآلات العازفة ينشف الأسماع ويجلو هموم الصدور، ودمدمة الأمواج رامزة إلى أن البحر ثائر لتقيده بسلاسل حجرية، والشمس آخذة في الأفول وهي كقبة من نار مشتعلة في الأفق الغربي. فملنا إثر ذاك الاستنتاج عن سماع العزف واعرضنا عن ذينك الجمالين واستقبلنا الشفق فانطلقت من صدرنا نفسة وقلنا: إنك الجمال أيها الشفق الطبيعي الذي لن تنال يد الإنسان ولن تدعها أنت تصل إليك وإنك لمتمثل فعلاً في ابنة الكوخ والزهرة وهي في الحقل - الإسكندرية حنا صاده أزهار وأشواك يا شعراء شعراء مصر يندبون حالهم، ويتذمرون لكساد سوق الأدب في بلادهم، فيناجون شعراء الشام مستفهمين، وشعراء الشام يتأوهون لسوء مصيرهم، وإعراض الناس عن بضاعتهم فيجيبون شعراء مصر آسفين. . . النغمة واحدة في القطرين، والشكوى متشابهة في البلدين، وقد أصبح لسان حال الفريقين: اليوم من يعلق الرجاء به ... أكسد شيء في سوقه الأدب

ومتى كان الشاعر سعيداً غير في الخيال، وأين كان غنياً سوى في التصور؟ ولو كانت الأبيات تنفع شاعراً ... لما كان يبنيها ويسكن بالأجره. . . فتعزوا يا شعراء، ولا يأخذن منكم اليأس وأنتم الأغنياء. ألم يقل شاعركم: ورأس مالي سحر الكلام الذي ... منه يصاغ القريض والخطب أغوص في لجة البيان فأختار اللآلئ منها وأنتخب وآخذ اللفظ فضة فإذا ... ما صغته قيل أنه ذهب النظارة العجيبة شبه العلماء العين بالآلة الفوتوغرافية ترتسم عليها كل الصور المنظورة. وقد ثبت لأحد العلماء الآن أن العين تحفظ صورة آخر ما ترى على أكمل شكل. لكن الرسم الدقيق لا يراه النظر المجرد. فاخترع نظارة مكبرة لتجسيم هذا الرسم. أنت لا تلتفت أيها القارئ إلى هذا الاختراع وتعده تافهاً ليس وراءه من فائدة كبرى. أما أنا فبخلاف ذلك فإني أعده اكتشافاً خطيراً أين منه سائر الاكتشافات. أركب هذه النظارة، وأنظر في عين ذاك المتظاهر بالورع والتقوى، فأرى رسم المكان الذي كان فيه قبل طرقه باب المسجد. وأنظر في عين تلك الحسناء العفيفة، فأرى صورة آخر حبيب كانت تغازله وتداعبه. انظر في عين الكاتب فأقرأ فيها صفحات ذلك الكتاب الذي سرق منه مقالة ادعاها. . . أنظر. . . فأرى. . .

خراب العالم وما عهد هذا الخراب ببعيد: ثمانية عشر يوماً تنقضي فيقضي علينا بالهلاك حريقاً أو غرقاً أو تسمماً - كما يزعم البعض. وذلك لأن مذنب هاللي يمسنا بذنبه فيكتسح عالمنا في الفضاء كما تكتسح المكنسة حبة الرمل. . . ما اغرب طبع الإنسان. كل شيء غير منتظر يولد فينا الخوف واليأس بدل الفرح والأمل: سر في طبع الإنسان لا أعرف فك رموزه. والخوف من ظهور المذنبات قديم العهد تجده في أشعار فرجيل وفي كتابات غيره من الأقدمين. وها أن قلوب الأكثرين قد هلعت لقرب ظهور مذنب هاللي. ففي إسبانيا ساد الرعب واستولى القنوط على القوم، وفي الصين ثار الشعب وهاج وأخذ يفتك بالأجانب ويسلب وينهب. وفي النمسا خافوا خوفاً فلسفياً فباعوا أملاكهم وأخذوا ينفقون أثمانها على إقامة الأفراح والمسرات لتوديع هذه الحياة. ولعمري أن هذا النوع من الخوف يفضل سواه بكثير. ولقد ذكرني ذلك برسالة كتبها فولتر في مثل هذه الأيام منذ مئة وسبه وثلاثين سنة، وكان الباريسيون ينتظرون ظهور المذنب الذي ننتظره اليوم. فضحك كعادته ضحكاً يرن صداه في أذني الآن. فأقهقه معه لأن الضحك يجلب الضحك ألا تضحك معي أيها القارئ. . .؟ وإذا قضى علينا المذنب فنموت ضاحكين مسرورين وإذا لم يكن من الموت بدٌّ ... فمن العجز أن نموت حزانا

حديقة الأخبار

حديقة الأخبار - في 26 مارس مثلت الجمعية الحمصية في ملعب أكاديمي أوف موزيك في بروكلين (أمريكا) رواية جنفياف وفي 9 من الشهر الغابر مثل المنتدى السوري الأمريكي في نيويورك رواية ثارات العرب من قلم المرحوم الشيخ نجيب الحداد. فالمهاجرون ينشرون اللغة العربية في أقاصي المعمور. - للكاتب التركي عزت مليح بك رواية تمثيلية اسمها ليلى وقد نقلت إلى اللغة الإسبانية ومثلت في الشهر الغابر في مكسيكو وقد أثنت جرائد البلاد كثيراً على هذه الرواية ومؤلفها الشرقي لإجادته في تنسيق مشاهدها وتمثيل العادات الشرقية. - مثلت رواية عنتر تأليف شكري أفندي غانم ستين مرة في باريس في ملعب الأوديون وكانت القاعة كل مرة غاصة بالحاضرين، واضطر مدير الملعب إلى إيقاف تمثيلها بسبب ارتباطه مع بعض المؤلفين لتمثيل رواياتهم هذه السنة. - في 17 أبريل مثل فريق من تلامذة المدرسة المارونية في مصر رواية اللصوص من قلم مدير هذه المجلة فأجادوا كثيراً. - زار مصر في هذا الشهر جميل بك معلوف وشبل أفندي دموس وكلاهما من الكتبة المعروفين في أمريكا فأهلاً ومرحباً. - بعد كلمة الحق والعرب ودار الخلافة صدرت جريدة عربية جديدة في عاصمة السلطنة العثمانية باسم الحضارة لمدير سياستها

حضرة عبد الحميد أفندي الزهراوي العضو في مجلس المبعوثان ومدير أعمالها شاكر أفندي الحنبلي. وهي سياسية أدبية فنية وتصدر يومياً. بدل اشتراكها 60 غرشاً. اخبارها شائقة وعبارتها رائقة ومدير سياستها كاتب طويل الباع. - وردت مقالة لطيفة في الإكسبرس الإسكندري عن الأندية والصحف: كل الأندية تريد أن ترسل إليها الصحف والمجلات مجاناً مع أن النادي يستفيد من الجريدة لأنها أهم الآلات والوسائل التي تعينه على بلوغ غرضه. أما صاحب الجريدة فلا يستفيد من النادي. ونظام الاجتماع يقضي بأن يكون النفع متبادلاً. . . الأندية في أوروبا تخلق الصحف وتمدها بالمال وتروجها وتشد إزرها. أما عندنا فيريدون من الجرائد أن تخدم الأندية والمجتمعات وتعضدها وتنشر تقاريرها و. و. و. وتريد أن تشترك فيها لوجه الله. - ثلاثة من نخبة كتابنا حرمت الحكومة القراء من نفثاتهم الشائقة فتركوا الصحافة لدواوين الحكومة: حافظ أفندي عوض أصبح في المعية السنية، والسيد مصطفى لطفي المنفلوطي في نظارة المعارف، ومحمد أفندي مسعود في قلم المطبوعات. نحن نتمنى لهم كل توفيق وتقدم على شرط أن يذكرونا من حين إلى حين. وإذا كانت مراكزهم الجديدة تحول دون جولاتهم المعروفة في ميادين الصحافة، فإن المجلات الأدبية لا تزال مفتوحة في وجههم. فليذكروا العهد، ولا ينسوا صحبتهم الطويلة للقلم الذي طالما غرّد في يمينهم. . . - مخبر

العدد 4

العدد 4 - بتاريخ: 1 - 6 - 1910 الكلمات الأجنبية في اللغة العربية من سوء الحظ ليس عندنا مجمع لغوي يبحث في تهذيب لغتنا ويعد لنا مفردات جديدة لما استجد من الاختراعات والاكتشافات شأن سائر الأمم. ولما كان هذا الأمر من الأهمية بمكان عظيم لإحياء اللغة وتطبيقها على حاجات زماننا الحاضر رأينا فريقاً من أدبائنا الأعلام يحاولون أن يسدوا هذا الفراغ ببحثهم وتنقيبهم، فوُفقوا في بعض الشيء وفشلوا في البعض الآخر. وقد رأى نادي دار العلوم الزاهر منذ سنتين أن يقوم بهذه الخدمة الجلى بوضع مسألة الأسماء للمسميات الحديثة موضع بحثه ومناقشاته. وكان قد وضع عقب انتهاء المناقشات قراراً يكون منهجاً لسيره في التعريب. وذلك بأن يختار عشرة من الأسماء الأعجمية أو العامية فيرسل إلى كل عضو من أعضائه نسخة منها ليكتب كل منهم ما يراه لذلك الاسم من الكلمات

العربية البسيطة أو المركبة. ثم تعاد هذه الإجابات إلى النادي في موعد معين، وحينذاك تجتمع اللجنة العلمية للنادي فتنظر في ما لديها وتنتقي من الكلمات أقربها مناسبة لمعنى الكلمة الأعجمية أو العامية. ولما اجتمع لدى اللجنة جملة صالحة من تلك المفردات قررت أن تبدأ بنشرها ليطلع عليها أعضاء النادي ويبدوا ما عندهم من الملاحظات. وإذا مضى شهر كامل ولم يرد ملاحظات اعتبرت رأياً عاماً لجميع أعضاء نادي دار العلوم فكان عليهم أن يصقلوها بألسنتهم وأقلامهم حتى تكون لعامة من يشتغلون باللغة العربية. ولم يشأ أعضاء النادي أن يبخسوا من تقدموهم بالعمل حقهم فإن المفردات التي سبقت الجرائد والمجلات إلى استعمالها في معنى من المعاني وكانت أفضل من سواها قد أبقوها على ما هي. هذا هو العمل الذي أخذ النادي على نفسه القيام به ولعمر الحق أنه لعمل جليل مفيد يستحق القائمون به على كل ثناء وشكر. على أننا نطلب من الأعضاء الكرم أن يمددوا أجل البحث حتى يتمكن أدباء معظم الأقطار العربية من الاشتراك فيه، ليكون الاختيار أصح، والاستعمال أعم. وإننا نعرض اليوم على قرائنا ما توصل إليه أعضاء النادي من البحث في وضع المفردات طالبين من الأدباء أن لا يضنوا بملاحظاتهم حتى تصل بواسطة هذه المجلة إلى النادي فتتم الفائدة التي نسعى إليها: - (استمارة) يرى أعضاء النادي استعمال (استئمارة) وقد وجدت

هذه الكلمة في الكتب القديمة بلفظ استيمار بالتسهيل وحذف التاء ولكنهم رأوا إثبات التاء لالتزامها في الاستعمال الحاضر وعدم المانع منه والكلمة مرة من استأمر أي اخذ أمره. - (انفيتياترو) ترجمت بلفظة (مدرَّج) منذ زمان وقد كاد اختيار الأعضاء يجمع عليها. - (بلوك نوت) تعريبها (اضمامة) ومعناها الأوراق منضمة. - (بويه) نظرت اللجنة فيما يستعمل للتلوين فوجدته على نوعين: نوع يتخلل أجزاء الأجسام فاختارت له كلمة (صبغ) كصبغ الثياب والورق وما أشبه. ونوع يعلو السطوح فاختارت له كلمة (طلاء) كطلاء المباني والأواني وغير ذلك. - (تختة بوش) وهو ما يسميه الإفرنج وتعريبه (نجيرة) فقد جاء في لسان العرب أن النجيرة سقيفة من خشب ليس فيها قصب ولا غيره. - (تربيزة أو طاولة) رأت اللجنة من هذا المسمى أنواعاً: فمنها ما هو للأكل وهذا (خوان) ويسمى حين وضع الأكل عليه (مائدة). ومنها ما توضع عليه الأشياء المختلفة وهذا (منضدة) مشتقة من النضد وهو جعل المتاع بعضه فوق بعضه ويخصصه بعض اللغويين بحرّ المتاع وخياره. ومنها ما هو للكتابة خاصة وهذا يطلق عليه كلمة (مكتب) المستعملة. - (ترسينه) إن ما يخرج عن البناء منه ما هو مغطى وهذا يسمى (كُنَّة) ومنه ما هو مكشوف وهذا (طَنَف) والكلمتان في العربية

موضوعتان لما يخرج من الأجنحة في الدار. على أن هناك لفظة تؤدي المعنى وهي (شرفة) وقد كثر استعمالها. وقد ورد في الأغاني بهذا المعنى كلمة (مستشرف). - (جول) اختارت لها اللجنة لفظة (مرمى) على أن كلمة (محج) الشائعة في سورية تؤدي نفس المعنى. - (خارطة) وصحيحها (خريطة) - (دوسيه) تعريبها (ملف) - (شماعة أو تعليقة) وجدت اللجنة لما تعلق عليه الملابس نوعين: أولهما ذو عمود متوسط وشعبات بارزة فاختارت له كلمة (غِدان) وهو في اللغة قضيب تعلق عليه الثياب. والثاني يثبت في الحائط فاختارت له لفظة (شجاب). - (طابور) الكلمة عربية حرفت وصحيحها (تابور). - (كارت فيزيت) سبق اختيار (بطاقة الزيارة) ولا مانع من الاستغناء عن المضاف إليه فيقال (بطاقة) كما يقول الإفرنج (كارت). وقد رأت اللجنة أيضاً استبدال (سينماتوغراف) بكلمة (خيالة) وهي كل ما تراءى لك من الصور (وفونغراف) ب (الحاكي) وسيموغراف (بمطبعة النضح) و (تيب ريتر) بمطبعة الأزرار) لأنها اتخذت قاعدة عامة في تسمية المطابع وهي أن تستعمل كلمة مركبة من (مطبعة) مضافة إلى أكبر مميز لتلك المطبعة. على أن كلمة (الآلة الكاتبة) أو (الكاتبة) فقط أقرب من مطبعة الأزرار.

رجوع الحبيب

هذه نتيجة بحث اللجنة الأولى وسنوافي القراء بباقي أبحاثها طالبين منهم أن يوافونا تباعاً بملاحظاتهم على الكلمات المختارة حتى يتم المقصود وتنتشر الكلمات الجديدة في الصحف والمجلات وعلى الألسنة. رجوع الحبيب أرفعها إلى ما جاء الليل حتى انهزمت الأعداء وفي ظهورهم بضع السيوف ووخز الرماح، فعاد الظافرون وحاملين ألوية الفخر، منشدين أهازيج النصر، على توقيع حوافر خيولهم المتساقطة كالمطارق على حصباء الوادي. أشرفوا على الجبة وقد طلع القمر من وراء فم الميزاب، فظهرت تلك الصخور الباسقة متشامخة مع نفوس القوم نحو العلا، وبانت غابة الأرز بين تلك البطاح، كأنها وسام مجد أثيل علقته الأجيال الغابرة على صدر لبنان. ظلوا سائرين، وأشعة القمر تتلمع على أسلحتهم، والكهوف البعيدة تتقلد تهاليلهم، حتى إذا ما بلغوا جبهة العقبة أوقفهم صهيل فرس واقف بين الصخور الرمادية، كأنه قُدَّ منها. فاقتربوا إليه مستطلعين، وإذا بجثة هامدة مرتمية على أديم التراب المجبول بنجيع الدماء. فصرخ زعيم القوم قائلاً أروني سيف الرجل فأعرف صاحبه.

فترجل بعض الفرسان وأحاطوا بالمصروع مستفسرين. وبعد هنيهة التفت أحدهم نحو الزعيم، وقال بصوت أجش لقد عانقت أصابعه الباردة قبضة السيف بشدة فمن العار أن أنزعه. وقال آخر: لقد لبس السيف غمداً من الدماء، فاختفى فولاذه. وقال آخر: لقد تجمدت الدماء على الكف والقبضة، وأوثقت الشفرة بالزند فصيرتهما عضواً واحداً. فترجل الزعيم، واقترب من القتيل قائلاً: أسندوا رأسه ودعوا أشعة القمر أن ترينا وجهه. ففعلوا مسرعين، وبان وجه المصروع من وراء نقاب الموت، ظاهرة عليه ملامح البطش والبأس والتجلد، وجه فارس قوي يتكلم بلا نطق عن شدة رجوليته، وجه متأسف فرح، وجه من لقي العدو عابساً، وقابل الموت باسماً، وجه بطل لبناني حضر موقعة ذلك النهار ورأى طلائع الاستظهار، ولكنه لم يبق لينشد مع رفاقه أهازيج النصر. ولما أزاحوا كوفيته، ومسحوا غبار المعمعة عن وجهه المصفر، ذعر الزعيم وصرخ متوجعاً: هذا ابن الصعبي فيا للخسارة. . .! فردد القوم هذا الاسم متأوهين، ثم جمدوا في أماكنهم، كأن قلوبهم السكرى بخمرة النصر قد فاجأها الصحو، فرأت أن خسارة هذا البطل هي أجسم من مجد التغلب وعز الانتصار. ومثل تماثيل قد أوقفهم هول المشهد وأيبس ألسنتهم فسكتوا، وهذا كل ما يفعله الموت في نفوس الأبطال، فالبكاء والنحيب حري بالنساء، والصراخ والعويل خليق

بالأطفال، ولا يجمل برجال السيف غير السكوت هيبة ووقاراً - ذلك السكوت الذي يقبض على القلوب القوية مثلما تقبض مخالب النسر على عنق الفريسة، ذلك السكوت الذي يرتفع عن الدموع فيزيد بترفعه البلية هولاً وقساوة، ذلك السكوت الذي يهبط بالنفوس الكبيرة من قمم الجبال إلى أعماق اللجة. ذلك السكوت الذي يعلن مجيء العاصفة، وأن لم تجيء كان هو نفسه أشد فعلاً منها. خلعوا أثواب الفتى المصروع ليروا أين وضع الموت يده، فبانت كلوم الأشفار في صدره، كأنها أفواه مزبدة تتكلم في هدوء ذلك الليل عن همم الرجال. فاقترب الزعيم وجثا مستفحصاً، فوجد دون سواه منديلاً مطرزاً بخيوط الذهب، مربوطاً حول زنده، فتأمله سراً، وعرف اليد التي غزلت حريره، والأصابع التي حاكت خيوطه، فستره بالأثواب وتراجع قليلاً إلى الوراء حاجباً وجهه المنقبض بيده المرتعشة. تلك اليد التي كانت تزيح بعزمها رؤوس الأعداء قد ضعفت وارتجفت وصارت تمسح الدموع لأنها لامست حواشي منديل عقدت أطرافه أصابع محبوبة حول زند فتى جاء ليشهد يوم كريهة مدفوعاً ببسالته فصرع وسوف يرجع إليها محمولاً على أكف رفاقه. وبينما نفس زعيم القوم تتراوح بين مظالم الموت وخفايا الحب، قال احد الواقفين: تعالوا نحفر له قبراً تحت تلك السنديانة، فتشرب أصولها من دمه وتتغذى فروعها من بقاياه، فتزيد قوةً وتصير خالدة وتكون له رمزاً فتمثل لهذه الطلول بطشه وبأسه.

فقال آخر: لنحملنه إلى غابة الأرز ونقبره بقرب الكنيسة فتظل عظامه محفورة بظل الصليب إلى آخر الدهر. وقال آخر: اقبروه ههنا حيث جبل التراب بدمائه واتركوا سيفه في يمينه واغرسوا رمحه بجانبه وانحروا حصانه على قبره ودعوا أسلحته تؤنسه في هذه الوحدة وقال آخر: لا تلحدوا سيفاً مضرجاً بدم الأعداء ولا تنحروا مهراً يخوض المنايا ولا تتركوا في الوعر سلاحاً تعود هز الأكف وعزم السواعد، بل احملوها إلى ذويه لأنها خير ميراث. وقال آخر: تعالوا نجثو حوله مصلين صلاة الناصري، فتغفر له السماء وتبارك انتصارنا. وقال آخر: لترفعه على الأكتاف جاعلين له نعشاً من الرماح والتروس، فنطوف به في هذا الوادي ناشدين أهازيج النصر، فيشاهد أشلاء الأعداء وتبتسم شفاه جراحه قبل أن يخرسها تراب القبر. وقال آخر: تعالوا نعليه سرج جواده ونسنده بجماجم القتلى، ونقلده رمحه وندخله الأحياء ظافراً، فهو لم يستسلم إلى المنية إلا بعد أن حملها من أرواح الأعداء حملاً ثقيلاً. وقال آخر: تعالوا نودعه لحف هذا الجبل فيكون له صدى الكهوف نديماً وخرير السواقي مؤنساً، فترتاح عظامه في برية يكون فيها وطئ أقدام الليالي خفيف الوقع. وقال آخر: لا تغادروه ههنا، ففي البرية وحشة مملة ووحدة قاسية،

بل تعالوا ننقله إلى جبانة القرية، فيكون له من أرواح جدودنا رفاقاً يناجونه في سكينة الليل ويقصون عليه أخبار حروبهم وأحاديث أمجادهم. فتقدم الزعيم إذ ذاك إلى وسط رجاله وأسكتهم بإشارة ثم قال متنهداً: لا تزعجوه بذكرى الحروب ولا تعيدوا على مسامع روحه الحائمة فوق رؤوسنا أخبار السيوف والرماح، بل هلموا نحمله ببطء وهدوء إلى مسقط رأسه، ففي ذلك الحي نفس ساهرة تترقب قدومه، نفس حبيبة تنتظر رجوعه من بين الأسنة، فلنعيده إليها كيلا تحرم نظرة من وجهه وقبلة من جبينه. حملوه على المناكب، مطأطئي الرؤوس خاشعي العيون، ومشوا ببطء محزن يتبعهم فرسه الكئيب يجر مقوده على الأرض ويصهل من وقت إلى آخر فتجيبه الكهوف بصداها، كأن للكهوف أفئدة تشعر مع البهيم بشدة الضيم والأسى. بين أضلع ذلك الوادي حيث أشعة القمر تسترق خطواتها، سار موكب النصر وراء موكب الموت، وقد مشى أمامهما طيف الحب جاراً أجنحته المكسورة. - باريس 4 (أيار) مايو 1910 جبران خليل جبران جبران خليل جبران كاتب اشتهرت كتاباته في أمريكا وامتاز برقة الشعور وسمو الخيال ثم سافر إلى باريس لإتقان فن التصوير. فأصبح يصور بالكلام أو بالألوان ما يجيش في خاطره أجمل تصوير. وقد أرسل إلينا هذه المقالة اللطيفة من فرنسا بعد أن انقطع مدة عن الكتابة.

القطران الشقيقان

القطران الشقيقان في 8 مايو المنصرم أقام نادي المدارس العليا حفلة شائقة حضرها فريق كبير من وجهاء القطرين المصري والسوري ونجباء التلامذة إكراماً لحضرة جورج أفندي أبيض وهو أول ممثل شرقي تلقى أصول التمثيل على أساتذة الفن في باريس وذلك على نفقة حضرة الجناب العالي الخديوي (راجع الجزء الثاني ص 65 من هذه المجلة) فافتتح الحفلة عزتلو القانوني الشهير أحمد لطفي بك بكلمات طيبة. وألقى المحتفل به مقاطيع عديدة نالت استحساناً كبيراً، وقد دعي إلى الكلام صاحب الزهور فقال ما يأتي: هذي يدي عن بني قومي تصافحكم ... فصافحوها تصافح نفسها العرب يا كرام السادة. هذا البيت لشاعر الشرق الكبير هو خير ما يستهل به الكلام في مثل هذا النادي الزاهر، ساعة أراه يضم في هذه المساء نخبة أدباء البلدين، وعلية قوم القطرين الشقيقين. وكلمات الإخاء والسلام هي خير كلمات تردد في ساحة تجمع فيها رجال العلوم وأبطالا لآداب والفنون فتحية وألف سلام يا أعضاء هذا النادي الأعلام، وتحية وألف سلام يا أبناء النيل الكرام. سلام تردده ربوع الشام من شواطئ البحر إلى أعالي لبنان، فيتراجع صدى هذه التحية، في كل صدر خفقت بين ضلوعه نفس حرة أبية عربية. تحية طالما جاش بها الفؤاد، وتحركت بها الشفاه، حتى لم يقو الصدر على كتمانها في هذا المساء فانبعثت منه طاهرة خالصة من كل تكلف

وتصنع، لأن مصدرها القلب وإلى القلب مصيرها. فخذوها منا غليكم أيها الإخوان ومهرها الصدق، وصداقها الإخلاص. وأحلوها منكم محل الإكرام، فانتم الأحرار في بلادكم، الكرماء لضيوفكم. * * * ما أجمل اجتماعنا في هذا المساء، وما أبهى هذا اللقاء للاحتفال بفن من أجمل الفنون، ولتكريم أول شاب شرقي كرس نفسه لخدمة التمثيل. . . كان الفرسان في القرون المتوسطة، قبل النزول إلى ميادين القتال، يختارون عراباً لهم بطلاً من مشاهير الأبطال. وأنا أرى رمزاً وإشارة إلى ذلك في زيارة ابن الأبيض لهذا النادي الزاهر، نادي الشبيبة الراقية المتهذبة. أتى يزوركم وهو على تمام الثقة بأنه سيجد في كل منكم عراباً له في المهمة التي وقف لها نفسه. وهل كان بوسعه أن يجد من يقوم بهذه المهمة أحسن من نادي المدارس العليا وقد رفع فوق هذا النادي علم العلم خفاقاً يهدي كل شاب صراط العلم والاجتهاد، في خدمة البلاد؟ أجل يا سادة. جميل هو اجتماعنا في هذا المساء، وقد زانته الشبيبة، وصاغت عقد نظامه. فما أجمل الشباب وقد بعث في صدوركم الغيرة على كل مشروع مفيد جليل. صدق والله حكيم اليونان إذ قال: أمة بلا شبيبة كسنة بلا ربيع فحياكم الله يا ربيع الأمة الزاهر، وبهاءها الناضر. فلأنتم خير إكليل تزدان به جبهة مصر الفتاة، وتفاخر به الغير إذا ما الغير فاخر بالشوكة والثروة وبعد الجاه. * * *

ما هو الشعر

فهيا يا أخوتي الشبان نتضافر ونتآزر في خدمة كل مشروع جليل نافع. علينا خدمة الآداب والمعارف، فتحيا البلاد وتنهض. علينا تنشيط العلوم والفنون، فنعيد إلى الشرق العزيز بهاءه المفقود. وننشر في ربوعنا لواء السلام والوئام، وما أبهى السلام والوئام. . . . مني السلام على ناد سما وزها ... بما حوى من شباب العلم والعمل لا زال تخدمه الأيام مقبلة ... فيخدم العلم والدنيا بلا ملل ما هو الشعر الشعر شعور النفس، وأغنية الحس، وأنشودة الضمير، ولسان الوجدان، وترجمان الجنان، وصورة العواطف الحساسة الرقيقة في كل إنسان بل وحيوان. فهديل الهزار، وتغريد الكنار، وسجع الحمام، وصدح اليمام، وزمزمة العندليب، وزقزقة العصفور، وشدو الشحرور، وزقاء الديك، وبغام الربرب، ورنين الجؤذر، وحنين الغزل، وازرام الجمال، وهمهمة الخيل، وثغاء الأغنام، ورغاء الأنعام، بل وفحيح الهوام، بل ونقيق ربات الغدير، ونواء السنانير، وثرثرة الصراصير، أو (منشدة القصائد في أيام الحصائد) بل وتصدية كل ذي روح، كلها أنواع من الشعر على أوزان طبيعية خاصة وإن درج على خلاف هذه الحقيقة أسرى التقليد في كل عصر ومصر. (بيروت) محيي الدين الخياط

في جنائن الغرب

في جنائن الغرب نعرب تباعاً تحت هذا العنوان خير ما يؤخذ عن آداب الغربيين قديماً وحديثاً لما في ذلك من الفوائد الجليلة التي لا تخفى على أحد. الفارس أرسلت إلينا هذه القطعة الجميلة لننشرها في هذا الباب سيدة فاضلة غربية. والفارس عنوان قصيدة نظمها في مديح الأمير تاج الفخر الشاعر البولوني الشهير آد ميكيه ويكس وهو كاتب حماسي أحبه مواطنوه حباً أشبه العبادة ودفنوه بعد موته في قبور ملوكهم. وقد دافع عن وطنه بولونيا مدافعة الأبطال إلى أن نفاه الروس فذهب بعد أسفار كثيرة إلى فرنسا ودرّس في كليتها الكبرى ولما قامت روسيا تهدد تركيا سنة 1854 سافر إلى الأستانة وتبعه من بولونيا ألوف من المتطوعين للدفاع عن السلطنة العثمانية. وفي السنة التي بعدها أصيب بالكوليرا وتوفي في الأستانة. ولم ينس العثمانيون صديقهم فإن جمعية الاتحاد والترقي لما احتفلت بتذكار حرب القريم في 17 أغسطس (آب) الأخير، وضعت على البيت الذي توفي فيه هذا الشاعر صفيحة من البرونز، ونقشت عليها تحت اسمه هذه العبارة صديق العثمانيين وكان هذا الوطني الكبير أثناء وجوده في باريس قد أصدر جريدة بعنوان منبر الشعوب ما لبثت أن احتجبت. وقد عاود أشياعه اليوم إصدارها في الأستانة وجاءنا البريد الأخير بأول عدد منها. . . وإليك قصيدة فارس التي أشرنا إليها: ما أسعد الفارس العربي عندما ينطلق من أعلى صخرة منحدراً إلى الصحراء، على جواد تنغرس قوائمه في الرمال بصوت أصم. ويسبح في ذاك البحر اليابس شاقاً أمواجه الجامدة بصدره الدلفيني.

شدة جريه تزداد بسرعة عظيمة، حتى أنه بعد هنيهة يكاد لا يمس سطح الرمال، ثم يزداد سرعة فيحتجب في دجى النقع. . . فرسي أدهم بلون الغمامة، وفي غرته نجم يسطع كالفجر الباسم. والرياح تتلاعب بعرفه الشبيه بريش النعام. والبرق يومض من تحت قوائمه المحجلة. طر يا حبيبي المحجل تنحي يا غابات، ويا جبال أفسحي مجالاً. .! النخل الأخضر يعرض علي عبثاً ظله وثمره، فإني أعرض عنه نافراً، فيهرب مني خجلاً، ويتوارى في الواحة، فيخيل إلي أنه بحفيف أوراقه يضحك من جرأتي. الصخور الواقفة على حدود الصحراء تحول نحوي وجهاً عبوساً كالحاً، وتردد صدى عدوي كأنها تهددني قائلة: إلى أين يجري هذا الأحمق، فهنالك لا ملجأ لفرسه من سهام الشمس في ظل نخلة خضراء الشعر، ولا تحت خيمة بيضاء الصدر، هنالك لا خيمة إلا القبة الزرقاء، ولا يرقد تحتها إلا الصخور، ولا يرى فيها سوى النجوم. على أني لم أزل أجد في الجري. ثم نظرت ثانية إلى الصخور، فرأيتها تهرب وتختبئ خجلاً. بيد أن عقاباً سمع تهديدها وتوهم أنه سيأسرني في الصحراء، فانقض من السماء على أثري، وحام فوقي ثلاثاً مكللاً رأسي بإكليل أسود، وهو يصيح ويصوت: غني أشم رائحة جثة. إلى أين تجري أيها الفارس الأحمق وأيها الفرس المجنون. هل يبحث الفارس هنا هن طريق؟ وهل

يطلب الفرس هنا مرعى له؟ هنا لا طريق إلا للرياح، ولا مرعى إلا للثعابين. هنا لا مرقد إلا للجثث ولا مسلك إلا للعقبان وكان العقاب يصوت ويهددني بمخالبه اللامعة. فتراشقنا بالنظرات ثلاث مرات. فلم يستول علي الرعب. بل استولى الرعب على العقاب. وأنا لم أزل أجد في الجري. وعندما التفت ثانية إلى العقاب، وجدته على بعد شاسع، كأنه نقطة سوداء، معلقة في كبد القبة الزرقاء، بحجم العصفور، فالفراشة، فالبعوضة، ثم اختفى في زرقة السماء. طر يا حبيبي المحجل القوائم، تنحي يا صخور، ويا عقبان أفسحي مجالاً. . .! على أن غمامة سمعت تهديد العقاب، فنشرت أجنحتها البيضاء على وجه السماء الزرقاء، وجدت في أثري: تريد الغمامة أن تكون فارساً جريئاً في الفضاء، كما أنا فارس جريء فوق الغبراء. . . ثم وقفت فوق رأسي، وصفرت تهديدها مع زمهرير الريح: إلى أين يجري هذا الأحمق؟ هناك الحرارة تذيب صدره. ولا غمامة تغسل رأسه من الرمل المحرق الذي يعلوه، ولا جدول ماء يدعوه إليه بخريره الفضي. ولا قطرة واحدة تصل إليه من قطرات الندى، لأن الرياح الجافة تتشربها قبل الوصول إليه. على أن تهديد الغمامة ذهب أدراج الريح، وأنا لم أزل أجد في السير، وهي ترتجف في السماء واهنة القوى، فحنت رأسها، واتكأت على صخرة، ولما التفت إليها ثانية كان بيننا بعد شاسع وقرأت على وجهها ما يدور في

صدرها. فاحمرت حنقاً، ثم اصفرت كمداً، ثم اسودت حتى أصبحت كالجنة، وألحدت وراء الصخور. طر يا حبيبي المحجل، تنحي يا عقبان، وأفسحي مجالاً يا عمائم. .! وبعد ذلك سرحت الطرف في كل أنحاء الأفق كأنني الشمس، فلم أر حولي أحداً. فالطبيعة هنا رافدة لم يوقظها الإنسان قط من سباتها، والعناصر مستكنة حولي أشبه بحيوانات جزيرة دخلها الإنسان لأول مرة فلا تخاف منظره. . . يا الله! أنا لست وحدي هنا. .! أرى هناك جماعة عند منفرج الرمال. أمسافرون هم. أم لصوص يترصدون المسافرين؟ ما أشد بياض هؤلاء الفرسان. وما أروع بياض مطاياهم. .! أسرعت نحوهم فلم يتحركوا، وناديتهم فلم يجيبوا. يا الله! إن هم إلا جثث. هذه قافلة كنست الريح الرمل عنها فتبدت هياكل عربان على عظام جمال. وكان الرمل يتساقط من ثقوب كانت عيوناً في هذه الأجسام وكأني به يتهددني هامساً: إلى أين يجري هذا الأحمق؟ فما قليل تلاقيه العواصف. ولكني مازلت أجد في السير. . . تنحي يا جثث الموتى، ويا زوابع أفسحي لي مجالاً. .! وكانت زوبعة من أشد الزوابع التي تهز الأصقاع الأفريقية تتمشى منفردة على أوقيانس الرمال. فرأتني عن بعد، فدهشت ووقف. والتفت على نفسها قائلة:

هذا أي ريح من أخواتي الصغيرات هو؟ يتجرأ بشكله الحقير وطيرانه البطيء على الدخول في الصحراء مملكتي؟ قالت وزأرت هاجمة علي كأنها هرم متحرك. ولما عرفت أني لست إلا إنساناً وأنني لا أرجع عن عزمي، تلظت غيظاً، وضرب الأرض بقوائمها، فاهتز لها نصف بلاد العرب. وفبضت علي قبضة العقاب على العصفور، ولطمتني بأجنحتها العاصفة، وأحرقتني بنفسها الملتهب، وقذفتني في الهواء، وضربت بي الأرض. فانتصبت ووثبت عليها وعاركتها وفككت عقد عجاجها ومزقتها، وعضضتها فطحنت بأسناني قطع جسمها الرملي. حاولت الزوبعة الإفلات من يدي فلم تتمكن وتقطعت إرباً. وسقط رأسها مطراً رملياً وتمددت جثتها العظيمة على قدمي كأنها سور مدينة. فتنفست حينذاك، ورفعت عيني إلى النجوم ونظرت إليها بإعجاب. فنظرت إلي النجوم بأعينها الذهبية، لأنها لم تر غيري في الصحراء. . . آه ما أعذب التنفس هنا بملء الرئتين. كل هواء بلاد العرب يكاد لا يملأ صدري. آه ما ألطف تسريح النظر هنا على قدر مد البصر، فإن عيني تنفتحان وتريان حتى ما وراء الأفق. . .! آه ما ألطف بسط الذراعين هنا بحرية على قدر طولهما. وكأني قادرٌ على ضم الدنيا بأسرها بين ذراعي من المشرق إلى المغرب. .! فكري ينطلق كالسهم، ولا يزال يحلق في العلو حتى يغوص في لجة السماوات. وكما أن النحلة تدفن حياتها مع حمتها حين تغرسها، هكذا أنا مع فكري أغرس نفسي في السماوات. - آدم ميكيه ديكس

بين عرش ونعش

بين عرش ونعش نزل إدوارد السابع ملك إنكلترا وإمبراطور الهند من العرش إلى النعش، وأدرج في الأكفان، بعد ما جر ذيول الأرجوان، وغيب في ظلمة القبر بعد ما طلع في صدر الإيوان. وخلفه ولده وولي عهده جورج الخامس في حكم الملايين من الناس، بعد أن طاف الممالك والأمصار مثل أبيه، ودرس أميال الشعوب ليعرف كيف تساس، وإذا كان حكم مدام دي جنليس الكاتبة الفرنسوية القائلة: إن الأمراء هم أسوأ تربية من كل الناس بمعنى أن تربيتهم تبعدهم عن معرفة حقائق هذه الحياة - وإذا كان حكمها صحيحاً في أكثر الأمراء فهو لا يصح في إدوار ملك الأمس ولا في جورج ملك اليوم، فلقد عرف كلاهما حقائق هذه الدنيا قبل أن قبض على زمام الأحكام. . . وقد أفاضت الصحف في الكلام عن السلف والخلف، وعرف القراء كل ما تهم معرفته عن العاهل الراحل والملك الجديد. فاكتفينا بتلخيص فصل من كتاب ألفه إدوارد السابع وترجم إلى الفرنسوية، عنوانه تأملات في الموت والأبدية وإليك ما قاله الملك - الكاتب المتوفى عن الموت: الخوف من الموت لو أتيح لنا نحن البشر أن نرى منذ مهدنا كل الحوادث وصنوف العذاب التي تنتظرنا، لكان خوفنا من الحياة أشد من خوفنا من مغادرة الحياة. كثيراً ما شبهوا هذه الحياة برحلة نبدأها غير مخيرين، وننهيها مضطرين، فتركض إلى الأمام بسرعة وقلق. ونسير في فجر الصبح المكفهر خارجين من ظلام الليل إلى ظلام آخر. وهذا عمل الله من البداية إلى النهاية.

ما هو الموت؟ هو الانطفاء كالنور، هو نسيان المرء نفسه وكل حوادث ماضيه كما ينسى الأشباح التي يراها في حلم خاطف، هو إبرام علائق جديدة بالعالم الرباني، هو الدخول في منطقة أعلى، هو خطوة نحو ارتقاء الخليقة لا يقدر عليها الإنسان. فلماذا نخاف من الموت وما هو الانتقال إلى حالة أحسن. لماذا، عندما نفكر بانحلالنا، نزيد حباً بالحياة أية كانت؟ ليس خوفنا من الموت بل من تصورنا للموت. فأبعد هذه التصورات عن فكرك، وانظر إلى الموت كما هو، يقل هول الموت في عينيك. لا قيمة للحياة إلا إذا استعملناها لإصلاح نفوسنا، وتزيين عقولنا بأشرف الصفات، ونشر السعادة حوالينا. وعندما نعجز عن ذلك لتقدمنا في العمر فنفقد كل أمل بالتقدم في هذه الطريق، تكون الحياة قد فقدت قيمتها الكبرى. تستولي علي قشعريرة باردة عند التفكير في الموت وكأن كل عرق فيّ يحاول مقاتلة الانحلال والانفصال. ومع كل ذلك لابد من الموت. لماذا جئت هذا العالم؟ ولماذا لا أرى الموت كما أرى الحياة، وأنا قد منحت كليهما على غير إرادة مني! ما عساني أن أكون بعدما أجد من شكلي الإنساني وأقطع من البشرية؟ أن هذا الريب أو الشك في ما سوف ينتظرنا هو الذي يملأنا رعباً. والظلام الذي يغشي المستقبل هو الذي يفرحنا بالنور الآن. نقدر ما في يدنا حق قدره فنخاف أن نتركه تلقاء شيء لا نعرفه.

ولو كان الخالق قد مكننا في هذه الحياة من معرفة الحياة الأخرى لما عاد الموت حاجزاً ولكان من ينتظرون ساعتهم الأخيرة نفراً قليلاً. فهذا الرعب هو أشد رابطة تربطنا بهذه الحياة. فالجبان الذي تهوله المصائب لا يردعه عن التخلص من حياته إلا ذاك الشك المخيف. لماذا أبكي؟ ولماذا تنوحون على من فقدتم؟ هل نحزن على الموتى لأنهم تركوا من يحبون، وغادروا حياة طالما تنعموا بها؟ ما أقل نفع هذا الحزن وذاك البكاء. .! هل نبكي كل مساء أعزاءنا لأنهم يرقدون؟ هل نرثي أنفسنا ساعة النوم؟ وأي فرق بين الموت والنوم؟ نعم إن من ينام يبقى له أمل باليقظة بقوة مجددة عند شروق الشمس. ولكن هذا الأمل - ولو بعيد الأجل - يبقى أيضاً لمن يموت. وعند يقظته يشاهد أحبابه وأعزاءه، وبعد قليل يشاهدكم أنتم أيضاً. لأن أطول حياة هي كلا شيء: سل الشيخ الهرم ابن السبعين فيقول لك: مرت حياتي كسبعين دقيقة في الحلم فعلام نبكي إذن؟ وهذا الريب نفسه لا يخيف إلا بقدر ما تكون الحياة الأخرى بعيدة، ويزول تماماً ساعة الدنو منها. ساعة الموت تظهر لنا الحياة قاتمة تافهة، ويشرق علينا المستقبل تنيره أشعة الأبدية. فالإنسان عند موته يصفي حسابه مع العالم ويلقي بركته على أحباب قلبه، ثم يعرض عن كل شيء وينضم إلى نفسه ليقطع الحد الفاصل بينه وبين الحياة السعيدة: لم يبق في الماضي ما يؤنسه، وأصبح في المستقبل كل ما يستميله. إدوارد السابع

في رياض الشعر

في رياض الشعر بين شعراء مصر والشام نشرنا في العدد الماضي (ص 107) قصيدتين لشاعرين من سورية جواباً على قصيدة عبد الحليم أفندي المصري التي شكا فيها من كساد الشعر في مصر وسأل زملاءه في الشام عن حالتهم. (راجع قصيدته ص 59) وننشر اليوم قصيدتين ثانيتين وردتا على المجلة من سورية بهذا المعنى. وتسرنا هذه المراسلة الأدبية بين كتاب القطرين فنحن إنما أنشأنا هذه المجلة لتكون رابطة أدبية بين الأقطار العربية. 1 - يا شعراء النيل يا دهر من أغراك بي للحرام ... ما مهجتي مرمى لكل السهام إن كان ذنب العاشقين الهوى ... يا دولة الحب عليك السلام قد كان لي قلب به صبوة ... ومقلة ترعى نجوم الظلام قد كان - والعهد قريب بنا ... مذ جزت بالعشرين عفت الغرام أصبحت لا أشتاق وادي النقا ... ولا أجاري نائحات الحمام أمسيت لا أبكي بسقط اللوى ... ولا أناجي فيه بدر التمام لأنصف الدهر بأحكامه ... لو كان للدهر وفاء الذمام ولا رعوى عن غيه تائباً ... لو ينكأ الدهر قراع الملام * * *

يا شعراء النيل لا تجزعوا ... قد صافحتكم شعراء الشام لكم بهم في قومهم أسوة ... ما أغنياء الشام ري الأوام لا يبصر الشاعر دينارهم ... عيناً ولا طيفاً له في المنام يدعوهم الفضل فلا مسمع ... هم في القصور الساهرون النيام ما في قصور اليوم من نخوة ... قد كانت النخوة بين الخيام!! لهفي على قوم كرام مضوا ... قد أنصفوا بالفضل قوماً كرام يكاد لو نادى بهم آمل ... في الترب يحيي نخرات العظام كلام أخل الشعر في عهدهم ... جواهر واليوم أمسى كلام لا مصر ترضيهم ولا مصرنا ... ما أطيب السكنى ببردي لتام لا كنت لي يا موطني مسكناً ... إن كان فيك الحر خلقاً يضام * * * إن كان هذا الحظ لا ينجلي ... ما أضيق العيش وأشقى المقام - (لبنان) ف. نصار 2 - حالتنا عبد الحليم! عليك ألف سلام ... مني ومن شعراء بر الشام عبد الحليم! لقد أثرت عزائماً ... في النفس قد سئمت من الإقدام أبرزت من سجر القريض فرائداً ... طربت لهن جوانب الأهرام ناديتنا متسائلاً مستفهماً ... عن حالة الشعراء والأقلام * * *

فعلام يا ابن النيل تنب حالة ... أنتم بها من أسعد الأنام؟؟ أتبيت في أرض النضار وتشتكي ... من غمرة البأساء والآلام؟ أتبيت في ربع الأمام وتختشي ... من نائبات الدهر والأيام؟ * * * هلا ركبت البحر نحو ربوعنا ... فترى لأهل العلم قلباً دامي هلا أتيت إلى الشام فتلتقي ... بحر التعصب والغباوة طامي عجل تجد روح التحاسد عابثاً ... بمبادئ الحكام في الأحكام فإذا الأديب أراد نشر معايب ... طويت عن الأفكار والأفهام يترصدون له الوقيعة والأذى ... ويسددون عليه سهم ملام وترى الصحافي الجريء مهدداً ... بالضيم من حكامه الظلام يبغي التقدم للبلاد فينثني ... عن عزمه لمفاسد الأقوام تلقى يراع الحر معتقلاً فلا ... يحيا بغير المدح والإكرام إن خط آيات الحقائق مرة ... قامت عليه قيامة الحكام فكأنه طير الحمام إذا شدا ... يلقى من القناص كأس حمام!! * * * فإليك - يا عبد الحليم - مثالنا ... صورته ليلاً ودمعي هامي فلئن تكن مصر تضيق بكم على ... رحب الديار فكيف أرض الشام؟؟ - (بيروت) حليم إبراهيم دموس

شكوى المنفي (قالها ناظمها حين نفي إلى سيواس وتخلى عنه أصحابه) حيي ربوعها قطر ... يا وطناً هو مصر ما لي إليك سبيل ... هذا خلاء وبحر غر الأعادي انكساري ... والانكسار يغر وسرهم طول نفيي ... ومثل نفيي يسر هم يحسبوني أقضي ... عنهم وما لي ذكر هيهات بعدي رجال ... والفجر يتلوه فجر عين بكت قبل هذا ... وسوف يبسم ثغر ارتجعي يا أماني ... بالوصل قد طال هجر إنا عهدناك أوفى ... عهداً إذا خان دهر فبينما أنت زهر ... إذا بك اليوم غير فليس يرفع جد ... وليس يخفض هذر * * * مرت عذاب الليالي ... وكل عذب يمر التزم الصبر كرهاً ... وليس للحر صبر وأسلك الحلم نفسي ... ومسلك الحلم وعر لبيك يا مجد قومي ... لبي نداءك حر دافعت دون فروق ... قوماً رحلت وقروا

سادوا بها فلكل ... نهي عليها وأمر ما كنت اغلب لولا ... قوم ثبت وفروا ضاق المجال عليهم ... ضيقاً ولم يغن كر وفي العيون ازورار ... وفي الجوانح ذعر فبت تلقاء ليث ... كأنما هو قصر له شباة وظفر ... ولي شباة وظفر يعدو إلي فأعدو ... إليه زأر فزأر فربع في البيد ذئب ... وريع في الجو نسر وظلت الحرب بيني ... وبينه تستمر فاضطر للصلح رغماً ... ومن بغى يضطر واغتالني بعد غدراً ... وشيعة النذل غدر لا يقصدوني بعذر ... فما على الجبن عذر بين وبين الأعادي ... يوم إذا طال عمر حتام أخفض قدري ... وما تعالاه قدر أن أمس فيه أسيراً ... قد يعتري الحر أسر * * * رضيت سيواس داراً ... وما بسيواس شر جنوا عليها فأمست ... قد أقفرت فهي قفر فلا بها الروض خصب ... ولا بها الزهر نضر

اندست مطرباتي ... وأصبحت وهي دثر فليس لي ثم نظم ... وليس لي ثم نثر وكم بمصر أديب ... يشدو فترقص مصر لهفي على سانحات ... كأنما هي سحر يقولها قائلوها ... فيعتري الناس سكر ولي الدين يكن مقابلة الذم والاغتياب لسعادة إسماعيل باشا صبري بذرت شؤماً ولؤماً ... فاحصد أناة حليم روث اللسان سماد ... في روض كل كريم * * * ولحضرة السيد مصطفى لطفي المنفلوطي في هذا الموضوع إذا ما سفيه نالني منه نائل ... من الذم لم يحرج بموقفه صدري أعود إلى نفسي فإن كان صادقاً ... عتبت على نفسي وأصلحت من أمري وإلا فما ذنبي إلى الناس إن طغى ... هوها فما ترضى بخير ولا بشر

أفكار وآراء

أفكار وآراء - الإصابة ليست دائماً في جانب الإجماع. فالكثرة ليست حجة قاطعة، أو هي وحدها برهان القوة الوحشية، والحقيقة ما كانت أدنى إلى الواقع. - الفلسفة - وإن كان لا يزال لها بعض المعنى اليوم - فإنها ستصبح مبتذلة في مستقبل الأيام فالمستقبل اليوم للعلم. وللعلم العملي وحده فقط - علوم الكلام التي ترمي إلى تفسير ما لا يفسر، وتأويل ما لا يؤول، قد أضلت عقولاً كثيرة، وغلت عن العمل أيدياً كثيرة، فلم تنفع الاجتماع

بشيء، بل أضرته إذ أضلته وأصبحت عالة عليه - نحن علمنا الإنسان أن يكذب، لأننا عاقبناه على الصدق. وإن يسرق لأننا حجبنا عنه ما يحتاج إليه. - لا شيء أقدر على تعريف الإنسان واجباته للقيام بها مثل معرفته المنافع المترتبة له عليها. فباحترام الحقوق تعرف الواجبات. - يجب صرف قوى الإنسان عن تلك المباحث الرثة المضيقة للعقل، المضللة له، من فلسفة نظرية، وتواريخ كنسج العناكب، وعلوم عالية ككفة الميزان الفارغة، وأقاصيص كقماقم عفاريت ألف ليلة وليلة. - لا يستوي المرء إلا إذا طمست يد العلم ما خطته يد الجهل، ولم يعد له أثر في المدارس بل صارت المدارس للفنون والصناعات والعلوم الصحيحة والطبيعية فقط. - لست أخشى تخطئة الناس لي إذا كنت أعرفن مصيباً، ولا يسرني تصويبهم إذا كنت أعرفني مخطئاً. - إن العرش الذي يتبوأه الملوك قائم على قاعدة هي الأمة، فإذا خلت الأمة من تحتهم، هوى بهم ذلك العرش كجلمود صخر حطه السيل من عل. - الثقة بالنفس غير الاعتداد بها: فالثقة خمير عن روية، والاعتداد فطير عن استسلام. - إن العالم الطبيعي، والحاسب الرياضي، والعالم الميكانيكي، أقصر كلاماً، وأفصح بياناً، وأبسط أسلوباً، وأثبت حجة وأصدق من الأديب

اللغوي، والعالم اللاهوتي، والفيلسوف المنطقي، وسائر علماء الجدل الكلاميين لأنه ألف البرهان الطبيعي الرياضي الذي لا يقبل المغالطة والتمويه. - الإنسان ابن التربية وهو فيها ابن هواجسه قبل أن يكون ابن علمه. - أنت تظن أنك تحكم لنفسك والحقيقة أنك غالباً تنطق عن أحكام سواك. - الشرقي اليوم فضلة في الاجتماع لا عمدة، بل هو شريك سلبي لاقتسام المنفعة، لا إيجابي للعمل بها. بل هو يقتسمها مرغماً في ورودها إليه من الخارج، ويقوم في سبيلها معارضاً من الداخل. - اللغات تحيا بحياة الأمم، وحياة الأمم غنما تكون بعلومها وصناعاتها، وحياة العلوم والصناعات بالعلماء والصناع منها، فإذا خلت امة منهم، ذهب استقلالها وكان القضاء عليها أمراً محتوماً. - كن شديد التسامح مع من يخالفك في رأيك، فإن لم يكن رأيه كل الصواب، فلا تكن أنت كل الخطأ بتشبثك. وأقل ما في إطلاق حرية الفكر والقول تربية الطبع على الشجاعة والصدق. وبئس الناس إذا قسروا على الجبن والكذب. - الناس حتى اليوم يكرهون البساطة في كل شيء سواء كتبوا أو تكلموا أو عملوا، ويدخلون الخيال الغريب لا في مباحثهم العلمية والأدبية والدينية فقط، بل في سائر أمورهم الاجتماعية. حتى التافهة جداً أيضاً. فإن تصوروا ملكاً أو حكماً أرادوهم بكل مظاهر الأبهة ولو ظهروا فيها بمظاهر المساخر، كأنه لا يصح أن يكونوا ببساطة أزياء العالم. . . .

في حدائق العرب

في حدائق العرب ليلى العفيفة والبرّاق هي ليلى لكيز بن مرة بن أسد من ربيعة بن زار نشأت في حجر أبيها وبرعت بفضلها وكانت تامة الحسن كثيرة الأدب وافرة العقل شاع ذكرها عند العرب حتى خطبها كثيرون من سراتهم. وكانت ليلى تكره أن تخرج من قومها وتود لو أن أباها زوجها بالبراق بن روحان ابن عمها. إلا أنها لم تعص أمر أبيها وصانت نفسها تعففاً فلقبت بالعفيفة. وكان والدها يتردد على عمرو بن ذي صهبان ابن أحد ملوك اليمن فيجزل عطيته، ويحسن إكرامه، فخطب منه ليلى وجهز إليه بالهدايا السنية، فأنف أن يرد طلبته، وأمل أن يكون الملك فرجاً لشدائد قومه، وحصناً في جوارهم، وذخيرة في عظائم أمورهم، فصعب الأمر على البراق لما بلغه الخبر، وأتى إلى أبيه وإخوته وأمرهم بالرحيل فارتحلوا. وثارت في أثناء ذلك حرب ضروس بين بني ربيعة قوم البراق وقبائل قضاعة وطي. فاتسع الخرق ودارت الدوائر على بني ربيعة. هذا والبراق معتزل عنهم برجاله لرغبة عمه عنه بابنته ليلى. فاجتمع إليه كليب بن ربيعة وإخوته يستنجدونه فقالوا له: يا أبا النصر قد طم الخطب ولا قرار لنا عليه. وأنشده كليب: إليك أتينا مستجيرين للنصر ... فشمر وبادر للقتال أبا النصر وما الناس إلا تابعون لواحد ... إذا كان فيه آلة المجد والفخر

فناد تجبك الصدي من آل وائل ... وليس لكم يا آل وائل من عذر فأجابه البراق متهكماً: وهل أنا إلا واحد من ربيعة ... أعز إذا عزوا وفخرهم فخري سأمنحكم مني الذي تعرفونه ... أشمر عن ساقي وأعلوا على مهري وأدعو بني عمي جميعاً وإخوتي ... إلى موطن الهيجاء أو مرتع الكر ثم ردهم خائبين وبلغ الأعداء امتناع البراق من القيام بقومه، فأرسلوا إليه يعدونه بما شاء من الكرامة والسيادة فيهم إن آزرهم على قتال ربيعة. فأخذت البراق الغيرة لذلك، وزال ما كان في قلبه من الحقد والضغينة على قومه وأجاب بني طي: لعمري لست أترك آل قومي ... وأرحل عن فنائي أو أسير بهم ذلي إذا ما كنت فيهم ... على رغم العدى شرف خطير أأنزل بينهم إن كان يسر ... وأرحل إن ألمَّ بهم عسير ألم تسمع أسنتهم لها في ... تراقيكم وأضلعكم صرير. . . وأمر رجاله بالركوب فركبوا وامتطى هو مهرته شبوب وكسر قناته وأعطى كل واحد من إخوته كعباً منها وقال لهم: حثوا أفراسكم، وقلدوا نجبائكم قلائد الجزع في الاستنصار لقومكم. فامتثلوا رأيه وتفرقوا في أحياء ربيعة. واستصرخوا قبائلهم، فجزعت ربيعة لجزع البراق، وأخذت أهبتها للحرب وتواردت قبائلها من كل فج وعقدوا له الرئاسة في قومه. ثم ساروا إلى ديار قضاعة وطي فأغاروا عليهم

وانطبقت عليهم الفرسان البراق من كل جانب فبرّحوا بهم القتل وانهزم الباقون، ثم عاد القوم إلى القتال وطالت الحرب بينهم، تارة لقوم البراق وأخرى عليهم، إلى أن أظفره الله بأعدائه وامتلأت أيديه من الغنائم وانقادت له قبائل العرب. وكان قد فك أسرى قومه، واسترجع الظعائن وكانت من جملتهن ليلى، واصطلحت القبائل بعد ذلك وأقروا للبراق بالفضل والشرف الرفيع. أما عمرو بن ذي صهبان خطيب ليلى فإنه أرسل إلى ليكز والدها يستنجزه وعده في أمر ابنته. فلم ير بداً من إجابة دعواه. إلا أن ابناً لكسرى ملك العجم حال دون مرامه فأرسل فرساناً سبوها في طريقها وحملوها إلى فارس مرغمة. فبقيت هناك أسيرة لا ترضى بزواج. ولما ضيق عليها العجم وضربوها لتقنع بمراد ملكهم استصرخت بالبراق وبأخوتها في قصيدتها المشهورة. فلما بلغ بني ربيعة استنجاد فتاتهم استفزتهم الحمية وخنقتهم العبرة. فحشد البراق الفرسان وسار إلى بلاد العجم. ولم يزل يكد ويسعى حيناً بالقتال وآخر بالحيلة حتى خلص ليلى من يد مغتصبيها، وأعادها إلى ديار بني ربيعة. فأثنى عليه قومه ثناء جميلاً وتزوج بليلى وتولى رئاسة قومه زماناً فأعطى وكسا وقرى وصارت ربيعة بحسن تدبيره أوسع العرب خيراً لما حازوه من الغنائم وكانت وفاته قبل الإسلام بقرن ونصف تقريباً.

ثمرات المطابع

ثمرات المطابع فلسفة النشوء والارتقاء قال بعضهم يوماً للدكتور شميل: إنك لمصيبة على الناس، لمغايرتهم في أفكارهم. فأجابه الدكتور: إذا جازت الشكوى فمن منا أولى بالشفقة، أنتم الذين مصيبتكم بي واحدة، أم أنا الذي مصيبته بكم متعددة!. هذه النكتة التي رواها الدكتور في مقدمة الطبعة الثانية من كتابه فلسفة النشوء والارتقاء - وهو الجزء الأول من مجموعته التي هي قيد الطبع - تصور أحسن تصوير موقف الدكتور شميل تجاه البشرية. . . ويعرف ذلك أتم معرفة من جالسه وباحثه فسمعه يتذمر ويتأفف من حالة المجتمع الإنساني وخرافاته وسخافاته، شأن الذين لم يفهمهم معاصروهم. . . صاحب كتاب فلسفة النشوء والارتقاء أشهر من نار على علم، قضى ثلاثين سنة ونيفاً وهو يحارب ويقاتل بقلمه - لأنه لم يكتب إلا ليشن الغارة على ما يراه من الأوهام في أبناء جنسه - وهو من هذا القبيل أجرأ كاتب عرفناه في الشرق، وأمثاله في الغرب ليسوا بالعدد الكثير. يبحث وينقب ويستقري، مستنيراً بنور العقل والطبيعة، ولا يخشى في إعلان نتيجة بحثه واستقرائه ولو كان فيها ما يغضب ويؤلم ويخالف معتقد عموم الناس - وهي كثيراً ما تكون من هذا القبيل. وكفى برهاناً على ذلك

أنه قام ينشر في الشرق مذهب دارون وشرح بختر عليه يوم كان أنصار هذا المذهب في أوروبا نفسها لا يتجاوزون عدد الأصابع. ولذلك قامت القيامة على هذا الكاتب الجديد الذي كان يريد أن ينقض كل ما بناه أسلافه. ولكن كل ذلك لم يثبط منه العزائم ولم تزده المعاكسات إلا رسوخاً في آرائه حتى ألفها الناس منه ولو لم يوافقوا عليها. وتعودوا سماعها الآن من طبيبهم وفيلسوفهم الشيخ بعد أن استكبروها من الشاب منذ ثلاثين سنة. والثبات على المبدأ - أياً كان - والتفاني في سبيله لمما يدعو إلى الإعجاب بصاحبه. ولو كان الدكتور شميل مؤمناً، لكان من أحر المبشرين وأعظم الشهداء. لأنه من الفئة المهاجمة في هذه الدنيا لا الفئة المدافعة. ولذلك هو الآن مبشر حار، ومؤمن متعصب بعدم الإيمان. وإن شئت، قل هو متعصب في كفره كما أن غيره متعصب في إيمانه. وقد يكون كلا المتعصبين سواء. هو يقول عن نفسه أنه تقلب على مقالب التردد في الأديان من اليقين إلى الشك فالنفي ولكن هذا التردد لم تطل مدته عنده. بل طار به سريعاً إلى النتيجة الأخيرة وهي النفي ووقف عندها منكراً نافياً داعياً الجميع إلى مثل نفيه وإنكاره. وتكاد تجد في ما كتبه منذ ربع قرن ما لا يزال ينسج عليه اليوم. ولم يحاول قط أن يلبس يده الحديدية قفازاً من المخمل، ولم يعمد أبداً إلى الطرق اللينة. بل إنه يجرح بقلمه معتقدات العقل، كما يجرح بمشرطه دمامل الجسم، ولكن دون استعمال بنج أو مخدر. وهو يقر بذلك إذ يقول (ص 24): رأيت أن أخوض غمار

البحث غير حافل بالمصاعب التي ستعترضني في هذا السبيل، وأن انخعه بتلك الصراحة الجازرة، منكباً عن خطة الذين يرون أن الحكمة إنما هي المصاداة، لعلي أزحزح الأفكار عن مألوفها، لعلمي أن تحريك الأفكار لا يكون غالباً إلا بمثل هذه المصادرة العنيفة. . . وهذه هي طريقته الإصلاحية. ولم نر في كتابه الضخم ذكراً للشفقة والرحمة إلا مرة واحدة حيث قال: لماذا كل هذا الغضب على هذا الإنسان الضعيف الذي أقل احتياج من احتياجاته كافٍ لأن يدفعه إلى ارتكاب الجريمة لأن الاحتياج مؤلم، فالجوع فضاح، والحاجة قاتلة وعليه فأقصد هذا الطبيب الاجتماعي إذا كنت مصاباً بدمل أو كنت ذا عضو معتل، فهو يبتره لك بلا شفقة. وإذا كنت ذا جرح يحتاج إلى بلسم أو مسكن، فإياك والدكتور شميل. فأقل ما هناك أن يكويه بالنار أو بحجر جهنم. وإذا كان هو يؤلمك فلأنه متألم منك ومن نظامك الاجتماعي في حاضرك وماضيك. اسمع ما يقوله عن الماضي (ص 6): إني لا أتمنى لك تمدناً كتمدن عصر سقراط، ولا تمدن باني الأهرام، ولا تمدن الرومان، حتى ولا تمدن عصر العباسيين، ولا تمدن الأمم النصرانية بعد خروج الإسلام من الأندلس وقبل الثورة الفرنسوية. وإلا فأكون قد تمنيت لك أن تكون عبداً ذليلاً لا تملك أدنى حرية لا في القول ولا في الفكر ولا في العمل وليس هذا كل مبلغ غضبه على النظام الاجتماعي في الماضي بل إنه يتمنى لو

أحرقت كل منقولات التاريخ وما فيه من التلفيق والكذب (ص 10). أما غضبه على النظام الاجتماعي الحالي فتكاد تقراه في كل صفحة من المقدمة والخاتمة. ونكتفي بإيراد شاهد واحد على ذلك وهو قوله: صارت علوم اللغة مماحكات لا طائل تحتها، لا كلاماً وضع للتعبير عن الفكر والشعر إغراباً لا إبداعاً في وصف الحقائق. وعلوم الفقه سخافات يتنزل العقل فيها إلى حد التبذل. والطب شعوذة لاستنزال الأسرار وتحويل الأقدار وعلوم القوانين لاهوتاً ثانياً لا يفهم. وعلم المحاماة مخرقة وتفنناً في المشاغبات لا دليلاً مرشداً إلى الحق رادعاً للباطل إلخ. . . وعلى هذه المبادئ النخرة شاد الإنسان بنيان نظاماته الاجتماعية المتقلقلة. وبعد أن هدم هذا البنيان أخذ يرشد إلى كيفية تشييد بنيان اجتماعي جديد. فجعل الأساس العلوم الطبيعية. فبها يصح نظر الإنسان في لغاته، وينتظم قياسه في دليله، وتقوى فلسفته بارتباطها، وتعلوا آدابه لانطباقها على العمل، وتصلح شرائعه. . . ويتسع عقله إلخ. . . ويرى أن هذه العلوم هي المخل الذي يستكفل بقلب ما بني من النظامات المتقلقلة والشرائع الخائفة. أما العلوم الكلامية فالعداوة بينه وبينها شديدة وهو يبشرها بالانقراض القريب متى ترقى النظام الاجتماعي حسب السنة الطبيعية. وإذا استعملنا مع الدكتور شميل تشبيهاً طيباً، فلا نكون قد خرجنا عن الموضوع: يستخرج الأطباء المصل الشافي والواقي من الأمراض، بان يلقحوا بمركوب الوباء حيواناً ما. فيتركب في دمه حالاً مادة مقاومة

لسريان الداء بموجب نواميس الطبيعة. ويزيدون كمية التلقيح يوماً فيوماً، حتى تبلغ مقداراً كان يقتل ذلك الحيوان لو لقح به دفعة واحدة. وبزيادة كمية المادة الوبائية، تزداد كمية المادة المقاومة. ومن هذه الأخيرة يؤخذ المصل الذي يستعمل للتطعيم. . . قل ذلك عن مذهب الدكتور شميل ولا تكون بعدت كثيراً عن الحقيقة. أو إن شئت فاحكم عليه كما يحكم هو نفسه على العلماء وقل معه: إن للعلماء أحلاماً كالعوام، والعقل خزانة كثيرة الأدراج. هذا ما يسمح المجال ببسطه عن فلسفة الدكتور المتطرفة. ولو أردنا التفصيل لما كفى الكتاب العريض الطويل. أما عبارة الشميل فهي آية في الإيجاز مع أداء المطلوب. وقلما قرأنا كاتباً عربياً جاراه في هذا الأسلوب. * * * معنى الحياة - وكثيرنا يجهل معنى الحياة الحقيقي ولربما كان هذا الجهل سبب ما تراه في مفاوز هذه الدنيا من الرزايا والحطوب، والتعاسة والشقاء، والخصام والتنافر، والضغائن والأحقاد، ومتى فهمنا هذه الحياة بمعناها الصحيح يسود السلام في العالم، وتعم المحبة بني الشر، ويذوق الإنسان منتهى السعادة الممكنة. طالع كتاب لورد افبري يتضح لك ذلك تماماً. وترى أن واضع هذا الكتاب من الفلاسفة الذين لم يضيعوا في عالم الأوهام ولا في بهرجة الكلام. ونحن في أشد الحاجة إلى مثل هؤلاء

المفكرين الذين ينشرون المبادئ الصحيحة ولذلك يسرنا أن نصوغ أجمل كلمات الثناء على حضرة الشاب الذكي النجيب وديع أفندي البستاني الذي خدم بلاده أحسن خدمة بتعريب هذا السفر النفيس وسبكه في عبارة عربية بليغة سلسة. كما أنه يسرنا أن نرى الإقبال الذي صادفه هذا الكتاب فقد كادت تنفد طبعته الأولى قبل مرور العام عليها. وعن قريب سيطبع ثانية. وقد قررت مدارس المرسلين الأمريكان تدريس معنى الحياة في مدارسها. * * * نفحات الوردتين - أو مجموع الفصول الشائقة والمقالات اللطيفة التي دبجها يراع الأديبتين المرحومتين أنيسة وعفيفة كريمتي حضرة اللغوي الشهير الشيخ سعيد الشرتوني. يفوح من هذه المجموعة أريح طيب نشرته هاتان الوردتان قبل أن يذبلهما نفس الموت السام. وخليق بنسائنا وفتياتنا أن يطالعن هذه المجموعة النفيسة حتى يعرفن الدرجة التي تبلغ إليها الفتاة الشرقية. متى ترتب تربية حقيقة وصرفت أوقات فراغها بالدرس والمطالعة بدلاً من قتل وقتها وقواها العقلية بالأمور التافهة. فنثني على حضرة الأديب ميخائيل أفندي الشرتوني الذي حفظ هذه الفصول الجميلة من الضياع بنشرها بالطبع. ونسأل للأديبتين الراحلتين رحمة واسعة ولحضرة والدهما المفضال عزاء وسلواناً.

أزهار وأشواك

أزهار وأشواك الحمد لله. . . .! الحمد لله! زال الخطر، وانقشعت غياهب الهلع، وتنفس سكان الأرض تنفس المتعوب بعد الفرج. وعاد الناس إلى مألوف أعمالهم على سطح الكرة الأرضية بعد أن وقفت حركتهم في انتظار ذك القادم المجهول. وإذا لم يكن بد من الكلام بصراحة فأقول إنني لم أكلف نفسي كتابة حرف واحد حتى ولا التفكير في موضوع حديثي الشهري مع القراء. بقيت هكذا - بلا خوف ولا وجل، ولكن بلا نشاط في العمل - حتى مر علينا المذنب مر الكرام فلم يلحق بنا ضرراً. . . هل اشمأز مما لاقاه في أرضنا فلم يشأن أن يلامسنا؟ أم هو أخذته عوامل الوجد فقبل الأرض خلسة تحت جنح الدجى وهرب غير آمل أن يفوز منها بالوصال؟ لا أدري والذي أدري أنه حمل حقيبته، ولف ذنبه وغادرنا لسفر بعيد. . . ولما أمنا وقفنا نودعه على الأفق هازئين ساخرين مرددين قول الشاعر العربي: وخوفوا الناس من دهياء مظلمة ... إذا بدا الكوكب الغربي ذو الذنب تخرصاً وأحاديثاً ملفقةً ... ليست بنبع إذا عدت ولا غرب حادثة صغيرة قبل ختام قصة المذنب: منذ أسبوع أيقظني عند الفجر صراخ في بيت جاري. وسمعت الجدال الآتي بين الزوجين: - أين قضيت ليلتك؟ عد من حيث أتيت.

- أؤكد لك يا عزيزة أنني كنت أرقب مذنب هالي ويظهر أن الزوجة لم ترض بهذا العذر لتغيب زوجها فصفعته صفعة على خده، أرته النجوم. . . والمذنبات في رائعة النهار. . . التمثيل والكتاب بدت في هذه المدة طوالع نهضة مباركة في التمثيل العربي وكثر البحث في الروايات التمثيلية والممثلين وإنشاء مدرسة وطنية لتعليم هذا الفن الجميل. ولكنني لا أرى سبيلاً إلى ترقية هذا الفن إلا إذا نزل الكتاب والأدباء إلى ميدانه لينهضوا به ويعلوا مناره. ولذلك أقترح أن تؤلف رواية كبيرة تمثل في الأوبرا الخديوية وتوزع أدوارها كما يأتي: دور الملك إسماعيل باشا صبري. ودور ابن الملك لأحمد بك شوقي. وحافظ إبراهيم ونقولا رزق الله يمثلان قائدي الجيش. والدكتور شميل يمثل دور الفوضوي عدو المملكة ويعاونه في مساعيه الشيخ يوسف الخازن. ويقوم صاحب الزهور بدور من نوع دور روميو بلا إنشاد. ويكون خليل مطران والشيخ أمين الحداد النديمين. وحافظ عوض وداود بركان رسولين. ويمثل ولي الدين بك يكن دور الأسير ويقوم إمام العبد بدور الطيف أو الشبح المخيف. وتعهد أدوار النساء إلى صاحبة فتاة الشرق وصاحبة أنيس الجليس وصاحبة الجنس اللطيف والباحثة في البادية. وتختم هذه الرواية بفضل مضحك أو فروتو يقدمه سليم سركيس وإلياس فياض ويكون من تأليفهما. ويتلو الدكتور شدودي منولوج فتاة العصر ويترأس صاحب الإكسبرس الموسيقى الوترية. . . أنا لست غنياً ولكن إذا

عزم الأدباء المذكورون على إحياء هذه الليلة فإني أدفع نصف راتبي الشهري لمشترى تذكرة دخول ولو في أعلى التياترو وأتولى توزيع الإعلانات على إدارات الصحف وأصفق للممثلين مجاناً. الحجاج والبكالوريا عشرات ن التلامذة الذين تقدموا هذه السنة لامتحان البكالوريا في مصر سيسقطون والذنب في ذلك على الحجاج ولو كان - حفظه الله - عرف ماذا سيصيب فريقاً من شباب القرن العشرين بسببه لدعا على لسانه بالقطع أو على الأقل لمنع كتّاب ديوانه من تدوين خطابه لأهل العراق لئلا يطلب من طلبة البكالوريا أن يفكوا رموزه للحصول على الشهادة. وإليك أيها القارئ ما طلب تفسيره من التلامذة: ما يقعقع لي بالشنان ويغمز جانبي كتغماز التين، ولقد فررت عن ذكاء، وفتشت عن تجربة. . . والله لأحزمنكم حزم السلمة، ولأضربنكم ضرب غرائب الإبل. . . فإذا سهل عليك أن تفهم هذه الأحاجي فيحق لك أن تلوم من قصر في ذلك. اما انا فلا أخجل من إعلان جهلي ولو سقطت في كل بكالوريات العالم وأتعزى في فشلي بترديد ما قاله صفي الدين الحلي: إنما لحيزبون والدردبيس ... والطخا والنقاخ والعلطبيس والسبنتي والحفص والهيق ... والهجرش والطرقسان والعسطوس لغة تنفر المسامع منها ... حين تروى وتشمئز النفوس وقبيح أن يسلك النافر الوح ... شي منها ويترك المأنوس

فكاهة

إن خير الألفاظ ما طرب السا ... مع منه وطاب فيه الجليس ولذيذ الألفاظ مغناطيس حاصد فكاهة روت الصحف الأمريكية تلغرافاً تلقته جريدة الورلد النيويوركية، ومفاده أن رجلاً عربياً مر بمحطة برلنغام في السادس من الشهر الفائت، وكانت ساحة المحطة غاصة بالعربات والسيارات وكلها بانتظار قدوم القطار إلى ذلك القسم الجميل من المدينة حيث يسكن الأشراف وكبار المتمولين. فإذا بذلك العربي - وقد انقبضت سحنته وامتقع لونه - أخذ يتكلم بحدة شديدة ويردد كلمات لم يفهمها أحد من الذين تجمهروا حواليه. وحاول بعضهم أن يستفسره عن سبب تأثره واستيائه. فأشار العربي بيده إلى واجهة بناية المحطة. فظن القوم أن الرسوم العربية المنقوشة على الواجهة قد أثارت فيه عواطف الذكر وحب الوطن، فأحدثت هذا التهيج الظاهر على محياه. ولم تعرف الحقيقة حتى وصل أحد الطلبة في مدرسة اللغات الشرقية وعرض نفسه للترجمة. فسمع العربي يتلو الشتائم واللعانات الموجهة إلى إدارة السكة الحديدية وخطوطها وعرباتها ومأموريها وأصحابها وهو محدق بنظره إلى واجهة البناية كأنه يقرأ عليها ما يقول. فأنعم الترجمان النظر في الرسوم، فأدرك سر تهيج العربي، وقال للمتجمهرين: إن ناقش هذا الزخرف العربي قد نحت في الحجر سلسلة شتائم لشركة السكة الحديدية.

كيف نقضي العمر

ويقول هذا العربي أنه لا يعرف في لغته كلاماً أفظع وأسفه من الكلام المنقوش على هذه البناية. فدهش القوم لذلك واستغربوا الأمر وقصدوا مهندس الشركة يطلبون الوقوف على سر هذا الخبر. فلما سمع الرواية منهم استلقى على ظهره ضحكاً وقال: الحمد لله فقد وجد أخيراً من يقرأ هذه اللعنات ويفسر معانيها فيشفي غليلي. وليس في نقش ما رأيتم سهو ولا غلط. فإنني أنا فعلت ذلك عمداً مني وبعد إمعان النظر. وكيفية ذلك أنني حين كنت أبني هذه المحطة طلبت من الشركة جوازاً للسفر مجاناً على خطوطها كما تفعل كل شركة مع موظفيها فأبت إجابة طلبي. فتحصلت على أقبح ما جاء في اللغة العربية من الشتائم، ونقشته على الواجهة لعنة ثابتة على كر الأعوام. وهكذا قد أثبت هذه اللعنات منقوشة على اجر مشوي في النار، وحفرت انتقامي من الشركة على حجرٍ أصم بإزميل من فولاذ. . . كيف نقضي العمر قد اتفق لكل منا أن يقف أحياناً في آخر نهاره متسائلاً: كيف قضيت هذه الأربع والعشرين ساعة التي غارت في بحر الزمان. كم أضعت منها سدة. وكم استعملت منها في الأمور العائدة بالنفع علي أو على إخواني بني البشر. هل عشت حقيقة في هذا النهار أم قتلته قتلاً. . .؟ نتطارح وضميرنا هذه الأسئلة فنجد أن هذه الزيارة مثلاً قد ضيعت علينا وقتاً جزيلاً بلا جدوى. أو أن تلك الدعوة إلى وليمة أو إلى محفل

لهو قد أكلت من يومنا شطراً كبيراً. أو أن توعكاً في مزاجنا قد اضطرنا إلى الراحة. وينتهي حسابنا - بعد إسقاط ساعات النوم - بأننا قضينا فقط القليل من الوقت - أو دون القليل - في الجد والأعمال النافعة. فنتحقق قول أحد فلاسفة الرومان: إن في حياتنا ساعات تؤخذ منا، وساعات تسرق منا، وساعات تفلت منا. متوسط حياة الإنسان سبعون سنة. فإذا أسقطنا منها الوقت الذي يقضيه آكلاً شارباً نائماً لابساً نجد أنه لا يبقى له إلا شيء يسير منها. وضع أحد الإحصائيين حساباً مدققاً لمعدل السنين التي يقضيها الإنسان من عمره في لزوميات هذه الحياة فتوصل إلى النتيجة الآتية، باعتبار العمر سبعين سنة: يقضي الإنسان أكثر من ثلث عمره - أربع وعشرين سنة - نائماً لأنه إذا كان لا ينام إلا القليل وهو شيخ فقد كان يرقد الساعات الطوال وهو طفل. وحساب الأوقات التي يقضيها في الأكل والشرب يدل على انه ينفق ست سنوات من عمره آكلاً شارباً. وإذا أنزلت أوقات النزهة والكل إلخ من سني الدراسة يبقى للدرس الحقيقي ثلاث سنوات فقط. وكذلك يقضي ثلاث سنوات أيضاً في الحمام وأمام المرآة وعند المزين ويقضي ثماني سنوات في المنتزهات والملاهي وخمس سنوات في المشي والتنقل. وست ساعات في المطالعة.

حديقة الأخبار

ومجموع الأوقات التي يصرفها في الكلام والحديث ثلاث سنوات. ولكن كم من ثرثارة مهذار يقضي الشطر الأكبر من عمره متكلماً. وإذا أسقطنا كل هذه السنين من عمر الذي يعيش سبعين سنة نجد أنه لا يبقى للشغل والعمل سوى إحدى عشر سنة. قال الشاعر العربي: إذا مر بي يوم ولم استفد يداً ... ولم اكتسب علماً فما ذاك من عمري فما أقصر عمرنا إذن. . .! حديقة الأخبار - منذ أسبوعين عقد المؤتمر الصحافي الدولي الرابع عشر في عرض البحر أمام مدينة تريسته على ظهر الباخرة تاليا. فانتخب للرئاسة مدير جريدة فيينرتا جبلاط ولوكالة الرئاسة مسيو أدريان هبرار مدير جريدة الطان الفرنسوية. - في العاشر من الشهر القادم يعقد عموم الصحافيين السلاف مؤتمراً في مدينة بلغراد عاصمة الصرب لينظروا في حقوق وواجبات الصحافي ويتدالون في الشؤون التي تعود على العنصر السلافي بالنفع. وأي أمتي أبشر قرائي بقرب انعقاد مؤتمر عام لخدمة الصحافة العربية. - الجامعة العثمانية في بيروت جمعية ضمت نخبة من أفراد العناصر المختلفة لتعمل على توحيد المصالح وتأليف القلوب. وقد أصدرت جريدة بعنوان صدى الجامعة العثمانية مديرها المسؤول عبد الكريم

أفندي أبو النصر ويحررها فريق من أعضاء الجمعية. عبارتها متينة وغايتها حميدة. - كانت بلاد ما بين النهرين وما يجاورها مهد النهضة في آداب اللغة العربية فيما غبر من الزمان. وبقي لنا من تلك الأعصر الخوالي ما لا يزال يعد حتى يومنا أكبر ثروة في آداب لغتنا. ولم تبرح مآثر بغداد عن بال عربي. بل كنا نتألم عند تذكار الماضي والمقابلة بينه وبين الحاضر. على أن هاتيك البلاد المجيدة قد بدأت تنهض من سباتها العميق، فقد اتصل بنا أن جماعة من أدبائها قد عزموا على إصدار صحائف أدبية باسم الكرخ والرصافة والدجلة التي طالما تغنى بها شعراء العرب. فنرحب بهذه النشرات سلفاً مؤملين أن تعيد لنا أمجاد الماضي. - أسس جماعة من أدباء العرب في الأستانة نادياً علمياً أدبياً أطلقوا عليه اسم المنتدى الأدبي وغايته كما جاء في قانونه المطبوع تسهيل تعلم اللغات الحية على الطلاب، وصرف وجهتهم إلى المذاكرات العلمية، والمسامرات الأدبية وتوفير معلوماتهم، وتوسيع مداركهم، وحفظ أوقاتهم من الملاهي - كتب اللغة كثرة على أن اقتناءها يصعب على الطلبة والمشتغلين في الكتابة لكبر حجمها أو لغلاء أسعارها. وكان قاموس محيط المحيط الذي وضعه الأستاذ المرحوم بطرس البستاني من أوفى الكتب وأكثرها فائدة حتى نفد تماماً وعليه فقد عزم نجلا البستاني نجيب بم ونسيب بك على إعادة طبع محيط المحيط على طرز القواميس الإفرنجية مع إضافة

من وإلى القراء

حواش وتنقيحات كان المؤلف قد زادها قبل وفاته: هذه خدمة جليلة والحاجة إليها ماسة. - سافر أمين أفندي ريحاني من سورية قاصداً عاصمة الإنكليز لتمثيل روايته مقتل علي بن أبي طالب وقد فرغ من تنسيق مشاهدها وإفراغها بقالب إنكليزي شائق. فأقامت له جريدة البرق البيروتية حفلة أدبية في ملعب زهرة سورية خطب فيها بشارة أفندي الخوري صاحب البرق والشيخ إسكندر العازار وجرجي أفندي عطية صاحب المراقب والشيخ إبراهيم منذر. نتمنى للريحاني سفراً سعيداً وتوفيقاً في نشر آداب العرب في بلاد الغرب ولاشك في أن روايته ستصادف الإقبال الذي صادفته ترجمته لرباعيات أبي العلاء المعري. مخبر من وإلى القراء جاءتنا كتب عديدة من مصر وسورية بين منظوم ومنثور ثناء على الزهور وخطتها وتهنئة لها بوفود الربيع موسمها. فنشكر للأدباء رقة شعورهم ونطلب منهم المعذرة على عدم إثبات كتاباتهم وأبياتهم بهذا الموضوع. وجاءنا بإمضاء زهرة أن لكل الناس يوماً أو أسبوعاً يعيدون فيه ولكن للزهور فصلاً كاملاً هو عيد لها. وكتب إلينا ظريف من البحيرة يقول: خوفاً من أن تتحقق أحلام الفلكيين ويقضي علينا مذنب هالي أسرعت في إرسال قيمة الاشتراك لئلا أطالب بها في الآخرة وجاءنا من السودان شيء بهذا المعنى.

الرجاء من المراسلين الذين يوالون المجلة بأخبارهم الأدبية أن يتكرموا بإرسال كتاباتهم قبل نهاية الشهر بعشرة أيام على الأقل وإلا اضطررنا إلى تأجيلها. طلب منا بعض القراء فتح باب للسؤال والجواب. وهو باب مفتوح من طبيعته. لأننا جعلنا هذه المجلة رابطة بين كتابنا وقرائهم وواسطة للتراسل بين الأدباء، على شرط أن لا يخرج موضوع البحث من موضوع المجلة. لم ترد كتابات عديدة في السباقين النثري والشعري الذين اقترحنا موضوعهما في العدد الأول وسنعلن النتيجة قريباً. حصل فصل الصيف وفيه يسافر عدد كبير من القراء فالأمل أن يرسلوا لنا عنوانهم الجديد لترسل إليهم المجلة. سألنا كثيرون عن كيفية دفع الاشتراك فنفضل إرساله تحويلاً على بوستة مصر. * * * وعدنا بإصدار عدد خصوصي كبير في كل سنة وقد قرب موعد صدوره. ففاوضنا الكتاب الأفاضل الذين يساعدون في تحير هذه المجلة بشأن الموضوع الذي يتناوله هذا الهدد. ففضل السواد الأعظم منهم طرح الأمر على جمهور القراء ليختاروا هم الموضوع الذي يرتاحون إليه زيادةً في الفائدة. وها نحن فاعلون. فالرجاء من أصدقاء الزهور أن يرسلوا إلينا اقتراحاتهم بأقرب وقت لإعداد المعدات اللازمة.

العدد 5

العدد 5 - بتاريخ: 1 - 7 - 1910 النهضة الأدبية في العراق وعدنا عند إنشاء هذه المجلة أن نجعلها رابطة تعارف بين أدباء الأقطار العربية وبينا فائدة ذلك في حينه. فإن الأدباء في مصر والشام يعرفون شيئاً عن بعضهم بعض ولكنهم يكادون يجهلون كل شيء عن زملائهم في العراق وسائر بلاد العرب. ونحن نزف إلى القراء اليوم هذه المقالة الشائقة التي أتحفنا بها أديب من أدباء بغداد الذين يشار إليهم بالبنان وفيها الفوائد الجمة عن النهضة الأدبية في هاتيك الأنحاء. وسيوافينا مراسلونا العديدون في كل بلاد عربية بكل ما تهم معرفته في هذا الشأن: كل من يطالع تاريخ اللغة العربية يتحقق أمراً وهو أن هذه اللغة لم تبلغ أوجها إلا في عصر العباسيين السعيد، ثم أخذت بعد ذلك بالانحطاط والهوي شيئاً فشيئاً عند تقلص ظل هذا الدولة الجليلة حتى أفضت إلى درك ليس وراءه درك. فأخذت حينئذ بالخمود أو الجمود. ثم انتقلت إلى التقهقر. فالعراق كان من أجل البلاد العربية التي نمت فيها اللغة الفصيحة وسارت فيها سيراً حثيثاً. وفي دياره برز أولئك العلماء النوابغ أي الكوفيون والبصريون. وفي هذين المصرين قام أكتب الكتاب وأشعر الشعراء وأبلغ

البلغاء وأخطب الخطباء. أما اليوم فقد تبدلت الأحوال. ولم يبق من هذه البلاد إلا الأسماء دون الرجال. أما الخيام فإنها كخيامهم ... وأرى رجال الحي غير رجاله على أن الضربة التي قضت على العراق لم يكن سببها مقصوراً على انحطاط دولة العباسيين فقط كما يتوهمه أغلب الناس. بل زادها هولاً قتل ذوي العلم وذبحهم ذبحاً عن بكرة أبيهم وذلك بعد انقراض دولة بني العباس بقرن ونصف قرن. وهو ما استأصل كل الاستئصال عروق العلم ومنابته فانقطع حينئذ متصل حبل التعليم والتدريس والأخذ والتلقي والتلقين والتأليف والتصنيف، ثم إفناء الكتب والأسفار بالإحراق والإغراق في أم العراق، على وجه شنيع وهذا كله في النائبة الأخيرة التي نزلت بها على يد تيمورلنك في 10 تموز سنة 1401 للمسيح وتبع بغداد في الرزية، وقاسمها البلية البصرة والحلة وسائر مدن العراق الكبرى المشهورة يومئذ. إن الرزية لا رزية بعدها ... فقدان كل أخٍ كضوء الكوكب فهذه الرزية العظمى التي لم يقع مثلها في سائر البلاد العربية كالديار الشامية والمصرية والغربية وغيرها هي التي أسكتت نامة العلماء والشعراء والكتاب ردحاً من الزمن وإذا لم يسمع فيه صوت عربي فصيح في العراق كله. وساد الجهل في العراق في كل المدة التي ملك فيها بنو تيمور إلى أن انتقلت البلاد إلى أيدي آل عثمان فاستقرت بيدهم سنة 1048م، فأخذ الناس حينئذ يتنفسون الصعداء، مما دهمهم من البرحاء بدون أن يخافوا رقيباً أو جاسوساً.

وفي تلك السنة رجع الآلوسيون إلى وطنهم بغداد قادمين من جزيرة آلوس مسقط رأس عميدهم الأول وموئلهم في المخاوف والمهالك. وكانوا قد انهزموا إليها في مذبحة تيمورلنك. فلما رجعوا عاد ضياء العلم والأدب إلى منبعثه ومصدره وحينئذ أخذ العلماء يتواردون من كل واد وناد متأثرين الألوسيين العلماء العظام. فمنهم من جاء من ناحية الموصل ومنهم من هبط من ديار الشام ومنهم من أقبل من أقطار مصر وغيرهم من غيرها. على أن علم العلماء لم يتعد الجوامع والمساجد والكتاتيب. أما تدوينه في الكتب فإن العادة كانت قد ضعفت في أصحابها ولهذا لا ترى شعراً أو أثراً مذكوراً يرتقي إلى ذلك العهد. وإنما بدأ عهد التأليف ونظم الشعر وقرضه في أيام داود باشا الكبير والوزير الخطير. فإنه كان عالماً جليلاً فضلاً عما كان قد امتاز به من الحنكة والدربة في السياسة إذ كان فيها داهية من الدواهي. فهو إذاً الذي أنهض همة الكتبة والعلماء والشعراء، وأيقظ فيهم ملكة الأدب التي كانت قد خملت فيهم، وهو الذي حث أهل العلم والفضل والأدب على جمع الكتب والمكاتب فعمر لها الخزائن ونظم المدارس وأنشأ المساجد والجوامع إلى غير ذلك من الأعمال العالية التي تذكرنا مآثر هارون الرشيد أو جلائل المأمون. ولد داود باشا الكبير نحو سنة 1188 هجري (1774م) في بلاد الكرج وجاء بغداد وكان مملوكاً نصرانياً عمره 11 سنة جاء به أحد النخاسين إلى بغداد فاشتراه منه مصطفى بك الربيعي. ثم باعه لسليمان باشا والي بغداد فرباه أحسن تربية وعلمه القرآن ودرسه العلوم والفنون المشهورة في

ذلك العصر. ولما بلغ عمره 27 سنة اتخذه وليه أمين خزنته (خزنداراً) ثم مازال يتقدم والنجاح حليفه حتى صار والياً على بغداد في 5 ربيع الثاني سنة 1232 هجري (22 شباط سنة 1817م) وفي سنة 1247 هجري (1831م) أكره على السفر إلى الأستانة فأقام فيها إلى سنة 1260 هجري (1844م) فأرسله في تلك السنة السلطان عبد الحميد ليكون شيخ الحرم فأقام في المدينة يدرس ويعلم إلى أن توفي سنة 1267 هجري (1851م) إلا أنه لم يؤلف كتاباً سمعنا به. ففي عهد ولاية هذا الوزير الكبير اشتهر شعراؤنا الأولون بعد تلك الفترة الأدبية المديدة. واغلب هؤلاء الشعراء غنوا مكارم هذا النابغة نابغة السياسة والعلم وقد نسجوا كلهم على المنوال القديم. فمنهم الملا جواد البصير. ومن قصيدة له في الوزير المذكور: بشرى لمن أشرقت في الكون طلعته ... وأزهرت في رياض الأرض غرته وبلبل البشر والإقبال حين أتى ... غنى وأغنت عن الأقيام نغمته وفي القصيدة 19 بيتاً. . . ومنهم الشيخ محمد ابن الشيخ جعفر وقال: أنار الدهر وابتهج الوجود ... وأقبلت المسرة والسعود وجاء الحق متضحاً فزاغت ... أباطلهم فهم فيها أبيدوا وممن اشتهر بحسن نظمه وتنسيق كلمة صالح التميمي وله أشعار كثيرة وهو الذي أنكر على داود باشا أن يقرظ قصيدة المعلم بطرس كرامة قائلاً أنه لا يجوز له أن يقرظ شعراً تنصر ثم أنشد: عهدناك تعفو عن مسيء تعذرا ... ألا فاعفنا عن رد شعر تنصرا

وهل من مسيحي فصيح نعده ... إذا أينع الشعر الفصيح وأثمرا عداه شبيب والأخص وفاته ... من الرند والقيصوم ما كان أزهرا فأجابه بطرس كرامة بقصيدة رنانة كان لها دوي بعيد في صدور الأدباء والشعر استهلالها: لكل امرئ شان تبارك من برى ... وخص بما قد شاء كلاً من الورى ولو شاء كان الناس امة واحد ... ولم تلق يوماً بينهم قط منكرا فلا يفتخر مرء بعجب يناله ... تلاداً إذا عن طارف المجد قصرا ومن شعراء عراقنا الملا عبد الحميد رحبي زاده. والحاج محمد والسيد حسين ابن السيد سليمان الحلي وعبد الله أفندي البصري والملا حسين بن إبراهيم جاوش، وعلي بن أمين الشخلي، ومحمد يس بيك بن أمين بك الموصلي، والشاعر عبد الحميد، ودرويش محمد مصاحب، والحاج صالح آغا عبد الجليل زاده، والملا خليل أفندي بكتاش زاده، والسيد الملا خميس الموصلي، وحسن بن علي العاملي الفتوني، والملا عبود البصري، ومحمد بن عبد الله الموصلي، ومسعود بن الوزري، والشيخ عثمان بن سند البصري، والسيد عمر بن رمضان الهيتي، والشاعر الشهير عبد الباقي العمري الموصلي، والظاهر أن الوزير داود باشا ألف كتاباً هو شرح كتاب لأن المغربي أحد شعراء بغداد قال فيه يومئذ: شرح تضوع عرفه بنضارة ... يسبي العقول بنسجه الفتان وحوى مؤلفه العلوم مؤسساً ... أوضاعها بمصادر الإتقان فكأنه في وقته: لكماله ... بدر يشاركه بكل سنان

صدر الصدور وقدوة العلماء من ... هو مقصد للوارد اللهفان ومن كواكب تلك الثريا: سالم بك ابن عبدي باشا والي الموصل، والحاج محمد سعيد الجوادي، ومحمد زين الدين الحسني، والشيخ حسن البرزنجي، وباقي أفندي العمري، والسيد راضي القزويني، والسيد عبد الغفار الأخرس، وتعداد هؤلاء الشعراء يطول، إلا أن يرصد لكل شاعر ترجمة أو لكل بيت اشتهر أبناؤه بالعلم والأدب والشعر مقالة فحينئذ يكون قد تم بعض الغرض. وبالجملة يقال إن شعراء العراق أكثر عدداً من شعراء ديار الشام ومصر في هذه الحقبة الأخيرة إلا أنهم لم يشتهروا اشتهار هؤلاء لأسباب منها: 1) قلة وسائط الطبع في العراق لعدم اختلاط أهله بالإفرنج؛ 2) لبعد موقعه عن ديار أهل الجد والسعي؛ 3) لأن روح الاستبداد في هذه العقود الأخيرة كان قد أطفأ جذوة كل همة وحاول إتلاف كل محترف بالأدب أو معان له؛ 4) إن عدم نشر دواوين أولئك الشعراء أو قصائدهم أقعد همة كثيرين عن المجاراة والمسابقة فأضر ذلك بالأدب والأدباء والشعر والشعراء، وهناك غير هذه الأسباب: ومما يلاحظه كل من يريد أن يتتبع آثار النهضة العلمية والأدبية في العراق هو: 1 - أن الشعراء على كثرتهم وتكاثف جمعهم ليس فيهم من يستحق أن يقال عنه أنه نبغ في الشعر للسبب الذي ذكرناه وهوانهم نسجوا على منوال من تقدمهم من شعراء انحطاط الشعر في متوسط عصور الهجرة

بأن انتحلوا أفكارهم وتصاويرهم وأقوالهم، بل ربما قصائدهم بأسرها. ولهذا لم يأتونا بشيء طريف أو ظريف. فلم يمتازوا عنهم بأمر يذكر. اللهم إلا اثنان وهما جميل صدقي أفندي الزهاوي ومعروف أفندي الرصافي. وكلاهما حي وهما من نوابغ الشعراء العصريين في عهدنا هذا بل في مقدمتهم. فإن شعرهما من أحسن ما جاء في وقتنا من أي جهة اعتبرته ومن أي موقف وقفت فيه لتنظر إلى محاسنه. 2 - إن العلماء والأدباء والكتبة الذين يستحقون أن يطلق عليهم مثل هذه الألفاظ يعدون على الأصابع أو قل هم منحصرون في آل الآلوسي والزهاوي والحيدري والسويدي والرحبي. وقلما سمعنا بمؤلفات غير أبناء هذه البيوتات. 3 - إن لا ترى في جميع ما سردناه من الأسماء واحداً من النصارى إن بين الأدباء وإن بين الشعراء. والسبب هو أن النصارى كانوا دائماً قليلين في العراق ولم يزدادوا إلا في نصف القرن الأخير. ولما جاؤوا إلى هذه الأقطار، بعد ذبحهم عن آخرهم في القرن الخامس عشر، كانت غايتهم الأولى البيع والشراء والتجارة وتعلم اللغات الأجنبية كالإيطالية والبرتغالية والإنكليزية والهندية سعياً وراء غايتهم. وأما العربية فلم يتقنوها لعدم احتياجهم إليها في أشغالهم أو في وظائفهم الحكومية بخلاف نصارى ديار الشام ومصر فإن اللغة العربية من اللغات التي يرتزق منها من يتقنها. وأما نصارى هذا العهد فقد جروا على آثارهم من تقدمهم من هجر هذه اللغة الجليلة. وإذا كان عندنا اليوم من ينظم الشعر فهو لا يستحق أن

يتسم بسمة شاعر أو ناظم، أو يتسم باسم شويعر أو شعرور. فإن أصر على أن يتصف بصفة سميناه بناظم بعروز. وأما من جهة الكتابة والتأليف فإن وجد بيننا من يقع عليه هذا الاسم فلا يحق له إلا من باب الإعارة أو الاستعارة. 4 - وأما اليهود فهم غير معذورين في تلم العربية لأنهم كانوا دائماً منتشرين انتشار الجراد في العراق كله وبعدد عديد، ولم يمحقوا إمحاقاً كلياً. ومع ذلك فلا ترى فيهم من يحسن كتابة جملة عربية، بل ولا من يتكلم كلاماً يفهمه غير اليهودي لشناعة لفظهم وسوء استعمال الكلم في محالها وكراهية لهجتهم وقلق نبرتهم. وهذا ما ذكرته إلى هناك هو نظرة عموم لا نظرة استقصاء. ثم إنه لابد لي في الختام من أن أذكر كلمة عن حالة اللغة العربية في يومنا هذا أعني بعد نشر الدستور فأقول: إن لغة جرائدنا (وهي في بغداد تفوت العشر) لغة في منتهى الركاكة ولا ترى فيها واحدة (وهل سمعت كلمة واحدة فاحفظها لأني لا أقول أكثر) تنهج نهج العربية الفصيحة أو تنحوه. ومن اغرب الغرائب أن يقع مثل هذا الأمر في بغداد دار الفصحاء والعلماء ونوابغ الكتاب والشعراء في سابق العهد. فإذا تصفحت إحدى هذه الجرائد وأردت أن تعرف بأي لغة تتكلم، لما اهتديت سبيلاً ولو كنت دعيميص الرمل أو خرّيتاً من الخراريت. لأنك تساءل نفسك وتقول: لعل صاحب المقال تكلم بالتركية أو الكردية أو بالفارسية أو بالهندية أو بالعربية العامية. . . .

أيها الفن

والأصح أنه تكلم بكل هذه اللغات معاً. وأما من جهة اللحن في الإعراب فهذا من مزايا جرائد العراق بأسرها من الموصل إلى البصرة بل ومن مميزاتها الخاصة بها أكثر من غيرها. وأما من جهة الأفكار فهي لا تزال في الطلق والمخاض. فإن شاء الله تولد وتنشأ فصيح أن يقال فيها أحياها الذي أنشأها أو أنشأناها خلقاً آخر، أو الأولى إنا أنشأناهن إنشاء. - بغداد سانسنا (الزهور) نشكر حضرة الأديب الفاضل المتستر تحت هذا الاسم شكراً وافراً ونثني على أده ونرحب بكل ما يتحفنا به عن تلك الربوع التي تجلت فيها لغتنا بأجمل مجاليها. أيها الفن مرفوعة إلى أيها الفن، العظيم بتأثيره، الغريب بأعماله، السامي بجماله وأسراره، أنت شبح من مقدرة المبدع الأزلي في نفوس النوابغ المبدعين، أنت روح الله المرفوفة بين قلوب البشر واللانهاية، أنت فكرة مستيقظة في هذا العالم النائم بحراكه، الجامدة بمسيره. بأصابعك الخفية تتناول العناصر وتكون منها صوراً وأشباحاً وأجساماً وأنغاماً تبقى ببقاء الزمن وتظل جميلة إلى النهاية. . . إن العدم يصير وجوداً عندما يرم أمامك، واللاشيء يصبح شيئاً إذ يلامس أطراف أذيالك، والموت ينقلب بوقوفه لديك. جميع الأصوات

والألوان والخطوط، وجميع العناصر والأرواح والخيالات، وكل ما تحدثه الطبيعة بحراكها والإنسان بكيانه يستسلم إلى مشيئتك ويتكون بكيانك ويتمايل مع أميالك. أنت تلامس الزمن، فيتحجر الزمن، وينقلب تماثيل منتصبة أمام وجه الأبدية. أنت تتنفس في الهواء، فينسكب الهواء خمرة علوية من بين شفاه المغنين وأصابع الموقعين. أنت ترتعش بين دقائق النور، فيسل النور مع الحبر على أوجه الأسفار والكتب. أنت تتناول أشعة الشفق، وألوان قوس قزح، وتبتدع منها صوراً ورسوماً. أنت تطأ بأقدامك الصخور فترتفع الصخور معابد ومساجد وهياكل خالدة بخلود الدين. أما عرشك تظل الأجيال واقفة مستيقظة مترنمة، فما مضى منها يبقى حاضراً بحضورك، وما سيأتي منها يطوف الآن مرفرفاً حول أذيالك. إن مجد الأمم يبقى ما بقيت، ويذهب إن ذهبت، لأنك من حياة الأمم بمقام القلوب من الأجساد: فمصر وآشور وفارس لم يتعالين إلى السماء إلا بقربك وما انحدرن إلى الهاوية إلا لبعادك، وأغريقيا ورومة وبيزنطيا لم يتعانقن النور إلا في ظلالك، وما هجعن بين لحف الظلام إلا لهجرانك - واليوم قد درست الأجيال أمجاد تلك المم وجبروتها لكنها لم تستطع أن تمحو آثار أقدامك عن آثارها، ولم تقدر أن تمزق بقايا النقاب السحري الذي ألقيته على بقاياها، فالسائر على ضفة النيل يرى أشباحك حائمة بين القصور والهياكل، والواقف على الأكروبليس يشاهد شعلات أنفاسك

طائفة فوق الأعمدة والأصنام، والناظر إلى جدران الخرائب في سبارطا وتدمر وبعلبك، يقرأ مطالع الموشحات وأذيال القصائد التي خطتها أناملك. إذا كان التاريخ مرآة العصور فأنت اليد التي جلت وصقلت أديم تلك المرآة، وإن كان العلم سلماً يرفع الإنسان إلى ما وراء الكواكب فأنت العزم الذي يبني ويبقي درجات ذلك السلم. وإن كان الدين شعر الحياة، فأنت الوزن الذي يجعل لذلك الشعر رنة في الصدور، ونغمة في القلوب. أيها الفن الغريب بأسراره، العجيب بخفاياه، القوي برقته، الفاتن بهوله ومهابته، كيف نصفك وبماذا نشبهك، وأنت روح الوصف وعلة التشبيه. هل ندعوك عاطفة؟ وأنت مولد العواطف والإحساس. أم ندعوك قوة؟ وأنت مظهر القوات والعزائم. نحن نرى مجدك بعيون قلوبنا الشاخصة، ونسمع أناشيدك بآذان نفوسنا المصغية. ونثلم أطراف أذيالك بشفاه أرواحنا المرتعشة. ولكننا لا نستطيع أن نخط حرفاً من حروف اسمك حتى تلامس أصابعنا أصابعك، ولا نقدر أن نتكلم عن جمالك إلا إذا غمست ألسنتنا بخمرة جمالك، فأنت بنفسك مظهر لنفسك، ونحن بقوة الحب الذي وضعته في أعماقنا نقترب من محبة القوة التي وضعها الله في أعماقك. اجعلني أيها الفن خادماً من خدامك المتسلطين على الحياة. وصيرني جندياً من جنودك المنتصرين على الدهور، ودع حريتي تستعبد لمشيئتك، والمس نفسي بشعاعك لعلها تقترب من مبدعها ومبدعك. باريس جبران خليل جبران

في جنائن الغرب

في جنائن الغرب سويفت كاتب إنكليزي اشتهر بكتابة رحلات جلفر وبينها وبين أسفار السندباد البحري بعض المشابهة. وقد أودعها حكماً وأبحاثاً عمرانية في قالب فكاهي لذيذ. ويتضمن هذا الكتاب خبر رحلته ليليبت وهي بلاد لا يزيد طول الواحد من سكانها - على ما يزعم - عن إصبعين، وخبر رحلة إلى بلاد بربدنجناج التي يسكنها المردة العظام. وقد نشر هذه الرحلات باللغة العربية حضرة البارع عبد الفتاح صبري بك وكيل المدرسة السعيدية. ونحن نقتطف اليوم شيئاً عن الرحلة الأولىة وما شاهد فيها من صغر السكان: رحلة جلفر إلى ليليبت (بعد نزولي إلى الشاطئ وانتشار خبري في المملكة) حضر سفير عظيم الشأن من بلاط جلالة ملكهم، فتسلق على أكتاف حجابه حتى وصل إلى أخمصي، وأقبل يمشي نحو رأسي فقطع المسافة أكثر من ربع ساعة. . . وألقى خطبة لبث فيها أكثر من عشر دقائق كان في أثنائها يشير إلى جهة بعيدة علمت بعد ذلك أنها عاصمة هاتيك البلاد، وأن الأمر قد قر على نقلي إليها. ويظهر أنهم حالما علموا بوجودي وأنا نائم أوفدوا بريداً إلى جلالة الملك ليبلغه ذلك الحادث الجلل فأصدر أمراً بشد وثاقي وصنع مركبة تحملني إلى العاصمة. (فاشتغل مئات من النجارين بصنع مركبة عظيمة حمل عليها وجرها إلى

العاصمة ألف وخمسمئة جواد ولما وصل إليها طلب منه الملك أن يسمح للمفتشين بتفتيشه). فأطعت أمره وأدخلت رجلين في جيوبي واحداً بعد الآخر فكتبا محضراً بكل الموجودات وهذا نصه. 1 - قطعة قماش كبيرة للغاية تصل لأن تكون بساطاً جميلاً في حجرة الاستقبال الكبرى بالقصر الملكي. 2 - صندوق عظيم من اللجين مغطى بغطاء من نفس هذا المعدن النفيس لم نقدر على حمله فطلبنا من الرجل - الجمل فتحه ونزلنا فيه فوجدناه مملوءاً بأكوام من التراب، هب هباؤها في الهواء عند دخولنا فجعلتنا نعطس عطساً شديداً مؤلماً. 3 - إضبارة هائلة مطوية على بعضها وفي طول ثلاثة رجال كانت مربوطة بجنزير طويل 4 - آلة عظيمة مركب في ظهرها عشرون عموداً بطول الأعمدة القائمة في فناء القصر الملكي يحتمل أن يستعملها في ترجيل شعره. . . 5 - جنزير عظيم من الفضة معلق بإحدى جيوبه وفي نهايته آلة عظيمة، نصفها من الفضة، والنصف الآخر من مادة شفافة ظهر لنا من ورائها رموز غربية، فمددنا يدنا لجسها فحالت دون ذلك تلك المادة. ثم أدنى هذه الآلة من آذاننا فسمعنا دوياً كدوي الساقية أو الطاحون. ولا ندري إذا كانت حيواناً أو آلهاً يعبد، لأنه قال لنا أنه لا يعمل عملاً دون أن ينظر إليها فإنها هي التي تحدد أوقات جميع أعماله.

وقد نشبت حرب أثناء وجوده هناك بين ملك هذه الجزيرة وملك الجزيرة المجاورة فلعب صاحبنا دوراً خطيراً وإليك تفصيل الخبر كما رواه): أخذت منظاري وصوبته نحو الجزيرة فوجدت على شاطئها أسطولاً عظيماً مركباً من خمسين سفينة حربية مدرعة تنتهز هبوب الريح الموافقة حتى ترفع مراسيها وتقلع نحو بلادنا. فاستدعيت مهرة الملاحين وعلمت منهم أن البحر ير يزيد عن ثمانية أقدام في أعمق جهاته فطلبت أن يصنع لي خمسون سلسلة وعدد كبير من قضبان الحديد كي أثنيها وأجعلها صنانير. ولما جاؤوني بما طلبت غصت في البحر وسبحت حتى بلغت الشاطئ الثاني، وشبكت الصنانير في المدرعات بعد أن ربطتها بالسلاسل وقطعت المراسي، وعدت والأسطول خلفي يمخر في العباب سائراً على شكل نصف دائرة كأنه عرض بحري عظيم. وعند عودتي إلى البر وجدت الملك والوزراء وجميع أرباب المقامات في انتظاري على أحر من الجمر وهم يحسبون ألف حساب لدعاء أعدائهم واقتدارهم. ولكن نجم سعدهم وصل إلى السماك عندما برزت من الماء قابضاً على السلاسل. فوثبوا فرحاً وسروراً وقلدني الملك في الحال أكبر وسام. ولكن الملك لم يكفه هذا الفوز المبين الذي لم ترق فيه قطرة دم، ولم تحرك من أجله رجل، ولم ينفق في سبيله درهم، بل طلب مني أن انتهز فرصة أخرى وآتيه ببقية السفن حتى لا يبقى للأعداء حول ولا طول. غير أن مرؤتي أبت أن أؤاتيه على هذا البغي والجور وأن أكون

العامل على استعباده أمة حرة عاشت السنين الطوال تأبى الضيم. فراجعت الملك في الأمر، وأقمت عليه الحجج الدامغة عن ضروب الساسة وعبر التاريخ، حتى إنجاز أغلب الوزراء إلى رأيي عندما طرحت المسألة على المجلس. ولكن الملوك لا يقف في سبيل أطماعهم حق ولا إنصاف، فتراهم يستعملون كلا لوسائط السافلة الدنيئة لبلوغ غاياتهم الجائرة. وينقمون على من يمحض لهم النصح لغير مأرب شخصي أو منفعة ذاتية. ولم يخالف هذا الملك تلك السنة الشنعاء بل أضمر لي الشر والوقيعة وشاركه في ذلك عدد من الوزراء لغير ذنب اقترفته سوى خدماتي الصادقة. وبعد أن انقضت هذه الحوادث بثلاثة أسابيع حضر ستة سفراء من قبل حكومة الأعداء ليقرروا عقد الصلح وشروطه. فساعدتهم بكل ما استطعت من قوة الحجة حتى وفقوا إلى عقد معاهدة غير شائنة ولا جائرة. فخضروا إلى بيتي يوماً في زيارة رسمية ليشكروا حسن صنيعي وأكدوا لي أن ملكهم يمتلئ سروراً وفرحاً إذا زرت بلاده. فوعدتهم أنني سأنتهز أول فرصة للتشرف بالمثول بين يدي مليكهم. على أن ملكنا بات من ذاك الحين يرمقني بعين ملؤها الإغضاء والجفاء، ولم أعرف لهذه المعاملة سبباً إلا أخيراً حيث تبين لي أن بعض الوزراء وشى بي ونقل حديثي مع سفراء الأعداد. فكان أن حنق علي الملك. وصمم على تعذيبي إن لم يقدر على الفتك بي. فشعرت لأول مرة بمبلغ الوشايات والمكايد التي تنجم عن الاحتكاك ببلاط الملوك. تعريب عبد الفتاح صبري سويفت

جرنالوفوبيا وجرنالوفاجيا كتبها الدكتور شميل لما كان صحافياً يصدر الشفاء منذ 25 سنة الأول معناه الخوف من الجرائد والثاني التهامها - وقد نحت لهما بعضهم اسمين عربيين، فسمى الأول الجنفرة من الجرنال والنفور والثاني الجبلعة من البلع أو الجأكلة أيضاً من الأكل. وهما مرضان لم يسبق لأحد وصفهما ومن أعراض الأول أن الواحد إذا ورد له جريدة ملفوفة بادر على الفور إلى ردها وكتب على غلافها مرفوض أو مرضوض لم مرتب وهو مرض حميد. ومن أعراض الثاني أن الواحد يقبل الجريدة إذا لم يردها في آخر سنتها ولكنه يلتهم ثمنها، وهو مرض أشد ضرراً من الأول، وقال بعض المحققين بل المرضان طوران مختلفان لمرض واحد كالخنازيري والسل ولو كره البرفسور بتر. والحق يقال إن الذنب ليس على هؤلاء وحدهم بل على أصحاب الجرائد أيضاً فإنهم هنا خلافاً لأوروبا يطرحون جرائدهم على الناس خوفاً من أنهم لو

في حدائق العرب

حذوا حذو أهل أوروبا ولم يرسلوا الجريدة إلا لمن يطلبها ويدفع ثمنها سلفاً لربما لم يجدوا مشتركاً - فها نحن قد وصفنا الداء فعلى الطبيب الحاذق أن يصف الدواء. شبلي شميل في حدائق العرب حرب البسوس كانت العرب تقول في أمثالها أشأم من البسوس لأن هذه المرأة كانت سبباً في نشوب حرب طاحنة بين القبائل. وتفصيل الخبر أن البسوس هذه نزلت على ابن أختها جساس بن مرة، فكانت جارة له، ومعها ابن لها وناقة خوارة مع فصيلها، واسم الناقة سراب. وقيل أن الناقة لرجل من بني جرم نزل بالبسوس. فخرج كليب (زوج جليلة أخت جساس) يوماً يتعهد الإمبل ومراعيها، فأتاها وتردد فيها. وكانت إبله وإبل جساس مختلطة، فنظر كليب إلى سراب فأنكرها. فقال له جساس وكان معه: هذه ناقة جارنا الجرمي. فقال: لا تعد هذه الناقة إلى هذا الحمى فقال جساس: لا ترعى إبلي مرعى إلا وهذه معها. فقال كليب: لئن عادت، لأضعن سهمي في ضرعها. فقال جساس: لئن وضعت سهمك في ضرعها، لأضعن سنان رمحي في صلبك. . . ثم فترقا.

وقال كليب لامرأته: أترين أن في العرب رجلاً مانعاً مني جاره. .؟ فقالت: لا أعلمه إلا أخي جساساً. . . فحدثها بالحديث. وكان بعد ذلك إذا أراد الخروج إلى الحي منعته وناشدته الله ألا يقطع رحمه، وكانت تنهى أخاها جساساً أن يسرح إبله. وكان كليب ذا زهو شديد لما هو فيه من العز وانقياد القبائل له، حتى بلع من بغيه أنه كان يحمي مواقع السحاب فلا يرعى، وإذا جلس لا يمر أحد بين يديه إجلالاً. ولا توقد نار مع ناره، ولم يكن تغلبي ولا بكري يجير رجلاً أو يحمي حمى إلا بأمره. وكان هو يجير على الدهر فلا تخفر ذمته. ويقول: وحش أرض كذا في جواري فلا يهاج. وكان يحمي الصيد فيقول: صيد ناحية كذا في جواري. . . فلا يصيب أحد منه شيئاً. وكان قد حمى حمىً لا يطأه إنسان ولا بهيمة، فدخل فيه يوماً فطارت قبرة من على بيضها فقال لها من أبيات: لا ترهبي خوفاً ولا تستنكري ... قد ذهب الصياد عنك فابشري خلا لك الجوف فبيضي واصفري ... فأنت جاري من صروف الحذر واتفق أن كليباً بعد خلافه مع جساس خرج إلى الحمى فوجد الحذر القبرة قد وطئتها سراب ناقة البسوس فكسرتها، فغضب وأمر غلامه أن: ارم ضرعها. . . فخرقه بسهم وقتل فصيلها. وولت سراب ولها عجيج حتى بركت بفناء صاحبها. فلما رأت البسوس ما أصاب الناقة، ضربت وجهها وانتزعت خمارها وصاحت: وا ذلاه. .! فقال لها جساس: اسكتي. فلك بناقتك ناقة أعظم منها. فأبت أن

ترضى. ولما كان الليل، أنشأت تقول، وهي تخاطب سعداً أخا جساس، وترفع صوتها لتسمع جساساً: أيا سعد لا تغرر بنفسك واحترز ... فإني في قوم عن الجار أوات ودونك أذوادي إليك فإنني ... محاذرة أن يغدروا ببنياتي لعمرك لو أصبحت في دار منقرٍ ... لما ضيم سعد وهو جار لأبياتي ولكنني أصبحت في دار معشر ... متى يعرف فيها الذئب يعد على شاتي (ومت العرب أبياتها هذه الموثبات). فقال لها جساس: اسكتي. إني سأقتل جملاً أعظم من هذه الناقة. سأقتل علالاً. . . وكان علال فحل إبل كليب. وقد أراد جساس بهذا القول كليب نفسه. ثم أن جساساً مكث يتندس الخبر عن كليب حتى بلغه ذات يوم أنه خرج وليس معه سلاحه فتبعه وصرخ به: يا كليب الرمح وراءك. . .! وكان كليب لا يلتفت وراءه من الكبر فقال: إن كنت صادقاً فأقبل إلي من أمامي. . . ولم يلتفت إليه فطعنه جساس فأرداه. ثم اجتز رأسه. ولما عاد إلى الديار سأله مرة: ما وراءك يا بني؟ قال: طعنت طعنةً لتشغلن شيوخ وائل رقصاً. . . قال: أقتلت كليباً. . .؟ فأجاب: أي وأنصاب وائل أي قتل. . . فقال أبوه: إذن نسلمك بجريرتك، ونريق دمك في صلاح العشيرة، فلا أنا منك ولا أنت مني. فوالله لبئس ما فعلت. فرقت جماعتك، وأطلت حربها.

وكان همام أخو جساس القاتل ينادم في ذلك الوقت المهلهل أخا كليب المقتول ويعاقر معه الخمرة فجاءته جارية تخبره الخبر. فقال له المهلهل: ما قالت لك الجارية. . .؟ وكان بينهما عهد أن لا يكتم أحدهما صاحبه شيئاً. فذكر له ما قالت الجارية فقال المهلهل: اليوم خمر وغداً أمر فشرب همام وهو خائف حذر ولما سكر رفيقه عاد إلى قومه وتأهبوا للقتال. أما المهلهل فإنه رجع إلى الحي فرأى القوم يعقرون خيولهم ويكسرون رماحهم وسيوفهم، فقال: ويحكم ما الذي دهاكم؟ لقد ذهبتم شر مذهب. أتعقرون خيولكم حتى احتجتم إليها، وتكسرون سلاحكم حين افتقرتم إليه؟ ولما أصبح المهلهل غدا إلى أخيه فدفنه وقام على قبره يرثيه (من أبيات): دعوتك يا كليب فلم تجبني ... وكيف يجيبني البلد القفار سقاك الغيث إنك كنت غيثاً ... ويسراً حين يلتمس اليسار خذ العهد الأكيد علي عمري ... بتركي كل ما حوت الديار

وهجري الغانيات وشرب كأس ... ولبسي جبة لا تستعار ولست بخالع درعي وسيفي ... إلى أن يخلع الليل النهار وإلا أن تبيد سراة بكر فلا يبقى لها أبداً أثار ثم جز شعره، وقصر ثوبه، وهجر اللهو، وحرم على نفسه الشراب. وأرسل رهطاً من أشراف قومه وذوي أسنانهم، فأتوا مرة وهو في نادي قومه. فقالوا له: إنكم أتيتم أمراً عظيماً بقتلكم كليباً بناب من الإبل، وقطعتم الرحم وانتهكتم الحرمة بيننا وبينكم: وإنا نعرض عليك خلالاً أربعاً، لك فيها مخرج، ولنا فيها مقنع. إما أن تحيي لنا كليباً، أو تدفع إلينا قاتله جساساً فنقلته به. أو هماماً فإنه كفؤ له، أو تمكنا من نفسك فإن فيك وفاء لدمه. فقال لهم مرة: أما إحيائي كليباً فلست قادراً عليه. وأما دفعي جساساً إليكم، فإنه غلام طعن طعنة على عجل وركب فرسه فلا أدري أي بلاد قصد. وأما همام فإنه أبو عشرة وأخو عشرة وعم عشرة كلهم فرسان قومهم فلن يسلموه بجريرة غيره. أما أنا فما هو إلا أن تجول الخيل جولة فأكون أول قتيل بينها، فلا أتعجل الموت. ولكن لكم عندي خصلتان: أما أحداهما، فهؤلاء أبنائي الباقون فخذوا أيهم شئتم واقتلوه بصاحبكم. وأما الأخرى، فإني أدفع لكم ألف ناقة سود الحدق حمر الوبر فغضب القوم وقالوا: قد أسأت ببذل هؤلاء، وتسومنا اللبن من دم كليب. ونشبت الحرب بينهم ولت أربعين سنة بسبب ناقة

من القفص إلى العش

البسوس. وبقي الحرث بن عباد على الحيادة قائلاً: لا ناقة لي في هذا ولا جمل. فذهبت مثلاً. وكان مقتل كليب سنة 494 للمسيح. من القفص إلى العش في قفصها الجميل، كانت الحمامة الأسيرة تنوح وتحن إلى الحرية. . . ترى أمامها الفضاء فسيحاً، فتحاول الطيران، فتهشم جناحيها اللطيفين على الحواجز الصلبة، فيضيق بها رحب الفضاء. . . تسمع أخواتها صادحات على الأفنان ضحىً وأصيلاً، وهي قضي عليها أن تئن وتنوح بين قضبان الحديد. . . ترى الحدائق الغناء والرياض الخضراء والمياه المتسلسلة والجبال الشاهقة والأودية الظليلة، فتتزايد أشجانها وتتضاعف أحزانها لدى جمال الطبيعة كأنه خلق ليتمتع به سواها. هذه هي حالة المرأة الشرقية في أمسها. * * * يد شفيقة حركها عامل الرحمة، ففتحت باب القفص وأفرجت عن السجينة المسكينة. . . طارت الحمامة إلى الشجرة، فنفضت ريشها وعادت إليها الحياة: غنت لمرأى الزهرة في الوادي، وهدلت مع هدير النهر المتدفق من الجبل. وقد زقزقت لخلاصها العصافير وغردت لنجاتها الطيور. تنشقت الحمامة من هواء الحرية ما شاءت، ثم صفقت بجناحيها

ومخرت في الهواء وحلقت في الفضاء. خاف عليها منقذها من توغلها في العلى، وخشي أن يأخذها الدوار من التحليق في الطيران، فيرمي بها من شاهق مهشمة الجناحين على الحضيض. فتعود عليها هذه الحرية بشر بلية. سبحت الحمامة في الأثير حتى استطلعت خفايا العالمين الأدنى والأعلى، ثم أخذت تنحدر حتى هبطت عشها، فانتعشت بحرارته المنعشة واستكنت به حاضنة فراخها المطلقة. هذه هي حالة المرأة الشرقية في يومها. * * * لو أتيح لهذه الحمامة أن تعبر لنا عن خالج قلبها الخفوق من العواطف بعد إطلاقها من أسرها، لفاق تعبيرها وصف أبلغ الشعراء العالمين بخفايا الصدور الواقفين على نبضات القلوب. أما وقد تم لك ذلك أيها القارئ على لسان فريدة هانم تلك لحمامة الناطقة فاسمع تغريدها وأصغ إلى شجي غنائها بعد أن كسر الدستور قيودها وحل وثاقها: ما ألطف الطيران!. . . وما ألطف التحليق في الفضاء!. . . طيري أيتها الحمامة وحلقي صاعدة في سماء اللانهاية. طيري إلى الأعالي. ففي الأعالي لا يخشى على جناحيك من التهشيم. وفي الأعالي تميزين الأشياء أحسن تمييز. هذه الأبراج العزيزة، الأبراج الرفيعة، الأبراج البيضاء. هذه هي في بلادي.

هذه المنازل والأكواخ، هذه السهول والجبال، هذه البحريات المتموجة الصافية، هذه الألوان الناصعة الزاهية، هذا الضياء الساطع، هذا النور اللامع، هذه أنت يا بلادي. فما أجملك وما أبهاك!. . . ولكن، حذراً أيتها الحمامة من الهلاك أفلت من قفصك. فانزلي على مهل في عشك. أنا وجدت عشي هو العائلة. فما سوف أكون فيه؟ سأكون ملكه فأنظم مملكتي الصغيرة، وأجملها بألطف الزينات وتحت إدارتي سيكون شعب صغير، فأدبر شؤونه وأقوده إلى غايته بكل سكينة. أجل إن رحلتي في الهواء قد ولدت ف صدري مثل هذه الأوهام. عندما حلقت في الفضاء رأيت كل منزل جزاء من البلاد. رأيت كل دار مملكة صغيرة تابعة لها الكل العظيم الذي نسميه الوطن، ورأيت كل عائلة قسماً من هذا المجموع الكبير الذي ندعوه الشعب أو الأمة أقامتني النواميس الطبيعية والتقاليد الاجتماعية على إدارة المنزل الداخلية، فأصبح المنزل مملكة لي فيها مصالح أدبرها، وعقل أقوده، وصحة أحفظها، وأهواء أقاومها، ومعارف أنشرها. هذا هو الدور الكبير الذي يجب علي أن أمثله في العائلة، فسأخرج من النطاق الضيق الذي حوصرت فيه لأقوم بمهمتي حق القيام، لا لأقلق خواطر أناس يغادرون على طهارة العادات ومقام المرأة في الإسلام

أريد أن أمتزج امتزاجاً عقلياً بالعالم الخارجي لأقتبس من معارفه وأكتسب من مناظره. فأطلقوا إذن سراحي وفكوا عقالي وعلموني. . . من العائلة يتخذ الوطن رجاله، ففي العائلة إذن مكانه العشب ومستقبل البلاد، وعلى تأثير المرأة في الود يتوقف مستقبل العائلة العثمانية الكبرى التي تتألف الآن. فلننتبه إلى أنفسنا أيتها النساء أخواتي الساهرات على تلك الرؤوس الصغيرة. فلننتبه إلى تفتيح هذه العواطف كالأزهار في تلك القلوب الصغيرة التي تخفق بالقرب من قلوبنا. بالأمس كنا لا ندرك ما يدور في رأس الأخ أو الابن أو الزوج لأن حياتهم العقلية والأدبية كانت تدور في منطقة غير منطقتنا، فعلينا نحن معشر النساء، أن نوجد العائلة: نور واحد ونار واحدة؟ والعواطف تترقى بترقي العصور: بالأمس كنا زوجات، ووالدات، واليوم صرنا صديقات وأمهات حنونات. . . إن إدارة عقل الولد وتكييف قلبه وتهذيب طباعه لمما يؤول إلى تكوين حياته وحياة البلاد؛ وإذا دفأنا قلبه بحرارة العواطف العائلية كما تدفئ الدجاجة فراخها نكون ق أعددناه لمقاومة عواصف هذه الحياة. فهيا إلى الأمام أيتها العائلة الصغيرة: إن الاتفاق قريب؛ كنت حتى الآن تحت سلطة الوالد؛ ونعم ما كنت عليه لأن الأب هو الرأس؛

في رياض الشعر

ولكن ها أنا ذا مستعدة أيضاً وأنا الأم، والأم هي القلب. . . فإن للمرأة في كل عصر من العصور ميزة تميزها وتجعل لها مقاماً كبيراً أو صغيراً في الهيأة الاجتماعية؛ وبلادنا اليوم ليست بلادنا أمس، فإن أمسنا بعيد عنا بمراحل فيجب أن أتكيف بكيفية جديدة إن أردت أن أجاري عصري هذا؛ وإلا فإني أكون طيف الماضي في الزمن الحاضر ومن مزيج الاستقلال العقلي والتحفظ الذي يعلمه الدين ستخلق امرأة جديدة تكون الضالة المنشودة والجوهرة المفقودة. . فهيا إلى الأمام. . . إلى العلى. .! * * * هذه هي النغمات التي وقعتها أوتار قلب تلك الشاعرة الرقيقة، وهذه هي الأنشودة النسائية الجميلة التي دبجتها بالإفرنسية يراعة فريدة هانم أحببنا أن نتحف بها قراء العربية لما فيها من رقة الشعور وسامي الوجدان. في رياض الشعر 1 - على البحرية سل المها بني إفيان ولوزان ... ماذا فعلن بقلب المغرم العاني إذ كن في الفلك كالأقمار في فلك ... يشرفن فيه على ألعاب نيران

فكم من الأرض سهم للسماء وكم ... سهم تسدد لي من تحت أجفان يعلو البحيرة من نيرانها شرر ... كزفرتي حين يجري مدمعي القاني يذهبن بالفلك إيماناً وميسرة ... فيها ويطربن من توقيع ألحان سرب يغنين بالأفواه مطربة ... وثلة بربابات وعيدان والورق في الشاطئ الأدنى تجاوبها ... تبدي أفانين شدو بين أفنان 2 - عيون وعيون أرجعوا لي يا غيد ماريمباد ... مهجتي قبل عودتي لبلادي إنني قد شددت رحلي وأهلي ... في انتظاري فأطلقوا لي فؤادي ليتني لم أزر حماكم فإني ... في هواكم أضعت كل رشادي وبراني الضنا فصارت ثيابي ... فوق جسمي كمضرب ذي عماد وأتاني السقام من حيث أبغي ... صحة وانهزمت قبل الجلاد حدثوا أن في حماكم عيوناً ... تذر الناس ضامري الأجساد صدقوا أنها عيون ولكن ... كحلت منذ خلقها بسواد جنبوني ذكر العيون فقلب ... في ارتعاش من فعلها وارتعاد فهي كالكهرباء تومي بلحظ ... فتدق الأجراس في الأكباد حنفي ناصف

إلى الحبيب في الشهر الغابر ضم مجلس طرب سعادة شاعر الأمير شوفير بك وطائفة من الأدباء. وكان المعني ينشد القصيدة التي مطلعها: يا ليل الصب متى غده ... أقيام الساعة موعده وكان لها وقع عظيم في النفوس. فطلب أحد الحاضرين من أمير الشعر أن ينظم شيئاً على هذا النمط للإنشاد. فوعد أن يفعل. ثم زاره المقترح وذكره وعده. فلم يتأخر وأملى عليه هذه الأبيات المنسجمة عذوبة ورقة فكانت من نصيب قراء الزهور مضناك جفاه مرقده ... وبكاه ورحم عوده حيران القلب معذبه ... مقروح الجفن مسهده يستهوي الورق تأوهه ... ويذيب الصخر تنهده ويناجي النجم ويتبعه ... ويقيم الليل ويقعده

ويعلم كل مطوقه ... شجناً في الدوح تردده كم مد لطيفك من شرك ... وتأدب لا يتصيده جحدت عيناك زكي دمي ... أكذلك خدك يجحده قد عز شهودي إذ رمتا ... فأشرت لخدك أشهده وهممت بجيدك أشركه ... فأبى واستكبر أصيده وهززت قوامك أعطفه ... فنبا وتمنع أملده سبب لرضاك أمهده ... ما بال الخصر يعقده مولاي وروحي في يده ... قد ضيعها سلمت يده ناقوس القلب يدق له ... وحنايا الأضلع معبده حسادي فيه أعذرهم ... وأحق بعذري حسده أحمد شوقي لوعة أونين هذه الأبيات لشاعر مصر الكبير لم يسبق نشرها أنا في يأس وهم وأسى ... حاضر اللوعة موصول الأنين مستهين بالذي لاقيته ... وهو لا يدري بماذا يستهين سور عندي له مكتوبة ... ود لو يسري بها الروح الأمين إنني لا آمن الرسل ولا ... آمن الكتب على ما يحتوين حافظ إبراهيم

الكلمات الأجنبية

بين الشعراء نشرنا أجوبة أربعة على قصيدة عبد الحليم أفندي المصري (راجع ص 59 و107 و157) وننشر اليوم جواباً خامساً ورد من العالم الجديد: مصر بنا ضاقت فما حالكم ... في أرضكم يا شعراء الشام. . .؟ عبد الحليم يا بلبل الشعر عليك السلام ... شامنا مصر ومصر الشام ما لك بالقطرين من منهل ... ولي وراء البحر طاب المقام قد قيل إن الشعر طيرة ... فاركب وطر فوق طباق الغمام فالبدر مشتاق لوصافه ... فاقصده واضرب في حماه الخيام أو فاحترف غير القريض وقل ... يا دولة الشعر عليك السلام البرازيل فائز السمعاني اللبناني الكلمات الأجنبية في اللغة العربية ذكرنا في العدد الماضي (ص 137) طائفة من الكلمات الفصيحة التي وضعتها لجنة دار العلوم بدلاً من الكلمات العامية أو الدخيلة على اللغة. ولا تزال اللجنة موالية العمل في هذا البحث المفيد. وإليك تابع ما سبق.

وأكثر الكلمات هذه المرة كانت اللجنة مسبوقة إليها كما أشارت هي نفسها إلى ذلك في التعليق: - (اسبتالية) قالت اللجنة: كان من الممكن أن نجاري المتقدمين في اختيارهم كلمة (بيمارستان) ولكنا رأينا أن كلمة (مستشفى) مع أدائها المعنى تماماً أسهل نطقاً من الكلمة الأولى وأكثر دوراناً على الألسنة والأقلام ونرى أن كلمة (مستوصف) أولى بالتعبير عن الكلينيك - (بوفه: اختارت اللجنة لهذا المعنى كلمة (مقصف) - وقد سبق استعمالها - لأن معنى القصوف في اللغة الإقامة في الأكل والشرب وهذا هو معنى كلمة بوفه. أما استعمال القصف في اللهو فغير عربي. أما خزانة الطعام والشراب فقد استعمل لها المتقدمون كلمة سكردان. ويرى صاحب كتاب العامي والدخيل - الذي سيجيء الكلام عنه - استعمال كلمة (مِقلَدَة). (بريمة - اختارت لها اللجنة كلمة (بزال) ومعناها في اللغة: حديدة يفتح بها الدن. وهو قريب من البريمة الحالية ففي هذا الإطلاق توسع. (تلغراف) استحسنت اللجنة الكلمة المستعملة (برق ورسالة برقية) وشاع استعمال (برقية) بحذف الموصوف - في الجرائد السورية فهي تقول: وردت برقية من الأستانة. . . بمعنى تلغراف. واستعملت أيضاً الفعل (أبرق) بمعنى أرسل تلغرافاً. وفريق من التجار استعملوا فعل (تيّل) فيقولون: تيلوناً أي جاوبونا تلغرافياً.

- (تباشير) الكلمة عربية محرفة وصحيحها (طباشير). - (دبلوم) اختارت لها اللجنة كلمة (شهادة عالية) وقالت: لم توافق اللجنة على (الشهادة النهائية) ولا على (الشهادة العليا) لأن الدبلوم ليست كذلك بل بعدها ما هو أعلى منها. أما (شهادة الحذاقة) التي أشار إليها الأديب الكامل أحمد تيمور بك فربما وضعت بعد لما هو أرقى من تلك الشهادة. - (عفارم) اختارت اللجنة كلمة (مرحى) وهي كلمة تقولها العرب للإصابة في الرمي فيمكن التوسع فيها. - (قومسيون) استنسبت كلمة (لجنة) المستعملة لأن معنى اللجنة الجماعة يجتمعون في الأمر ويرضونه وذلك معنى القومسيون. * * * هذه الألفاظ التي وضعتها اللجنة أو استنسبت وضعها ونشرتها في هذا الشهر. وقد جاء اعتراض على اللجنة بخصوص بعض ما نشرناه لها من الكلمات في العدد الماضي. فإن حضرة الأديب محمد أفندي الصادق حسين لا يستنسب تعريف (تيب ريتر) بمطبعة الأزرار ويفضل تعريبها بآلة الكتابة أو الآلة الكاتبة - كما كنا قد ذكرنا - لأن ليس في اللفظة معنى المطبعة بل هي كما جاء في دائرة المعارف آلة الغرض منها أن تقوم مقام القلم في الكتابة

ثمرات المطابع

ولاحظ أيضاً حضرته على كلمة (خريطة) أن معناها العربي لا يؤدي معنى (الخارطة). أما الكلمتان (غدان) و (شجاب) اللتان وضعتهما اللجنة للتعليقة أو الشماعة كما ذكرنا ذلك في العدد الماضي (ص 140) فقد سبق إليهما حضرة المدقق رشيد أفندي عطية منذ 12 سنة في كتابه الدليل إلى مرادف العامي والدخيل المطبوع في بيروت سنة 1898 وذكر هذا المعنى بالتفصيل ص 67. ونحن نلفت أنظار اللجنة إلى هذا المؤلف النفيس فإنه يقع في 360 صفحة وهو مبوب على طريقة المعاجم، ولا نشك في أنها تجد فيه مساعداً على عملها. ثمرات المطابع تاريخ الأدب وحياة اللغة العربية: من اجل الخدم التي قامت بها الجامعة المصرية فتح درس جديد في أدب اللغة العربية. وهو من الدروس التي كنا لا نزال مفتقرين إليها. فقد تلاقي فينا الكاتب النحرير والشاعر المبرز، وتراه يكاد يعجز عن إيراد شيء من تاريخ مشاهير كتابنا الماضين، وذلك لعدم وجود مؤلف جامع يرجع إليه في مثل هذه الأحوال. فيضطر الأديب إلى اقتناء ومطالعة مجلدات عديدة ضخمة، وهذا ما لا يتسنى إلا للقليلين. بخلاف الإفرنج، فإن صغار طلبتهم في المدارس يعرفون أسماء

كتابهم وشعرائهم مع نبذة من حياتهم ومكانتهم في عالم الأدب وقيمة مصنفاتهم إلى غير ذلك. حتى أن تاريخ أدب اللغة أصبح من مواد دروسهم الأولية. ولذلك تستحق إدارة الجامعة كل ثناء على خدمتها هذه. وقد ساعدها في مهمتها وجود أديب نابغة في هذا الفن، يعد دائرة معارف حية لتاريخ آداب اللغة، وهو سعادة القانوني حنفي بك ناصف وكيل محكمة طنطا. وقد جمع إلى تضلعه في القوانين والشرائع مقدرة فائقة في فني النظم والنثر جعلته في طليعة حملة ألوية الأدب في وادي النيل. (راجع رسمه وأبياته في هذا العدد ص 212). أسندت إليه إدارة الجامعة تدريس تاريخ أدب اللغة فأسندت هذه المهمة إلى خير مسند. وقد ظل كل هذه السنة يلقي تلك المحاضرات التي عرف قيمتها كل من سمعها، ثم جمعتها إدارة الجامعة في الكتاب الذي نحن بصدده الآن. وهذا الجزء الأول من تلك المحاضرات يبحث في الحروف العربية ومخارجها وصفاتها وترتيبها وخواصها، كل ذلك في قالب منسجم لطيف. تم تناول البحث تاريخ الخط قبل الإسلام وبعده. وقد أحببنا أن نقتطف شيئاً من هذا الباب لفائدة القراء. قال: كان العرب قبل الإسلام أمة بدوية، لا يهمهم إلا تربية الإبل والشاء، والتجاع الكلأ لرعايتها، وشيء يسير من التجارة لجلب الأقوات والثياب والسلاح اللازم لإقامتهم في البوادي معرضين لافتراس الوحوش الضارية، وإغارات السالبين والآخذين بالأثر، وحماية القوافل التجارية،

ومثل هذه المعيشة لا يقتضي انتشار الكتابة والقراءة. وإذا وجد فيهم من يكتب ويقرأ، فإنما هو نزيل هبط إليهم، أو آيب من سفر بعد طول إقامة في أرض متحضرة. . . وكان الأعرابي يقرع الأسماع برائع الشعر وفائق النثر، وهو لا يعرف حروف الهجاء ولا أسماء أوجه الإعراب. . . ولم يصل الخط إلى ما هو عليه الآن، إلا بعد أن قطع أربعة أدوار. الدور الصوري المادي، الدور الصوري المعنوي، الدور الصوري الحرفي، الدور الحرفي الصرف. . . وذلك أن الناس في أول الأمر كانوا يرسمون صور الماديات للدلالة عليها، فإذا أرادوا أن يدلوا على معنى الأسد رسموا صورة أسد. وإذا قصدوا الدلالة على معنى النخل رسموا صورة نخلة. إلخ. وإذا أرادوا أن يذكروا أن ملك مصر حارب الآشوريين وغلبهم وأخذ منهم أسرة، رسموا صورة ملك مصر بالعلامة المصطلح عليها ومعه جنود مدججون بالسلاح، ورسموا صورة ملك آشور بعلامته المصطلح عليها ومعه جنده، بعضهم واقعاً على الأرض مضرجاً بالدم وبعضهم تحت سنابك الخيل وبعضهم مولون الأدبار، ورسموا جملة من الجند مربوطين بالسلاسل يقودهم جندي مصري. . . ولكن الكتابة بهذه الطريقة ناقصة، لأن من المدلولات ما لا صورة له مادية، كالخوف والحزن والفرح والنسب الإضافية والتوصيفية والنسب الكلامية التي تتصور بين الموضوع والمحمول. فكان الخط شيئاً خيراً من لا شيء. ثم بدا لهم بعد زمن أن يدلوا على المعاني التي لا صور لها بصور لوازمها فيرسموا الدواة والقلم للدلالة على معنى الكتابة، والشعر المسدول للدلالة

على الحزن، فكانت الكتابة في هذا الدور تتألف من صور ماديات للدلالة عليها، وماديات أخرى للدلالة على ملزوماتها من المعاني، وذلك مشاهد كثيراً في الرسوم المصرية القديمة، بل هو مشاهد الآن في القرى بين الأميين، فإذا حج واحد منهم إلى مكة، رسموا على باب داره صورة محمل فوق جمل زمامه بيد أعرابي، ورسموا جملاً آخر عليه هودج، وربما رسموا سفينة بجانب الجمل للدلالة على أن صاحب المنزل حج وسافر في البر والبحر. . . ثم ترقوا إلى الدور الحرفي بواسطة الصور، فاصطلحوا على استعمال صور للدلالة على الحروف التي في صور أسمائها. فإذا قصدوا أن يكتبوا لفظ غلبت الروم صوروا غراباً وليمونة وباباً وتفاحة وإبريقاً وليمونة ورحى ووردة ومبرداً (فإذا أخذت الحروف الأول من كل كلمة كان عندك الجملة غلبة الروم) وكان قوم قد اصطلحوا على صور مخصومة بقدر عدد حروف لغتهم، ثم اختصروا تلك الصور مع مرور الأيام حتى صارت علامات لا تدل إلا على أصوات الحروف كما هو الشأن الآن. . . . وفي الكتاب رسوم عديدة تشرح للناظر تدرج الخط من هذه الرسوم المادية حتى بلغ دوره الحرفي المعروف الآن. . . هذا هو الجزء الأول ن تاريخ الأدب أو حياة اللغة العربية. الذي نثر دوره حنفي ناصف بك على سامعي محاضراته والتي نظمتها إدارة الجامعة في كتاب مطبوع لتعمم الفائدة. وإننا ننتظر بفارغ الصبر الأجزاء التالية. لأننا كما تقدم في أشد الافتقار إلى مثل هذا الكتاب النفيس. وكلنا يقدر هذه الخدمة حق قدرها ويعرف أن ناصفاً هو كفؤ لها. . . * * *

ومن الدروس المفيدة التي تلقى في دار الجامعة دروس علم الطبيعة، يلقيها حضرة الرياضي البارع إسماعيل حسنين بك ناظر مدرسة المعلمين الخديوية. وقد جمعت إدارة الجامعة أيضاً محاضرات الأستاذ العلامة في كتاب على حدة لتعميم الفائدة. وهذا الجزء الأول يبحث في خواص المادة وأولها التحرك وهو يتناول الحركة المنتظمة والحركة المتغيرة وتحليل الحركات ثم القوة وقياسها وتحليلها إلخ. . . ولاشك في أن المحاضرات التالية ستتناول البحث في التمدد والانضغاط والمسامية والتجزؤ وعدم التدخل وكلها من خواص المادة العمومية. ونحن في الشرق في أشد الحاجة إلى نشر العلوم الرياضية والوقوف على أسرار الطبيعة المحدقة بنا. ويرجى من إدارة الجامعة أن توسع نطاق هذه الدروس الوضعية. فضلاً عن أن إلقاءها باللغة العربية لمما يزيد لغتنا مرونة ويساعدنا على استعمالها في تدريس العلوم. وقد اظهر حضرة إسماعيل حسنين بك من هذا القبيل براعة فائقة يستحق عليها ثناء كل أديب. * * * وطنيات أحمد نسيم: هذا هو الجزء الثاني من ديوان أحمد أفندي نسيم. وأحمد أفندي نسيم من الشعراء العصريين المعدودين في وادي

النيل قال فيه إسماعيل باشا صبري: لك في الشعر يا نسيم معان ... باهرات تحار فيها العقول كل بيت يطل منه على أفهام أهل النهى محيا جميل وقال محمد بك هلال: لا تعجبوا أن رق فهو نسيم وقال عبد الرحيم بك احمد: للوطنية روح تظهر في هذا الشعر وهو خير ما يلقنه الشباب وقال إسكندر بك عمون: لا سحر غير هذا وقال الأستاذ عبد العزيز جاويش: لك شعر مثل النسيم إذا اعتل ... ولكنه شفاء القلوب

وقال عبد العليم أفندي صالح المحامي: شعر نسيم، نسيم الشعر وقال حافظ أفندي إبراهيم: أصبح البحتري غلام نسيم. . وهو يشير إلى نسيم الغلام الذي كان البحتري يتغزل به. وقال محمد أبو شادي بك المحامي: الروح شعر للجسد، وشعرك روح للوجود. وقال خليل أفندي مطران: في هذا الشعر ما في اسم صاحبه: من عرف أبي الطيب ونفحات النسيم وقال الشيخ محمود العطار: قد هدت قالة القريض نجوم ... طلعت في سماء شعرك زهرا هذا ما قاله فريق من كبار أدباء مصر في زميلهم. وإذا كانوا - على ما رأيت - لم يبخسوه حقه من الثناء، فهم أيضاً لم يكيلوا له هذا الثناء جزافاً. فإن نسيماً بات من شعرائنا الأعلام، إذ جمع إلى متانة النظم وإحكام التركيب شعوراً رقيقاً وخيالاً عالياً. وهذه الصفات جعلت له مقاماً معدوداً بين شعراء العصر. وهو - خصوصاً في هذا الجزء الثاني من ديوانه - شاعر سياسة وجدال، والسياسة والجدال، كما يفهمها الشعراء، مدعاة إلى تحريك ساكن الشعور وإثارة كامن الخيال. خذ القصيدة الواحدة من الوطنيات تجدها قضية يعرضها صاحب الديوان، ثم يؤيدها بالأدلة الدامغة مفنداً حجج الخصم أيما تفنيد. ولقد جاءت هذه الوطنيات تاريخاً لأهم الحوادث التي جرت هذين العامين في مصر والأستانة: نظر إلى تلك الحوادث تارة نظرة حزن وأسف، وتارة نظرة

ابتهاج وفرح - وفي كلا الحالين نظرة شاعر - فدونها بمداد يسيل من قلبه المتأثر. وأنا أرى النظم بما يحيط بنا من الوقائع أجدر بشعرائنا من التيه في مفاوز مبتذلات الماضي، ولذلك قلنا أن نسيماً شاعر عصري. * * * دروس التاريخ الإسلام - عرفنا الشيخ محيي الدين الخياط كاتباً بليغاً وشاعراً كبيراً، وها قد نزل إلى ميدان التاريخ فكان مؤرخاً مدققاً. ظهر القسم الأول من كتابه في تاريخ الإسلام وهو يشتمل على مجمل تاريخ صاحب الشرعية الإسلامية. كتبه لطلبة المدارس بأسلوب سهل التعبير، حسن التبويب والتنسيق، وختم هذا الجزء الأول ببعض الأحاديث النبوية في الأخلاق والعلم والسياسة نقتطف منها: لا فقر أشد من الجهل. ولا مال أعز من العقل، ولا وحشة أشد من العجب. اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً. التمسوا الرزق في خبايا الأرض، إن الله يحب معالي الأمور وأشرافها ويكره دنيئها وسفسافها. الاقتصاد في النفقة نصف المعيشة، والتودد إلى الناس نصف العقل، وحسن السؤال نصف العلم. آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان.

المسلم من سلم الناس من يده ولسانه. من عامل الناس فلم يظلمهم، وحدثهم فلم يكذبهم، ووعدهم فلم يخلفهم، فهو ممن كملت مروءته، وظهرت عدالته، ووجبت أخوته. سوء الخلق شؤم، وشراركم أسوأكم خلقاً. * * * وأهدى إلينا حضرة الفاضل الشيخ عبد الله أفندي الرفاعي الكتبي المعروف بطرابلس الشام نسخة من الطبعة الثانية من كتاب سمير الليالي تأليف حضرة البارع محمد أفندي أمين صوفي السكري وهو جزء من أجزاء تالية تبحث في تقويم البلدان وتاريخ الأمم، بأسلوب لا يمل معه القارئ. وقد أفاض المؤلف خصوصاً في بلاد الدولة العثمانية فاستوفى تاريخها وجغرافيتها. وإعادة طبع الكتاب دليل على رواجه. وجاءتنا أيضاً روايتنا للأديب مارون أفندي عبود محرر جريدة الحكمة: اللبنانية: الأولى وهي معربة من نوع الرومان رواية رنه واتالا الشهيرة للكاتب الفرنسوي شاتوبريان وقد عربها أيضاً فرح أفندي أنطون. والثانية - وهي تمثيلية مؤلفة - رواية كريستوف كولمب واكتشاف العالم الجديد على يده. عبارة الروايتين طلية منسجمة وتدل على مقدرة كاتبهما وكنا نود الإفاضة في مرمى الكتابين لو لم يمنعنا عن ذلك ضيق المقام وكثرة ما لدينا من المطبوعات.

مصر وسورية

مصر وسورية موضوع العدد الكبير سألنا القراء في العدد الماضي عن موضوع عدد خاص كبير من الزهور يقوم مقام عددين يصدران في آن واحد في فصل الصيف. وقد جاءتنا اقتراحات عديدة ولكن السواد الأعظم مجمع على اختيار موضوع مصر وسورية لأن الزهور دائبة على إيجاد رابطة أدبية بين الأقطار العربية ويجب أن تبدأ بهذين القطرين الشقيقين. وقد كاشفنا المساعدين بتحرير المجلة فاستحسنوا الموضوع كثيراً. وعليه فالعددان القادمان سيظهران معاً في حجم كبير وسننشر فيهما رسوم أشهر الآثار وأجمل المناظر الطبيعية في القطرين مع أقوال الكتاب والشعراء الأقدمين والمعاصرين من عرب وإفرنج. وستجيء هذه المجموعة - بفضل مشاهير الأدباء الذين سيحررونها - كتاباً فريداً في بابه يجدر بكل أديب عربي أن يقتنيه. ونسأل كل القراء أن يوافونا بما لديهم من الكتابات والرسوم الفوتوغرافية بهذا الموضوع لتتم الفائدة. وسيرسل هذا العدد الخاص مجاناً لكل الذين يكونوا قد سددوا قيمة الاشتراك. وثمنه لغير المشتركين ثلاثة فرنكات.

أزهار وأشواك

أزهار وأشواك الكتاب على المراسح كان لما كتبته في العدد الماضي عن التمثيل والكتاب وقع حسن في أندية الأدب، وتناقله بعض الصحف مستحسناً الاقتراح. ولم يعترض احد من الأدباء على الدور الذي خصصته به. ألقيت بذرة هذه الفكرة في الأذهان، فإذا لم تكن قد نبتت فهي لم تمت، ونحن ننتظر الربيع لنرى. وقد جاءني من بيروت الكتاب الآتي وها هو نصه: السلام على حاصد. وبعد فنعم ما ارتأيتم بخصوص التمثيل والكتاب ولقد أحسنتم في توزيع الأدوار على قدر ما نعرف عن أدبائكم. وإذا تم إبراز هذا الفكر إلى حيز الوجود فإننا نعدكم بشد الرحال إلى وادي النيل لحضور هذه الحفلة الفريدة. ثم ندعوكم إلى حفلة من نوعها نقيمها في بيروت وتوزع أدوارها على أدبائنا: فيمثل الأمير شكيب أرسلان دور الملك. والشيخ إسكندر العازار دور النديم والشي محيي الدين الخياط دور الوزير، والأستاذ الحوراني دور بزرجمهر. ويعهد دور قائدي الجيش إلى فليكس فارس وداود مجاعص. أما دور العاشق فكثيرون هم المرشحون له. ويدير صاحب الحسناء جوق المغنيات في القصر، وبشارة الخوري يقوم بدور رئيس الحرس. أظن أن أدبائنا سيقومون بأدوارهم هذه كما يقوم أدباؤكم بالأدوار التي وزعتها عليهم. فابتدؤوا تجدونا لكم لاحقين والسلام. الإمضاء: متطوع بالحصاد الاقتراح إذن جميل وأنا عرضته من باب الهزل، وبت أفكر به عن جد.

حملة الأقلام كتب المنفلوطي في نظراته فصلاً عن الكتاب في مصر. وحذا حليم دموس في هذه المجلة حذوه عن الكتاب في بر الشام. أصاب كلاهما في بعض أحكامهما، وأخطأ كلا الاثنين أيضاً في البعض الآخر. وهل في ذلك من شيء عجيب؟ بل يصح أن يكون ما عددته أنا صواباً قد عده غيري خطأ. وعليه فلست غاضباً على الكاتبين لأنهما لم يذكراني في عداد الكتاب، ولا لأنهما أساءا إلى الكتاب تطربني نفثاتهم أو أطربا كتاباً تقتلني سخافاتهم. إذا كان الكثيرون غضبوا لهذه الأسباب فلست أنا لها بغاضب ولكن الذي أنا لأجله مستاء ناقم هو هلع الكاتبين لقيامة من خطأهما في آرائهما. فأسرع هذا في سورية وذاك في مصر إلى الاعتذار على صفحات الجرائد. ولقد أفقد هذا التنصل كل ما كنت أعتقد فيهما من الشجاعة في المجاهرة بمعتقدهم الأدبي. فإما أنمهما قالا رأيهما في حملة الأقلام عن اعتقاد تام. وليس لهما أن يؤديا حساباً عما كتبا، أو أنهما كتبا عن غير اعتقاد - وهذا ما لا أظنه - فكان الأجدر أن لا يكتبا. وهناك سبب آخر لاستيائي من هذين الأديبين وهو أنهما فتحا باباً هيهات أن نجد من يسده. فقام كل حامل قلم يبدي لنا رأيه في حملة الأقلام ولو كان الواحد من هؤلاء يأتينا بالشيء المقبول لقلنا: لا بأس من احتكاك الآراء. ولكن هذا يقول لك: الكاتب زيد كاتب بليغ لو كانت عبارته أمتن ومعانيه أجمل. . . وذاك يقول: الشاعر عمرو شاعر مجيد لو كان أسمى خيالاً وأحكم نظماً. . . وأنا أقول على هذا القياس: لو كنت صاحب مئة

ألف جنيه وأملاك وعقارات لما كنت فقيراً، أو لو كان ابن السبعين في العشرين من عمره لكان شاباً. . . ألا رحم الله مسيو ده لا باليس كما يقول الإفرنج. . . أسماء الجرائد نحب المناقشة ولو في لا شيء. ما كدنا ننتهي - وهل انتهينا؟ - من البحث في حملة الأقلام حتى فتح باب جديد بين رصيفين موضوعه أسماء الجرائد. ابتدأ الأمر بين رصيفين، ولكن أول الغيث طل ثم ينهمر، وأول النار شرارة. وها أنا أول النافخين فيها. يفكر الكاتب أو الصحافي طويلاً في عنوان كتابه أو اسم جريدته، بل هو يعلق الآمال الكبار على ذاك العنوان الخلاب أو هذا الاسم الجلاب. وهذا أمر بديهي. فكم يعقد من مجلس عائلي لانتقاء اسم للمولود الجديد تيمناً وتفاؤلاً بمدلوله. . . أسماء جرائدنا ومجلاتنا جميلة، بل هي أجمل منها. وكثيراً ما تكون من باب تسمية العبد مرجاناً وليس فيه أحمر غير لسانه أو تسمية ذاك الثقيل لطيفاً أو تلك الشنعاء جميلة. ولكن القرد في عين أمه غزال عربنا معظم أسماء الجرائد الإفرنجية لجرائدنا. فعندنا العلم واللواء كما عندهم الستندرد، والجريدة كما عندهم الجورنال، والزمان بدل الطان والتيمس، والبرق بدل الإكلير وكذلك قل عن الإنسانية والعدل والعصر الجديد والوطن. وقد اتخذنا كل أسماء الفضائل لجرائدنا فعندنا الحقيقة والاستقامة والصدق والمحبة والرجاء وأخذنا ثلاث كلمات الدستور فعندنا الحرية والإخاء والمساواة. فضلاً عن الأسماء المحلية كالأهرام والمقطم ووادي النيل وأبو الهول والأرز ولبنان. ومن الجرائد ما لا ينطبق اسمها على حقيقتها. فالإكسبرس مثلاً

حديقة الأخبار

جريدة أدبية لطيفة الأسلوب تصدر مرة في الأسبوع مع أن اسمها يفيد معنى جريدة سياسية تتلقى الأخبار قبل سواها وتصدر على الأقل مرتين في النهار وأخرى في الليل وكذلك قل عن البرق والبيروتية. - حاصد كل ما يكتب في المجلة وكذلك مذيلاً بتوقيعي هو لي وأنا المسؤول عنه فلا يبخسني أحد حقي بنسبة بنات فكري إلى غيري. فليس لحاصد من حطام هذه الدنيا إلا باقة أزهار مع كثير من الأشواك. حديقة الأخبار غادر هذه الفانية المرحوم شاهين بك مكاريوس أحد أصحاب المقطم. وهو من الذين خدموا الصحافة والمعارف في سورية ومصر الخدم الجلى وامتازوا بالجد والنشاط. وقد لبس الحداد عليه عدد كبير من الكتاب في مقدمتهم نجله سليم بك مراسل الدايلي مايل وابن عمه إسكندر أفندي شاهين رئيس تحرير الوطن وشريكاه الدكتور صروف والدكتور نمر صاحبا المقطم والمقتطف. فنسأل للفقيد الرحمة ولآله الصبر. - أصيب الشاعر المعروف محمد إمام العبد بشقيق له. فبادر زملاؤه إلى تعزيته في هذا المصاب الأليم فأجابهم شاكراً: أنتم سلوة الحزين وأنتم ... أمل البائس الأسيف الحزين جل خطبي وروع الحزن نفسي ... وجرى الدمع بعد ذاك الدفين قد خلقتم لي السلو بشعر ... وعزاء على الهموم معين - كان هذا الشهر شهر المعاهد العلمية. وقد ذكرت الصحف المحلية أسماء الناجحين في امتحانات البكالوريا والحقوق وبينهم كثيرون من قراء الزهور فنهنئهم.

من وإلى القراء

- وأقامت المدرسة البطريركية للروم الكاثوليك حفلة جميلة بمناسبة توزيع الجوائز حضرها عدد كبير من الوجهاء والأعيان. ومثل طلبة المدرسة المارونية بهذه المناسبة أيضاً رواية عربية حضرها فريق من أعيان المصريين والسوريين. فألقى حضرة الأديب محمود أفندي نظيم أبياً غراء في القطرين الشقيقين منها: كلنا أخوة وقد جمعتنا ... لغة زادها الشام احتراما صانها اليازجي رب المعاني ... بضياء أزال ذاك الظلاما ظللتنا أهلة خافقات ... تنشر الحب بيننا والوثاما صافحونا على محبة مصر ... وبنيها كما نحب الشاما وأقامت مدرسة الفرير بشبرا مثل هذا الاحتفال الأدبي وخير ما جاء فيه قصيدة بليغة المبنى سامية المعنى ف تربية الأولاد نظم دررها حضرة الأديب الفاضل الأخ اليان باخوم مدير الدروس العربية في تلك المدرسة. مخبر من وإلى القراء نشرنا في العدد الثالث (ص 121) مقالة عن البرنس فردريك ايتل في فلسطين. وقد جاءنا البريد الأخير ببعض مجلات وجرائد ألمانية. وقد نشرت ترجمة تلك المقالة مطرية الزهور وهذا يدللك على اهتمام القوم بكل ما يقال عنهم. - لدينا مقالات وقصائد كثيرة من مراسلينا الأدباء من جهات مختلفة اضطررنا إلى إرجائها وسننشرها عن قريب إن شاء الله. - أهدى الكثيرون من الغيورين على الأدب أعداد المجلة لسنة كاملة إلى أصدقائهم قائلين أنها خيرة هدية. فنشكر لهم أدبهم وحسن ظنهم. الزهور بمصر أنطون الجميل.

العدد 6

العدد 6 - بتاريخ: 1 - 8 - 1910 مصر وسوريا قلنا عند صدور الجزء الأول من هذه المجلة، إننا إنما أنشأناها لتكون الرابطة الأدبية بين الأقطار العربية. وذلك بإيجاد صلة تعارف وترابط بين أدباء هذه الأقطار وكتّابها وشعرائها، بنشر رسومهم وما تجود به قرائحهم، ليتم التعاضد والتساند الأدبي، فنجني الفائدة المبتغاة من تراسل

الأدباء وآزرهم للقيام بالنهضة الحديثة التي بدت طلائعها في أوائل القرن العشرين حتى كادت ترجع إلى الآداب العربية عصورها الذهبية. أقدمنا على هذا العمل بعد مفاوضة السواد الأعظم من أئمة حملة الأقلام، فأنسنا منهم ارتياحاً عظيماً إلى هذا المشروع، لنهم كانوا يشعرون جميعهم بالحاجة إلى التكاتف والتعاون، لئلا يظلوا منفصلين عن بعضهم بعض، فلا يعرف الأديب المصري شيئاً عن الأديب الشامي، ولا يدري هذا شيئاً عن زميله العراقي، وقس على ذلك. وإذا ألقيت نظرة على الأجزاء التي صدرت من هذه المجلة، ترى مقدار استحسان القوم لهذه الفكرة، وإقبال الأدباء على تعضيدها بغية تحقيق هذه الأمنية الشريفة. وتجد في كل جزء ميداناً تتبارى فيه أقلام الكتاب من كل صقع. حتى عرفت مجلة الزهور بهذه الميزة على سائر المجلات، وأصبح يراسلها العدد الكبير من أدباء مصر والشام والعراق والجزائر ومراكش. ناهيك بما يحمل إلينا البريد من رسائل التنشيط وكلمات الاستحسان. ولقد سهل علينا إدراك هذه الغاية خصوصاً فيما يتعلق بمصر وسوريا، لسهولة الموصلات، وتشابه التقاليد والعادات بين هذين القطرين الشقيقين، وسير الحركة الفكرية فيهما في مجرى واحد. ولهذا ما كدنا نعلن عن عزمنا على إصدار العدد السنوي الكبير حتى تواردت علينا الرسائل من القراء، وكلهم مجمعون على جعل موضوع العدد الخاص مصر وسوريا وكنا قد تركنا للقراء الكرام

حق اختيار الموضوع الذي يروقهم البحث فيه , ولقد سرنا هذا الاقتراح أيما سرور لأننا رأينا فيه استحسان العامة وجمهور القراء لغاية المجلة، بعد استحسان الخاصة وفئة الأدباء. وأيقنا بنجاح تلك الفكرة، وهي التوصل شيئاً فشيئاً إلى إحكام الرابطة الأدبية بين الأمصار العربية. هذه هي الأسباب التي حملت إدارة هذه المجلة أيها القارئ العزيز على أن تتقدم إليك بهذا العدد الخاص المتوج باسم القطرين العزيزين، وهي على يقين تام من انه سيحل منك محل الرضى والارتياح. * * * بقي علينا بعد ذلك تقرير كيفية طرق هذا الموضوع الواسع. إذ ما عسانا أن نقول عن مصر وسوريا. ومصر وسوريا مهد الحضارة والمدنية، والملعب الذي تمثلت عليه أكبر مشاهد تاريخ البشرية. بل إن فينيقيا وأرض الفراعنة هما محور التاريخ القديم، ودائرة قطبه. حولهما كان معترك الأمم. وفيهما كان ممر الشعوب في زحفها من الشرق إلى الغرب، أو من الغرب إلى الشرق. في هذين القطرين حدثت الحوادث المأثورة، وفي ربوعهما جرت الوقائع المشهورة. فكانا في أيام الحرب ساحة الهيجاء، وفي أيام السلم مجتمع العلماء. هذا من الوجهة التاريخية أما من الوجهة الجغرافية فإن ذينك القطرين قبل نقض برزخ السويس وبعد نقضه كانا الرابطة بين آسيا وأفريقيا، والطريق اللاحبة بين أوروبا والهند والعالم الجديد. أما الوجهة السياسية فقد ضربنا عنها صفحاً في بحثنا منذ البداية، لأن مجلتنا غريبة منذ نشأتها عن السياسيات.

وعليه فقد وجدنا موضوعنا واسعاً مترامي الأطراف، تضيق المجلدات الضخمة عن استيعاب بعض أبوابه، سيما وغنه ليس ن غايتنا إيراد تاريخ القطرين ووصفهما جغرافياً، فالكتب التي تبحث في ذلك هي فوق الحصر فضلاً عن أن ذلك خارج عن نطلق مجلة أدبية فنية مثل الزهور ولذلك آثرنا طرق هذه الموضوع من الوجهة الأدبية. فاستكتبنا الأدباء الأعلام الذين يساعدون في تحرير هذه المجلة وأضفنا إلى كتاباتهم شيئاً من أقوال الكتاب الغابرين وبعض الشذرات الأدبية في هذا الموضوع. وزينا ذلك ببعض رسوم المناظر الطبيعية والآثار القديمة في القطرين، زيادةً في الفائدة والرونق. ولا ندعي ذكر كل ما يستحق الذكر من الآثار والمناظر وما كتب فيها قديماً وحديثاً، لأنه لا يخفى ما يستغرق ذلك من الفصول الطوال إذ إن لكل شبر من هذه الأراضي تاريخاً عظيماً أو أن فيه أثراً فخيماً. فضلاً عن أن لنا متسعاً في الأعداد القادمة لذكر ما ضاق هذا الجزء عن إيراده سواء كان عن مصر وسوريا أو عن سائر الأقطار العربية. * * * نعم إن الإنسان ينظر إلى ماضيه، فيخاله أحسن مما كان؛ وإلى حاضره، فيراه أقبح مما هو؛ وإلى مستقبله، فيظنه أسعد مما سيكون؛ وبحق قال دانتي الشاعر التلياني: لا حسرة للإنسان في أيام تعاسته أعظم من ذكره مجده السالف ولكن هذا المبدأ الصحيح في كل فرد من الهيأة الاجتماعية فاسد إذا ما استعملناه للشعوب، فالشعوب تحيا

بماضيها الذي تعده إرثاً ثميناً من الأجداد. ومن صفحات عزها الغابر تتخذ لها قوة تؤهلها للحياة الأمل. فنحن نذكر إذن ماضينا لننشط في حاضرنا، ويزداد أملنا في مستقبلنا. . . فعسى أن تؤدي مجلتنا بعض هذه الخدمة. والعرب اليوم أشبه باليونان من حيث موقفهم إزاء الرقي الاجتماعي: ماضٍ مجيد، وحاضر مضطرب، ومستقبل مجهول سيكون كما يشاؤون وعلى مقدار استفادتهم في حاضرهم من عبر ماضيهم. ونحن اليوم لسنا في الظلام ولا في النور. ولكننا واقفون بين هذا وذاك. فعسى أن يكون ذلك غلساً يعقبه إشراق النهار، لا غسقاً يتقدم زوال الأنوار. ولقد جرى اليونان في هذه السنوات الأخيرة على عادة جميلة، كان لها أكبر تأثير في إحكام رابطتهم القومية. وهي أنهم يصدرون كتاباً سنوياً يشترك في تحريره كل كتابهم من جميع الأصقاع التي نزلها أبناء العنصر اليوناني، فيكتب كل واحد منهم فصلاً عن أحوال أبناء جنسه في البلد الذي استوطنوه، فيتألف من ذلك مجموعة ضافية تتضمن كل ما يجدر بأبناء العنصر الواحد معرفته عن إخوانهم وحالتهم الأدبية والاقتصادية. . . ويجمل بالعرب، وهم الضاربون في أنحاء مختلفة، أن يحذوا هذا الحذو، فيأتوا مثل هذا العمل الذي لا تعد فوائده، ولا تحصى منافعه. فتكون تلك المجموعة أشبه بمؤتمر سنوي - يصعب عقده فعلاً - يتعارف بواسطتها أهل مصر وسوريا والعراق واليمن ومراكش والجزائر وتونس والمهاجرون منهم إلى أمريكا وأستراليا والشرق الأقصى

ويطلعون على شؤونهم بعضهم بعض في كل هذه الأصقاع فيتبادلون المنفعة والفائدة. ولم يتيسر لهذه المجلة أن تقوم بمثل هذه الخدمة منذ سنتها الأولى، نظراً إلى مشقة هذا العمل ووجوب إعداد اللازمة لهذا المشروع الكبير، ولكن تلك أمنية من أمانيها ستعمل على تحقيقها بمناصرة الفضلاء الغيورين. * * * وفي هذا العدد - وإن كان قاصراً على الأدبيات - مقدمة لهذا المشروع الكبير. لأن ترابط الأجزاء الواحد بعد الثاني يؤول حتماً إلى ترابط الكل. ولقد قسمنا موضوعنا إلى ثلاثة أقسام: الأول يبحث في مصر، والثاني في سوريا، والثالث يتناول شيئاً من أقوال كتاب كل قطر في الثاني، مما يزيد توثيق عرى التقرب بين القطرين. هذه هي الخدمة التي ينبغي أن نقوم بها، والغاية التي يجب أن نسعى إليها، ولا نشك في أن كل قارئ يود المساعدة على تحقيقها. فإن وراء ذلك تقريب القلوب، ونشر السلام والوئام؛ والله الموفق في البداية والختام. مدير المجلة

1 - مصر

1 - مصر أسماء مصر مرجع أسماء مصر إلى ثلاث لغات مختلفة: اللغة المصرية، واللغات السامية، واللغة اليونانية. فمن الأسماء المصرية قيمت ومنه اشتق الاسم القبطي الصعيدي قيمه والاسم القبطي المنفي خيمي وقد اختلفوا في معناه فمن قائل أنه موقد، أو مجمرة، أو تنور. ومن قائل إنه ربوة ذات نار مستعرة. ومن قائل إنه أسود. ومن أسمائها بق وهو شجر اليسار، سميت به لكثرته فيها قديماً. وكذا تونهي، أي أرض الجميز، لكون ينبت فيها بكثرة. ولها أسماء أخرى غير ذلك، منها آن تاوي أي إقليم مدينة آن الشهيرة الآن بعين شمس. وأما أسماؤها السامية فهي مصير ومصري وجدت في الألواح الآشورية التي وردت من تلك العمارنة وتاريخها سنة 1700 ق. م. وفي شروط العائلة الأولى البابلية المؤرخة سنة 2000 ق. م. ذكرت باسم موصور في الآثار الآشورية المنقوشة في عهد السرجونيين.

وذكرت في العبرية باسم ماصور وهو مأخوذ من مصرايم. وتعرف في العربية بمصر. أما أسماؤها المتعارفة عند اليونان وفي أوروبا فهي أجيبتوس قال بروكش إنه مشتق من حاكابتاح اسم منف عاصمة الحكومة المصرية القديمة. لأن الأقوام المتوحشة من ملاحي البحر الأبيض كانوا يقيمون في مصر أزماناً طويلة فيسمعون من أهلها اسم عاصمتهم هذا لأنها كانت اكبر مدن مصر وأهمها وأغناها. فنقلوا اسمها إلى بلادهم وحرّفوه إلى اجيبت، وهو الشائع الآن. . . وذهب بكتيت إلى غير ذلك، فقال إن إِ معناه الماشية وجوب معناه الحارس فيكون معناهما الراعي. وقد جعلا اسماً للعقاب تهكماً به، ثم أطلقا على مصر من قبيل التهكم لإغارة الرعاة. أحمد كمال

فرعون وقومه

فرعون وقومه هذه قصيدة لسعادة أستاذ الشعراء إسماعيل باشا صبري، وهي من خير ما قيل في آثار مصر. وقد ضمنها الشاعر نظرية جديدة، وهي أن هذه البنايات الفخيمة لم تتم إلا على يد عمال كانوا يطلبون الإتقان الفني إكراماً للفن لا خوفاً ولا طمعاً. ولا يضارع جلال هذه الأبيات وفخامتها إلا جلال وفخامة تلك الآثار: لا القوم قومي ولا الأعوان أعواني ... إذا ونى يوم تحصيل العلى وإني ولست - إن لم تؤيدني فراعنة ... منكم - بفرعون عالي العرش والشان ولست جبار ذا الوادي إذا سلمت ... جباله تلك من غارات أعواني لا تقربوا النيل إن لم تعملوا عملاً ... فماؤه العذب لم يخلق لكسلان ردوا المجرة كداً دون مورده ... أو فاطلبوا غيره رياً لظمآن وابنوا كما بنت الأجيال قبلكمو ... لا تتركوا بعدكم فخراً لإنسان أمرتكم فأطيعوا أمر ربكمو ... لا يئن مستمعاً عن طاعة ثاني فالملك أمر وطاعات تسابقه ... جنباً لجنب إلى غايات إحسان لا تتركوا مستحيلاً في استحالته ... حتى يميط لكم عن وجة إمكان. . . * * * مقالة قد هوت من عرش قائلها ... على مناكب أبطال وشجعان مادت لها الأرض من ذعر ودان لها ... ما في القطم من صخر وصوان لو غير فرعون ألقاها على ملأ ... في غير مصر لعدت حلم يقظان لكن فرعون إن نادى بها جبلاً ... لبت حجارته في قبضة الباني وآزرته جماهير تسيل بها ... بطاح وادٍ بماضي القوم ملآن

يبنون ما تقف الأجيال حائرة ... أمامه بين إعجاب وإذعان من كل ما لم يلد فكر ولا فتحت ... على نظائره في الكون عينان ويشبهون إذا طاروا إلى عمل ... جناً تطير بأمر من سليمان براً بذي الأمر لا خوفاً ولا طمعاً ... لكنهم خلقوا طلاب إتقان * * * أهرامهم تلك - حي الفن متخذاً ... من الصخور بروجها فوق كيوان قد مر دهر عليها وهي ساخرة ... بما يضعضع من صرح وإيوان لم يأخذ الليل منها والنهار سوى ... ما يأخذ النمل من أركان ثهلان كأنها - والعوادي في جوانبها ... صرعى - بناء شياطين لشيطان جاءت إليها وفود الأرض قاطبة ... تسعى اشتياقاً إلى ما خلد الفاني فصغرت كل موجود ضخامتها ... وغض بنيانها من كل بنيان وعاد منكر فضل القوم معترفاً ... يثني على القوم فيسر وإعلان تلك الهياكل في الأمصار شاهدة ... بأنهم أهل سبق أهل إمعان وإن فرعون في حول ومقدرة ... وقوم فرعون في الإقدام كفؤان إذا أقام عليهم شاهداً حجر ... في هيكل قامت الأخرى ببرهان كأنما هي - والأقوام خاشعة ... أمامها - صحف من عالم ثاني تستقبل العين في أثنائها صور ... فصيحة الرمز دارت حول جدران لو أنها أعطيت صوتاً لكان له ... صدى يروع صم الأنس والجان * * * أين الألى سجلوا في الصخر سيرتهم ... وصغروا كل ذي ملك وسلطان

آثار مصر

بادوا وبادت على آثارهم دول ... وأدرجوا طي أخبار وأكفان وخلفوا بعدهم حرباً مخلدة ... في الكون ما بني أحجار وأزمان وزحزحوا عن بقايا مجدهم وسطا ... عليهم العلم ذاك الجاهل الجاني ويل له هتك الأستار مقتحماً ... جلال أكرم آثار وأعيان للجهل أرجح منه في جهالته ... إذا هما وزنا يوماً بميزان إسماعيل صبري آثار مصر 1 - هيل أنس الوجود أيها المنتحي (بأصوان) داراً ... كالثريا تريد أن تنقضا اخلع النعل واخفض الطرف واخشع ... لا تحاول من آية الدهر غمضا قف بتك القصور في اليم غرقى ... ممسكاً بعضها من الذعر بعضا كعذارى أخفين في الماء بضاً ... سابحاً به وأبدين بضا مشرفات على الزوال وكانت ... مشرفات على الكواكب نهضا شاب من حولها الزمان وشابت ... وشباب الفنون ما زال غضا رب نقش كأنما نفض الصا ... نع منه اليدين بالمس نفضا ودهان كلامع الزيت مرت ... أعصر بالسراج والزيت وضا وخطوط كأنها هدب ريم ... حسنت صنعة وطولاً وعرضا وضحايا تكاد تمشي وترعى ... لو أصابت من قدرة الله نبضا

ومحاريب كالبروج بنتها ... عزمات من عزمة الجن أمضى شيدت بعضها الفراعين زلفى ... وبنى البعض أجنب يترضى ومقاصير أبدلت بفتات ال ... مسك ترباً وباليواقيت قضا حظها اليوم هدة وقديماً ... صرفت في الحظوظ رفعاً وخفضا سقت العالمين بالسعد والنح ... س إلى أن تعاطت النحس محضا صنعة تدهش العقول وفن ... كان إتقانه على القوم فرضا * * * يا قصوراً نظرتها وهي تقضي ... فسكبت الدموع والحق يقضى أنت طغراً ومجد مصر كتاب ... كيف سام البلى كتابك فضا ؟؟؟ وأنا المحتفي بتاريخ مصر ... من يصن مجد قومه صان عرضا لم تمت أمة ولا باد شعب ... أقرضوا الذكر والأحاديث قرضا رب سر بجانبيك مزال ... كان حتى على الفراعين غمضا قل لها في الدعاء لو كان يجدي ... يا سماء الجلال لا صرت أرضا حار فيك المهندسون عقولاً ... وتولت عزائم العلم مرضى أين ملك حيالها وفريد ... من نظام النعيم أصبح فضا أين فرعون في المواكب تترى ... يركض المالكين كالخيل ركضا ساق للفتح في الممالك عرضاً ... وجلا للفخار في السلم عرضا أين إزيس تحتها النيل يجري ... حكمت فيه شاطئين وعرضا أسدل الطرف كاهن ومليك ... في ثراها وأرسل الرأس خفضا

يعرض المالكون أسرى عليها ... في قيود الهوان عانين جرضى ما لها أصبحت بغير مجير ... تشتكي من نوائب الدهر عضا هي في الأسر بين صخر وبحر ... ملكة في السجون فوق حضوضى أين هوروس بين سيف ونطع ... أبهذا في شرعهم كان يقضى ليت شعري قضى شهيد غرام ... أم رماه الوشاة حقداً وبغضا رب ضرب من سوط فرعون مضٍ ... دون فعل الفراق بالنفس مضا وهلاك بسيفه وهو قان ... دون سيف من اللواحظ ينضى قتلوه فهل لذاك حديث ... أين راوي الحديث نثراً وقرضا شيعة النيل إن بقي وعجيب ... أحرجوه فضيع العهد نقضا حاشه الماء فهو صيد كريم ... ليت بالنيل يوم يسقط غيضا شيدوا المال والعلوم قليل ... أنقذوه بالمال والعلم نقضا شوقي

2 وقد غمرت المياه قسماً من هذا الأثر البديع المشيد على عمد في ماء النيل بالقرب من شلال أصوان كما ترى في الرسم. حتى بات يخشى أن يذهب الأثر بعد العين. وقد قال الأديب صاحب الإمضاء باكياً: وقف عليك دموعي أيها الطلل ... عيني إليك وقلبي للألى رحلوا. . . أرسلت بالعين في سقياك هامية ... وفي الطلول البوالي ترسل المقل يا أيها الطلل المزور جانبه ... هون عليك كلانا بعدهم طلل وقفت باليم رسماً لا حراك به ... واليم مضطرب والموج مقتتل الدهر مل وآي الدهر كامنة ... في وجهك الطلق لا يبدو بها ملل قرأت فيهن سر العالمين فيا ... شتان ما بين من قالوا ومن عملوا كانوا إذا أبصروا شمس الضحى سجدوا ... لها وإن أبصروا شمها الهدى عدلوا هنالك التاج كانت كلما سطعت ... بدوره طأطأت هاماتها الدول عبد الحليم المصري وآثار مصر من ستة أنواع وهي الأهرام والمسلات والتماثيل والقصور والهياكل والقبور. وأكبرا لأهرام وأشهرها هرم كيوبس في الجيزة وعلوه 138 متراً ومن المسلات مسلات كرنك واون والإسكندرية ومن التماثيل تماثيل ممنون ورعمسيس ومن القصور البرنث في الفيوم وهو يحتوي على 12 قصراً و3000 غرفة ومن الهياكل هيكل كرنك ولقصر إلخ. . .

النيل

النيل مصر هيدة من النيل (هيردوت) اسم النيل مأخوذ عن اليونان وأصل الكلمة في لغتهم نيلوس ولعل اليونان أخذوها عن الفينيقيين أو الحثيين أو عن القبائل التي كانت في لوبيا أو في آسيا الصغرى. أما اسمه عند المصريين بصفته مقدساً فهو جعبى وإن أخرجوه عن الألوهية سموه يومع ومعناه اليم. أو سموه النهر الكبير أور ويؤخذ من الرسوم القديمة أنه كان يكنى بأبي الأرباب، ورب الغذاء، ومخرج المأكولات بخصبه، ومالئ القطرين بمحصولاته، ومانح الحياة، ومزيل المجاعة إلخ. وحقاً إن النيل لكذلك. وهو يحدث في مصر ثلاث هيئات: الأولى زمن الفيضان، فتصبح فيه مدن مصر جزائر وأرضها أنهاراً ولكن ذلك سيزول بمشروعات الري الجديدة. والثانية زمن الانحسار، فتتكون فيه كجنة أغراسها نضرة ومزارعها يانعة خضرة. والثالثة زمن التحريق فتكون الأرض فيه قحلة جدبة عليها غبرة. ولقد أصاب أحد شعراء العرب إذ قال: كأن النيل ذو فهم ولب ... لما يبدو لعين الناس منه فيأتي حين حاجتهم إليه ... ويمضي حين يستغنون عنه وقال أبو الحسين المعروف بابن الوزير مشيراً إلى ما ينجم عن الفيضان من الخيرات: أرى أمداً كثيراً من قليل ... وبدراً في الحقيقة من هلال فلا تعجب فكل خليج ماء ... بمصر مسبب لخليج مال زيادة إصبع في كل يوم ... زيادة أذرع في حسن حال

عيد النيل وكانوا يحتفلون قديماً بعيد النيل احتفالاً عظيماً، فإذا جاء الانقلاب الصيفي وأتى الماء المقدس من أجباب أسوان إلى جبل السلسلة قامت القسوس المقيمة في هذا الجبل أو الملك الحاكم أو ابنه فيتقرب بثور أو بإوز، ثم يلقي في الماء قرطاساً مختوماً من البردى يشتمل على أمر فيه إطلاق الحرية له بالزيادة، لكي يضمن لمصر الخير بفيضان معتدل وكانوا يعتنون بهذا العيد رعاية للرواية القديمة القائلة إن سعادة السنة أو شقاءها موقوف على ذلك المهرجان، فإن حصل منهم في شأنه إهمال أو توانٍ، رفض النيل الأمر الصادر إليه، وأغرق الأراضي والجهات. وفي هذا الموسم كان الفلاحون يأتون بالزاد ويأكلون معاً أياماً متوالية ويشربون حتى يثملوا. ويستمرون على ذلك حتى يأتي يوم الموسم الكبير، فتخرج حينئذ القسوس من المحراب وبينهم تمثال فيزفونه على الشاطئ بالألحان والأصوات المطربة والترتيل والمدائح وصدح الآلات الموسيقية فيقولون ما ملخصه: السلام عليك أيها النيل، يا من ظهرت على هذه الأرض وأتيت لإحياء مصر، أنت الذي يختفي مجيئك في الغياهب إلى يوم الترتيل بقدومك أنت البحر المفيض بمياهك على البساتين التي أوجدتها الشمس لنا لتحيي جميع ما يكون في شرق. أنت صانع القمح وموجد الشعير ومطيل أجل المعابد. إن تعطلت أصابعك أو اعتراك كساد، أصبحت الألوف من الناس في فاقة. وإن نقصت وقت نزولك من السماء، أفنيت المعبودات والخلق، وتكدرت الحيوانات وصارت الأرض كباراً وصغاراً في عذاب. وإذا كانت الحال على عكس ذلك واستجيب دعاء الناس تصيح الأرض ابتهاجاً، وينشرح كل ذي بطن، ويهتز كل ظهر من الضحك. . . يا مجلب

الأرزاق ومكثر المأكولات، أنت الذي يوجد علف الحيوانات، ويعطي كل ما لزم لقرابين المعبودات، أنت الذي يهتم بالقطرين فتمتلئ المخازن وتزداد خيرات الفقراء، أنت الذي يستجيب دعاءهم عند تقديم النذور فلا ينقصهم شيء. . . وإذا دخلت كنت محاطاً بالأغاني، وإذا خرجت صاحبك التهليل، وإذا رقصوا فرحاً يوم ظهورك من غياهب مكمنك فما ذلك إلا لكون عجزك اضمحلال لهم وفساد. . ومتى تضرعوا إليك لينالوا الماء السنوي شوهد أهالي مصر الوسطى وأهالي الوجه البحري مصطفين بعضهم بجانب بعض، وكان كل امرئ حاملاً لعد صنعته ولا ينزوي أحد وراء جاره. . أنت منبت الأرزاق الحقيقية التي هي رغبة الناس. . هذا هو كلام الالتماس الذي يجعلك مجيباً لدعائهم وإذا تكرمت بلجج المحيط السماوي على الإنسانية قدم نبرى معبود الحب عندئذ قربانه وسجدت لك كل المعبودات قاطبة. ومتى عجنت يداك شيئاً صار ذهباً، أو طوبة صارت فضة. لا يوكل اللازورد لكن القمح أفضل من الأحجار الكريمة. لقد شرعوا في الغاني على العود، وأخذوا يرتلون لك بتصفيق مستمر لتبتهج من أجلك ذراري أولادك، وليكثروا من أجلك تراتيل المدح، كيف لا والنيل هو إله الثروة، وهو الذي يحيي قلوب النساء الحبالى. ولو تأخر عن إعطاء الغذاء، لزالت السعادة من المساكن، ووقت الأرض في ضعف شديد. . . ولا يزال المصريون حتى اليوم يحتفلون احتفالاً عظيماً بما يسمونه وفاء النيل ولقد جرى الاحتفال هذا العام في 25 أغسطس (آب) الماضي بالأبهة المعتادة:

وفاء النيل

وفاء النيل في هذا اليوم الذي كان فيه قدماء المصريين يقدمون لك فتاة من أجمل فتياتهم، ويلبسونها أجمل الأثواب وأثمن الحلى، ويأتون بها إلى وسط مياهك الهادئة ويطرحونها ضحية في أمواجك اللطيفة، نأتي نحن أيضاً أبناء القرن العشرين بتقدماتنا وضحايانا. كنت إلهاً عظيماً، لأنك كجميع آلهة البشر قوة عجيبة من قوى الكون ومظهر غريب من مظاهر الأرض. فحسبوك إلهاً كسائر آلهتهم التي يعبدونها تحب النقمة وترتاح إلى سفك الدماء وتصبو إلى الذبائح والضحايا، لذلك كانوا يزفون إليك كل عام فتاة فتانة لتكون لك عروساً أيها الإله وابن الآلهة. .! هذا الوحش الضاري السفاح الذي يشرب الدماء والإثم كالماء الذي نسميه إنساناً قد صنعك أنت أيضاً كسائر الآلهة على صورته ومثاله. . . على نغمات العود والقيثارة والمزمار، وبين أناشيد الغناء وضجيج الاستحسان كانوا يأتون إليك بأميرة من أميراتهم في ربيع صباها وريعان جمالها يترقرق الحسن في وجنتيها ويتألف الجمال في خديها، ولا يخشون أن يطرحوها في أحشائك أنت إله الرحمة والصلاح! * * * كنت إلهاً عظيماً، ولا تزال إلهاً فخيماً بيدك الخير والشقاء، وبين شفتيك الموت والحياة، تضرب وتشفي، وتميت وتحيي.

لبثت الوفاء من السنين محجباً بحجب الأسرار ومستتراً بستر الألغاز، فاقتفى البشر آثارك في البيد والقفار، وتتبعوا مسيرك في الصحارى والرمال، وناجوك كما ناجوا كل إله سواك ليعلموا من أنت وما أنت وهم يحسبون الآن أنه قد كشفوا سرك وأوضحوا أمرك - أيخترقون أحشاء الأرض، أيشقون الأطواد الراسيات بعضها بجانب بعض؟ إنهم لمقصرون عن ذلك تقصيراً، ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً. تسير في عقيقك الفخيم العجيب، كما تسير الآلهة في طرقها، لا تلتفت يمنة ولا يسرة - تضحك من أبناء آدم وعلومهم وأفراحهم وأتراحهم وبخارهم وكهربائيتهم كما يضحك منهم جوبتير من نوافذ أولمبس. الإنسان ابن أمس أما أنت فكائن منذ الأزل وستبقى إلى الأبد! عبدوك لأن لك نفعاً يرجى وضراً يخشى كسواك من الآلهة الأخرى. عبدناك وقد عبدنا قبلك الفلك الدائر، والنجم السائر، والهواء والسحاب، والجو والضباب، والشموس والأقمار، والأحراج والأشجار، والطيور في أوكارها، والأسماك في بحارها والوحوش في أوجارها. عبدنا من قبلك الخنافس والثيران، والجبل والبركان والهوام والحشرات، والأصلال والحيات، وكل ما سبح في الهواء، وغاص في الماء، ودب في الغبراء. ولما لم تبق مادة في هذا الكون الذي لا تحيط به العقول، وليس إلى معرفة كنهة من وصول خلقنا من الوهم أكواناً جديدة وقوى عديدة واتخذناها إلهاً ومعبوداً، نخر لها ركعاً وسجوداً.

عندنا آلهة نصفها بشر ونصفها إنسان ومخلوقات رأسها إله وجسمها حيوان. ولما لم تكفنا كل هذه الآلهة وهي الكون بأسره والوهم بجملته عبدنا الرذائل والأرواح، والشياطين والأشباح، وعقدنا محالفات مع أبالسة جهنم لنقوى بها على سلطة الإله الأحد والفرد الصمد. فلماذا لا نعبدك أنت أيضاً أيها النيل السائر وسطنا بجلال يسحر العقول، وسر يدعو إلى الحيرة والذهول، الجاري أمامنا في منبسط الغبراء، كما تجري الآلهة في منبسط السماء والمجرة في عقيق الفضاء. * * * بيد أننا قد انتقلنا الآن من عبادة الأوثان، ووحدنا الآلهة والأديان وجعلنا إلهنا الأحد ديناراً، واتخذناه لديننا شعاراً، هذا النقد ذو الوجهين نظيرنا هو هو إلهنا ومعبودنا، نتبارى إلى مسجده، ونتجارى إلى معبده. ولكن أليست مياهك أنت يا إله الخير والصلاح ومصدر الحياة والفلاح هيا لتي حولت نضرة مصر نضاراً، وتربتها تبراً؛ ألست أنت الذي خلق هذا الإله الذي تعبده أمم الأرض طراً وتعفر وجهها أمامه ليلاً ونهاراً، فأنت أنت إذاً إله الآلهة! * * * في قلبك أسرار مصر وفي أحشائك ألغاز كهنتها المنافقين، وسحرتها المشعوذين، وفيك حديث ملوكها وغرائب أهرامها، وعجائب هياكلها، وفنون بنائها وضروب رسومها وسر موميائها.

دفن في جوفك مجد مصر المؤثل وشرفها الباذخ ومدينتها القديمة التي وقف العالم أمامها مدهوشاً والتي تحج إليها عظماء الأرض وأمراؤها وملوكها لتشاهد آثارها فلا ترى إلا أطلالاً دارسة وأنقاضاً متردمة وهياكل ينعب اليوم في خرائبها ومدافن تحوم الغربان حول مواضعها، يحدق العالم فيها ويستنطق آثارها ويستفسر أسرارها ويجلو عن وجهها الصبوح حجب الخفاء والإبهام، فلا تنطق بحرف ولا تبوح بكلمة بل تنظر إليه شاخصة شخوص أبي الهول في الفضاء وأصنام الآلهة في الصحراء! من يقدر في العالم أن يزيح اللثام عن محيا الآلهة أيزيس التي هي رمز الطبيعة وقد نقش على تمثالها أبلغ ما نقشته يد على حجر أنا هو ما كان وما هو كائن وما سيكون وليس لبشر أن يحسر لثام الإبهام عن محياي!. * * * في أحشائك أسرار هذا الكائن المجيب الذي نسميه بشراً والذي توارت أخباره طي الخفاء والكتمان. ألم تتبسم يا إله مصر يوم مست يد الإنسان الأول مياهك المقدسة. هلا فقهت حينئذ أن هذا الوحش الغريب الذي نفتش الآن عن حلقته المفقودة سوف يصير إلهاً نظيرك؟ شاد على ضفافك عروشاً باذخة ودولاً كبيرة ومدائن غناء، وبنى لنفسه صرحاً من المجد كان معجزة الأولين وأعجوبة الآخرين، ثم ضاقت أحشاؤك بمجده فجر جيوشه وجحافله واجتاح الأرض براً وبحراً ودوخ الممالك شرقاً وغرباً، ودوى العالم بحديث جرأته وتجاوب الجو بصدى

انتصاراته وبسط ظل مجده على أقاليم المعمور ونقش اسمه في صفيحة الكون بين أسماء الآلهة بجانب اسمك لأنه ابنك وثمرة أحشائك. * * * بيد أنه إله فانٍ كجميع مصنوعاته أما أنت يا من هو صنع الإلاهة (إيزيس) فإنك شطر منها كنت وكائن وسكون وليس لبشر أن يزيح لثام الإبهام عن محياك. تكونت من مياه الأرض التي تنعقد سحاباً في الجو وتنزل دموعاً كاللؤلؤ على فنن الجبال، وتتفجر بحاراً في جوف الأرض تجري إلى اليم من حيث ولدت. إنك منذ الأزل وسوف تبقى إلى الأبد وليس لملكك انقضاء - سيأتي زمن ينقطع فيه صفير البخار الذي يهز أمواجك، وتنطفئ شموس الكهربائية التي تنير وجهك، وتندك هذه البنايات الشامخة القائمة على ضفافك، وتصمت آلات الطرب وأناشيد الغناء على شواطئك، وينقرض هذا الإله الصغير الذي يطاول مجدك مع أهرامه وهياكله وبواخره وآلاته ومدنه. ومدينته ليست هي إلا ألاعيب صبيانة تزول كما يزول اللاعبون بها وتبقى أنت وحدك جارياً في طريقك الأبدية، كما تجري الآلهة في السماء والمجرة في عقيق الفضاء. * * * تعود حينئذ إلى جمالك الطبيعي الذي ورثته من إيزيس يوم ولدتك منذ بدء العالم تجري وسط هذا السكون الأبدي بعد أن تكون قد

قطعت هذا السد الصبياني الذي وضعه الإنسان حاجزاً في طريقك، كما يقطع الجبار خيطاً من القنب يشده طفل إلى ذراعيه. تجري بسكون وصمت، وتسير بجمال وجلال، كما أنت سائر الآن غير مبال بهذا الإله الصغير الذي يجهل سر الآلهة - لا تنبت على ضفافك شجرة معرفة الخير والشر لئلا يأكل منها ويحيا إلى الأبد فيملأ بلادك هياكل وآلهة وجوك لغطاً وصخباً وشواطئك إثماً وفجوراً كما هو فاعل الآن. تجري حينئذ بسكون وصمت، وتسير بجمال وجلال، لأنك جميل وكل ما حولك جميل من سهول منبسطة وجبال راسية وأشجار باسقة وزهور باسمة - تنظر السماء غليك وتنظر إليها وهي كأنها رقعة من زمرد مرصعة بالماس، تتلألأ دراريها وتتألق أنوارها. إذا كانت شجرة معرفة الخير والشر موجودة الآن على ضفافك فاجرفها إلى قلب البحر وأعماق الأوقيانس لأن هذا الإله الصغير الساحر الذي هو بجانبك، إذا صار إلهاً خالداً، أفسد الأرض والجو وشوش نظام إيزيس واستأثر بالقوة والسلطان وأقلق راحته وراحة الأكوان. * * * ذهب هذا الإله الصغير أمس إلى ضفافك ليعبدك كما كانت تعبدك أجداده وجاء بالسفينة التي كانت أسلافه تضع فيها عروسك لتقدمها ضحية لك لأنه حسبك كنفسه تحب الانتقام وتصبو إلى الضحايا. جاء إليك على نغمات العود والقيثارة والمزمار وأصوات الغناء وأناشيد السرور كما كان يجيء قديماً منذ ألوف من السنين. وإذا كان لم يأت بفتاة

يقدمها ضحية لك فذلك ليس لأنه قد عرفك الآن إلهاً تحب الخير وتصبو إلى الصلاح بل لأنه قد أصبح أشد حباً لذاته وأكثر استئثاراً من ذي قبل فحفظ الفتاة لنفسه - إنه غبي جاهل ولا يزال يصنع آلهة أخرى على صورته ومثاله! هذا وفاؤك أيها النيل فسر في طريقك الأبدية وسبيلك الخالد كما تسير الآلهة في السماء والمجرة في عقيق الفضاء. الدكتور سعادة وهذا نص الحجة التي تكتب سنوياً في الاحتفال بوفاء النيل بحضور فضيلة مفتي الديار المصرية والعلماء والأعيان: في ليلة كذا الموافق كذا سنة كذا قبطية في المجلس المنعقد بالصيوان المنصوب برأس الخليج الحاكمي بمصر المحروسة لدى. . . . بمحضر كل من. . . . وحضرات الأساتذة. . . . وحضرات. . . . من أعيان مصر وغيرهم من الفضلاء والوجوه قد تحقق وفاء النيل المبارك بأن بلغ في يوم كذا المرقوم السابق لهذه الليلة كذا ذراعاً وكذا قيراطاً من الذراع المعتاد بمقياس الروضة في القاهرة. وذلك من فيض الله وإحسانه وتكرمه، ورأفة بعباده، وقد انشرحت بذلك الصدور وطلب الجميع من المولى الغفور أن يجعل النفع به عاماً، ويديم السرور. وقد وجب الخراج على أرباب الأطيان وأداء الأموال والمرتبات لجهة الخزينة العامرة حكم المعتاد، والحمد لله على منته، والمرجو من فيض فضله أن يجرينا على عوائده وإحسانه، أنه ولي ذلك والقادر عليه، وفي يده مقادير كل شيء وكل شيء راجع إليه.

والنخل كالغيد الحسان تزينت ... ولبسن من أثمارهن قلايدا ظافر الحداد وللنخيل منظر مهيب ... تراع في جماله القلوب فوق الضفاف ظلها رهيب ... صفاً بصف زانها الترتيب من كل جبار عظيم القدر تحسبها مردة طوالا ... تحت مظلات زهت جمالا في النيل جاءت تبتغي اغتسالا ... سحرها النيل فلن تزالا واقفة هنا بفعل السحر إلياس فياض

1 - الجزيرة جزيرة مصر لا عدتك مسرة ... ولا زالت اللذات فيك اتصالها فكم فيك من شمس على غصن قامة ... يميت وحيي هجرها ووصالها شاعر عربي 2 - ليالي الجزيرة أنا في الحب صاحب المعجزات ... جئت للعاشقين بالايات كان أهل الغرام قلبي أمي ... ين حتى تلقنوا كلماتي فانا اليوم صاحب الوقف حقاً ... والمحبون شيعتي ودعاتي ضربت فيهم طبولي وسارت ... خافقات عليهم راياتي. . . فعلى العاشقين مني سلام ... جاء مثلا لسلام في الصلوات يعشق الغصن ذا الرشاقة قلبي ... ويحب الغزال ذا اللفتات يا حبيبي وأنت أي حبيب ... لا قضى الله بيننا بشتات إن يوماً تراك عيني فيه ... ذاك يوم مضاعف البركات أنت روحي وقد تملكت روحي ... وحياتي وقد سلبت حياتي مت شوقاً فأحيني بوصال ... أخبر الناس كيف طعم الممات * * * فرعى الله عهد مصر وحياً ... ما مضى لي بمصر من أوقات حبذا النيل والمراكب فيه ... مصعدات بنا ومنحدرات هات زدني من الحديث عن النيل ودعني من دجلة وفرات وليالي بالجزيرة والجيزة فيما اشتهيت من لذاتي

بين روض حكى ظهور الطواويس وجو حكى بطون البزاة حيث مجرى الخليج كالحية الرقطاء بين الرياض والجنات ونديم كما نحب ظريف ... وعلى كل ما نحب مواتي كل شيء أردته فهو فيه ... حسن الذات كامل الأدوات يا زماني الذي مضى يا زماني ... لك مني تواتر الزفرات بهاء الدين زهير محطة مصر لما أنشئت محطة القاهرة الكبرى اقترحت الحكومة المصرية على الشعراء نظم أبيات ترسم على جدران المحطة، وجعلت جائزة للذي يحرر قصب السبق، فنال الأفضلية فقيد الأدب المرحوم الشيخ نجيب الحداد. وإليك الأبيات التي يراها المسافر منقوشة على باب المحطة:

الأزبكية

يا حسن عصر بعباس العلى ابتسما ... حتى الحديد غدا ثغراً له وفما طرائق في ضواحي القطر تبلغنا ... أقصى البلاد ولم ننقل بها قدما مصر كصفحة قرطاس بتربتها ... غدا القطار عليها الخط والقلما أرض به كان خصب النيل منتثراً ... حتى أتاها قطار النار فانتظما لنا غنى عن قطار السحب منسجماً ... ولا غنى عن قطار النار مضطرما يجري بها الرزق في جسم البلاد كما ... يجري دم في عروق الجسم منتظما محطة هي قلب والخطوط بدت ... مثل الشرايين فيها والقطار دما مع السلامة يا من سار مرتحلاً ... عنا وأهلاً وسهلاً بالذي قدما نجيب الحداد الأزبكية كما وصفها المرحوم الشيخ حسن العطار شيخ الجامع الأزهر المتوفي سنة 1250 هجري. وأما بركة الأزبكية فهي مسكن الأمراء، وموطن الرؤساء، قد أحدقت بها البساتين الوارفة الظلال، العديمة المثال، فترى الخضرة في خلال تلك القصور المبيضة، كثياب سندس خضر على أثواب من فضة، يوقد بها كثير من السرج والشموع، فألانس بها غير مقطوع ولا ممنوع، وجمالها يدخل على القلب السرور، ويذهل العقل حتى كأنه من النشوة مخمور، ولطالما مضت لي بالمسرة فيها أيام وليالي، هن في سمط الأيام من يتيم اللآلي، وأنا أنظر إلى انطباع صورة البدر في وجناتها، وفيضان لجين نوره على حافاتها وساحاتها، والنسيم بأذيال ثوب مائها الفضي لعاب،

وقد سل على حافاتها من تلاعب الأمواج كل قرضاب، وقامت على منابر أدواحها، في ساحة أفراحها، مغردات الطيور، وجالبات السرور، ولذيذ العيش بها موصول، وفيها أقول: بالأزبكية طابت لي مسرات ... ولذ لي من بديع الأنس أوقات حيث المياه بها والفلك سابحة ... كأنها الزهر تحويها السماوات وقد أدير بها دور مشيدة ... كأنها لبدور الحسن هالات مدت عليها الروابي خضر سندسها ... وغردت في نواحيها حمامات والماء حين سرى رطب النسيم به ... وحل فيه من الأدواح زهرات كسابغات دروع فوقها نقط ... من فضة واحمرار الورد طعنات مراتع لظباء الترك ساحتها ... وللأسود بها فيهن غيضات وللنديم بها عيش تجدده ... أيد الزمان ولا تخشى جنايات يروح منها صريع العقل حين يرى ... على محاسنها دارت زجاجات وللرفاق بها جمع ومفترق ... لما غدت وهي للندمان حافات الشيخ حسن العطار الأوبرا وقرب حديقة الأزبكية قامت الأوبرا الخديوية، أنشاها المغفور له الخديوي إسماعيل باشا وأول رواية مثلت فيها رواية عائدة لفردي الشهير. وقد حضرتها الإمبراطورية أوجيني قرينة نابليون الثالث:

وصف مصر

وصف مصر في منتصف القرن الغابر زار مصر الكاتب الشهير فارس الشدياق وكتب عنها فصلين ضافيين نشرهما في كتابه الساق على الساق في ما هو الفارياق المطبوع في باريس سنة 1855م و1270 هجري على نفقة المرحوم رافائيل كحلا الدمشقي. وعنهما نلخص ما يأتي. وسيرى القارئ أن أكثر هذه الملاحظات لا يزال منطبقاً على أيامنا هذه. قال: مصر بلد الخير، ومعدن الفضل والكرم، أهلها ذوو لطف وأدب وإحسان إلى الغريب، وفي كلامهم من الرقة ما يغني الحزين عن التطريب. إذا حيوك فقد أحيوك، وإن سلموا عليك فقد سلموك. وإن زاروك زادوك شوقاً إلى رؤيتهم، وإن زرتهم فسحوا لك صدورهم فضلاً عن مجالسهم. أما علماؤها فإن مدحهم قد انتشر في الآفاق، وفات فخر من سواهم وفاق،

بهم من لين الجانب ورقة الطبع وخفض الجناح وبشاشة الوجه ما لا يمكن المبالغة في إطرائه. . . وكأن حسن الخلق ورقة الطبع أمر مركوز في جميع أهل مصر، فإن لعامتهم أيضاً مخالقة ومجاملة. وكلهم فصيح اللهجة بين الكلام السريع والجواب، حلو المفاكهة والمطارحة. وكلهم يحب السماع واللهو، وغناؤهم أشجى ما يكون، فلا يمكن لمن ألفه أن يطرب بغيره، وكذلك آلاتهم فإنها تكاد تنطق عن العازف بها. ولهم في ضرب العود طرق وفنون تكاد تكون من المغيبات، غير أني أذم من غنائهم شيئاً واحداً، وهو تكرير لفظة واحدة من بيت أو موال مراراً متعددة حتى تفقد السامع لذة معنى الكلام. ولكن أكثر ما يكون ذلك من المتطفلين على الفن. بعكس ذلك طريقة أهل تونس فإن غناءهم أشبه بالترتيل، وهم يزعمون أنها كانت طريقة العرب في الأندلس. . . أما دولة مصر إذ ذاك فإنها كانت في الذروة العليا من الأبهة والعز والفخر والكرم والمجد، فكان للمتسمين بخدمتها مرتب عظيم من المال والكسى والشحن مما لم يعهد في دولة غيرها. . . ومع عظم ما كان يكسبه التجار وأصحاب الحرف، وما يناله أهل الوظائف من الرزق العميم كانت الأسعار في مصر رخيصة جداً. فلهذا كنت ترى الناس قصريهم وعميهم مقبلين على الشغل واللهو معاً. فالبساتين غاصة بأهل الخلاعة والقصوف، ومحال القهوة مجمع للأحباب، والأعراس مسموع فيها الغناء وآلات الطرب من كل طرف. والرجال يخطرون بالخز والديباج، والنساء ينؤون بما عليهن من الحلي، والخيل

والبغال والحمير مسرجة ومكسوة بالحرير المزركش. . . والغريب يجد في مصر ملهى وسكناً، وينسى عندها أهلاً ووطناً. . . ومن خواصها أن أسواقها لا تشبه رجالها البتة. فإن لأهلها لطافة وظرافة، وأدباً وكياسة، وشمائل مرضية، وأخلاقاً زكية. وأسواقها عارية عن ذلك رأساً. ومن خواصها أيضاً أن البرنيطة فيها تنمى وتعظم. وتغلط وتضخم، وتتسع وتطول، وتعرض وتعمق. . . وكثيراً ما كنت أتعجب من ذلك وأقول: كيف أنمى هواء مصر هذه البرنيطة وقد طالما كانت في بلادها لا تساوي قارورة الفراش. ولا توازن ناقورة الفراش. وكيف كانت هناك كالترب، فأصبحت هنا كالتبر. . . يا هواء مصر يا نارها يا ماءها يا ترابها صيري طربوشي هذا برنيطة، وإن يكن أحسن منها عند الله والناس فلم يغن عني النداء شيئاً وبقي رأسي مطربشاً، وطرف دهري مطرفشاً. ومن خصائصها أيضاً أن البغات بها يستنسر والذباب يستقصر، والناقة تستبعر، والجحش يستمهر، والهر يستنمر، بشرط أن تكون هذه الحيوانات مجلوبة إليها من بلاد بعيدة.

نابليون بونابرت في مصر

فارس الشدياق نابليون بونابرت في مصر . . . وأتى النسر ينهب الأرض نهباً ... حوله قومه النسور ظماء يشتهي النيل أن يشيد عليه ... دولة عرضها الثرى والسماء حلمت رومة بها في الليالي ... ورآها القياصر الأقوياء فأتت مصر رسلهم تتوالى ... وترامت سودانها العلماء ولو استشهد الفرنسيس روما ... لا تتهم من رومة الأنباء قاهر العصر والممالك نابليون ولت قواده الكبراء جاء طيشاً وراح طيشاً ومن قبل أطاشت أناسها العلياء سكتت عنه يوم عيرها الأهرام لكن سكوتها استهزاء فهي توحي إليه إن تلك واتر ... لو فأين الجيوش أين اللواء - شوقي

2 - سوريا

2 - سوريا ما بين آسيا الصغرى للشمال، والفرات والبادية للرشق، وقسم من بلاد العرب للجنوب، وبحر الروم للغرب تمتد سورية سلسلة جبالها متدرجة من الغرب حتى تنتهي على بحر الروم، وممتدة من الشرق حتى تلامس نهر الفرات عند شماله ورمال صحراء الشام عند جنوبه. وهذه السلسلة التي تمتد بطولها من آسيا الصغرى حتى بلاد العرب، من طوروس الفاصل حتى الصحراء الجافة، تظهر للناظر بأغرب حركات الطبيعة وأجمل انتساقها، فهي تحاذي خليج إسكندرونة حتى إنطاكية، ثم تتجه نحو الجنوب الشرقي حتى بعلبك، ومن هنالك تتقطع بتلال متتابعة وتمد ذراعيها لتصافح بحر الروم بجبلي لبنان والانتي لبنان. ومن قرب الشاطئ تمد جناحاً كبيراً ينتهي بالكرمل الواقف عمودياً على صفحة الماء، ثم ترتفع على مشهد منه قمة الطور لتسود التلال العديدة الواقفة بعلو متدرج حتى تصل نقطة اختفائها على الأرض القاحلة، على الرمال المحرقة، على الصحراء. تلك هي سوريا وفيها حلب ودمشق وبيروت وأورشليم: المدائن الأربع التي تقف كالعواصم لما حولها، وعليها مدار النظر في مستقبل سوريا وحياتها. هذه البلاد العزيزة التي رأينا فيها نور الحياة وشاهدنا على قممها

نور الدستور لهي أكثر بلاد الدولة استعداداً للمستقبل المجيد، إذا كان أهلها كأرضها وقلوبهم كأنهارها. هذه البلاد التي تخط بجبليها الكبيرين أثلام الأودية العميقة وتطوق السهول لترسل إليها ماء الحياة، هذه البلاد تجمع بوحدتها من أنواع الأراضي ما لا تملكه البلدان العديدة بتفرقها على كل الأقاليم. . . . هنالك سهول الحر وهنا جبال القر، هنالك السفوح المعتدلة وهنا القمم الناطحة أطراف الغيوم. فأرضنا منبت كل ما يجتمع من الطبيعة في مملكة النبات، وكل ما تطلب الألفة الكاملة من أنواع العقول واستعداد الجسام. فإذا أوجدت لنا السهول رجال القناعة والعمل، دفعت لنا الجبال بسيلٍ عرم من أهل الفكر والأطماع، وقدمت لنا الأوساط جيشاً من بني القناعة وصفاء الذهن. لنا السنديان والكرم والأزهار. لنا القوة والفائدة والجمال. . . . هذه سورية التي نراها مملوءة من عناية الله لا نكاد نقلب صفحة من تاريخها ما لم نجد عليها لطخة سوداء نفثها الإنسان من مظالمه ومن أطماعه. هذه للبلاد الجميلة كانت منذ البدء أرض الميعاد لكل شعب، وكل شعب فيها يئن مظلوماً كأنه منفي غريب في وادي الدموع. كل عنصر كان يظهر على الأرض لم يتوار من صفحة الوجود، قبل مروره بسوريا، وإبقائه فيها أثراً شيقاً. كل قافلة من رجل الإنسانية تركت على أرض سوريا تائهاً، وكل معسكر غاز ترك بقية متمردة، وكل حاكم فيها أبقى عليها سلالة تطمح إلى

الحكم، وهكذا لا تمر أبصارنا هنيهة على أرضها ما لم نجد في أصغر أقاسمها خليط اليهود والعجم واليونان والروم والإفرنج والعرب. وفيهم الظالم والمظلوم، المستبد والملتجي، العناصر الباكية والعناصر الضاحكة، والأقوام التي تتعصب وتضرب والأقوام التي تتعصب وتحمل الويل. فيهم التركي والعربي البدوي، النصراني والدرزي، السني والمتوالي، السامري والكلبي واليزيدي وكل هذه العناصر تظهر للمفكر كمزيج هائل من الخير والشر، من التسامح والجور، من الإخلاص والكذب، من الشهامة والدناءة. من الإيمان بالله والكفر به. . . . كيفما قلبت النظر في هذه البلاد العزيزة، تجد آثار الجور وبقايا الحروب القومية الدينية، سرح أبصارك على شاطئ بحر الروم من صيدا إلى يافا إلى أورشليم، وقف قليلاً على أطلال اليهودية القديمة، واتبع حدود البلاد حتى بلاد العرب وآسيا الصغرى حتى برية الشام وأرض حلب، فلا تتجاوز أبصارك هذه الأماكن قبل أن تملئ من مشاهد الخرائب والأطلال في كل مكان دلالة على الجهل وترفع الإنسان عن أن يكون أخا الإنسان: لقد شاهدت صور أول بحارة تجارية وفتحت موانيها يد الاجتهاد فهدمتها أيد المظالم. وبنى اليونان مرافئ لوقاية المراكب فأقتها الحكومة البادئة في اللجج. وكانت بادية الشام جنات البلاد وذخر الخلفاء فأصبحت أرجاء يأوي إليها المتشردون منذ القرن السادس عشر حتى اليوم. صور وصيدا تلك الأماكن التي انبثقت منها تجارة العالم لم يبق من أهلها غير ذكر مظلم يكاد يكون الحلقة

المفقودة لتمدن الإنسانية. إنطاكية وحمص والرملة وكل هذه المدن القديمة قد أصبحت طللاً يبني فوقه المظلومون أكواخهم ويتوه على رماده بنو الفقر والشقاء. . . . من جعل هذه الأرجاء المملوءة بمبادئ الأمجاد عفراً تترفع عنه الأرجل ومتهدمات ينعق فيها البوم؟ من هوى بذلك المجد غير الحروب تلك الآفة الهائلة التي تتولد من الأطماع والتعصب والجهل، ولا تموت إلا على أطلال القصور أو فوق قبر ظالم أو عند الرماد الذي يغطي الشعوب المنقرضة. وأي زمان خلت فيه سوريا من طامع يستثمرها أو سفاح يقرد أبناءها بالسياط وبالسيف؟ من تحت حكم الجمهوريات الرومانية إلى حكم قناصلها إلى جور الإسكندر وأحكام بومباي، ومن تسلط السلجوقيين إلى عصا إمبراطرة الغرب الحديدية، ومن العرب إلى يد الإفرنج دفعت شعوب سوريا كالعبيد وسيقت كالنعاج، وهذه الأرض المزهرة المثمرة استثمرها اليونان وهدمها العرب واستعبدها الإفرنج. إنها لبلاد تضم كل قوى الحياة هذه البلاد التاعسة التي ساطتها كل العصور وداست على قلبها كل الشعوب ولم تزل تتنفس وفي عروقها دم وفي صدرها حياة. لا يكاد يوجد مكان كسوريا تتجلى فيه عظمة الخالق في بدائع خلقه وضلال الإنسان في آثار تعصبه وقساوته وضلاله. لا توجد بدلا حملت كسوريا استبداد الملوك العديدين وبربرية الجنود وعواصف الحروب. لقد تغير وجه سوريا مئة مرة منذ اثنتي عشر قرناً وتتابعت الحكومات العديدة على هذه البلاد، وكل واحدة منها تدفع أقوامها شوطاً بعيداً عمن

تقدمها في سبيل المظالم والاستبداد. وقد كانت بلادنا محطاً لإعصار الشعوب من كل جهة، من الشمال ومن الجنوب، من قفر الرمال ومن قفر الثلوج، من الحجاز ومن بلاد التتر وكل هؤلاء الأقوام لم يجتازوا سوريا إلا وأبقوا عليها أثر العنف ودلائل الدمار. . . (وبعد أن أتى الكاتب على ذكر الغزاة الفاتحين الذين اجتاحوا في سورية قال): وفي العاشر من تموز سنة 1324 جاءنا فاتح جديد بلا حملة ولا سيف. جاءتنا فتاة تركية بجناحها الذهبي وابتسامتها الخلابة لتجفف الدموع التي أسالها أبوها القاسي. ظهرت ابنة الترك لتضمد جراح سوريا وقد سبرت الأجيال قروحها إلى أقصاها. أو بالحري جاءتنا فتاة الحرية وهي ابنة العالم كله لا تنتسب لأمة ولا لشعب دون أخيه. جاءت محررة الإنسانية من قيودها ومطلقة للعناصر من أوهامها والأديان من تعصباتها. ملاك في شماله غصن السلام، في يمينه قبس النور نشاهد على شعاعه ما أخفته عنا ظلمات القرون، فلننظر إلى مجاهل أمراضنا نظرة الشجاع إلى جراحه، فإن الحرية لا تشفي ولكنها تعطي العليل حرية الشفاء. فليكس فارس

بيروت ولبنان

بيروت ولبنان وصلنا إلى بيروت وهي من المدن السورية الآهلة بالسكان، وقد عرفت عند الأقدمين باسم بيريت وأصبحت على عهد أغسطس مستعمرة رومانية وأطلق عليها الفاتح الروماني اسم جوليا السعيدة وقد ميزت بهذه الصفة، لخصب ضواحيها وفخامة موقعها، وجمال جوها العديم المثيل. والمدينة قائمة على رابية جميلة تنحدر شيئاً فشيئاً إلى البحر وقد قامت فيه بعض صخورها فرفعت عليها الحصون التركية. أما ميناؤها فهي كناية عن لسان أرض يمتد في البحر ويقي المراكب من الرياح الشرقية. وكل هذه البقعة وما حواليها من الروابي مكللة بخضرة جميلة، وترى شجر التوت قائماً على مدرجات من الأرض. وشجر الخروب والتين والدلب والبرتقال والرمان تلقي ظل أوراقها المختلفة الألوان على تلك الأنحاء. ووراءها الزيتون ذو الورق الرمادي يزركش هذا المنظر الأخضر البديع. وعلى مسافة ميل من المدينة انتصبت سلسلة جبال لبنان وفيها الأخاديد التي يضيع فيها النظر. وتتحدر في طياتها مجاري الماء إلى صور وصيدا أو إلى طرابلس واللاذقية. وقمم تلك الجبال المتفاوتة العلو تضيع في السحب البيضاء أو تسطع من انعكاس أشعة الشمس فتشبه جبال الألب وثلوجها الأبدية.

إن أرز لبنان أشهر أثر طبيعي في العالم. تناولت شهرته الدين والعلم والتاريخ: فورد ذكره مراراً في التوراة، وعمد الأنبياء في تشبيهاتهم واستعاراتهم إلى الأرز، ومن الأرز اتخذ سليمان الخشب لبناء هيكل الإله الأحد. . . الأرز أقدم شاهد على الأعصر الخوالي، بل إن هذه الشجرات تعرف التاريخ أحسن مما يعرف التاريخ نفسه ولو كان يمكنها الكلام لروت لنا أحاديث الحكومات والديانات والشعوب المنقرضة. وهل من هيكل أجمل من هذا الهيكل. .! وهل من مذبح أقرب من السماء من هذا المذبح؟ لقد أظلت تلك الأغصان الباسقة أجيالاً عديدة من الناس وكلها تسبح الله بأسماء مختلفة وتعبده في مظاهره الطبيعية. وأنا أيضاً صليت أمام الأرز. وكان الهواء يرتل بين الفنان ويتلاعب بشعري وينشف على جفوني دموع التأثر والأخبات. لامارتين

وقال لامارتين في غير هذا المكان من كتابه: لو أتيح لي أن أدبر حياتي كما أريد. لقضيت عمري صيفاً على قمم لبنان وشتاءً عند سفحه. وقد قال الصمة الشاعر العربي مثل ذلك في نجد: بنفسي تلك الأرض ما أطيب الربى ... وما أحسن المصطاف والمتربعا والمصطاف مكان الصيف والمتربع مكان الربيع. يا بني أمي إذا حضرت ... ساعتي والطب أسلمني فاجعلوا في الأرز مقبرتي ... وخذوا من ثلجه كفني داود عمون

ذكرى لبنان

ذكرى لبنان برزت تميس كخطرة النشوان ... هيفاء مخجلة غصون البان تستعبد الحر الأبي بمقلة ... دب الفتور بجفنها الوسنان. . لم أنس في قلبي صعود غرامها ... إذ نحن نصعد في ربى لبنان حيث الرياض يهز عطف غصونها ... شدو الطيور بأطرب الألحان لبنان تفعل بالحياة جنانه ... فعل الزلال بغلة الظمآن وترد غصن العيش بعد ذبوله ... غصناً يميد بفرعه الفينان فكأن لبناناً عروس إذا غدا ... يزهو بنشر غدائر الأغصان جبل سمت منه الفروع وأصله ... تحت البسيطة راسخ الأركان تهفو الغصون به النهار وفي الدجى ... تهفو عليه ذوائب النيران وترى النجوم على ذراه كأنها ... من فوقه درر على تيجان لله لبنان الذي هضباته ... ضحكت مغازلة مع الوديان يجري النسيم الغض بين رياضه ... مرخى الذيول معطر الأردان لبست ربى لبنان ثوباً أخضراً ... وزهت بحيث الحسن أحمر قان نثر الربيع بهن زهراً مؤنقاً ... يزري بنظم قلائد العقيان فبرزن من وشي الطبيعة بالحلى ... فكأنهن بحسنهن غوان وكأن صنيناً أطل مراقباً ... يرنو لهن بمقلة الغيران معروف الرصافي

شمالي لبنان

شمالي لبنان نقتطف عن رحلة الطبيب العالم الدكتور أمي الجميل إلى تلك الأنحاء الجميلة ما لا يضيق عنه نطاق هذه المجلة. قال: بعين الطبيب وبأذنه فحصت هذه البقعة الجميلة، وبمداد الوطنية أسطر رسالتي. وكنت أود أن أعطي موهبة الشعر ساعة من الزمن فقط، لأمثل جمال لبنان للناظر إليه من الباخرة، لأن للشاعر وحده أن يشخص لنا عظمة هذا الجبل الذي أقدامه في زرقة البحر، ورأسه في زرقة السماء، جروده مغطاة بمنطقة ناصعة البياض من ثلوج الشتاء، وسواحله تكسوها خضرة الليمون والبساتين. وبين ثلوج دائمة في الأعالي، وربيع دائم في الساحل، تلال مشجرة، ووديان مخصبة، وقرى زاهرة، وأديار عامرة. وفي كل مكان منه شعب نشيط عرف بسمو الذكاء، كما اشتهر بكرم الأخلاق وشرف المبادئ وصدق العقائد، في سورية كما في مصر وأوروبا وأمريكا. أي نوع من الجمال بخلت به الطبيعة على لبنان العزيز؟ وقد جعلت فيه أنواع الحيوانات البرية والبحرية، والنباتات والأزهار من الأرز حتى الليمون والبلح، والمناخات كلها من الحار إلى البارد، ومن الرطب إلى الجاف، والهواء النقي والمياه العذبة والمناظر العجيبة، فجروده بديعة للاصطياف، وسواحله عجيبة للإشتاء، وبين هذه وتلك مسافة ساعتين فقط. .! فما أكرم الطبيعة علينا وما أبخلنا عليها.

وقد كانت الذاكرة تنتقل بنا إلى الأيام التاريخية، أيام عز جبيل ومتاجرة الفينيقيين ومرور ملوك الآشوريين وأعمال الرومانيين أو الصليبيين إلخ إلخ عندما كنا نمر أمام النقط والأماكن التي فيها هذه الآثار العظيمة كنهر الكلب ونهر إبراهيم والمعاملتين والبلمند. . . . سلكنا طريق زغرتا، فمررنا بجانب حدائق طرابلس الغناء، ذات الدخل العظيم، ثم ارتقينا أعلى المدينة ووصلنا إلى لبنان. وكل هذه الأراضي ذات خصب عجيب لأنها جمعت كل ما يلزم للنبات: تربة جيدة وحرارة قوية ومياه غزيرة. وهناك ترى من أهم وأجمل ما يوجد من الزيتون. ولم نلبث أن وصلنا إلى زغرتا القائمة على تل لطيف تحيط بها سهول ووديان ذات تربة كلها خصب وآخر ما يمتد إليه الطرف جبال قريبة مشجرة وأعلاها يغطيه الثلج. وقد نشا من الزغرتا وبين رجال عظام منهم البطريرك جرجس عميره واسطفان الدويهي وجبرائيل الصهيوني ويوسف بك كرم الشهير. ويمر بهذه البلدة نهر رشعين ومياهه تفيض الخيرات على بساتين زغرتا وحدائقها. وبالاختصار إن الطبيعة دللت كثيراً أهالي زغرتا، وبعكس ما ينتجه الدلال ترى الزغرتاويين أبطالاً وأبناء أبطال وآباء أبطال: أمس واليوم وغداً. . . . . . أين وا حسرتاه! فرسان اللبنانيين؟ أين شجاعة رجالنا أين حماستهم في الحروب وشهرتهم في الوغى. أني إقدامهم على العظائم؟ إذا

أعلنت حرب على المملكة، أين أسود لبنان؟ وغن أراد عدو مهاجمة لبنان والاعتداء على امتيازه وحقوقه فمن هم حماته. ومن لا يذد عن حوضه بسلاحه ... يهدم ومن لا يتق الشتم يشتم فلو قام أبو سمرا أو الشنتيري من القبر فأين هم الأبطال الذين كانوا يقتحمون معهم أهوال دفاع شريف. فإنه لم يبق عندنا جماعة مدربة مستعدة إلا في زغرتا وفي بعض البقع الدرزية. . . . ولا يتوهمن السامع أن الشجاعة تنفي رقة الشعور، ولطف الحاسات فقلب الأب الحقيقي هو حقاً قلب أسد وقد تحققت ذلك أيضاً في زغرتا، فإن هؤلاء الرجال والنساء الذين يقال عنهم سواعد من حديد قلوب حديد رجال من حديد هم أحن الناس على الأولاد وأكثرهم عطفاً على المرضى. ولم أر في البلاد ذكر الموتى مكرماً ومحبوباً أكثر منه في هذه البقة حتى كدنا نقول إنهم يكرمون الموتى إلى درجة تقتل الأحياء. . . الدكتور أمي الجميل قالا لمتنبي أحب حمصاً إلى خناصرةٍ ... وكل نفس تحب محياها حيث التقى خدها وتفاح لب ... نان وثغري على حميّاها

صنين

صنين جبل يناجي في العلو إلهه ... وبعيد صوت نسيمه التلحينا يا حبذا النبع المبرد سفحه ... فكأنه الألماس سال مصونا سفح تدفق ماؤه مترقرقاً ... بين الحصى أكرم بذاك معينا فترى المياه خفيفة في جريها ... وحصى العقيق لدى المياه رزينا وهضابه الشماء تجثو هامها ... لخريره وتخال ذاك أنينا كم من مليك قد أقام بجيشه ... فجنى ثمار النصر منه مبينا ولكم عليل فيرباه قد شفى ... داء ألم به وكان دفينا وبقربه الآثار تنبئ أنه ... طحن النوائب كالدهور طحينا حيث المعابد للفينيقيين قد ... درست وزانت سفحه تزيينا والشمس مذ جنحت لمغربها بدت ... جاماً لغرف البحر جاء معينا بعث الضباب البحر يجري صاعداً ... جري المياه إليه حيناً حينا فكأن ذاك الحزن سهل أفيح ... من بعد ما كان السهول حزونا أكرم بهاتيك المناظر أنها ... حنت لها كل القلوب حنينا من كان يشتم الغلو فقل له ... حب المواطن قد دعوه دينا جاريت نظم ابن الحسين بوصفه ... وذكرت سيف الدولة المدفونا وإذا صعدت عليه أعلى قمة ... نلت الجنان وحزت عليينا - عيسى إسكندر المعلوف

طرابلس الشام

طرابلس الشام في سنة 1112 هجرية أي منذ مائتين وعشرين سنة تقريباً زار الشيخ عبد الغني النابلسي مدينة طرابلس. والشيخ عبد الغني هذا مفخرة من مفاخر دمشق الشام وواسطة العقد الذي ينتظم علماءها الأعلام: كان رحمه الله عالماً فقيهاً أصولياً صوفياً أديباً شاعراً وهو مشهور بالولاية وله قدم وذوق في علم الأحوال. وقد ألف في معظم فنون زمانه حتى فن الفلاحة والزراعة. فلا غرو إذا احتفل به أهل طرابلس الاحتفال اللائق بعلمه وفضله وشهرته التي ملأت الخافقين. وكان سبب زيارته طرابلس دعوة من حاكمها إذ ذاك أرسلان محمد باشا قصداً للنفع العام تولى أرسلان محمد باشا الحكم في طرابلس بعد سقوط أسرة آل سيفا الشهيرة في تاريخ سورية والتي حكمت في طرابلس وعكار وعرقه وما يلي ذلك من النواحي حقبة من الزمان ثم زال حكمها سنة 1068 هجرية. ولما وصل الشيخ النابلسي إلى طرابلس الشام ذهب تواً إلى دار السعادة وهو اسم لمنزل الأمير أرسلان باشا المشار إليه. لكن الأمير كان قد أعد لنزول الشيخ داراً أخرى وهي دارس حسين جلبي آغاة مينا طرابلس. والذي يسمع وصف هذه الدار يخال نفسه في عالم ألف ليلة وليلة وأنه يقرأ فصلاً من فصولها: فقد كانت تلك الدار. كجنة النعيم دار

القرار. تنتعش فيها الأرواح وتبتهج بها الأشباح، وهي محتوية على بيوت فاخرة. وأماكن كثيرة عامرة ذات مياه رائقة وأحواض دافقة. وفي ساحة هذه الدار بركة ماء طولها أربعة عشر ذراعاً. وعرضها سبعة أذرع وباعاً. وأمامها مقعدان. لطيفان وعليهما عرائش العنب. وبينهما فسقية صغيرة من الرخام الأبيض يتدفق ماؤها كأنها كأس بلور زانه الحبب. وبأرجاء هذه الدار بساتين وأشجار، ورياحين وأزهار ما بين ياسمين وسيسبان. وأشجار نارنج وفاغية وريحان. . وكنت منذ أيام سمعت مدير مينا طرابلس يساوم في أجرة دار يريد سكناها في المينا فلم يشأن أن يدفع سوى ثلاثة ريالات في الشهر. أما آغاة المينا منذ مائتين وعشرين سنة فقد كانت له - عدا الدار التي مر وصفها - دار أخرى في المينا لا تقل شيئاً عن تلك الدار: فقد كانت قصراً رفيعاً. ومكاناً مشرفاً بديعاً، وهو مطل على البحر المتلاطم بالأمواج. وشبيه في سموه بهاتيك الأبراج. وجهاته مطلقة. وجوانبه على هاتيك البساتين والمرج الأخضر مشرفة. وقوله: هاتيك الأبراج إشارة إلى أبراج أو مسالح سبعة مبنية على شاطئ البحر أمام طرابلس الشام. كانت تشحن بالسلاح والذخائر والمقاتلة لحماية الثغر من عدو مهاجم أو قرصان متلصص. وبين البرج والبرج ألف خطوة أو أكثر أو أقل. وهذه الأبراج من بناء الصليبيين. لكن المسلمين لما استولوا عليها كانوا يرممونها ويزيدون فيها ما يكسبها قوة ومناعة. وفي بعض هذه الأبراج محراب للصلاة، ومن ثمة ذهب بعضهم إلى أن هذه الأبراج مما شيده المسلمون. لكن التحقيق أنها من

آثار الصليبيين. ولم يبق منها اليوم سوى برجين ماثلين في الساحة التي اتخذت الآن محطة كبرى للسكة الحديدية التي تصل طرابلس بحمص وتتم بعد بضعة أشهر. وعما قريب يعفى أثر البرجين المذكورين من لوح الوجود كما عفي أثر سائر الأبراج التي اشتراها الأهلون من الحكومة وشادوا عليها وبأنقاضها مخازن وبيوتاً. لبث الشيخ النابلسي في طرابلس زهاء خمسة عشر يوماً. وقد اجتمع بفضلائها وعلمائها. وتجول في أرياضها ومتنزهاتها. وأحصى جوامعها وحماماتها. ولما ركب زورقاً للنزعة في البحر ورأى أشكال القوارب ومختلف هيائتها سأل عن كل واحد منها وسرد أسماءها. فكانت عشرين نوعاً. وكان إذا ذكر حماماً قال إن مسلخه كبير أو صغير وفيه حوض من رخام أو ليس فيه. وذهب بعض الفضلاء إلى أنه يريد بكلمة المسلخ المكان الذي فيه يسلخ المغتسلون ثيابهم أي ينزعونها. وقد أعاد هذه الكلمة مراراً. فكأنها كانت شائعة في زمانه. ولا نعلم إن كانت تستعمل اليوم في دمشق بهذا المعنى أو لا؟ وكانت تجري بين الشيخ النابلسي وبين علماء طرابلس وفقهائها مذكرات ومباحثات ومطارحات. وكان معظمها أو كلها يدور حول غرائب الأبحاث ونوادر المسائل النحوية والفقهية كمسائل الوقف والطلاق وغير ذلك. فكان كل منهم يذكر قولاً رآه في بعض الكتب لبعض الفقهاء ويطلب رأي النابلسي في المسألة أو هو يطلب رأيهم فيما أشكل عليهم أمره. ومما يستدعي الملاحظة أن علماء طرابلس أو علماء ذلك العصر كانوا

مفتونين بحب كتب العلم، يتنافسون باقتنائها ويتباهون بنوادرها. فكان الشيخ النابلسي كلما زار فاضلاً في داره عرض عليه ما عنده من نفائس الكتب ونوادر الأسفار العلمية والأدبية ويأخذ كل منهم في سرد ما يعلمه من هذا القبيل. ومما يلاحظ أيضاً أن مدة الخمسة عشر يوماً التي قضاها النابلسي في طرابلس - وكانت كلها مذاكرات ومباحثات - لم يجر فيها ذكر لمدارس التعليم - فلم يذكر تلميذ ولا مدرسة ولا للعائلة - فلم تذكر امرأة ولا تربية وبيت. ولا للصناعة والتجارة - فلم تذكر حرفة ولا بضاعة ولا حانوت. ولا للعادات والتقاليد - فلم يذكر شيء من أمور الأفراح والمآتم والحفلات الأخرى حتى كأن طرابلس في ذلك العصر ليس فيها تلميذ ولا امرأة ولا صانع ولا تاجر ولا شيء من مميزات كل هيئة اجتماعية أو أن الكلام في هذه الأشياء ليس مما يهتم به أو هو مما لا يحسن أن يدور الحديث بشأنه بين رجال الطبقة العالية. وأغرب من جميع ما ذكر أنه لم يجر حديث بينهم عن شؤون السياسة وأخبار الحكومة وأحوال الدولة، فلم تذكر أسلامبول ولا اسم السلطان ولا محاربة ولا معاهدة ولا وزارة ولا شيء من هذا القبيل. مع أن الطبقة التي يجالسها الزائر الكريم من أعلى طبقات طرابلس في العلم والوجاهة والنفوذ والاتصال بالمقامات العالية خارج طرابلس. فهم الحكام الإداريون. والقضاة والمفتون. فما أكبر الفرق بين زمننا هذا الذي يذكر فيه اسم الحكومة وشؤونها

ألوفاً من المرات كل يوم - وذلك الزمن الذي لم أسمعهم ذكروا فيه شيئاً من هذا القبيل مدة خمسة عشر يوماً. فسبحان مغير الأطوار. ومقلب الليل والنهار. المغربي قال الأديب صاحب الإمضاء يصف موقعاً بديعاً قامت في سفحه مدينة طرابلس الشام موطن أسرته. وتظهر البلد للمشرف من هذا الموقع وقد انسحبت وراءها البساتين وجرى من خلفها البحر ويرتجف وليس بينها وبين السماء في نظر العين إلا أن تتخطاه: يا صخرة حملتنا في ذرى جبل ... إليه معطف قلبي حين ينعطف إن شبهوا بربك قلباً قاسياً فأنا ... أراك قلباً بنا من حبه شغف كم في لياليك أنفاس يكاد بها ... قلبي - وقد ذكر الأحباب - يختطف آنست من مسها في مهجتي سحراً ... مس اللحاظ تحيينا وتنصرف

يافا

كأن أضواءها في القلب من طرب ... مواقع الأمل المظنون تنكشف تواقفت ومضت تهوي على عجل ... كالطير صف ولكن لم يكد يقف * * * أعليتنا الجو نستجلي محاسنه ... كأننا لسماء الله نزدلف نلوح في عين راءٍ نحو أطلعت ... : كهمزة رفعتها فوقها ألف نرى طرابلس تبدو كالحمامة في ... وكر لها أظهرته روضة أنف والبحر يحكي ذراعاً للسماء به ... تزحزح الأرض عنها فهو يرتجف مناظر ما اختلفنا في محاسنها ... والحسن أنواعه فيهن يختلف فيا طرابلس حيتك المنى بلداً ... بي من هوى الحسن فيه فوق ما أصف أحس بين ضلوعي كلما خطرت ... ذكراك أن إليك القلب ينحرف مصطفى صادق الرافعي يافا قال البهاء زهير ملغزاً في مدينة يافا بعيشك خبرني عن اسم مدينة ... يكون رباعياً إذا ما كتبته على أنه حرفان حين تقوله ... ومعناه حرف واحد أن قلبته

قلعة الشهباء

قلعة الشهباء هي قلعة شامخة الذرى أكب عليها الدهر وانزلها في الحضيض والسفال، فعادت أطلالاً بالية ورسوماً دارسة وخرباً صامتة، تحدث الورى بعظمة الجدود وتناجي النفوس بقدرة الخالق في الوجود والكائنات. عندها تقف الألوف طويلاً بين متنزه يلهو بالمادة، ومفكر يدرس في كتاب الوجود، ومعتبر يتأمل بمصير الأمور، ومهندس يشتغل بالمقادير والأشكال، وراوٍ محقق يستنطق الآثار ليسجلها ذكرى وعبرة للآتين والكل لا يجسر أن يلفظ كلمته الأخيرة في واضع أسسها ورافع أبراجها. على ممرها اللاحب جرت الغزاة غازياً إثر غازٍ، وتدفقت الأجناد فيلقاً تلو فيلق، متسابقين متزاحمين متدافعين بين مشتبك القنا وعلى صليل السيوف، وتحت مثار العثير، وعلى هتاف الظفر ونحيط الذعر والاندحار إلى. . . مجد النصر ومجد الفتح. إلى. . . هوة الأبدية ولهوات العدم. فوق حصونها الهائلة كم بكت من مقل وكم سالت من دماء، وكم تحققت من

آمال وكم خابت من أماني، وكم انحطت من عروش وكم انعقدت من تيجان، وكم استرسلت من نفوس إلى الحياة. . . إلى الخلود. حتى انهزم الوهم مطارداً أمام الحقيقة كما ينهزم الظلام أمام الصبح وتطارد الذرات أمام الرياح الزعازع. في ثنايا بقايا الرميمة تختبئ معلولات الدهور من بابل إلى آشور إلى مصر. ومن مكدونية إلى رومية إلى بزنطية. ومن العرب إلى الجراكسة إلى الأتراك. من قرون الظلمة إلى أعصر النور، وحب السؤدد وحب الأنانية دافع إلى تنازع البقاء. إلى تنازع الإثرة. والدنيا ملأى بالتناقض والشر والأباطيل. على أبوابها وحناياها نقشت الأجيال أسطراً من مثل المؤيد والمظفر والماجد والمرابط والعالي المولوي والأميري الشمسي وسيد الملوك وغياث الدنيا والدين ومحيي العدل في العالمين، إلى ألفاظ أخرى ألهوا بها المادة وعبدوا أميالها وقدسوا فظائعها فحرقوا لها بخور الضمائر والشواعر فيا للغرور ويا للجهالة. . .! من أنقاضها التي بعثرتها أيدي الأحداث وجدرانها التي داستها أرجل الأجيال وأنفاقها المنحنية تحت وطأة السنين صدى يتردد في فضائها ويتجاوب في أنحائها فيروي تلاطم الأهواء واصطدام المطامع وما جر احتكاكها والتحامها على الإنسان من الولايات والمصائب. . . هنا معقل شادته أيد طامعة في الخلود، وهنا هيكل تعبدت فيه نفوس فطرت على التدين، وهنا عقول غشى عليها الجهل فما أدركت من صفات الألوهية سوى العظمة والجلال، وهنا غمارات وقفت على هذه الخرائب وقوف الحياة على شفير الموت، وهنا حلقات من سلسلة الإنسان مرت أمامها كمرور الأيام الأبد القائم. عقب الجبلة الصمت العميق، وتلا الضجة السكينة البالغة، فلا يقلقها إلا حفيف أجنحة الطير ولا يزعجها غير وقع أرجل الحشرات، وفي هذا الليل الأبدي والجمود المطلق تبدو الحقيقة الأزلية جلية من خلال زخارف العصور، وتنجلي الحكمة السرمدية بسنائها المتألق الباهر من طيات طبقات الأجيال المتلاشية. لفتة إلى هذه الآثار، وقفة على هذه الأطلال، وتأمل معي ببقية عادية

طرقتها بوائق الدهور. فعندها تتضاءل الطبيعة دون العلة الأولى القادرة، ومن ورائها تبرز المبادئ السامية بروز الغزالة وهي تواسي البشرية المتألمة وتعزيها في بهرة ارتماضها وتعاستها وتمزق عن أبصارها الحجب الكثيفة المنسدلة على غايتها الأخيرة. فهي الآن كالجبار المسجى بأكفانه البيضاء، أو كالمستغرق في منامه المسرور بأحلامه، فلن تستيقظ من رقدتها الأبدية. وقد كانت كالحارس الموكل إليه الأمن والمناضل عن الملك والقطين. فباتت كالخطيب المنذر بالقضاء المنبئ عن المنقلب والزوال، فيعرف منه الحي العاقل حقارة البقاء ويتحقق كاذب الآمال. ومنها صوت الطبيعة يرن في أودية القلوب بما يحققه الاختبار أن المركب إلى انحلال وأن الحيوة كالظل والخير السائر، أو كالسفينة الجارية على الماء المتموج التي بعد مرورها لا تجد أثرها ولا خط حيزومها في الأمواج، أو كالطائر يطير في الجو فلا يبقى دليل على مسيره. يضرب الريح الخفيفة بقوادمه، وشق الهواء بشدة سرعته ورفرفة جناحيه ثم لا تجد لمروره من علامة، أو كسهم يرمى إلى الهدف فيخرق به الهواء ولوقته يعود إلى حاله حتى لا تعرف ممر السهم (سفر الحكمة 5: 9). . . . وقد خطت فوقها يد الأجيال بأحرف من نور (هو الحي الباقي). * * * من البائن المعروف أن القلعة الموصوفة قد كانت في طرف حلب ينحدر من جنوبها سور يحيط بالمدينة وينتهي طرفه إلى جانب القلة الشمالي وهذا السور كان يعرف بالرومي لبناء الروم له ويشتمل على 128 برجاً ضخماً بقي بعض أبرجة منها إلى أواخر القرن الماضي. فأمر جميل باشا المشهور بهدمها فهدمت عن آخرها. والقلعة الآن في أواسط المدينة وهي قائمة على ربوة صناعية راكمتها الأيدي، وشادت فوقها القلعة على شكل هرمي أو هيئة إهليلجية يبلغ قطر قمتها 50 متراً ومحيط قاعدتها 400 مترو تعلو عن سطوح المنازل المحاذية لها 60 متراً وعن سطح البحر 500 متر وفي أعلى القلعة منارة مسجدها الجامع ترتفع عن سطحها 40 متراً. وجوانب القلعة مسفوحة رصفها الملك الظاهر بالحجارة الهرقلية المنحوتة والآن

قد استولى الخراب على أكثرها. ومن حولها خندق واسع منقور في الصخر الأبيض يفصل القلعة عن الأبنية المجاورة لها ويغمر عند الحاجة بالمياه فيتعذر على الجيش المحاصر اجتيازه. وفي قمتها سور يحيط بها كأنه الإكليل يعصب هامها قامت فوقه بروج ومرام كان الجنود يرمون منها العدو المهاجم بأصناف القذائف والسهام وهذا السور قد تهدم فلم يبق منه إلا القليل قائماً ينبئ عن عظم شانه وضخامة بنيانه. وعلى جانبي القلعة الجنوبي والشمالي برجان هائلان مربعا الشكل شادها الأمير سيف الدين جكم ولما خربا جدد بنيانهما الملك الأشرف قانصوه الغوري في سنة 914 - 915 هجري وهما الآن أصلح حالاً من سائر أبنية القلعة التي استولى عليها الخراب والدمار إلى حد التعطيل الفاحش والتشويه الشنيع. ولا يصعد إلى هذه القلعة إلا من جهتها الجنوبية ومدخلها متقن الصنعة عجيب البنيان يجتازه الداخل على جسر ممتد إلى المدينة يستند على ست حنايا ضخمة مرتفعة. وعلى باب المدخل برجان على جانب من المناعة والضخامة وعليهما نقوش بديعة تزينهما وعلى طولها كتابة عربية من الخط النسخي المملوكي، تبهر النظر وتستلفت الخواطر، يستفاد منها أن السلطان خليل بن قلاوون أمر بعمارة هذا المدخل بعد إهماله وإشرافه على الدثور في سنة 690 هجري (1291م). ولهذا المدخل عدة أبواب يتخللها دركاوات بآزاج معقودة وحنايا منضودة، وكان لكل باب اسفسلار ونقيب وأماكن لجلوس الجند وأرباب الدولة، وعلى هذه الأبواب نقوش وكتابات عديدة جميلة تخلب الألباب ومن حولها شرفات ومرام لآلات الحرب وأدوات الكفاح تزيد هذا المدخل العجيب رونقاً وجمالاً. وإذا تجاوز الداخل باب المدخل صاعداً إلى القلعة وماراً بالأبواب والدركاوات الواسعة المعابر كثيرة الزوايا المستقيمة، ينتهي إلى الباب الأوسط فيرى على طرفيه ثعابين طويلين يلتفان على بعضهما وفي أعلاه كتابة جميلة مآلها أن الملك الظاهر

غياث الدين غازي هو الذي حصن القلعة وشاد على مدخلها البرجين السابق ذكرهما وجعل له ثلاثة أبواب من حديد. ولما ينتهي الداخل إلى الباب الأخير يرى على جانبيه أسدين عظيمين ناتئين، وإلى الجانب الأيمن مزار يعزى إلى الخضر وكان ينسب للخليل (إبراهيم) يقصده بعض المسلمين، بالنذور والهدايا. ومتى بلغ الداخل قمة القلعة يبدو له صحتها مركوماً بالأتربة والحجارة الضخمة ويرى أبرجة متهدمة وحنايا متشعثة وشرفات متداعية، أفنى عليها الدهر فدرست محاسنها وتعطلت زخارفها. وفي أواسط قمتها باب الجامع وعليه أنواع الوشي والنقوش العربية. وعلى جانبها الجنوبي دار العز أو دار الشخوص لكثرة ما كان فيها من التماثيل والزخارف وفي صحنها ركام من القنابر القديمة ومنها يدخل إلى ناد للملك الظاهر طوله الشمالي 25 متراً في عرض 7 أمتار وطوله الجنوبي 25 متراً في عرض 15 متراً، وفي صدره نافذة كبيرة مستطيلة مربعة تطل على المدخل والمدينة وإطارها تطاريفها الخارجية دقيقة الصنعة محكمة النقوش يروق العين منظرها. وفي أواسط قمة القلعة منحدر مسدود الآن كان ينزل منه إلى أنفاقها السفلية حيث كنيسة النصارى باقٍ بعض رسومها ماثلة من مثل حنية الكاتدرا وأعمدة وحنايا أخرى. وإلى جانبها الغربي مخازن حديثة البناء تحوي أصناف الذخائر والأدوات الحربية وإلى جانبها بئر الماء المعروفة بالساتور كان ينحدر إليها ب 125 درجة وعمقها الآن 47 متراً. وذلك كله لا يناسب المدخل في شيء من حسنه ونقوشه وتصاويره وكتاباته المختلفة. ومن قمة القلعة تنكشف لك المدينة مركومة بعضها فوق بعض ومن أعلى منارتها ينبسط نظرك إلى مدى بعيد تجد منه منظراً بديعاً فاتناً يترك في النفس أثراً من السرور والانبساط وترى ما يكتنف حلب من الغياض والرياض الخضراء والسهول الخصيبة الواسعة وما يحيط بها من الربى والتلال إحاطة الهالة بالقمر أو السوار بالمعصم كأنها الحصون والمعاقل تحصنها وترد عنها الغارات العشواء. * * *

ذهب غالب مؤرخي العرب إلى أن أول من بنى القلعة سلوقوس الأول الملقب بنيقاطور أحد قواد الإسكندر الذي ملك على سورية سنة 301 قبل المسيح. وارتأى أهل التحقيق أن بناتها الحثيون الذين استولوا على سورية الشمالية في القرن السابع عشر (ٌ. م) واستندوا إلى ما خلفه هذا الشعب القوي من الكتابات والتماثيل والرسوم العديدة في هذه النواحي، واستدلوا فيما استدلوا عليه بما بين هذه القلعة وبين قلاع حمص وحماه وحارم من التشابه العظيم. والحق يقال إن سلوقوس أصلح القلعة فقط، لما رمم بحلب بعض الترميمات، وبنى فيها أبنية جديدة وأطلق عليها اسم بيريا أو باروا. ولما فتحها كسرى أنوشروان وشاد سورها بنة في القلعة مواضع. وعندما فتح ابن عبيدة حلب كانت قلعتها مرممة الأسوار بسبب زلزلة أصابتها قبل الفتح فأخربت أسوار البلد وقلعتها ولم يكن ترميمها محكماً فنقض بعضه وبناه. وعنى بها بنو أمية وبنو العباس فتركوا فيها آثاراً ولما هاجم نيقفور ملك الروم حلب سنة 351 هجري امتنعت القلعة عليه وكان قد اعتصم بها جماعة من العلويين والهاشميين فحمتهم، ولم يكن لها يومئذ سور عامر فكانوا يتقون سهام الروم بالأكف والبرادع. ولما تولاها الأمراء الحمدانيون بنى فيها سيف الدولة وابنه سعد الدولة مواضع وكذلك شاد بها بنو دمرداش دوراً وجددوا أسوارها وكذلك عني عماد الدين آق سنقر وولده عماد الدين زنكي بتحصينها وكذلك بنى بها طغتكين برجاً من جنوبها وخزناً للذخائر وكذلك شاد فيها نور الدين زنكي أبنية كثيرة. ولما ملكها الملك العادل سيف الدين الأيوبي بنى بها برجاً وداراً لولده فلك الدين. ولما ملكها الملك الظاهر غياث الدين غازي حصنها وبنى فيها مصنعاً للماء ومخازن للغلات وسفح تلها ورصفه بالحجر الهرقلي وأعلى بابها وجعل له جسراً ممتداً منه إلى البلد، وجعل للقلعة ثلاثة أبواب من حديد وبنى فيها داراً عرفت بدار العز قامت على دار للملك نور الدين زنكي كانت تسمى دار الذهب ولما احترقت سنة 609 هجري جدد بنيانها وسماها دار الشخوص لكثرة ما كان من زخارفها.

وفي سنة 622 هجري (1225م) تهدم منها عشرة أبراج مع بدنياتها فاهتم الأتابك شهاب الدين طغرلبك بعمارتها من أسفل الخندق إلى قمتها. وفي سنة 628 هجري (1230م) هاجمها التتر وهدموا أسوارها واستلبوا ما كان بها من الذخائر والمجانيق. وفي سنة 659 هجري (1260م) أعادوا الكرة إليها فأخربوها خراباً شنيعاً، وأحرقوا المقامين فيها حتى لم يبق فيها من مكان للسكنى كما قال ابن الخطيب. واستمرت القلعة خراباً إلى أن جدد عمارتها الملك الأشرف خليل بن قلاوون على ما سبق ذكره وذلك في سنة 690 هجري (1291م) ولما فتح تمرلنك حلب في سنة 803 هجري (1400م) استباح القلعة نهباً وحرقاً فاستمرت أيضاً خراباً إلى أن جاء الأمير سيف الدين جكم نائباً إليها من قبل السلطان فرج بن برقوق في سنة 807 هجري (1404 م) فأمر ببنائها وألزم الناس بالعمل فيها حتى عمل بنفسه واستعملوا جوه الناس، بحيث كان الأمراء يحملون الأحجار على متونهم. وبنى البرجين اللذين على باب القلعة وبنى على سطحهما القصر المائل الآن وذلك سنة 809 هجري وبنى البرجين اللذين في سفح القلعة من جنوبها وشماليها (وقد سبق وصفهما). ولما تمرد علي باشا جان بولاد على الدولة العلية سار مراد باشا لقتاله وإخضاعه في سنة 1017 هجري (1607م) وتبع آثاره وحاصر المدينة فافتتحها وأقام المنجنيقات على القلعة وراسل رؤساء المحافظين عليها واعداً إياهم بمناصب وخلع، فاغتروا بها وسلموه القلعة، فقتلهم عن آخرهم وفر جان بولاد إلى الأستانة طائعاً وقبل سنة 351 هجري (962م) لم يكن سورها محكماً ولم يكن مقام الملوم بها فاهتم بعد ذلك من تولاها من الملوك والأمراء بعمارتها وتحصينها وعصي فيها فتح القلعة على مولاه مرتضى الدولة لؤلؤ ثم سلمها إلى نواب حلب، فعصي فيها أيضاً عزيز الدول فاتك على الحاكم إلى أن قتل بها فصار الملك الظاهر وولده المستنصر يوليان والياً بالقلعة وآخر بالمدنية خوفاً من أن يجري ما جرى من عزيز الدولة. فلما ملك بنو دمرداش حلب سكنوا في القلعة وجرى مجراهم من جاء بعدهم من الملوك والأمراء. ووصفها رهط من أهل الرحل والجغرافية من مثل ابن حوقل الذي اشتهر سنة

367 هجري (977م) فقال إنها غير طائلة ولا حسنة العمار وشمس الدين المقدسي نحو سنة 375 هجري (685م) فذكر منها، سعتها ومناعتها وما فيها من خزائن السلطان وابن الطيب السرخسي في رحلته سنة 271 هجري (884م) فذكر سورها وبئرها التي ينزل إليها في 130 مرقاة ودير النصارى فيها وابن بطلان البغدادي في سفرته سنة 440 هجري (1048م) فذكر منها مسجدها وكنيستها إلى غير هؤلاء ممن أجمعوا فيها على ما قاله الرحالة ابن جبير والمسفار ابن بطوطة من امتناعها وارتفاعها ومطاولتها الأيام والأعوام، وقد قال فيها الخالدي شاعر سيف الدولة: وخرقاء قد قامت على من يرومها ... بمرقبها العالي وجانبها الصعب يجر عليها الجو جيب غمامة ... ويلبسها عقداً بأنجمه الشهب إذا ما سرى برق بدت من خلاله ... كما لاحت العذراء من خلل السحب فكم من جنود قد أماتت بغصة ... وذي سطوات قد أبانت على عقب روى بيشوف الجرماني في تاريخه عن أحد حاخامي اليهود قال: إنه رأى في القلعة كتابة عبرية مفادها (أنا يواب بن سرويا أخذت هذه القلعة). . . ويواب هذا تولى قيادة جيوش داود في سنة 1055 ق. م فإذا صحت هذه الرواية كانت هذه الكتابة أكثر قدمية من سائر كتابات القلعة، ورجحت ما قاله المحققون من أنها من بنايات الحثيين. وأما الكتابات الباقية فهي عربية لا تتعدى القرن السبع للهجرة. وقد كان يتولى حراسة القلعة نفر من الشعب ويعرفون حتى الآن ببيت القلعجي إلى أن انقرضت وجاقات الإنجكارية وانتظمت أحوال العسكرية، فتولت المحافظة عليها إلى أن عاد أمرها في هذه السنة إلى رجال الملكية. وقد تعاقبت عليها الرجوف والزلازل مرات عديدة يطول إيرادها وآخرها في سنة 1822 وسنة 1872، فتشعثت أسوارها وتهدمت أبراجها، وأصبحت أخربة دارسة وأطلالا بالية. وقد أهمل أمرها من عهد بعيد فعادت إلى ما تشاهد عليه الآن مما سبق وصفه في هذه المقالة فسبحان من بيده تصريف الأمور وإليه المصير. القس جرجس منش

وصف دمشق

وصف دمشق جاء ذكر الشيخ النابلسي ص 280 وهذه أبيات مختارة من قصيدته في وصف الشام: إن سامك الخطب المهول فاقلقا ... فأنزل بأرض الشام وأسكن جلقا بلد سمت بين البلاد محاسناً ... ونمت بهاء واستزادت رونقا إن تعشقوا وطناً فذي أولى بكم ... دون البلاد بأن تحب وتعشقا خير الأناس أناسها يرعون أنواع الوداد ويحفظون الموثقا طابت هواء للنفوس وماؤها ... عذب زلال سائغ لمن استقى يا حسن واديها وطيب شميعه ... قد فاح عرف الزهر فيه وعبقا وتراسلت أطياره بين الربى ... سحرً فهيجت الفؤاد الشيقا كيف اتجهت يخر نحوك ماؤه ... وإليك يركع كل غصن أورقا وتلاعبت فرسانها وتراكضت ... ما بينها تعلو الجياد السبقا ضحكت أزاهرها على أغصانها ... فأتى النسيم يميلهن وصفقا سقيت دمشق الشام صوب غمامة ... أشقى على غيطانها فتدفقا كم نزهة للعين فيها قد زهت ... وسرت على طرف الهموم فأطرقا لم ترض عيني غيرها من منظر ... ولذا ترى قلبي بها متعلقا هي منشأي لا حاجر وطويلع ... ومحل أنسي لا الغوير ولا النقا وطني وأول ما وطئت بها الثرى ... لا زال عيشي عن حماها مطلقا لذ يا فؤاد بما بها من معشر ... إن سامك الخطب المهول فأقلقا الشيخ عبد الغني النابلسي

الجامع الأموي

الجامع الأموي هو من أشهر جوامع الإسلام حسناً وإتقان بناء وغرابة صنعة واحتفال تنميق وتزيين، وشهرته المتعارفة في ذلك تغني عن استغراق الوصف فيه. انتدب لبنائه الوليد بن عبد الملك ووجه إلى ملك الروم بالقسطنطينية يأمره بإشخاص اثني عشرا ألفاً من الصناع من بلاده وتقدم إليه بالوعيد في ذلك إن توقف عنه، فامتثل أمره مذعناً بعد مراسلة جرت بينهما في ذلك مما هو مذكور في كتبا لتواريخ فشرع في بنائه وبلغت الغاية في

التأنق فيه وأنزلت جدره كلها بفصوص من الذب المعروف بالفسيفساء وخلطت بها أنواع من الأصبغة الغريبة قد مثلت أشجاراً وفرعت أغصاناً منظومة بالفصوص ببدايع الصنعة الأنيقة المعجزة وصف كل واصف. فجاء يغشي العيون وميضاً وبصيصاً. وكان مبلغ النفقة فيه أحد عشر ألف دينار ومئتي ألف دينار. ذرعه في الطول من الشرق إلى الغرب مئتا ألف خطوة وهما ثلاث مئة ذراع. وذرعه في السعة من القبلة إلى الشمال مئة خطوة وخمس وثلاثون خطوة وهي مئتا ذراع. فيكون تكسيره من المراجع الغربية أربعة وعشرين مرجعاً. وبلاطاته المتصلة بالقبلة ثلاث مستطيلة من الشرق إلى الغرب، سعة كل بلاطة منها ثماني عشرة خطوة، والخطوة ذراع ونصف. وقد قامت على ثمانية وستين عموداً منها أربع وخمسون سارية وثماني أرجل جصية تتخللها. واثنتان مرخمة ملصقة بالجدار الذي يلي الصحن وأربع أرجل مرخمة أبدع ترخيم مرصعة بفصوص من الرخام ملونة. وأعظم ما في هذا الجامع المبارك قبة الرصاص المتصلة بالمحراب وهي عظيمة الاستدارة قد استقل بها هيكل عظيم هو غارب لها يتصل من المحراب إلى الصحن فإذا استقبلتها أبصرت منظراً رائعاً ومرأى هائلاً، يشبهه الناس بنسر طائر كأن القبة رأسه والغارب جؤجؤه، ونصف جدار البلاد على يمين والنصف الثاني على شمال جناحيه، وسعة هذا الغراب من جهة الصحن ثلاثون خطوة فهم يعرفون هذا الموضع من الجامع بالنسر لهذا التشبيه الواقع عليه. ومن أي جهة استقبلت البلد ترى القبة في الهواء

منيفة على كل علو كأنها معلقة في الجو. والجامع مائل إلى الجهة الشمالية من البلد وعدد شمسياته الزجاجية المذهبة الملونة أربع وسبعون. والبلاد المتصل بالصحن المحيط بالبلاطات من ثلاث جهات على أعمدة وعلى تلك الأعمدة أبواب مقوسة تقلها أعمدة صغار تطيف بالصحن كله. ومنظر هذا الصحن من أجمل المناظر وأحسنها. وفيه مجتمع أهل البلد وهو متفرجهم ومتنزههم كل عشية تراهم فيه ذاهبين وراجعين من شرق إلى غرب من باب جيرون إلى باب البريد. فمنهم من يتحدث مع صاحبه ومنهم من يقرا. ولا يزالون على هذه الحال من ذهاب ورجوع إلى انقضاء صلاة العشاء الآخرة ثم ينصرفون. وفي الصحن ثلاث قباب إحداها في الجانب الغربي منه وهي أكبرها وهي قائمة على ثمانية أعمدة من الرخام مستطيلة كالبرج مزخرفة بالفصوص والأصبغة الملونة كأنها الروضة حسناً وعليها قبة رصاص كأنها التنور العظيم الاستدارة، يقال إنها كانت مخزناً لمال الجامع، وله مال عظيم من خراجات ومستغلات تنيف على ما ذكر لنا على الثمانية آلاف دينار صورية في السنة وهي خمسة عشر ألف درهم مؤمنية أو نحوها. وقبة أخرى صغيرة في وسط الصحن مجوفة مثمنة من رخام قد ألصق أبدع إلصاق قائمة على أربعة أعمدة صغار من الرخام وتحتها شباك حديد مستدير وفي وسطه أنبوب من الصفر يرمي الماء علواً فيرتفع وينثني كأنه قضيب من لجين يشره الناس لوضع أفواههم فيه للشرب استظرافاً واستحساناً، ويسمونه قفص الماء. والقبة الثالثة في الجانب الشرقي قائمة على ثمانية أعمدة على هيئة القبة الكبيرة.

وكان هذا الجامع المبارك ظاهراً وباطناً منزلاً كله بالفصوص المذهبة مزخرفاً بأبدع زخاريف البناء المعجز الصنعة، فأدركه الحريق مرتين، فتهدم وجدد وذهب أكثر رخامه فاستحال رونقه، وأسلم ما فيه اليوم قبلته مع الثلاث قباب المتصلة بها. ومحرابه من أعجب المحاريب الإسلامية حسناً وغرابة صنعة، يتقد ذهباً كلها وقد قامت في وسطه محاريب صغار متصلة بجدارة تحفها سوبريات مفتولات فتل الإسورة كأنها مخروطة لم ير شيء أجمل منها، وبعضها أحمر كأنها مرجان. فشأن قبلة هذا الجامع المبارك مع ما يتصل بها من قبابه الثلاث وإشراق شمسياته المذهبة الملونة عليه واتصال شعاع الشمس بها وانعكاسه إلى كل لون منها كله عظيم لا يلحق وصف ولا تبلغ العبارة بعض ما يتصوره الخاطر. وفي الركن الشرقي من المقصورة الحديثة في المحراب خزانة كبيرة فيها مصحف من مصاحف عثمان (رض) وهو الذي وجه به إلى الشام. وتفتح الخزانة كل يوم إثر الصلاة فيتبرك الناس بلمسه وتقبيله. وعن يمين الخارج من باب جيرون، في جدار البلاط الذي أمامه، غرفة لها هيئة طاق كبير مستدير فيه طيقان من صفر قد فتحت أبواباً صغاراً على عدد ساعات النهار، ودبرت تدبيراً هندسياً فعند انقضاء ساعة من النهار تسقط صنجتان من صفر من فمي بازيين مصورين من صفر، قائمين على طاستين من صفر تحت كل واحد منهما. أحدهما تحت أول باب من تلك الأبواب والثاني تحت آخرها، والطاستان مثقوبتان فعند وقوع البندقتين فيهما تعودان داخل الجدار إلى الغرفة وتبصر البازيين يمدان

عنقيهما بالبندقتين إلى الطاستين ويقذفانهما بسرعة بتدير عجيب تتخيله الأوهام سحراً، وعند وقوع البندقتين في الطاستين يسمع لهما دوي وينغلق الباب الذي هو لتلك الساعة للحين بلوح من الصفر. ولا يزال كذلك عند كل انقضاء ساعة من النهار حتى تنغلق الأبواب كلها وتنقضي الساعات ثم تعود إلى حالها الأول. ولها بالليل تدبير آخر، وذلك في أن القوس المنعطف على تلك الطيقان المذكورة اثنتي عشر دائرة من النحاس مخرمة، وتعترض في كل دائرة زجاجة من داخل الجدار، وخلف الزجاجة مصباح يدور به الماء على ترتيب مقدار الساعة فإذا انقضت عم الزجاجة ضوء المصباح وأفاض على الدائرة شعاعاً فلاحت للأبصار دائرة محمرة ثم انتقل ذلك إلى الأخرى حتى تنقضي ساعات الليل وتحمر الدوائر كلها. وقد وكل بها في الغرفة متفقد لحالها درب بشأنها وانتقالها يعيد فتح الأبواب وصرف الصنج إلى موضعها وهي التي يسميها الناس الميقاتة. . . ابن جبير، زار دمشق سنة 580 هجري قال النابغة الذبياني يمدح النعمان ولا أرى فاعلاً في الناس يشبهه ... ولا أحاشي من الأقوام من أحد إلا سليمان إذ قال الإله له ... قم في البرية فأحددها عن الفند وخيس الجن أني قد أذنت لهم ... يبنون تدمر بالصفاح والعمد ولا أحاشي: ولا أستثني -وأحددها عن الفند: صنها عن الظلم -خيس: ذلل -الصفاح: حجارة عراض رقيقة -العمد: السواري من الرخام وهي الأساطين وأحدها أسطوانة

ملكة الصحراء

ملكة الصحراء إذا سرت في بادية الشام وقاربت الوصول إلى حاشية منها، تظهر لك عن بعد شاسع من خلال الحجب الهوائية الشفافة نقطة سوداء في الشمال الغربي من حمص وحماه، فتنتعش نفسك وتشعر بقرب آثار الحياة، بعد أن تكون سرت أياماً في ظل الموت محاطاً بسكون الطبيعة الراقدة. ولا تكاد تتقدم قليلاً إلى الأمام حتى تنقشع الحجب شيئاً فتتسع تلك النقطة وتنجلي بعد حين عن دائرة خضراء غير منتظمة، ولا تزال الدائرة آخذة بالوضوح والانتشار ذات اليمين وذات اليسار كلما

أسرعت الخطى، إلى أن تشرف عليها وتقف برهة مستنشقاً الصعداء فإذا بك أمام أثر من آثار الجبابرة الذين كان يتغنى بمدحهم شعراء اليونان. ترى جبلاً منتصباً على طرق البادية كسور منيع أقامته يد الطبيعة هناك لصد الغارات عن مملكة زنوبيا يتدفق من جوفه نبع غزير تنساب مياهه الكبريتية في بقعة خضراء منبسطة أمام الجبل بين بساتين غضة حافلة بأشجار الفاكهة على اختلاف أنواعها وحقول واسعة زرعت بأنواع الحبوب ومروج خضراء تتخللها وهي مرعى خصيب تغشاه قطعان الماعز والضان. تقف وتسرح النظر حيناً في تلك البقعة الجميلة، فتتمثل لك الطبيعة ضاحكة باسمة الثغر فتؤنس وحشتك وتنفس كربتك وتنسيك هذه الابتسامة اللطيفة من عروس البادية كلما لقيته قبل وصولك إليها ومصافحتك لها من عبوسة واكفهرار في باديتها القاحلة الجرداء. وفي وسط هذه البقعة الجميلة ركام من الخرابات، تتخللها أبنية فخيمة متهدمة آية في الإبداع وأعمدة ضخمة متناسقة تناطح السحب، ممتدة على مسافة بعيدة كصف من الجبابرة أقامتهم ملكة المشرق حراساً على باب باديتها أو كأنما هي أيدٍ مدتها إليك ملكة الصحراء من وراء حجب التاريخ لتصافح ضيفاً كريماً جاء يحييها في مقر ملكها. فتقف حائراً مبهوتاً وترى مجالي العظمة والجلال بادية على تلك الآثار الضخمة. فتدرك أنها آثار قوة هائلة حلت في تلك البقعة من البادية ردحاً من الدهر، فدانت لها الممالك وانقادت إليها الشعوب. تلك آثار تدمر موطن زنوبيا، ملكة المشرق وعدوة الرومان، ومنقذة سوريا من رق العبودية،. . . وأهم آثار تدمر واقعة في سفح ربوة ممتدة

من الشمال الشرقي إلى الشمال الغربي على مسافة ثلاثة فراسخ، وهي مؤلفة من آثار هيكل عظيم جعله العرب في القرون الوسطى قلعة حصينة، وإلى جوانبها كثير من آثار الهياكل والقصور الفخيمة، بينها أنقاض من عهدين مختلفين: بعضها سابق لعهد بخت نصر وهي ركام من الأبنية المتهدمة المبعثرة والبعض يرتقي عهده إلى القرون الثلاثة الأولى بعد المسيح. ومعظمها قائم إلى اليوم وليس فيها كتابة ما سابقة لعهد المسيح أو لاحقة لعهد ديوكليسيانوس. ومن هذه الآثار أعمدة تفوق الحصر لا يقل علو الواحد منها عن 15 متراً ووراءها قصور متهدمة وأبواب وسراديب وأروقة ومماشٍ وأقواس. والأرض مغشاة بأحجار وأعمدة محطمة على أكثرها نقوش بديعة. وفي الجهة الغربية من الهيكل الكبير كثير من المدافن وجد على بعضها كتابات فينيقية ويونانية. وفي السهل الواقع جنوبي النبع مدافن أخرى مقفلة بأحجار ضخمة لم تستخرج كنوزها إلى الآن. وفي سفح الجبل كثير من هذه المدافن أهمها وأفخمها ما كان واقعاً على الضفة اليمنى من النهر في سفح جبل بلقيس أو ملكة سبأ ومن آثار تدمر سور يستنيانوس وهو سور ضخم تتخلله أبراج شامخة، شيد أكثرها الفاتح الروماني لصد إغارات العرب عن المدينة. وعلى قمة الجبل حصن قديم يعرف بقلعة ابن معن وهو من عهد فخر الدين المعني الأمير اللبناني المشهور الذي بسط سلطته على سائر بلاد الشام، وهو مشرف على تدمر وضواحيها فتراها منبسطة أمامك بهياكلها وقصورها وما بقي من أعمدتها وترى هيكل الشمس قائماً في وسطها كقلعة عظيمة. وفي الجهة الغربية منه الآكام القائمة

عليها مدافن الملوك والعظماء تنبسط أمامها بادية الشام التي تحدها على بعد شاسع جبال متقطعة تتخللها معابر القوال التي كانت تسير على عهد قريب في تلك الفلوات بين دمشق وبغداد. وبالإجمال ليس بين المدن القديمة مدينة جامعة بين كثرة الآثار القديمة وضخامة الأبنية وفخامتها ودقة نقوشها وأهميتها التاريخية كمدينة تدمر إلا مدينة بعلبك فهما أثران يعدان من أعجب آثار الأقدمين في سائر الأقطار قاطبة. وكان لتدمر في الأعصر الخالية شأن خطير وقد كان وقوعها على طريق القوافل التي كانت تسير بين دمشق وبغداد من أهم الأسباب التي مهدت لها السبيل إلى بلوغها شأواً بعيداً من الحضارة والعمران فكانت مركزاً تجارياً متوسطاً بين أوروبا وداخلية آسيا تشحن إليها المنسوجات الحريرية من الهند ومحصولات الأرض من البلاد الآسيوية المجاورة لها فترسل منها إلى أوروبا. أما قبل المسيح فلم يكن لها من الشأن ما كان للمدن السورية الأخرى ولم يرد ذكرها في التوراة بين تلك المدن وجل ما ذكر في سفر الملوك وسفر الأخبار أن سليمان الحكيم بنى تدمر وشيد فيها هيكلاً عظيماً لبعال وسماها تدمر أي مدينة النخل لكثرة ما كان هناك منه. وفي أيام السلوقيين خلفاء الإسكندر كانت خط الاتصال بين إنطاكية وسلوقية (اللاذقية) عاصمتي مملكتهم وسميت لعهدهم بلميرا مترجمة عن اسمها الأصلي. وفي أيام الرومانيين أزهرت بمتاجرها وصناعاتها وضاهت أعظم المدن السورية ولاسيما في القرن الثالث للمسيح إذ كان يحكمها أودينات الذي أدى خدماً جليلة للرومانيين

في حروبهم ضد سابور ملك الفرس. فقهره في عدة مواقع دموية جرت له معه ورده إلى ما وراء الفرات. فمنحه الرومانيون لقب ملك مكافأة له على ولائه وشجاعته واعترفوا له بحقوق الملكية. وكانت زوجته زنوبيا (وتعرف عن العرب بزبيدة) من أرقى بنات جنسها في ذلك العصر وكان لها اليد الطول في رفع منزلته عند الورمان بما أوتيت من الحنكة والدهاء السياسي. ولم يكن يعرض له أمر إلا شاورها به ووقف على رأيها فيه. فتضافرا على رفع شأن المملكة. ومات أودينات سنة 367م. مقتولاً بيد أحد كتبة سره تاركاً الحكم لزوجته زنوبيا. وكانت هذه الملكة تدعي أنها من نسل كيلوباترا ملكة مصر. وقيل أنها بنت أمير عربي. وكانت تتكلم لغة وطنها فينيقيا وتجيد اللغة القبطية واليونانية واللاتينية. فأدخلت المدنية اليونانية والرومانية إلى عاصمة ملكها بإنشائها مدارس كبرى كان يؤمها طلاب العلوم بحيث لم يكد يمر الدور الأول من حكمها حتى كانت تدمر من أرقى مدن العالم. ولما نودي بها ملكة على تدمر منحها مجلس الشيوخ الروماني لقب أوغسطس وانتحلت لقلب ملكة تدمر وملكة المشرق ولم يكد يستتب لها الأمر حتى طمعت بخلع نير الرومانيين فجيشت الجيوش وأخذت تطاردهم من آسيا وكانت ذات جرأة غريبة وإقدام عجيب، تسير إلى الحرب حتى ملكت سورية بأكملها من أقاصي بلاد الشام حتى بلاد فارس. وقد زحفت على مصر واستحوذت على قسم منها واستولت أيضاً على أقاليم أخرى من الإمبراطورية الرومانية الضخمة وحالفت الفرس، فحسدها القياصرة والملوك، وأشفقوا منها على

ممالكهم أن تضمها إلى مملكتها الجديدة وظلوا يراقبون حركاتها بعين الحذر وهم مترددون بين محاربتها وموالاتها إلى أن تبوأ أورليانوس العرش فحصر همه في إخضاعها. وسار بجيوشه إلى المشرق وقاتلها في عدة مواقع، أشهرها موقعتان في سهل إنطاكية وسهول حمص استظهر فيها عليها، وبلغ إلى تدمر فحاصرها وأشار على ملكتها بالتسليم فأبت فشدد الحصار على المدينة وسلم أهلها سنة 272. أما زنوبيا فركبت هجيناً تريد بلاد فارس فقبض عليها فرسان الرومانيين عند باب المدينة، وأخذها أورليانوس أسيرة إلى رومية وعاملها معاملة ملكة عظيمة الشأن مفاخراً بالنصر الذي أحرزه على أكبر ملكة كانت تهتز لها أعصاب الإمبراطورية الرومانية فأعد لها قصراً فخيماً في مدينة تيفولي بالقرب من رومية فقضت حياتها فيه تحف بها العظمة والجلال. وقد أجمع المؤرخون على أنها كانت فتانة فائقة الجمال شديدة النزوع إلى الحروب والفتوحات، واشتهرت بحقها وسمو مداركها وشدة بأسا حتى جرت أوصافها مجرى الأمثال في الأعصر الخالية. وفي لبنان آثار عديدة منسوبة إلى زبيدة منها أقنية الماء الممتدة من نهر بيروت إلى المدينة ومن نهر إبراهيم إلى جبيل ومن نهر قديشا إلى كورة طرابلس. ثم قام ديوكلتيانوس ويستنيانوس فحاولا إعادة تدمر إلى مجدها السالف فأخفق سعيهما: ومذ ضربها أورليانوس تلك الضربة النجلاء قضى على شهرتها وتاريخها قضاءً مبرماً فأخذت من ذلك الحين بالانحطاط إلى أن باتت أثراً بعد عين وغاصت في لجة عميقة من النسيان قروناً طوالاً كانت

فيها قرية حقيرة لا شأن لها يعرفها علماء الجغرافية بكونها حداً لبادية الشام في الشمال الغربي من حمص وحماه. وقد ذهب بعض المؤرخين إلى أن معظم سكان تدمر وضواحيها كان في أيام زنوبيا مؤلفاً من العرب بدليل أن أكثر الأسماء الواردة في الكتابات اليونانية القديمة التي وجدت في تدمر عربية محضة ومثلها الكتابات التي وجدوها في حوران فإنها عربية اللفظ والمعنى وإن تكن مكتوبة بأحرف يونانية. وفي بعض التواريخ أن تدمر ظلت في أمن ن غزوات العرب المسلمين دهراً طويلاً ولكنها قاست الشدائد في حروب الأمويين والعباسيين سنة 745م. وما يليها. وقد زارها العالم الفرنساوي فولني سنة 1758 فوصفها أبدع وصف ومزق ما كان مسدولاً على تاريخها من الحجب الكثيفة وألفت وصفه لها أنظار العلماء والسياح فطفقوا يتقاطرون إليها من كل حدب وصوب لمشاهدة آثارها العجيبة. فحبذا لو كانت حكومتنا الدستورية الجديدة تتمثل بالحكومات الأوروبية فتصرف بعض عنايتها إلى الآثار القديمة الحافلة بها البلاد السورية فإن في جمع هذه الآثار في متاحف خصوصية من الفوائد المادية ما لا يقل قيمة في اعتبار الأمم المتمدنة عما في ذلك من عبر التاريخ البالغة والفوائد الأدبية للبلاد التي تشتمل على آثار جليلة كآثار تدمر وبعلبك ودمشق والقدس وغيرها مما يعرض لنا كل يوم أن نورده مثلاً من الأمثلة العديدة على بلوغ التمدن الشرقي أقصى درجات الكمال في زمن كانت أوروبا تتخبط في دياجي الجهل والانحطاط. - بولس مسعد

نهر الصفا

نهر الصفا وهو النبع المتدفق من عين زحلتا في جبل لبنان، أرسل إلينا وصفه هذا البديع سعادة الأمير أرسلان. يا صاحبي قفا على نهر الصفا ... نهر لدينا بات أشهر من قفا باكرته طرب الفؤاد وقد رمى ... فلق الصباح لثامه فتكشفا نهر حسبت أديمه بلورة ... وهاجة أو نصل سيف مرهفا ورشفت ريقة مائه معسولة ... فافتر عن ثغر الحباب تلطفا نضج النهار عليه ذوب لجينه ... وكساه مخضر العشابة مطرفا وحباه مؤتلق الحصى بجواهر ... أضحى بهن مختماً ومشنفا متمايل الأعطاف قد غنت له ... طير السماء مثقلاً ومخففا ومقلد بالسيد جيداً أعيداً ... ومزنر بالسر خصراً أهيفا أقبلت أنظر في بديع حدوده ... غزل المياه موشعاً وملففا عجت غواربه فتحسب أنه أسد يزمجر في الدجى متغطرفا كم سرحة تلقاه يخبط جذعها ... أهوت إليه من الغصون مثقفا وتكتلت أزباده فكأنها ... سرب الحمام البيض طار فرفرفا والدوح ترشقه ببندق حبها ... فيذوب من رشقاتهن تخوفا نهر جزيل المركمات تقسمت ... نعماه بين الضفتين فأنصفا يسقي النبات بجانبيه كأنه ... دمع الحزين يبل جفناً أوطفا لما رأيت سهاده لا ينقضي ... أيقنت أن وساده صلد الصفا نسيب أرسلان

زار المرحوم الشيخ إبراهيم اليازجي قلعة بعلبك فحفر على باب هيكل باخوس بيتين من الشعر هما: يا بعلبك فريدة الأزمان ... بالصنع والإتقان والبنيان لم تبقك الأيام في حدثانها ... إلا لتظهر قدرة الرحمان ثم زارها الشيخ إسكندر العازار فكتب تحتهما بيتين على سبيل المعارضة: يا معقلاً فيه العقول تحيرت ... يا معبداً لمفرق الأديان لم تبقك الأيام في حدثانها ... إلا لتظهر قدرة الإنسان ثم زارها الشيخ يوسف أبو صعب فكتب تحت الأربعة أبيات بيتين: يا بعلبك عروسة الأزمان ... ونديمة المريخ والميزان لولا الذي في النفس منه بقية ... لأعدت فيك عبادة الأوثان

قلعة بعلبك

قلعة بعلبك إيه آثار بعلبك سلام ... بعد طول النوة وبعد المزار ووقيت العفاء من عرصات ... مقويات أواهل بالفخار ذكريني طفولتي وأعيدي ... رسم عهد عن أعيني متواري. . خرب حارت البرية فيها ... فتنة السامعين والنظار معجزات من البناء كبار ... لأناس ملء الزمان كبار ألبستها الشموس تفويف در ... وعقيق على رداء نضار وتحلت من الليالي بشاما ... ت كتنقيط عنبر في بهار وسقاها الندى رشاش دموع ... شربتها ظوامئ الأنوار زادها الشيب حرمة وجلالاً ... توجتها به يد الإعصار رب شيب أتم حسناً وأولى ... وأهن العزم صولة الجبار معبد للأسرار قام ولكن ... صنعه كان أعظم الأسرار مثل القوم كل شيء عجيب ... فيه تمثيل حكمة واقتدار صنعوا من جماده ثمراً يجنى ولكن بالعقل والأبصار وضروباً من كل زهرٍ أنيق ... لم تفتها نضارة الأزهار وشموساً مضيئة وشعاعاً ... باهرات لكنها من حجار وطيوراً ذواهباً آبيات ... خالدات الغدو والأبكار في جنان معلقات زواهٍ ... بصنوف النجوم والأنوار

وأسوداً يخشى التحفز منها ... ويروع السكوت كالتزآر عابسات الوجوه غير غضاب ... باديات الأنياب غير ضواري في عرانينها دخان مثار ... وبألحاظها سيول شرار تلك آياتهم وما برحت في ... كل آن روائع الزوار في مقام للحسن يعبد بعد ال ... عقل فيه والعقل بعد البار * * * أهل فينيقيا سلام عليكم ... يوم تفنى بقية الأدهار لكم الأرض خالدين عليها ... بعظيم الأعمال والآثار خضتم البحر يوم كان عصياً ... لم يسخر لقوة من بخار وركبتم منه جواداً حروناً ... قلقاً بالممرس المغوار أن تمادى عدواً بهم كبحوه ... وأقالوه إن كبا من عثار وإذا ما طغى بهم أوشكوا أن ... يأخذوا لاعبين بالأقمار غير صعب تخليد ذكر على الأر ... ض لمن لدوه فوق البحار شيدوها للشمس دار صلاة ... وأتم الرومان حلي الدار نحتوا الراسيات نحت صخور ... وأبانوا دقائق الأفكار وأجادوا الدمى فجاز عليهم ... أنها الأمرات في الأقدار سجدوا للذي هم صنعوه ... سجدات الإجلال والإكبار بعد هذا أغاية فترجى ... لتمام أم مطمع في افتخار خليل مطران

3 - بين مصر وسورية

3 - بين مصر وسورية حييت يا وطناً تصبو القلوب إلى ... أرجائه وبه الأرواح تغتبط شمس المعارف في علياه جامعة ... أطرافه وهي فيما بينها وسط ففي ذرى الأرز حبل من أشعتها ... يلقى وحبل على الأهرام منبسط إبراهيم اليازجي القطران الشقيقان حفرت معاول الفعلة ترعة السويس، فكانت كالمبضع بتر شرياناً بين عضوين في جسم واحد، طالما توارد فيه الدم صعوداً من مصر إلى سورية ونزولاً من سوريا إلى مصر. فإذا كانت سورية قد انفصلت عن مصر بثغرة لا تزيد فجوتها عن 65 متراً، فلا تقولن إن يد ده لسبس

غلبت الطبيعة. فالطبيعة لا تغالب، وإذا ما غولبت غلبت. ولكن الإنسان كان قبل مدنيته يخضع الطبيعة ويذللها، فصار بعد ازدهار المدنية يستخدم بعلمه قواها وقوتها، ولكنه يحس من نفسه أنه خاضع لتلك القوات والقوى. إذا كان مصرائيم وكنعان قد اجتازا برزخ السويس من سورية إلى مصر، فصيرا مناقعها حقولاً، وبحيراتها سهولاً، وأكامها مدناً، وروبيها دساكر وقرى. وإذا كان توتمس وقواده قد عبروا ذلك البرزخ إلى سورية واكتسحوا الأمصار، وثلوا العروش، ونصبوا لهم نصباً على ضفة الفرات، فإن سلاتس زعيم الرعاة قد نهج نهجهم فاجتاز البرزخ إلى مصر ونصب على ضفات النيل هياكل وتماثيل. وإذا كانت عبادة الإله أودنيس والآلاهة الزهرة قد ترامت من قنن لبنان إلى هضاب أصوان، فإن عبادة الإله أوزيريس والآلاهة أيزيس قد استفاضت من شاطئ بحرية المنزلة إلى شاطئ العاصي. وإذا كان الغزاة والفاتحون قد عدوا سورية قلعة مصر، فإن الصناع والتجار الآسيويين قد حسبوا مصر مزرعة سورية، فهبطها يعقوب بأبنائه يمترون، وجاءها الفينيقيون يتجرون. ظن الرومان أنهم إذا قالوا في الهياكل والمساجد أن ابن مصر من جالية النوبة لا من جالية فينيقيا واليمن، غرسوا في فؤاده حب الأسود الأفريقي لحسبانه أخاً، واقتلعوا من صدره حب الفينيقي والآشوري الأبيض لحسبانه غريباً. ولكن الطبيعة التي لا تخضع إلا لنظامها أبت على المصريين أن ينقادوا إلى الكتب التي قالوا لهم أنها مقدسة. على أن

لغة تلك الكتب بنبراتها ومقاطعها فينيقية سورية. بل أبت طبيعة الأرض عليهم أن يكونوا إلا أخوة السوريين لصقاء دارهم، بل أبت التقاليد الواحدة إلا أن يكونوا متحدين فلم ينل الرومان من تعاليمهم منالاً لأن كل ما يخالف ناموس التكوين والوجود فانٍ، وما ينجم عنه - وكان ثمرته - خالد باقٍ. * * * انقضت العصور المظلمة، وباعدت الأيام والأقدار بين اللغتين، وفرقت بين الدولتين والإلهتين، إلى أن جمع بينهما عيسى بتعاليمه. ثم تلاه محمد بفرقانه. فازداد تفاعل القطرين واحتكاكهما، وعاد أحدهما طريق الآخر في البشارة بالدين، والفتح بالقوة. فما انبعث نور من مصر إلا ليكون وهجه في سورية، وما تلألأ ضوء في سورية، إلا ليكون أول سطوعه في مصر. وما استفاض علم في إحداهما إلا لتكون أول بوارقه في الأخرى. وذلك كان شأنهما من يوم كونتا، وذلك سيكون ما دامت الأرض على تكوينها والأفلاك على دورانها. وإذا كانت قناة السويس قد عدت في هذا العصر ثغرة فاصلة فتحتها يد المدنية، فإن تلك اليد الفاصلة نفسها قد وثقت روابط الصلة، وأحكمت عرى التواصل بأثير الهواء وثبج الماء، فلا تعد القناة الآن فاصلاً. ومن على حافتيها يتخاطب المتقابلان، ومن فوق مائها يتصافح الأخوان ومن ذا الذي يمنع الهواء أن يهب، والماء أن يصب. علم عبد الملك بن مروان المصريين لغة العرب فصاروا عرباً، وعلم خلفاؤه السوريين هذه اللغة فصاروا بها أخوة المصريين، فاجتمع لهم

من روابط الإخاء والوئام والاتحاد اللغة والجوار، إن لم نزد عليهما الدين. وإذا ما تفاهم الناس تحابوا، والكلمة التي تحتقرها إذا حدثت، هي التي تعلم الأمم، لأن بها يبرز الفكر جلياً للسامعين، فمن كلمته بلسانه كنت أخاه بذلك اللسان ونقلت إلى رأسه ثمار عقلك، وإلى صدره خوافي صدرك. وتأخذ منه ما عنده وتعطيه ما عندك. تتأدب بأدبه ويتأدب بأدبك، وتتعلم من علمه وتعلمه من علمك، وفكر لا يبرز بحلة الكلام وجوده كعدمه. هكذا كان شأن البلدين بعد الفتح الإسلامي وصيرورة لغتهما لغة واحدة. فما نبت فن في أحدهما حتى جنى الآخر ثماره، وما ظهر علم أو عالم حتى كان للاثنين معاً. فإذا قلبت صفحات التاريخ، وتراجم النوابغ، ظهرت لك هذه الحقيقة ناصعة، حتى كأن حبل المدنية واللغة في القطرين سلك كهربائي، إذا ارتج طرفه في بلد ارتج سائر في البلد الآخر، وإذا أضاء مصباحاً في القاهرة، أضاء مثله في دمشق وبغداد. وإذا ما ضربت السياسة للأوطان حدوداً، فإن العلم لا وطن له وإن كان للعالم وطن. وإذا صح أن يقال بين الأمم الأخرى أن حدود الوطن باللغة، فإن هذا لا يصح بين مصر وسورية ولغتهما واحدة. حكم محمد علي مصر وأنشأ المدارس، ونقل العلم إلى لغة العرب ليعلم مصر، ولكنه علم بلاد العرب كلها ذلك العلم وكان يكفيهم منه أن ينقله إلى لغتهم ليتفهموه. ففي رؤوس جبل لبنان وفي أطراف سورية تجد في خزانات الكتب كتب الطب للرشيدي، والجغرافيا لكلوت بك، والفلك لمختار باشا، والهندسة لوهبي بك، والزراعة لأحمد ندى إلخ. وفي أطراف تلك

البلاد تجد أطباء شيوخاً ومهندين هرمين تلقوا العلوم في مدارس مصر. وبدت النهضة الأدبية في سورية منذ خمسين عاماً، فانتفعت بها مصر: فصحف البستاني ومجلاته وكتبه وقواميسه ودائرة معارفه، ومؤلفات الشدياق، وكتب اليازجي، وتصانيف فانديك، ومطبوعات اليسوعيين والأمريكان وتآليفهم كانت لسورية ومصر معاً. وهذه مجلات مصر وسورية وصحف كلتيهما كأنها مجلات الأخرى وصحفها. وهؤلاء كتاب مصر وسورية وعلماؤها كل واحد منهم كاتب كلا القطرين وعالمه. تصعد الجبل في سورية أو تهبط الوادي، فتسمع المغنين يتغنون بقصيدة شوقي، أو منظومة حافظ، وتطوف الأرجاء هنا، فتسمع الأدباء يتحدثون بمؤلفات اليازجي أو الشرتوني أو البستاني، وتطالع المجلات وفصولها فلا تجد فرقاً بين كاتب مصري ومصنف سوري. وإذا تدرجت في البحث والتنقيب ونزلت إلى صميم الشعب وحياض العامة، رأيت التقاليد بالأغاني والأناشيد والرقص والعزف واللهو والحزن والمآكل والملابس والأفراح والمآتم والأثاث والفرش وتدبير المنزل نقل بعضها أو أكثرها أو كل جديد متقن منها من بر الشام إلى بر مصر، أو من بر مصر إلى بر الشام. فهما في اللغة والرقعة الجغرافية بلد واحد وإن لم تكونا في السياسة كذلك. فإذا كانت الزهور قد أنشئت لزيادة التعارف بين أدباء القطرين وعلماء المصرين، فإنما هي قد رمت إلى غاية جلى وغرض نبيل، قد يكون أقل منافعه سرعان التعارف والترابط بين الأدباء، حتى يزداد الشعبان نفعاً، بها، بفضل لغتهما الواحدة. داود بركات

تحية الشعراء

تحية الشعراء 1 - من شعراء مصر إلى سورية لمصر أم لربوع الشام تنتسب ... هنا العلى وهناك المجد والحسب ركنان للشرق لا زالت ربوعهما ... قلب الهلال عليها خافق يجب أم اللغات غداة الفخر أمهما ... وإن سألت عن الإباء فالعرب إذا ألمت بوادي النيل نازلة ... باتت له راسيات الشام تضطرب لو أخلص النيل والأردن ودهما ... تصافحت منهما الأمواه والعشب بالواديين تمشى الفخر مشيته ... يحف ناحيتيه الجود والدأب نسيم لبنان كم جادتك عاطرة ... من الرياض وكم حياك منسكب في الشرق والغرب أنفاس مسعرة ... تهفو إليك وأكباد بها لهب هذه يدي عن بني مصر تصافحكم ... فصافحوها تصافح نفسها العرب فما الكنانة إلا الشام عاج على ... ربوعها من بنيها سادة نجب حافظ إبراهيم يحن لمصر من سكن الشاما ... ونحن نود لو كانت مقاما منابت لا تجف بها الخزامى ... ولا تشكو أزاهرا الأواما وأرض تنبت اليوم المعالي ... وكانت تنبت الرسل الكراما على لبنان زهري الهضاب ... على الأردن خمري الحباب على القدس المفضل في الكتاب ... على تلك القصور على القباب سلام متيم لولا الليالي ... تفيده لما بعث السلاما عبدنا الله لا خوف انتقام ... ولكن قيل عدن في الشآم فأكثرنا الصلاة مع الصيام ... لتجمعنا الشآم لدى الزحام ولو لم نعتقد صدق المقال ... لما صلى فتى منا وصاما عبد الحليم المصري

2 - من شعراء سورية إلى مصر أيه يا مصر أنت منزل قوم ... أخذوا قسطهم من المدنيه قد هجرنا لأجلك الوطن الأول ... مهوى أهوائنا الأصليه واتخذنا لنا أخلاء من أهلك ... أهل النهى وصدق النيه نشأت بيننا الصلات قديماً ... وسنبقى مادامت الذريه كم نعمنا فيما مضى وشقينا ... فاقتسمنا حظوظنا بالسويه بين مصر والشام عهد قديم ... هو عهد الإخاء والوطنيه عقدته السماء والأرض والنا ... س فكان الوثيقة الأدبيه فلتعش مصر وليعش ساكنوها ... وعليك السلام يا سوريه نقولا رزق الله سلام على الوادي الخصيب ونيله ... على نبته غضاً على قومه غرا بني النيل أنتم ألين الناس جانباً ... وأبسطهم كفاً وأرحبهم صدرا بني النيل إنا إن أقمنا وإن نسر ... نرد لبني النيل السعادة واليسرا وهذي أيادينا نصافحكم بها ... فانتم لها أوفى وأنتم بها أحرى الدكتور إبراهيم شدودي مصر العزيزة دام العز منتسباً ... لقومك الغر من فرع ومن سلف أبناؤك اليوم من أبناء شرقهم ... مكان هادي السرى في المهمه القذف قد مدن الغرب من آثار ملكهم ... وأشرق الشرق من سيارة الصحف كرام نفس إلى حلم إلى أدب ... وأهل عزم إلى ظرف إلى لطف أمين البستاني المحامي

الحركة الأدبية

وأي شيء بمصر لا يتيمنا ... مصر حوت كل ما شاق الورى وسبى وأعشق الأنس يجلو لي دجى كربي ... وفي الكنانة أنس يكشف الكربا وأعشق اللغة الفصحى وقد ضربت ... في مصر اللغة الفصحى لها طنبا دار إذا قال فيها نازح وطني ... أحب منها إلى قلبي فقد كذبا أهدي السلام (لشوقيها) و (حافظها) ... و (للخليل) ومن يبقى من الأدبا رشيد مصوبع الحركة الأدبية كانت سورية في النصف الأخير من القرن الغابر مهد كتاب مشاهير وأدباء أعلام كان لهم اليد الطولى في نهضة اللغة العربية والآداب الرقية، ولما ضاق عليهم هذا المضمار في ربوع الشام، هاجروا زرافات إلى وادي النيل، فكانت الديار المصرية خير مسرح تجلت عليه عرائس أفكارهم وبرزت إليه نفائس خواطرهم. بل وجدوا في تلك الديار التي حلوها على الرحب والسعة تكملة لسليقتهم. وهكذا إذا كانت الشام قد أنبتتهم فإن مصر انتمهم وأنضجت أفكارهم فأنتجت أينع الأثمار بعد أن كانت حملت ألطف الأزهار. وما عهد اليازجي والنقاش والحداد وأديب إسحق وغيرهم ببعيد. وعليه فيصعب على من شاء أن يكتب تاريخ الآداب العربية الحديث أن يفرق بين القطرين ويميز بين كتاب البلدين. وجل الكتاب أن لم نقل كلهم قد نسقوا نسيم لبنان العليل ورشفوا ماء النيل السلسبيل. فيحق لكلا القطرين أن يدعيهم. وكانت ريح الاستبداد العاصفة قد شتتت شمل السوريين ونثرتهم في كل أنحاء العالم، فطرحتهم مطارح النوى إلى أقصى بلاد الله، فعرفوا مجاهل أفريقيا ومفاوز

أمريكا وبطاح أستراليا. ولما كان السوري ميالاً بطبيعته إلى الكتابة والتحرير حمل معه إلى المهجر طرسه وقلمه فأنشأ الصحف والمجلات وخدم اللغة العربية أينما نزل، والبريد يحمل إلينا في كل أسبوع جرائد شتى ومطبوعات متنوعة من مراكش وكندا والولايات المتحدة والمكسيك والبرازيل والأرجنتين إلخ. ولما سكنت عاصفة الاستبداد التي كادت تجتاح كل عقل مفكر وقلم محبر، هب نسيم الحرية اللطيف فرد إلى سورية بعض أبنائها بعد أن كان قد خيل أن لا تلاق بع ذاك الفراق. فرأت بيروت صاحب المهاجر النيويوركي وصاحب المناظر البرازيلي وصاحبي الراوي والمصور الإسكندريين ورأت دمشق صاحب المقتبس وطرابلس المغربي ورحبت حلب بأدبائها وبغداد بشعرائها. . . ولكن الكثيرين قضي عليهم في أرض منفاهم، فخمدت أنفاسهم وتقطعت أوصابهم، فكان لحدهم في أرض غير التي هز عليها مهدهم. . . وإن سورية لتذكرهم اليوم في عينها دمعة محرقة لأنها تشعر بالحاجة إليهم لإنارة العقول وتثقيف الأذهان في طور الانتقال الصعب الذي تمر به الآن، وهي تقول: رحمة وسلام على من مات، وأهلاً وسهلاً بمن عاد. . .! بل هي تلقي نظرة ملؤها الشكر إلى شقيقتها مصر التي حفظت لها أبناءها وأثمار أحشائها. وتدعو الكتاب المصريين لزيارة ربوعها، فإن التضييق الذي كان يقصيهم عنها قد اندرس وزال، فيلاقون كل حفاوة وإكرام، ويشعرون عندما يطأون الأرض السورية أنهم ليسوا بالأعراب فإن كتاباتهم قد سبقتهم وأعدت لهم السبيل، فصبيان المدارس يروون شعرهم ونثرهم، والكتاب يوردون رأيهم وقولهم. ولنعم النسب نسب الأدب. ولقد وقفت مجلتا نفسها على القيام بهذه الخدمة منذ نشأتها، وهي دائبة بمعاونة الأدباء، الذين يقلدون جيدها بدور نفثاتهم، على متابعة هذه الخطة التي نالت رضى العموم. ولهذا نحن نقدم إليك أيها القارئ العزيز هذا العدد الكبير، وقد بذلنا المجهود في تزيينه بالرسوم العديدة وتحليته بأنفس ما جادت به قرائح الكتاب ونحن موقنون بأنك سترتاح إلى هذا الموضوع الجليل وتقدره حق قدره

لأنك بواسطته ستعرف أشياء كثيرة عن البلدين المتجاورين أو القطرين الشقيقين، والتعارف يؤول إلى التحاب والتواد، وعن ذلك ينجم التضامن في المصالح والتساند في المرافق، ومن أحوج منا الآن إلى التضامن والتساند. فإلى قادة الأفكار في القطرين نوجه خصوصاً الدعوة إلى العمل على زيارة الترابط في الشؤون المادية والأدبية. ويا حبذا لو تألفت لجان في مصر تزور سورية ولجان في سورية تزور مصر. فتدرس هذه وتلك الأسباب التي توثق عرى التآلف للأخذ والرد شأن الأقطار الأخرى في الغرب، عسى أن تنبعث من احتكاك هاتين المدنيتين القديمتين شرارة توقد مصباح المدنية الحديثة في مصر وسورية فينير الظلام الذي كدنا نضيع في دياجيه، بعد أن كان أجدادنا المصريون القدماء والفينيقيون ينيرون العالم بفنونهم وصنائعهم. فيحق أن نعيد حينذاك الآية من الشرق النور النور الطبيعي والنور الأدبي. * * * وفي هذه المناسبة لا يسعنا إلا لسداء صميم شكرنا وشكر قراء الزهور العديدين لكل الأدباء الذين ساعدوا بنوعٍ خاص من تدييج هذه المجموعة، معتذرين للذين اضطرنا ضيق المجال إلى تأجيل كتاباتهم الرائقة، فإن الموضوع كما قدمنا واسع الأطراف لا يمكن استيعابه في كتاب واحد ولنا في سائر أعداد المجلة متسع كافٍ لإيراد ما تأخر هذه المرة.

العدد 7

العدد 7 - بتاريخ: 1 - 10 - 1910 غلاء المعيشة موضوع يستحق البحث والتمحيص، وداء يدعو إلى إعمال الفكرة لاستئصال جراثيمه التي تمكنت من جسم الأمة فباتت تنخره نخراً حتى كادت تقضي عليه. ولسنا نطرق هذا البحث كالأبحاث التي تطرقها المجلات من حين إلى حين فتضرب على أوتارها على نغم واحد، أو يعمد إلها الكتاب والمنشئون متى جمدت قريحتهم وأغلق عليهم إيجاد موضوع يطلقون ليراعهم فيه العنان، بل نطرق هذا الموضوع لأنه حديث السواد الأعظم من الشعب الشاغل الأكبر للأفكار. ومن لم يقل به علناً أصبح يهدس به سراً. فإن مجموع الشعب لا يشتغل بالأحزاب والمضاربات ولا يهتم للتصريحات السياسية والأنباء البرقية. ولكنه يصرف جل كلامه واهتمامه إلى الغلاء المحدق به من كل جهة: غلاء المأكول، غلاء المشروب، غلاء المسكن، غلاء الملبس. . إلخ. كل شيء غالٍ: الحياة غالية، الموت غالٍ. .! وليس ذلك من

قبيل المبالغة. فإن الجمعيات الخيرية قد صارت تدفع منذ مدة لدفن الموتى الفقراء أضعاف ما كانت تدفع من ذي قبل. * * * ماذا يفيد ما تدعوه تمدناً عصرياً إن لم يكن وراءه إلا رفاهية الأغنياء وبذخهم - وهم القليلون - وشقاء الفقراء وبؤسهم - وهم الكثيرون؟ وهل نعد تمدناً أو حضارة أو رقياً تلك الحركة الآئلة إلى هنا الأفراد وعناء المجموع؟ يتبادر إلى الذهن أن رواج المعاملات وكثرة المعامل وسهولة المواصلات التي تقرب بين شواسع الأقطار إلى غير ما جاد به العصر من الاكتشافات والاختراعات المسهلة أبواب الارتزاق لمما كان يجب أن يؤدي إلى محاربة الغلاء وزيادة الرخص وتوفير أسباب الهناء والسعادة في الطبقة الوسطى. فهل نحن حاصلون على ذلك؟ وهل كانت النتيجة كذلك في أطراف المعمور؟ قليلة هي البلدان التي فازت بهذه الأمنية. فإننا نرى على الغالب أن كل هذه الأمور الآنفة الذكر لم تجر إلا رفه ذوي اليسار وتنعم أصحاب الدرهم، بعد أن ساعدتهم على ابتزاز الأموال واحتكار ثروة العباد. من أحسن محاسن الشرائع السهر على مصالح الأفراد والعمل على الذود عن حقوقهم ومرافقهم. وكل حكومة عاقلة عادلة تدرك واجباتها وتفهم أنها القيمة على الرعية. . . وما ألطف وأسمى ما كان يقول هنري الرابع ملك فرنسا: أود لو تمكن كل شعبي من أن يطبخ اللحم في كل

أسبوع ويذوق شيئاً من رغد العيش. . . وقد أطلعنا مؤخراً على إحصاء ظهر عن نفقات المعيشة في فرنسا فأخذنا منه أن هذه النفقات ظلت تتصاعد منذ أول القرن التاسع عشر حتى سنة 1883 وأنها أخذت منذ ذاك العهد تتناقص تدريجاً. وما ذلك إلا بفضل الحكومة الساهرة على كل الطبقات من رعاياها فإن معدل نفقات المآكل كان في منتصف القرن الغابر 1052 فرنكاً سنوياً فنزل في سنة 1903 إلى 915 فرنكاً. والفرق عظيم إذا قابلنا بين النفقات في بلادنا منذ خمسين سنة وبينها اليوم ورأينا الصعود الفاحش الذي طرأ عليها حتى أصبحت أضعاف أضعاف ما كانت عليه. وما رأينا صعوداً في الإحصاء المذكور عن فرنسا إلا على أجار المنازل وهناك أسباب شتى لا تخفى قضت بذلك. على أن الكثيرين يسعون إلى ترخيصها حتى تسهل المعيشة من هذا القبيل أيضاً. فإن شركات متعددة نهضت تشتري الأراضي وتبني فيها المساكن الملائمة لتأجيرها بأثمان غاية في الاعتدال. ويا حبذا لو رأينا عندنا مثل هذه الشركات ونحن في أمس الحاجة إليها. قلنا إن نفقات المعيشة في فرنسا نقصت في نصف القرن الغابر. وإن الدخل قد زاد زيادة تذكر فإن الماهيات ارتفعت حتى 111 في المئة عما كانت عليه. ومن المعروف أن الشعب الفرنساوي بات الآن من أسعد الشعوب وأغناها. ولا نبحث عن سبب غناه في غير ما تقدم. * * *

وإذا نظرنا إلى باقي البلاد نرى أن نفقات المعيشة قد ازدادت. ومعدل هذه الزيادة 15 في المئة في كل من إنكلترا وألمانيا والنمسا. بيد أن الفرق بيننا وبينهم هو أنهم باتوا يهتمون ويشكلون اللجان من الاقتصاديين الخبيرين لمداواة هذا الداء ونحن جامدون لا نخطو خطوة في سبيل هذا الإصلاح الضروري تاركين للطبيعة أن تطبب مرضنا هذا. فالطبقة الموسرة لا يهمها زيادة بضع مئات من الجنيهات على نفقتها، والطبقة المتنورة على حد قول المثل عينها بصيرة ويدها قصيرة. . . هذا والشعب المسكين يكاد يرزح تحت أعباء حمله الثقيل. أما وقد ضرب الغلاء أطنابه في أكثر الأنحاء فلننظرن في الأسباب الداعية إليه والعلاج الواقي منه. إن هذه الأسباب منها اقتصادية ومنها سياسية ومنها أدبية أما الأسباب الاقتصادية فهي ناجمة عن حماية التجارة التي لا يزال معمولاً بها في أكثر البلدان. ولا ننكر أن هذه الحماية قد تجر نفعاً ولكنها في الغالب تساعد أصحاب المعامل والأراضي الواسعة دون سواهم بضرب الرسوم الفاحشة على الواردات الأجنبية فيصبحون ولا مزاحم لهم يتقاضون الأسعار الباهظة عن سلعهم وأغلالهم والناس مضطرون إلى قبولها. وإذا أضفنا إلى ذلك زيادة الطلب على كل الأصناف نرى أن غلاء المعيشة هو معلول طبيعي لهذه العلة. أما الأسباب السياسية أو الإدارية فهي زيادة الماهيات وأجرة العملة. وليست هذه الزيادة مبنية على مقاسمة الأرباح بين العامل وصاحب

العمل بل ناتجة عن الاعتصابات المتعددة فزاد ثمن الأشياء لزيادة أجور العمال وتنقيص ساعات العمل وقد رأينا مثلاً في السنة الماضية صعود أسعار الفحم مع أن مناجمه غنية متوفرة لأن إضراب الفعلة عن العمل شهوراً طويلة قد قلل المحصول. وهناك أيضاً أسباب أدبية لها تأثير في الغلاء أكثر مما يظنه البعض. فإنه قد سادت في عصرنا روح المساواة والتماثيل في المعيشة. فابن هذه الأيام يجهد نفسه وكثيراً ما يبذل ماء وجهه ليجاري جاره في الأكل والشرب والملبس والمسكن وكل مظاهر الأبهة والفخفخة ولو كان بين ثروة هذا وذا بون شاسع. وقد نزلت النساء إلى هذا الميدان فكان لهن النصيب الأوفر، وغني عن البيان ما يتأتى عن هذه المنافسة من غلاء الأسعار وزيادة النفقات. أما ملافاة هذه الأسباب ومداواة هذا الداء فأمر منوط بالحكومات والأفراد: على الحكومات أن تسعى لإزالة السببين الأولين أعني الاقتصادي والسياسي وذلك برفع حماية التجارة شيئاً فشيئاً واستبدالها بحرية المبادلة المطلقة ثم بضمانة حرية العمل للعمال وسن القوانين لوقايتهم. . . وعلى لأفراد نبذ هذه الأضاليل والأوهام فليست المساواة الحقيقية قائمة على بعض مظاهر خارجية بل هي مبنية على مساواة الحقوق والواجبات. وعليهم أيضاً الرجوع إلى بعض البساطة القديمة ففيها هناء أكبر ورغد أكثر ونعيم أوفر. . .

في رياض الشعر

في رياض الشعر يا ليل الصب متى غده نشرنا ص 213 معارضة شوقي بك للقصيدة المشهورة يا ليل الصب. . . فكان لها أجمل وقع بين الأدباء. وجاءنا على أثر ذلك معارضات ثلاث حال دون نشرها تخصيص الجزء الماضي بموضوع مصر وسوريا والمعارضة الأولى من سعادة إسماعيل باشا صبري والثاني من عزتلو ولي الدين يكن بك والثالثة من سعادة الأمير نسيب أرسلان. 1 أقريب من دنف غده ... فالليل تمرد أسوده والتفت تحت عجاجته ... بيض في الحي تؤيده حرب عندي لمسعرها ... شوق مازلت أردده هل من راق لصريع هوى ... هل من آسٍ يتعهده حتى مَ يساوره كمد ... يبلي الأحشاء تجدده وإلى مَ يصارعه ألمٌ ... إن هم يقوم ويقعده في القصر غزال تكبره ... غزلان الرمل وتحسده صفرت كفي منه ومضى ... وقد امتلأت مني يده كم صغت التبر له شركاً ... وقضيت الليل أنضده وأشاور (شوقي) بل أدبي ... هل أقصر أم أتصيده مولاي أعيذك من ضرم ... لا يرحم قلباً موقده أدرك بحياتك من رمقي ... ما بات هواك يهدده

قد بان الحب لذي عينين وهذا الشوق يؤكده (شوقي) جوّد في الشعر وقل ... آمنت بأنك أوحده إسماعيل صبري 2 الحسن مكانك معبده ... واللحظ فؤادي مغمده يا سيدتي هذا حر ... لم يعرف قبلك سيده الليل وطيفك يعرفه ... إن كان فؤادك يجحده كم يوحي طرفك لي غزلاً ... وأنا في شعري أنشده وتساجلني الأطيار هوى ... في الدوح أبيت أردده للصبح سناؤك أبيضه ... لليل غرامي أسوده أحببت قلاك فمطلقه ... عندي عذب ومقيده إن ضل حنانك عن قلبي ... فأنا بولوعي أرشده قد بات دلالك يخذله ... وجمالك كان يؤيده زيدي تيهاً ازدد كلفاً ... كلفي إن رثّ أجدده (شوقي) إن بنت يضاعفه ... (صبري) إن جرت يؤكده خلان هما شمسا فلك ... طرفي مع طرفك يرصده فصلي بالله ولو حلماً ... ومضناك جفاه مرقده وعديه اليوم لو كذباً ... الصب يماطله غده ولي الدين يكن

3 مضناك عصاه تجلده ... هل أنت بعطفك منجده منهوك الجسم به كمدٌ ... إحناء الأضلع موقده ترجيع الورق يهيجه ... ووميض البرق يسهده وله نفس لو ما خفقت ... أحشاه لعز تردده إن تهجره فعزاءك في ... دنف يتهامس عوده لا يسري طيفك في غلس ... قد زور نورك فرقده ما حال فؤادي في شغفي ... يستبكي الصخر توجده إن يغدو الصدغ يصدعه ... ويروح الخد يخدده ويكر الطرف فياسره ... فيقوم الفرع يصفده والصد له جرح جلل ... لولا الآمال تكمده أفدي مولاي فكل فتى ... يشقيه الحب ويسعده كم فزت بمرأى طلعته ... فوزاً يتقطع حسده وسكرت براح شمائله ... سكراً ما فاه معربده غصن أغرتني رقته ... أترى شكواي تؤوده والشعر صداح في وله ... يهوى الأغصان مغرده نسيب أرسلان

تقلب سعادته في أسمى مناصب الحكومة المصرية فعرف بالهمة والحزم وأصالة الرأي. وخاض ميدان الأدب فكان من المجلين، وتسابقت الصحف والمجلات إلى نشر مبتكرات أفكاره العالية، فأطلق عليه الأدباء لقب أستاذ الشعراء وهو لا يزال يحلي الزهور منذ ظهورها بنفثات يراعه الشائقة حتى أصبحت له المكانة الكبرى عند قرائها.

الحمل والذئب والليث

الحمل والذئب والليث نظم عزتلو الفاضل إبراهيم بك العرب شيئاً كثيراً من الحكايات على السنة الحيوانات على نسق الشاعر الفرنسوي لافونتين. وقد بعث إلينا ببعض تلك الحكايات ننشر منها اليوم الحكاية الصغيرة الآتية: حمل أبصر ذئباً بالفلا ... ورأى الشر بدا من مقله اعترته رجفة من خوفه ... وتمشى حائراً في خبله فاحتمى بالليث كي يحفظه ... ورأى في الليث أقصى أمله فأتاه التف من مأمله ... وانقضى ما يرتجي من أجله رب من ترجو به دفع الأذى ... عنك يأتيك الأذى من قبله العرب تمدن المرأة العصرية في 23 يوليو (تموز) أقيمت حفلة شائقة في حديقة الأزبكية بمصر إكراماً لعيد الدستور العثماني. وقد مثل فريق من الأدباء رواية أبطال الحرية وفي ختام الحفلة تلت حضرة الآنسة الأديبة هدى كيورك تحية العلم بنطق فصيح. فأعجب بها كل الحاضرين وقد أرسلت إلينا المقالة الآتية فدلت على براعتها في فن الإنشاء كما كانت قد دلت على مهارتها في فن الإلقاء. وإننا نثبت مقالتها بمزيد السرور طالبين من فتياتنا ونسائنا أن يطرقن هذه المواضيع الاجتماعية لما يترتب على بت هذه الأفكار من المنافع الجمة. من زمن ليس ببعيد كنا نسمع الرجل المتعلم يئن ويبعث من صدره التنهدات لحالة الجهل المستولية على المرأة. وقد بقي مدة آسفاً متحسراً

لعدم وجود أنثى تعادله في المعارف، وتماثله في الأفكار، لترفع قدر بنات جنسها وتبين تأثيرها أدبياً في الهيئة الاجتماعية، نافية ما نسب إليها من ضعف المدارك وجهل الواجبات. وقد دامت هذه الحالة المحزنة مدة طويلة دون أن يسمع صوت يبشر بطريقة تربية حديثة تبدد ظلام الجهل المتلبد. وتقشع غيومه الكثيفة إلى أيامنا هذه حيث لاح لنا نور العلم من خلال المدارس التي شيدت في كل الأنحاء وصارت المخرجات منها تعد بالألوف والمئات. غير أن الرجل الذي كان يئن بالأمس من جهل المرأة وضعف إدراكها، أصبح اليوم يتحسر على تقدمها ومعارفها. وتمنى لو بقيت على الجهل التام بدلاً من أن تذوق العلم غير الصحيح الناشئ عن التربية العصرية المقتبسة من قشور التمدن الغربي الحديث. فلنبحث الآن عن الحقيقة لنرى ما هي الخطة التي اتخذناها لنرتقي في التمدن ونكتسب ثمار العلم. يلوح لي بأن أول شيء عرفناه نحن معشر النساء من أنواع التمدن هي آفاته وأولها المودة. فقد تبعناها وبذلنا جهدنا في تتميم شروطها متمثلات بنساء الغرب، وواضعات كل إرادتنا في قبضة أيديهن لتدرننا كيفما شئن وشاءت أذواقهن. فكم من جاهلة منا عدت نفسها سعيدة وترنمت وهماً لعدم تأخرها في شيء عن مماثلة الغربيات ولكن فيما يتعلق بالمودة فقط. وكم من أخت لها ازدرت بنصائح العقلاء والمسنين واستهزأت بشخصهم إذ لم تجد عليهم رداءاً مطابقاً للمودة. فتنكرهم إن كانوا أهلها وتجحدهم إن كانوا محسنين إليها، وكل هذا عملاً بأمر المودة. . . ولو أن

هذه الآفة بقيت عند أرباب الثروة واليسار لهان أمرها وقل ضررها، غير أنها تخطت كل الحدود ودخلت حتى بيوت المسكنة والفقر فرأينا الرجل الذي يصل ليله بنهاره في الكدح والجد ليقوم بأود معاشه، أصبح اليوم مضطراً مجبوراً إلى أن يكرس ما يربحه ثمن رداء تنتظره ابنته هدية باردة، وهي جالسة على منصة حكمها ودلالها. لأنها تبعث المودة هي أيضاً فلا ترتضى بحالة والديها ولا تكتفي بما لديهم من وسائل المعيشة. استنزفوا عرق جبينهم لتربيتها في المدارس الكبرى طمعاً في تعليمها الواجب لتكون فخرهم في حياتهم فكانت النتيجة آيلة إلى خرابهم. فقد خيبت آمالهم ولم تكتسب سوى المودة والتقليد. نفختها روح الكبرياء وملكها حب التشبه بالكبراء، فظنت نفسها أرفع قدراً من والديها فأتتهم آمرة متحكمة. وإذا لم يتموا رغائبها ويجيبوا مطالبها خشنت أخلاقها، وأوقعت الاضطراب والكدر في المنزل غاضبة على هذا مستهزئة بذاك إلى أن يستملك الحزن قلبا فتضيع الشجاعة وتقطع الرجاء وتقول لليأس مرحباً. مثل هذه الأعمال جعلتنا سخرية عند العقلاء وحملتهم على الاعتقاد بأننا سبب عنائهم وشقائهم وقاطعات سلك تقدمهم. أطلقوا علينا هذا الحكم ونحن في القسم الأول من حياتنا. وأما الحكم الثاني فيكون نتيجة الحكم الأول. فإذا دخلت إحدانا ميدان الحياة وحصلت القليل من الثروة تراها ماثلت صاحبات الألوف والملايين في لبسها وبذخها. فاشتغلت في زينتها ولهوها. وتخلت عن

إدارة بيتها. وألقت كل هذه المهمات على عاتق الخدم لتحرص على راحتها وتتفرغ لسرورها. وإذا أرادت أن تولي سياسة منزلها بعض الاهتمام نراها تسيء التصرف لأنها لم تتعلم أصول التدبير والإدارة العائلية بل كانت في شاغل عنها في تدبير زينتها والتفنن في زيها. وإذا رزقها الباري مولوداً لتحميه بعنايتها وتحرص عليه ساهرة على مستقبله، ترمي به إلى المراضع فيشب على أيدي المربيات دون أن تسمعه كلمة نصح أو تأديب. وربما دفعها حب الذات والملذات إلى تأخيره عن المدرسة إذا كانت ماليتها لا تقوى على إسرافها ونفقات ابنها، فتكون قد ضحت مستقبله على مذبح جهلها وحب ذاتها. وهكذا تنفق مالها وتتلف آدابها وتحط من قدرها وتضيع مستقبل عمرها وهي تجري وراء المودة والتقليد. ومع هذا كله لا تريد أن تفتح أذنها لغير كلمات الثناء والإطراء والويل لمن يقول أمامها إن النساء سبب الشقاء. . . . هذه هي حالة أكثرنا في هذا العصر وهذه هي ثمرات علمنا وتمدننا أبمثل هذا الاستعداد وعلى هذا المنوال نتهيأ لتربية الأحداث، وأوضاع الناشئة من لبن المبادئ ما صفي وراق، لنحفظها من أردان الفساد ونبث فيها روح المروءة وعزة النفس والغيرة على الوطن. قلنا إذا لم نطرح هذه الترهات والسفاسف إلى قعر البحار فتسعى إلى الحاجيات قبل الكماليات ونعمل على حفظ كيان الحياة قبل تزيينها، فلا يمكننا أن نقوم بمهمتنا في هذه الحياة بل نعيش تعيسات ونسبب تعاسة غيرنا. وعليه فلا يصح أن نتعلم التطريز ونترك الخياطة، وأن نهتم بالموسيقى ونهمل تدبير

المنزل، وأن نعتني بالرقص قبل تربية الأولاد، وأن نبرع في التصوير ولا ندري مشاركة الرجال في تذليل مصاعب الحياة، وأن نقرأ الروايات الخيالية قبل التواريخ. نحن لم نتشبه بالغربية سوى بمادة واحدة عرضية وذات نتائج مضرة لأن أختنا الغربية إذا تبعت المودة تكون عرفت قبل ذلك كل ما تجب معرفته فلا يخشى عليها والحالة هذه من التهور في دركات الهلاك. فلماذا نحن لا نماثلها في معارفها كما نسعى لمماثلها في أزيائها. لماذا لا نأخذ عنها مثلاً نشاطها وجدها وتعلقها بلغتها وحسن عاداتها، هل رأينا قط فتاة غربية أتقنت لغة أجنبية قبل لغتها؟ أما نحن الشرقيات فقد أصبحت عندنا عادة مألوفة بل قاعدة مكتوبة أن نتقن أية لغة كانت أجنبية ولا نعلق أدنى أهمية على لغتنا ولماذا؟ لأن للمودة دخلاً أيضاً في هذا الباب. فقد رأينا فلانة عملت هكذا فتبعناها وتوهمنا أن اللغة الإفرنسية أو الإنكليزية أرق وألطف من العربية. . . فما هذا الجهل وما هذه الأوهام. فلا كانت أيام أدت بنا إلى هذه الحالة ومكنت الغربية من أن تسخر بنا وتستخف بعقلنا، فهي بتمسكها بلغتها وارتقاء معارفها جعلتنا نحتاج إليها ونخشى أن تنتهي باستعبادنا ونحن لم نزل غافلات غير عارفات أنه بإحياء لغتنا نحيا وباعتبارنا أصلنا نعتبر. . . لننظر إلى الرجال نر على أية حالة من الرقي والتقدم هم فكل يوم نسمع بعالم كبير منهم ومصلح مفكر بينهم يسير وتتبعه الألوف سعياً وراء الإصلاح هذا ونحن متقاعدات متكاسلات مع أننا لو أحيينا فينا روح الحمية وأقبلنا بنشاط على طلب المعارف لما قصرنا عن إخواننا

المال والجمال

الرجال في إعداد ما يقوم عليه الترقي والعمران. فلنشعر إذاً عن ساعد الجد والهمة لنكتسب علماً واستفادة كلما زادت في عمرنا ساعة فنعد للوطن رجالاً يؤيدون أعمالنا ونبين للعصور الحاضرة والآتية كيف تسير المرأة مع الرجل فتدركه. هدى إسكندر كبورك المال والجمال كل ما يحب ويعبد، يمل فيهمل إلا المال والجمال. . بالأصفر الوهاج تمهدت سبل العمران وقامت المشاريع العظام، وطالما كان صلة العقد بين الدارين. وجاء في حديث الأقدمين إن ربة الفجر تزوجت طيثون لجماله وزفس منحه الخلود. الواحد رب ثان، والآخر صفة من صفات الرحمن أقنومان في جوهر واحد وللناس في عبادتهما مذاهب. بينا الملكة تطل من الأعالي، تبتسم لها الخليقة معجبة بمنظرها الفتان. صوادح الطير تحييها بالتغريد وبنو الإنسان بالتمجيد تبزغ الشمس فاللجين يذوب على فروع المشرق، وقبيل الغروب تغزل الشمس خيوطاً من عسجد. فكأنها تغازل الطبيعة بغمزات ساحرات، مودعة فيها روح الحياة. من ثم يسفر القمر مستنيراً بنور ملكة النور، وقد جمع بين بعض صفات الأقنومين، فكان زينة العالمين في سكينة الليل الهادي.

وهناك من قطب إلى قطب، ومحيطٍ إلى محيط، تسير النجوم وتدور مشعشعةً بأنوارها الذهبية، حيث الأفق يبدو: بساط زمردٍ نثرت عليه ... دنانير تخالطها دراهم وما أبدع المذنبات حين تفيض بسيال من نضار: تشرق الشمس وتغيب ومثلها القمر والنجوم وكل يمثل الجوهر الفرد بأشرف التشابيه، فحبذا المنوال؟ وما أدرك ما الجوهر الفرد؟ هو ربة الجمال؛ إلاهة الغنى والثروة! * * * وماذا نرى: أمجد ابن الإنسان؟ علام تطاولت الأعناق وحدقت الأحداق؟ ما هذا الموكب السامي الأنور؟ هذا موكب حملة العرش! وما عرش بلقيس. . . وهو السدة العظمى، مرصعة بالدر والجوهر. فسناؤها يأخذ بالأبصار! وها قد نصبوا العرش! ولمن نصبوه؟ لملكة النور، ملكة اللجين والعسجد ومن هي تلك هي ربة الجمال، إلاهة الغنى والثروة! * * * أي سكان المدينة! الأبواق الأبواق! فاسمعي يا سماء، وأنصتي أيتها البرية الصامتة. . . الملكة هابطة على عرشها المجيد. كأنها وحي منزل من روح الله الجميلة

فينوس تتجلى في سحابتها الذهبية، محفوفة بإلاهة الهواء، فهي فتنة الآلهة. أبولون ومينيرفا في ركابها، جوبيتير يرنو إليها شغفاً، من أعلى قمم جبال إيدا فاتنة الفلاسفة وسالبة عقول الحكماء تنجلي بمظاهر جبروتها مخرسة البلغاء، ومنطقة الخرساء تتسنم أريكة ملوكتها فلا سلطان فوق سلطانها، وإمام عرشها تخضع القوات كنوز ابن داود تحت سلطتها، ومفاتيح الجنان في يدها فالملوك في أعتابها، والعظماء على أبوابها يسترحمون ويستعطفون تفعل ما تريد، فتعز وتذل ولأجلها قام تنازع البقاء تصلي نيران الحروب، فتسير القلاع في البحار، والجبال في القفار، والقصور في الهواء تغزو فتقهر، وتبرم الصلح كيف تشاء نشاهد بها فتاة الدهر فلا تشيب، مالكة نواصي الزمان وقائدة أعنة العصور من جيل إلى جيل ومن هي تلك؟ هي ربة الجمال، إلاهة الغنى والثروة! * * * هي الألف والياء، سلطانة الآيات والمعجزات، كانت وحدها العامل الأكبر على إظهار مواهب البشر

الخريف

فأقيموا لها الأعياد، وأشعلوا الشموع حول كنوزها، وأوقدوا المباخر قدموا القرابين على مذابح أقدامها، وارفعوا الأصوات بالصلوات فالحياة منها ولها، وبها نسعد ونشقى سبحوها بصنوج الهتاف وآلات الطرب، قدسوا اسمها وخبروا بكل عجائبها فالأرض والسماء بذكرها تحدثان! ومن هي تلك؟ هي ربة الجمال، إلاهة الغنى والثروة وغاية متمنيات بني الإنسان فالسلام لك يا لذة الأنام ومحبوبة الأرباب السلام لك يا حياة النفوس ومعبودة القلوب السلام لك والمجد أيتها الملكة الجميلة والغنية. . . (إنطاكية) سمعان بطرس اللادقاني الخريف ظهرت سحابة في كبد القبة الزرقاء، وابتل جناح الهواء، واغرورقت مقلة السماء، فوقعت على الأرض بعض نقط ماء. . . تركت السنونو الديار مهاجرة إلى أقطار شاسعة، وهب نسيم بارد فألوى سنابل الحقل وأحنى غصون الأشجار الباسقة. عري وجه الأرض من دبيبها وصارت الدنيا كهلة وقد ولت أيام شبابها فقلنا: ها الخريف قد أقبل والصيف قد أدبر. . .

عبس وجه الطبيعة، واكفهرت طلعة السماء فاستحالت زرقتها سواداً، واتشحت بثوب الغيوم الكالح حداداً، وجادت المزن حزناً بدمعها الصافي، فبرد بعض ما فيها من الحر والحرقة، فسالت في مآقي الأرض حمراء أسفاً ووجداً على هجر شبابها. اصفر العشب الأخضر من لوعة هذا الفراق، وبكت الشجر فتساقطت منها الأوراق، وأصبحت تلطم جذعها بغصونها الجرداء، وحيث كنت تسمع تغريد الطيور الشجي الرخيم، لا تسمع الآن إلا حفيفاً رائعاً أشبه بزفرات المهجور الحزين. إذ أن ريح الشمال قد هبت وكان لهبوبها في الغاب صدى نوح وعويل، وأخذت تتلاعب بالأوراق الذابلة المتناثرة كتلاعب الرزايا بالأنام. وكأن الطيور قد أنفت هذا المشهد، فأخذت تشق الفضاء ولسان حالها يقول: نحن رسل الزهو والزهر، ووفود الصفاء والبشر. . . لا تألف إلا الرياض الخضرة والحدائق النضرة، وإلا تحول تغريدنا إلى نوحٍ ورثاء، وأصبح أشبه بنعيق البوم والغربان. فنعود متى عاد الربيع. . . أما تأثير هذا الفصل في النفوس فشديد. وليس بأقل من تأثيره في الطبيعة. فيشعر الإنسان بانقباض يستولي على فؤاده، ويسمع في داخل صدره صوتاً ينذره بقرب فصل الشتاء فصل الشيخوخة، فيتساءل حزيناً: وهل أرى فصل الربيع ثانية؟ هل أرى الأشجار تخضر والأطيار تعود. . . فيستسلم لهذه الأفكار التي تغذي النفوس بغذاء الحقيقة، وتروي القلوب التي حرقها الظمأ إلى المجهول. ويا نعم ما قال الشاعر:

الكلمات الأجنبية والعامية في اللغة العربية

إن فصل الخريف وافى إلينا ... يتهادى في حلية كالعروس غيره كان للعيون ربيعاً ... وهو ما بيننا ربيع النفوس ومن أمعن النظر في حياة الإنسان يراها كفصول السنة: فصل ربيع مزهر مثمر، يطيب فيه الهواء ويروق أديم السماء. تشرق شمس الهناء، والإقبال فتبدد غياهب الكروب، ويسطع على الأفق بدر السعادة والآمال، فيضيء ظلمة القلوب، فتتفتح أزهار الصفاء، وتنضج أثمار الرجاء. . . وفصل شتاء محزن تتلبد غيوم الشدائد في سماء مظلمة ناقمة؛ فتمطر ثلجاً تجمد له حركة القلوب الخافقة، وتسيل دموع الأعين الحارة. تعصف رياح الجزع فتتلاعب بأوراق الآمال الذابلة، وتقصف رعود المصائب فترمي القلب البشري بصاعقة اليأس القاتلة. تلك هي حياة الإنسان: عسر ويسر، راحة وشقاء، شدة ورخاء، ورد وشوك، طلوع ونزول، شروق وأفول، حلاوة العسل ومرارة الحنظل، ابتسامة ثغر ونقطة دمع، ابتهاج الربيع وكآبة الخريف. الكلمات الأجنبية والعامية في اللغة العربية نشرنا في الجزء الرابع من الزهور ص 137 وفي العدد الخامس ص 215 الكلمات العربية التي باشر نادي دار العلوم وضعها لبعض اللكمات الأجنبية أو العامية وأبدينا ما عنّ لنا من الملاحظات بشأن هذه الأوضاع. واقترحنا

حينذاك على أعضاء النادي أن يفسحوا المجال لسائر أدباء الأقطار العربية حتى يتسنى لهم مشاركتهم في الرأي تعميماً للفائدة. وجعلنا مجلة الزهور المنتشرة في البلاد العربية واسطة لمبادلة الآراء في هذا الموضوع. فتناقلت الصحف والمجلات بحثنا هذا وذيلته بما عرض لها من الملاحظات. وقد جاءنا من أحد مراسلينا في بغداد كلام بهذا الشأن نعرضه على أعضاء نادي دار العلوم. وقد عرف القراء هذا الكاتب من مقالته الشائقة النهضة الأدبية في العراق ص 185 التي كان لها وقع عظيم في بلاد العرب. قال: تلقى العلماء في بغداد أحسن التلقي ما أخذه نادي دار العلوم على نفسه من تتبع الألفاظ الأعجمية والعامية لوضع مقابل أو مرادف لها في العربية وأول شيء يعن لنا في هذا الصدد أنه يحسن بأعضاء النادي أن يشركوا سائر أهل الديار العربية في هذا العمل الخطير ليكون الجميع يداً واحدة في استحسان الموضوعات الحديثة أو دفعها وإلا وقع النزاع وانتفى الانتفاع. لابد من أن تفسر الكلمة الإفرنجية أو العامية قبل أن يوضع لها مرادف في العربية. بل ويحسن أن يكتب مرادفها بالإفرنجية، وإذا كانت إفرنجية أن تكتب بأحرف تلك اللغة ليهتدى بها. وإلا فقد تكون اللفظة شائعة في ديار مصر ومجهولة في ما سواها. كما هو الأمر في الحروف الآتية: استمارة، وبولك نوت، وجول، وترسينة وغيرها فإننا لم نفهم المطلوب منها. وأما (انفيتيانرو) فإن وجوده وجوداً طبيعياً في البلاد الصخرية أو الجبلية من بلاد اليمن والحجاز وديار مضر وربيعة وبكر مما حدا العرب إلى وضع حرف يؤدي معناه. وقد سموه جَديرَة واللفظة إلى اليوم معروفة

في بلاد اليمن وديار مضرو الجزائر هذا فضلاً عن أن اللفظة فصيحة في هذا المعنى فقد جاء في الصحاح ويقال للحظية من صَخْرٍ. جديرة ولا يمكنهم أن يعرفوها يومئذ أحسن من هذا التعريف. ومن مادة ج د ر اشتقوا الجدير وهو مكان قد بني حواليه جدار (الصحاح) والجدار هو الحائط. وكل درج من درج هذا الميدان المدرَّج عبارة عن جدار لما قبله. (بوية) المشهور في معنى البوية ما يقابله بالفرنسية وهو بالعربية الأدلم وقد استعملوا أيضاً في هذا المعنى الفارسية الأرَنْدَج وأما إذا أرادوا به ما تدهن به الحيطان وغيرها من آنية وأوعية فهو في الأول والثاني: الدهان ويقابله بالفرنسية , (خارطة) لم ترد الخريطة بمعنى الخارطة لهذا المخطط الأرضي. إلا أن يكون ذلك من باب المعرب الحديث. وإنما قالوا فيها تخطيط الأرض أو رسم الأرض أو مصور الأرض. ومن ذلك عناوين بعض الكتب في الجغرافية مع رسومها. إلا أن الخريطة قد وردت بمعنى أو في كلام المولّدين. (طابور) ليست هذه الكلمة محرفة عن العربية تابور وإنما هذه هي نفس التركية طابور فحرّفها المحدثون بصورة تابور، والتركية من أصل بولوني فالكلمة إذاً لم تدخل في لسان آل عثمان إلا بعد سنة 1561 وأما في كتبا لعرب فلم ترد تابور إلا بعد شيوع اللفظة التركية بين العثمانيين والذي استزل أهل النادي للقول بعربية اللفظة وجودها في تاج العروس بل تنبيه على عجمتها. بيد أن صاحب التاج كثيراً ما يغفل عن

حالة آداب العرب

أصل اللفظة. وإلا فسائر أمهات اللغة ودواوينها القديمة لا تذكرها. (دوسيه) المستعمل في العراق في هذا المعنى الإضبارة وقد جاءت بهذا المعنى في كتب العرب وأما ملف فلا تؤدي هذا المؤدى إلا ببعض تكلف. هذا ما بدا لنا وهو فوق كل علم عليم. (بغداد) ساتسنا حالة آداب العرب في عصر الجاهلية وعلى عهد الخلفاء اقترحنا على الأدباء في الجزء الأول من الزهور كتابة نبذة عن الوسائل الواجب اتخاذها لترقية اللغة العربية بعد إيراد لمحة وجيزة فيما كانت عليه أيام الجاهلية وعلى عهد الخلفاء. فاستحن الموضوع كثيرون، ولكن الذين حاولوا الكتابة فيه كانوا قليلين، لأنه يقتضي بحثاً وتدقيقاً عظيمين. وكان المجلي في هذا الميدان حضرة الباحث المدقق عيسى أفندي إسكندر المعلوف، فأفاد فيما كتب، وأجاد فيما اقترح، وها إننا ننشر اليوم مقدمته عما كانت عليه آداب العرب في عصر الجاهلية وعلى عهد الخلفاء مرجئين القسم الثاني، وهو ما يجب اتخاذه من الوسائل لترقية تلك الآداب إلى العدد الآتي: العرب من القبائل السامية التي انتشرت في شبه الجزيرة المنتسبة إليهم، وقد بقوا سحابة عصور طويلة بلا كتابة فحفظت آثارهم بأشعارهم ورواتهم، وعرفوا بفرعين عظيمين البائد والباقي: فالقبائل البائدة طمست آثارها كعاد وثمود وطسم وجديس ممن أقاموا في عمان والبحرين واليمامة

واشتهر منهم لقمان الحكيم صاحب الأمثال التي يقال أن أصلها من الشعر المقفى ولغتها حميرية. والقبائل الباقية هي بنو قحطان وبنو عدنان ويعرفون بالعرب العاربة وكانت كتابتهم الحميرية أو القلم المسند القديم انتشرت في اليمن فكانت لغة القبائل البادية وعرفت بلغة قحطان وقد وجدت آثارها في جبل الصفا في حوران وفي مأرب (اليمن) وحروفها منفصلة ولما اعتمد الإسلام على لغة قريش العدنانية تغلبت على اللغات الأخرى وأماتتها. واللغات السبع المشهورة بالفصاحة في العرب العرباء هي: لغة قريش وهذيل وهوزان واليمن وطي وثقيف وبني تميم. ومن القلم المحيري اشتق الكوفي ثم النسخي وفروعه إلى عهدنا. وكانت نهضة العرب قبل الإسلام بنحو قرن أي في أثناء القرن السادس للميلاد ولقد رقاهم احتكاكهم بالحبشة والفرس والروم من مناوئيهم. وكان الشعر في أول أمره عندهم مقاطيع وأرجازاً فقصده المهلهل، وأول من أطال الرجز وقصده الأغلب العجلي بزمن النبي (- صلى الله عليه وسلم -) ثم العجاج. وسئل أبو عمرو بن العلاء: هل كانت العرب تطيل؟ فقال نعم ليسمع عنها. قيل وهل كانت توجز؟ فقال نعم ليحفظ عنها. . ومن أقدم أشعارهم احتضار جدهم يعرب بن قحطان، ومنظومات الحارث بن مضاض الأصغر الجرهمي وشداد بن عاد، وعاد بن عوض وثمود بن عابر وزرقاء اليمامة وربيعة بن نزار والزباء وعامر بن حليس والمرقش الأصغر إلى أن نبغ أصحاب المعلقات والمجمهرات والمنتقيات والمذهبات والمرائي والمشوبات والملحمات فكانت المعلقات من الطبقة الأولى وما يليها من الثانية إلخ.

وكان شعرهم في الجاهلية طبيعياً، وصفوا فيه الظواهر الجوية، ومحاسن الأخلاق والعادات، ومنهم من أحب الروية ومنهم من فضل البداهة، وكان مذهبهم الشعري صحيحاً يتجنبون فيه السرقة والكذب. وقال الأصبهاني في الأغاني: إن موضع شعراء الجاهلية واحد من البلاغة إلا أنه غلب على ذي القروح (امرئ القيس) التجمل بالمعاني وبديع الوصف، وعلى النابغة الاسترسال في البراعة، وعلى زهير العناية بتقويم الألفاظ. وانفرد من هم دون طبقتهم بأشياء مثل أبي دؤاد بوصف الخيل، وعلقمة بوصف الوحش، وأوس بن حجر بوصف الخمر، إلى غير ذلك مما اكترث من أمثلته في كتابي (الطرف الأدبية في تاريخ اللغة العربية). ومن خطبائهم المشهورين عبد شمس الملقب بسبا بن يشجب بن يعرب بن قحطان، وقس بن ساعدة الأيادي أسقف نجران، وسحبان وائل الباهلي، وكعب بن لؤي بن غالب، وعامر بن الظرب العدواني، وأكثم بن صيفي وعبد المطلب بن هاشم جد النبي (- صلى الله عليه وسلم -) وغيرهم. وعقدوا لهم أسواقاً لتناشد الأشعار وإلقاء الخطب والمباحثة والمماجدة أهمها سوق عكاظ. ولم يعرفوا من العلوم إلا نتفاً من النجامة ومن التاريخ ولاسيما الأنساب، ونبغ بينهم تراجمة عرفوا اللغات الأعجمية مثل زيد بن حماد المنتهي نسبه إلى زيد مناة الذي تقرب من الأكاسرة واقطعوه قطائع وولده عدي بن زيد وغيرهما. ثم صارت الخلافة الإسلامية إلى الخلفاء الراشدين منهم فنبغ رأسهم النبي بالخطابة والقول الفصل وهكذا أخلافه وصحابته وعرفت الكتابة في

هذا العهد، وتحضرت العرب وكان الشعر على منوال الجاهلي ولكنه أدخلت فيه صناعة المديح والألفاظ الدينية فنبغ فيه الشعراء المخضرمون كعبد الله بن رواحة ومالك بن نويرة والعباس بن مرداس وكعب بن زهير وحسان بن ثابت الأنصاري والخنساء، ثم الشعراء المسلمون مثل عمرو بن معدي كرب الزبيدي والنمر بن تولب التغلبي وأبي ذؤيب الهذليو النابعة الجعدي وغيرهم. وكان للخفاء أشعار وتواقيع وخطب ورسائل بليغة، ووضع أبو الأسود الدؤلي علم النحو بإشارة الإمام علي بن أبي طالب إلى غير ذلك. ثم جاءت الخلافة الأموية فوضعت النقط والحركات. وكان الشعر عليه مسحة من صبغة الجاهلية ولكنه مال إلى الحضارة والتبسط بالمدح والإطراء فنبغ فيه القطامي النصراني وعبيد الراعي وذو الرمة والكميت بن زيد وابن خماعة وليلى الأخيلية وأشهرهم ثلاثة الفرزدق وجرير والأخطل النصراني. واشتهر من خطبائهم إياس بن معاوية وزياد ابن بيه وابن القرية الهلالي وخالد بن صفوان التميمي ونحوهم. أما الكتابة فقد حولت في هذا العصر إلى العربية في الدواوين، بعد أن كانت بالأعجمية في الشام ومصر والعراق. وكبير كتاب هذا العصر عبد الحميد كاتب مروان الجعدي وإليه ينسب وضع آداب هذا الفن. واشتهر عندهم علم الأنساب، ومن أكبر رواتهم حماد الطائي. وعرف الغناء عن الفرس. والفقه والطب وبنيت المستشفيات وعربت المصنفات الأعجمية من طبية وكيماوية إلى غير ذلك.

أما العصر الذهبي للعربية فهو عصر العباسيين من سنة 750 م - 1258 م وقد قسمته في كتابي (الطرف الأدبية) إلى نهضتين نهضة المشرق ونهضة المغرب. فأزهرت في المشرق بغداد والبصرة وبخارى ودمشق والقاهرة والإسكندرية بالعلوم والآداب واشتهر خلفاؤه بمعاضدة العلم ولاسيما هارون الرشيد وولده المأمون، حتى قال بعض المستشرقين: إن هارون كان يستصحب في سفراته مائة عالم. ولقب أوغسطين اللغة العربية حتى لقد أهدى القيصر نيقيفور إلى الرشيد كتباً كثيرة عربية. ولما كتب المأمون المعاهدة بينه وبين ميخائيل الثالث إمبراطور القسطنطينية على إثر الحرب المشهورة بينهما كان من جملة شروطها أن يرسل إليه الكتب النادرة الثمينة فأرسلها وعربت. وكان في بغداد ديوان الترجمة للتعريب وبيت الحكمة للمطالعة. وكان العلماء يتسابقون إلى خدمة الخلفاء ويرحلون في طلب العلم وقراءة الكتب على مؤلفيها أو طلبتهم ويأخذون إجازات بما اقتنوه منها. وأزهرت في المغرب قرطبة وإشبيلية وغرناطة وبلنسية وصقلية وفاس ومراكش والقيروان ولاسيما بمعاضدة الخلفاء أخصهم عبد الرحمن الناصر وابنه الحكم المستنصر. وكانوا ينافسون المشرق بترقية المعارف حتى أن الحكم الثاني الأندلسي اشتهر باستنساخ الكتب، فأرسل ألف دينار إلى أبي الفرج الأصبهاني ثمن أول نسخة من الأغاني، ليظهره في الأندلس قبل ظهوره في المشرق فقرئ فيها قبله. وقد حمله مؤلفه إلى سيف الدولة بن حمدان قلم يعطه أكثر من ألف دينار فاستنزرها الصاحب بن عباد لأنه كان يكبر الكتاب.

وهكذا تبارت الدولتان الشرقية والغربية بتعريب الكتب العلمية وتعزيز المكاتب وتشييد المدارس وتقريب العلماء والمترجمين والشعراء وكان معظم الأطباء المعربين في المشرق من النساطرة المسيحيين وفي الأندلس من الإسرائيليين. وكانت المدرسة المستنصرية في بغداد وكلية قرطبة والقيروان مباءة للعلماء. فوضع في المشرق فن العروض والقوافي، وضعه الخليل بن أحمد الفراهيدي. واشتهر سيبويه بالنحو والأصمعي بالرواية وإسحق الموصلي وولده إبراهيم بالغناء وأبو نواس وأبو العتاهية والمعري وديك الجن بالشعر. وأشهر شعراء هذا العصر ثلاثة المتنبي وأبو تمام والبحتري كما فصل ذلك ابن الأثير في مثله السائر. ووضع في المغرب فن الموشحات المنسوب إلى مقدم بن معافر الغريري وأخذ عنه ابن عبد ربه صاحب العقد الفريد وغيره فاشتهر من شعراء المغرب ابن خفاجة وابن هانئ وابن حمديس وابن سهل وابن همار وابن هبون وابن صارة وابن رضوان وحفصة بنت حمدون والرميكية وابنتها بثينة وابن باجة وابن بقي وابن زهر وغيرهم. وعلى الجملة فقد كان الأندلسيون نحو ثمانية قرون أساتذة للأوروبيين، ونبغ من أدباء ملوكهم المعتضد بالله العبادي وولده المعتمد وغيرهما ولهم شعر رائق. ومن مشاهير كتاب المغرب ابن عبد البر وابن الأبار وابن رشيق وابن زيدون وابن زمرك وابن أبي رندقة الطرطوشي وعائشة بنت أحمد

وأسماء العامرية والشلبية وغيرهم. ومن فلاسفة الشرقيين ابن سينا، والفارابي والرازي ومن الغربيين ابن رشد وابن الطفيل وغيرهما من كبار الأطباء ممن لا محل لاستيفاء تراجمهم الآن. ولقد نالت العربية في عصر الدولتين الشرقية والغربية مجدها وامتدت آدابها مع غزوات أهلها في القارات الثلاث آسيا وأفريقية وأوروبا، ومعظم أوروبا التي بسط العرب عليها جناح سطوتهم إسبانيا وصقلية وإيطاليا الجنوبية. واقتبس الأوروبيون عن العرب العلوم مثل الباب سيلبسترس الثاني (جيربرت) وفريدريك الثاني إمبراطور ألمانيا وألبرت الكبير وغيرهم. ولقد سمي هذا العصر بالعباسي تغليباً مع أن دولاً كثيرة نشأت في أثنائه مثل دولة بني حمدان في حلب، وبني بويه في فارس، وبني ساسان في ما وراء النهر، والفاطمية في مصر، والأموية في الأندلس. وقامت في تلك الأثناء الدولة السلجوقية فشيدت المدرسة النظامية في بغداد، وأقامت المستشفيات والمراصد. وشيد الفاطميون بمصر دار الحكمة للعلوم ومكتبة كبيرة. ثم جاءت الدولة الأيوبية على عقب الفاطمية فشيدت المدارس في بغداد وحلب والمستشفيات في مصر والمراصد في دمشق وغيرها وكانت رغبات الشعب في العلم ومساعدات الحكومة هي الباعث الأكبر على النجاح. ثم غلبت الأمة العربية على الملك في القرون المتأخرة فكثرت غزوات الصليبيين والترك والتتر حتى تأخرت لغتهم بمزاحمة لغة الفاتحين لها وذلك من سنة 1258م إلى أوائل القرن التاسع عشر. ومع ذلك فقد نبغ في هذا

العصر المتأخر شعراء من أشهرهم ابن العفيف التلمساني وصفي الدين الحلي وابن الوردي وابن نباتة وابن النحاس وان معتوق والنابلسي والشيخ أحمد البربير ومن المسيحيين المطران سليمان الغزي والمطران جرمانوس فرحات والخوري نقولا الصائغ وغيرهم. ومن الكتاب ابن خلدون المغربي وابن جزي الغرناطي. ومن المؤلفين كثير لا محل لاستيفاءهم وحسبنا أن نشير إليهم ففي العلوم اللسانية ابن مالك الأندلسي صاحب الألفية وابن عقيل والاشموني شارحاها والصبان محشيها. وفي العلوم البيانية واللغوية جلال الدين السيوطي الذي ألف في جميع الفنون العربية، والخفاجي صاحب طراز المجالس وشفاء الغليل وشرح درة الغواص. وابن منظور صاحب لسان العرب والفيروز بادي صاحب القاموس والزبيدي صاحب تاج العروس. وفي التاريخ والجغرافية والرحلة أبو الفداء وابن جبير وابن بطوطة والحسن القرطبي المعروف بالأسد الأفريقي. وياقوت صاحب معجم البلدان والمقريزي والمسعودي ومن النصارى ابن العبري وابن الفضل الإنطاكي والسمعاني والدويهي والبطريرك مكاريوس الحلبي المعروف بابن الزعيم وولده الأرشد ياكون بولس وغيرهم. وفي الرياضيات ابن الهائم وأبو بكر الجمال المصري وغيرهم. ومما امتاز به هذا العصر اختراع المطبعة فكان للعربية نصيب منها في أوروبا فطبعت بحروفها كتب كثيرة في إيطاليا وفرنسا وإنكلترا والأستانة وحلب ولبنان ومالطة إلخ. ولما تنفس القرن التاسع عشر انتشرت بيننا الطباعة فاعتزت بها

في جنائن الغرب

آداب العربية ونبغ كثير من المؤلفين والعلماء والمعربين فنشروا لنا من المؤلفات ما هو جدير بالمطالعة وإن كانت لا تزال قاصرة عن حاجاتنا فإن فيها دليلاً على نهضتنا وكفى بجرائد المهجر في أمريكا الشمالية والجنوبية ومطابعه ومؤلفاته شاهداً عدلاً على أن العربية جددت شبابها واستعادت نهضتها. فماذا يجب اتخاذه لترقية آداب هذه اللغة؟ (هذا ما نراه في الجزء الثاني). عيسى إسكندر المعلوف في جنائن الغرب العزلة طالما كنت أجلس في الجبل تحت ظل شجرةٍ من بلوط، وقد خيم الحزن على صدري، فكنت أسرح الناظر في السهول التي نشرت أمامي أحاسن محاسنها يتلو بعضها البعض وقد أخذت زخرفها وأزينت وأنبتت من كل زوج بهيج، وقد آذنت ذكاء بالغروب مرتدية حلتها الصفراء تعلوها الكآبة. ولا أدري إن كان ما ألم بها توجعاً ورحمة لي، أو من ألم البين والفراق. أمامي النهر يزمجر بأمواجه الزاخرة المزبدة، وينساب كالأفعى وسط الرياض، وهناك البحيرة الساكنة كالمرآة الصقيلة. وقد ارتسم كوكب المساء على صفحات الماء. وكانت الجبال التي تحوطني متوجة بغابات قاتمة رمى عليها الشفق أشعته الأخيرة.

لم تك هذه المناظر الجميلة لتروقني أو تنفحني ببعض سرور ينعش القلب، بل كنت أشاهد الأرض كظل متنقل، كما أن شمس الأحياء لا تدفئ الأموات. كنت أنقل الناظر من أكمة لأكمة ومن الشمال إلى الجنوب، ومن الشرق إلى الغرب فلم أظفر بهناء يخفف ما بي من ألم الكآبة والوحشة. ماذا تفيدني هذه الوديان والقصور والأكواخ التي لا أعبأ بها إذ لا أجد بها ضالتي المنشودة، وما كانت لتشرح صدري هذه الأنهار والصخور والغابات مع ما أنا فيه من الانفراد والعزلة. وإن غاب عن عيني عزيز واحد فالدنيا بأجمعها تكون أمامي قفرة موحشة. لا أحفل بشمس تتبعها عيني في مسيرها من الشرق إلى الغرب جارية في سماء صافية أو مكفهرة إذ لا أنتظر شيئاً من الأيام. ولو استطعت أن أتبعها في مجراها لكنت أشرف على الجو والصحاري ولكنني لا أرغب في شيء من جميع ما تنيره ولا أطلب أمراً من هذا العالم العظيم. ولكن ربما كان بعد هذا الكون عالم آخر تضيئه الشمس وتظله سماء أخرى، ولو تسنى لي أن اترك جثماني في الأرض وأصعد بروحي إلى السماء لأنظر بعيني ما أراه في الأماني والأحلام، فهناك أتنشي من رحيق المنبع الذي آمله وأجد ما أتطلبه من الأمل والحب، وهذا غاية ما تشتهيه الأنفس، وليس له اسم في المقام الدنيوي. فلم بعد ذاك أمكث في الدنيا دار النفي إذ لا علاقة لي بها ولا شأن لي فيها.

الوصايا الصحية

مثلي كمثل الورق الذابل حينما يتساقط في المروج فتحمله الريح إلى الوديان فاحمليني مثلها أيها الشمال العاتية. (تعريف محمد كامل حجاج) لامارتين الوصايا الصحية تحمل إلينا التلغرافات يومياً أنباء مزعجة عن فتكات الكوليرا في أنحاء أوروبا. وقد بات الوباء على الأبواب يتهددنا. فيجب علينا إتقاء لشره ورداً لغاراته، أن نتدرع بقانون الصحة فيكون لنا حرزاً حريزاً. وقد زودنا حضرة الفاضل صاحب الإمضاء في تقويم البشير بخير الوصايا، فعلينا أن نعمل بها، قال: العلم يقول والعمل والاختبار يؤيدان قوله: احفظ وصاياي لتحفظ لك صحتك فتعيش طويلاً معافى سعيداً ويكثر نسلك ويقوى وطنك وهاك هذه الوصايا: - 1 - الأمراض المعدية - إن أكثر الأمراض، بل كافة الأمراض المعدية والأوبئة، إنما سببها ميكروبات أي كائنات حية وضعها العلماء في عالم النبات (إلا بعضها القريب من عالم الحيوان) في طائفة الطحلب. أما صغرها فمتناهٍ كشرها. وهي تتكاثر بسرعة عجيبة هائلة إذا وجدت غذاء مناسباً وشروطاً موافقة من الرطوبة وبعض الحرارة وغيرهما. ولكل مرض معدٍ ميكروب خاص به يفرز سماً أين منه غالباً سم الأفعى. ولكن اعلم ولا تنس قط أن الأسلحة التي نحارب بها الميكروبات، وبها نمنع انتشار الأوبئة، كما تمنع أوروبا الراقية انتشار الكوليرا والطاعون والجدري، هي:

1 - سلامة البنية بالمحافظة على القوى الطبيعية الموروثة والمكتسبة، ذلك بالمعيشة المرتبة والمأكل الوافي والنوم الكافي، مع تجنب الأتعاب الشاقة عقلية كانت أو جسدية، والابتعاد عن الشهوات والمنكرات، لأنها تضعف ما وضعته فينا الطبيعة من قوة الدفاع لمقاومة الأمراض. الشره السكير الفاسق الفاسد السيرة والسريرة الزاني هو ذاك الرجل الذي عناه سنكا الفيلسوف بقوله: الإنسان لا يموت بل يقتل ذاته. 2 - النظافة التي هي ركن القانون الصحي. وفضل النظافة على التنظيف كفضل الوقاية على المعالجة، أو علم حفظ الصحة (الهيجين) على الطب. نظافة مدينة أو شارع أو مكان أو ثوب أو مياه هي مقياسها الصحي. 3 - التطعيم وتجديده لبعض الأمراض لاسيما الجدري لأنه الواقي العجيب من هذا الداء الوبيل. وقد اتضح أن اللقاح المضاد للدفتيريا والطاعون جزيل الفوائد إبان الأوبئة كواقٍ من هذين المرضين. ونحن بانتظار اكتشاف لقاح لباقي الأمراض المعدية لاسيما السل والتيفوئيدية. 4 - عزل المصاب بمرض معد عن السلماء، لأن أغلب الأمراض، إن لم تنتقل بواسطة البعوض أو الذباب أو الماء كالوبالة (الملاريا) والهواء الأصفر، فهي تسري إلى السليم باللمس والمخالطة كعدوى الخناق (الدفتيريا) والجدري والتعفنات الجراحية والشهقة والحصبة. ويعين لخدمة المصاب بالجدري ونحوه من الأمراض التي لا تصيب الإنسان عادة إلا مرة واحدة من أصيب قبلاً بذلك المرض فاكتسب بذلك مناعة أو معافة. 5 - التطهير أي ملاشاة الجرثومة في مصدرها وينبوعها إما بالنار لإحراق

ما هو قليل الثمن أو بالغليان أو بالمستحضرات التي تقتل الميكروبات كمحلول السليماني أو حامض الفينيك أو الفرمول أو سولفات النحاس مثلاً لغسل الناقهين من بعض الأمراض المعدية كالجدري أو لبصاق المصدورين، وكحليب الكلس لجدران الغرف وخاصة لبرازات المصابين بالتفيفوئيدية أو الكوليرا أو الدوسنطاريا. أو بالمطاهر والمخانق البخارية أو بالهواء السخن الذي يطهر الثياب والفرش والأثاث بقوة الحرارة. فمن فعل ذلك بات آمناً ونظر إلى الأوبئة نظره إلى ذئب ضمن قفص، وفهم كيف أن الأوبئة التي كانت قديماً تجرف، حيث تدخل، ربع أو نصف الخليقة، أصبحت الآن إصاباتها تعد على الأصابع وكيف أن التجارة والاتصالات تخلصت من المحاجر (الكورتنتينات). 2 الأرض - أما الأرض التي على سطحها نقضي حياتنا فيشترط فيها الابتعاد عن التربة الكثيرة التشرب للرطوبة، لأن الأماكن الرطبة هي منابت التعفن كالتربة الدلغانية التي تكثر فيها المياه الآسنة والمستنقعات. فهناك تتفشى الحميات الدورية والخبيثة والتسمم الملاري، فتئول في أماكن كثيرة إلى انحطاط البنية وانقراض السكان. وقد تعلمنا آخراً أن الجرثومة المسببة كل ذلك كجرثومة الحمى الصفراوية تنتقل إلى الإنسان بلدغ البعوض. ومناخ أراض كهذه يصلح بملاشاة المستنقعات وتخديد التربة وفتح قنوات لصرف ما يأسن من الماء ولتجفيفه وبالاختصار بالزراعة لاشِ البعوض برش قليل من البترول على سطح حياض الماء (جرام عن

كل متر مربع من سطح حوض ماء) وتلافه بإسدال شباك ضيقة الثقوب على النوافذ وباستعمال الكلل (الناموسيات) عند النوم إلى غير ذلك من الوسائل المعلومة. 3 الهواء - بلا هواء من يمكنه أن يعيش دقيقة، على أنه إن كان الهواء لازماً فمن اللازم أيضاً أن يكون الهواء نقياً. أهرب من الهواء الفاسد والمحبوس كما تهرب من الحية لأنه هو أيضاً سام. . . واسعَ وراء الهواء المطلق الصافي لأنه من أهم الشروط الصحية للمريض والسليم بل هو من السل الذي ترتعد منه فرائصك أحسن واقٍ وأنجع شاف. وقد لقح بعضهم حيوانات بباشلس السل، ثم أطلق بعضها في الفلاء وحبس البعض الآخر، فالأولى سلمت والثانية أصيبت بالداء. فاختر إذن الأماكن القليلة الازدحام وتجنب الغبار، لأنه يحمل كثيراً من الميكروبات، تنزه أوقات الفراغ في البرية أو على شاطئ البحر وفي غابات الصنوبر وأحراج الإيكالبتوس لأن الأشجار تمتص الرطوبة وتنقي التربة بجذورها وتصفي الهواء بأوراقها، إنما لا يجوز أن تسد غضاضة الأشجار النوافذ. الهواء الحار مزعج للفكر والجسم، والمناخ الحار مضعف تكثر فيه التعفنات والحشرات المؤذية كالبعوض والبق والذباب والبراغيث وله أمراض خاصة تكوّن قسماً من الباتولوجيا هاماً. الاستدفاء على المنقل أضر كثيرين لأنه يصدر من الاشتعال غاز سام هو أكسيد الكربون (الحامض الفحمي) وهو يسبب سنوياً موت أناس عديدين.

4 المشرب والمأكل - الماء تحتاج إليه في كل حين أي لمشربك وطبخك ولتنظيف بيتك ولصناعتك وبستانك. الماء ضروري لحمامك ولصحتك. والماء البارد ينشط ويدفئ شتاء ويخفض الحرارة صيفاً والماء السخن ينظف ويسكن. ولكي يكون الماء كافياً، يجب أن يكون وافراً، وعلى كل حال يجب أن يكون نقياً سليماً من كل ميكروب منذ خروجه من ينبوعه. ولابد لهذا الينبوع من حرم ووسائل كافية تقيه من ارتشاح أقذار ما يجاوره من التربة حين سقوط الأمطار. ولتوزع المياه منقولة ضمن أنابيب حديدية محكمة لا تتحلب إليها الأوساخ لاسيما برازات الإنسان. وإذا لم يكن الماء نقياً وعند الاضطرار ولأقل ريب رشحه بمرشحة شمبرلان أو بالأحرى إغله فتسلم من الكوليرا والدوسنطاريا والتيفوئيدية وبعض الديدان التي هي مائية الأصل. على أنا نبشر القراء بأن العلم اكتشف اكتشافاً عظيماً خطيراً وهو أن بواسطة مرور أشعة مصباح كهربائي زئبقي على الماء يمكنك أن تطهره بالحال وتقتل ميكروباته بدون أن تفقد ذلك الماء شيئاً من ذلته وفوائده لأن أشعة الطيف التي هي ما وراء البنفسجي المعروفة جيداً لدى من درس الطبيعيات، هي ذات قوة عجيبة لقتل الميكروبات. وهذا الاكتشاف هو الآن موضوع مباحث عديدة ذات نتائج سامية. ليتك لا تأخذ مشروباً إلا الماء لأن المسكرات سموم. والسم لا يخرج من خزانة الصيدلي إلا بأمر الطبيب. كيف لا وهي تضر الجسم

ضررها العقل والدين والآداب والاقتصاد وتضعف أكثر الأعضاء، وتؤثر في لابنين وتسم الدم: أسكر بعضهم ديكاً فتحول لون عرفه من أحمر جميل إلى أزرق أسود أي لون تسمم الدم. وبالاختصار إن شرب المسكر هو الطريق الرحب المؤدي إلى الخمارة والقهوة وملعب القمار والمستشفى أو المأوى والمارستان فالمقبرة. وليكن طعامك صالحاً من حيث الكمية والتحضير تغلب فيه المواد النباتية على اللحوم (اصطلحوا أن يضعوا الحليب والألبان والبيض بمصاف المواد النباتية وهي من أنسب المآكل من كل الوجوه). اللحوم سريعة الفساد خصوصاً في بلادنا الحارة وتتوفر فيها الجراثيم لاسيما لحم الخنزير. الحبوب بالإجمال تغذي جيداً وهي سهلة الهضم إذا هرست ناعماً ونضج طبخها. وأما الخضر والثمار فتشتمل على مواد مغذية غير وفيرة، ومعظم تركيبها من الماء، إلا أنها لذيذة وموافقة جداً. احذر المهيجات كالبهارات والمسكرات والخردل فهي تجعل المعدة بليدة فمريضة. ولا يدفعنك إلى الطعام شره أو شرب عرق بل شهوة طبيعية نسميها القابلية أوجدتها العناية لتعويض ما يفقدنا إياه العمل. وما تأكله برغبة تهضمه بسهولة. المعدة مثل كل أعضائنا تتعب مما تكره والسخرة تزعجها. وليكن الطعام ملائماً للعمل والظروف كحليب الأم وحده للرضيع. والأطعمة اللينة لمن فقد أضراسه وصعب مضغه. امضغ جيداً، لأن الباري تعالى لم يضع الأضراس إلا لوظيفة لها هامة. قليلون ينالهم الأذى لقلة طعامهم وأما كثيرون فيتخمون ويمرضون لشراهتهم. وما ملأ الإنسان وعاء شراً من بطنه. لا

تدخل الطعام على الطعام. خفف عشاءك تحمد منامك. - 5 - المسكن - لسكناك نتفق محلاً رفيعاً معتزلاً بعيداً عن كل مكان وسخ خطر وإن أمكن في وسط حديقة واجعل جدرانه من حجر أو قرميد وارفع حضيضه، وافصله عن رطوبة التربة القائم عليها بطبقة عديمة الامتصاص كالحجرية. والرطوبة منبت العفونة والعفونة مرض وبالأحرى المرض عفن. وسع غرفه وقلل سكانها، ولكن الشبابيك عديدة عالية وسيعة أشبه بأبواب منها بشبابيك، وافتحها وسيعاً وكثيراً وطويلاً ومتقابلة ما استطعت سبيلاً. . . كيف تنشئ نوافذ فتسدها بالبردايات؟ ألا تعلم المثل الشهير: البيت الذي تدخله الشمس لا يدخله الطبيب. الميكروبات مثل كل محبي الأذى ترغب في الظلام. فالشمس هي المطهر الأقوى والأعم والأرخص. أقول للعامة لأفهمها فوائد الشمس. افتحوا نوافذكم لدخول الشمس كما لو كان لدخول ليرات إنكليزية. لا تستكثر من الأثاث لغير لزوم فإنه قد يصبح مأوى للغبار وعشاً للميكروبات. والقانون الصحي قد قضى عليها كما قضى عليها قانون الاقتصاد إذ قال: من يشتري الفضولي لا يلبث أن يبيع الضروري كرس ثمنها للأشياء المفيدة الصحية. النور الاصطناعي يزاحمك على الهواء النقي المحيي فنم إذا في الظلام. تعود إبقاء نافذة مفتوحة في غرفة المنام. ونم ضمن كلة (ناموسية) تقيك البعوض. ضع المستراح خارجاً أو منفصلاً عن البيت وليكن فيه النور والهواء وافرين وليكن حضيضه وجدرانه صقيلة تلاقياً للأوساخ. بادر

وضع لبيتك فاصلاً مائياً أي أنبوباً معرجاً كحرف؟؟ العربي أو؟؟ الفرنساوية النائمين. لأنه عجيب الفائدة إذ يمنع الغازات الفاسدة وكل رائحة وكم هي غزيرة في بلادنا الحارة! وبواسطته ترى الآن المستراحات لا تفترق من هذا القبيل عن قاعات الاستقبال أو لتنزل البرازات إلى صناديق حديدية محكمة أو فلترسل مع كل الأقذار إلى الأسراب لتتطهر أخيراً بتسميدها البساتين والأراضي المزروعة. 6 الثياب - لا تلبس للزخرف بل للاحتشام واتقاء البرد والعناصر الخارجية. البرد أشد وطأة والتبرد أكبر أذى لشديدي التحفظ وكثيري التلفف من غيرهم، فهم أقل تصلباً تجاه تقلبات الطقس. احذر الأربطة والملابس الضيقة التي تعوق دورة الدم ونمو الأعضاء. احذري أيتها السيدة المشد (الكورسه) فهو قفص يحبس الأعضاء الرئيسية، وهو عثرة في سبيل قيامها بوظائفها ولأنه يزيح بعضها عن مكانه ويعوق نمو جميعها. لا تكنسي بثيابك الطويلة الأوحال والغبار حيث جراثيم الأمراض وبصاق المسلولين، بل اسهري على ثوبك أن يكون نظيفاً أكثر منه أن يكون على آخر موضة. الحذاء الضيق يضايق الرجل ويشوهها ويسبب المسامير بل انزعاجاً في الجسم. 7 الأخلاق والعادات - تجنب البطالة كتجنبك الأشغال الشاقة جسدية كانت أو عقلية، فالجسدية تفقدك النشاط وتضاد نمو الأعضاء بينما

هي أم الرذائل والهموم، والكسل هدام القوى العقلية والجسدية. والعقلية تنهك قواك وتجعلك معداً للأمراض وتضعف الأعصاب، العمر ينفد والشغل لا يفرغ. اشتغل باعتدال لأن الشغل يسلي ويقوي الأعضاء وينشط ويضاد السمن والنقرس والحصى التي تجلبها الحياة الساكنة الحياة الجلسوية. استرح في كل أسبوع يوماً تاماً طبقاً للوصية ونم واشتغل واسترح ثمان ساعات من كل يوم. لا تحول ليلك إلى نهار لتقضي سهراتك بما يحرمه الدين أو القانون الصحي كلعب القمار. أرح بالك وأشغل جسمك تلك نصيحة أراني باحتياج إلى إعطائها كل يوم مراراً. اسع وراء اكتساب الخصال الحميدة والمبادئ الشريفة. تعود العادات الحسنة وعودها خاصة لبنيك، فالعلم في الصغر كالنقش في الحجر. عود أولادك النشاط وقلة التنعم. . . صلبوهم تدريجياً. ربوهم يا شرقيون على الرجولية الحقيقية: الفسق والغضب وكل ما يخل بالآداب ينخر العافية ويذهب بالهناء ويأتي بالشيخوخة قبل الأوان، كما قال ابن سيراخ منذ القدم. الزنى يدهورك في لجة الأمراض المخيفة ويلبسك ثوب العار كمرض الزهري الذي ينتقل إلى النسل، فالآباء يأكلون الحصرم والأبناء يضرسون. ولذلك لا عجب إذا اعتبرنا الزواج فرضاً مقدساً على المرء تجاه نفسه ووطنه وتجاه الإنسانية. فالمرأة حياة الرضيع وملجأ الصغير ومسرة الشاب وشريكة الكهل وعضد الشيخ. ونكرر التحذير من السكر والأشربة الكحولية. خف من أخذ أول كأس عرق أو كونياك كما يجب أن تخاف من إمضاء أول كمبيالة أو أول كفالة. التدخين يضر غالباً ولا يفيد.

في حدائق العرب

ضع نصب عينيك النظافة والاعتدال في كل الأحوال: نظافة التربة نظافة الماء نظافة المسكن والملبس نظافة الشارع نظافة الجسم نظافة. . . اعتدال في العمل اعتدال في المأكل والمشرب اعتدال في. . . نظافة واعتدال هاك تكراراً مختصر قانون الصحة. ونحن نعتقد أن المحافظة على الصحة فرض واجب وأن تعريض الذات أو القريب للأمراض المعدية جريمة أو جناية. . . علمت فاعمل. لأن العمل بلا عمل، كجسم بلا روح، أو كشجرة بلا ثمر. الدكتور أمين الجميل في حدائق العرب صفة المحبة قال أبو بكر الوراق: سأل المأمون عبد الله بن طاهر ذا الرياستين عن الحب ما هو. فقال: يا أمير المؤمنين إذا تقادحت جواه النفوس المتقاطعة بوصل المشاكلة، انبعثت منها لمحة نور تستضيء بها بواطن الأعضاء، وتتحرك لأشرافها طبائع الحياة، فيصور من ذلك خلق حاصر للنفس متصل بخواطرها يسمى الحب. وسئل حماد الراوية عن الحب ما هو. فقال: الحب شجرة أصلها الفكر، وعروقها الذكر، وأغصانها السهر، وأوراقها الأسقام، وثمرتها المنية. وقال معاذ بن سهل: الحب أصعب ما ركب، وأسكر ما شرب،

من كل حديقة زهرة

وأفظع ما لقي، وأحلى ما اشتهى، وأوجع ما بطن، وأشهى ما أعلن، وهو كما قال الشاعر: وللحب آفات إذا هي صرحت ... تبدت علامات لها غر صفر فباطنه سقم وظاهره جوى ... وأوله ذكر وآخره فكر وقالوا: لا يكن حبك كلفاً، ولا بغضك سرفاً من كل حديقة زهرة * لم ينقرض أكلة البشر عن وجه الأرض: ذهب مبشران إلى جزائر هيبريد الجديدة، وقالا للسكان: أحبوا بعضكم بعضاً فأجابوهما نحن نحب بعضنا بعضاً ونحب خصوصاً البيض وأكلوهما. وفي الكونغو قبض الوطنيون المتوحشون على ضابطين بلجيكيين وأكلوهما. وأكل أهالي النيجر طبيباً إنكليزياً ذهب ليدرس أمراض تلك البلاد فأحله القوم في معدهم. وفي جزائر الأميروته ذهب خمسة من الألمان فريسة الأهالي. * دخل التلغراف اللاسلكي في طور الاختراعات العلمية التي يستخدمها الإنسان في حاجاته. وأصبحت المراكب في عرض البحار تخاطب البر وتتلقى أخباره على مسافة مئات من الكيلومترات. ومن أعلى برج إيفل يتخاطب الفرنسيون مع إخوانهم في مراكش وقد انتفعوا بذلك كثيراً في الحملة المراكشية الأخيرة. وفي العام الماضي كان اثنان من الأمريكان مسافرين كل في مركب بعيد عن الثاني فتكمنا بواسطة التلغراف اللاسلكي أو تلغراف مركوني من لعب الشطرنج.

* أخذ الأمريكان يصطنعون السيكار من ورق الكتابة. فينقعون الورقة مدة في عصير التبغ، ثم يضعونها في مكابس خصوصية لقطعها وتضليعها حتى تخدع العين بمرآها وتلف على شكل السيكار المعروف، وبقول ذوو الخبرة في التدخين أن هذا التبغ الاصطناعي لذيذ الطعم، زكي الرائحة. * في أوروبا اليوم 160 مدينة يزيد عدد سكانها الواحدة على مئة ألف. منها 25 مدينة تضم الواحدة أكثر من نصف مليون نسمة. و7 يزيد سكان الواحدة منها على المليون وهي لندرا وباريس وبرلين وفيينا وبطرسبورج وموسكو والأستانة. * يلزم 120 كيلو من البارود لحشو المدفع الجديد الذي من قياس 305 مليمترات. * سوق الزواج في المكسيك كاسدة أكثر منها في كل بلاد. فإن عدد المتزوجين كل سنة يبلغ 89 فقط عن كل عشرة آلاف ساكن ونسبة المتزوجين في فرنسا إلى هذا العدد 160. * باريس أكثر المدن قهوات وخمارات وبارات ومعدل عددها 11 لكل ألف نسمة ويليها سان فرنسيسكو وفيها 9 قهوات أو خمارات لكل ألف نسمة وبرلين 8 ونيويورك 4 ولندرا 2. وفي بطرسبورج قهوة لكل ألفي نسمة. فهل للحكومة أن تحصي قهوات مصر لنرى نسبتها إلى الأهالي؟ * في نيويورك 19. 243 فابريقة أو معملاً تشتغل ب 350 صناعة مختلفة وقد بلغ دخلها في السنة الماضية 11 مليار فرنك. * دل الإحصاء الأخير في روسيا على أن عدد سكانها 160 مليوناً

بين هنا وهناك

وقد زاد الروس 25 مليوناً في الثلاث عشرة سنة المنقضية. * يصح أن يطلق على سنة 1910 اسم سنة المذنبات. فلا يزال القراء يذكرون مذنب هالي وما ألقاه من الرعب في النفوس. وسيظهر لنا قبل انقضاء السنة 6 مذنبات ولكنها كلها أصغر من الذي تقدم. بين هنا وهناك اجتمع صاحب الزهور ببعض أدباء بيروت، فدار الحديث على الأدب هنا وهناك، ولما كان ملاحظ جريدة البرق البيروتية قد وفى هذا الاجتماع حقه من الوصف، فقد رأينا نقل ما كتب: وكانت شمس الأربعاء على جناح الشفق يوم اجتمع في مكتب البرق عصابة من الأدباء: أنطون الجميل وأمين تقي الدين وأمين الغريب وإلياس فياض ويوسف ثابت وشكري السودا وبشارة الخوري وهلم جرا - هؤلاء كانوا من أركان العصابة. وصاح بهم صائح: هلموا فقد ضاق صدر الغرفة، وبعد دقائق كنا في روضة جمعت الطيبات الصوالح وسمحت بثلاثة أصحاب هم نصر الله الحداد وشكري أرقش وداود مجاعص فقلنا، وكأنا كنا على ميعاد: - هات يا فياض هجاءك في سركيس - سمعاً وطاعة

الذي علق في ذهني أنشره احتراماً لذكر المقدوح فيه وهو من اقترح الهجاء لنفسه ودفع جائزة عليه. دونكم هذه الأبيات القلائل: عجباً تحاول أن تنال هجاء ... أتراك قبل اليوم نلت ثناء أين المشير وأين أيام مضت ... أصليت فيها الخافقين عداء أنسيت تلك الحرب حين أثرتها ... وحملت تلك الحملة الشعواء إذ تستعد من الجياد يراعة ... ومن السلاح وقاحة وبذاء وإذا الورى يتجنبونك مثلما ... يتجنبون العنزة الجرباء إلى أن يقول لا فض فوه يا ويح ذا الأدب الذي أعطيته ... لو كنت قد أعطيت معه حياء تالله ما والاك إلا خائف ... من ذا اللسان الطعن والإيذاء والود إن تكن المخافة أسه ... فالعنكبوت أشد منه ولاء لا تغترر بعريض شهرتك التي ... ملأت بك الأقطار والأرجاء فالشر أسرع ما يكون تفشياً ... والخير يمشي مشية عرجاء هذا هجاؤك يا سليم وإنه ... ليسوءني أني أقول هجاء ما كنت أنحو نحوه لو لم تكن ... عينت جائزة له غراء وكما علمت فإننا في أزمة ... لم تبق بيضاء ولا صفراء فعساك تقترح المديح لكي ترى ... مني مديحاً كالصباح ضياء لكنني لا أتجيد لك الثنا ... إلا إذا ضاعفت لي الإعطاء فهجاء مثلك ليس فيه تكلف ... وأرى مديحك كلفة وعناء وتناول بعد ذلك بلبل رياض الطرب عوده وأنشد يا ليل الصب متى غده وأنشد وقفةً أيها القمر

لا أرى تقريظاً لعود السودا ألطف من كلمة قالها فيه الريحاني. منها ما تقرأ: ما بين أناملك والأوتار، سحر يسحر حتى السحار ما بين أناملك والأوتار، عرائس ألحان وأبكار تلبسهن من يديك الورد سربالاً، وتكللهن بالجلنار ويرحهن النزر من خمر أنفاسك، ويذيبهن الإكثار ما بين أناملك والأوتار، أغصان أنغام وأوتار ولدى اهتزاز الغصن تنور الليالي وتزهو الأسحار وتجتمع حول العود أرواح المحبين من شاسع الأمصار فإن سلك عودك لكسلك البرق يزيل المسافة بين الأقطار وإن لفي وقتك الموسيقي العجيب زمان نعيم مضى وليالي وصل طوال قصار. فقد جئتنا والله في فنك بآيات ومعجزات كبار وقد خيل لي وأنت تداعب تلك الأسلاك وتطايبها بأن مرسح الأوبرا على صدرك يدار فتراءت لي الغواني والراقصات كأنهن لهيب من نار. وكان الجميل صلة مجسمة بين أدباء القطرين المصري والسوري بما كان يسمعنا من أشعارهم ويطرفنا من مأثورهم حتى سكرنا بالخمرتين. - ملاحظ

من وإلى القراء

من وإلى القراء كان للعدد الكبير الذي أصدرناه مخصصاً بموضوع مصر وسورية أحسن وقع لدى عموم المشتركين وقد جاءتنا كتب كثيرة من أنحاء مختلفة وكلها تطري الفكرة التي حملتنا على نهج هذه الخطة والعمل على التقريب بين القطرين الشقيقين. ونحن نرى بمزيد من السرور انتشار هذه الروح بين قراء الزهور ونشكرهم على مؤازرتهم لتحقيق هذه الأمنية كما أننا نشكر الصحف العربية في مصر وسورية وأمريكا على ما خطته بهذه المناسبة من كلمات الثناء فإنما هذه الأفكار تحيا وتعيش بتداولها بين الأدباء والعقلاء. * تأخر هذا العدد عن موعد صدوره لأسباب خصوصية دعت صاحب المجلة إلى خارج مصر، فرأينا أن نضمه إلى العدد الذي بعده ونرسلهما إلى المشتركين في آن واحد. * احتفل الأخوان المسلمون في هذا الشهر بعيد الفطر السعيد أعاده الله بالهناء واليمن والبركات. * بإمضاء الزهرة الذابلة تلقينا كتاباً جميلاً أملاه قلب حساس وخطته يد لطيفة أثنت فيه على الزهور ومنشئها وكتابها، وتمنت لها حياة طويلة ليظل عشاق الأدب يزينون بها مكاتبهم كما تزين العروس رأسها بزهر الليمون. . . سلمت أيتها الزهرة المستترة من الذبول، وأجادك الندى بقطراته المنعشة، ولكن أين الذبول من الزهرة التي تفوح بمثل شذاك العطر.

العدد 8

العدد 8 - بتاريخ: 1 - 11 - 1910 العمال والحكومات العمال هم العدد الأوفر في الأمم، والعامل الأكبر على رقي الشعوب، عليهم مدار قيام الكون، وبهم تقدم بني الإنسان في معارج العمران. هم معدن ثروة البلاد وغناها، ومنهم مصدر نفوذها وسلطتها، وينبوع مجدها وعلاها، بل هم أعصاب البشرية ومجموع حياتها وقواها. هم الذين بعملهم الدائم وجهادهم المتتابع وسعيهم المتواصل يسيرون بسفينة بلادهم سيراً حثيثاً أميناً في بحر تنازع البقاء المتلاطم غير هيابين ولا فخوري. فلا تقعد بهمهم العواصف العاصفة، ولا تثبط عزيمتهم الرياح الثائرة والأمواج الهائجة، بل يواصلون الجد بثبات وحزم. . . ولا يفاخرون بعملهم ولا يباهون بخدماتهم شأن كبار القوم. هم لا تصيبهم مزن الألقاب والرتب وعلامات الشرف المصطلح عليها، هم لا يؤبد رسمهم بالتماثيل النحاسية والأنصبة المرمرية، لكنهم يصبونها من قلوبهم ومهجهم ليمجد بها غيرهم. هم لا يخلد اسمهم في التاريخ بل يكتبون صفحاته بدماء أفئدتهم ليعظم فيها سواهم. هم لا يكللون

بأكاليل الغار بل يغرسونها بعرق الجبين ويجنونها بكد اليمين ليزينوا بها جبهة رؤسائهم. أما هم فجل ما إليه يتوقون هو ما يسدون به رمقهم ويسترون عورتهم، فلا يتقاضون الإنسانية جزاء تفانيهم الدائم واستهلاكهم المستمر إلا ما يعولون به عيالهم. العملة هم الأحرف الصغيرة التي تنضد منها قصيدة البشرية، وتتألف منها أنشودة الكون. وما الكبار والحكام والمتمولون سوى أحرف العنوان الكبيرة التي تستلفت الأبصار وتستوقف القارئ ولا معنى ولا مداول لها إلا بما يليها من صغير الحروف. بل قل إن العملة هم أشبه بأولئك البحارة الذين يشتغلون في داخل الباخرة. يوقدون ويديرون ويحركون. ولا يرى أحد لهم عملاً حتى أنهم أنفسهم لا يرون نتيجة عملهم إذ هم في قعر المركب مدفونون. بيد أن سير السفينة الماخرة في عباب الماء، تحت زرقة السماء، نحو الأرض البعيدة، هو معول شغلهم، والفضل فيه راجع إليهم. . . . نحن لا ننكر أن أولئك البحارة لا يصلحون بلا القبطان، كما أن الجنود لا يقوون بلا القائد لكنه قد يفوت الكثيرين فينسون أو يتناسون أنه لولا البحارة لما وجد القبطان، ولولا العساكر لما كان القائد. كما أنه لولا حروف الكتابة الصغيرة، لما وجدت حروف العنوان الكبيرة. وهذه سنة الخلاق في خلقه. تنبهت الحكومات الراقية إلى هذه الطبقة الأكثر عدداً الأقل حظاً،

وفهمت أي فراغ تملأ في الكون؟ وأية دعامة هي للثروة الحقيقية والتقدم الصحيح فوجهت إليها عناية خاصة، وسنت لها قوانين ونظامات حافظة. ونعم ما هي فاعلة. على أن العمال لم يلفتوا الحكومات إليهم إلا بفضل ما أظهروه من التضامن والتعاضد والتكاثف، فألفوا النقابات والجمعيات، وأسسوا صناديق التوفير والتأمين، حتى أصبحوا هيئة منظمة ذات حول وطول. إذا داعوا سمعت دعواهم. وإن طالبوا أجيبت مطالبهم. ساءت حالهم، ونكبوا بالضيق والعسر وباتوا في أنحاء المعمور أجمع عرضة للهلاك شقاءً وبؤساً وليس من يمد لهم يد المساعدة إلا الأفراد القليلون. فهبوا هبة واحدة، وعملوا على تنظيم شؤونهم المادية والاجتماعية، فنالوا المنزلة التي يستحقونها في المجتمع الإنساني. وما أشرف منزلة العامل من منزلة. . . .! ولكن القوة تولد البطر، والسطوة تنتج الاستبداد، ويد الغايات تمتد إلى كل مجموع. اعتصب العمال فنالوا مطالبهم الحقة أحياناً، ورأى بعض الزعماء فيهم قوة تدك العروش، وتهز التيجان على الرؤوس، فاتخذوهم آلة لنيل مآربهم الملتوية. فرأينا الاعتصاب تلو الاعتصاب بحق وبغير حق وتلك الحركة التضامنية - الجميلة في بدايتها - تتحول أحياناً إلى ثورة فوضوية لا رادع لها ولا وازع. فتعرقل التجارة، وتقطع المواصلة، وتضر بالزراعة، وتوقف دولاب الصناعة، وتقوم عقبة كؤوداً، في وجه سير العمران. وكثيراً ما صار هذا التضامن تضامناً إجبارياً أدهى وأضر

من التخاذل. وهذا الاعتصاب المتكرر في فرنسا وإنكلترا وألمانيا والولايات المتحدة قد سبب هذه السنة من الأضرار ما لا يقدر. على أن هذه الحركة لم تبد إلا في تلك الدول التي تعد في طليعة الأمم الراقية، حيث تنبه الشعب وأدرك ما له من الحقوق - وإن نسي أحياناً ما عليه من الواجبات. ولما كانت الحكومة صورة الشعب رأينا تلك الحكومات - وإن هالها هياج العمال - تسعى إلى تحسين حالهم وصيانة مصالحهم وصد أصحاب رؤوس المال عن اهتضام حقوقهم. فلئن تعدى العمال أحياناً حدودهم مدفوعين بيد تعمل في الخفاء، فإن طول الحيف الذي كثيراً ما يلحق بهم يشفع لهم ويجعلهم دائماً جديرين بكل اهتمام. ولذلك رأينا مجلس نواب ألمانيا يقرر المباشرة حالاً بكثير من الأشغال العمومية المنوي إنشاؤها في المستقبل، وذلك لتشغيل الذين لا يجدون شغلاً. وسمعنا مناقشات مجلس العموم في إنكلترا تتناول أمر العملة ومسألة إعالتهم في شيخوختهم ووفاتهم. وقرأنا منشورات الرئيس روزفلت المنددة بالشركات والنقابات المدافعة عن حقوق العمال والفعلة المهضومة. فقامت لها أمريكا وقعدت. وشاهدنا حكومة فرنسا لدى تشكيلها وزارتها الأخيرة قد أوجدت نظارة خاصة دعتها نظارة العمل للنظر في شؤون العمال والذود عن مرافقهم ومصالحهم والسعي في ترقية أحوالهم المتوقف عليها رقي البلاد. . لعمري إننا سائرون حسب سنة الارتقاء إلى زمن - عساه أن يكون قريباً - تصبح فيه نظارات العمل أرفع شأناً وأكثر خطارة من نظارات

كيف ترتقي

الحربية والبحرية. . . فهلا تنظر حكوماتنا الشرقية، وهلا يرى قادة الأفكار منا الحاجة إلى ترقية حال عمالنا والسهر على مصالحهم، والذود عن حقوقهم فلا يبقوا في أيد أصحاب العمل آلة مسيرة، حتى إذا ما أدت الخدمة المطلوبة أو تعطل سيرها طرحت خارجاً. وسنأتي في العدد القادم على بعض ما يتعلق بالاعتصابات. كيف ترتقي اللغة العربية نشرنا في الجزء السابق ص 343 القسم الأول من مقالة حضرة صاحب الإمضاء وفيه لمحة عن حالة الآداب العربية في أيام الجاهلية وعلى عصر الخلفاء. وهذا هو القسم الثاني وفيه بحث عن الوسائل الواجب اتخاذها لترقية هذه اللغة: إن ارتقاء آداب اللغة العربية يجب أن يتم بسلم ذات ثماني درجات، لا غنى للواحدة عن الأخرى فيها ولا يمكن الوصل إلى قمة نجاحها بغيرها وهي: الدولة والأمة والمدارس والصحافة والتأليف والمجتمعات العلمية والمكاتب. وإليك الكلام على كل منها باختصار. 1 - الدولة - لا خفاء أن اللغة ترتقي بارتقاء الدولة فهي التي تذود عن حوضها وتحمي ذمارها. ومن يجهل نهضة العباسيين في الشرق، والأمويين في الأندلس، والفاطميين في القاهرة، والأيوبيين في بلاد العرب. بل من يجهل نهضة الغربيين بحكوماتهم، وتعزيزهم للغاتهم

باستخراج دفائن الكتب ومن الخزائن القديمة ونقلها إلى لغاتهم، وتقريب العلماء وإجراء الرزق عليهم، وإرسال النساخ إلى كل إقليم ينسخون ما فاتهم من المؤلفات حتى ملأوا المكاتب ورقوا آداب اللغة وعقدوا لذلك مجامع من علماء استقدموهم من أطراف مملكتهم. فهكذا ترقي الدولة آداب لغتها وترفع منار آدابها، وتنشرها بين ظهراني الناطقين بها، فتساعد المؤلفين وتمنحهم امتيازات لحفظ حقوق مؤلفاتهم استثماراً لها. فتكثر الرغبات في وضع المؤلفات العائدة على العربية بالنفع والمرقية لآدابها والناشرة للعلوم العصرية فيها. وطالما نرى عندنا أن زيداً يؤلف كتاباً فيغير بعض عباراته وعمرو يطبعه. أو انه ينسج على منواله مستعيناً بأسلوبه ويزاحمه فيه. فعلى آداب العربية السلام وعلى اللغة العفاء. بل طالما نرى المدارس والمؤلفات لا نظام يوحد مبادئها فلا أمل في إحياء اللغة بيننا على هذه الخطة. 2 - الأمة - يجب أن تكون حريصة على لغتها شديدة الغيرة عليها. ومن سوء الحظ أن معظم المتعلمين عندنا والمعلمين ينظرون إلى لغتهم شزراً. فكيف ينتظرون من الحكومة أن تساعدهم؟ وإذا لم يعتقد كل عربي أنه من المعيب أن يتعلم الإنسان اللغات الأعجمية وهو يجهل لغته، فلا أمل في الإصلاح. ولرب معترض يقول وما النفع من لغتنا العربية مع كساد بضاعتها؟ فأقول لمثل هذا المعترض أن الناطق باللغة العربية لا يستغني، مهما تيسرت له الذرائع خارج موطنه، عن العودة إليه. فبأي لغة يخاطب قومه ويكاتبهم ويخطب فيهم ويفاوضهم؟ وإذا شاء كتابة شيء في موضوع وأراد تعريبه فأي لباس يلبسه وبأي قالب يسكبه.

أليست اللغة العربية هي التي أوحت إلى شاعرها أن يقول بلسانها: كلامي عقار عتقت تم وروقت ... وبعض كلام العارفين عصير إذا ظهرت يوماً بزاة خواطري ... فما لعصافير الطريق صفير وهي التي وصفها الآخر بقوله: ذكرت فصغرها العذول جهالة ... حتى بدت للناظرين فكبرا 3 - المدارس - المدارس القديمة في العالم من زمن الفلاسفة اليونان، ومن أقدم ما قام عند العرب منها كلية القيروان في مدينة فاس عاصمة بلاد المغرب في أفريقية، أسست في القرن التاسع للميلاد ونشرت العلم في أوروبا، ثم الجامع الأزهر سنة 359 هجري (970م) والمدرسة المستنصرية في بغداد سنة 630 هجري (1233م)، فضلاً عن مدارس هارون الرشيد في بغداد والمدن الشرقية ومدارس الأندلس في قرطبة وغيرها من المغرب. ومدارسنا الحاضرة قلما تعتمد في تدريسها العلوم على اللغة العربية بل تدرسها بالإفرنجية وهذه ضربة قاضية بإماتة اللغة وتوقيف نموها والإجهاز عليها، لأن اللغة أشبه بشجرة، تقطع بعض فروعها، وتنبت عساليج جديدة وتؤبر (تطعم) ليتم خصبها. فالأولى بنا أن ننقل العلوم العصرية على اختلافها إلى لغتنا العربية فتتوسع اللغة ألفاظاً وتكثر الأوضاع فيها ويشتد أزرها. وإن قيل إن دون ذلك عقبات تعترضنا، فقل إن المرء من مهد العوائق وذلل المصاعب. فهذه كتب مطبعة بولاق في أول عهدها، وكتب المدرسة الكلية الأمريكية في بيروت في بدء نشأتها، شاهد على سهولة التعريب ووضع الألفاظ للمسميات الغربية في العلوم الطبية والرياضية

والطبيعة، يساعدنا على ذلك الاشتقاق والنحت في العربية وهما من أمتن دعائمها للمتأمل المحقق. وربما أعجزنا وضع كلمة عربية لمسمى إفرنجي فيكفي أن نبقيه على أصله بعد تقريبه من الصيغ العربية كما فعل المعربون في عهد الدولة العباسية وما بعدها، فأدخلوها ألفاظاً كثيرة أغنت اللغة. 4 - الصحافة - ليست الصحافة بيننا بمتجاوزة أول القرن التاسع عشر الماضي وقد أخذت على نفسي البحث في تاريخها (بمجلة النعمة) الأرثوذكسية في دمشق ونشرت الدور الأول منها من سنة 1800 - 1870 م وسأتابع البحث فيه والنظر في ما أفادتنا الصحافة في أدوارها. وقد قدرت أن ما أنشئ من الجرائد، - ميتة وحية - باللغة العربية حتى الآن زهاء ثمانمائة جريدة. ولكن الجرائد الحية لا تكاد تتجاوز المائتين بين مجلة وجريدة في جميع أطراف المعمور. فهل أفادتنا وتفيدنا الصحافة؟ قال العلامة مكولي الإنكليزي: إن كتاب الجرائد هم مشتركوها فإذا نظرنا إلى حالة المشتركين بصحائفنا، لا نستطيع أن نحكم بترقي الصحافة لقلة الرغبة في الجرائد ولعدم تمييز المفيد منها عن المضر. كيف لا ولئن يزال تهجم كتابنا على فن الصحافة وليس لديهم رأس مال علمي ولا مادي كاف هو السبب الأول في انحطاطها. وقلما اجتمع للصحافي المال والعلم معاً. فبانفراد أحدهما تتحول الجرائد إما إلى تجارية لتحصيل المال، وإما إلى اكتساب الشهرة للمتمول. وفي الأمرين الغرور بالنفس فلي إذن من أغراضها الأولية خدمة الشعب واللغة. فضلاً عن أن كثيراً منها تصرف جل اهتمامها إلى التحامل والتشيع وبث روح الشحناء

فتضيع الفائدة المنتظرة منها، وتقل ثقة الشعب بها. اللهم إلا بعض الجرائد التي اتخذت لها خطة معتدلة وتثبتت في رواية أخبارها ووضعت الصدق نصب أعينها. ولكنها قليلة لا تستطيع سد الثلم التي تخرقها تلك. وأحسن دواء لذلك إنشاء مدارس للصحافة ومؤتمرات لها تبحث في أسباب ترقيها كما هو جار عند الأمم الراقية. فتكون الجرائد صادقة المبادئ ومنشئوها ومراسلوها يوافقون مبادئها. فلا ينشئ مجلة أو جريدة إلا من ترشح لهذا الفن ردحاً من الزمن وعرف أصوله. وحبذا لو عرب بعض أدبائنا اليوم كتاباً في فن الصحافة من كتب الإفرنج. وإن كنا نخسر فيه رواية غرامية تثير نقعاً وتمنع نفعاً. فيستلفت الأنظار إلى آداب الصحافة. 5 - المطابع - الطباعة حديثة عندنا لا تتجاوز القرنين والعقد الأول من الثالث. أما الإفرنج فقد عرفوا الطباعة العربية على أثر اختراع المطبعة عندهم، وطبعوا كثيراً من المؤلفات التي لا تزال إلى اليوم نادرةً مرتبة مفيدة. ومعظم مطابعنا الآن أنشئت بعد النصف الثاني من القرن التاسع عشر الماضي وكثر عددها. ولكننا نرى معظمها تجارية، تطبع الكتب دون مقابلة على أصلها ولا تدقيق بإصلاحها، فتخرج مشحونة بالأغلاط غير متقنة الطبع ولا الورق ولا الترتيب، مع غلاء في أثمانها فلا يقبل الناس على ابتياعها فيدعي واضعوها كساد بضاعة العلم. فما أفضل الذرائع المتخذة لترخيص أثمان المطبوعات والاقتصاد بالحروف العربية، لتروج الطباعة والكتب ويقبل الأدباء على التأليف والناس على المطالعة. ومما أذكره بأسف أن المرحوم الشاعر الناثر رزق الله

حسون الحلبي الذي نشرت ترجمته في مقتطف هذه السنة، كتب مقالات ضافية، استنسخت إحداها وهي في الاقتصاد المطبعي باختصار بعض حروف ليقل عددها فيسهل العمل على المنضد (الصفيف) وترخص نفقات الطبع، فلم يلب دعوته أحد. ومثله فعل المرحوم العلامة الشيخ إبراهيم اليازجي في وضع الحروف الاقتصادية، قبل مغادرته سورية وانتقاله إلى مصر والحرف باقٍ في مطبعة خليل أفندي سركيس الأدبية لم ينضد منه إلا صورة إعلان في الجرائد على أثر وضعه، وشروح نجعة الرائد التي طبعت أولاً في تلك المطبعة وأعدمت عند حريقها. ومما تؤاخذ عليه مطابعنا عدم وضع فهارس للكتب فيتشوش الطلب على المطالع وتنكمش نفسه وينقبض صدره. فضلاً عن أنها إذا طبعت كتاباً كان قد طبع في أوروبا وذيل بحواش وفهارس وملاحظات مفيدة، حذفت كل هذه الزوائد، زاعمةً أنها فضلات، مع أن لها المقام الأول في التأليف. وما ذلك إلا لأننا نقصد السرعة في العمل للكسب لا لخدمة اللغة. وأذكر أنني رأيت كشف الظنون طبع أوروبا وعليه تعاليق مفيدة وله فهارس تقرب على المطالع بعيد مطالبه. ثم رأيته مطبوعاً في مصر والأستانة وليس فيه غير فهرس المواضيع. وكذلك كتاب المعجب في تلخيص أخبار المغرب فإنه مطبوع في أوروبا بتعاليق وفهارس ومجدد طبعه في مصر منذ بضع سنوات وليس فيه إلا فهرس صغير جداً. وهكذا قل في رحلة ابن بطوطة وابن جبير وغيرهما وهذا مثلاً كتاب حياة الحيوان الكبرى للدميري المطبوع في مصر. لا يفهم منه المطالع شيئاً،

حتى يقرأه تباعاً صفحة صفحة. مع أنه لو كلف أحد بدرسه ووضع فهارس لما حواه من المباحث الكثيرة في أعلام الحيوانات والتراجم والأقاصيص والفكاهات والأشعار والأسجاع، لقربت الفائدة من مطالعته. ومع ذلك فقد رأيت قليلاً من الكتب المطبوعة في مصر قد أبقيت فهارسها مثل (طبقات الأطباء) لابن أبي أصيبعة وغيره. ولا يجب أن ننسى عناية كثير من المطابع المصرية والبيروتية في الإتقان والترتيب والنظافة. ولكن نحب أن يعم هذا السعي المحمود بيننا ترغيباً للمطالعين وتقريباً للاستفادات. وأهم ما نستلفت إليه المطابع إصلاح الأغلاط والتدقيق. 6 - التأليف - نريد بالتأليف ما يشمل وضع الكتب وتلخيصها أو تعريبها. ونحن في أشد حاجة ماسة إلى وضع كتب مدرسة على نظام موحد، وكتب تهذيبية ومعجمات غنية بالأوضاع والاصطلاحات والحدود العلمية، معرضة عن الألفاظ المائتة والبذيئة. وإلى مؤلفات في العلوم الطبيعية كالفلك والجيولوجيا والتاريخ الطبيعي والكيمياء والفلسفة الطبيعية والطب والجراحة والصيدلة والنبات إلخ. وإلى مؤلفات في العلوم الأدبية كالاقتصاد السياسي وعلم الأخلاق والتربية والعمران وآداب السلوك والتاريخ وفلسفته والآثار القديمة وتدبير المنزل وتاريخ الاكتشافات والاختراعات. ومن أهم ما يجب التأليف فيه تاريخ آداب العربية فإن للإفرنج

كتباً كثيرة في هذا الفن. وليس بني أيدينا كتاب واف يبحث عن لغتنا وترقيها وانحطاطها. ومن أمثل ما يعلل عن تأخرنا في التأليف، عدم إقبالنا على غير القصص والروايات. فهذه نجعة الرائد وضعها مؤلفها منذ عشرات من السنين، ولم يباشر طبعها حتى آنس بعض الإقبال عليها والمساعدة في نشرها، فمات قبل إتمام طبعها، وطوي الجزء الثالث منها إلى أجل غير مسمى. ومثلها كتاب تنوير الأذهان في علم الحيوان لزميله الدكتور بشارة زلزل الذي مات قبل أن يتم بعض كراريس منه. ولو كان طبعه منذ أعوام لأنجزه بحياته، واستفدنا من أوضاعه العلمية وفي هذين الكتابين غنى للغة. ومما أذكره من هذا القبيل أنني وضعت منذ عشر سنوات ونيف كتاباً في تاريخ آداب اللغة العربية سميته الطرف الأدبية وأنفقت وقتاً طويلاً لجمعه من تضاعيف أسفار إفرنجية وعربية، وهو إلى الآن مطوي أمره وربما بقي هكذا إلى يوم النشور. 7 - المجامع العلمية - عرفت هذه الاجتماعات باسم الأكاديميات نسبة إلى أكاديميوس أول من انتبه إلى البحث في الاجتماعات. وأول من أسس مجمعاً علمياً أفلاطون في القرن الخامس قبل الميلاد. وعقد العرب سوق عكاظ ومربد البصرة لهذه الغاية. وعرفت الأكاديميات في أوروبا في النصف الأول من القرن السابع عشر بعناية الكردينال ريشيليو، وزير لويس الثالث عشر ملك فرنسا. ومن اللجان العربية اللجنة العلمية

المصرية أسسها نابليون سنة 1798 ولن تزال إلى عهدنا. وأنشأ الأمريكان في بيروت مع بضع المواطنين الجمعية السورية سنة 1847 م فبقيت بضع سنوات وعطلت. وبعد سنة 1880 أعيدت باسم المجمع العلمي الشرقي وعطلت أيضاً. ثم أنشئت الدائرة العلمية في مدرسة الحكمة المارونية وعطلت. وسنة 1893 أنشأ المصريون مجمعاً لغوياً علمياً للبحث في الأوضاع العربية فقرروا فيه بعض ألفاظ وتعطل. وإلى الآن لم يقم مجتمع علمي يسعى في الأوضاع والتعريب وحاجات اللغة. ولعل أدباءنا يسعون اليوم بسد هذه الثلمة إذا اجتمعت كلمتهم وتوحدت مبادئهم وانتخبوا أعضاءه من كل ملة ومشرب وموطن وإلا فلا مجتمع عربي يذكره التاريخ في آدابنا العربية. 8 - المكاتب - المكاتب قديمة في العالم كثيرة النفع للغات. وقد اعتنى العرب بتأسيس كثير منها في أيام نهضتهم، كمكتبة قرطبة، ومكاتب بغداد ودمشق والقاهرة، ويذكر المؤرخون أنه كان في صدر القرن الخامس للهجرة نحو سبعين مكتبة في الأندلس. ولقد أعدمت النكبات مكاتبنا، وما بقي من نفائس المؤلفات حمله الإفرنج إلى بلادهم فأغنوا مكاتبهم بآثارنا. ولولا وجود المكتبة الخديوية بمصر وبعض مكاتب الأستانة ودمشق وفاس وبغداد وحلب وبيروت وطور سيناء، لكانت المكاتب عندنا أثراً بلا عين. على أننا في حاجةٍ شديدة إلى إنشاء مكتبة عامة في إحدى مدننا الكبرى تضم شتات المؤلفات الشرقية بقية الدارجين من قومنا، فنستنسخها من مظانها ونجمع شملها، فنحفظ كثيراً

الحرية

من الكتب التي لا توجد إلا نسخة منها في إحدى المكاتب فإذا نكبت خسر العمل خسارة كبيرة. ويجب تنظيم جمعية لطبع الكتب النفيسة والتدقيق بمعارضة نسخها ومقابلتها كما فعلت شركة طبع الكتب المصرية في طبع المخصص لابن سيده في 17 مجلداً وفتوح البلدان للبلاذري وغيرهما. هذه السلم المثمنة الدرجات التي يمكن أن نصعد عليها إلى قمة مجد اللغة وفي اعتقادنا أن المرتقي عليها لا يجب أن يترك درجة إلا ويمر بها، لأن الطفرة محال. والله يتولى من أمورنا السداد، ويفتح لنا أبواب النجاح خدمة للغة التي تفتخر بأننا ننطق بضادها، بمنه وكرمه. لبنان عيسى إسكندر المعلوف الحرية زرت صاحباً لي منذ أيام، فألفيت لديه بلبلاً سجيناً في قفص، يغرد نشيداً محزناً كأنه من قلب مزقه ألم الفراق، ويضرب أسلاك سجنه بجناحيه آملاً أن يرى له مخرجاً من ذلك المضيق. ولم يزل يغرد شاكياً ويصيح باكياً، ويتنقل في قفصه بسأم، ويضرب الأسلاك بألم، حتى أخذ منه التعب مأخذه فأنساه طريف التعب تليد الأسر. وقد زرت صاحبي هذا اليوم. فوجدت القفص خالياً من الفريد. فسألته عنه، فأنبأني أنه قد انتحر.

تذكرت هذه الحادثة حينما أمسكت بيدي القلم للكتابة في الحرية. فما تمالكت عن ذكرها عبرة للذين يصبرون على الضيم، ويرضون بالاستعباد، وقد خلقهم الله أحراراً. ذلك البلبل تعود أن ينتقل من غصن إلى غصن، ويطير من فنن إلى فنن يغرد أينما شاء، وحيثما أراد. فلما انتقل من هذا الجو الفسيح الذي لا يستنشق فيه سوى نسيم الحرية البليل، وهوائها العليل، إلى ذلك القفص الذي يضيق به، بذل جهده في أن يتخلص منه. فلم يمكنه. وعز عليه أن يعيش سجيناً فانتحر. ويا ما أبلغ قول مصطفى كامل لا معنى للحياة مع اليأس ولا معنى لليأس مع الحياة. إن هذا درس مفيد للإنسان. إذ هو أحرى بأن يتمثل بقول عنترة العبسي: لا تسقني كأس الحياة بذلة ... بل فاسقني بالعز كأس الحنظل إن الحياة بذلة كجهنم ... وجهنم بالعز أحسن منزل عند ذلك تذكرت قول أحد الأدباء لو عرف الإنسان قيمة حريته المسلوبة منه، وأدرك حقيقة ما يحيط بجسمه وعقله من السلاسل والقيود لانتحر كما ينتحر البلبل إذا حبسه الصياد في القفص وكان خيراً له من حياة لا يرى فيها شعاعاً من أشعة الحرية ولا تهب عليه نسمة من نسماتها. فالحرية هي معنى الحياة. ودليل الرقي، وعنوان المجد، ودعامة السعادة. ورائد الآمال. وروح الاستقلال. الحرية هي سر الوجود، سر القوة سر الثبات في العمل، سر نجاح الأمم، سر تقدم الشعوب، سر نظام الحكومات.

الحرية كما قال حافظ إبراهيم هي معنى الوجود، ففي فقدها سجن النفوس، وعقال العقول وقيد الأفكار. الحرية كما قال المنفلوطي: هي شمس يجب أن تشرق في كل نفس، فمن عاش محروماً منها عاش في ظلمة حالكة يتصل أولها بظلمة الرحم وآخرها بظلمة القبر. هي الحياة ولولاها لكانت حياة الإنسان أشبه شيء بحياة التماثيل المتحركة في أيدي الأطفال بحركة صناعية. الحرية كما قال مصطفى كامل: هي بنت الحقيقة، وما انتشرت الحقيقة في أمة إلا وارتفعت كلمتها وعلا شأنها. هي نو ساطع إذا انتشر اختفى الظلم وانتش العدل. هذه هي الحرية. لا مثلما يتوهمها البعض من أنها لا تكون إلا مع الغنى والجاه. ولو انقشعت سحابة الجهل عن عيون هؤلاء الأغبياء، ورفع حجاب الوهم عن أبصارهم وبصائرهم لتمثلوا بقول الشاعر: أنا إن عشت لست أعدم قوتاً ... وإذا مت لست أعدم قبراً همتي همة الملوك ونفسي ... نفس حر ترى المذلة كفرا وعدو الحرية الوحيد هو الجبن، لأنه يفقد الإنسان قيمته في نظر الناس، ويمحو ثقته في نفسه، ويجعله يحتمل أثقال الأسر بلا تأفف أو نزوع إلى التخلص من قيوده. بلى هو الذي يسدل على الأنظار ستاراً فلا ترى من خلاله تمثال الحرية ويضرب على الأسماع، فلا تصغي إلى نداء الداعين إليها. الجبن كما قال فيلسوف الشرق الشيخ محمد عبده هو الذي أوهى

مصطلحات علم الحيوان

دعائم الممالك فهدم بناءها، وقطع روابط الأمم فحل نظامها. هو الذي يغلق أبواب الخير في وجوه الطالبين. وبطمس معالم الهداية عن أنظار السائرين يسهل على النفوس احتمال المذلة ويخفف عليها المسكنة ويهون حمل نير العبودية. فلابد لطالب الحرية من خلع رداء الجبن كما قال ابن قلاقس: ظهر ذات الحجول إن طلب المج ... د وإلا فبطن ذات الحجال عز سفح به الأسود ودلت ... قنة ما بها سوى الأوعال فيجب أن يكون منا ذلك الأسد الرئبال الذي يزود عن حوضه، لا ذلك الوعل الذي يقع فريسة في يد أول صياد. ولا نصبح أمام الأمم آساداً، إلا إذا كنا أحراراً. اتبره (السودان) عز الدين صالح مصطلحات علم الحيوان عني كثير من الكتاب والأدباء في هذا العصر بتعريف كتب الإفرنج، لما وصله إليه هؤلاء من العلوم والفنون والاختراعات والاكتشافات، حتى دانت لهم الطبيعة وعناصرها على اختلاف أنواعها، بينما بقينا نحن متأخرين عنهم بمراحل لا تقاس، لاهين بأمور ليست من العلم بشيء. فوجب علينا الآن أن ندركهم ونستدرك ما فات منا، سائرين سيراً حثيثاً بل طائرين طيراناً، وأن لا نبقى ناكصين على أعقابنا في الميدان الذي جرى فيه أجدادنا في سابق العهد لئلا يسبقنا الأقوام في كل يوم

ونحن نتأخر عنهم كل يوم. ومن ثم تحتم علينا أن نأخذ عنهم العلم إلى حيثما أوصلوه كما أخذوه عنا إلى حيثما كنا قد أوصلناه. ومن جملة العلوم التي نأخذها اليوم عنهم علم الحيوان. فقد أوصلوه اليوم إلى درجة لا غنى لنا عنها. لكن لما أخذ كتابنا بتعريب كتبهم، تصرفوا بها كأن أجدادنا لم يعنوا بهذا العلم أبداً، ولهذا نقلوا عنهم ألفاظاً اصطلاحية بألفاظها الفرنجية كأن من سبقنا لم يضع لها ما يراد منها في العربية. ومن ثم وجب العمل على إعادتها بدون أن تقبل أبداً إدخال الغريب الأعجمي في لغتنا، كما انه يجب علينا أن نأخذ عن الأقدمين الألفاظ الاصطلاحية التي وضعوها في هذا المعنى، وان لا نصطلح شيئاً جديداً هو دونه في التأدية والمراد. ولهذا أحببنا أن نورد شيئاً في هذا الباب ليكون بمنزلة المثال يقاس عليه. من ذلك: إن المحدثين سموا الطيور التي تتردد إلى المياه بالطيور المائية وهي من الإفرنجية وسماها الأقدمون من الناطقين بالضاد: بنات الماء والمفرد ابن الماء، قال في المرصع: ابن الماء. . . يطلق على كل ما يألف الماء من أجناس الطير وسموا الطيور الطويلة الساق التي تخوض في الماء الضحضاح الطيور الشاطئية أو الخوائض أو الساحلية أو الطويلة الساق وهي بالفرنسوية وسماها الأقدمون الشاهمزك او الشاهمرج والجمع شاهمر كات أو شاهمر جات وقد وردت مراراً قي كتبهم من ذلك في المخصص لابن سيدة قال: وطير الماء أكثر من مائتي لون زعموا. والعرب لا تعرف

أكثرها. قال صاحب العين: وأسماؤها عندنا بالنبطية لأنها في البطائح في بلاد النبط. والشاهمرجات أيضاً ضروب ألوان. آه. والكلمة فارسية مركبة من شاه أي ملك أو كبير أو طويل ومرغ أي طائر ومعناه الطائر الطويل أو الملكي أي الطويل الساق. وقد وردت مراراً لا تحصى في كتاب الحيوان للجاحظ. وسموا الطيور التي تشبه البط والوز والتم الكفية اليد معربين بذلك كلمة والعرب سموها السوابح. وسموا الطيور التي تقتات الحبوب أي أكلة الحبوب وسماها العرب بهائم الطير قال الجاحظ: والبهيمة (من الطير) ما أكلت الحب خالصاً (كتاب الحيوان 1: 15). وسموا الطيور التي تقتات الحب واللحم معاً آكلات الكل ويقابلها بالفرنسية وسمتها العرب المشترِك قال الجاحظ (1: 15): المشترك عندهم كالعصفور فإنه ليس بذي مخلب معقف ولا منسر وهو يلقط الحب وهو مع هذا يصيد النحل إذا طار ويصيد الجراد ويأكل اللحم ولا يزق فراخه كما تزق الحمام بل يلقهما كما تلقم السباع من الطير فراخها، وأشباه العصافير من المشترك كثيراً. اه وسموا الطيور التي تقتات اللحم أكلة اللحم أي وسماها العرب سباع الطير قال الجاحظ (1: 15): والسبع من الطير ما أكل اللحم خالصاً. اه. وسموا الطيور التي يصطاد بها طير الصيد وهي من الإفرنجية

وسماها العرب العتاق والأحرار والجوارح (عن الجاحظ 1: 14). وسموا ما يطير من الحشرات حشرات طائرة ويريدون بذلك اللفظ الإفرنجي وسماها العرب الهمج قال الجاحظ (1: 14): الهمج ليس من الطير ولكنه مما يطير والهمج فيما يطير كالحشرات فيما يمشي. اه. وسموا الحيوانات التي تقتات الروث والرجيع والأوساخ أكلة الرجيع وهم يعربون لفظة وسماها العرب الجلالات وقد ذكرها الجاحظ في عدة مواطن من كتابه. هذا كله من قبيل الاصطلاحات العامة ونحن لم نذكر إلا برضاً من عد. وأما من جهة الألفاظ الخاصة بأسماء الحيوان والطير فإن المحدثين قد ذهبوا فيها مذاهب. فمنها ما أخطأوا في تعربيها كقولهم في بجع والأصح هو اللقلق. والبجع ونحن أول ما نبه العلماء على هذا الوهم الفظيع في مجلة الصفاء وكقولهم في عقاب وفي نسر والأصح أن يعكس الوضع، أي أن يقال في نسر وفي عقاب. وكذلك كنا نحن أول من نبه على هذا الغلط في مجلة بيروتية ومثل هذا الوهم كثير قد وقع لبعضهم وقد نبهنا عليه في المجلات ومنه ما هو باقٍ في كتبهم يحتاج إلى تنبيه. ومن أسماء الطير والحيوان ما وضع له المحدثون ألفاظاً جديدة لا عهد للعرب بها، مع أن الغرب عرفوا تلك الطيور أو تلك الحيوانات بأسماء أخرى

في رياض الشعر

شائعة في كتبهم. كتسميتهم للمكاء وهو بالفرنسية باسم ماص المعز مع أن العرب عفوه بأسماء متعددة منها المكاء والخرج وخاطف الرياح. - ومن هذا القبيل تسمية المحدثين للحيوان المعروف عند الإفرنج باسم لنكس كأن العرب لم يعرفوا هذا الحيوان. والحال أنهم عرفوه باسم وشق ولنا كلام طويل في هذا البحث أي بخصوص كون هذه الكلمة تعني اللفظة الإفرنجية هذا ونحن نقف عند هذا الحد لأن الموضوع واسع الأكناف رحب الساحة، وقد اكتفينا بالإشارة تنبيهاً للغافل وتذكيراً للعاقل إذ قد قيل: وذكر فإن الذكرى تنفع كما قد قيل: واسمع غير مسمع. بغداد ساتسنا في رياض الشعر بكاء صديق فقدت مصر في هذا الصيف قاضياً من خير قضاتها بوفاة المرحوم إسماعيل بك ماهر القاضي في المحكمة المختلطة بالإسكندرية. فبكاه سعادة إسماعيل صبري باشا بأبيات رقيقة - وكان رفيقه في المدرسة وعشير صباه - قال: أناعي ما هر لم تدر ماذا ... أثرت من الشجون الكامنات نعيت إلي أياماً تقضت ... بإسماعيل غراً صافيات ألا من للضعيف إذا تقاضى ... ولم ير شخصه بين القضاة ومن للعدل إن رفعت بناة ... دعائمه ولم يك في البناة

أماهر أن وعد الله حق ... وما جزعي عليك من التقاة فما لي والأناة ملاك نفسي ... هلعت ولم تجملني أناتي وما لي إن أمرت ببعض صبرٍ ... رأيت الصبر إحدى المعجزات أماهر كنت فيما مر أنسي ... فمن لي في الليالي الباقيات وكنت إذا شكوت تبيت وجداً ... تردد ما يريبك من شكاتي وتسأل ساري النسمات عني ... حنواً والبروق الوامضات ومن يفقد شبيهك يبك دنيا ... تولت بالمودة والمقات كذبتك لو صدقتك بعض ودي ... لهد جوانبي صوت النعاة ولاستقت حيال النعش عيني ... وراءك راحلاً همم البكاة برغمي أن تقلص منك ظل ... وقاني حقبة لفح الحياة وأن نضبت خلال كنت منها ... أعب لديك في عذب فرات وأن صفرت يميني من ودادٍ ... غنيت به ليالي خاليات أخي ما حيلتي إلا سلام ... يزورك في المساء وفي الغداة وإلا الدمع أنثره عقيقاً ... على ذكرى حلاك الغائبات قضيت فكنت أسرعنا مسيراً ... إلى غرف الحنان العاليات شكوى الميتم عاد سمو أمير مصر من الأستانة، فرحب به شعراؤنا بقصائد جميلة حلوا بها جيد الصحف. وجادت قريحة نابغة مصر بيتيمة من شعره المعروف، افتتحها بأبيات غزلية، وهي: كم تحت أذيال الظلام متيم ... دامي الفؤاد وليله لا يعلم

ما أنت في دنياك أول عاشقٍ ... راميه لا يحنو ولا يترحم أهرمتني يا ليل في شرخ الصبا ... كم فيك ساعات تشيب وتهرم لا أنت تقصر لي ولا أنا مقصر ... أتعبتني وتعبت هل من يحكم لله موقفنا وقد ناجيتها ... بعظيم ما يخفي الفؤاد ويكتم * * * قالت من الشاكي - تسائل سربها ... عني - ومن هذا الذي يتظلم فأجبنها وعجبن كيف تجاهلت ... هو ذلك المتوجع المتألم أنا من عرفت ومن جهلت ومن له ... لولا عيونك حجة لا تقحم أسلمت نفسي للهوى وأظنها ... مما يجشمها الهوى لا تسلم وأتيت يحدو بي الرجاء ومن أتى ... متحرماً بفنائكم لا يحرم أشكو لذات الخال ما صنعت بنا ... تلك العيون وما جناه المعصم لا السهم يرفق بالجريح ولا الهوى ... يبقي عليه ولا الصبابة ترحم لو تنظرين إليه في جوف الدجى ... متململاً من هول ما يتجشم يمشي إلى كنف الفراش محاذراً ... وجلاً يؤخر رجله ويقدم يرمي الفراش بناظريه وينثني ... جزعاً ويقدم بعد ذاك ويحجم فكأنه واليأس ينسف نفسه ... للقتل فوق فراشه يتقدم رشقت به في كل جنب مدية ... وأنساب فيه بكل ركن أرقم فكأنه في هوله وسعيره ... واد قد أطلعت عليه جهنم هذا وحقك بعض ما كابدته ... من ناظريك وما كتمتك أعظم قالت أهذا أنت ويحك فاتئد ... حتى م تنجد في الغرام وتتهم

كم نفثةٍ لك تستثير بها الهوى ... هاروت في أثنائها يتكلم إنا سمعنا عنك ما قد رابنا ... وأطال فيك وفي هواك اللوم فاذهب بسحرك قد عرفتك واقتصد ... فيما تزين للحسان وتوهم أصغت إلى قول الوشاة فأسرفت ... في هجرها وجنت علي وأجرموا حتى إذا يئس الطبيب وجاءها ... أني تلفت تندمت وتندموا وأتت تعود مريضها لا بل أتت ... مني تشيع راحلاً لو تعلم حافظ إبراهيم على ضريح فتاة يا تراب الحبيب فيك فتاة ... كل أرواحنا تحن إليها هي كانت عليك ألطف ظل ... أيها الترب لا تثقل عليها إسكندر العازار على ضريح فتى شقيقك غيب في لحده ... وتطلع يا بدر من بعده فهلا خسفت فكان الخسوف ... لباس الحداد على فقده لأحد شعراء العرب

سقوط عرش

سقوط عرش جلس الملك الفتى على عرش صبغ أرجوانه بالدماء، وتكلل بتاج غاصت جواهره بالدموع. ولا سند له ولا عضد سوى حنان والدة يحوم فؤادها حوله، كما تحوم الدجاجة حول فراخها وقد هددها العقاب الكاسر. ولكن أتى لحنان الأم - مع كل ما فيه من القوة - أن يسند تاجاً هاوياً، أو يدعم عرشاً متداعياً، وقد تحول نحوهما تيار الشعب الجارف.

ثقل التاج على هامة الملك الضعيف فأحناها، وتدحرج بين يديه فكاد يكون لهما قيداً. وثقل الملك على العرش الذي نخرته الدسائس والمكايد فهبط به هبوطاً كاد يودي بحياته. سقط الملك مانويل الثاني وسقطت معه أسرة براغنس التي ملكت في البرتغال منذ سنة 1640 وقامت الجمهورية على أطلال الملكية. كما أن هذه كانت قد بنت صرحها على خرائب ما تقدمها من الحكومات. فإن الفينيقيين هم أول من استعمر تلك البلاد المعروفة في القدم باسم لوزيتانيا نسبة إلى اللوزيتاني الذي كان يسكنها، ثم دالت دولة أبناء فينيقيا وقامت دولة القرطجنيين فظلوا أسياد البلاد حتى برز النسر الروماني فظل فيها نافذ الأمر سبعة قرون اثنين منها قبل المسيح، وخمسة بعده، ولما لفظت الإمبراطورية الرومانية الغربية نفسها الأخير، تقاسمت الشعوب ميراثها العظيم، فكانت البرتغال من نصيب الغوطيين، حتى نازعهم الإرث طارق بن زياد وأقام في البلاد دولة عربية زهت على عهدها المعارف والفنون والصنائع. . . ثم انجلى العرب عن تلك الربوع وظلت البرتغال في حروب مع جارتها إسبانيا حتى ثبت استقلالها في أواسط القرن السابع عشر، وعظمت ثروتها، وقويت شوكتها، بعد أن راد أبناؤها البحار واكتشفوا بلاداً جديدة في أفريقيا وأمريكا. هذا هو ماضي البلاد التي ودع مانويل عرشها على غير ملتقى، وطلق تاجها على غير رضى. على أنه لم يأت ما يجوز معه الاستشهاد بقول من قال:

أعطيت ملكاً فلم تحسن سياسته ... وكل من لا يسوس الملك يخلعه فإنه ذاق حنظلاً عصره غيره، وجنى شوكاً زرعه سواه. أجلسته الحوادث على عرش مضرج بدم أبيه وأخيه، ووضعت على رأسه تاجاً لم يكن ليحلم به وها أن نفس هذه الحوادث قد أخرجته من وطنه طريداً وأقصته عن بلده شريداً. كان مانويل على عهد أبيه كارلوس الأول لا يكترث للملك وسياسة الناس بل كان مولعاً بالفنون الجميلة لأن ولاية العهد كانت لشقيقه لويس فيليب ده براغنس، ويروى عنه قوله عندما أنعم الملك إدوارد على أخيه بوسام ربطة الساق: إن أخي فرح مسرور بهذا الشرف الذي حازه ويحق له ذلك لأن له مطامع سياسية أما أنا ففرحي الكبير سيكون يوم أتمكن من إدارة جوقة موسيقية. وقد حمله ولعه بالفنون على زيارة البلاد القديمة فجاء اليونان ومصر وفلسطين. وبينما هو في مثل هذه الأحلام الجميلة باغتته ثورة فبراير (شباط) 1908 فأودت بحياة أبيه وأخيه وأجلسته على العرش. فحاول أن يسد الثلم التي أحدثها أسلافه. ولكن هيهات لابن عشرين أن يرمم أطلال مملكة بالية ويوقف معاول الزمان التي تدكها، وقنابل الأيام التي تنسفها. لما ضعفت شوكة العرب في الأندلس، تغلب الإفرنج على أحد ملوكها ففر هارباً، وقبل مغادرته بلاده نظر إلى قاعدة ملكه وبكى. وكانت أمه معه فقالت: ابك بكاء النساء على ملك لم تعرف أن تدافع عنه دفاع الرجال.

فهل قدرت الملكة آمليا أن تقول مثل هذا القول لولدها مانويل عندما ودع بلاده باكياً. أرملة كارلوس الأول ملك البرتغال المتوفي ووالدة الملك مانويل الثاني, وهي بنت الكونت ده باريس وشقيقة الدوق دورليان, ولدت في 28 سبتمبر سنة 1865 وتزوجت في 22 مايو سنة 1886, فولد لها ولدان لويس فيليب الذي قتل مع أبيه في غرة فبراير سنة 1908, والملك مانويل الذي هرب معها الآن إلى إنكلترا

في حدائق العرب

في حدائق العرب الأندلس إن الحوادث الجارية في إسبانيا، والثورة التي قامت في البرتغال فقلبت الملكية وأحلت محلها الجمهورية، لفتت الأبصار إلى تلك الأنحاء فأحببنا أن نخصص هذا الباب من المجلة بتلك البلاد وهي معروفة عند العرب بالأندلس، وقد سادوا فيها مدة طويلة وذكرها يملأ كتبهم. قال أبو عبيد البكري في وصفها: الأندلس شامية في طيبها وهوائها، يمانية في اعتدالها واستوائها، هندية في عطرها وزكائها، أهوازية في عظم جبالها، صينية في جواهر معادنها، عدنية في منافع سهولها. وقال أحد الشعراء: يا أهل أندلس لله دركم ... ماء وظل وأشجار وأنهار ما جنة الخلد إلا في دياركم ... ولو تخيرت هذا كنت أختار لا تختشوا أن تروا من بعدها سقراً ... فليس تدخل بعد الجنة النار وقد فتح العرب الأندلس على يد طارق وطريف ومولاهما الأمير موسى بن نصير وكان ذلك سنة 711م. وإلى طارق ينسب جبل طارق الذي يعرفه العامة بجبل الفتح في قبلة الجزيرة الخضراء. . . واحتل طارق بالجبل المنسوب إليه يوم الاثنين لخمس خلون من رجب سنة اثنين وتسعين في 12 ألفاً. . . وخرج من

الجبل واقتحم بسيط البلد شاناً للغارة، وأصاب عجوزاً من الجزيرة فقالت له في بعض قولها أنه كان لها زوج عالم بالحدثان، فكان يحدثهم عن أمير سيدخل إلى بلدهم هذا، فيغلب عليه. ويصف من نعته أنه ضخم الهامة - وأنت كذلك - ومنها أن في كتفه شامة عليها شعر، فإن كانت فيك فأنت هو. . . فكشف ثوبه فإذا بالشامة في كتفه على ما ذكرت، فاستبشر بذلك ومن معه. . . وقد دونت العرب في كتبها الخطبة التي ألقاها طارق بن زياد لما بلغه دنو ردوريغ - أو لذريق كما يسميه العرب - وهي من أبلغ ما خطب به قائد أمام جنوده، قال وكان على ما يروى قد أحرق المراكب التي أقلت عساكره لئلا تحدثهم النفس بالعودة إلى الأوطان: أيها الناس، أين المفر؟ البحر من ورائكم، والعدو من أمامكم، وليس لكم والله إلا الصدق والصبر. واعلموا أنكم في هذه الجزيرة أضيع من الأيتام في مأدبة اللئام. وقد استقبلكم عدوكم بجيشه. وأسلحته وأقواته موفورة، وأنتم لا وزر لكم إلا سيوفكم، ولا أقوات إلا ما تستخلصونه من أيدي عدوكم، وإن امتدت بكم الأيام على افتقاركم ول تنجزوا لكم أمراً، ذهب ريحكم وتعوضت القلوب من رعبها منكم الجرأة عليكم. فادفعوا عن أنفسكم خذلان هذه العاقبة من أمركم بمناجزة هذه الطاغية. فقد ألقت به إليكم مدينته الحصينة وإن انتهاز الفرصة فيه لممكن إن سمحتم لأنفسكم بالموت. وإني لم أحذركم أمراً أنا عنه بنجوة، ولا حملتكم على خطة أرخص

متاع فيها النفوس. ابدأ بنفسي. واعلموا أنكم إن صبرتم على الأشق قليلاً، استمتعتم بالأرفه الألذ طويلاً، فلا ترغبوا بأنفسكم عن نفسي عما حظكم فيه بأوفر من حظي. وقد بلغكم ما أنشأت هذه الجزيرة من الخيرات العميمة. . . وقد انتخبكم الوليد بن عبد الملك أمير المؤمنين من الأبطال عرباناً ورضيكم لملوك هذه الجزيرة أصهاراً وأختاناً، ثقة منه بارتياحكم للطعان، واستماحكم بمجالدة الأبطال والفرسان. . . والله تعالى ولي أنجادكم على ما يكون لكم ذكراً في الدارين. . . واعلموا أني أول مجيب إلى ما دعوتكم إليه، وإني عند ملتقى الجمعين حامل بنفسي على طاغية القوم لذريق فقاتله إن شاء الله. . . فاحملوا معي، فإن هلكت بعده فقد كفيتم أمره وإن هلكت قبل وصولي إليه فاخلفوني في عظيمتي هذه واحملوا بأنفسكم عليه، واكتفوا الهم من فتح هذه الجزيرة بقتله. . . وظلت الأندلس تحت سيادة العرب ثمانية قرون (711 إلى 1492) فتغلب عليهم الملك فردينان. ولما خرجت الأندلس من يد العرب قال أبو البقاء صالح بن شريف الرندي قصيدته المشهورة، منها: لكل شيء إذا ما تم نقصان ... فلا يغر بطيب العيش إنسان دهى الجزيرة أمر لا عزاء له ... هوى له أحد وانهد ثهلان فاسأل بلنسية ما شأن مرسية ... وأين شاطبة أم أين جيان وأين قرطبة دار العلوم فكم ... من عالم قد سما فيها له شان وأين حمص وما تحويه من نزه ... ونهرها العذب فياض وملآن تلك المصيبة أنست ما تقدمها ... وما لها مع طول الدهر نسيان

يا راكبين عتاق الخيل ضامرة ... كأنها في مجال السبق عقبان وراتعين وراء البحر في دعة ... لهم بأوطانهم عز وسلطان أعندكم نبأ عن أهل أندلس ... فقد سرى بحديث القوم ركبان رئيس الجمهورية البرتغالية كان من أساتذة الفلسفة وعلم الإجتماع, وله في هذه المواضيع تآليف كثيرة وهو الآن في الثامنة والستين من عمره. ومن أعز أماني براغا ضم إسبانيا والبرتغال تحت راية الجمهورية

أملي

أملي في هزيع ليل من ليالي الخريف وقد نبا بي مضجعي، تحاملت متماسكاً متمالكاً إلى نافذة من مخدعي، أرسل صعداء أحرجت صدري، وأعالج نجية هم أسهرتني. وكانت الليلة قمراء والهواء بليلاً بطيء الإسراء، والسكوت سائداً مالئ العمار والخلاء، لا داب يمرح ولا طائر يسيح، وقد هجع الناس آمنين في أسرابهم، ونام الخليون ملء أجفانهم، فلا يسمع غير حفيف الأشجار، ووقع الأوراق تتساقط من على الأغصان تساقط دمع حزين جازع أو عاشق ضارع تساقطاً له رجع لطيف عذب شجي اضطرب له الوجدان فتحركت الأشجان، كأنما يد الحنان طرقت أبواب الفؤاد، أو أن أنامل الصبابة تمشت على أوتار الجنان. فشعرت من نفسي استئناساً بتلك الوحشة، وارتياحاً إلى تلك العزلة، كأن بينهما حديثاً يتساقطانه أو نجوى يستسرانها ولكنها نجوى ليست من لغة يراع أو إنشاد شاد، إنما هي ذات لغة طلية عذبة حلوة لا تدركها غير مشاعري ولا يفهمها سوى فؤادي. فلبثت أنتقل ببصري إلى ما حوت الأرض من كائنات مرئية، والسماء من أجرام فلكية ولكل منها مع النفس نجوى تطربها، وسمر لطيف يشجيها. حتى قضى بي التجوال إلى البدر، وقد برز من خبائه بعد طول الصبر. وأقبل سابحاً في فضاء السماء، جائلاً بين بدائع الأفلاك بعزة وخيلاء تحيط به النجوم احتراماً وإجلالاً، وتتمشى الكواكب بخدمته

إدباراً وإقبالاً، متدججاً بسلاح نوره يروش سهام أشعته، ممزقاً بها حجاب الظلام مظهراً ما خفي وراءه من سهول وأعلام. رويدك يا شبه الحبيبة فالجوى ... أضاع رشادي إذ رأيتك سارياً رويدك قد حركت ساكن لوعتي ... وأرسلت دمعاً فوق خدي جارياً رويدك في تعجيل طلعتك التي ... جعلت فداها الروح مني وماليا رويدك دعني أملأ العين من بها ... سناك لعلي لا أذم اللياليا نظرت إليه نظراً ملياً وتصفحته تصفحاً جلياً كأنه أدنى عائنة إلى ناظري، وأقرب الكائنات لمساً من يدي، فالفيت شأنه شأني وقد ألفت نظره أمري فتلاقت العيون بالعيون وراحت الأحداق هائمة في الأحداق تخترق أهداب الجفون. . . حتى أسفر وجهه الصبيح عن ابتسامة خفق لها الفؤاد منبسط الجوارح، ونزعت إليها الروح من بني الجوانح. مضى حين وأنا منصت إليه وهو منصت إلي؛ أستمع لنجواه ويستمع لنجواي وإذا بغيمة سوداء هاجمته وهو في غفلة عنها، وحالت بين وبينه مكتنفة إياه بجناحيها، فكئبت لذلك كآبة من أصيب بفراق نسيبه أو فجع بفقد حبيبه، ولا نسب بيننا غير ائتلاف العواطف ولا حب سوى أن بهاءه أشبه بهاء من أنا شاغف، وإن لم تكن عواطفه على شيء من السحر، أو أن بهاءه من بهاء بدري. فتطلعت إليه أتشوقه في مجراه، وأتبين بعد الاختفاء ما اعتراه، فلمحته حيران هائجاً، وهو مع الغيمة في عراك، ومنها في أحبولة وشراك، وكان ذلك الشراك على صدري الحرج نسيجاً من خيوط الأوهام، أو ستراً لبسته فتخرمته نصال السهام.

لبثت طويلاً متصبراً، وربما كان لبوثي قصيراً وأنا لم أدر، حتى تلعلعت السماط وبان البدر وهو بعدوته يزري، ونظر إلي فألفاني كما عهدي مشوقاً متشوفاً إليه، ورأيته كما عرفته يتألق ضوء البشر من بين عارضيه. عاد البدر إلى ما كان عليه وعدت. وسار في سمره وسرت. وإني لأرتشف خمر السرور صراحاً من يد ذلك الموقف، وقد أطلقت للعواطف والشعور سراحاً، إذ بغيمة أشد من الأولى حقداً وأعظم منها سواداً دنت منه تناصبه العداء وتكلفه الجلاد. هذا ومازالت جيوش الغيوم تارةً تتشتت تحت سهامه فتنخزل أمامه أو تجانبه، وطوراً تتألب عليه ثائرة متضامنة تواثبه، وهو يتنفس جيناً فيظهر للعيان في مظهر التعب الخاثر ثم ينساب في العجاج متوارياً وراء الغبار المتطاير وكلما ظن أنه ناجٍ أدركته غيمة رجعت به إلى الميدان قسراً فيعود إلى المدافعة عن نفسه مكرهاً مضطراً. هكذا شاء القدر أن أتجرع الكأس بعد أن ترشفتها، وأكره النفس على الصبر بعد أن أطعمتها، حتى كان عبس الليل وقد غاب البدر تحت غيوم انحدرت عليه انحدار السيل، فلم ير غير فضاء داج ظلامه، وعمار موحشة أعلامه، انكفأت إلى مضجعي حزيناً كئيباً اسمع زفزفة الأوراق تتساقط من على الأشجار فكان لها هزة في النفس ورجفة في الفؤاد أطبقت عيني تحت ثقل اليأس وستر الانكسار. . . أملي هو البدر والغيوم هي كوارث الدهر وظلمة الليل هي ظلمة القب. . . لا لا أملي يا ناس! فيليب مخلوف

في جنائن الغرب

في جنائن الغرب بمناسبة الثورة البرتغالية حصصنا باب حدائق العرب بشيء عن عهد الدولة العربية في تلك البلاد، وأحببنا الآن أن نطلع القراء في هذا الباب عن شيء من آداب البرتغاليين: أشهر أدباء البرتغال على الإطلاق هو لويس ده كاموانس عاش في القرن السادس عشر. وقد وضعه كتابه لوزيادة في مصاف كبار شعراء العالم. وهو نشيد من نوع الياذة هوميروس، موضوعه رحلات البرتغاليين واكتشافاتهم في العالم الجديد، وبطل هذه المنظومة البديعة فاسكو ده غاما الذي اكتشف طريقاً جديدة إلى الهند وهي طريق رأس العواصف الذي أطلق عليه فيما بعد اسم رأس الرجاء الصالح أما فيلسوفهم الكبير فو باروخ سبينوزا. ولد سنة 1632 في أمستردام (هولندا) من عائلة برتغالية إسرائيلية. وله في الفلسفة تآليف عديدة. لا يمكن التسليم بكل ما فيها من الآراء. وقد اقتطفنا لقراء الزهور فصلاً كتب فيه عن العواصف والأهواء وهذا ملخصه: العواصف والأهواء كل التقلبات التي تطرأ على النفس ترجع إلى اثنين: الانتقال إلى كمال اكبر أو الانتقال إلى كمال أنقص. وعواطف النفس ترجع أيضاً إلى نوعين: عواطف لذيذة وعواطف غير لذيذة. أي الفرح والحزن. وعليه فالفرح هو الشعور بالانتقال إلى كمال اكبر والحزن هو الشعور بالانتقال إلى كمال أنقص. لأنه يستحيل أن تقبل النفس بلا مقاومة فكرة انحطاطها ويستحيل أن لا تحب كيانها وأن لا تفرح بتحسن وجودها. ولما كنا نفهم

أن الفرخ والحزن لا ينتجان عن إرادتنا بل عن تغييرات الجسد وعن تصور هذه التغييرات، وجب أن يكون الفرح علامة الكمال، والحزن علامة النقص، بل أن الفرح هو نفس الانتقال إلى كمال أكبر، والحزن هو نفس الانتقال إلى النقص، لأن العاطفة لا تفصل عن النفس بل هي النفس مكيفة بإحدى الكيفيات. وترى النفس أحياناً تفهم، أو تظن أنها تفهم، سبب فرحها أو حزنها، وأحياناً تكتفي بالتأثر من الفرح والحزن تأثرها من شيء واقعي مع بعض الشعور بأن مصدرهما الجسد. وفي هذه الحالة يسمى الفرح سروراً إذا تناول كل مجموع الجسم، وملذة إذا تناول عضواً معيناً في الجسم. ويسمى الحزن كآبة إذا تناول المجموع وألماً إذا تناول أحد الأعضاء. وعندما نقرن الفرح بصورة كائن خارجي، نحاول أن نملك ونحفظ هذا الشيء المقرون بفرحنا، ونقول حينذاك إننا نحب هذا الشيء. . . فالحب إذن هو الفرح المقرون بصورة سبب خارجي، والبغض هو الحزن المقرون بصورة سبب آخر. هذا وإن أفراحنا - كأحزاننا - مرتبطة بعضها ببعض بطرق متنوعة فإذا شعرت النفس بعاطفتين في آن واحد فلا يمكنها فيما بعد أن تشعر بواحدة دون الأخرى، وقد تكون الأشياء الأقل أهمية في نظرنا سبب فرحٍ أو حزنٍ وبالتالي موضوع رغبة. ويكفي لذلك أن تقرن هذه الأشياء في مخيلتنا بشيء كان لنا سبب فرح أو سبب حزن فمجرد تفكرنا في شيء في حالة فرحنا أو حزننا يكفي لحملنا على حب هذا الشيء

ثمرات المطابع

أو على بغضه. بل يكفي أن يكون بعض الشبه بينه وبين موضوع حبنا، حتى نحب هذا الشيء، أو بعض الشبه بينه وبين موضوع بغضنا حتى نبغضه. وهكذا نحب أشياء ونبغض أشياء، دون أن نعرف لذلك من سبب مقرر فنسمي ذلك ميلاً أو نفوراً. وقد ظهر لك كيف نعلق فرحنا أو حزننا على أشياء عديدة، فنكون أسرى الحوادث والظروف. ونحن نشعر تجاه أشياء ماضية أو مستقبلة بنفس العواطف التي نشهر بها تجاه أشياء حاضرة، لأن صورة الشيء، ماضياً كان أو مستقبلاً، هي دائماً في حيز الحاضر عندما نفتكر بهذا الشيء. ولا نسميه ماضياً أو حاضراً إلا عندما نقرنه بفكر وزمان مضى أو سيأتي. وصورة الشيء في نفسها هي دائماً ذاتها سواء غاب هذا الشيء أو حضر. وعاطفتا الفرح والحزن عندما تقرنان بصورة شيء آت تسميان الأمل والخوف. وعندما تقرنان بصورة شيء مضى تسميان الارتياح والندم. سبينوزا ثمرات المطابع فصل الصيف عادة فصل كساد في عالم المطبوعات، وجمود في قرائح الكتاب والمنشئين. على أن البريد حمل إلينا في هذين الشهرين مطبوعات جمة ومؤلفات عديدة، كنا نود أن نفيها حقها من الدرس والتقريظ، لولا كثرتها وضيق المقام. وها نحن نمر بك سريعاً أيها القارئ على أهم ما أهدي إلى هذه الإدارة من الكتب التي يكون منها لك فائدة:

* الصحائف السود - ولي الدين يكن، كاتب بليغ وشاعر رقيق، يطير في العالم العلوي بجناحي الخيال والشعور، وينظم الابتسامات والدموع في سلك بيانه درراً أين منها الجواهر التي تزين النحور. عرف أبناء جنسه الترك مكانته من الأدب. وحلت نفثاته أحسن محل عند إخوانه العرب. حتى أحرزت شهرة بعيدة في عالم الكتابة. فلا يكاد يدبج مقالة أو يحبر قصيدة حتى تراها متناقلة في صحف سورية والعراق والمغرب وأمريكا. وقد عرفه قراء الزهور من فئة كبار الأدباء الموالين لمجلتهم. وإذا هم اليوم أقبلوا على الصحائف السود يجدون ولي الدين فيها غير الذي عرفوه منشداً مؤثراً أو متغزلاً مطرباً، وإن كان هو هو في بلاغته وتفننه في إيراد معانيه. فهو في هذه الصحائف التي وسمها بالسواد يئن بل يتألم مما يشاهد من الظلم والحيف والجهالة المخيمة على العقول، لكن في أنينه دوي التهديد، وفي شكواه رعد الوعيد، وفي ألمه قضاء على ما يتألم منه فكأنه المغلوب الغالب، والمقهور القاهر. وكأني به وقد ألبس صحائفه هذه ثوب الحداد يضحك من الأيام التي يعاركها وتعاركه. وإذا طلبنا إليه اليوم بعض صحائف بيضاء، نكون قد أعربنا عن رغبة العدد الكبير من القراء.

* المهاجر السوري - كتاب كثير الفوائد جم المنافع يتضمن إفادات وإرشادات يهم المهاجرين أو الذين ينوون المهاجرة إلى العالم الجديد أن يطلعوا عليها. وضعه رجل خبير بهذا الموضوع وهو حضرة جميل أفندي بطرس حلوه، أحد التراجمة في إدارة المهاجرة في الولايات المتحدة الأمريكية. وقد عرفنا المؤلف قبل اليوم شاعراً متفنناً من القصائد التي ينشرها في جريدة الهدى الشهيرة، وإذا به في هذا الكتاب ملاحظ دقيق وبحاث اجتماعي. تناول في كتابه تاريخ المهاجرة إلى أمريكا وحالة المهاجرين الأدبية والاجتماعية والتجارية والاقتصادية وشيئاً كثيراً من قوانين ونظامات تلك البلاد ودستورها وعاداتها وصناعتها وزراعتها. ومتى عرفت أن المهاجرين من العرب إلى أمريكا يعدون بمئات الألوف وأن الذين يتأهبون للنزوح إليها أكثر من الكثير، لا يسعك إلا الثناء على واضع هذا الكتاب المفيد وعلى إدارة جريدة الهدى المعتبرة التي عهدت إليه هذه المهمة. كما انك لا تتمالك عن الإعجاب بهؤلاء المهاجرين الأذكياء الذين هاجروا إلى أرض كولومبوس، فجاروا أشد الأقوام في ميدان تنازع البقاء، فأحرزوا لهم مقاماً رفيعاً في التجارة والثروة والصحافة والأدب، ونشروا لواء اللغة العربية في تلك الأقطار النازحة، وإنا لنغتنم هذه الفرصة لإعلان فضلهم كما أننا نثني أجمل الثناء على صاحب الكتاب الذي نحن في صدده وعلى حضرة صاحب الهدى الكاتب القدير نعوم أفندي

مكرزل. ولما كان هذا الموضوع من الأهمية في مكان عظيم رأينا أن نعود إليه في العدد القادم فنذكر بعض ما تجدر معرفته عن المهاجرين في مهجرهم. * منطق المشرقيين - الفلسفة القديمة - تمكنت المكتبة السفلية لصاحبيها الفاضلين محب الدين أفندي الخطيب وعبد الفتاح أفندي القتلان على حداثة عهدها من إبراز عدد كبير من الكتب المفيدة والأسفار النفيسة ونشرها بالطبع بأرخص الأثمان وآخر ما أتحفتنا به هذان المؤلفان الجليلان. والأول منطق المشرقيين هو من تصنيف الشيخ الرئيس أبي علي بن سينا الفيلسوف الشهير مع قصيدته المزدوجة في المنطق التي وضعها باسم الرئيس أبي الحسن السهلي، وفي مقدمة الكتاب بحث في حياة ابن سينا وفلسفته مقتبس عن ابن أبي أصيبعة وابن خلكان وعن دائرة المعارف الإنكليزية. أما الكتاب الثاني وهو مبادئ الفلسفة القديمة فقد جمعت فيه رسالة ما ينبغي أن يقدم قبل تعلم فلسفة أرسطو ورسالة عيون المسائل في المنطق ومبادئ الفلسفة وكلاهما من تصنيف الفيلسوف أبي نصر الفارابي. ويبتدئ الكتاب بترجمة حياة المؤلف وفيها إفادات كثيرة ن نسبه وسفره إلى العراق وغيرها من بلاد الشرق، وصلته بمتى بن يونس مع شيء من آراء الأوروبيين في فلسفته. وفي الرسالة الأولى شرح مطول عن كتب أرسطو والذين ترجموها إلى العربية، وعن مذاهب

اليونان في الفلسفة مع تراجم مشاهير فلاسفة العرب واليونان. وفي الرسالة الثانية فصول مختصرة في أهم مباحث الفلسفة، كمبحث النسبة بين واجب الوجود والموجودات، وتكوّن الكائنات، ولوازم الجسم، وتجزء المادة، والروح والجسد، والخير والشر إلخ. . . وقد بذلت المكتبة السفلية عناية كبرى في طبع هذين الكتابين على أجمل شكل وتصحيحهما وتعليق الحواشي حتى جاء يفيدان العقل ويسران النظر. * ديوان الخطيب - لا نغالي إذا قلنا إن هذا الديوان هو أنفس ديوان شعري أبرزته المطابع في هذا العام. فقد جمعت قصائده العصماء بين سمو المواضيع وكبر المعاني وبلاغة الديباجة. ومتى قام الشعر على هذه الدعائم فقل إنه من أجود الشعر وأشده وقعاً في النفوس. وفؤاد أفندي الخطيب عربي صميم. فهو شديد الولع بأدب العرب، فلا يترك شاردة عن كتابهم وشعرائهم إلا ويعيها، ولا مجموعة لهم مطبوعة أو مخطوطة إلا ويقتنيها. كما أنه شديد الغيرة على مجد العرب وشرفهم وآثارهم الغراء، فلا يدع متجهماً ينتقص قدرهم إلا ويحمل عليه الحملة الشعواء، ترى دليلاً على ذلك إذا راجعت في ديوانه هذا آمال وآلام وأيها العرب وصاحب إقدام إلخ فترى أنه يحق له أن يقول عن شعره: أذود به عن حوض قومي فكلما ... بدا غرض أطلقت سهماً مسددا على أن هذه الغيرة لا تغمض عين الخطيب عن عيوب قومه، فهو شديد التقريع والتأنيب، متوجع الفؤاد في الشكوى فاسمعه ينشد متألماً:

لك الله من دمع تحدر صيبا ... فلم يزد الأحشاء إلا تلهبا وما هو إلا النفس سالت من الأسى ... على أمة لم ترض إلا التحزبا إذا زال في الدين التعصب عندها ... أناب اختلاف الجنس عنه تعصبا وهو ينادي بالتضامن والإصلاح، بلهجة يتجسم فيها الإخلاص: بشروني في القبر إن كنت ميتاً ... عندما ننهج السراط السويا وقد طرق الخطيب في ديوانه الشعر القصصي في حلم الهوى والعجوز اليابانية فأجاد ما أراد، وأنشد الغزل والغرام في حسناء الشرق ولوعة والقمر وغصن الأراك واللقاء والوداع فأطرب وأبدع في الإنشاد. ولو راجعت ما قاله فيه صبري وحافظ إبراهيم وولي الدين والكاظمي وغيرهم من أعلام الأدباء، لوجدتنا دونهم في التقريظ والثناء. * الرشيد والبرامكة - ما أجل ذلك العصر وأعظم حوادثه، وما أفخم الرجال الذين زانوه كالرشيد والمأمون ويحيى وجعفر والفضل، وما أشد نكبة البرامكة الكرام تأثيراً في النفوس. ولقد قصر كتابنا الروائيون في إهمالهم حتى اليوم مثل هذا الموضوع الجميل وإبرازهم على ملاعبنا العربية. إلى أن سد هذا النقص حضرة الفاضل المطلع الأب أنطون رباط اليسوعي، فسكب هذه الحادثة الكبيرة في قالب رواية تمثيلية، فصادفت استحساناً كثيراً حيثما مثلت. وقد بذل حضرة المؤلف عناية عظيمة في جمع ودرس كل ما قالته العرب عن نكبة البرامكة، فطالع العشرات من

المؤلفات في هذا الباب كما ترى، ذلك من الحواشي والأسانيد التاريخية التي يوردها. على أن غزارة المادة وإفاضة الكتاب في هذه الحادثة أخلنا في وحدة موضوع الرواية وتنسيق مشاهدها فجاء بعضها متقلقلاً لا رابط يجمعه، بل أن حذفه خير من إثباته. وهناك شيء من التعابير الدارجة على ألسنة العامة في عصرنا لا ندري كيف اندس في بعض نثرها حتى وشعرها القديم، كختام الأبيات المثبتة في مطلع الفصل الخامس مثلاً. على أن هذا لا يمنع رواية الرشيد والبرامكة من أن تكون من أكثر رواياتنا المؤلفة انطباقاً على قواعد الفن وقد استحق مؤلفها كل شكر. * الكواكب - السر الثمين - كتابان نشرهما شاب لم يتم العقد الثاني من عمره وهو الأديب علي أفندي عنايت نجل عزتلو محمود بك عنايت باشمهندس ري مديرية الجيزة. والكتاب الأول كناية عن مجموعة روايات وفكاهات اقتطفها من مطالعاته وعربها بعبارة طلية منسجمة وأردفها بشيء من الأدبيات مما اختاره من كتاب العصر فجاءت مجموعة صغيرة كثيرة المادة. والكتاب الثاني هو تعريب رواية أدبية غرامية فكاهية عن اللغة الإنكليزية. وفي الكتابين دليل على نشاط هذا الفتى النجيب وشغفه بالأدبيات فهو جدير بكل ثناء وتنشيط. * ولدينا أيضاً مطبوعات كثيرة منها؟ زهرة النسرين وهي من

أزهار وأشواك

منظومات الأديب أمين أفندي فتح الله صباغ والجزء الثاني من الريحانيات وقد أفضنا في الكلام عنها ص 80 من الزهور والجزء الثاني من دروس التاريخ الإسلامي تأليف الشيخ محيي الدين الخياط وقد تكلمنا عن هذه الدروس أيضاً ص 225 عند صدور الجزء الأول منها. وموضوع هذا الجزء مجمل تاريخ الخلفاء الراشدين. أزهار وأشواك العود أحمد السلام عليك أيها القارئ ورحمة الله. .! طال عهد الفراق بيني وبينك على غير وداع، وها نحن نلتقي اليوم على خير وسلام. ولم يجد صاحب الزهور متسعاً لأشواكي ولا مجالاً لأزهاري في عدده الكبير عن مصر وسورية فحرمني من التفكه بمحادثتك الشهرية، حتى خفت أن تنساني، وإن كنت لا أنساك. . . أنت لاشك قضيت صيفك خارج العاصمة بعيداً عن حرها وغبارها وضوضائها، فطلبت بليل الهواء في الإسكندرية، أو عيشة الخلاء في رأس البر، أو النزهة في ربوع أوروبا، أو الراحة في ربى لبنان. وإذا لم يكن قد تم لك شيء من ذلك، فأنا مشفق عليك راثٍ لحالك، وناقم معك على رئيسك وأشغالك. أما أنا

فلما بدت طلائع الصيف حملت منجلي وأخذت حبلي وذهبت إلى حقلي للحصاد، فكان موسمي مقبلاً. ورجعت الآن مثقلاً بأحمال كثيرة سأهدي إليك منها الشيء الكثير، منتظراً منك هدية حملتها لي من مصيفك. ومهما كانت الهدية فأنا أهنئك وأهنئ نفسي بسلامة العودة، وأقول لك كما كان يقول العرب عدنا والعود أحمد. المقيدات لما أخذت على نفسي كتابة هذا الباب من الزهور جعلت من مواد بر وغرامي ألا أتعرض لسيداتي بنات الجنس اللطيف. احتراماً لهن وخوفاً منهن. فإن غضب السماء والأرض والإنس والجن لأهون علي من غضبهن. ويسوءني وأيم الحق أن أقدم لهن لأول مرة أحادثهن أشواكاً بدلاً من باقة أزهار. ولكن على نفسها جنت براقش وأنا لست الملوم. . . تفننت يا سيدتي في أزيائك وبرزت لنا في كل فصل بل في كل شهر في زي جديد، ففتنت وسبيت وفتكت: فمن قبعة أشبه بحديقة لما عليها من أنواع الأزهار، إلى قبعة أشبه بغابة لما عليها من الأطيار، فقلنا: ذلك لك فأنت زهرة هذه الحياة العطرة وبلبلها الغرد. . . وأغرقت في تنويع ملبوسك لوناً وشكلاً، فرضينا بكل أنواع دلالك ومظاهر جمالك. ولكن كيف نرضى لك بزيك الأخير وقد قيدت مشيتك وضيقت خطوتك حتى أطلق على تابعات زيك الغريب اسم المقيدات فأصبحن يرسفن رسف المكيل بعد ما كن يكرجن كرج الحجل.

يمشين مشي قطا البطاح تأوداً ... قب البطون رواجح الأكفال بل أين مشيتك الآن، وأنت أشبه بالبطة، من المشية التي قال عنها الشاعر: كأن مشيتها من بيت جارتها ... مشي السحابة لا ريث ولا عجل والله يا سيدتي - وتأكدي إني أخلص لك النصح وأصدق القول - إن زيك هذا يسلبك كل ما جادت به عليك الطبيعة. فبحق فاتنات ألحاظك، حلي هذا القيد من رجلك، وكفاك ما قيدك به ظلم الرجال من القيود والأغلال. ولسان حال كل منا يقول: لو أطلقت لمشت نحوي على قدم ... تكاد من رقة في المشي تنفطر حب الملك وملك الحب الحب سلطان - مطلق لا مقيد، ومستبد لا دستوري - هكذا يقول الناس وخصوصاً معشر العشاق الذين عرفوا حكمه. على أن الحزب الجمهوري في البرتغال لا يريد أن يقر بذلك للجميع. سطا هذا الملك بصورة مغنية جميلة على قلب ملكهم، فأسره وقيده بقيوده الذهبية. - وهل الملك إلا بشر؟ فأنكر الحزب هذا الاستسلام من مليك البلاد لمليك الألباب. وخسر مانويل تاجه وعرشه في سبيل غرامه. فكأن شعب البرتغال يعترف بملك الحب وينكر حب الملك. ولكن فليتعز سليل أسرة براغنس، فإن له قدوة بأحد ملوك العرب الذين جلسوا قبله منذ قرون على عرش الأندلس. فرضي أن ينال من أحب كيفما كان الأمر. فإما بذل وهو أليق بالهوى ... وإما بعز وهو أليق بألمك

سلوقية غير اللاذقية

وكان نصيب مانويل أن ينال من أحب كما يليق بالهوى ذلك السلطان المستبد. . . فأين نيازي وأنور، وأني براغا وماشادو الذين يقضون على سلطة الحب المطلقة ويعلنون الدستور في مملكة القلوب. إلا أن كل أحزابهم وجيوشهم لا تقف لحظة في وجه سهامه النافذة. ولو هم قدروا فإن رعية هذا الملك لا ترضى أن تفلت من قيوده الجميلة. وهكذا سيظل الحب الملك المطلق مهما اشتدت الأحزاب الدستورية، وانتشرت الفكرة الجمهورية. حاصد سلوقية غير اللاذقية ورد في مقالة حضرة الشيخ بولس مسعد عن تدمر (ص 303) أنها كانت على أيام السلوقيين خط الاتصال بين إنطاكية وسلوقية (اللاذقية) عاصمتي مملكتهم. . . فكتب حضرة الأديب رفيق أفندي صالح إلى صاحب الهلال مشيراً إلى الخطأ في جعل المدينتين مدينة واحدة مورداً ما ذكره المرحوم والده إلياس صالح في كتابه آثار الحقب في لاذقية العرب من أن سلوقس بنى إنطاكية وسماها باسم أبيه وسلوقية باسمه وأفاميا باسم امرأته واللاذقية باسم والدته. وهذا من الأمور التاريخية المثبتة. وقد كتب إلينا صاحب مقالة تدمر يقول إن وضعه لفظة اللاذقية بين قوسين كان سهواً فهو يقصد السويدية القائمة الآن بالقرب من المكان الذي كانت فيه سلوقية. فنثني على عناية رفيق أفندي صالح بالحقائق التاريخية.

العدد 9

العدد 9 - بتاريخ: 1 - 12 - 1910 هنري دونان مؤسس جمعية الصليب الأحمر نعت أنباء البرق في الشهر الفائت شيخاً جليلاً ورجلاً عظيماً كادت الأيام تنسج حوله عناكب النسيان، مع أنه جدير بأن يبقى حياً في القلوب والأذهان. وافاه أجله في إحدى قرى سويسرا في شيوخة صالحة بعيداً عن ضوضاء هذه الحياة بعد أن جاهد فيها جهاد الأبطال. هنري دونان هو اسم رجل تجهله عامة الناس، مع أنه أهل لأن يكتب بماء الذهب في سجل المحسنين إلى الإنسانية. هو اسم رجل كبير النفس والقلب، سامي المرمى رفيع المبدأ. له على أبناء جنسه الأيادي البيضاء، فقد بذل في سبيلهم كل غالي ونفيس ليخفف عنهم وطأة البلاء والشقاء. كيف لا وهو مؤسس جمعية الصليب الأحمر ذات المواقف المعروفة في ساحات القتال ومساعدة المجروح على تضميد جرحه وتعزية نفسه. ولد هنري دونان سنة 1828 في جنفا من عائلة عرفت بالوجاهة

والثروة، ومال منذ نعومة أظفاره إلى أعمال البر والعطف على الإنسان. وكانت له يد تذكر في مقاومة الرقيق. ولم تلبث قصص الحروب والمرويات عن المعارك وأهوالها أن وجهت منه النظر إلى حالة الجرحى وما يقاسون في ميدان الكفاح. وفي سنة 1859 لما استعرت نار الحرب بين النمساويين والفرنسويين ذهب بنفسه إلى ساحات القتال ليدرس كيفية إمكان مساعدة الجرحى، وحضر معركة سولفرينو التي اشتبكت بين المتقاتلين في الرابع والعشرين من شهر يونيو (حزيران) من تلك السنة. وعند المساء أخذ يطوف ساحة الحرب. فنظر هناك عدداً كبيراً من الجرحى مخضبين بدمائهم يئنون وينوحون ويستغيثون ويستنجدون، ولكن لا مغيث ولا منجد. فأثر هذا المشهد في فؤاده أي تأثير، وخفق قلبه لهول ما رأت عيناه، وقال ما قاله غيره قوتل الإنسان ما أعظم شره. كيف قدم على الفتك بأخيه الإنسان؟ فجمع حوله بعض المتطوعين وباشر للحال مساعدة الجرحى المتروكين. ومن ذاك الحين أخذ يدرس ويبحث ويطالع، فدخل في أعماق النفس البشرية، فوجد أن الحرب مرض الإنسانية وعلتها الكبرى. فوقف وقفة المداوي الخبير. فرأى أن هذه العلة صعبة الاستئصال، وإن شفاء هذا المرض العضال ضرب من المحال. فقال في نفسه: إذا كان ليس في الإمكان إيجاد داء لحسم هذا الداء فلنخترع له مسكناً يخفف آلامه. وآلى على نفسه أن يفرغ جهده ويكرس حياته في سبيل هذا المشروع العظيم، فكتب مقالة عنوانها ذكرى سولفرينو يدعو بها

الشعوب المتمدنة إلى الاتفاق على تأليف جمعية دولية تجمع الإحسان لمساعدة الإنسان المجروح من يد الإنسان. فكان لمقالته تأثير عظيم في النفوس، ووقعت من الجميع موقع الاستحسان. ولكن صداها ما لبث أن خفت، كما أن تأثيرها ما عتم أن زال من القلوب. ففهم دونان أن مثل هذا المشروع يقتضي جداً طويً وسعياً مستمراً، فأخذ يزور العواصم الكبرى، ويخطب في المجالس والأندية حتى وضع أساساً لعمله وقاعدة لمشروعه. وكان الوقع الأكبر لصوته، والنهضة العظمى وراء دعوته في عاصمة فرنسا حيث لاقى دونان كل مساعدة ومؤازرة. وأول من مد إليه يد المعاونة جريدة الديبا حيث أخذ الكاتب الشهير سان مارك جيراردان ينشر المقالات الشائقة في هذا الموضوع. وحذا حذوه غيره من الكتاب في سائر البلاد، فانتشرت الفكرة انتشاراً بعيداً، ولم يمض إلا القليل حتى تم تأسيس جمعية الصليب الأحمر وأصبحت مطمح أنظار الجميع. فانتظم في سلكها كل عظيم وشريف، منهم: غيزو ورنان وروايه كولار وده لسبس ومدام ستايل وغيرهم. وفي 26 أكتوبر من سنة 1863 اجتمع الأعضاء لأول مرة في مدينة جنفا، وفي السنة التي بعدها عقد في المدينة نفسها مؤتمر عام أرسلت إليه جميع الدول معتمدين يمثلونها لتقرير قانون الجمعية الدولية العامة لمؤاساة جرحى الحروب. وعلى هذه الكيفية كان تأسيس جمعية الصليب الأحمر التي وقفت نفسها من ذلك الحين على خدمة الجرحى ومساعدتهم على اختلاف

المذاهب والجنسيات، فخففت شيئاً من أهوال الحروب وقللت من بلاياها ونشرت راية السلام فوق نيران المدافع وبريق البواتر. ولا تسل عن فرح دونان وغبطته عندما رأى مشروعه مكللاً بالنجاح، فعد نفسه سعيداً ورأى أن مهمته قد انتهت فاعتزل العالم وعاش منفرداً في إحدى القرى حتى كاد يصبح نسياً منسياً مع أن اسم جمعيته طبق الآفاق، وذكر مآثرها ملأ الأسماع. فلا يذكرها أحد إلا بالثناء والاحترام. وأمام شارتها المعروفة يسكت المدفع، ويغمد السيف، ويبسط ملاك الرحمة جناحيه على ضحايا البشرية. ولكن صاحب الفضل ينال ثوابه. ففي سنة 1901 نال هنري دونان الجائزة التي وضعها العالم الأسوجي الفرد نوبل للذين يمتازون بخدمة الإنسانية إن بعلمهم أو كتاباتهم أو مشروعاتهم الخيرية. فكان له فيها مسد لحاجته. هذا هو الرجل الذي نعاه البرق في الشهر الماضي فلم تدجج القصائد في رثائه، ولم تفض الصحف في تعداد مآثره، مع أنه في طليعة من خدموا الإنسانية جمعاء. فأكرم بمثل هؤلاء الرجال الذين تجب كتابة أسمائهم على صفحات القلوب إقراراً بفضلهم واعترافاً بجميلهم. ولينم هنري دونان سعيداً في ضريحه فإن قلوب الألوف من الذين تؤاسيهم جمعيته يباركون اسمه ويستمطرون الغيث على ثراه.

نفثة مصدور

نفثة مصدور الجهل أبو الشقاء والجهالة أمه مونتاين الفرنساوي ما خلوت إلى نفسي أناجيها، إلا وأدعم بالأصابع رأساً أثقله الغم، وألفه الهم، ولو كان هم واحد لاحتملته ... ولكنه هم وثانٍ وثالث وما قبضت على اليراع إلا وأحنيت على القرطاس ظهر من عجمت عوده الطوائح، فغادرته بين صبية يتضورون جوعاً، وبنيات يقضين فجوعا فذا حظي من الدنيا ... فدعني لا تزد غما في الغرب قوم إذا ضل أهلوه شرعوهم، وإن ظلمت حكامهم صرموهم، ينهضونه إذا قعد، ويقعدونه إذا نهض، لا خيل عندهم ولا سلاح إلا أقلام مذلقة إذا امتطوا صهواتها ومروا بها على القراطيس كان لها صرير ردد صداه المغربان، وضج لدويه المشرقان، وهي إذا غمزت الدواة، وأصابت منها المداد، حقنت دماء، وهدرت دماء، فهي جامعة الضدين، وموفقة النقيضين، هي الحرب والسلام، والخوف والأمان، واللين والقسوة، والحق والقوة، لا تخاف في الحق لومة لائم، ولا تلبس الحق بالباطل، جالت الجولة إثر الجولة، فرأيناها في كل عصر ودولة، تتمخض لتلد الحرية والاستقلال، وهما التوأمان العزيزان. أما الآن فقد أينعت أزهارها، ونضجت أثمارها، وغدا ترابها تبراً،

وماؤها نميراً، وأرضها تدر من طيبات الرزق لبناً وعسلاً. ما هوغو وفولتير، وغوركي وتولستوي، ودانتي وشكسبير، ونيوتن وواشنطون، والميكادو وميلتون، إلا من نوادر القرون، وعجائب البطون، رأوا بلادهم تتراوح بين الإغماء والموات، وتتضاءل تحت أغشية الوهم والتقاليد، فبرزوا إلى ميدان التحرير وأثاروا حرباً عقدت الأقلام عجاجها، وأدارت الأفهام ثقالها، وما هي إلا لحظة حتى أجرت في مرهفات الصوارم رونقاً انعكس وميضه، وأضاء ما حوله، فالتقى السيف بالقلم، والشجاعة بالشمم، وإن هي إلا حملة من حملات الإصلاح حتى نكست أعلام الجهل وعاد أعوانه يتسكعون في ديجور الظلمات، وما دروا أنهم يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذرا لموت فكان ما كان من ذلك الانقلاب الكبير الذي أجهز على حياة الاستبداديين، نقى الدين والسياسة من غطارفة المستبدين، وغطارسة المستأثرين، بعد أن لاقى الغرب الأمرين، إن هؤلاء العظماء هم عقل بلادهم، وروحها، وسيفها. أطلقوها من أسرها، وفكوا عنها قيودها، وعضدوها بعد سقوطها وأحيوها بعد مواتها، وسلكوا بها في مهيع النور والهدى. ليس المرء بأصغريه فقط، إنما هو بأكبريه أيضاً؛ القلب واللسان، والهمة والحسام. فالأولان يتعززان بالآخرين، ولا غنى للآخرين عن الوين. وما أشد يا شرق ما يتحدث الغرب بفضل رجاله، وما أشد يا غرب ما يغمط الشرق أيادي أدبائه، هؤلاء في شرقهم يشقون، وأولئك في غربهم يسعدون.

أي رباه! قبسة من أضوائك، ونظرة من سمائك، تشمل هذا الشرق فتدرأ عنه سوء الشبهات، وتكفيه شر النكبات، وتصد عنه زلقات فوضى الأقلام، وزلات خفاف الأحلام، أيسام سوء العذاب ويحطه الخسف من أعلى عليين، وهو مهبط الوحي، ومهد الأنبياء؟. . . أيكون مسرح الترهات وملعب الخزعبلات ومنه نشأ العلماء وفيه أول ما تغنى الشعراء؟. . . أين الرشيد والمنصور ينظران ما صارت إليه بغداد وما أنتجته لها مثقلات الليالي. إن الرازي وأبا العلاء يتألمان في مراقدهما عندما يسمعان الرصافي ينوح هتوفاً على نضارة بغداد ويحرق الأرم على مجدها الطارف، وسؤددها التالد، ولاسيما حينما يقول: أيا سائلاً عنا ببغداد إننا ... بهائم في بغداد أعوزها النبت علت أمة الغرب السماء وأشرفت ... علينا فظلنا ننظر القوم من تحت ما عهدنا القوم والله يبيتون على الطوى، ويغمضون على الجوى، وهم أباة الضيم القائلون النار ولا العار، والحتف ولا الإقامة على الخسف، والحرة تجوع ولا تأكل بثدييها. أيخف أبناء الشرق اليوم إلى شرب الكأس التي شرب بها عظماء أجدادهم، فيعيدون إليه سابق اخضلاله في عهد الحضارة الأندلسية ويحيون رسماً لم يعف دارسه من قنطرة الوادي، ومكتبة الإسكندرية!. . . نحن يا قوم أحوج إلى النهضات منا إلى التفنن في أساليب التفرق والشتات، فانهضوا نهوض الغرب، وقفوا في الربوع وقفة خبير بمواقع الخلل، وتعاونوا ولا تفرقوا فكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة. . .

في البلاد العربية نهضة شريفة ستكون مقدمة من مقدمات الإصلاح في الشرق، وخطوة واسعة في ميدان الارتقاء، بل هي إحدى طوالع الحركة الفكرية. وسوف تلعب دوراً يخلد لها حسن الذكر على صفحات الإنسانية البيضاء. ولكن لم يشترك في هذه النهضة إلا أفراد قليلون وهناك الكثيرون ذهب الجهل الذميم بعقولهم، وختم على قلوبهم، وأضلهم عن النهج السوي، وما هم إلا ليعيثوا فساداً والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون. . . . كأني برحالة الفرنجة إذا أم بلادنا، ورأى الخمول نافضاً غباره على أحيائنا، يقول متمثلاً بحليم مصر وهو ذاهب إلى السودان ليشغل إحدى وظائف الجيش فيه: تيممت أرضا تدب الجهالة ... فيها دبيب الصبا في الروابي إذا حدّث القوم فيها أديب ... يخالونه أعجمي الخطاب أي عاقل لا يسمع هذه المجازفة - وهي الحقيقة - ولا يرثي لحالة قطر يضيق بأهليه، وينفّر زائريه؟ * * * قيل للفيلسوف: ممن تعلمت الأدب؟ قال من قليل الأدب، وهو قول مأثور سبقنا إلى إدراكه الغرب يوم كبا فرسنا في ميدان السعي والعهد ليس ببعيد، فما أحرانا باليقظة اليوم، بعد عميق رقودنا، فنمحو إهانة لحقت بنا، ووصمة وسمنا بها، ولا غضاضة علينا إذا اعترفنا بقول

الفيلسوف، فإن من لم تعظه نفسه كلت فيه المواعظ. والنفس لا ترجع عن غيها ... ما لم يكن منها لها زاجر . . . نساء القرن العشرين في الغرب يتمتعن بحقوق لم يخولها القرن العشرون لرجال الشرق. قال نابليون: إذا أردت أن تعرف رقي كل أمة فانظر إلى نسائها. فماذا عسى أن يبلغ هذا القلم من وصف حالة النساء في الشرق وقد: حجبناهن عن طلب المعالي ... فعشن بجهلهن مهتّكات فيا شرقيون كفانا ما فات، وحسبنا ما تمضنا هذه النكبات، فكأين من أوانس كاتبات، وغيد شاعرات، وخود ممرضات، وأديبات مبرزات، نشأن منكن يا شرقيات!. . . * * * هذا يم خاضت فيه من قبل أقلام وسبحت عقول، وما أنا بالجاني علي نفسي بالخوض في خضمه، والإحاطة بأطرافه، والأمر ظاهر للعيان غني عن البيان، فانحطاط الشرق لانحطاط بناته، وجمود فتاته، وعلى تهذيبها يتوقف ارتقاؤه، فهي داؤه ودواؤه. وتلك نفثة مصدور لو لم يضق الخناق، وتبلغ الروح التراق لكسرت القلم قبل أن أبوح بها، والسلام. - بيت جالا، إسكندر الخوري

العمال في الهيئة الاجتماعية

العمال في الهيئة الاجتماعية كتبنا في صدر الجزء التاسع الماضي مقالة عن العمال والحكومات بمناسبة الاعتصابات التي توالت في أوروبا وسرت عدواها إلى مصر، وقد ألقى السر إدوارد غراي ناظر خارجية إنكلترا خطاباً في تأبين أحد أصحاب المصانع الكبرى بحث فيه عن مركز العمال في الهيئة الاجتماعية نقتطف منه ما يلي إتماماً للفائدة: إن الاستياء البادية دلائله بين طبقات العمال، والذي يظهر حيناً بمظاهر الاعتصاب، وحيناً بالتذمر من النقابات وزعمائها، لا يرجع كما يتوهم البعض إلى تحرّج مركز العمال، أو سوء مصيرهم، فإن حالتهم وإن كانت لا تزال موضوعاً للتحسين، فإنها أرقى بكثير مما كانت عليه منذ خمسين سنة. وعليه فإن سبب هذا الاستياء الشرود في عالم الأحلام والآمال والمطامع التي لم يكن يحلم بها عمال الزمان الماضي. فإنه كان من المحتم أن ينتج عن مبدأ المساواة السياسية التي سلمنا بها، مبدأ المساواة الاقتصادية. زادت رواتب العمال وتحسنت طرق تشغيلهم ولكنهم باتوا يتساءلون إذا كانت تلك الزيادة وهذا التحسن بنسبة نقص نفقات الصناعة الحديثة. ثم إن الطبقة العاملة باتت في قلق دائم من حيث استمرار العمل، لأن وقوف الأشغال مدة من السنة أصبح قاعدة مطردة في كل البلدان. وقد ولد نشر التعليم بين الشعب عاطفة نفور في صدور فتيان العمال من حياة العامل وما فيها من شظف العيش والعناء الجزيل والنصب الدائم وهذه الأمور تدلك على أسبابا لتذمر والاستياء بين العمال بالرغم عن

تحسن مركزهم في الهيئة الاجتماعية. وإن جماعة هذه عواطفهم واستعداداتهم يكونون في كل حين على أهبة التمرد، بسبب أو بلا سبب، تارة على رؤسائهم أصحاب العمل، وتارة على زعمائهم أنفسهم. وعليه فيجب أن نحذر من إضعاف النقابات. وإذا تركنا الفوضى تتشرب إليها، فإننا نكون رفعنا راية اليأس وسرنا وراءها، لأن كل جماعة لا قائد لها لا يسعها إلا التخريب والتدمير. فنحن نريد أن نرى نقابات العمال أقوى مما هي، لا أن نراها ضعيفة مضطربة كما يرغب البعض في ذلك. لأن قوتها أصبحت اليوم أكثر لزوماً من كل حين. وهي التي تجعل موازنة في المجتمع الإنساني، إذ تقف أمام قوة رأس المال التي باتت أكثر مقدرة وأقل شفقة من الماضي. وقد اتسعت الهوة الفاصلة بين مساهم الشركة الذي ينتظر بفروغ صبر توزيع حصص الأرباح، وبين العالم الذي يشتغل في هذه الشركة، فإن الاثنين يعيشان متباعدين وليس ما يقربهما. وهذا التباعد مضر بالطرفين. فيجب أن تعود العواطف الإنسانية صلة بين كليهما. فلا الدستور السياسي يحرر الشعب، ولا الامتيازات تساعده، ولا الأملاك تغنيه، إذا لم ترسخ في قلبه أخلاق الرجولة والثبات والاستقامة. فلنسع إذن كلنا أغنياؤنا وفقراؤنا، أفرادنا وجماعاتنا لننشئ هيئة صناعية كبرى يمكننا أن نطالبها كلنا بحقوقنا ولكن نقوم أيضاً كلنا بواجباتنا نحوها. فتكون جمعية لا يعد العامل فيها حيواناً مأجوراً حتى ولا يداً عاملة بل عقلاً مفكراً وقلباً شاعراً. - إدوار غراي

في رياض الشعر

في رياض الشعر نفس مكرمة ونفس تُزدرى غيرت عهدك في الهوى فتغيرا ... ملك الهوى قلبي وقلبك ما درى كوني كما أنا في الغرام وفية ... لا تهجريني ما خلقت لأهجرا أصبحت فيك من الولوع بغاية ... إن زدت حسناً لا أزيد تحيرا بلغ المدى بي كل شيء في الهوى ... فإذا أردت زيادةً لن تقدرا يسمو بك الحسن المدل إلى السما ... ويمت بي الجد المذل إلى الثرى ماذا التخالف في المحبة بيننا ... نفس مكرمة ونفس تزدرى ينفك عمري في الهوى متقدماً ... ويظل سبقي في الهوى متأخرا وأكاد أحسب في غرامك شقوتي ... لو كان يسعد عاشق بين الورى عندي حديث إ أردت ذكرته ... من لي بأن تصغي إلي وأذكرا عصفت به ريح الملامة موهناً ... فجرى على وجه العذول وغيرا لا تنكري نظرات عيني خلسة ... الله قد خلق العيون لتنظرا وقفت عليك فما انثنت عن منظر ... فتنت به إلا لتطلب منظرا أرسلت طيفك في المنام يزورني ... فدنا وولى وهو يعثر بالكرى لم يبق من أثر سوى تبسامة ... خطرت على نفس الهوى فتأثرا أتبعته أملي فأقصر دونه ... ولو استمد بلفتة ما أقصرا لا يعذلوني في غرامك ضلة ... من هام فيك فحقه أن يعذرا رقت حواشي الروع فيك صبابة ... ونهى النهى عنك الفؤاد فأعذرا

قلبي يحس وهذه عيني ترى ... ما حيلتي فيما يحس وما يرى إن تصبري عني فقلبك هكذا ... أما أنا فأخاف أن لا أصبرا ولي الدين يكن الحنين إلى مصر لخير بلادي لا لنفسي اكتب ... وفي الله لا في المال والجاه أرغب ولست مبيحاً للدنايا طويتي ... فلا ينثني عزمي ولا أتقلب أحب بلادي والعدا يعذلونني ... وكل محب بالعواذل متعب بلاد يروق الخلد خضر مروجها ... وترنو لها حور الجنان وتعجب ويحسد نهر الكوثر العذب نيلها ... وقد راح في أعطافها يتصبب وما فارقتها النفس كارهة لها ... بلى كل شيء في بلادي محبب فها أنا للسودان من مصر عائد ... وروحي لمصر من دمي تتسرب فيا عجباً للنيل يجري بجانبي ... ونفسي على أيامه تتلهب فيا نيل بلغها سلامي وقل لها ... على العهد ذاك النازح المتغيب فلو أن ماء النيل مازج أدمعي ... لما كان يحلو في الشفاه ويعذب * * * فكم مجلس لي بالجزيرة شائق ... هو الخلد أو خلد على الأرض يطلب تظلله الأدواح والطير فوقها ... تبوح بأسرار الغرام وتعرب تحف به الأزهار من كل جانب ... وألوانها تملي علي وأكتب فأخضر فينان وأبيض ناصع ... وأحمر مرجان وأصفر مذهب

إذا الريح هبت عطر الأفق نشرها ... وأنوارها أوحت إلى الشمس تغرب إذا الأرض طرف دمعه النيل جارياً ... على أنه بالعشب طرف مهدب وللروح معنى في النسيم مخبأ ... إذا مس ميتاً قام يسعى ويدأب مقاعد ترتد العيون حسيرة ... لديها ويسبى الرشد فيها ويسلب ويوم لدى الأهرام قصرت ظله ... يرئم له ملهى بقلبي وملعب تكاد حمياً لفظه ودلاله ... لرقته بالأذن والعين تشرب لدى عجب من صنعة الجن شاهق ... تتبعه ألحا عيني فتتعب معاهد فرعون وآثاره التي ... تروق على مر الزمان وتعجب فيا قوم للأوطان زاد تشوقي ... فجفني قريح والفؤاد معذب فلولا هواها ما حملت بعادها ... فما كنت لولا حبها أتغرب أذود العدا عنها وأقتحم الردى ... واطفوا على موج المنايا وأرسب إذا ذكرتها النفس في الروع أقدمت ... على الموت لا تخشى ولا تتهيب فيا ليت شعري والزمان معاند ... هل الدهر يصفو أم هل الدهر يعتب وهل ركب مصر للحياة طريقه ... فيشدى له أم للمنايا فيندب فيا مصر للعلياء والمجد أقدمي ... وما المجد إلا قوة وتغلب ويا مصر للعرفان والعلم شمري ... فهذا دواء للبلاد مجرب وإن نحن أرضينا الإله أعاننا ... وإن نحن أغضبناه يا قوم يغضب وكل بناء في يد الله ركنه ... فليس له في العالمين مخرب محمد توفيق علي ضابط بالجيش المصري

يوم الفراق (مطلع قصيدة لسعاد صاحب الإمضاء) هل عند ذاك السرب أنا بعده ... في الحي من آماقنا نتدفق أو أن أضلعنا على ما استودعت ... يوم الفراق من الجوى تتحرق أمنازل الأقمار أهلك أسرفوا ... في النأي إسراف الغني وأغرقوا لو أنهم قد أنصفوك منازلاً ... ما راقهم في الكون بعدك مشرق (مصر) إسماعيل صبري الرجاء واليأس رجونا وكان اليأس لولاك راحة ... فرد لنا بالله ما أنت سالبه فأنت امرؤ أطمعتنا وحملتنا ... على مركب لا يهدأ الدهر راكبه حافظ إبراهيم المشد سألت فتاةً لم أرى منك معطفاً ... يحيط به هذا المشد ويكنف فقالت أرى غصن القوام مكلفاً ... بحمل ثقيل منه قد كاد يقصف فمنطقت خصري بالمشد كما ترى ... ليحمل جور النهد قدي المهفهف (مصر) فيليب مخلوف

في جنائن الغرب

في جنائن الغرب اتجهت الأفكار في الشهر الماضي إلى تولستوي فيلسوف الروس الأكبر وهربه إلى الدير ليجتاز في العزلة التامة المرحلة الأخيرة من حياته التي قضاها في البحث عن الحقيقة. فرأينا أن نخصص هذا الباب بشيء من حياته ومبادئه الفلسفية. في 9 سبتمبر الماضي أنجز تولستوي السنة الثانية والثمانين من عمره. وكان في سنة 1862 قد تزوج بابنة الدكتور برس صوفيا أندرفنا فوجد فيها أكبر تعزية في حياته وأحسن مساعد في أعماله فكانت تعاونه في جميع مذكراته وترتيبها وتنسخ مسودات تآليفه. وفي المدة الأخيرة كان يملي عليها أفكاره فتدونها. وقد رزق منها ثلاثة عشر ولداً منهم الآن تسعة أحياء. وقد رباهم على مبادئ روسو وتضلعوا كلهم في العلوم واللغات. والذي زاد في شهرة هذا الرجل الكبير تطبيق أعماله على أقواله فقد زهد في هذه الدنيا وتنازل عن جميع ممتلكاته مكتفياً ببقعة أرض يستثمرها بنفسه. وكان يرى أن إصلاح العالم لا يتم إلا بالعمل فكان يخيط ثيابه وحذاءه ويقضي أيامه في الإرشاد ومساعد المعوزين وقد أنشأ في مزرعته ياسنيا بوليانا مدرسة كان يعلم فيها كل يوم بضع ساعات. وله حوادث وحكايات شهيرة تتناقلها الصحف وكلها تدل على شرف عواطفه وأمياله وسمو حكمته وفلسفته. وقد اكتسب احترام الجميع ونال أرفع منزلة بين المفكرين المصلحين في حياته ومماته. ولبست روسيا جمعاء عليه ثوب الحداد. وأخذ الناس يحجون إلى قبره. أما تآليفه فأشهرها الحرب والسلم وحنة كرنين والبعث إلخ. وقد نقلت إلى كل لغات أوروبا وعرب منها الشيء الكثير حضرة الفاضل سليم أفندي قبعين. ونحن نقتطف من تعريبه نتفاً تطلع القارئ على مبادئ الفيلسوف الروسي:

مبادئ تولستوي تنحصر مبادئ تولستوي الدينية والاجتماعية في الوصايا الخمس الآتية: أولاً - أحب الله من كل نفسك وأحب قريبك كذلك. لا تهن أحداً، واجتهد بان لا تحرض أحداً على فعل الشر، لأن الشر يتولد من الشر. ثانياً - لا تغازل النساء، ولا تهجر المرأة التي اتحدت بها، لأن هجر النساء وتغييرهن يحدثان الفساد في العالم. ثالثاً - لا تحلف بشيء ولا تعد بشيء، لأن الإنسان بكليته تحت سلطة الله، والناس لا يجنحون إلى الأقسام إلا مدفوعين إليها بالأعمال والنيات الشريرة. رابعاً - لا تقاوم الشر بالشر، واحتمل الإهانة واعمل أكثر مما يطلب منك الناس. لا تحاكم أحداً ولا تدفع نفسك للمحاكمة. والإنسان إذا مال إلى الانتقام فإنه ليعلم الناس أن يحذوا حذوه وينسجوا على منواله. خامساً - لا تفرق بين موانيك والغرباء، لأن جميع الناس من مصدر واحد. وقد شحن الكونت تولستوي مؤلفاته بالنصائح والحكم الفلسفية وكلها على منتهى السذاجة، وله الفضل على سائر الفلاسفة - كما قدمنا - بأنه يعمل بما يعلم وإليك شيئاً من أقواله: لا تعم المساواة في العالم، ولا ينقطع الحسد من بين الناس، ولا

تزول المنافسة وتفقد البغضاء، إلا إذا سعى كل بنفسه لتحصيل ما يقوم باوده. فيجب على كل واحد أن يقبل على الشغل وإعداد جميع لوازمه المعيشية بنفسه، دون أن يعتمد فيها على غيره. فإننا لو نظرنا إلى المصائب العديدة التي تحدث بين الناس، لوجدنا أن أصلحا الحاجة، ومصدرها الفاقة. وأما الشرور والآثام والفجور والفساد فإن مصدرها البطالة والراحة المتناهية وإملاء البطون بالمآكل التي تقود الإنسان إلى الشهوات وارتكاب الموبقات. إن أقدس واجب على الإنسان تفرضه عليه الإنسانية الحقيقية هو سعيه إلى إزالة عدم المساواة الموجودة بين الناس، وبإزالتها تزول المصائب والويلات وتتلاشى الشرور والشهوات، وأن آمن طريق يوصله إلى ذلك هو العمل. قال تولستوي مخاطباً ابن المدن المتنعم في رخاء العيش المتناهي في بذخ الحياة: قم واخرج من خدرك وطف في المدينة، وقف إلى جانب أولئك الذين يطعمون الجياع ويكسون العراة، ولا تخف. وانتظم في سلكهم وسر معهم كتفاً إلى كتف، واعمل بيديك الرخيصتين الضعيفتين أول عمل تصادفه. ولا تأنف من فقير بائس، بل أرفق به وألبسه وأطعمه، ثم اشتغل في الزراعة والأعمال الأخرى، فلا شد في أنك ترى نفسك أسعد حالاً مما كنت عليه، وتجد انقلاباً في عواطفك يساعدك على السير في طريق العمل والطهارة.

المرأة العصرية

المرأة العصرية . . . منشئ الزهور . . . . قرأت المقالة التي دبجتها حضرة الآنسة هدى كيورك ص 330 من زهوركم. فرأيتها قد أصابت في معظم أقوالها كبد الحقيقة ولكنها أصابت في كل سطر من سطورها أخواتها وبنات جنسها بسهام حادة. أجادت في وصف السيدة أو الفتاة التي تقتل الوقت بالزينة والتفنن بالأزياء وأهملت ذكر الفتيات الكثيرات اللواتي يعملن بكل جد ونشاط للتحلي بحلى الفضائل. وليس هنا مقام إيراد ذكر من نبغ من بنات جنسنا بالرغم عما يحدق بنا من المصاعب والتقاليد المقيدة لنا. بل أقول لمن يرموننا بكل فرية: كم امرأة منا تضحي صحتها وتحرم نفسها من كل ملاهي هذه الحياة لتسهر على بيتها وتدبر منزلها وتهذب أولادها وتبالغ في إرضاء زوجها. بل كم من فتاة تحيي ليلها بعد نهارها للعمل على سد عوز ذويها وإعانة أبويها الشيخين. وإذا هي تمكنت فوق ذلك من اتباع المودة فلمهارتها وتفننها. وما أدرى الناس بمهارة يدي المرأة؟ فهي تلبس ثوبها وتغالي في النظافة عليه، ولا تلبث أن تغير زيه ومودته حسب الدارج حولها، وتتفنن بذوقها المعروف بزركشته وتخريجه حتى يخالها الناظر جديداً في كل الفصول. وما قلته عن الثوب أقوله عن أثاث البيت. وليست هذه الفتاة التي وصفتها بالشيء النادر أو القليل الوجود. فكم في البيوت المتوسطة من هذه النساء. أما اتهامنا بالنزوع عن تقاليدنا الشرقية ولغتنا العربية إلى التقاليد

الغربية واللغات الإفرنجية، فالذنب في ذلك على الرجال كما هو علينا. نظرة بسيطة إلى الصالونات والمجتمعات تؤيد قولي هذا. فلابسة البرنيطة، الناطقة بلغة أبناء السين أو التاميز. المقلدة للغربية في مشيتها وحركاتها هذه هي المكرمة، أما سواها فأمرها معلوم. ولما كانت المرأة - كالرجل - تحب أن تكرم، أصبح لها بعض العذر على ظهورها بهذه المظاهر. أما ما ذكرته حضرة الكاتبة الأديبة عن وجوب اقتدائنا بالرجال من حيث الترقي والتقدم. فأقول - ولا أخشى أن أجرح أبناء الجنس القوي، فلكم حملوا علينا الحملات الشديدة - أن نهضتهم في ربوعنا الشرقية هي بنت أمسها. فليمهلونا قدر ما أمهلتهم الأيام فيروا منا رقياً لا ينقص عن رقيهم. وإذا هم لقبوا أنفسهم بالجنس النشيط، إلا يجب عليهم أن يقطعوا مئات الخطوات قبل أن نقطع العشرات نحن بنات الجنس الضعيف؟ فضلاً عما أثقلتنا به الاصطلاحات من العادات القديمة التي تكاد تسد سبل التقدم في وجهنا. فعلى الرجال إذا كانوا يرغبون حقيقة في إصلاحنا أن يمدوا لنا يد المساعدة لنرافقهم في طريق الفلاح ولا نكون عبثاً ثقيلاً يؤخرهم في مسيرهم. وإلا فلا تتعبن هدى نفسها بالنصح فإننا كما قال الشاعر رحمه الله: نحن صم عن الملام وعمي ... عن سبيل الهدى فلا ترشدونا وعلى كل فأنا أبسط يدي من وراء البحار لمصافحة حضرة الآنسة التي فتحت هذه الباب على صفحات هذه المجلة عسى أن نستخرج من الزهور الدواء الشافي لأمراضنا الاجتماعية. بيروت ادماكيرلس

في 14 من الشهر الماضي افتتح مجلس المبعوثان العثماني فصل جلساته الثالث، فرأينا أن نذكر شيئاً عن أحد المبعوثين عن ولاية سورية في المجلس الأول الذي التأم سنة 1878. وهو المرحوم نقولا نقاش زميل المرحوم خليل غانم، وسليل أسرة نقاش التي خدمت الآداب العربية أجل الخدم. فإن في ذكر أعمال السف تنشيطاً للخلف:

هو نقولا بن إلياس بن ميخائيل نقاش ولد في بيروت في أوائل سنة 1825. ولما بلغ الرابعة من عمره انكب على تعلم مبادئ اللغتين العربية والسريانية حتى أتقنهما قراءة وخطاً مع العلوم الحسابية. ثم درس اللغة الإيطالية حتى أصبح ينشئ بها كأربابها. وتخرج بعد ذلك على شقيقه المرحوم مارون نقاش الشهير وأخذ عنه مبادئ اللغة التركية وخلفه في باشكتابة بيروت وملحقاتها. وظل في هذه الوظيفة بضع سنوات كان أثناءها يزاول العربية والتركية حتى برع فيهما فنظم القصائد الرنانة وكتب المقالات الشائقة. وفي غضون ذلك أنشأ شقيقه مارون الملاعب العربية بتأليف أول روايات تمثيلية ظهرت في لغتنا وجاراه نقولا الشاب في هذا الفن فوضع روايات كثيرة أودعها الحكم والفوائد (وسنعود إلى كل ذلك في أعداد الزهور الآتية). ثم تقلب في مناصب شتى لا محل لتفصيلها الآن فأظهر في جميعها من الاستقامة والبراعة ما أكسبه ثقة العموم كما أظهر ذلك في أعمال التجارة التي تعاطاها حتى كانت سنة 1878 فانتخبه مواطنوه لينوب عنهم في مجلس المبعوثان الأول فقام بواجب النيابة حق القيام. إلى أن فض هذا المجلس على ما هو معلوم فعاد إلى مقسط رأسه وعين عضواً دائماً في محكمة التجارة ولم يلبث أن استقال منها وكان قد أحرز شهادة الحقوق من الطبقة الأولى وفتح مكتباً للمحاماة ظل يشتغل فيه حتى انطفأ نور حياته في 4 ديسمبر سنة 1894 وهو في السبعين من عمره.

ولا يزال من أولاده حضرة النطاسي البارع الدكتور أنطون نقاش وعزتلو القانوني الشهير جان بك نقاش الذي استأنف الاشتغال بالمحاماة بمكتب والده، وحضرات الأفاضل الأفندية بطرس وأيوب ونقولا. وقد ترك آثاراً أدبية وعلمية جليلة منها روايات وأشهرها الشيخ الجاهل، وربيعة، والوصي. وديوان شعر منسجم بليغ. وقد ترجم كتباً قانونية كثيرة وعلق شرحها وملاحظاته عليها منها قانون الأراضي، وقانون الجزاء، وقانون المحاكمات الحقوقية، وقانون التجارة وذيله، وقانون الأبنية، وقانون تشكيل المحاكم إلخ. وله مقالات وخطب شائقة نشر معظمها في جريدة المصباح التي أنشأها سنة 1889 فكانت في مقدمة الصحف العربية. وقد نال الرتبة الثانية والوسام المجيدي الثالث من الدولة العثمانية ووسام سان غرعوار من طبقة شفاليه. وفي سنة 1869 زار سورية سمو الغرندوق فردريك (الذي صار فيما بعد إمبراطوراً لألمانيا وهو ولد الإمبراطور غليوم الحالي) فامتدحه صاحب الترجمة بقصيدة عصماء فأهدى إليه دبوساً ثميناً مرصعاً بحجر كريم. وأهدى إليه سمو الغرندوق نقولا شقيق قصير روسيا خاتماً جميلاً في مثل هذه المناسبة. هذه هي بعض مآثر ذلك النائب الكريم أحببنا أن نوردها اليوم بمناسبة التئام مجلس المبعوثان، قياماً بواجب الذكر نحو الذين خدموا البلاد والعلم والأدب بأمانة وإخلاص.

في حدائق العرب

في حدائق العرب الوفاء والحب جلس معاوية بن أبي سفيان يوماً في مجلس له بدمشق وكان الموضع مفتح الجوانب الأربعة، وكان اليوم شديد الحر لا نسيم فيه. فإذا برجل يمشي وهو يتلظى من حر التراب، ويحجل في مشيته حافياً. فتأمله معاوية وقال لجلسائه: هل خلق الله سبحانه وتعالى أشقى ممن يحتاج إلى الحركة في هذا الوقت؟ - فقال بعضهم: لعله يقصد أمير المؤمنين - فقال والله لئن كان قاصدي لأجل شيء، لأعطينه واستجلب الأجر به، أو مظلوماً لأنصرنه. يا غلام، قف بالباب، فإن طلبني هذا الأعرابي فلا تمنعه من الدخول علي. فخرج فوافاه. فقال: ما تريد؟ - قال: أمير المؤمنين - قال: ادخل. فدخل فسلم. فقال له معاوية: ممن الرجل؟ - قال من تميم. قال: فما الذي جاء بك في هذا الوقت؟ - قال: جئتك مشتكياً، وبك مستجيراً - قال: ممن؟ - قال: مروان بن الحكم عاملك - قال: اذكر لي قصتك وأبن عن أمرك. فقال: يا أمير المؤمنين، كانت لي زوجة وكنت لها محباً وبها كلفاً، وكنت بها قرير العين طيب النفس. وكانت لي جذعة من الإبل أستعين بها على قوام حالي وكفاية أودي. فأصابتنا سنة أذهبت الخف والحافر. فبقيت لا أملك شيئاً. فلما قل ما بيدي وذهب مالي وفسد حالي، بقيت مهاناً ثقيلاً على الذي يألفني، وأبعدني من كان يشتهي قربي، وأزور من لا

يرغب في زيارته. فلما علم أبوها ما بي من سوء الحال وشر المآل، أخذها مني وجحدني وطردني وأغلظ علي. فأتيت إلى عاملك مروان بن الحكم راجياً لنصرتي. فلما أحضر أباها وسأله عن حالي، قال: ما اعرفه قط - فقلت: أصلح الله الأمير، إن رأى أن يحضرها ويسألها عن قول أبيها. ففعل، وبث خلفها، فلما حضرت بين يديه، وقعت منه موقع الإعجاب، فصار لي خصماً، وعلي منكراً، وأظهر لي الغضب وبعث بي إلى السجن، فبقيت كأنما خررت من السماء أو استهوت بي الريح في مكان سحيق، ثم قال لأبيها: هل لك أن تزوجنيها على ألف دينار وعشرة آلاف درهم، وأنا ضامن إخلاصها من هذا الأعرابي؟ فرغب أبوها في البذل، وأجابه إلى ذلك. فلما كان من الغد بعث إلي وأحضرني، ونظر إلي كالأسد الغضبان وقال: طلق سعاد - فقلت: لا. فسلط علي جماعة من غلمانه، فأخذوني يعذبونني بأنواع العذاب، فلم أجد بداً من طلاقها، ففعلت فأعادني إلى السجن ومكثت فيه إلى أن انقضت عدتها فتزوجها وأطلقني. وقد أتيتك راجياً، وبك مستجيراً، وإليك ملتجئاً، وأنشد يقول: في القلب مني غرام ... للنار فيه استعار والجسم مرمي بسهم ... فيه الطبيب يحار وفي فؤادي جمر ... والجمر فيه شرار والعين تهطل دمعاً ... فدمعها مدرار فليس إلا بربي ... وبالأمير انتصار ثم اضطرب واصطكت لهاته، وصار مغشياً عليه وأخذ يتلوى كالحية

فلما سمع معاوية كلامه وإنشاده، قال: تعدى ابن الحكم في حدود الدين، وظلم واجترأ على حرم المسلمين. ثم دعا بدواة وقرطاس، وكتب إلى مروان بن الحكم كتاباً يقول فيه: إنه قد بلغني أنك تعديت على رعيتك في حدود الدين، وينبغي لمن كان والياً أن يكف بصره عن شهواته، ويزجر نفسه عن لذاته. ثم كتب كلاماً طويلاً منه: وليت أمراً عظيماً لست تدركه ... فاستغفر الله من فعل امرئ زان إن أنت خالفتني فيما كتبت به ... لأجعلنك لحماً بين عقبان طلق سعاداً وعجلها مجهزة ... مع الكميت ومع نصر بن ذبيان ثم طوى الكتاب وطبعه، واستدعى بالكميت ونصر بن ذبيان، وكان يستنهضهما في المهمات لأمانتهما، فأخذا الكتاب وسارا حتى قدما المدينة، فدخلا على مروان بن الحكم وسلما عليه وسلما الكتاب إليه. فصار يقرأ ويبكي. ثم قام إلى سعاد وأعلمها بالأمر. ولم يسعه مخالفة معاوية، فطلقها بمحضر الكميت ونصر بن ذبيان، وجهزهما وصحبتهما سعاد. ثم كتب إلى معاوية كتاباً يقول فيه هذه الأبيات: لا تعجلن أمير المؤمنين فقد ... أوفى بنذرك في سر وإعلان وما أتيت حراماً حين أعجبني ... فكيف أدعى باسم الخائن الزاني اعذر فإنك لو أبصرتها لجرت ... فيك الأماني على تمثال إنسان فسوف تأتيك شمس ليس يدركها ... عند الخليفة من أنس ومن جان ثم ختم الكتاب ودفعه إلى الرسولين، فسارا حتى وصلا إلى معاوية وسلما إليه الكتاب فقرأه وقال: لقد أحسن في الطاعة وأطنب في ذكر الجارية

ثم أمر بإحضارها، فلما رآها رأى صورة حسناء لم ير أحسن منها، ولا مثلها في الظرف والجمال والقد والاعتدال. فخاطبها فوجدها فصيحة اللسان حسنة البيان فقال: علي بالأعرابي فجيء به وهو في غاية من تغير الحال. فقال: يا أعرابي، هل لك عنها من سلوة، وأعوضك عنها ثلاث جوارٍ نهد أبكار، كأنهن الأقمار، مع كل جارية ألف دينار، وأقسم لك من بيت المال كل سنة ما يكفيك وما يغنيك؟ قال فلما سمع الأعرابي معاوية، شهق شهقةً ظن معاوية أنه مات بها فقال له: ما بالك بشر بال وسوء حال؟ فقال الأعرابي: استجرت بعدلك من جور ابن الحكم، فبمن أستجير من جورك، وأنشد يقول: لا تجعلني فداك الله من ملك ... كالمستجير من الرمضاء بالنار أردد سعاداً على حيران مكتئب ... يمسي ويصبح في هم وتذكار أطلق وثاقي ولا تبخل علي بها ... فإن فعلت فإني غير كفار ثم قال: والله يا أمير المؤمنين، لو أعطيتني الخلافة ما أخذتها دون سعاد. ثم أنشد: أبى القلب إلا حب سعدى وبغضت ... علي نساء ما لهن ذنوب فقال معاوية: إنك مقر بأنك طلقتها، ومروان مقر بأنه طلقها، ونحن نخيرها. فإن اختارت سواك تزوجناها، وإن اختارتك حولناها إليك. قال: افعل - فقال: ما قولين يا سعاد؛ أيهم أحب إليك: أمير المؤمنين في عزه وشرفه وقصوره وسلطانه وأمواله وما أبصرته عنده؟ أو

تاريخ المهاجرة وأسبابها

مروان بن الحكم في تعسفه وجوره أو هذا الأعرابي في جوعه وفقره. .؟ فأنشدت تقول: هذا وإن كان في جوع وأضرار ... أعز عندي من قومي ومن جاري وصاحب التاج أو مروان عامله ... وكل ذي درهم عندي ودينار ثم قالت: والله يا أمير المؤمنين، ما أنا بخازنته لحادثات الزمان، ولا لغدرات الأيام؛ ولكن له صحبة قديمة لا تنسى، ومحبة لا تبلى؛ وأنا أحق من يصبر معه في الضراء، كما تنعمت في السراء. فتعجب معاوية من عقلها ومودتها ووفائها، فدفع لها عشرة آلاف درهم، ودفه مثلها للأعرابي، فأخذها وانصرف. الاتليدي تاريخ المهاجرة وأسبابها كثر ذكر المهاجرة في هذه الأيام وأفاض الكتاب الكلام فيما يتهدد سورية من الخراب من سفر أبنائها. فرأينا أن نورد هنا تاريخ هذه المهاجرة إلى أمريكا مستندين في أقوالنا وتعليماتنا إلى كتاب جميل أفندي حلوه الذي تكلمنا عنه في الجزء الفائت ص 408 ووعدنا بالرجوع إليه: كان ذكر العالم الجديد، ولا يزال، مقروناً بالخيرات والبركات، ولكم صور في أدمغة الأوروبيين والشرقيين جبالاً من الذهب تناطح السحائب، وآباراً تفيض من التبر سكائب، حتى كادوا يظنون أن لا شيء يعوزهم هناك إلا المجارف لتجميع ما فيها من مال تليد وطارف. مع أن

الأحوال قد تغيرت في أيامنا. وأمريكا اليوم هي غير أمريكا بالمس. ولكن تيار المهاجرة لا يزال يقذف إليها في كل سنة مئات الألوف من المهاجرين. وعهد مهاجرة السوريين قديم، يرتقي إلى أجدادهم الفينيقيين الذي رادوا البحار، وحملوا تجارتهم إلى أقصى الديار. أما مهاجرتهم إلى أمريكا فلم تبدأ إلا منذ نصف قرن تقريباً. وكان الباعث الأكبر عليها اختلال المجاري الاقتصادية في السلطنة العثمانية بفساد الحكومة الاستبدادية التي جرت على مذهب فرق تسد فتأصلت روح التعصب بين الجماعات والتشيع والطوائف حتى كادت توقع البلاد في حرب أهلية دائمة، وتضعضع الأمن، وسادت الفوضى، ودرس العلم، وثقلت المعيشة. وما بشر الناس بخيرات أمريكا حتى هرع الكثيرون إلى البواخر تحملهم إلى شواطئ العالم الجديد حيث أفلتوا من عقل التقاليد وانفكوا من قيود الفقر والمظالم، وتنفسوا الصعداء لأن حالة الفلاح العثماني كانت من أتعس الحالات. وكان القرويون أول من شد الرحال إلى أصقاع أمريكا. وكان إثراؤهم السريع وحشدهم المال الكثير في الوقت القليل محرضاً كبيراً على إقبال إخوانهم على اللحاق بهم إلى أرض الحرية والإخاء والمساواة والغنى. وقد فتحت حكومات أمريكا باب المهاجرة لدخول المهاجرين لأنها كانت في حاجة إلى تعمير البلاد واستثمار الأراضي. وفتحت أيضاً الحكومة العثمانية الباب وسيعاً لخروجهم لأن معظمهم كان من النصارى، واهمة أنها بنزوحهم تخلص من مشاكلها مع الدول الأوروبية: على أن المسلم العثماني كان ومواطنه المسيحي سببين في احتمال المظالم وتكبد المغارم. فلحق به إلى

المهجر وهكذا لم تلبث المهاجرة التي بدأ بها النصارى أن شملت سائر الطوائف والملل من المسلمين والدروز والمتاولة فاقتعدوا غارب الرحيل إلى العالم الجديد وكان تيارها في بداية الأمر موجهاً إلى البرازيل وما قاربها قبل أن اتجه إلى الولايات المتحدة. وصل المهاجرون إلى بلاد سادت فيها الحرية، واستتب الأمن، وتوفرت مصادر الارتزاق، والكل فيها سواء، برعاية النظام والقانون، والاشتراك في إدارة شؤون البلاد. فنزلوا في ميدان الجهاد وأقبلوا على العمل بنشاط واجتهاد. فأثروا شيئاً فشيئاً وتخلقوا بأخلاق القوم الذين نزلوا بينهم وفتح الكثيرون منهم البيوت التجارية الكبيرة بعد أن كانت تجارتهم دائرة على الكشة والجزدان ومدوا يدهم إلى الصناعة والزراعة فأحرزوا نجاحاً يذكر. ويقدر عددهم الآن بثلاثمائة ألف في الولايات المتحدة وحدها وقد أسسوا أيضاً جوالي كثيرة في الجمهورية الفضية والبير والبرازيل والمكسيك وهايتي وسائر أنحاء أمريكا وأصبحت لهم بين القوم منزلة سامية، وقد أجاد حافظ إبراهيم وأبدع في وصف المهاجر السوري إذ قال: يمضي ولا حلية إلا عزيمته ... وينثني وحلاه المجد والذهب ير صرف الليالي عنه منقلباً ... وعزمه ليس يدري كيف ينقلب بأرض كولب أبطال غطارفة ... أسد جياع إذا ما ووثبوا وثبوا أسطولهم أمل في البحر مرتحل ... وجيشهم عمل في البر مغترب ما عابهم أنهم في الأرض قد نثروا ... فالشهب منثورة مذ كانت الشهب

رادوا المناهل في الدنيا ولو وجدوا ... إلى المجرة ركباً صاعداً ركبوا سعوا إلى الكسب محموداً وما فتئت ... أم اللغات بذاك السعي تكتسب وبالحقيقة فقد نشر المهاجرون لواء اللغة العربية في أقصى أنحاء المعمور وأصبحت جرائدهم ومجلاتهم في أمريكا تعد بالعشرات. وصحافتهم من أرقى الصحف العربية منها جرائد يومية تصدر بحجم أكبر جرائدنا اليومية وهي مشحونة بغرر المقالات ودرر الأشعار (وسنعود إلى كل ذلك في أبحاث آتية عن النهضة الأدبية في أمريكا). * * * هذا جل ما يقال عن تاريخ المهاجرة وأسبابها وحالة المهاجرين. وأمامنا الآن نقطتان: أولاً، إيقاف تيار المهاجرة الذي كاد يفرغ البلاد من سكانها. وثانياً، الاهتمام بالذين هاجروا وحفظ روابطهم بوطنهم. وكلا المرين جدير بالبحث وإمعان النظر. كتب الكثيرون من الأدباء عن الطريق الواجب اتخاذها لإقفال باب المهاجرة. ولكن النقطة الجوهرية راجعة إلى أمرين، مادي وأدبي. أي تسهيل الحكومة للأهالي تأسيس المشروعات الاقتصادية والأعمال العمومية بل مباشرتها بنفسها، وإنشاء سبل المواصلات واستثمارها ثروة البلاد حتى يجد الناس مرتزقاً. وضبط الأمن وإقامة العدل ونشر المساواة التامة دون محاباة. فإن ذلك لا يمنع الناس فقط عن المهاجرة بل يعيد إلى الأوطان العدد الأكبر من الذين نزحوا عنها. فينفعون بلادهم بما اكتسبوا في الخارج من الخبرة والمعارف والثروة.

بين جدران السجون

وقد أحسن صاحب الكتاب الذي أشرنا إليه في صدر الكلام إذ قال: المهاجرة هي أمتن ذريعة تتذرع بها الأمة لدى أولي الأحكام، تنفيذاً لبغيتها من الإصلاح والنظام وهي كمقاطعة البضائع بين الدول حرب سياسية اقتصادية لابد لها أخيراً من الفوز والغلبة أما النقطة الثانية فهي الاهتمام بالمهاجرين في مهجرهم وهم يبلغون مئات الألوف كما قدمنا وفيهم التاجر والمالي والطبيب والمحامي والصانع والمزارع والمؤلف والمخترع. فهم إذن قوة استعمارية عظيمة بالمعارف والعلوم والفنون والمال ونشر النفوذ ويحق لدولتهم أن تفاخر بهم ويجب عليها أن تحتفظ بهم فتحكم علائقها بهم ولو بعدت الديار وشط المزار، وذلك بالالتفات إليهم وتعيين قناصل ووكلاء سياسيين ينظرون في أحوالهم ويوثقون رابطتهم القومية وجامعتهم الوطنية، ويذودون عن حقوقهم ومرافقهم فلا يكونون عرضة للإهانة وطعمة لكل من تحدثه النفس بالتهجم عليهم وليس كل ما قدمنا بالأمر العسير على الحكومة الراقية التي تفهم واجباتها نحو أمتها. بين جدران السجون وكادت الغزالة تتوارى وراء حجاب الأفق فقفلنا معها عائدين من سراي الحكومة إذ استوقفنا عند الباب الغربي طرق مطرفة رددت صدى ضرباتها المتتابعة جدران ذلك المكان. في الشبيبة، مهما تكاملت صفاتها، روح دفعتنا إلى سؤال أحد

الجنود الخفراء عن مصدر هذا الصوت، فأجاب: من سجن المغاور. وكان هنالك قوة دافعة أيقظت فينا الميل إلى الاطلاع على ما يجري في تلك القصور السفلية! فسرنا إلى حيث انبعث الصوت. وزادنا ميلاً اعتراض أحد أنفار الخفارة لنا بقوله بلهجة عسكرية مألوفة يا سق، فانتظرنا. ولم يطل انتظارنا، حتى فتح باب قصير، خرج منه أحد ضباط الجندومة، يصحبه كهل حامل على منكبه مطرقة ثقيلة. وفي يده بعض الأدوات الحديدية، وتلاهما عدد من أنفار الجندومة لا يتجاوز العشرة. اقتربنا من الضابط وسألناه زيارة السجن فأجاب بنصح: - سرحوا أبصاركم في الأماكن المبهجة، وابتعدوا عن هذه الديار فهي مفعمة شقاء. ولكن لما أظهرت له ميلي إلى درس أحوال سكانه. أطرق هنيهة، وأشار إلى أحد أنفاره باستئذان المدير الأعلى. وكان النهار قد مال إلى الزوال، فعاد الرسول معلناً غياب المدير ففكر صاحبنا برهة وقال: هيوا بنا! ولجنا الباب الذي كان لم يزل مفتوحاً ودخلنا إلى نفق مظلم يبلغ طوله العشرة أمتار تفصله عن مدخله شبكة خشبية ضخمة يشرف على فناء دار عالية وإلى جانبيه وحول جدران الدار أبواب صغيرة ملاصقة الحضيض ينزل منها إلى المغاور التي يقطنها المسجونون والتي اتخذ منها هذا المدفن اسمه الشريف.

إلى أحد جدران النفق كان فتى في ريعان الشباب مطرق الرأس كأنه في واد عميق من التفكر. وإلى يمينه قيد كبل يده برجله. انتبه الفتى من غفلته عند دخولنا فحول نظره إلينا ثم إلى الأرض وخطا خطوة ليتوارى عن أبصارنا. ولكن خطوته هذه حركت السلسلة الرابطة رجلة بيده. فأحدثت حركته صليلاً اهتزت له أبداننا. وذكر صاحبنا بحالته المحزنة. فاستند مرة ثانية إلى الجدار وأطرق مفكراً. لو أتيح لنظرنا أن يخترق ستر الظلام. لرأى حمرة صبغت وجنتيه. ودمعتين تجولان في عينيه. هاتان العينان اللتان لم تخشيا الأهوال نكصتا أمام أعيننا. تانك الوجنتان اللتان شاهدتا الموت صافعاً بكفه محيا فريسته احمرتا خجلاً منا. تلك اليد التي هزت الخنجر بجرأة لارتكاب الجريمة ارتجفت عند موقفنا. للمرء مهما تقلب على بساط الجرائم وتمرغ في حمأة الفحشاء. ساعة نور وضياء. ساعة تختلي فيها الروح بمناجاة المادة في معزل عن الكائنات. ساعة ينظر بها الإنسان إلى أعماله فيلعنها. ويحكم بنفسه على نفسه. هاتوا لي طبيباً ماهراً، دعوه يعالج هذه النفس الشقية، لينزع عنها جراثيم الوباء! ليضمد جراحها ويصب عليها بلسماً يبرد النار التي تأكلها، وأن الضمين لكم بأن تعود إلى النفس حياتها. نعم. في الفتى نفس حية. أنت تصلح لأن تكون من أكبر النفوس. لو سعى أحد لتقويم أميالها. ولكن مسكينة هي. خانها حظها. فسقطت على معبر الطريق. وداستها الأرجل فدنستها. دون أن تلقي من يلتقطها ويعتني بشأنها. ولادتها

كانت سبب تعاستها. فعاشت حقيرة. وقد دفعتها الحاجة إلى الرذيلة فهوت لضعفها. وما سقطتها إلا نتيجة نظام سن لحياتها. فشبت بين الجرائم. وستموت أثيمة. دون أن يكون الذنب كل الذنب عليها. هذه النفس خلقت لتكون عضواً عاملاً في المجتمع الإنساني فرذلها حتى أصبحت عبئاً عليه. ثم بترها بدل معالجتها فانسلخت عنه وفي قلبها نار. وفي جوفها علقم مما حل بها. أمام هذا المنظر الرهيب. تحركت فيّ عاطفة الشفقة على هذا المسكين عدت إلى نفسي. فوجدتها قاصرة عن إعانته. فقلت لمن معي: كفانا ما شاهدنا فعودوا بنا. ولما تحولنا عنه تقدم منا الضابط الذي كان دليلنا في رحلتنا وقال: - عندي من يستحق التفاتكم. وهو اللبناني قاتل ابن الخياط. وجارح الإيطالي في السجن منذ أسبوعين. فإن أحببتم فسأدعوه إليكم. ثم نادى: يا أبا فارس! هو ذا من يريد أن يراك. فاصعد من سجنك. فأجابه صوت كأنه آت من وراء القبر قائلاً: ها أنا ذا وتلاه صليل سلاسل رددته أعماق تلك الحفرة. ثم وقع أقدام ثقيلة وظهر أمامنا رجل في الأربعين من عمره طويل القامة عريض الكتفين أسود اللحية كثيفها. وعيناه تقدحان في ظلام ذلك المكان شرراً وهو لابس سروالاً ورداءً من الجوخ الأسود وعلى رأسه طربوش لف حوله منديل جيبه. نظر الرجل إلينا ثم حيانا وقال: ما تطلبون مني؟ زرنا هذا المكان ولما علمنا بوجودك قصدنا مشاهدتك في وحدتك

- أشكركم على هذه المنة. . . هي المرة الأولى التي زارني بها أحد مدة التسع السنين التي صرفتها في سجني. وسألناه عن حاله فقال متنهداً: في التعاسة والشقاء. بين القتلة والمجرمين كما ترون. لقد قاسيت الأهوال وذقت أمر الشدائد. وإلى جنبي سلسلتي الثقيلة. لم يكن لي مؤنس في وحشتي سوى كتاب أرسله لي حضرة قنصل أمريكا منذ شهور لما بلغه أمري. وعلم أني صرفت ثلاث سنين في أمريكا. - ولماذا تركت أمريكا وأتيت إلى هنا. - أنا لبناني الأصل، ولدت من إحدى الأسر المعروفة في قرية. . . وقد قضيت سني حداثتي في المنزل الوالدي ثم أرسلني أبي إلى المدرسة حيث تلقيت العربية والإفرنسية والإنكليزية. ولما شببت سرت إلى أمريكا قصد المتجر. ولكن لم يكتب لي فيها التوفيق فعدت منها - ويا ليتي لم أعد - بعد ثلاث سنين إلى مسقط رأسي. ومنها إلى هذه المدينة حيث لاقيت ما لاقيت. - ما هي قرابتك بالكاتب اللبناني المعروف. . .؟ - هو ابن عم أبي. - أنت كريم الأصل. حسن التربية. فما الذي دفعك إلى ارتكاب الجريمة؟ - فتش عن المرأة. قال ذلك بالإفرنسية وسكت. فنظرت إليه وإشارات الأسف تلوح على وجهه وسكت أيضاً. خواطر مظلمة مرت

على مخيلتي. وأمور شتى تواردت على بالي. الكلمات التي قالها بطل أوسترليتز وفاغرام سجين القديسة هيلانة قطعت مسافة قرن من الزمان. وطرقت مسمعي من فم سجين المغاور أحد ضحايا المرأة. تلك المخلوقة اللطيفة موضوع خيالي. من تسجد أمامها روحي وتحرق على مذبحها بخور أماني وآمالي. تلك التي اعترفت أن سعادة المرء منها. مثلت أمامي كشبح شقاء الجنس البشري وسبب تعاسته. شعرت بسلسلة آثام وجرائم. أولها إغواء حواء. وآخرها غواية المسكين المنتصب أمامي. الرجل. وما صار إليه من المدينة في القرن العشرين. هذا المخلوق الذي يزاحم بأعماله الألوهية. ويدرس سر الخلود. هذا الكائن مخضع الأرواح والعامل ما وراء الوجود. تصورته أسير جسم نحيف وقد نحيل، بل ألعوبة بين القلب والعين. بل فريسة نظرة وميل. ولم يكن إلا لمحة بصر. حتى مرت أمام ناظري صور جميلة. أمام النجاح الباهر في التقدم والعمران. وعلى أثر الانقلاب العظيم في البشرية والأكوان تذكرت كم لتلك اليد اللطيفة من التأثير في العمل وكم شددت من عزائم وأحيت من أمل؟ كم دفعت إلى الأمام. مسهلة الأمور. وكم رفعت من خافض محركة فيه الشعور؟ تذكرت - وما أحلى ذكرى لحاظ العيون السود. وسحر ورد الخدود. ولواجع قلب يخفق تحت رمان النهود - وقلت في نفسي: لله أفي تربية المرأة هذا السر المكنون والكنز المدفون. ثم انتبهت إلى الواقف أمامي وقلت: هذا ما كان من الجريمة الأولى

فما دفعك إلى الثانية. وكيف أتيتها وأنت على ما أنت؟ فأجاب وقد قدحت عيناه ناراً: رجل أهان شرفي فانتقمت منه. عدت خطوة إلى الوراء ونظرت إلى هذا الرجل العجيب فوجدت سيماء الأبهة والعظمة تلوح على محياه كأنه أتى أمراً تحمد عقباه. تأملته وقد دفعه نزقه وطيشه إلى عمل فظيع. فقتل عمداً شاباً في ربيع العمر توهم أنه حط من كرامته ثم استأنف قائلاً: - حكم علي بالإعدام لارتكابي الجريمة الأولى. وقد استبدلت محكمة التمييز هذا الحكم بالسجن المؤبد. على أن الدستور حمل إلي عفواً فخفض مدة سجني إلى الخمس عشرة سنة. صرفت منها تسعاً في السجن. وبقي منها ست سأقضيها وأنطلق من هذه البلاد إلى حيث أستطيع الانتقام من الحكومة والإنسانية بنشر ما لاقيت في سجني من الحيف والظلم. ما أشقى ما فطر عليه البشر! جريمتان تهتز لهما الأبدان. ارتكبهما هذا الشقي بخلق هامد. ودم بارد. دون أن يحرك قلبه الجلمودي عامل ندامة أو شفقة. وهو يعلل النفس بالخلاص. وينتظر ساعة يستطيع بها الانتقام من العدل والقانون. فما أتعس قلب الإنسان. رحمة طلبت فيه قلبي لهذا التعس لا عدلاً. وسلاماً تمنيت له لا انتقاماً. فما العدل والانتقام مما يغير فطرة غرستها فيه الطبيعة ورضي بها الإله. وعدنا بإعطائه بعض ما يخفف به من تعاسته. فعمدت إلى قول الريحاني وقصدت أن يشترك القلب واللسان مع اليمين في الإحسان. فدنوت منه وقلت: - أخي! ليس ما لاقيته من الحكومة إلا قصاصاً عادلاً عما جنته

أزهار وأشواك

يداك. فتذكر أن جهالتك أفقدت رجلاً مثلك حقه في الحياة وسلبته نصيبه من الدنيا. جريمتك عظيمة فاعمل على إصلاح مستقبلك ليكون كفارة عما جنيت. ثم جمعنا شيئاً من الدراهم وأردنا أن ننقده إياها. فأبى وقال: لا حاجة بي إلى ذلك. ولا أرغب إلا في إحسان القلب إلى القلب فعدوني بالعودة إلي من حين إلى حين ليشرق نور الأمل في جو نفسي ويقشع عن صدري غياهب اليأس والقنوط. فوعدنا وخرجنا وقد تمثل أمام أعيننا تقصير الإنسان في واجبه نحو أخوانه. فكم من النفوس تذهب ضحية الجهل لأنها لم تجد من يهذب أخلاقها ويقوم طباعها وهي إنما تنتقم من الإنسانية لأن الإنسانية أهملتها. حلب يوسف توتل أزهار وأشواك بين الرصافة والجسر أتردد كثيراً إلى مكتب إدارة الزهور لأطالع الصحف والمجلات العربية الواردة من كل الأنحاء. فإن لي شغفاً في استطلاع أنباء أدباء العرب. وقد تصفحت في زورتي الأخيرة جرائد بغداد، فرأيتها صاخبة ناقمة، وفيها الردود الطويلة العريضة على مقالة كتبها أديب بغدادي في الزهور عن النهضة الأدبية في العراق. قال ذاك الكاتب إن الصحف

هناك لا يزال بينها وبين الكمال مراحل شاسعة. فرأت تلك الصحف أن توسعه شتماً وسباباً لتدمغه بالحجة وتبرهن على رقيها وقربها من الكمال. وما كان أغناها عن ذلك البرهان! إن صحافة مصر وأمريكا العربية أرقى من صحافة العراق وصحافة الإفرنج أرقى من هذه وتلك ومع ذلك فإن الكتاب هنا وهناك لا يزالون يرمون الصحف بالتقصير دون أن يخطر على بال صحافي أن يفرغ جام غضبه على المنتقد. لأن الجميع يفهمون أن مهمة الصحافة كبيرة فالمطلوب منها كثير. ولكن الظاهر أن في العراق فريقاً من محرري الصحف ومنهم كتاب الرصافة سريعي الغضب قريبي التهيج وما عهد حملتهم على جميل الزهاوي ببعيد. ومن الأمور التي لا أجد لها وصفاً ولا نعتاً أن احد هؤلاء الصحافيين أغار على رواية أبطال الحرية تأليف منشئ هذه المجلة فطبعها وتاجر بها بين قومه - تجارة رابحة إن شاء الله. . . 1 ولكني أشكو هذه السرقة الشنعاء إلى زميلي الرقيب اليقظ الذي يكتب في الإخاء تحت عنوان الجرائم الأدبية. فليقل لي إذا كان يحق لمثل هؤلاء الصحافيين أن يغضبوا إذا قال قائل إن صحافتهم لا تزال في أدنى درجة من سلم الترقي؟ ألا حيا الله ربوع بغداد، وجادتها مزن العلم لتعود إلى ما كانت عليه من ازدهار المعارف والعمران على عهد الخلفاء، وإن ذلك لقريب بفضل أصحاب النهضة الحقيقية لا بفضل المدعين، وإن كل أديب عربي يتوقع هذه الأمنية كأن: عيون المها بين الرصافة والجسر ... جلبن الهوى من حيث يدري ولا يدري

حول الأزياء أيضاً كان لما كتبته عن سودة المقيدات في العدد الماضي وقع كبير بين قرائي وقارئاتي. فاستحسنه القراء، وتلوه في الأندية والمجتمعات وعلى مسمع من بناتهم ونسائهم. واختلف رأي القارئات فيه، فمنهن من استصوبن مقالي وعدلن عن هذا الزي الغريب القبيح فحللن قيود أثوابهن، ومنهن من أبرقن وأرعدن علي وسددن سهام العتاب إلي لتعرضي لهذا الموضوع الحرج. وما كنت لأعود إليه اليوم لولا القصيدة التي جاءتني بواسطة منشئ المجلة من صاحب التوقيع. فها هي بنصها وعلى السيدات المقيدات أن يعرضن عنها: لم تشف من داء الغرام عليلا ... صباً يردد أنة وعويلا يهوى محاسنها ويرجو قربها ... فيرى حساماً دونها مسلولا نبت الطبيعة بالبساطة لا كما ... شاء المشد نحافة ونحولا يا حسنها أيام أرخت مرسلاً ... من شعرها لا يعرف التجديلا ونضت نقاب الحسن عن وجناتها ... فكأنها شمس الغروب أصيلا وثنت قواماً كالقضيب ليانةً ... يهتز أن هب النسيم بليلا وقفت وقوف الريم يرمي لحظها ... نبلاً فيصمي عروة وجميلا تلك التي بجمالها وجلالها ... وكمالها تدع الذليل جليلا وتهز باليمنى سرير رضيعها ... وبكها اليسرى تجر قبيلا قم بي أريك الآن كيف تغيرت ... تلك العهود وبدلت تبديلا وتشوهت تلك الخدود وأصبحت ... تلك النهود بما حشين تلولا قد ضيقت خصراً يذوب وعرضت ... كفلاً، بتنفير النفوس كفيلا صقلت عوارضها فلا والله ما ... حد المهند مثلها مصقولا

من أبيض يقق وأصفر كالح ... أو أحمر لا يعرف التحليلا وتتوجت بغمامة أو روضة ... حتى الحمام غدا بها إكليلا فأعجب لها يا صاحبي إذ صيرت ... تاج الرؤوس غمائماً وبقولا وتفننت في لبسها وأتت لنا ... ما لم يكن بحسابنا معقولا ومشت مقيدة الخطى فكأنما ... ركب الكمي جواده مشكولا وتثاقلت في خطوها تطأ الثرى ... فكأنها آسٍ يجس عليلا وتكاد تسقط إن رنت وإذا مشت ... شمت الأسير مصفداً مغلولا كيف الخلاص وقد أحلت نفسها ... في عقدة تدع العزيز ذليلا ثمن الثياب غلا فأنت لذا ترى ... دينار قلب عقيلها مبذولا وإذا تباخل كان ذلك ذنبها ... فلأجلها صار الكريم بخيلا هيهات إصلاحاً ترجي بعدها ... يا شرق قد عاد الصعود نزولا الإسكندرية خليل شيبوب أنا لم أورد هذه القصيدة لاستحساني لها فقط، بل لأحول إلى صاحبها بعض ما أصابني من غضب سيداتي المقيدات اللواتي يشبهن الفارس وقد ركب جواده مشكولا. في كرمة ابن هاني في كرمة ابن هاني، في مهبط الشعر وكعبة الأدباء، في منزل شوقي بالمطرية، بين متلألئ الأنوار، ومفتح الأزهار، على رنات العود والقانون، ونغمات المنشدين المطربين، تحت الخمائل الجميلة، والسرادقات الفخيمة، التقت جماعة من الوجهاء والأدباء مساء الخميس الماضي، ابتهاجاً بعودة سمو أمير مصر إلى عاصمته.

فالتقت الحلقات حول وزير جليل، أو شاعر أديب، أو منشد مبدع؛ والمضيف الكريم يتنقل بين هذه الحلقات، فكانت ليلة سمر وأنس وسماع فريدة، والزمان بمثلها ضنين. وفي الحديقة الغناء مدت الموائد المثقلة بألوان الطعام وأنواع الشراب. وكانت فترة أنشد خلالها أحد المنشدين بحضور رئيس النظار غزلية شوقي مضناك جفاه مرقده (وهي الأبيات التي نشرتها الزهور ص 213 وعارضها كبار شعرائنا) وقد زاد عليها الشاعر أبياً كثيرة، منها في الغزل: الحسن حلفت بيوسفه والسورة أنك مفرده بيني في الحب وبينك ما ... لا يقدر واش يفسده ما بال العاذل يفتح لي ... باب السلوان وأوصده ويقول تكاد تجن به ... فأقوال وأوشك أعبده. . . قسماً بثنايا لؤلؤها ... قسم الياقوت منضده ورضاب يوعد كوثره ... متقول العشق ومشهده وبخال كاد يحج له ... لو كان يقبل أسوده وقوام يروي الغصن له ... نسباً والرمح يفنده ما خنت هواك ولا خطرت ... سلوى بالقلب تبرده ومن الأبيات التي يمدح بها الأمير: يا سيف الدولة عش أبداً ... للعصر يهزك أحمده سعدت بقدومك مصر ضحى ... وتلاقى الأوج وفرقده ثم ختمها بنشيد وطني منه: يا مصر سماؤك جوهرة ... وثراك بحار عسجده

من كل حديقة زهرة

والنيل حياة دافقة ... ونعيم عذب مورده والملك سعيد حاضره ... لك في الدنيا حر غده والعصر إليك تقربه ... وإلى حاميك تودده والشرق رقيك مظهره ... وحضارة جيلك سؤدده لسريرك بين أسرته ... أعلى التاريخ وأمجده بعلو الهمة نرجعه ... وبنشر العلم نجدده وبعد أن انقضى هزيع من الليل أخذ القطار يقل المدعوين أفواجاً عائداً بهم إلى مصر. حاصد من كل حديقة زهرة * سيتم عن قريب بناء دار البلدية في نيويورك وعلوها 70 متراً وعمق أساسها 44، وقد كلفت 50 مليون فرنك. * الرأي في أصل الأثمار التي نأكلها مختلف. على أن المعروف أن أصل المشمش من الصين، والفريز (الفراولة) من ولاية فرجينيا في أمريكا، وأصل البرتقال من الصين أيضاً، والليمون الحامض من الهند، والتين من سورية، واللوز من التركستان، والجوز من الهند، والسفرجل من القفقاس، والإجاص (الكومترى) من أرمينيا، والعنب من كل مكان، والتفاح من جنة عدن حيث أغوت حواء آدم بتفاحة. * كان القاضي في إحدى محاكم النمسا يسأل في الشهر الماضي متهماً عما إذا كان له أخوة. فأجاب أن له أخاً توفي منذ 140 سنة. فده القاضي. فقال المتهم: تزوج أبي وله من العمر 19 سنة فرزق ولداً عاش

بضعة أيام ومات، ثم تزوج والدي بعد ذلك بخمسين سنة فولدت أنا ولي من العمر الآن 85 سنة. وعليه فقد توفي أخوه منذ قرن ونصف تقريباً. * كسدت تجارة الكتب في كندا فعمد أحد الكتبيين إلى طريقة مبتكرة للإعلان، فبدلاً من أن يملأ واجهة مكتبته بالكتب نصب سريراً تتمدد فيه فتاة جميلة وبيدها كتاب تطالعه. فكان الناس يتجمهرون أمام المكتبة وبالطبع يشترون الكتاب. نصيحة نقدمها للكتبيين عندنا. * عادة من يجلسون في القهوات أن ينقدوا الخادم حلواناً أو بخشيشاً وقد أحصى أحدهم المبالغ التي تنفق من هذا الباب في باريس وحدها فإذا هي 280. 000 فرنك كل يوم أو 8 ملايين و400. 000 فرنك في الشهر. ولمجموع فرنسا في السنة 473 مليوناً. فكم يا ترى تنفق على الجرسونات في مصر من الملايين المؤلفة من القرش التعريفي ونحن أكثر الناس قعوداً في القهوات؟ * اكبر كتاب وأصغر كتاب موجودان في المتحف البريطاني في لندرا؛ والأول يبحث في جغرافية ألمانيا القديمة، أهدي إلى تشارلس الثاني سنة 1660 وهو مجلد بالنحاس وزنه 300 كيلو. أما الكتاب الثاني فلا يتجاوز حجمه ظفر الإصبع وهو نسخة من الإنجيل رسمها أحد المصورين في أوائل القرن السابع عشر. * في الهند الإنكليزية في قبيلة ظارو تقوم المرأة بأعمال الرجل والرجل بأعمال المرة: فهي تطلبه للزواج وتشتغل لتسد حاجات المنزل وهو يبقى في البيت ويهتم بالأولاد.

حديقة الأخبار

* وفي آسيا عند قبيلة أكواكا المتوحشة يحرق الولد جسد والديه بعد موتهما وليسحق عظامهما ويسف الرماد حتى يمتزجا بجسمه وهكذا يفعلون بالأحباب والأصدقاء. * أكثر الشعوب استعمالاً للتلفون الأمريكان وعندهم 6. 600. 000 آلة تلفونية ويليهم الألمان وعندهم 860. 000 تلفون ثم الإنكليز 590. 000 والفرنسيون 197. 000 والأسوجيون 167. 000. ولكل ألف نفس في الولايات المتحدة 82 تلفوناً وفي أسوج 31 وفي ألمانيا 14 وفي إنكلترا 13 وفي فرنسا 5. * لم يبدأ استثمار مناجم الفحم إلا في أوائل القرن الرابع عشر. * يظهر أن الحيات لا تحب الثوم، فإن الوطنيين في بلاد أفريقيا حيث تكثر هذه الزحافات يدهنون جسمهم بعصير الثوم فتهرب الحيات من رائحته. وهكذا يأمن الأهالي لدغاتها السامة. حديقة الأخبار * عرفت مصر حضرة إدوارد أفندي مرقص كاتباً مدققاً وشاعراً بليغاً واشترك في وادي النيل في تحرير صحف كثيرة. وقد عاد الآن إلى وطنه اللاذقية حيث أصدر جريدة المنتخب وأخذ يودعها من نفثاته كل ما يلذ ويفيد. ولاشك في أن يكون لهذه الصحيفة مستقبل حسن فتخدم البلاد والأمة خير خدمة.

* كان أمين أفندي الغريب من أكبر خدمة الآداب العربية في بلاد أمريكا وكانت جريدته المهاجر من أرقى صحف العرب على الإطلاق. ولما أعلن الدستور في البلاد العثمانية عاد إلى بيروت وتولى رئاسة تحرير النصير مدة فأظهر إخلاصاً وبراعة في معالجة الأبحاث الوطنية. ثم رأى أن يؤسس صحيفةً جديدة فأنشأ جريدة الحارس وقد جاءتنا أعدادها الأولى طافحة بالفوائد والأخبار واللطائف الأدبية فكانت برهاناً جديداً على علو كعب الأمين في عالم الأدب. * جريدة الاتحاد المصري من أقدم الصحف المصرية، مضى عليها ثلاثون سنة وهي عاملة على خدمة الوطن ونشر الآداب والمبادئ الطيبة، ويعز على محبي النهضة الأدبية أن يروا هذه الصحيفة اليوم لابسة ثوب السواد حداداً على فقد صاحبها ومؤسسها المأسوف عليه روفائيل مشاقه. وافه أجله في 6 نوفمبر الماضي وهو في الخامسة والخمسين من عمره قضى معظمها في خدمة الصحافة. فمنذ سنة 1880 دخل في جريدة الاجبت الفرنسوية ثم أنشأ جريدة لونيون ايجبسين باللغة الفرنسوية أيضاً وما لبث أن حولها إلى جريدة عربية هي جريدة الاتحاد المصري المعروفة. فإذا نحن أسفنا على فقد هذا الصحافي القديم فإننا نرجو لجريدته دوام الانتشار والازدهار بهمة نجله الأديب ادجار أفندي مشاقه وعناية محررها الكاتب البليغ نجيب أفندي غرغور. * في مصر نهضة شريفة - ومصر مهد النهضات الشريفة في الشرق - ترمي إلى تحسين حالة المرأة والنظر في ترقيتها. وآخر مظاهر

هذه النهضة كان صدور جريدة العفاف التي أنشأها حضرة الفاضل سليمان أفندي مهران السليمي للدفاع عن حقوق المرأة وقد جعل شعارها العفاف تاج المرأة فإن زال دال ملكها وسبك أحد محرري الجريدة الأديب الشيخ محمود رمزي نظيم هذه الآية في أبيات قال في ختامها: إن الفتاة ملك ... كل نعيم ملكها ربانة الكون التي ... في السعد يجري فلكها وتاجها عفافها ... إن زال دال ملكها ومتى عرفت أن للسيد الفاضلة مدام بستاني مؤسسة نادي الأوبرا يداً في إدارة العفاف أيقنت أن مستقبل هذه الجريدة سيكون زاهراً. * المكتبة العمومية في بيروت لصاحبها الأديب النشيط سليم أفندي إبراهيم صادر من أشهر وأقدم مكتبات الشرق والمطبعة العلمية الملحقة بها بإدارة حضرة الفاضل الهمام يوسف أفندي صادر من أكثر المطابع خدمة للمعارف وقد طالما عملت هذه وتلك على إتحاف عالم الأدب بخير المصنفات وأنفس الكتب. وآخر أثرٍ ظهر منهما كان الأنيس وهو اسم مجلة روائية تشتمل على سلسلة روايات أخلاقية تاريخية أدبية معربة بأسلوب جميل عن أشهر مؤلفي الغرب وستصدر مرتين في الشهر بنحو 100 صفحة كل مرة واشتراكها في البلاد العثمانية 35 غرشاً صاغاً وفي الخارج 9 فرنكات.

العدد 10

العدد 10 - بتاريخ: 1 - 1 - 1911 بين الأعياد كان الشهر المنصرم شهر أفراح وأعياد - عيد الأضحى الإسلامي فعيد الميلاد المسيحي - فتبادل الناس التهاني، وتزاور الأخوان والأصدقاء معيدين، وانقطع الجميع عن أعمال الحياة ومشاغلها، وأخلدوا بضعة أيام إلى الرحالة العقلية والجسدية. وما الأعياد إلا واحات جميلة خضراء في صحراء هذه الحياة المضنكة المقفرة. يصل إليها الإنسان منهوك القوى فينعش جسمه بنسمة هواء ينشقها، ويحيي فؤاده بجرعة ماء يرشفها، فيجدد ما خار من قواه، ويعاود السير جاداً بنشاط حتى يجتاز المرحلة الأخيرة، ويبلغ الغاية القصوى. ينشر هذا الجزء من الزهور من تحت الطبع مع حلول عيد جديد وهو بزوغ سنة 1991 ميلادية مع أول يناير (كانون الثاني) وابتداء السنة الهجرية 1329 في 2 منه الموافق غرة محرم. فإدارة هذه المجلة تتقدم لقرائها وأنصارها وكتابها وكل العاملين فيها بتهاني العيد سائلة لهم العافية والسلامة والهناء والتوفيق.

1911 م=1329 هـ كل سنة تسافر سفرة كبيرة تدوم 365 يوماً و6 ساعات و9 دقائق و11 ثانية: سفينتنا الأرض، وبحرنا الفضاء، وملاحنا الطبيعة، مصدرنا الحياة، ومقصدنا الأبدية. . . سلسلة أسفار حلقتها الأولى في المهد، وحلقتها الأخيرة في اللحد. وقد سافر بعضنا هذه السفرة عشرين مرة، وبعضنا ثلاثين، وآخرون خمسين أو أقل أو أكثر. . . منا من يتأثر لكل عارض يطرأ عليه أثناء السفر، فيأخذه الدواخ، ويقع متلاشياً، ومنا من يبقى ثابتاً حازماً تأبت عليه الطبيعة، وثارت العناصر، وهاجت الأنواء. . . سفرة من سفراتنا هذه انقضت وقد بدأناها في أول يناير سنة 1910 وأنهيناها عند منتصف الليل البارح. وما كدنا ندخل المرفأ، حتى أقلعت السفينة بنا للحال، وخرجنا لرحلة جديدة حول الشمس وهي السفرة العاشرة بعد المئة والسبعة آلاف للخليقة حسب الترجمة السبعينية. فيجدر بنا أن نذكر شيئاً عما يعرض لنا أثناء هذه الأسفار المتواصلة: تقطع في كل ساعة 106. 700 كيلومتر حول الشمس أعني في كل دقيقة 1811 كيلومتراً ونصف تقريباً. وفي أشهر السنة الاثني عشر تكون الأرض قد قطعت 963 مليوناً من الكيلومترات. فما أسرع سيرنا في بحار اللانهاية. أما سفينتنا فهي عظيمة الطول والعرض يبلغ نطاقها الأربعين مليون

متر، ومساحتها 510. 082. 000 كيلومتر مربع وحجمها 83. 260. 000. 000 كيلومتر مكعب. أما وزنها فلا ينقص عن 5. 957. 930. 000. 000. 000 مليون كيلوغرام وهو ثقل لا يدركه العقل البشري. وقد أراد أحد علماء الفلك أن يقربه إلى الفهم فقال: وزن الأرض يعادل 78 مرة وزن القمر أو 966 مرة وزن فرنسا، أو 52 مرة ونصف وزن أوروبا. أو 11 مرة ونصف وزن آسيا أو 13 مرة وزن أمريكا. أو 13 مرة ونصف وزن أفريقيا. (فتكون آسيا أثقل الأقطار في كفة الميزان). وكل هذه الأرقام باهظة يصعب تقديرها في الواقع فنقتطف عن تقارير العلماء بعض تشابيه يسهل فهمها: سكان الأرض مليار ونصف مليار، فلو عد كل واحد منهم في كل دقيقة مائة طن من وزن الأرض وابتدأ بذلك منذ خليقة العالم لاقتضى لهم 76. 800 سنة تقريباً حتى يعدوا كم في الأرض طناً (والطن ألف كيلوغرام). أو لو شئنا أن ننقل الأرض إلى الشمس، لاقتضى لذلك مليون من الخطوط الحديدية يسير عليها مليون من القطارات يقطر كل واحد منها عشرة آلاف عربية وتبتدئ بالشحن سنة 2710 قبل المسيح حتى تفرغ من عملها في عامنا الحالي. ونقل الأرض إلى الشمس لا يؤثر في هذه الأخيرة أكثر من نقطة ماء تقع في البحر. وهذا هو كبر الأرض التي لا يعتد بها بالنسبة إلى بقية الأجرام السماوية. والإنسان الذي هو بمثابة ذرة على سطحها يعد سيد كل هذه الكائنات بفضل عقله وإدراكه.

وفي أثناء سفرتنا على ظهر هذه السفينة الضخمة نشاهد أيام صحو وصفاء، وأيام عواصف وشتاء. وما ذلك إلا ما نسميه فصول السنة الأربعة وهي فصل الربيع ومدته 92 يوماً و21 ساعة. وفصل الصيف ومدته 93 يوماً و14 ساعة. وفصل الخريف ومدته 89 يوماً و19 ساعة. وفصل الشتاء ومدته 89 يوماً. والسنة في كل الحسابات مؤلفة من اثني عشر شهراً. وأسماء الأشهر مختلفة ومدتها تتراوح بين 29 و31 يوماً. وفي الأسبوع سبعة أيام يعبر عنها بالأعداد السبعة الأولى: فالأحد=1 وهو يوم بطالة عند النصارى، والاثنين=2 وكان يوم بطالة عند قدماء اليونان، والثلاثاء=3 وكان يوم بطالة عند الفرس، والأربعاء=4 وكان يوم بطالة عند الآشوريين، والخميس=5 وكان يوم بطالة عند قدماء المصريين، والجمعة=6 وهو يوم بطالة عند المسلمين، والسبت=7 وهو يوم بطالة عند الإسرائيليين. وإذا شئت أن تعرف أي الأشهر 31 وأيها 30 فأطبق كف يدك وعد أسماء الأشهر على عقد الأصابع والفواصل مبتدئاً من يناير فإذا انتهى العدد فأعده مرة ثانية فالشهر الذي يقع على العقدة يكون 31 يوماً والذي يقع على الفاصلة (أي بين العقدتين) يكون 30: وفي شهر فبراير (شباط) 28 يوماً وفي السنين الكبيسية 29. وتعرف السنة الكبيسية بقسمة العدد على 4، فإذا لم يبق شيء فهي كبيسية، وإلا فليست كبيسية مثلاً: 1911: 4 يبقى 3 فهذه السنة ليست كبيسية. وسنة 1912: 4 لا يبقى شيء فالسنة القادمة كبيسية.

ولقد لجأ الإنسان منذ بداية تاريخه إلى الظواهر الفلكية لتدوين أيامه. وأهم التواريخ التي شاعت بين البشر الحساب الشمسي والحساب القمري لأن مراقبة الشمس والقمر أسهل من مراقبة غيرهما من الأجرام الفلكية. وكان بعض الأقدمين قد اختاروا للدلالة على السنة المدة التي تقتضيها الشمس منذ انتقالها من نقطة الاعتدال الربيعي إلى وقت رجوعها إلى هذه النقطة نفسها. وكان المصريون يحسبون سنتهم 360 يوماً منقسمة إلى 12 شهراً يؤلف كل واحد 30 يوماً. ومن ثم كان الاعتدال الربيعي يتأخر خمسة أيام وربع في كل سنة، حتى أنه بعد مرور 18 سنة أخذ الربيع مكان الصيف. فأصلحوا هذا الخطأ بأن حسبوا السنة مؤلفة من 365 يوماً على أن ذلك لم يخل أيضاً من الغلط لأن السنة الشمسية على الصحيح مؤلفة من 365 يوماً وربع يوم تقريباً. وكثر الفرق مع توالي السنين حتى أصلحه سوسيجنيس بزيادة يوم كل أربع سنوات وسمي هذا الحساب الحساب اليولي لأنه تم على عهد يوليس قيصر. وهو لا يزال متبعاً حتى الآن في الكنيسة الشرقية. لكن حساب سوسيجنيس لم يكن خالياً من الغلط، لأن السنة مركبة في الأصح من 365 يوماً و6 ساعات إلا 11 دقيقة و10 ثوان. فصار يحصل عن إهمال هذه الدقائق والثواني فرق يوم كامل كل 129 سنة وهذا هو غلط الحساب اليولي وبلغ هذا الفرق عشرة أيام على عهد البابا غريغوريوس الثالث عشر فأصلحه هذا البابا بأن أسقط عشرة أيام وجعل

اليوم الخامس من أكتوبر (تشرين الأول) سنة 1582 اليوم الخامس عشر منه وأمر بأن تكون السنة 366 يوماً كل أربع سنوات مع حذف يوم كل 129 سنة وذلك تفادياً من الغلط في المستقبل. وهو الحساب الذي تعول عليه اليوم كل أوروبا ما عدا روسيا واليونان. وبات الفرق بين الحسابين 13 يوماً. أما السنة الهجرية فهي قمرية مؤلفة من اثني عشر شهراً: ستة منها تتركب من 30 يوماً وستة من 29 يوماً لأن دوران القمر يتم في 29 يوماً ونصف تقريباً وكانت بداية تاريخ الهجرة سنة 622 من تاريخ المسيح في الخامس عشر من شهر تموز (يوليو) عند تولد الهلال. وليست السنة القبطية إلا السنة المصرية القديمة فهي مؤلفة من 12 شهراً عدد أيام كل منها 30 يوماً يضاف إليها 5 أيام في آخر السنة لتكون 365 يوماً وفي السنين الكبيسية تكون الزيادة 6 أيام. ويبتدئ التاريخ القبطي من سنة 284 بعد المسيح وهو تاريخ الشهداء الذين استشهدوا في مصر على عهد ديوكليسيانس. أما تاريخ الإسرائيليين فيعد ابتداؤه منذ خلق العالم. والسنة الإسرائيلية مؤلفة من 12 شهراً في السنين البسيطة ومن 13 شهراً في السنين التي يمسونها امبوليسمية أو إضافية وهي تعود 7 مرات في مدة 19 سنة يزيدون فيها من بعد شهر آذار شهراً آخر مؤلفاً من 29 يوماً يسمونه راذار أي آذار الثاني. وذلك لتقريب السنة القمرية من السنة الشمسية. وفي الدولة العثمانية يوجد أيضاً حساب السنة المالية وكان ابتداء هذا

الانتخابات الإنكليزية

التاريخ سنة 1205 هجرية موافقاً لأول آذار 1789 حساباً شرقياً. وكان ذلك في عهد السلطان سليم الثالث الذي أصدر أمره إلى الدفتردار مورالي عثماني بأن ينظم الشؤون المالية في الدولة اعتباراً من ذلك اليوم. وظل بدء السنة المالية أول آذار الشرقي، وحسبا الأشهر فيها كحساب الأشهر في السنة الشرقية. هذا جل ما يتسع المجال لإيراده عن الحسابات المختلفة التي يتبعها البشر لتدوين تاريخهم، وهذا ملخص ما يقال عن رحلتهم السنوية حول الشمس، عسى أن تكون سفرة هذا العام سفرة خير وإقبال إن شاء الله. الانتخابات الإنكليزية باتت الخواطر متجهة في هذه الأيام إلى الانتخابات الجارية في إنكلترا، فرأينا أن نطلع القراء على بعض تعليمات عما يدور حول هذه الانتخابات لأن في ذلك شيئاً من الفكاهة والفائدة. حل مجلس البرلمان الإنكليزي بعد حياةٍ قصيرة لا تتجاوز الأحد عشر شهراً لأن الانتخابات الأخيرة تمت في شهر يناير من السنة الماضية. فكان هذا المجلس أقصر المجالس عمراً بعد مجلس سنة 1886 الذي عاش خمسة أشهر ونصفاً. وليس تجديد الانتخابات العمومية بالأمر الذي يستهان به. فإن انتخابات 1906 قد كلفت بريطانيا مليوناً و167 ألف جنيه، وانتخابات 910 التي جرت في يناير الماضي كلفتها مليوناً و297 ألف جنيه، ولاشك

في أن الانتخابات الجارية الآن ستكلفها مثل هذا المبلغ على الأقل. وليست هذه الأرقام إلا التي يعترف بها المنتخبون رسمياً والتي يجيزها القانون. ويقول العارفون أن حقيقة ما ينفق إبان الانتخابات يبلغ ضعفي هذا المبلغ، أي أن كل تجديد انتخاب يكلف البلاد 50 مليون فرنك تقريباً. ولذلك ترى المنتخِبين والمنتخَبين لا يميلون كثيراً إلى تجديد الانتخابات العمومية، ناهيك بما يلحق بالتجارة والصناعة من وقوف الحال. فإن المرشحين يقتصدون في نفقاتهم تأهباً لمصروف الانتخاب، فتهجر المسارح والفنادق والمتنزهات وكل المحلات العمومية، لأن زبائنها ينتشرون في كل أطراف البلاد للاهتمام بشؤون الانتخابات التي تستمر مدة أربعة أسابيع تقريباً. وفي السلطنة الإنكليزية 7 ملايين وستمئة ألف منتخِب ويؤخذ من كتابٍ خاص نشر في هذا الموضوع أن كل صوت يكلف بالتعديل 3 شلنات و10 بنسات (4 فرنكات و75 سنتيماً) وأغلى ثمن للأصوات هو في ايكوسيا حيث يكلف الصوت 5 فرنكات و50 سنتيماً، وأرخص الأصوات في ارلندا، حيث يبلغ ثمن الصوت 3 فرنكات و60 سنتيماً، وكلف مستر اسكويث انتخابه في المرة الأخيرة 20 ألف فرنك، ومستر بلفور 40 ألفاً والسرجون بثل 110 آلاف وهو أكبر مبلغ أنفق في هذه الغاية. ولا يحق الانتخاب في إنكلترا إلا للذي يدفع أجرة منزل على الأقل عشرة جنيهات في السنة. وإجراء الانتخابات في أوائل السنة لا يوافق الأحرار لأن العامل الإنكليزي في تلك المدة يكون متغيباً عن منزله، ومن

الصعب الاهتداء إليه وجمله على إعطاء صوته. وهذه المهمة منوطة برجال خصوصيين من أصدقاء المرشحين يطوفون المنازل والأحياء بقائمة الانتخاب، وهم مدربون خصيصاً للقيام بهذه المهمة. فيهيئون أدلة الإقناع، ويتوددون للناخبين، ويستميلون النساء والأولاد، ويقصدون العامل في معمله، ويترقبون ساعات الفراغ ليحملوه في الأتومبيل إلى محل الانتخاب لإعطاء صوته لمن يريدون. ويحظر عليهم القانون استئجار المركبات لهذه الغاية فلا يسعهم إلا استعمال المركبات الخصوصية أو التي يقدمها أنصارهم. وهذا مما يوافق المحافظين أكثر من سواهم لأنهم عادة من الأغنياء أصحاب السيارات والمركبات. وهذا السعي وراء الناخب لاصطياده يدلك على ضعف العقيدة السياسية. وقد أصبح التصويت الآن في إنكلترا سرياً لكنه كان علنياً حتى سنة 1872 فكان المنتخِبون يحضرون إلى المحل العمومي ويعلنون جهاراً إذا كانوا ينتخبون جونس أو سميث مثلاً. فيعلو الصياح ويشتد النزاع. لأن أنصار هذا المرشح أو ذاك كانوا يسكرون الناخبين لاكتساب أصواتهم. وهكذا كانت الأصوات تباع وتشرى علناً. وكان وكلاء المرشحين يقضون نهارهم وليلهم في الحانات، يعاقرون الخمرة مع الناخبين الذين كانوا كثيراً ما يقضون شهرهم بين هذا الوكيل وذاك ويقبضون الدراهم من كلا الاثنين وهم لا يهمهم نجح الأول أو الثاني. وقد تغيرت الحال منذ 25 سنة فأصبح القانون يعاقب بالحبس مدة سنة وبغرامة قد تبلغ خمسمئة فرنك كل من يدعو الناخب إلى الشرب أو

الأكل أو يحاول التأثير عليه بالوعد أو الوعيد. وبالرغم عن كل هذه التشديدات لا يزال هناك من يخرق القانون. فإن الناخب يتلقى يوم الانتخاب ضمن ظرف خصوصي تذكرة للسفر مجاناً في السكة الحديدية إلى دائرة الانتخاب دون أن يعلم مصدرها. وهناك حيل كثيرة تستعمل لتعدي ما يجيزه القانون. ولكن لما كانت جميع الأحزاب تعول عليها لم يقم من يشكو أو يداعي. وعليه فإن للدراهم الكلمة الأولى في الانتخابات في إنكلترا كما في غيرها، والحزب الذي لديه ثروة كبيرة في دائرة من الدوائر الانتخابية يمكنه أن يضمن النصر لأشياعه. على أن الانتخابات الإنكليزية ليست معرضة للضغط الإداري كما هو جارٍ في باقي البلاد. فليس هناك من مأمورين إداريين يأتمرون بأمر ناظر الداخلية فيجرون الانتخابات على هواه. وبالإجمال فإن لدى الإنكليز كما لدى غيرهم ألف طريقة وطريقة للتأثير على أصحاب الأصوات ولكن تحقيق ذلك من الأمور الصعبة بل المستحيلة. ولما كانت هذه الطريق توافق تارة هذا الحزب وتارة تؤيد ذاك، فليس من يريد أن يتحمل مسؤولية تعديلها أو مقاومتها. وهكذا تظل الأمور جارية مجراها المعتاد ما دامت النفس البشرية ذات مطامع وأميال.

هواجس النفس بين العامين

هواجس النفس بين العامين ضافني السهاد ليلة أمس فسامرته حتى سئمت، فعفته ورحت استدعي النوم الساعة والساعتين، فبقي شارداً، فقلت: لا حول ولا. . . ثم أشعلت المصباح أدفع به وحشة الظلام. وكان قد نام سكان الدير، وسكتت الحركة، فلم أعد أسمع إلا دقات ساعتي، كأنها تقول: الزمان يزول. . . فشعرت بوجيب قلب وخشوع، فقلت لنفسي: يا نفس لك من هذا السهاد فرصة ثمينة فاغتنميها، وتأملي قليلاً في شأنك، فعما قليل تصيرين إلى موقف بين عامين، مودع ومسلم، وتلك وقفة قل من استفاد منها. راجعي كتاب الماضي، وافتحي كتاب المستقبل، لكن الأمس قد عرفته، فتطلعي إذن إلى الغد. جولي في فضاء الخيال ثم لقني قلمي ما يمر بك من الهواجس، وأملي عليه ما به تشعرين! فشعرت أن نفسي قد توقفن هنيهة كأنها رازحة تحت أحمال الانفعال والتأثر. هذا وحفيف الأوراق يزيد في وحشتي، وعقرب الساعة لا يزال يسير، فنظرت فإذا العام قد دخل في النزاع وأوشك أن ينقضي أجله. فانقبضت إذ ذاك نفسي واندفعت تقول: إلى أين أيها العام أنت مهرول في هذا الليل الدامس؟ وفي إحدى يديك مشعل يكاد ضوءه ينطفئ، وفي الثانية منجل مفلل. . . وعلى مَ أخذت معاجيل الطرق وعلى ظهرك أحمال الأيام تنوء بها؟. . . رويدك

رويدك فإن طريق الماضي وعرة متحدرة، والظلام مدلهم وأنت شيخ مسن. فالتفت إلي فإذا وجه جعدته الهواجس، وشعر متلبد شعثته الوساوس، وكتفان تقوستا من قراع النوائب، وقال وهو مسرع: دعني لا تلهني، فإن الأعوام رفقائي قد تقدمتني إلى محطة الأبدية. . . ولم يكد ضياء مشعله يتوارى في ظلام الزمان، حتى قرع أذني صوت الساعة الكبيرة فكان نصف الليل!!!. . . * * * فالتفت إذ ذاك استقبل تباشير العام الجديد، فرأيته وقد أقبل على مركبة ملكية لابساً حلة الشباب البهية، فتفرست في تلك المركبة الكبيرة، فإذا فيها من الذخائر العجيبة ما يكاد القلم يقصر عن وصفه. رأيت فيها أشواك الشقاء وقد اشتبكت بأزهار الهناء، ومن ورائهما برفير الملوك وأطمار رثة تبين من خلالها يد المتسول مفتوحة للاستعطاء. وسرير يبدو منه رأس الطفل الصغير ونعوش أغنياء وتوابيت فقراء، وسمعت ضحكاً وبكاء، ورأيت عدلاً رافعاً لواء الحق، وظلماً ناشراً راية البطل، وفضائل بصورة راهبة قد جثت أما سرير المنازع، ورذائل شنعاء بهيئة السكارى، ورأيت النميمة تدب عقاربها، والرصانة كالأسطوانة الراسخة، والشراهة كأنها حوت على مائدة، والقناعة وقد نبتت حواليها أعشاب النساك والزهاد، إلى أشياء أخرى كثيرة من بندقية قانص الطائر، وشبكة صائد السابح. وسكة الفلاح، وعكاز الأعرج وسرير المقعد، وشبابة الراعي، وريشة المصور وقلم الكاتب، وكتاب الزاهد، ولجج فاغرة فاها، وأوبئة

تنتشر جراثيمها، ونيران يتصاعد لهيبها، ورياح تعصف، ورعود تقصف، وسكون وسلام، وحروب ودماء. فهبت أمام هذا المشهد الهائل، ثم قلت: يا نفس لقد رأيت ما رأيت فقولي لي الآن ما تشتهين في رأي هذا العام وإلى م تتوقين؟ ثم قلت: مهلاً فإني قبل أن تختاري أود أن أريك بعين الحقيقة ما قد رأيته بعين الفكر. * * * لما تنفس الصبح كنت على ظهور الأشرفية حيث يبدو للناظر بقعة خضراء بسقت فيها الأشجار، تطرد تحتها مياه النهر، وهي تنساب متسابقة إلى البحر فتغور في اللجج، فجلست على صخر وقد حان وقت بزوغ الشمس، وسكن نسيم الصبح، فراحت العصافير تتنقل على الأشجار وأخذت الطبيعة تنهض من سبات النون، والحياة تتجدد في الأعشاب، والدخان يتصاعد من فوق البيوت حيث تسمع قلقلة المفاتيح والأقفال وصرير الأبواب وعويل الأطفال. ثم أخذت المناظر تتضح شيئاً فشيئاً وما هي إلا بضع دقائق حتى بزغت الشمس من وراء الأفق ترسل حرير شعاعها يمسح دموع الأزهار. وكانت بارتفاعها تشرف على الغيوم المنتثرة فتفر هذه مسرعة أمام ملكة الطبيعة. وصارت فقاقيع مياه النهر تتألف لامعة كأنها تفتح وتغمض. والتلال تيقظ السهول لترتدي أردية الجلاء. فقلت يا نفس أمامك من الطبيعة مشهد طالما شبب به الشعراء،

فتطلعي وابتهجي وقولي لي، أتريدين أن أنصب لك على هذه التلال خيمة منها تملكين هذه البرية الجميلة؟. . . فآنست من نفسي انعطافاً كأنه يقول: أجل إن المشهد لباهر ولكن ليس هنالك كل رغائبي. فقلت لها: ارفعي النظر قليلاً، وانظري إلى لبنان العزيز، وطن الأسود وأرض الأولياء. هاك صنين وقد جلس على القنة شيخاً جليلاً فصبحيه مع الشمس في رأس العام، وتمني له شيخوخة صالحة واطلبي لبنيه أن لا يقلقوا راحة أبيهم الشيخ، وقد شيبت رأسه الأعوام وحدبت ظهره الأيام. تلذذي بما يحمله إليك النسيم من منعطفات الوديان واستنشقي شذا الأرز ونفحات الرياحين. نقلي النظر في هاتيك القرى المنتثرة هنا وهناك، وانظري القرويين وقد هبوا لأشغالهم. خذي النظارة وانظري الرعيان على هاتيك الروابي وقد سرحت قطعانهم ترعى في المراعي الخصيبة، هاك الشبابات في أيديهم، ولو كنا على مقربة منهم لسمعنا ألحانهم الرقيقة. وها إن المكارين أيضاً ينزلون في معاجيل الطرق وهم يترنمون على ظهور دوابهم ويتغنون بالميجانيا والعتابا. آه ما أجمل الجلوس في ظلال تلك الأشجار الوارفة وما أحيلى المقام في هذا الجبل المقدس. فقولي لي الآن أتريدين أن تكوني أميرة على لبنان فتحيي فيه الشهامة والمروءة وترجعي إليه ما مات من الفضائل إلى الحيوة، وتقلعي ما يزرع فيه من زروع الفساد فتخفق فوق روابيه رايات الأمن والسلام؟ فتململت ثم قالت: ذلك من أفضل الأمور ولكن ليست لذتي في التسلط على الشعوب فعجبت لأمرها وذهبت بها إلى شاطئ البحر

وهنالك الحصى البيضاء منتثرة فوق الرمال كأنها اللآلئ على بساط من حرير. وعلى الشاطئ صياد مشمر الساقين وقد غاصت قدماه في زبد الأمواج، وألقى الشص في الماء ووقف ينتظر النصيب. فأسرعت الأمواج إلينا كأنها تريد السلام فكانت تحني الرؤوس وتعود إلى اللجج. وهنالك قوارب نشرت الشراع فهب فيها نسيم التوفيق، فمخرت تشق المياه تاركة من ورائها خطوطاً طويلة لا تلبث أن تغمرها المياه. ثم صفرت باخرة ومرت ترشق الفضاء بدخان يحموم، وعلى ظهرها المسافرون يلوحون بمناديلهم وداعاً لمن يشيعونهم بالعيون والقلوب. فقلت لنفسي: أتشائين السفر إلى الأصقاع البعيدة فنسيح ونتنزه في جنات الأندلس ونرى ما ترك العرب فيها من آثار العظمة ثم ننتقل إلى فرنسا ربة البدائع. ثم نيمم إيطاليا فنفكه السمع بالأنغام الموسيقية وذلك مما يطيب لك جداً ونشخص إلى رومة مقام السيادة المسيحية ونزور الدياميس حيث رفات الشهداء، ومن هنالك نتوجه إلى ألمانيا فنتوغل في غاباتها. ونرتحل إلى روسيا لنرى قبابها العالية ونرسل النظر في هاتيك السهول الواسعة. ثم نرجع إلى بحر الروم فنصعد من يافا إلى الأرض المقدسة فنزور المغارة التي بزغ منها نور الخلاص وجرى ماء الحيوة، وبستان الزيتون والجلجلة التي تتبرك الشفاه بلثم ترابها. ثم نجتاز مضيق السويس إلى البحر الذي عبره بنو إسرائيل بالأقدام، ومن هناك يمتد نظرنا إلى بادية العرب أرض الشعراء، وإلى أفريقيا فنجتازها من أهرام الفراعنة، إلى أرض الترنسفال التي حشا الله جوفها بالألماس ونمر بشواطئ الهند

حيث اللآلئ ونتفرج على الأواني الصينية البديعة الصنع. وإذا شئت واصلنا السير إلى اليابان فأمريكا فأستراليا، ولا ندع أرضاً وطئتها أقدام الرحل والسياح إلا دخلناها. فهل تسرين بذلك؟ فأجابت: حبذا الأسفار ففيها نزهة الأبصار والأفكار، ولكن ليس في ذلك ما يشبع رغبتي ويتم لذتي. فحرت في أمري وقلت لها هلمي إلى الحقول فنبذر البذور ونستغل الغلال ونشحن السفن ونتجر التجارات الواسعة ونعدن المعادن ونكثر من المعامل، فنربح الأرباح الطائلة ونجمع من الذهب القناطير المقنطرة، فنبني الدور ونشيد القصور ونكثر من الخدم والحشم وندعو بالمغنين والمطربين والراقصين ونأدب المآدب ونحتسي كؤوس الشراب مع الندماء والأحباب. فما تقولين في ذلك. أما تشتهين أن تسبحي في غنى الأرض وملاذها؟ فعبست وقالت: كلا!. . ليست في ذلك راحتي. فقلت: لعل الدرس يطيب لها. فسألتها: أتريدين الانصباب على الدرس لتكوني في مستقبل الحين عالمة في الطبيعيات والكيمياء والرياضيات والفلسفة والطب. فتكشفين سر الكهرباء وتوسعين حدود علم النجوم، وتظهرين أجساماً جديدة وتخترعين قواعد حسابية وتكشفين عن أدق أسرار النفس وتوجدين دواء لكل داء. أو تودين أن تكوني موسيقياً بارعاً يتسلط على النفس بأنغامه فيضحك الثكلى ويسيل أجمد العيون. أو تشتاقين أن يكون لك ريشة تحقر أبدع ما أتى به رافائيل وميكالنج، أو

قلم يصور أرق العواطف فيلقي في زوايا النسيان أولئك الشعراء المشاهير هوميروس وفيرجيل وامرؤ القيس وشكسبير ودانت وراسين. . . أو أن تكوني خطيباً مصقعاً يقتاد الشعوب، ويهز بقايا أثينا ورومة وطن أمراء الخطابة. أو نقاشاً يدهش أرواح اليونان في قبورها. أو قائداً يكسر على ركبته سيوف الإسكندر والقيصر ونابليون؟ وأخالك الآن لا ترفضين. فتوقفت ثم قالت: إن مجد العلوم والفنون لمما يفضل على جميع ما سواه. ولكن رغيبتي فوق كل ذلك. فوقفت وقفة المتحير وقد فرغت جعبة مسائلي فقتل: ويك أن في أمرك لعجباً: لقد عرضت عليك كل ما يتوق إليه المرء في هذه الدنيا وأنت عن كل ذلك ترغبين، فلقد والله أبرمتني وأسأمتني. . فإلى الدير!. ثم قفلت راجعاً إلى غرفتي مطرقاً مبلبل البال وقضيت النهار مفكراً. ولما كانت العشية خشيت أن يضيفني السهاد كما ضافني أمس. فصعدت إلى السطح قرب الساعة الكبيرة، وكانت الشمس في المغيب والدغش مقبل ليغشي الأرض فكانت المناظر تذهب تباعاً، وما هو إلا قليل حتى أرخى الليل سدوله وغيب البرية الظلام. فظهرت النجوم تتألف في الفضاء ببهاء يسحر العيون ويأخذ بمجامع القلوب. وكانت نفسي إذ ذاك كمصباح يحوم حوله ألوف من الفواش والهوام. وإنني لكذلك إذ لاح لي خاطر جديد فناجيت نفسي قائلاً يا نفس لقد رفضت كلما عرضته عليك من أمور هذه الدنيا، فم يبق إلا أن أسألك أمراً واحداً: أتريدين أن نركب طيارة تطير بنا إلى ذرى الفضاء فنكون

على مقربة من الكواكب والنجوم، فنراعي بهاءها ونعجب لاتساعها وكثرتها. ونسبح فيها لانهاية له من الفضاء ومن هنالك نشرف على الأرض وما فيها ونشاهد البحار والسهول والجبال فهلا ترضين!!!. . وهناك انتصبت عابساً شاخص العيون أنتظر ما تجيب. فرأيت أن نفسي قد انقبضت واجتمعت كعصفور يتحفز للطيران حتى حسبت أنها تقول. نعم! لكني ارتددت إلى الوراء إذ انتفضت وقالت بلهجة الموبخ: لا! كلا!!!. . فأخذ مني العجب مأخذه فالتفت إليها وقد ملئ فمي بكلمات اليأس والقنوط وقلت: يا نفسي! فقاطعتني الكلام وقالت: مهلاً!. لقد طلبت إلي أن أهجر الأرض، فلبيك ولكن اعلم أني لا أكتفي بالوقوف بين الأرض والسماء وإنما أشتهي وأرغب وأتوق أن اخترق الفضاء وأتغلغل بين الكواكب والنجوم فاجتازها حتى أصل إلى الذي خلق الكواكب والنجوم وأوجد المال والجمال، وأبدع العلوم والفنون، وبسط الأرض ورفع السماء حتى أصل إلى الله فهو خيري الأعظم وفيه محط رغائبي ومجتمع أشواقي. وبعد أن أطلعت على رغيبة نفسي رجعت إلى غرفتي مطمئناً ساكناً وقلت: اللهم اجعل هذا العام عام إقبال وفلاح، بمنك وكرمك يا أرحم الراحمين. بيروت الخوري مارون غصن

تمدن المرأة العصرية

تمدن المرأة العصرية عودٌ على بدء كتبت في العدد الثامن من هذه المجلة الغراء عن المرأة العصرية وكيفية استعمالها التمدن الحديث، وما جلبته من الأضرار بسبب فهمها قشوره لا لبه. وقد أرسلت على ذلك حضرة الآنسة الأديبة ادما كيرلس رداً لطيفاً، ذكرت فيه أني رشقت بنات جنسي بأحد السهام إذ وصفت المرأة التي تقتل الوقت بالزينة، وأهملت ذكر التي تعمل لاكتساب الفضيلة والتحلي بها. وعليه أجيب: إن الذي حملني على وصف النساء المهملات لواجباتهن دون المتفانيات في سبيلها هو أن تلك التي تسعى في خدمة العائلة وتضحي الملاهي والمسرات لتحافظ على ترتيب داخليتها ومستقبل صغارها هي قليلة جداً بالنسبة إلى العدد الكبير من أخواتها الباقيات، يوجد منها تقريباً عشرة بالمئة. وهذا عدد زهيد لا يبنى عليه حكم، ولا يقوم بالشرط المطلوب لسد الثلمة الواسعة في صرح الترقي والعمران. وعليه فقد تكلمت بمقتضى الحالة العمومية التي هي المصدر الحقيقي لكل عامل إن تأخر وإن تقدم. غير أن أقوالي أصابت الحقيقة عينها، ولذا جاءت جارحة لبعض القلوب اللطيفة، ولكني لم أبح بهذه الأفكار، إلا لاعتقادي بوجودنا في عصر النور والمعارف، عصر الحرية، حيث لا يجوز حجب الأفكار عسى أن يستخرج من كل فكرة فائدة، فنصل بعد ذلك إلى الغاية المطلوبة من ازدياد المعارف وارتقاء المدارك.

وقد قالت حضرة الكاتبة عاذرة، بنوع ما، التي تتبع المودة ناسبة هذا لمهارة يديها بعد أن تكون حافظت على نظافة الملابس، فتمكنت من قلبها حسب الذوق الدارج، وقد أتت عبارتها هذه في محلها من الحق والعدل. على أنه يقال في هذا ما قيل في تلك، أعني إن المرأة البارعة التي تتزين بفضل مهاراتها وتفننها، ولا تتبع المودة إلا بعد أن تكون حافظت على إتمام واجباتها هي من العدد القليل، وليس لإصلاحها تأثير يذكر في بابا لخراب الواسع. وكم من زهرة ضاعت بين أشواك فخنقت، وكم من نجمة سترت تحت غيوم السماء فحجبت نورها عن الأبصار. فلم يظهر للناظر إلا الظلام الحالك وهكذا نحن لا يمكننا إلا أن نرمي في مقالنا إلى العدد الكبير أي إلى اللواتي يصرفن الغالي والرخيص في اتباع ما تختلقه ربات الأزياء، وهذا أمر أصبح أشهر من نار على علم. فكم من رجل يئن لبذخ امرأته. وعدم مراعاتها أحواله، وكم من أولاد أشرفوا على التهور في دركات الهلاك، ووالدتهم بشاغل عنهم في إعداد الزينة والتفنن بها. وكم من أب أحنت ظهره متاعب الأيام، وبيضت شعره أهوال الزمان، غير أنه يبكي الآن لما يشاهده من اعوجاج الأزياء، وترك البساطة القديمة وعدم اللياقة في الأثواب، فأصبح ينظر لابنته المتقلدة نظرة المهيب الموبخ وإذا لم تعبأ بنظرته يئس وقال: حبذا يوم أرى فيه مماتي جاهلتي هذه تبذل النفس والنفيس لتتمثل بالعاقلة، وتتحلى نظيرها بحلى العلم والفضيلة، التي لا تشوبها شائبة ولا تؤثر فيها الأهواء والأزياء: وإننا نرى مثل هذا الأب آباء يبذلون كل ما في وسعهم ليبثوا روح البساطة وسلامة الذوق في

قلوب النساء، وما تقرأ في الجرائد من الانتقاد علينا وعلى أزيائنا يؤيد صحة قولي. فعليه يكون أتباعنا للتقاليد المضرة على رضى تام منا أما لمطابقتها لأذواقنا ودرجة معارفنا، وإما لمراعاتنا أصوات الجهلاء. وعلى كل فإن لم يزد عدد المصلحات فينا على عدد المخربات، فلا أمل بالنجاح، وعبثاُ ننادي بالإصلاح دون الشرط المتقدم. أما ما كان من نزوعنا عن لغتنا العربية إلى اللغات الإفرنجية فليس من ذنب على الرجال في هذا الباب، كما زعمت حضرة الكاتبة الأديبة، بل هم يعذرون إذا اعتبروا من أتقنت اللغات الغربية دون سواها، لأن معرفة اللغات الأجنبية تدل على زيادة علم وارتقاء، فضلاً عن أنها لغة الاختراعات والمعارف، ومن لم يتقنها حتى ن الرجال لا يمكنه أن يكون عاملاً مفيداً في الهيئة الاجتماعية. على أن هذا لا يمنع أن نحفظ للغتنا المركز الأول خصوصاً وفيها ما لا يقل فائدة عن آداب بقية اللغات، وإذا قلنا بوجوب تعلمها لا نعني الاقتصار عليها فقط، كلا، بل المراد من ذلك جعلها اللغة الأصلية التي لا يجوز إهمالها مطلقاً، لأنه من الضروري أن يعرف ابن كل أمة آداب لغته، وما فطر عليه أجداده، وكيف كانت أحوال بلاده. فلنا نحن الشرقيين في هذا ما تفاخر به، ولو ثابرنا نحن أيضاً معشر النساء على درس اللغة العربية، وأتقناها كما يجب نظير بقية اللغات، إذ لم أقل أكثر، لحملنا الرجال على احترامها واعتبارها فيا بتكريمهم من أتقنت العربية أكثر من سواها ولكن من أين لنا هذا ونحن نرى أن أم العائلة

إذا أرادت مناغاة ولدها ناغته بلغة أجنبية، ومتى كبرت ابنتها وأسمعتها نصائحها سمعتها الابنة بلسان أجنبي. وعليه تشب هذه الصغيرة وعندها الميل الأكثر إلى ما تعودت سماعه فتظن أن اللغة الأجنبية تغنيها عن لغة قومها وهكذا تغفل وتكون على جهل تام من العربية وتاريخها، وقد رأينا كثيرات من اللواتي يتجاهلن لغتهن ظناً منهن أن في ذلك مفخرة لهن، أو بالأحرى تفرنجاً. فانظرن، يا صاحبات الرأي الصائب فينا، إلى هذه الأفكار التي سرت في عقول أكثر فتياتنا. أليس هذه دليلاً واضحاً على تأخرنا؟ وهل يرجى تعميم اللغة العربية وارتفاع شأنها عند الجنس اللطيف وفيه من يحتقرن ويجهلن لهذه الدرجة لغة أجدادهن؟ لعمري إن لم نسع لاستئصال هذه الأوهام من عقول هؤلاء الأخوات يخشى علينا من زيادة التهور. ولا يجب ن نلقى من هذا القبيل كل اتكالنا على الرجال إذ نحن صاحبات التأثير الأكثر مفعولاً في استمالة الرغائب والأميال لكل غاية نقصدها، فعسى أن ينصرف هذا المقصد إلى ما فيه هدايتنا ونهضتنا. وإني بكل شكر وسرور أبسط يدي من هذا الوادي لمصافحة اليد التي بسطتها لي أديبة بيروت، بل أضع يدي بيدها للسير في الدفاع عن بنات جنسنا كل واحدة على طريقتها. كما أنني أرجو من سائر أخواتنا أن يطرقن هذه المواضيع التي تدور على شؤوننا الخاصة لأن بها العامل الأكبر على ترقينا ونهوضنا عسانا نصادف في الزهور الطريق المؤدية إلى ما فيه خيرنا وفلاحنا. - مصر هدى إسكندر كيورك

في رياض الشعر

في رياض الشعر كتب حضرة الألمعي مدير الجريدة مقالة جميلة عن تولستوي، فأرسل إليه سعادة أحمد شوقي بك قصيدة في ذلك الموضوع رأى أن يجمع فيها بين حكيم هذا العصر، الكونت تولستوي، وبين حكيم الدهر، فخر الضاد، أبي العلاء المعري وقد طرق الموضوع نفسه حضرة حافظ أفندي إبراهيم فرأينا أن نتحف القراء بدرر القصيدتين: حكيم العصر وحكيم الدهر (تولستوي) تجري آية العلم دمعها ... عليك ويبكي بائس وفقير

وشعب ضعيف الركن زال نصيره ... وما كل يوم للضعيف نصير ويندب فلاحون أنت منارهم ... وأنت سراج غيبوه منير يعانون في الأكواخ ظلماً وظلمة ... ولا يملكون البث وهو يسير تطوف كعيسى بالحنان والرضى ... عليهم وتغشى دورهم وتزور ويأسى عليك الدين إذ لك لبه ... وللخادميه الناقمين قشور أيكفر بالإنجيل من تلك كتبه ... أناجيل منها منذر وبشير وتبكيك إلف فوق (ليلى) ندامةً ... غداة مشى (بالعامري) سرير تناول ناعيك البلاد كأنه ... يراع له في راحتيك صرير وقيل تولى الشيخ في الأرض هائماً ... وقيل بدير الرهبات أسير وقيل قضى لم يغن عنه طبيبه ... وللطب من بطش القضاء عذير إذا أنت جاورت (المعري) في الثرى ... وجاور (رضوى) في التراب (ثبير) وأقبل جمع الخالدين عليكما ... وغالى بمقدار النظير نظير جماجم تحت الأرض عطرنها شذى ... جناهن مسك فوقها وعبير بهن تباهى بطن حواء واحتوى ... عليهن بطن الأرض فهو فخور فقل يا حكيم الدهر حدث عن البلى ... فأنت عليم بالأمور خبير أحطت من الموتى قديماً وحادثاً ... بما لم يحصل منكر ونكير طوانا الذي يطوي السموات في غد ... وينشر بعد الطي وهو قدير تقادم عهدانا على الموت واستوى ... طويل زمان في البلى وقصير كأن لم تضق بالأمس عني كنيسة ... ولم يؤوني دير هناك طهور أرى راحة بين الجنادل والحصى ... وكل فراش قد أراح وثير

نظرنا بنور الموت كل حقيقة ... وكنا كلانا في الحياة ضرير إليك اعترافي لا لقس وكاهن ... ونجواي بعد الله وهو غفور فزهدك لم ينكره في الأرض عارف ... ولا متعال في السماء كبير بيان يشم الوحي من نفحاته ... وعلم كعلم الأنبياء غزير سلكت سبيل المترفين ولذني ... بنون ومال والحياة غرور أداة شتائي الدف في ظل شاهق ... وعدة صيفي جنة وغدير ومتعت بالدنيا ثمانين حجة ... ونضر أيامي غنى وحبور وذكر كضوء الشمس في كل بلدة ... ولاحظ مثل الشمس حين تسير فما راعني إلا عذارى أجرنني ... ورب ضعيف تحتمي فيجير أردت جوار الله والعمر منقض ... وجاورته في العمر وهو نضير صباً ونعيم بين أهل وموطن ... ولذات دنيا كل ذاك نذور بهن وما يدرين ما الذنب خشية ... ومن عجب تخشى الخطيئة حور أو أنس في داج من الدير موحش ... ولله أنس في القلوب ونور وأشبه طهر في النساء بمريم ... فتاة على نهج المسيح تسير تسائلين هل غير الناس ما بهم ... وهل حدثت غير الأمور أمور وهل آثر الإحسان والرفق عالم ... دواعي الأذى والشر فيه كثير وهل سلكوا سبل المحبة بينهم ... كما يتصافى أسرة وعشير وهل آن من أهل الكتاب تسامح ... خليق بآداب الكتاب جدير وهل عالج الأحياء بؤساً وشقوة ... وقل فساد بينهم وشرور

قم أنظر وأنت المالئ الأرض حكمة ... أأجدى نظيم أم أفاد نثير أناس كما تدري ودنيا بحالها ... ودهر رخي تارة وعسير وأحوال خلق غابر متجدد ... تشابه فيها أول وأخير تمر تباعاً في الحياة كأنها ... ملاعب لا ترخى لهن ستور وحرص على الدنيا وميل مع الهوى ... وغش وإفك في الحياة وزور وقام مقام الفرد في كل أمة ... على الحكم جم يستبد غفير وأضحى قول الناس مولى وعبده ... إلى قولهم مستأجر وأجير وأضحى نفاذ المال لا أمر في الورى ... ولا نهي إلا ما يرى ويشير تساس حكومات به وممالك ... ويذعن أقيال له وصدور وعصر بنوه في السلاح وحرصه ... على السلم يجري ذكرها ويدير ومن عجب في ظلها وهو وارف ... يصادف شعباً آمناً فيغير ويأخذ من قوت الفقير وكسبه ... ويؤوي جيوشاً كالحصى ويمير ولما استقل البر والبحر مذهباً ... تعلق أسباب السماء يطير شوقي * * * رثاك أمير الشعر في الشرق وانبرى ... لمدحك من كتاب مصر كبير ولست أبالي حين أرثيك بعده ... إذا قيل عني قد رثاه صغير فقد كنت عوناً للضعيف وإنني ... ضعيف وما لي في الحياة نصير ولست أبالي حين أبكيك للورى ... حوتك جنان أو حواك سعير فإني أحب النابغين لعلمهم ... وأعشق روض الفكر وهو نضير

دعوت إلى عيسى فضجت كنائس ... وهز لها عرش وماد سرير وقال أناس إنه قول ملحد ... وقال أناس إنه لبشير ولولا حطام رد عنك كيادهم ... لضقت به ذرعاً وساء مصير ولكن حماك العلم والرأي والحجى ... ومال إذا جد النزال وفير إذا زرت رهن المحبسين بحفرة ... بها الزهد ثاوٍ والذكاء ستير وأبصرت أنس الزهد في وحشة البلى ... وشاهدت وجه الشيخ وهو منير وأيقنت أن الدين لله وحده ... وإن قبور الزاهدين قصور فقف ثم سلم واحتشم إن شيخنا ... مهيب على رغم الفناء وقور وسائله عما غاب عنك فإنه ... عليم بأسرار الحياة بصير يخبرك الأعمى وإن كنت مبصراً ... بما لم تخبر أحرف وسطور كأني بسمع الغيب أسمع كلماً ... يجيب به استاذنا ويحير يناديك أهلاً بالذي عاش عيشنا ... ومات ولم يدرج إليه غرور قضيت حياة ملؤها البر والتقى ... فأنت بأجر المتقين جدير وسموك فيهم فيلسوفاً وأمسكوا ... وما أنت إلا محسن ومجير وما أنت إلا زاهد صاح صيحةً ... يرن صداها ساعة ويطير سلوت عن الدنيا ولكنهم صبوا ... إليها بما تعطيهم وتمير حياة الورى حرب وأنت تديرها ... سلاماً وأسباب الكفاح كثير أبت سنة العمران إلا تناحراً ... وكدحاً ولو أن البقاء يسير تحاول رفع الشر والشر واقع ... وتطلب محض الخير وهو عسير

ولولا امتزاج الشر بالخير لم يقم ... دليل على أن الإله قدير ولم يبعث الله النبيين للهدى ... ولم يتطلع للسرير أمير ولم يعشق العلياء حر ولم يسد ... كريم ولم يرج الثراء فقير ولو كان فينا الخير محضاً لما دعا ... إلى الله داع أن تبلج نور ولا قيل هذا فيلسوف موفق ... ولا قيل هذا عالم وخبير فكم في طريق الشر خير ونعمة ... وكم في طريق الطيبات شرور ألم تر أني قمت قبلك داعياً ... إلى الزهد لا يأوي إلي ظهير أطاعوا أبيكيرا وسقراط قبله ... وخولفت فيما أرتئي وأشير ومت وما ماتت مطامع طامع ... عليها ولا ألقى القياد ضمير إذا هدمت للظلم دور تشيدت ... له فوق أكتاف الكواكب دور أفاض كلانا في النصيحة جاهداً ... ومات كلانا والقلوب صخور فكم قيل عن كهف المساكين باطل ... وكم قيل عن شيخ المعرة زور وما صد عن فعل الأذى قول مرسل ... ولا راع مفتون الحياة نذير حافظ وقد طرق هذا الموضوع أيضاً حضرة الأديبين أحمد أفندي نسيم وبعد الحليم أفندي المصري. وأطلعنا على قصيدتيهما بعد نشر ما تقدم فلم ينفسح المجال لنشرهما.

يا ليل الصب متى غده نشرنا المعارضة التي جاءتنا من شوقي بك لهذه القصيدة، ثم عارضها بعده على صفحات الزهور أيضاً أعلام شعرائنا كصبري باشا والأمير نسيب أرسلان ووليا لدين بك يكن. ولا يزال البريد يحمل إلينا من أنحاء مختلفة معارضات كثيرة يحول دون نشرها ضيق المجال. منها واحدة لحضرة الأديب محمود أفندي الناظر من أم دومه قال فيها: أهوى رشأ لولاه لما ... قد حارب جسمي مرقده. . قد ضاع الوصل فيا أملي ... بحياة الدل تؤيده فالوجه سباني أبيضه ... والشعر سباني أسوده وقال أيضاً حضرة الفاضل الشيخ محمود رمزي نظيم من قصيدة العيش تولى أرغده ... فعسى بالوصل تجدده إن تنكر حبي أو ولهي ... فلسان الدمع يؤيده. . مولاي ومثلك لا يجفو ... صباً يهواه ويعبده إن راح اليوم على أمل ... من وصلك أيأسه غده كم جمع من أمل بلقا ... ئك والهجران يبدده وجاءنا أيضاً شيء بهذا المعنى من حضرة كاظم أفندي الدجيلي من بغداد. وقد تراكمت علينا المواد الشعرية ومعظمها من فطاحل شعرائنا في أجمل الموضوعات سننشرها تباعاً في حينها. فترجو من أصحابها صبراً وعذراً. ومن الطرف التي سنتحف بها قراءنا في العدد القادم مراسلات شعرية دارت بين سعادة الأمير شكيب أرسلان اللبناني والمرحوم محمود سامي باشا البارودي أيام كان هذا منفياً في جزيرة سيلان ولم يسبق نشرها قبل الآن. وقد مكنتنا الصدف من تقديمها إلى قراء الزهور قبل سواهم.

إحياء الآداب العربية

إحياء الآداب العربية أرسلت إلينا الحكومة المصرية نص المذكرة التي رفعها إلى مجلس النظار عطوفة رئيسه محمد سعيد باشا والتقرير الذي وضعه سعادة ناظر المعارف أحمد حشمت باشا بشأن إحياء الآداب العربية، وذلك بمباشرة نشر الكتب النفيسة التي جمعها حضرة العالم أحمد زكي بك من مكتبات الأستانة وأوروبا. وقد طالعنا كل ذلك بمزيد من الارتياح. بعد أن كانت الزهور قد اقترحت في أعدادها الأولى البحث في الوسائل الواجب اتخاذها لإيجاد هذه النهضة. وقد قال لنا زكي بك أنه كان يرى بمزيد السرور اهتمام مجلتنا بهذا الموضوع بينما كان هو يعد معدات مشروعه الجليل. ولسنا في مقام تعريف قرائنا بزكي بك. . فإن أبحاثه النفيسة قد نشرت اسمه بين علماء الشرق والغرب، ولكنه لا يسعنا إلا أن نشكره ونشكر الحكومة المصرية على هذه الخدمة الجلى. ولا عجب فإن مصر كانت ولا تزال مبعث النهضة العربية وركنها الكبير. ونحن ننشر اليوم المذكرة التي وضعها عطوفة رئيس النظار بهذا الشأن. وسننشر في العدد القادم تقرير سعادة ناظر المعارف. كان ن دأب الحكومات التي تناوبت الحكم على وادي النيل منذ الزمان القديم طلب المباراة في ميادين السبق لرفع منار العلوم ونشر رايات العرفان سعياً وراء الفخر المخلد والمجد المؤبد. وكان من همها على الأخص توجيه عنايتها إلى إعلاء شأن اللغة العربية وآدابها بما كانت تبذله من الرغائب لانبعاث الهمم من رقدتها، وانعقاد العزائم على خدمتها، وتعضيد أهل العلم وذوي الفضل على دوام البحث والاستنباط. غير أن نوب الزمان وطوارئ الحدثان تناولت هذه العناية فيما تناولته، فأخمدت نارها وحجبت أنوارها، فانجلت العزائم وتلاشت الهمم، وكادت

محنة الدهر تقضي على ملكة الاختراع والابتكار بين أهل هذه الديار، وتفقدهم ميل النفس إلى التصنيف والتأليف. ثم تفرع على ذلك اندثار دور الكتب واندراس آثارها بيننا، بعد أن كانت قائمة على الدهر تشهد للأمة المصرية بعلو كعبها وجميل أثرها في هذا الباب. ومازالت يد الزمن تعبث وتدمر، حتى سخر الله لهذه البلاد محيي مواتها وباعث رفاتها ذلك الرجل العظيم محمد علي الكبير رأس هذه الأسرة المالكة. فزواج بين ترقية الأمة المصرية مادياً وأدبياً، ومزج بين إصلاحها معاشاً ومعاداً، حتى منحه التاريخ لقباً ينطبق عليه بكل حق وعدل وهو محيي مصر. ثم كانت سيرة خلفائه الفخام من بعده على نحو ما رسم وقدر، فكان من حسنات المغفور له إسماعيل باشا أن جمع من هنا وهناك ما أبقته عوادي الأيام من حطام تلك الدور النفيسة دور الكتب القيمة فتلقف شواردها وضم أشتاتها وأسس دار الكتب الخديوية القائمة الآن وأفاض عليها هو وابنه الخديوي توفيق على الأخص ما يضمن طول بقائها ودوام الانتفاع بها، فكانت غلة العقار المحبوس عليها كفيلة بتقدم هذا المعهد وارتقائه. ولكننا لا نزال نرى إلى اليوم أن دار الكتب هذه لم تتجاوز في مهمتها المطلوبة منها وهي نشر العلوم والمعارف حد الاستعداد والتأهب للعمل وقد آن الوقت الذي يحب أن تخطو فيه خطوتها الواسعة في هذا السبيل، وتبرز للملأ من جليل الأعمال ما فيه سرعة ارتقاء الآداب والعلوم. وأمامنا اليوم فرصة حاضرة، حانت لنا بالنظر في المفكرة التي وضعها حضرة أحمد بك زكي، الكاتب الثاني لأسرار مجلس النظار، وضمنها ما

عنّ له من وجود الإصلاح وضروب الوسائل التي من شأنها إحياء الآداب العربية بديار مصر. وقد ذيلهما بنبذ قصيرة عن عدة كتب ومصنفات بخط اليد، توصل إلى نقل صورها بطريقة التصوير الشمسي في القسطنطينية والبلاد الأجنبية. وقد مضى على واضع هذه المفكرة زهاء عشرين سنة وهو يوالي البحث والتنقيب عن أنواع الطرق الموصلة إلى تعميم المعارف واستنهاض الهمم لاجتياز باب العمل في فنون الإصلاح المطلوب لإحياء العلوم والآداب العربية. ولذلك قابل أصحاب الحل والعقد ما شرحه من سديد الآراء ومحكم الوسائل بعين الرضا والقبول. وعهدت الحكومة الخديوية إلى صاحب السعادة أحمد حشمت باشا ناظر المعارف العمومية أن ينظر في الأمر، ويقرر فيه ما يرشدها إلى الطريق القويم في هذا الباب. ولست أرى وسيلة لشرح ما رآه سعادته في هذه الموضوع أفضل من الفات مجلس النظار إلى نص التقرير الجليل الذي يشير فيه إلى وجوب العمل على حسب الخطة التي رسمها صاحب المفكرة مع بيان الوسائل الفعالة لإبراز هذا المشروع إلى حيز الوجود. ولقد بادرت بإبلاغ هذا التقرير إلى نظارة المالية مشفوعاً برأيي في الموافقة عليه من جميع الوجوه مع تأييد كل ما أشار به سعادته من الاقتراحات النافعة لتجديد الآداب العربية. ولما درس سعادة سابا باشا ناظر المالية هذا المشروع كتب إلي كتاباً تاريخه 18 أكتوبر سنة 1910 قال فيه: إن نظارة المالية تشاهد بمزيد الرضا ونهاية الامتنان تلك المجهودات التي مازال يبذلها أحمد بك زكي

وإنها توافق بتمام الارتياح على الغاية التي يسعى وراءها في تجديد الآداب العربية وختم سعادته كتابه بأن نظارة المالية مستعدة لأن تخصص لهذا الغرض مبلغ الألف جنيه المربوط في الميزانية لتشجيع الأعمال الأدبية. فهذه الأريحية الكريمة تدعونا إلى البحث في الأسباب التي يكون من شأنها استمرار هذه الحركة المباركة بما يضمن ظهور آثارها بدون انقطاع. وبما أنه من الضروري النظر في تدبير الوسائل التي تكفل لهذا العمل ما يقتضيه من البقاء والاستمرار. وبما أن المصنفات التي نقلها أحمد زكي بالفوتوغرافية هي ذات قيمة عظيمة من الوجهة العلمية والتاريخية والأدبية. وبما أن معظم هذه المصنفات التي أشار إليها هي من وضع المؤلفين المصريين ولا نكاد نرى لها أثر في البلاد التي تولد فيها وظهرت بها. فلهذه الأسباب أقترح على مجلس النظار تكليف نظارة المعارف العمومية بما يأتي: أولاً - المبادرة بدون تأخير في تدبير الوسائل التي تضمن إحياء الآداب العربية حسب البيانات التي أوضحها سعاد احمد حشمت باشا في تقريره المؤرخ في 11 رمضان سنة 1328 (15 سبتمبر سنة 1910). ثانياً - تخصيص المبلغ الاحتياطي المتكوّن بدار الكتب الخديوية لهذا الغرض. ثالثاً - الابتداء في إحياء الآداب العربية بطبع ونشر الموسوعتين الكبريين المعروفتين باسم نهاية الأرب في فنون الأدب لشهاب الدين

النويري ومسالك الأبصار في ممالك الأمصار لابن فضل الله العمري. رابعاً - الاستمرار على موالاة هذه النهضة التجديدية بطبع ونشر بقية الكتب التي أشار إليها حضرة أحمد زكي ك حسب الكشف المرفق بهذه المذكرة ثم سائر المخطوطات العربية الأخرى الكثيرة الندرة العظيمة الفائدة. هذا وإنني أرى من جهة أخرى أن ضمان النجاح لهذه الحركة الخصيبة يوجب على مجلس النظار أن يسهل على نظارة المعارف العمومية القيام بمهمتها بالفلاح الذي نبتغيه لهذا الإصلاح فلذلك يحسن بحكومة الجناب الخديوي المعظم أن تكلف نظارة المالية بأمرين اثنين أيضاً وهما: أولاً - جعل مبلغ الألف جنيه تحت تصرف نظارة المعارف المعمومية بصفة عامة إعانة خصوصية لطبع الموسوعتين المذكورتين قبل. ثانياً - إصدار الأوامر اللازمة إلى مطبعة بولاق الأهلية للإسراع في إنجاز أعمال الطبع بكل ما في الإمكان. وأملي وطيد في أن المجلس يتكرم بالموافقة على ما أبديته من الاقتراحات ليجري العمل بانتظام وفق المرغوب، فإن إنجاز هذا المشروع على أجمل حال مما يجمل بحسنات هذا العصر، ويكون غرة في جبين الدهر، تشهد بارتقاء العلوم والآداب بيمن مولانا الخديوي ناشر رايات العدل ورافع أعلام العلم والفضل. محمد سعيد رئيس مجلس النظار وقد وافق مجلس النظار المنعقد برئاسة الحضرة الفخيمة الخديوية على ما جاء في هذه المذكرة وفي تقرير ناظر المعارف الذي سيجده القراء في العدد القادم.

في جنان الغرب

في جنان الغرب نأخذ ما يلي من كتاب السعادة والسلام الذي وضعه اللورد افبري وعربه حضرة الأديب وديع أفندي البستاني وسيجزئ الكلام عنه بعد. 1 الشاعر والسماء ما فرغ الآلهة من شأن الخليقة حتى أعلنوا للبشر أن سيقتسموا الأرض فيما بينهم، وضربوا لهم موعداً لذلك. وما آن الموعد المضروب، حتى وضع أهل الزراعة أيديهم على الحقول الممرعة، وأخذ التجار يمهدون القفار ويسلكون البحار، واحتل الرهبان منحدرات الجبال الصالحة لغرس الكروم، وخصص الأشراف وأبناء الترف الأحراج والغابات لأجل الاصطياد والتنزه، واستولت الملوك على الجسور والمضايق والخلجان لأجل وضع المكوس والضرائب عليها: أما الشاعر فما نجا من حيث كان غريق التأملات العميقة، حتى هب يسعى، ووصل فوجد كلاً قد فاز بنصيبه فراح يبكي بخته ويطالب بحقه. ولكن ما الحيلة ولم يبق في يد الآلهة شيء يعطى. فقالوا له: هيا تعال اسكن معنا في صفاء السماء الأبدي. تعال إلينا كلما شئت فالباب أبداً مفتوح لك. فقنع الشاعر بما أصابه. إلا أنه غني عن تكلف مشقة الصعود إلى طبقات الجو وطياق السماء فهو إذا شاء خلا باله وسكن بلباله، ففكره يستنزل السماء إلى الأرض.

2 وصف الحية وكم من حيوان نظل لا نعرف له شأناً حتى يقوم كاتب كرسكن يصفه لنا. . . وهاك وصفه للحية: ذلك الجدول الفضي الأملس - أفكرت في جريه وسعيه؟ الحية لا تمشي بل تسعى وتجري. وكأنها الزورق في البحر، إلا أن التراب ماؤها وقشرها مجذافها ورأسها دفتها. بل هي النهر تنساب في السهل انسياباً. تتموج ولا ريح تتلاعب بأمواجها. تجري ولا شلال يقطع مجراها. كل جسمها يتحرك معاً - إلا أن بعضه ذات اليمين وبعضه ذات اليسار وقسم منه إلى الأمام والآخر إلى الوراء، تمر بك ولا تسمعك صوتاً، وتفوتك وتترك لك أثراً فحواه: إن آثارنا تدل علينا ... فانظروا بعدنا إلى الآثار. فاجئها بصرخة وإذا بالجدول المنساب قد استحال سهماً مسدداً وموجة السم استقامت رمحاً مقوماً يخترق الأعشاب وينفذ منها ولا طعنة الفارس من صدر العدو. لها رئة ولا تكاد تتنشق الهواء أو تتنفس الصعداء. سواء عندها الشمس والظل فهي باردة حارة، جامدة إلا أنها تتسلق ولا القرد، وتسبح ولا السمكة، وتثب ولا الغزال، وتصارع وأين منها ابن حواء وتسحق وأين منها النمر. هي قوة شيطانية مجسمة على الأرض. وكما أن العصفور هو قوة الهواء مكسية ريشاً فكذلك الحية إنها قوة التراب لابسة مسوحاً وجلداً. وكما أن العصفور هو رمز للروح والحياة، فالحية رمز لقضي الموت على الحياة وقبضته على الروح. افبري

الكلمات الأجنبية والعامية

الكلمات الأجنبية والعامية في اللغة العربية لما ألف نادي دار العلوم لجنة علمية من أعضائه لمباشرة وضع كلمات عربية للكلمات الأجنبية والعامية، قابلنا عمله هذا بكلمات الثناء والإطراء، وكنا أسبق المجلات والصحف إلى نشر الكلمات التي أقرها مع إبداء ما عنّ لنا من الملاحظات عليها. وتناقلت بحثنا هذا صحف كثيرة في سوريا وأمريكا، وجاءتنا ملاحظات كثيرة من مراسلينا في بيروت وبغداد نشرنا معظمها في حينه، مما دل على ارتياح العرب قاطبة إلى هذا المشروع الجليل. وكان يليق بلجنة النادي أن تعير تلك الملاحظات جانباً من الالتفات، تعميماً للفائدة، لأنه يجب أن يشترك في مثل هذا المبحث أدباء الأقطار العربية كافة، فقد يكون بلد مصطلحاً على كلمة مجهولة في غيره كما ظهر ذلك مما سبق لنا نشره. والذي يسوءنا تواني اللجنة في متابعة عملها. فقد مر عليها أشهر من الزمان، دون أن تتحفنا بشيء جديد في هذا الموضوع، سوى مفردات قليلة قررتها في شهر سبتمبر. ولم نكد نجد لها تعليلاً لما اختارته من الكلمات كما كانت تفعل من قبل. فأسفنا وأيم الحق لظهور آثار هذا الخمول الذي ألفناه بعد التحمس في كل ما نشرعه من المشروعات. لأننا كنا نعلق آمالاً كبيرة على أعضاء دار العلوم من حيث كفاءتهم واجتماعهم عدداً كبيراً للسعي وراء غاية واحدة، بخلاف سائر اللغويين الذين ليس

بينهم من رابطة. ومع ذلك يبقى لنا الأمل بتجدد الهمم وانبعاث العزائم بعد انقضاء فصل الصيف حتى تعود اللجنة إلى سابق عملها الذي يطالبنا الكثيرون به. * * * وإليك الكلمات الأخيرة التي أقرتها اللجنة: (أتومبيل) - استعمل الكتاب في هذا المعنى كلمة (سيارة) وتعارفها الناس فوافقت اللجنة على استعمالها. (اكسبرس) - ترى اللجنة استعمال (قطار سريع) ثم يستغنى عن الموصوف ويكتفى بالصفة فيقال (السريع) كالمعتاد. . . ومن رأي رشيد أفندي عطية صاحب كتاب العامي والدخيل الذي أشرنا إليه في الجزء الخامس من الزهور (ص 218) استعمال كلمة (عاجلة) والتاء للمبالغة كالتاء في راوية. (بودره) - اختارت اللجنة لفظة (غُمنة) والغمنة في القاموس الاسفيداج، والغمرة تطلي به المرأة وجهها. (بزرميط) - اختارت اللجنة (هجين) لمن أبوه خير من أمه و (مقرف) لمن أمه خير من أبيه و (مخلَّط) إذا لم تلاحظ الخيرية في إحدى الجهتين. (بنطلون) - وفصيحها (سروالة) معرب شلوار بالفارسية - وفي سورية يقولون (شروال) وبنطلون لفظة إيطالية الأصل وهي منسوبة إلى القديس بنطلوني الإيطالي أول من استعمل هذا اللباس.

(ترتوار) - قالت اللجنة (طوار) وطوار الدار (بكسر الطاء وفتحها) ما كان ممتداً معها وهذا ممتد مع الشارع. - على أن لفظة ({صيف) قد استعملها المولدون وتعارفها الناس. (تملي) - وفصيحها (دائمي). (روماتزم) - استحسنت اللجنة كلمة (رثية) وهي في القاموس وجع المفاصل واليدين والرجلين. (زنبلك أو زنبرك) - جاء في القاموس: يقال لكل ما لم يتحرك ولم يدر دوارة وفوارة بفتح الدال والفاء. فإذا تحرك ودار فهو دوارة وفوارة بالضم. والزنبلك متحرك، فرأت اللجنة أن كلمة (دوارة) أقرب الكلمات العربية إلى هذا المعنى. (صالون) - استعمل الكتاب كلمة (بهو) وهي تؤدي المطلوب. (قشلاق) - ويقولون في سورية (قشله) وفصيحها الثكنة وهي في القاموس مركز الأجناد ومجتمعهم على لواء صاحبهم وإن لم يكن هناك لواء ولا علم. جمعه ثُكَن. أما تمرجي (وفصيحها ممرض) ودونانمة (وفصيحها أسطول) ويمكخانة (وفصيحها مطعم) فهي مستعملة فقط في بعض الأنحاء وما يقابلها في اللغة الفصحى أشهر منها وأعم استعمالاً.

ثمرات المطابع

ثمرات المطابع السعادة والسلام - تكلمنا عن كتاب معنى الحياة في الجزء الرابع ص 173. وقلنا كلمتنا في مبادئ فلاسفة المؤلف ومتى عرفت أن لورد أفبري هو أيضاً واضع السعادة والسلام وأن معربه هو أيضاً وديع أفندي البستاني الذي ملك عنان اللغتين الإنكليزية والعربية، حتى بات يؤدي كل معاني اللغة الأولى في أجمل عبارة من اللغة الثانية، عرفت قدر الكتاب الذي نحن بصدده الآن. تطالع المئتين والخمسين صفحة التي يتألف منها الكتاب دون أن يستولي عليك شيء من الملل الذي يصاحب عادة مطالعة الكتب الفلسفية. وذلك لأن مؤلفه لم يطرق الفلسفة الناشفة والاستنتاجات المعلة، بل عمد إلى النفس البشرية وما حولها من مظاهر الطبيعة، فقابل بين مؤثرات هذه وانفعالات تلك، بأسلوب قريب لذيذ يرتاح إليه الفؤاد ويتغذى منه الجنان. ولما كانت السعادة والسلام أمنية الجميع فيجدر بالجميع أن يقبلوا على هذا المؤلف النفيس. أما التعريف فهو على جانب عظيم من البلاغة والطلاوة. وقد عمد المعرب إلى ما في الكتاب من المقاطع الشعرية فسكبها في قالب شعري جميل، فنجح في النظم نجاحه في الشعر. والكتاب مهدى إلى الناشئين المصرية والسورية ويجب على الناشئة العربية عموماً أن تستفيد منه، لأنها في طور حاجتها

فيه شديدة إلى مثل هذه المبادئ النافعة، وإذا نحن أثنينا الثناء الجم على فرع الدوحة البستانية الذي قدم لأخوانه هذه الهدية الثمينة، فنحن نثني باسم الكثيرين الذين ذاقوا بعد مطالعة كتابه سعادةً وسلاماً. * * * الجاذبية وتعليلها - هو عنوان رسالة وضعها شاعر مدينة السلام وأديبها الكبير جميل أفندي صدقي الزهاوي، ضمنها ملاحظات كثيرة على الجاذبية وأنواعها ونواميسها، مصرحاً بأنه اعتمد في ما كتب على ما علمه بنفسه عن المادة وقواها، طالباً من القارئ أن لا يحتقر الرأي لصاحبه إذا هو لم يحترم صاحب الرأي لرأيه والزهاوي من الذين يحترمون لآرائهم، كما أن آراءهم تحترم أيضاً لصاحبها. * * * مراثي وديوان المرحوم إلياس صالح اللاذقي - من الأدباء الذين اشتهرت كتاباتهم في أواسط القرن الغابر، وكان لهم نصيب وافر في نهضة الآداب العربية، الشاعر البليغ المرحوم إلياس صالح. الذي ولد في اللاذقية سنة 1839 ونبغ في صناعة الكتابة واللغات. وقد تقلب في مناصب الحكومة وعرف بالنزاهة والإخلاص. وزار مصر ونظم فيها قصائد جميلة في مدح خديويها أو آنذاك المغفور له إسماعيل باشا وبعض وزرائها ووجهائها. وكان يخشى على آثاره الكتابية من أن تلعب بها يد الضياع

لولا همة ولده النجيب البارع رفيق أفندي صالح الأجزاجي في المصلحة الطبية السودانية. فإنه باشر جمعها ونشرها بالطبع. وأول ما أتحفنا به ديوان المرحوم والده وما قاله الشعراء والكتاب في رثائه فجاء هذا الأثر الجميل خير مرآة لما كانت عليه الحركة الفكرية في الشرق في ذلك العصر. * * * الرحلة الحجازية - كان حج الجناب العالي الخديوي في مثل هذه الأيام من العام الماضي موضوعاً تبارت فيه قرائح الشعراء، فدونا بعض ذلك في العدد الأول من الزهور، وبتنا ننتظر صدور كتاب جغرافي تاريخي يتضمن تفاصيل تلك الرحلة ووصف الربوع الحجازية إلى أن جاءنا كتاب الرحلة الحجازية لواضعه عزتلو المفضال الأديب محمد بك لبيب البتنوني الذي رافق الجناب الخديوي في هذه الرحلة. وقد ضمنه تاريخ تلك البلاد وآثارها وقبائلها وعاداتها وإحصائياتها، وحلى كل ذلك بما يناهز الأربعين رسماً وخريطة عن الحرمين ومصر والشام وأطراف بلاد العرب حتى يعرف تلك الأنحاء فإنها غير معروفة للآن كما يجب لذوي البصيرة والعرفان، مع أنه يقصدها سنوياً أكثر من مئتي ألف نفس من المسلمين وعليه فقد استحق المؤلف ثناء المسلمين لما دفعه من الترهات التي ألحقتها بالمشاعر الدينية مبالغة الوهم أو مغالبة الغرض وثناء العلماء عموماً لمما قرره في رحلته من الحقائق الجغرافية والتاريخية، والملاحظات الدقيقة الفلسفية. ولا نشك في أن الإقبال على هذا المؤلف

سيكون عظيماً سيما وقد جاء في أيام باتت النفوس فيها متعطشة إلى كل ما يتعلق ببلاد العرب. * * * تقويم البشير - هو التقويم الذي تصدره جريدة البشير منذ 34 عاماً. وضعه حضرة مديرها الفاضل الأب لويس معلوف فجمع فيه أهم الفوائد عن الحسابات المختلفة للسنين والأشهر والأيام، والأعياد عند عموم الطوائف، مع ذكر المناصب الروحية والمدنية وأسماء أربابها، والتقسيم الإداري في الدولة العثمانية إلى غير ذلك من الفوائد التي تتضمنها عادة أتقن التقاويم الإفرنجية. وهناك أيضاً شيء من المقالات المفيدة منها مقالة طبية للدكتور أمين الجميل، وسماد الأرض للأب طوران. وأهم تواريخ العلوم، وفوائد بيتية، والمشروبات الكحولية لصاحب هذه المجلة. إلخ. . . كل ذلك مرتب على أحسن ذوق. مفكرة المعارف - وهي المفكرة التي أصبحت في جيب كل أصحاب الأشغال لأنهم لا يستغنون عنها. تصدرها سنوياً مطبعة المعارف الشهيرة في عالم الطباعة. وهي تتضمن الحسابات الغربية والهجرية والقبطية مع مفكرة إجمالية لكل شهر. وفيها جداول للعملة والمقاييس والموازين المصرية مع مقابلتها بقيمتها في سورية وأمريكا وفرنسا وإنكلترا. وقد جلدت تجليداً لطيفاً مذهباً وثمنها أربعة غروش صاغ. وأصدرت المطبعة المذكورة أيضاً نتيجة أو روزنامة جميلة الشكل ملصوقة على لوحة كبيرة تعلق بالحائط

أزهار وأشواك

وعليها رسم أوروبا مع شارة كل دولة من الدول بألوان زاهية. وهي على نوعين: نوع بعشرة غروش ونوع بستة وهي والمفكرة تطلبان من مكتبة المعارف بأول شارع الفجالة لصاحبها نجيب أفندي متري. أزهار وأشواك أماني وتمنيات العيد قابلته صباح العيد، وكان قد مر علي أربع سنوات دون أن أراه. وقعت عيني عليه فلم أكد أعرفه. رأيت بدل ذاك القوام الرشيق والقد النحيل والوجه الأصفر جسماً ممتلئاً صحة وعافية ومحيا يكاد الدم ينفر منه. صافحته طويلاً وقلت: وما الذي اعتراك يا صاح؟ فأجاب وعلى ثغره ابتسامة السرور: هي الأزمة يا أخي لم تبق ولم تذر - والعشرون ألف جنيه ريع أطيانك وأموالك؟ - ذهبت غير مأسوف عليها. . . قال هذا وقد تحولت ابتسامته إلى قهقهة عالية. فبقيت حائراً فيما أرى وأسمع وتمتمت: أتمنى لك في رأس السنة الصحة والسلامة ورجوع الثروة. . . فقاطعني قائلاً: حسبي القسم الأول من هذه التمنيات. فإننا دائماً في حاجة إلى الصحة، أما الثروة فأنا بغنى عنها، وقد رضيت بالسعادة بديلاً. . . اسمع لي، يذهب ما بك من العجب. كنت غنياً كما تعرف ولم أك سعيداً وأنا الآن قد جمعت بين الفقر والهناء. كنت وامرأتي نسكن قصراً شاهقاً يملأه الخدم والحشم، وتخطر المركبات في باحته، فكنت أقضي ليلي

ونهاري في الملاهي بين خلاني، وامرأتي من جهتها تفعل ذلك مع صديقاتها فلا أراها ولا تراني. أما الآن فنحن نسكن منزلاً صغيراً، ونذوق فيه أفراح المعيشة العائلية، ونملأه بالحب والسلام. فزوجتي لي بكليتها وأنا لها بكليتي، ولاكنا لأولادنا وهم لنا، فلا ندع أحداً يستولي على ذرة من فؤادنا. كان المرض ضيفنا المعتاد أما الآن فلا نعرف ضيفاً إلى الصحة بفضل ترتيب حياتنا كان خوفنا من الفقر شديداً، والآن لا نخاف شيئاً لأن الفقر نزل بنا فوجدناه خير نزيل. كنت في مثل هذا العيد أقضي نهاري راكضاً من بيت إلى بيت لمعادية من نسميهم أصدقاء، وأقضي شطراً من ليلي في كتابة بطاقات الزيارات والرد عليها، والشطر الآخر في المقامرة، أما الآن فأنا أحيي عيدي ليله ونهاره بين أولادي وزوجتي. فيا ما أسعد حالتي. فبالله عليك ادع لي وعلي بما تشاء ولكن لا تتمن لي رجوع الثروة والجاه، لئلا أرجع إلى ما كنت عليه من الشقاء والعناء. وأنا لا يسعني إلا أن أدعو لك بان تصير إلى ما صرت إليه. . . قال وودعني عند منعطف الشارع وهو يردد: يا صفا الأزمان. . . الحصان والمودة أنصح للكاتب الذي تخمد نار قريحته، وتنضب مياه مادته. أن يطرق الموضوعات النسائية وما يتعلق بربات الحجال من الأزياء والتفنن في مظاهر الجمال، فيفتح عليه، وتتوارد الأفكار إلى دماغه، بدليل أن شعراء العرب الأقدمين كانوا يستهلون كل القصائد من مدح ورثاء وفخر ووصف بالغزل لأن الغزل كما يقولون يشحذ القريحة. على أني لم

بين هنا وهناك

أكتب لأتغزل بل لأنتقد ولكني استفدت من القاعدة المطردة. انتقدت الأزياء فقام الشعراء في العدد الماضي يؤيدون انتقادي، وها أن الحيوانات نفسها تعطيني حجة جديدة هذه المرة ادمغ بها بنات حواء. وكم لنا من عظة على ألسنة الحيوانات. فلتسمع سيدتي الرواية الآتية وإذا شكت في صحتها أعود فأعين لها الزمان والمكان والأشخاص: سيدة من كرائم السيدات كانت في مركبة جميلة يجرها جوادان من الخيول الكريمة. وكان على رأس السيدة قبعة من تلك القبعات الطويلة العريضة خضراء اللون وقد زانتها كل أنواع الزهور والرياحين. وكان على جانب الطريق حمار ينظر إلى المارين والمارات نظرة الفيلسوف - وكم في نظر الحمير من البلاغة! - فلما وقع نظره على المركبة ومن فيها نهق نهيق الفرح، وضرب الأرض بقوائمه الأربع وأخذ يعدوا بسرعة حتى وصل إلى العربة وانتشل القبعة عن رأس صاحبتنا بما فيها من الدبابيس والشعر المستعار ظناً منه أن هناك. . . ربطة برسيم!. . . مغزاه: ادع ذلك لربات المودة. . . . حاصد بين هنا وهناك حل مصر ضيفاً كريماً في الشهر الماضي حضرة الشاعر العصري شبلي بك ملاط مؤسس جريدة (الوطن) البيروتية رباشكاتب القلم العربي في متصرفية جبل لبنان. وحضرته من الكتاب المعروفين والشعراء الذين يشار إليهم بالبنان في بر الشام. وقد اجتمعنا به مراراً عديدة في حلقة من الأدباء وسمعنا شيئاً كثيراً من شعره الرقيق سنتحف به القراء من حين إلى حين. ولما كان شعراؤنا في هذه

المدة ينشرون على صفحات الجرائد أبياناً للغناء أحببنا أن ننشر للملاط شيئاً من ذلك وهي أبيات عارض بها الجندي القائل: ألحاظه قد أرسلا ... والقد هز الأسلا يا معشر العشاق لا ... تلقوا بأيديكم إلى. . . مهفهف حلو اللمى ... وليس يروي لي ظما يمر بي مبتسماً ... وكلما مر حلا إلخ وقال شبلي ملاط: بليلٍ حظي اكتحلا ... ظبي بقلبي نزلا ما كاد يحيي الملا ... حتى أمات الأملا نشوان من غير حبب ... ريان من ماء الأرب مهفهف من الذهب ... لا من تراب جبلا حكمته فاحتكما ... بالقلب حتى ظلما يا مالك الروح لما ... أشمت بي من عذلا فمر بي يبتسم ... وقال لسنا نرحم ما الحسن إلا صنم ... وكم قتيل قتلا فرحت والقلب اضطرم ... أرثي لعباد الصنم وكان عهد وانصرم ... وكان قلب وسلا

من كل حديقة زهرة

من كل حديقة زهرة * أدى التلغراف اللاسلكي خدمات لا تحصى فعم استعماله. وفي العالم الآن 128 محطة لهذا النوع من التلغراف على الشواطئ، و579 محطة عائمة في عرض البحار، و365 محطة من البوارج الحربية، و214 على السفن التجارية. وقد حتمت الحكومات الآن على البواخر الكبرى التي تسافر في الأوقيانوس أن تكون مصحوبة بآلة للمخابرة بالتلغراف من دون سلك. * في ألمانيا 5 آلاف مجلة وجريدة منها 800 يومية، وفي إنكلترا 3 آلاف منها 909 يومية، وفي فرنسا مثل هذا العدد تقريباً وفي بلجيكا ألف و900 منها مئة يومية، وفي إيطاليا ألف و400، وفي كل من النمسا وإسبانيا وروسيا واليونان وسويسرا بين 400 و500 ومجموع صحف أوروبا 20 ألفاً تقريباً. أما في آسيا فيصدر فقط 3 آلاف مجلة وجريدة معظمها في اليابان والهند. لأن اليابان وحدها تصدر 100. وفي أمريكا عدد كبير من الصحف منها 12 ألفاً و500 في الولايات المتحدة وحدها وأكثر من ألف من هذه الصحف يومية ومنها 120 يحررها ويديرها ويطبعها الزنوج وفي أفريقيا 200 صحيفة تنشر خصوصاً في مصر والمستعمرات الأوروبية. * يؤخذ من الإحصاء الأخير أن معدل ما يدخنه كل واحد من سكان فرنسا من التبغ في السنة ألف و24 غراماً.

العدد 11

العدد 11 - بتاريخ: 1 - 2 - 1911 المتاجرة بالرقيق الأبيض عقد المؤتمر الدولي الرابع لمقاومة انتشار البغاء والمتاجرة بالرقيق البيض، في عاصمة إسبانيا في أول الشهر المنصرم. فاشترك فيه عدد كبير من كل المذاهب والطوائف والجنسيات، من مؤمنين وملحدين، وكلهم متضامن في وجوب محاربة هذه الآفة الاجتماعية التي لا تعد ضحاياها ولا تحصى: وقد أحببنا إطلاع القراء على بعض ما جرى وحدث في جلسات المؤتمر لما في ذلك من العظة والعبرة ولشدة حاجتنا نحن أيضاً إلى ملافاة ما ينجم عن انتشار البغاء من البلايا والرزايا، فإن محليات صحفنا مشحونة بالتفاصيل المحزنة عن متاجرة بعض ساقطي الأخلاق بالفتيات المسكينات، مما تتألم له الإنسانية وتستر منه الهيأة الاجتماعية وجهها خجلاً وحياءً. انقسم أعضاء المؤتمر في الطرق المؤدية إلى ملافاة هذا الداء إلى قسمين، وإن كانوا متفقين في الجوهر: فرأى الفريق الأول أنه ليس بالإمكان استئصال شأفة هذا الداء فيجب حصره في المحلات المعروفة

تحت مراقبة الحكومة الشديدة، وتقييده ضمن نطاق قانون خاص، لئلا يزيد تفشيه. ويرى الفريق الثاني أن في سن قانون للبغاء تسليماً به وشبه مساعدة له ولذلك لا بد من إقفال هذه المحلات ومصادرتها. وقد تناقش الأعضاء في ذينك المبدأين وكان السواد الأعظم مؤيداً للثاني منهما وكانت الحكومة الإسبانية في جانب هذا الفريق، إذ أصدر ناظر داخليتها قراراً بإغلاق المحلات المسموح بها. أما القائلون بوجوب وضع النظام الخاص فإنهم يسلمون بأن مقاومة تلك المحلات قد قلل عددها، ولكن قد حل محلها الخمارات والحانات التي تخدم فيها النساء، وخصوصاً في الثغور والمدن التي يكثر فيها رجال الجيش. وأول ما طرح على المؤتمر تحديد معنى المتاجرة بالرقيق الأبيض فأجمع الأعضاء على استبدال هذا الاسم باسم المتاجرة بالنساء لئلا ينحصر الأمر بالبيضاء دون سواها من النساء. ثم بحث المجتمعون في القوانين المتعلقة بالرقيق وأنواع العقوبات التي يعاقب بها من يتاجر بهذه التجارة الدنيئة، فأجمعوا على وجوب طلب العقوبة على طريقة واحدة سواء كانت المتجر بها أو بالغة سن الرشد أو لا، خلافاً لما هو متبع في أكثر البلاد. وقد رأوا أيضاً أن المهاجرة من أكبر المصادر التي تتلقى منها محلات الفجور فرائسها. ولذلك يجب سد هذا الباب باتفاق الحكومات على منع الفتيات اللواتي لم يبلغن سن الرشد عن المهاجرة، وإنشاء لجنة تفتيشية لهذا الغرض ولإعادة النسوة اللائي أغراهن مغرٍ على الفحشاء إلى أوطانهن، وقد اقترحت جمعية صديقات الفتاة الاهتمام بمكاتب التخديم وإدارات

الملاعب والثغور والمحطات لمراقبة الفتيات. هذا مجمل ما جرى في هذا المؤتمر من الأبحاث التي دارت كلها حول وجوب حماية المرأة، وخصوصاً الفتاة القاصرة، من الأخطار التي تتهددها، والمرغبات التي تحدق بها حتى تقودها إلى مواخير الفساد، فلا تجد بعد ذلك يداً شفيقة تكسر قيود الفحشاء إلي تغل يديها، وتبقيها راسفة في أدنى دركات الانحطاط الإنساني، فتتاجر - أو يتاجر الغير - بجسمها وقلبها، وهي دامية الفؤاد، دامعة العين. . . * * * وقد رأينا الحكومة المصرية تبذل بعض المساعي في هذا الشأن على أن التدابير التي اتخذت حتى الآن لا تعد كافية لمحاربة هذه الآفة الاجتماعية التي تفتك بفتيات ساذجات لا سلاح لهن يتقين به سهام الأهواء الفاسدة والعواطف الملتوية. وإننا نرى بمزيد الأسف أن أكثر محلات التخديم عندنا قد أصبحت واسطة لمعاونة الرذيلة على الفضيلة، بل محلات سمسرة للمضاربة في بورصة الأعراض، تعرض فيها البنات في سوق الأهواء لينتقي المخدوم له خادمة تخدم بيته وأمياله الفاسدة، فتقتضي عنده القليل من الزمن، ثم تخرج من منزله الذي أضاعت فيه عرضها لتدخل المحل الذي تضيع فيه بقية الحياة والشرف الباقية. وهذه هي حكاية أكثر تاجرات الهوى، حكاية قليلة الفصول، هائلة المغزى. أما بشأن مراقبة المحطات والثغور، فإنك تجد في البلاد الراقية جمعيات من أفاضل الرجال وفضليات النساء توفد بعض أعضائها إلى المحطة

أو إلى الميناء، عند وصول كل قطار أو باخرة، لمراقبة القادمين، حتى إذا ما وجدوا بينهم فتاة قاصرة غريبة وحدها، بحثوا عن سبب هجرتها من بلادها، فأعادوها إلى أهلها، أو تولوا أمرها بإيجاد عمل لها تكتسب منه رزقها دون بذل ماء وجهها. فما أجدرنا بتأليف مثل هذه الجمعيات العاملة، وبلادنا الشرقية، كما لا يخفى، محط لرحال الأجانب من كل أقطار المعمور، يقذف إليها تيار المهاجرة في كل أسبوع أناساً مختلفي الأخلاق والطبقات، بل الأحرى أن تؤلف كل جالية من الجوالي - وخصوصاً في مصر - مثل هذه الجمعية، أو تجعل في جمعياتها الخيرية لجنة تهتم بهذه الشؤون وتتولى مراقبة البنات القاصرات اللواتي لا يجدن لهن في بلاد الغربة معيناً ولا مرشداً. وما قلناه عن محلات التخديم والمحطات والمواني، يقال أيضاً عن المسارح والحانات وعن بائعات الزهر والموسيقيات والمغنيات الصغيرات في الشوارع حيث نشاهد منهن جيشاً جراراً يطوف القهوات، والواحدة منهن، على صغر سنها، تسعى في تقليد الكبيرات بحركاتها وغمزاتها ومداعبة الجالسين وتتعود منذ نعومة أظفارها سماع بذيء الكلام والمغازلة السمجة. فإلى كل هذه الأمور نلفت أنظار الحكومة وجمعيات الطوائف المختلفة. فإن صيانة كيان الأمة وأخلاقها وقوتها لفي صيانة آدابها. وكما إننا اتخذنا التحوطات الشديدة ضد الهواء الأصفر، فلنتخذ تحوطات أشد وأعم ضد هواء المفاسد، فإن هذا الوباء أهول فتكاً وأسوأ عاقبة من ذاك.

الشيخ صالح التميمي

الشيخ صالح التميمي 1 ً - تمهيد - شعراء العراق في عهد داود باشا كثيرون. ومع كثرتهم لا يعرفهم إلا القليل. وهذا القليل أيضاً هم من أهل بغداد لا غير. فكأنك قلت أو تقول: لا يعرهم أحد. وعليه فالتنويه بأسماء أولئك الأدباء الأفاضل ضربة لازبٍ على كل من عرف شيئاً من أمر فضلهم أو أدبهم أو علمهم. ولما كنت قد جمعت من الكتب ما يندر وجودها عند الغير لكونها أعز من الغراب الأعصم، أو أعز من الأبلق العقوق. جئت بهذه الترجمة لأنادي بفضل هذا النابغة الذي لا تروى له ترجمة في الكتب التي تروي ترجمة من هو دونه قدراً ومرتبة. 2 ً - ولادته وصوبته - ولد صالح التميمي في قصبة الكاظمية سنة 1180 هجري (= 1766م) وما كاد يراهق إلا وتوفي والده. فلما أصبح التميمي يتيماً ورأى نفسه من الميل إلى الشعر وقرضه ما لا يقوى على دفعه، رحل إلى النجف ليتلقى أصول الأدب واللغة على الشيوخ الأجلاء

أعلام العلم الموجودين في تلك البلدة. وكان في أثناء تحصيله العلم ينظم أغاني تزري بحسن الغواني، ويتناقلها أهل الصقع من لسان إلى لسان حتى طبقت شهرته ديار العراق كلها جمعاء. ولقد وقعنا على تلك الأغاني من الأنواع المشهورة يومئذ في هذه البلاد حتى لا يكاد يصدق أن ناظم بردتها وموشي حبرتها ذاك اليافع النابغ. فقد قال بعد رحلته من الكاظمية إلى النجف ذاكراً أحد أقرانه وقرنائه: يا غائباً غاب السرور لأجله ... ما لذي لي عيش وأنت بعيد إني رأيتك في المنام معانقي ... وأظن أني في المنام سعيد لما انتبهت وجدت روحي وحدها ... الدار قفر والمزار بعيد وقال من الموال وهو في النجف: عصر الصبا فات ما له من رجوع أو عود ... هيهات أسلى بنغمات الأوتار أو عود من لامني لو همت وأضحيت شبه العود ... وأبات بهموم ما تحصى همومي بعد ألماً تناله بالصبوة ما تناله بعد ... يبين شبيك وتبقى بالجهالة عود

وقال من باب العتابة: تخطرت جنها بكرة بلوني ... هذولاً بمحبتهم بلوني ويوم أوافيهم بين بلوني ... صار ما نفع بي الدوا وقال من باب الزهيري: من يوم ساروا فلا جرح القلوب يطيب ... حيث زروع الهنا بفراقهم ما حلا هيهات من بعدم يوم أشوفه إبطيب ... يا محسن للصبر وين الشقي الما حلى من عقب عطر الخدود إيسرني أي طيب ... والله إن الشهد من بعدهم ما حلا هل كيف مر الصبر لي بالفراق إيطيب

وقال من نوع الدوبيت: خليلي لو رأيتني بالضيق ... مربوط بلساني ذا المنطيق خلت قوامي والعروق تقطعوا ... وليس من يشبه لأمري ويفوق هذه أمثلة من نظمه قبل شدوه الأدب على الأصول المتعارفة في المكاتب والمدارس فكيف لا ينتظر منه النظم البديع. ثم من بعد أن تلقى العلم واللغة وآدابها والقريض وأصوله، برع في النظم والنثر حتى فاق من سواه من شعراء العراق في ذلك العصر. 3 ً - شبابه وخلقه - قد ذكرنا أن ولادته كانت في الكاظمية (مدفن الكاظمين موسى ومحمد الجواد) وأنه تلقى العلم في النجف وكلاهما من أشرف المزارات عند الشيعة. ولهذا نشأ صالح شيعياً متمسكاً بمذهبه كل التمسك محتقراً لمذهب السنة بل ومتعصباً تعصباً ذميماً كارهاً لأهل الذمة على اختلاف نحلهم ومللهم. وكان كلما صادف في طريقه ذمياً مهما كان تشهد للحال وغض طرفه. وإذا أتى مجلساً، ورأى فيه ذمياً، لم يدخله. وإذا كان في مجلس ودخل ذمي نهض للحال لكي لا يجتمع تحت سقف واحد معه. وتصرفه هذا أثر في شعره كل التأثير حتى انه كان يحتقر كل كلام نثراً كان أو شعراً صادر من يهودي أو نصراني. وكان صالح مربوعاً حسن الصورة ممتلئ الجسم بدون أن يكون بديناً حنطي اللون، كبير العينين أوطف أبلج كبير الأذنين واسع الجبهة، أسود شعر الرأس بدون أن يكون فاحماً. عريض الوجه أنافياً، واسع الفم ثخين

الشفتين حسن الشاربين، دقيق أسلة اللسان رقيق لحمته، قليل شعر اللحية لطيف الأطراف من يدين ورجلين ناعم ملمس البشرة. 4 ً - أخلاقه - قد سبقنا فقلنا أنه كان متديناً إلا أنه كان متعصباً غاية التعصب، وكان إذا جلس في مجلس لا يرفع صوته بل يغض منه وإذا مشى في الطريق لا يلتفت إلى هنا وهناك، بل سار سيراً متئداً غضيض الطرف. وكان طلق اللسان حسن المحادثة طيب الأخلاق ولاسيما مع أخوانه في المذهب، واسع الحفظ يروي شيئاً لا يقدر من شعر الجاهلية والمخضرمين وصدر الإسلام. وكان يحفظ من النكات أغربها، ومن اللطائف أوقعها في النفس وكانت محاضراته مفيدة جداً، لا يصاحبه أحد إلا وقد استفاد منه فائدة علمية أو أدبية أو شعرية. وكان لا يحتمل تقريظ شاعر بحضوره وإذا سمع شيئاً امتعض من المقرظ امتعاضاً لا يوصف بل وربما عاداه أو قال فيه أبيات هجو وعرّض بع تعريضات لا تليق برجل أديب فاضل راوي أحاديث مثله. 5 ً - نبوغه وبعض مقاطيع من شعره - لما نشأ صالح يتيماً ولم يكن ذا ثروة تذكر، اتخذ الشعر وسيلة للاسترزاق فنجح بل أفلح. وكان أول أمره أنه كان يفد على أعراب خزاعة وكان فيهم يومئذ أدباء أجلاء يقدرون الأدب وأصحابه كل القدر. ووجد في أسرة شيوخها يداً ندية تنضح بسائل بل بجامد ناضر هو النضار، فزاد في ترطيب لسانه وحل ما تعقد منه. وأفادته وفادته حتى قادته إلى أن يكون من القادة بين قالة الشعر. وأخذ يتردد إلى كبراء بغداد ووزرائها الأعلام وعظماء أشرافها الكرام، حتى ذاع

اسمه بين الملا من قاسٍ ودانٍ، بل وانقاد العاصي لشعره وله دان. فبقي في دار السلام متربصاً تحسن الأيام. حتى كانت سنة 1232 هجري (= 1816م) التي وزر فيها داود باشا وكان من محبي المعارف ومنشطي أبناء الأدب وإذا بالسعد قد أقبل يتهادى إليه بين الفوز وبعد الشهرة. وعليه فما كاد الوزير يستقر على منصة الوزارة حتى دعا إليه شاعرنا الشيخ صالحاً، وميزه من بين الكتاب والشعراء، واختصه بنفسه وصار شاعره وجليسه في سره وجهره. واعترافاً بهذا الفضل أنشأ التميمي كتابين وسم أولهما باسم شرك العقول. وغريب المنقول وذكر فيه أيام الوزير المذكور وما جرى في أيامه من المقاتل والمعارك والأحداث. وسم الثاني باسم وشاح الرود. في نظم الوزير داود ودونه جميع ما انشده من الشعر بحقه وبحق ولده وبحوادث أسرته، وحشاه لطائف ونكات جرت في عهده. وكل ذلك بأسلوب شائق تستطيبه الآذان وينبسط له الجنان. وأول قصيدة وشى طرازها للوزير داود هي هذه: زهت الرياض وغنت الأطيار ... وزها المقام ورنت الأوتار وصفا بها العيش الأنيق وروقت ... فيها المياه وجادت الأمطار وعلت على دوح الأراك حمائم ... وتزاهرت بفنائها الأقمار والقصيدة طويلة فيها 52 بيتاً كلها على هذا النمط، نمط انحطاط الشعر بعد عهد العباسين. وقد نظم الشيخ في مديح الوزير وآله ومن ينتمي إليه أكثر من 50 قصيدة. ومما ميزه به الوزير أنه لم يجز لشاعر عراقي أن ينظم أبياتاً لبناء عمومي

من الأبيات المسماة بالتواريخ فقد خص ذلك بالتميمي، ولذا ترى في ديوانه كثيراً من هذه التواريخ كتبت على أبواب المساجد والمدارس والمكاتب. وقد قال الوزير بهذا الصدد: لا يفتى ومالك في المدينة إشارة إلى علو كعبه في هذا المقام. ومما نظمه من هذا القبيل تاريخ أنشأه للسيف الذي بناه داود باشا في الجانب الغربي من بغداد وعلى دجلة في المحل المعروف اليوم برأس الجسر قال: أقسم بالله الذي زينت ... سماؤه بالخنس الكنس إن الذي شيد هذا البنا ... ذو همة بالفلك الأطلس داود ذو الأيدي ومن علمه ... ما حل في شخص سوى هرمس فقل لمن يجهد في مكسب ... من ناطق فيه ومن أخرس أوف إذا كلت ومن بعد ذا ... أرخ وبالميزان لا تبخس - سنة 1240 والسيف هو محل تباع فيه الحبوب ولاسيما الحنطة والشعير. وقد قال فيه تاريخاً ثانياً وقد كتب في محل آخر: دع هرمي مصر وبانيهما ... ولا تقل ذا من عجيب الزمان وانظر إلى دجلة في كرخها ... تجد بناء دونه الفرقدان شيده داود عن حكمة ... تخفى وسر العدل منها يبان لكي إذا باع به واشترى ... ذو سفه يخشى مكين المكان وفي الأقاليم جرى أرخوا ... من يخسر الميزان حكماً يهان - سنة 1240 ومثل هذه التواريخ لا تحصى. إلا أن الذي شهر ذكره في الآفاق

هو تعرضه لخالية بطرس كرامة وقد أشرنا إلى ذلك في الزهور ص 188 - 189 ورد النصراني عليه والجملة ثلاث قصائد قد أصبحت أشهر من قفا نبك بين أدباء العراق. ومن مصنفات صاحب الترجمة كتاب ألفه للشاه زاده أخي علي شاه سماه الأخبار المستفادة من منادمة الشاه زاده ومبنى العنوان يد على معنى الديوان. وفي ذلك العهد عقد عرى الصداقة مع صاحب الحويزة يومئذ وهو السيد عبد علي فنظم له الروضة السائرة ووفد بها إليه سنة 1235 هجري (= 1819م) فأجازه عليها أحسن إجازة. وكان الشيخ من المكثرين في الشعر وله ديوان كبير وكان واسع الاطلاع على أنساب العرب ووقائعهم وأيامهم وتواريخهم. ومن غريب أمره أنه كان لا يسمع شعراً إلا ويعرف قائله ولو لم يذكر له اسمه. ولهذا أحبه الكبار والصغار واتفقوا على موالاته. بيد أنه لم ينظم الشعر إلا في مدح الأمراء والولاة وكبار الحكام ولم يعرض بضاعته على هذا وذاك ولهذا قيل فيه شاعر الأمراء. ومن مميزاته أنه كان سريع الجواب عارفاً بدقائق اللغة وأسرارها لا تخفى عليه خافية وإذا سئل عن شيء فيها، نطق بالجواب بدون تلعثم، وأبدى من السداد أقرب موارده وأعذب مياهه. ولذا صار شعره في البدو والحضر مسير الشمس والقمر، لسلاسته وتدفق مياهه الرائقة. وقد اجتهد حساده أن يخفوا شعره ما استطاعوا لكن لم يفلحوا. وهل يفلح الظالمون؟

وقد شعر شاعرنا بهذه الشائبة شائبة حساده فقال: لا ذنب لي عند حسادي سوى أدبي ... وشهرة دفنوا فيها وما نشروا بلاغة طار في الآفاق طائرها ... في كل قطر لآدابي ولي خبر ولما دالت دولة الوزير داود باشا في سنة 1247 هجري (= 1831م) قدم الوزير علي رضا باشا إلى بغداد فمدحه هو والوزير داود باشا بقصيدة كان لها رنة وطنة منها هذه الأبيات: ظفرت بداود الوزير والمردى ... قوارع خطب لا يفك اصطلامها ولو ظفرت فيه نزار ويعرب ... بيوم هياج والذمام ذمامها فخاطبها مستعطفاً عن حياته ... لعاجله قبل الخطاب حمامها على أنه ما مد كف مسالم ... وترتكب الأمر العظيم عظامها واعلم حقاً أنني إن ختمتها ... بذكر علي قيل مسك ختامها وله قصائد في أنواع الأبواب من زهريات وربيعيات ورثائيات وإخوانيات ما يضيق دون استيعابه في هذا المقال. 6 ً - أفول شمسه ووفاته - المرء كالشمس يبدو صغيراً ثم يكبر ثم يميل إلى الزوال، وكلما طعن في السن ظهرت فيه دلائل وزوال أيامه. وشاعرنا التميمي لم يشذ عن هذه القاعدة المطردة أو كادت تكون مطردة. فإن شعره أخذ بالانحطاط ولم تبق فيه تلك النضارة نضارة الشباب وجدة الإهاب، وكان قد تجاوز السنة الثمانين إذ بلغ الواحدة والثمانين. وكان قد أدرك هذه الحقيقة ولهذا لم يعد ينظم الشعر كما كان ينظمه في عهد الغضاضة، وانقطع للعبادة والزهادة فجاءته المنية وهو في بغداد نهار الخميس

المرأة العصرية

بعد الظهر لست عشرة خلون من شهر شعبان سنة 1261 هجري (= 1844م) وحضر دفنته أناس لا يحصى عدهم، ودفن بجوار الكاظمين وقد رثاه شعراء عصره ومنهم عبد الباقي أفندي العمري والشيخ عبد الحسين ابن الشيخ قاسم محيي الدين وغيرهما. ولم يعقب التميمي إلا ولدين لا غير. أحدهما الشيخ محمد سعيد الشاعر وقد اشتهر بنظمه بعض الشهرة. والآخر لم يكن على أسالٍ من أبيه وقد مات كلاهما ولم يعمرا كأبيهما. وهكذا انقطع نسل هذا الشاعر كأنه لم يلد ولم يولد. وما عيش الفتى في الناس إلا ... كما أشعلت في ريح شهابا فيسطع تارةً حسناً سناه ... ذكي اللون ثم يرى هبابا (بغداد) ساتسنا المرأة العصرية فتحت حضرة الآنسة هدى كيورك باب هذا الموضوع في مقالة أولى أدرجتها في الزهور فرأيت من الواجب علي أن أدافع عن بنات جنسي بما أراه حقاً فرددت عليها بمقالٍ سبق. ولكن حضرتها أعادت الكرة فرأيت أن أعود إلى الموضوع لأنه جليل جدير بالبحث. وقد صادف كلام مناظرتي استحساناً عند الرجال حتى باتوا يشمتون بنا. قالت حضرتها إن المرأة الحكيمة المدبرة التي وصفتها قليلة بل نادرة، لا يجوز أن يبنى عليه حكم عام. وهذا ما أخالفها فيه. فأنا نظرت قبلما

كتبت إلى ما حولي من النساء والبنات فوجدتهن كثيرات بل أكثر من اللواتي وصفتهن في مقالها. فبنيت حكمي عليهن، وصح لي بناء هذا الحكم. وجدت فيهن الإخلاص والوفاء وحسن الإدارة والسهر على الشؤون المنزلية. بل كم رأينا من الوالدين يفضلون البنات على البنين لأنهم وجدوا في البنات تعزية ومعيناً، ولم يروا من البنين إلا إسرافاً وتبذيراً. ألا ناشدتك الله يا هدى هل تعرفين بنتاً مهما أسرفت، أو امرأة مهما تفننت بالأزياء توصلت إلى أكثر ثورة أبيها أو زوجها. ولكن كم من الشبان بددوا الأموال الطائلة التي ورثوها عن آبائهم، وكم من الرجال أطاروا دوطة نسائهم. نظرة إلى من حولنا تثبت صحة ما ذكرت. وقد سبق لي القول، وأعيده الآن، إن معظم ما آخذت به المرأة العصرية من التفرنج والتورط في المودة مصدره الرجال الذين يميلون إلى هذه المظاهر، فهل يرجع كل اللوم إلى المرأة الضعيفة التي تجاريهم؟ وإذا كان لا يصح حجب الأفكار لأننا في عصر الحرية والنور. فأنا أجاريك في ذلك - وإن كانت هذه الحرية اسماً بلا مسمى - وأرى من الواجب أن تنهض المرأة لتدافع عن حقوقها المهضومة فتنالها كاملة وتتوصل إلى المنزلة التي تستحقها في المجتمع الإنساني. وقد أصبحت والحمد لله تدرك ذلك، فرأينا بين أخواتنا الكاتبات والطبيبات والممرضات والمحاميات بين الأشواك بل صار أمامنا حديقة فسيحة من الزنبق يعطر شذاها الأرجاء. هي ليست نجمة صغيرة تحجبها الغيوم بل هي مجموع كواكب

ترصع صدر السماء. وعلينا نحن إذا كتبنا أن نكتب في الحث والتنشيط لا في الملامة والتأنيب. فكفانا من الرجال سوء ظن ببنات جنسنا، حتى باتوا ينسبون ما أكتب وتكتبين على صفحات الزهور الزاهرة إلى أقلام رجال متسترين كأنه لم ينبغ من بنات حواء كاتبات مجيدات وشاعرات بليغات. ولي بأدب مناظرتي وكتاباتها الشائقة خير حجة أدمغ بها من داخله مثل هذا الريب. (بيروت) ادما كيرلس وقد جاءنا في هذا الموضوع رد من صاحب الإمضاء، وقف فيه موقف الحكم بين الكاتبتين قال: بين هدى وأدما أمامي الآن على منضدة الكتابة مجلة الزهور حيث مناظرة الآنستين الأديبتين ص 330، و435، و483. أتسمحان يا سيدتي لهذا القمل الضعيف بأن يجول مع رتبي يراع قوي من الجنس اللطيف، غير متعمد نصرة واحدة على أخرى، فأنتما متفقتان في الموضوع مختلفتان في الشكل. وها أنا أسعى إلى التوفيق بينكما. ملاحظة قبل الموضوع: مقالة الكتابة الأولى أحدثت تأثيراً كبيراً بين شقيقاتها. وسمعتهن مراراً يتحدثن بما كتبت، واسمحي يا سيدتي أن أقول لك: إن أكثرهن كان ناقماً عليك. وهذا برهان يثبت مبدئياً إن ما قلته حق لأنه جرح - ولا يجرح غير الحقيقة. ورد الكاتبة الثانية أرقص بنات جنسها طرباً وعجباً، وتمنين

قطع البحار فعلاً، كما قطعنها شعوراً لمصافحتها أو لتقبيلها - بحسب درجة التأثير - شكراً وامتناناً، لدفاعها عنهن. واسمحي لي يا سيدتي أن أقول لك: إن هذا أيضاً يثبت مبدئياً ضعف بنات الجنس اللطيف فهن يغضبن لأقل ملاحظة تبدى لهن، ولو عن حسن قصد، ومن إحداهن، ويطربن إذا ما ردت واحدة منهن على مغضبتهن - ولو كان الرد لم ينف حقيقة. فهن عشيقات المدح والإطراء طبعاً، مجفلات من أقل نقد وتأنيب. ولنأت الآن إلى الموضوع: قالت هدى: المودة أهلكت بل طلعت دين النساء والرجال معاً - تعبيرك يا سيدتي أخف من تعبيري ولكن تعبير أقرب إلى الواقع على فظاظته - المودة أهلكت النساء لأنهن ضربن صفحاً عن الوصية الأولى من الوصايا العشر، وعبدن الزي، وصلين للتفرنج، وصمن للتقليد. . . والمودة أهلكت الرجال لأن المصاريف أربت على المداخيل، فتطرق العجز إلى ميزانية البيت، وصارت العائلة مضطربة قلقة في كل أحوالها لاضطراب الماديات وتقلقل المال. . وسطت الزخرفات على الواجبات فأهلت المرأة عن زوجها وبنيها، فشغلت عنهم بزينتها - سلسلة متواصلة أدت بالشرق إلى الخمول ومن ظن أن محل الفساد غير هذا فقد أخطأ - هذا ما قالته هدى. أمنت ادما على قول مناظرتها، إلا أنها أخذت عليها عدم عطفها على المتحليات بالفضائل من أخواتها، وهن كثيرات، وعتبت

عليها لإجمالها الكلام، ثم فوقت إلى صدور الرجال أسهماً، لولا أنها من يد الجنس اللطيف الضعيف، لأصابت نحور القارئين لتشفي القارئات - هذا ما ردت به أدما. لم تنف كاتبة بيروت ما أثبتته كاتبة مصر. إذن قول الأولى حقيقي وإن جارحاً، والداء موجود بل عضال يجب الإسراع إلى معالجته وإلا اتسع الخرق على الراتق. أما الرد بأن في الشرق بنات ونساء عرفن واجباتهن وتسربلن بدثار من الفضائل قشيب، فتحصيل حاصل. بمعنى أن الكاتب الاجتماعي ينظر إلى المجموع لا إلى الأفراد، فإذا صحت النظرية على الجماعة وشذ عنها بعض الأفراد، لم ينف الشذوذ صحة المبدأ، بل كان له دعامة موطدة وقد قيل: لا قاعدة بلا شواذ. الحماسة مشكورة يا سيدتي البيروتية ولكن الحرية المطلقة أحق بالشكر وأحرى بالثناء. إذا كنا عمياً لا نبصر وأتينا اختصاصياً ماهراً فجعل لنا أعين زجاج يخالها المرء لأول وهلة عيوناً حقيقية فهل هذه الحيلة تنفي عنا العمى وترد إلينا البصر؟ - إنها في نظر العاقل ألعوبة صبيانية تقلل من مقام فاعلها لأنه شاء أن يغر نفسه ويضحك على ذقون الناظرين إليه، وهو لم يحسن الحيلة. إذا قلنا إن النساء غير كاملات بيننا فذلك لا يفيد أن الرجال كاملون فالرجال في الشرق ولا شك غارقون في بحر من النقائص والشوائب وكما أن وجود أفراد فاضلين من الجنس النشيط لا يدفع المظنات عن الجنس

كله، هكذا قل عن وجود صفوة من النساء الكريمات اللاتي لا يغنين شيئاً عن المجموع وهو وأبيك بعيد عن الكمال. . . كما لا تجهلين. وعليه فالكاتبتان متفقتان على أن في الجنس اللطيف ما يستدعي الإصلاح والإصلاح العاجل، ولم تختلفا على وجود البعض منهن متحلياً بحلى الأدب والفضل. وأكبر شاهد على أن الكتابة الأولى لم تقصد أن تنفي كل مليحة عن بنات جنسها أنها مبدئياً تعتقد أنها هي نفسها على الأقل في معزل عن تلك الشوائب التي تدعو أخواتها إلى الإقلاع عنها. والكاتبة الثانية أثبتت لنا عملياً وجود هذا البعض بما كشفته لنا عن أسرار المرأة الفاضلة وتفننها بالتبديل والتعديل، حتى يخال المرء أن كل شيء عندها جديد حين يكون قد أكل الدهر عليه وشرب. . . كل هذا حسن يا سيدتي والأحسن منه - وإن غاظكن - هو أن تعلمن أن عمار الكون متوقف على حسن رأيكن، وأنا اعتقد أن خراب الكون لا يهمكن كثيراً إذا عمرت الدائرة الصغيرة التي توجد فيها كل واحدة منكن. وعليه فأقول لسيادتكن إن هذه الدائرة التي تعشن بها لا تعمر ولا تصلح إلا بصلاحكن: الود والبنت يتمشيان على آثار والدتهما أكثر من اقتفاء أثر والدهما. والتربية البيتية - وهي أساس كل شيء حسن في العائلة - منوطة بالمرأة دون الرجل. فإذا أقلعت المرأة عن؟ الزخارف والرفارف والمشارف والحرير أحسنت إلى نفسها وإلى أولادها وكل من حواليها. فبالله عليكن يا سيداتي اتركن التفرنج والتزخرف واهتممن قليلاً

إحياء الآداب العربية

بترتيب منزلكن وتربية أولادكن تربية جدية لا تربية دلع وتخنيث، فتشب الأولاد أشد تأنثاً من الإناث إلى آخر ما هنالك من النقائص التي لا تخفى على بصيرتكن - وإذا كنا معاشر الرجال لا نحترم إلا المتفرنجة، وإن كانت محتقرة، ونحتقر الغير متفرنجة، وإن كانت محترمة، فهذا سقوط منا فعلمننا يا رعاكن الله أن نحترم فيكن الأدب والفضل والجد والترتيب والعلم الصحيح، لا أن نحترم القبعة إذا حجبت دائرتها نور الشمس والبرد إذا قيد أرجلكن حتى تتدحرجن وتتزحلقن كلما عثرت قدم لكن - وما أكثر ما تزل القدم في تلك المقيدات! سأغضبكن يا سيداتي بكلامي هذا وإن كان عن حسن نية وسأغضب صاحب الزهور باضطراري إياه إلى نشره، لأنه متفانٍ بخدمتكن، ولكن متى علمتن أنني أطوع لكن من البنان وإنني لا أرى للحياة معنى إلا بوجودكن، حملتم كلامي على محمل الإخلاص. وموقتاً أخفي اسمي خوفاً من غضبكن والسلام على من اتبع هدى. حسون إحياء الآداب العربية ذكرنا في الجزء الماضي (ص 494) المذكرة التي قدمها إلى مجلس النظار عطوفة رئيسه بشأن إحياء آداب العرب وننشر الآن كما وعدنا ملخص التقرير المقدم بهذا الموضوع من سعادة أحمد حشمت باشا ناظر المعارف: رئيس مجلس النظار عطوفتلو أفندي حضرتلري تفضلتم عطوفتكم بدعوتي لدرس المفكرة المقدمة من حضرة أحمد بك زكي عن الأسباب والوسائل المؤدية لإحياء العلوم والآداب العربية بمصر مع

مجموعة الكتب التي استنسخها حضرته بالفوتوغرافية واستحضرها من الأستانة وأوروبا ولقد أمعنت النظر في هاتين المسألتين وأبدي اليوم لعطوفتكم ما أراه في هذا الشأن. إن هذه المفكرة تشرح بأجلى بيان ما كان للقاهرة من التأثير في رفع منار العرفان وترقية الآداب العربية. فإنها بفضل مركزها وعناية أهلها، أصبحت في أوائل العصور الحديثة محطاً لرجال أهل العلم، ومهبطاً لطلاب الفضل. ولقد أشار صاحب المفكرة إلى مبلغ الأريحية التي كان يجود بها ملوك مصر وسلاطينها، وازدهاء رونقها في بلاد الشرق. فكانت النتيجة من هذا العمل المزدوج، أن ظهرت في سماء المعارف العربية كتب جليلة حافلة بالبحث في الموضوعات المفيدة في كل فن ومطلب، ولكن سوء الحظ قضى بأن لا يصل إلى أيدينا من تلك المصنفات الثمينة سوى النزر اليسير. ثم جاء دور الأفول فكان من دواعي الانحطاط أن مصر أضاعت ذخائرها وكنوزها في التقلبات التي أصابتها مما لا فائدة من ترديد ذكراه الآن. فانطفأ ذلك السراج الوهاج، وهبا ذلك الذكاء المصري. بيد أن شعاعاً ضئيلاً من الأمل تبدى في الأفق. فنبعث معه ذلك الذكاء من مرقده، بعد أن كان الناس يظنونه قد دخل في خبر كان ولكنه في الحقيقة إنما كان في سبات لا في ممات والفضل في تجدد هذه الحياة الأدبية راجع إلى محمد علي الكبير وإلى حفيده إسماعيل. لذلك توخى صاحب المفكرة أن يستفيد من هذه اليقظة الأدبية. فأخذ يعمل إلى إيجاد الوسائل اللازمة لتجديد عهد الآداب العربية في ظل خديوينا المحبوب عباس الثاني الذي تعود أن يقفو آثار أسلافه الفخام في سلوك المكارم وتجديد مفاخر المآثر. وللوصول إلى هذه الغاية التي مازال ينشدها واضع المشروع، قد اقترح حضرته تنظيم دار الكتب الخديوية تنظيماً يشمل جميع فروع الإصلاح التي تستوجبها مكانتها، لتأتي بالثمرة المطلوبة، وتقوم بالخدمة الواجبة عليها.

وإنني أوافق حضرته من هذه الوجهة موافقةً تامة، ولذلك شرعت فعلاً في درس هذا الإصلاح درساً دقيقاً، لأتمكن في وقت قريب من جعل خزانة كتبنا النفيسة كفيلة بالقيام بجميع الأغراض التي أنشئت لأجلها، أو التي يحق لنا انتظارها منها، حتى تكون من أقوى العوامل في نشر أنوار العلوم العربية. ثم أشار صاحب المفكرة إلى انه يجب إرجاع المطبعة الأهلية إلى مجيد عملها السابق وذلك بطبع التآليف التي تفخر بها علماء مصر، حتى يتسنى لأهل الجيل الحاضر أن يشمروا عن ساعد الجد، ويواصلوا سلسلة الابتكار في العلوم والآداب التي بدأ بها أجداده الأمجاد. وقد رأى صاحب المشروع من الواجب عليه أن لا يقف عند الإشارة إلى نظريات مبهم أو إبداء رغائب مجردة عن وسائل التنفيذ، مما لا يكون كفيلاً باستكمال وسائل النجاح، فلذلك أفرغ وسعه، وبذل جهده، ولم يضن بشيء من ماله ووقته وراحته، حتى تيسرت له كل الأسباب المؤدية لتحقيق الخطة التي رسمها لنفسه، وذلك أنه قرن العلم بالعمل، فانتهز فرصة الانقلاب الذي حصل في الدولة العلية، وشخص إلى الأستانة وتمكن هناك من استخدام الفوتوغراف في نقل جلائل المؤلفات التي تزدهي بها الآداب العربية، خصوصاً تلك التي كانت فيما مضى من أجمل الذخائر في الخزائن المصرية. ولم تقف همة هذا البحاثة عند حد التنقيب وتلمس تلك الآثار من كنوزها في القسطنطينية، بل واصل سعيه أيضاً في ربوع العلم بأوروبا لاستيفاء كل المعدات ولإتمام عمله على أحسن حال. هذا وقد ألمع في مفكرته بإيضاح وجيز إلى كل واحد من هذه المصنفات النادرة فكتب نبذة قصيرة تكشف عنها اللثام وتبين الفوائد التي تعود على اللسان العربي والأمة المصرية من العناية بطبعها وتعميم نشرها. ولقد رأيت من الواجب أن أستعلم عما إذا كان لهذه المصنفات أو لبعضها أثر ما في دار الكتب الخديوية، أو في إحدى مكتبتي الأزهر الشريف والمجلس

البلدي بالإسكندرية. فوافتني هذه المعاهد الثلاثة ببيانات تسمح لي بالتصريح بأن المؤلفات التي نقلها حضرة أحمد بك زكي لا توجد أصلاً ضمن مكاتبنا ومجاميعنا الأهلية، وأنها لم تطبع حتى الآن، وإن في طبعها نفعاً عظيماً للمتنورين من أبناء مصر وسائر أهل العلم على الإطلاق. ولا ريب في أن حكومة الجناب العالي الخديوي الآخذة بناصر الآداب العربية ستقدر هذه الكنوز حق قدرها وتعمل على اقتنائها، وإضافتها إلى خزانة كتبها النفيسة، خصوصاً وأن معظمها مما جادت به قرائح البارعين من المصريين. وليس من الصواب أن يقف عمل الحكومة الخديوية عند هذا الحد، بل يتحتم علينا أن نبادر إلى السعي في طبعها، بحيث لا يمضي قليل من الزمن حتى تصبح منهلاً سائغاً للقاصد، ومورداً عذباً لكل طالب. ونحن إذا نظرنا إلى أهل الشرق وإلى العلماء المستشرقين في هذه الأيام تراهم جميعاً يتهافتون إلى الوقوف على كل ما له ارتباط بالحضارة الإسلامية. ولا شك عندي في أن الحظ الأوفر في هذه النهضة المباركة ينبغي أن يكون لمصر، إن لم تكن هي القائدة لحركتها والمدبرة لشؤونها، وذلك نظراً لمركزها الطبيعي ولما كان لها من الأيادي البيضاء على العلوم والآداب. وبهذه المناسبة أرى من الواجب أن نشكر المعاهد العلمية الغربية، لما تبذله من المساعي في تأييد هذه الحركة والأخذ بناصرها. ولا غرو فإن المستشرقين الذين تفتخر بهم المدارس الجامعة في بريطانيا العظمى وسائر أوروبا وأمريكا، لا يألون جهداً في العمل على نشر الكتب التي صنفها جهابذة العرب وبحثوا فيها عن شتى الموضوعات. فهؤلاء المستشرقون لا يزالون يدأبون على العمل مع الصبر في التحصيل والدرس، والبراعة في التنقيب والبحث. وبذلك تيسر لهم أن ينشروا طائفة كبيرة من أمهات الكتب العربية النفيسة، وقد يترجمونها في بعض لأحايين إلى لغاتهم، أو يتخذونها موضوعاً لمباحثهم كيما يشاركهم قومهم في الاستفادة منها. وهم بهذا السعي يبثون فينا روح الأمل باسترجاع كنوز آدابنا الشرقية رويداً رويداً ومن المؤكد أن

هذا الأمل لا يلبث أن يدخل في حيز الإمكان ويتحقق في عالم الوجود، إذا ما تعهدته مصر بالقسط الواجب عليها من المساعدة. ولقد آن للحكومة الخديوية أن تعضد العلماء المصريين وتفتح لهم مجال البحث ليتمكنوا من الاستمرار على التنقيب والتأليف فيعيدوا في مصر عصر آبائهم ويصنعوا مثل ما صنعوا. وأرى لإطراد هذه الحركة أن نبدأ منذ اليوم بطبع الموسوعتين اللتين تفتخر بهما مصر والعرب على الإطلاق، وأعني بهما نهاية الأرب في فنون الأدب للنويري ومسالك الأبصار في ممالك الأمصار لابن فضل الله العمري. لأن هذين الأثرين الجليلين قد انعدما من بلادنا في جملة ما أضاعته من الكنوز الغوالي على أثر ما انتابها من الطوارق والطوارئ. ولقد أعيى العلماء الغربيين استكمال هذين الأثرين النفيسين، فلم يوفقوا إلى جمع أشتات هذه الضآلة المنشودة مع ما بذلوه من الجهد في كثير من الأزمان، حتى أتاح الله لأحد مواطنينا فتيسر له بعد متاعب احتملها مدة عشرين عاماً واهتدى لجمع المواد والأجزاء التي يتألف منها هذان السفران، وأثبتها كلها بالفوتوغراف فحق لنا بعد ذلك أن نهنئ أنفسنا على هذا النجاح الباهر. وإذا أخذنا في طبع هاتين الموسوعتين بسعد الجناب الخديوي العالي، الذي تفضل فأظهر عنايته العالية بأمرهما، فلا شك أن الإقبال على اقتنائهما سيكون عاماً عند جميع الطبقات وخصوصاً عند الفئة المولعة بالدرس وأرباب العقول المستنيرة بمصر والشرق بل يتعداهما إلى الجامعات ودور الكتب في البلاد الأجنبية والمستشرقين الذين يقدرونهما حق قدرهما لأنهم استفادوا منهما. وعلى ذلك فإنني أشير بتشكل لجنة من أهل الدراية تختارها نظارة المعارف العمومية لتهيئة هذين السفرين للطبع ويكون من خصائصها النظر في الأصول، وضبطها بالدقة قبل تسليمها للمطبعة الأهلية، لأن الطبع إذا ما باشرته الحكومة الخديوية بنفسها وأشرفت عليه برعايتها، يجب أن يكون مستوفياً لكل أسباب

الكمال ليجيء مناسباً لحاجات العلم والنقد في العصر الحاضر. ورأى أيضاً مخابرة نظارة المالية لتأمر المطبعة الأهلية بتوسيع نطاق القسم الأدبي حتى يتسنى له طبع ثلاث ملازم أو أربع في اليوم الواحد. ولعل سعادة ناظر المالية يسمح بتخفيض شيء من مصاريف الطبع للمعاونة على ترويج هذا العمل الأدبي العميم الفائدة الذي من شانه المساعدة على ترقية الأفكار وتعميم المعارف إذ بفضل هذه المنحة يمكننا أن نزيد في عدد النسخ بغير زيادة في النفقات والأكلاف. وبذلك يتسنى لنا أيضاً تخفيض قيمة الاشتراكات وأثمان البيع تخفيضاً محسوساً يساعد على زيادة الإقبال وتسهيل أسباب الانتفاع. بقي علينا أن ننظر في تدبير المال اللازم للشروع في هذا العمل الخطير وهو متوفر لدينا لوجود المبلغ الاحتياطي في دار الكتب الخديوية فإن هذا الاحتياطي مخصص بطبيعة الحال لإحراز واستنساخ وطبع المحفوظات العربية، وقد بلغ آخر أغسطس الماضي 9392 جنيهاً مصرياً. ويجب الإشارة إلى أن استخدام ذلك المبلغ الاحتياطي في هذا السبيل النافع، ستنتج عنه ثمرة مفيدة لدار الكتب الخديوية من الوجهة المادية المحضة، فضلاً عما يترتب عليه من المزايا الأدبية الكثيرة. وعلى كل حال فلو فرضنا أن هذا المشروع لا يكون من ورائه مغنم مادي، فإن الحكومة الخديوية ينبغي لها أن تغتبط بهذا المسعى الذي يفضي إلى إفاضة نور الأدب العربي في بلاد الشرق، وذلك لأن الجامعات في بلاد الإنكليز والمطابع الأهلية في ديار أوروبا، هي التي تأخذ دائماً على عاتقها طبع المؤلفات الأهلية الكبيرة القيمة الواسعة الحجم ولو أدى ذلك إلى خسارة مالية فادحة وذلك لقصور يد الأفراد عن القيام بما تقتضيه من النفقات الجسيمة. أما مشروعنا هذا فإنه بعيد عن ذلك بالمرة، لما فيه من الكاسب التي تدعو إلى الإقدام عليه والاهتمام بشأنه. فإذا صدفت هذه الآراء والاقتراحات ما أبتغيه لها من حسن القبول لدى عطوفة الرئيس رجوته أن يسمح لي باتخاذ الوسائل اللازمة لإنجاز هذا المشروع

مصر الأدبية

على أحسن حال لكي يزيد في شرف هذا العصر الأسعد، المشمول بيمن خديوينا المحبوب الأمجد، الحامي لواء العلم والأدب، الراغب في تقدم لسان العرب. وفي الختام أرجو عطوفتكم قبول فائق الإخلاص وجليل الاحترام. ناظر المعارف العمومية أحمد حشمت مصر الأدبية مصر تعرف أدباء سورية وهؤلاء يعرفونها! فهي إذا لم تكن منشأ جمهورهم وأمهم الحنون فهي منشأ ومربية كثيرين منهم ولا ريب. عرفت أديب إسحق، وسليم النقاش، وأمين الشميل، وسليم وبشارة تقلا، وخليل اليازجي، ونجيب الحداد، وبشارة زلزل، وإبراهيم اليازجي، من حملة الألوية في طليعة النهضة الأدبية الحديثة. وحضنت يعقوب صروف، وسبلي شميل، وفارس نمر، وجرجي زيدان، ومحمد رشيد رضا، وسليمان البستاني، وداود عمون، وخليل مطران، وسليم سركيس، ورفيق العظم، وأمين الحداد، ويوسف الخازن، وإسكندر شاهين، وداود بركات، وعبد الحميد الزهراوي، وسامي قصيري، وسليم عنحوري وخليل زينية، ونقولا رزق الله، وأمين البستاني، وطانيوس عبده، ومصطفى صادق الرافعي، ونجيب شاهين، وانطون الجميل، وفرح أنطون، ويوسف البستاني، ورشيد عطية، ونقولا حداد، وعبد القادر المغربي، ونجيب هاشم، من حملة الأقلام اليوم. وربت محمد عبده، وقاسم أمين، ومحمود سامي البارودي، وإبراهيم

المويلحي، وعبد الله نديم، وإبراهيم اللقاني، وعلي الليثي، ومصطفى كامل ونشأت أحمد شوقي، وحافظ إبراهيم، وإسماعيل صبري، وفتحي زغلول، وعلي يوسف، وأحمد لطفي السيد ومحمد المويلي، وحنفي ناصف، وولي الدين يكن، ومصطفى لطفي المنفلوطي، وإمام العبد، وعبد الحليم المصري، ومحمد مسعود، وأحمد الكاشف، وأحمد فؤاد، وأحمد نسيم، وأحمد محرم العرب، وعبد الرحمن شكري، ولطفي جمعه وكثيرين آخرين وعطفت علي جمال الدين الأفغاني، وعبد الرحمن الكواكبي، وعبد المحسن الكاظمي. فإذا كان للآداب العربية جنة فمصر جنتها يجري في أرباضها النيل. وإذا كان مجلى لعرائس الأفكار فسماء مصر موحى الشعر وملهم البيان. ولست أدري أفي طبيعة مصر نفسها خاصية الأدب وقد كانت مصر منذ القديم ولا تزال إلى يومنا هذا أم الأدب والمتأدبين، أم هي الحياة فيها توحي الشعر، وتستنزل البيان. وقد قام في وادي النيل في كل زمان شعراء مجيدون، وكتاب أفاضل منذ فتحها عمرو بن العاص إلى اليوم وقد احتلها الإنكليز. ولست أدري - وقد نشأ في سورية شعراء ومنشئون كثيرون - أسباب الفرن بين النفسين المصري والسوري! خذ أدباء اليوم في القطرين تجد ذلك الفرق بيناً ظاهراً. أدباء مصر يبتكرون طريقتهم في كل عصر، وأدباء سورية يقلدون إما الإفرنج وإما الجاهليين. أنا أحب إلي أن تغلب علي لهجة رؤبة العجاج ومهيار الديلمي من أن تتملكني لهجة الفريد ده موسه أو واشنطون ارفنغ. إن لغتي لغة مهيار ورؤبة أهذبها بما يقتضيه يومي من التهذيب

ولكنها ليست لغة موسه أو ارفنغ فتلين لي وتطيعني أو إذا هي لانت أو أطاعت فليس وسطي وسطها، وحياتي حياتها، وإقليمي إقليمها، وبياني بيانها. ولعل مثل هذه النظريات هو ما ابتعد بأدباء مصر عن مثل هذا التقليد. أو لعل الأقاليم الحارة تطبع أهلها على حب الملاهي فيتولد فيهم الخيال والابتكار ويلهمون الجديد والبيان فإذا هم اقتبسوا عن الإفرنج فالمعاني والأغراض ليس الطريقة والبيان. أو لعل حكومات مصر كانت العامل على ذلك بإطلاقها الأفكار وتنشيطها الأدباء؟ ذكرت هذه العوامل وفي اعتقادي أن العامل الأكبر والأقوى إنما هو مدينة مصر ومصر الحديثة أرقى الأمصار الشرقية مدينةً ولا ريب. انظر إلى تاريخها منذ فتح العرب مصراً وامتزجت مدينتهم فيها بمدينة الأقباط المتسلسلة من الفراعنة والورم والفرس والكلدانيين والآشوريين وغيرهم إلى أن تولاها الأتراك ثم دخلها الفرنساويون وإلى أن احتلها الإنكليز فتهافت عليها الغربيون من كل صوب، نجدها مزيجاً من مدنيات مختلفة متباينة وقد بلغت اليوم شأواً بعيداً من الرقي أو ليس في بعض هذا متسع للقول بأن مصر أرقى من سورية في الحضارة وأن الآداب إنما تتكيف بتكيف الحضارة وتمشي مع المدنية في طريق واحدة؟ رب قائل يقول إن أدباء سورية الذين هاجروا إلى مصر إنما هم الذين كانوا زعماء النهضة الأدبية الحديثة فيها. فأنا لا أنكر ذلك ولكنني أرى أيضاً أنه لولا مدينة مصر ولولا الاستعداد الذي وجده أولئك الزعماء في حكومة مصر وبلاد مصر، لما استطاعوا أن ينهضوا تلك النهضة الصحيحة،

وإلا فلماذا - وهم سوريون - لم يرقوا بالآداب في سورية إلى الحد الذي رقيت إليه في مصر؟ ذلك أنهم استطاعوا أن ينهضوا بسورية نهضتهم بمصر ولكن مدنية سورية لم تكن عوناً لهم في عملهم الشاق فوقفت تلك النهضة في منتصف الطريق. إذا وصف حافظ قلم المرحوم الشيخ محمد عبده بقوله: إذا مس خد الطرس فاض جبينه ... بأسطار نور باهر اللمعات كأن قرار الكهرباء بشقه ... يريك سناه أيسر اللمسات فلأن حافظاً عرف الكهرباء فلما لامسها اهتز. ولما مس لولبها أنارت فأوحى إليه هذا العلم ذلك المعنى فقاله بذلك البيان المأثور عنه. يقول كارليل الكاتب الإنكليزي المشهور إن كل إنسان خلق شاعراً وإنما تتفاوت قوى الشاعرية فيه بتفاوت قوى عواطفه وبيانه وبتفاوت قوى المؤثرات المحيطة به. والمصري حواليه من مدنيته وفطرته وطباعه وعاداته وأخلاقه ألوف من المؤثرات تستفز نفسه. وتستثير فؤاده، غير أني - والمجال لا يسمح بتعدادها - أتجاوز عنها إلى إحداها فأذكرها بالإيجاز وهذا المؤثر الذي أريده هو الغناء. أنا لا أعرف إلى اليوم مصرياً واحداً ليس يستخفه طرف الإنشاد ولا يذهب بلبه الصوت الحسن. خذ أياً شئت في مصر وأسمعه يا ليل ثم انظر إليه تره طرباً ثملاً يتلوى تلوي المغني في غنائه. ويتمايل معه كيف مال ويرقص رقص الدف بيد الناقر عليه وينتفض انتفاض الأوتار تحت ريشة العواد. فالمصري كما ترى يؤثر في الغناء كل التأثير فكيف به

إذا كان شاعراً والشاعر كما قال شوقي: خلق الشاعر سمحاً طرباً. . . شوقي أطربه عبده الحمولي بقوله: يا ليل فقال فيه: يسمع الليل منه في الفجر يا ليل فيصغي مستمهلاً في فراره وهزه إنشاد المغني يا ليل الصب متى غده فقال أبياته الجميلة: مضناك جفاه مرقده وإسماعيل صبري طرب لغناء بعضهم فنظم له القد المشهور: قدك أمير الأغصان وخليل مطران استخفه الطرف فنظم لمغنيه الدور المغروف: الكمال في الملاح صدف ومراد فرج المحامي استفزه صوت مطربه فكتب له الدور المعروف أيضاً: سلمت روحك يا فؤادي والغناء في مصر أشهر من أن يوصف. فإذا قيل أن الموسيقى أخت الشعر وجدت مصراً مصداقاً لهذا القول ولا ريب: والغناء كما قلت أحد المؤثرات المحيطة بشعراء مصر فهو يستفز نفوسهم. ويستثير عواطفهم فيطربون له. ويهيج شاعريتهم. فيستنزل على ألسنتهم الإلهام ويوحي البديع إلى بيانهم. فيعمدون إلى الابتكار. وينبذون التقليد. هذه كلمتي في مصر الأدبية وأنا أعلم حق العلم أني لم أستوف الموضوع حقه ولا نظرت فيه من جميع أطرافه كما يقتضي البحث الدقيق. - (البرق) أمين تقي الدين

المراسلات السامية

المراسلات السامية وعدنا القراء في الجزء الفائت بإتحافهم بالمراسلة الشعرية التي دارت بين أميرين من أمراء القريض، المرحوم محمود سامي باشا البارودي والأمير شكيب أرسلان اللبناني. وهي قصائد غراء لم يسبق نشرها قبل الآن، تكاتب بها الشاعران أيام كان البارودي منفياً في جزيرة سيلان - كما سيجيء في ترجمته التي سننشرها قريباً. وكان سعادة الأمير الأرسلاني قد استشهد في بعض كتاباته أولاً وثانياً بأبيات للبارودي، وذلك على غير معرفة شخصية بينهما فكتب محمود باشا إلى الأمير بالمقطوعة الآتية: أشدت بذكرى بادئاً ومعقباً ... وأمسكت لم أهمس ولم أتكلم وما ذاك ضناً بالوداد على امرئ ... حباني به لكن تهيبت مقدمي فأما وقد حق الجزاء فلم أكن ... لأنطق إلا بالثناء المنمنم فكيف أذود الفضل عن مستقره ... وأنكر ضوء الشمس بعد توسم وأنت الذي نوهت باسم ورشتني ... بقول سرى عني قناع التوهم لك السبق دوني في الفضيلة فاشتمل ... بحليتها فالفضل للمتقدم ودونكما يا ابن الكرام حبيرة ... من النظم سداها بمدح العلا فمي فأجابه الأمير بما يأتي: لك الله من عان بشكر منمنم ... لتقدير حق من علاك محتم وشهم أبي النفس أضحى يرى يداً ... تذكر فضل أو جميل لمنعم رأى كرماً مني تذكر قوله ... فدل على أعلى خلالاً وأكرم ولو كان يدري فاضل قدر نفسه ... رأى ذكره فرضاً على كل مسلم

أيعجب من تنويه مثلي بمثله ... لعمري الذي قد شق في شعره فمي ومهما يكن من أعجم فبفضله ... يرى ثقفياً في الورى كل أعجم إذا مطر الغيث الرياض بوابل ... فأي يد للطائر المترنم إذا ما تصبت بالعميد صباحة ... بوجه فما فضل العميد المتيم وهل ينكر الإحسان إلا لآمة ... وينكر حسناً غير من طرفه عمي وهل في شهود الشمس أدنى مزية ... وقد جاء ضوء الشمس لم يتكتم رويدك لا تكثر لدهرك تهمة ... ولا تيأسن من أهله بالتوهم فما زال من يدري الجميل ولم يكن ... لتأخذه في الحق لومة لوم وأنت الذي لو أنصف الدهر لم يكن ... لغيرك في العلياء صدر التقدم جمعت العلى من تلدها وطريفها ... فجاءت كعقد في ثناك منظم غدت خطتي إما يراع ومخدم ... وأنك قطب في يراع ومخدم ولم أر كفاً مثل كفك أحسنت ... إلى المجد أرعاف المداد مع الدم جمعتهما جمع القدير بكفه ... إلى محتد سام إلى المجد ينتمي ولو كان يرقى المرء ما يستحقه ... إذاً لبلغت النيرات بسلم وأنت الذي يا ابن الكرام أعدتها ... لأفصح من عهد النواسي ومسلم وأنشرت ميت الشعر بعد مصيره ... لأعظم نثراً من رفات وأعظم وأشهد ما في الناس من متأخر ... يدانيك فيه لا ولا متقدم ولو شعراء الدهر تعرض جملة ... لمنجدهم من كل حي ومتهم لأبصرت شخص البحتري منك بحتراً ... وخلق أبي تمام غير متمم لك الآبدات الآنسات التي نأت ... وأنست عكاظ الشعر بل كل موسم

لكم أسهرت جفن الرواة وخالفت ... حظوظك منها شرد غير نوم شغفت بها طفلاً فأروي بديعها ... ولم أرو من وجدي بها نار مضرم ولا عجب أني أحن صبابةً ... فيسري الهوى بالقول للمتكلم أفي كل يوم فيك وجد كأنه ... طوى جانحاً مني على نار ميسم أحمل ريح الهند كل تحية ... فكم من صبا منها عليك مسلم وقد طالما حدثت نفسي وعاقني ... ترددها ما بين أقدم وأحجم حلفت بما بين الحطيم وزمزم ... وبالروضة الزهرا ألية مقسم لألفيت عندي دوس مشتجر القنا ... وخوضي في حوض من الطعن مفعم أقل بقلبي في المواقف هيبة ... وأهون من ذاك المقام المعظم وهب أنني باز قد انقض أشهب ... فهل يطمع البازي بلقيان ضيغم ولكن لي من عفو مولاي ساتراً ... فها أنا ذا منه به بت أحتمي أمحمود سامي إن يك الدهر خائناً ... وطال عليك الزجر طائر أشأم فما زالت الأيام بؤساً وأنعماً ... وحظ الشقا بالمكث حظ التنعم ولولا الصدى ما طاب ورد ولا حلا ... لك الشهد إلا من مرارة علقم عسى تعتب الأقدار والهم ينجلي ... وينصاح صبح السعد في ذيل مظلم وأهديك في ذاك المقام تهانئاً ... حبيرة مسدٍ في ثناك وملحم (لهذه الرسائل بقية) شكيب أرسلان

ونفسك فابدأ بتصويرها ... بما أنت من خالدٍ فاعل وإلا مضى الجسم مع رسمه ... ولا يخلد الزائل الزائل (نظم صاحب الرسم وهو في الخامسة عشرة من عمره) عبد بلا ثمن يا من أقام فؤادي إذ تملكه ... ما بين نارين من شوق ومن شجن تفديك أعين قوم حولك ازدحمت ... عطشى إلى نهلة من وجهك الحسن وتستعيذ إذا ألفتك مبتسماً ... من لؤلؤ بالنهى حرزاً من الفتن جردت كل مليح من ملاحته ... لم تتق الله في ظبي ولا غصن فاستبق للبد بين الشهب رتبته ... تملكه في أفقه عبداً بلا ثمن إسماعيل صبري

أزهار وأشواك

أزهار وأشواك صنعة زوجي؟ بين ضيوفنا الكرام في مصرا لآن تلك التي ستجلس يوماً ما على عرش من أعظم عروش العالم، أعني بها قرينة ولي عهد ألمانيا. رافقت زوجها، ولي عهد اليوم وإمبراطور الغد، في قسم كبير من سياحته لتعرف البلاد وتطلع على شؤون الأمم. وقد نزلت في ربوعنا، في أرض داسها قبلها رجال عظام ونساء شهيرات، فعلى الرحب والسعة. . . حكاية صغيرة عن هذه الأميرة الكبيرة: كانت البرنسيس تهتم بإيجاد عمل لإحدى الأوانس. واتفق أنها قرأت في إحدى الجرائد إعلاناً من صاحب أحد المخازن يطلب فيه دموازيل مساعدة في البيع. فرأت الأميرة أن تقصد صاحب المخزن بنفسها لتوصيه بالآنسة. دخلت إلى المخزن، وقد صبغ الحياء جبينها، وقالت مترددة: قرأت إعلانك في الجريدة. أنت تريد مساعدة. . . فتبسم التاجر - ولم يكن يعرف الأميرة - ووضع يده على كتفها قائلاً: بكل أسف يا ولدي، لا أرى شكلك موافقاً. ولكن لا بأس، عودي إلى بعد شهر وأحضري معك ما لديك من الشهادات. . . . ما اسمك؟ - سيسيليا - وهل أنت متزوجة؟ نعم - وما صنعة زوجك؟ - الآن. . . لا شيء. ولكنه سيكون يوماً. . . إمبراطوراً. إدارات البريد قرأت في الصحف الإنكليزية أن حركة البريد في مدينة لندرا قد

ثمرات المطابع

زادت في الأعياد الأخيرة نحو 75 في المئة. فقد وزع في أسبوع العيد 25 مليوناً من الرسائل. وقد جرى كل ذلك بأتم انتظام ولم يتأخر التوزيع إلا في مئة ديك رومي و250 إوزة و800 طرد من الطيور الداجنة و200 طرد من الزبدة والبيض وذلك لنقص في العنوان. وقد أعلنت مصلحة البريد أمر هذه الطرود وسلمتها إلى أصحابها بعد أن أثبتوا شخصيتهم ثم كان هناك شيء من الطرود يخشى عليها من العطب والتلف إذا تأخر تسليمها فكانت المصلحة تبيعها وتحفظ ثمنها لأصحابها. انقل ذلك لمصالح البريد في بعض الأنحاء حيث يخطف كل عدد من الزهور غير مؤمن عليه. وأكتفي اليوم بهذه الإشارة، راجياً أن لا اضطر إلى التصريح. . . حاصد ثمرات المطابع ظهر القسم الثالث من كتاب دروس التاريخ الإسلامي تأليف حضرة الكاتب البليغ الشيخ محيي الدين الخياط وقد سبق لنا الكلام عن هذه الدروس عند صدور الجزئين الأولين منها. أما القسم الذي أمامنا فهو يتناول مجمل تاريخ بني أمية وهو مزين بخريطة الدول العربية الإسلامية.

وظهر أيضاً الجزء الثاني من كتاب سمير الليالي الذي وضعه محمد أفندي الصوفي السكري وقد تكلمنا عنه عند صدور الجزء الأول منه ومجمل أبحاثه جغرافية. أما هذا الجزء فقد دون فيه أشهر الحوادث التاريخية وأورد معلومات شتى وفوائد كثيرة. الحمل خارج الرحم: رسالة طبية وضعها حضرة العالم الدكتور محمد أفندي عبد الحميد طبيب مستشفى قليوب، بحث فيها بحثاً دقيقاً موضوع الحمل فأورد أقوال نُطس الأطباء في هذا الموضوع وأردفها باختباراته الشخصية ويسرنا أن نرى كثرة الكتابة عن هذه الموضوعات الاختصاصية في اللغة العربية مما يدل على نهضة حقيقية. فنثني على حضرة الدكتور عبد الحميد وننتظر منه متابعة أبحاثه في لغتنا. ضحايا البشرية: مجموع مقالات عمرانية انتقادية من قلم حضرة الأديب ندره أفندي نقولا ألوف. لهجتها تدل على ثورة في صدر كاتبها انفجرت بزفرات كلها تألم مما يؤلم ومما لا يؤلم من هذه البشرية التي لا تعد ضحاياها. والذنب تارة على المجتمع الإنساني وتارة على الأفراد أنفسهم الذين يذهبون ضحية جعل معنى الحياة. وقد كتبت مقدمة هذه المقالات حضرة المنشئة الأديبة السيدة لبيبه هاشم صاحبة فتاة الشرق.

من كل حديقة زهرة

القواعد الحسابية للأعمال التجارية والزراعية: وضع هذه المجموعة حبيب أفندي داود بحري وجمع فيها جملة قواعد حسابية كثيرة الأهمية في القسم الزراعي كتضريب قيم الفدان والقيراط والسهم معاً بأية فئة كانت وتضريب قيم الأردب والكيلة إلخ. وفي القسم التجاري قواعد الفائدتين البسطة والمركبة وقواعد الشركة وكيفية تقسيم الخسائر والأرباح. لباب الخيار في سيرة المختار: لمؤلفه الكاتب القدير الشيخ مصطفى الغلاييني منشئ النبراس ومدرس العربية في المكتب السلطاني البيروتي صدره بلمحة إجمالية من حالة العرب وعاداتهم وممالكهم قبل الإسلام. ثم تناول سيرة نبي الإسلام وما تخللها من الحوادث التاريخية الخطيرة بأسلوب لذيذ مفيد. رفيق الجندي المسيحي: دعي المسيحيون إلى الخدمة العسكرية بعد إعلان الدستور فرأى حضرة الفاضل الأبد يواكيم الفرنسيسي أن يضع لهم هذا الكتاب المفيد حيث تكلم عن شرف الخدمة العسكرية وحب الوطن وممارسة الفضائل المتحتمة على من ينخرط في سلك الجندية. من كل حديقة زهرة * يباع كل يوم في باريس سبعمئة ألف كارت بوستال مصورة.

* في أمريكا مئة امرأة تنفق الواحدة منهن على ملابسها في السنة 150 ألف فرنك، وألف امرأة تنفق 75 ألف فرنك، وعدد لا يحصى تنفق الواحدة منهن من 30 إلى 40 ألف فرنك. ولإحداهن ولع خاص بالمناديل الثمينة فلا يكلفها المنديل الواحد أقل من جنيه. * افتتح في بروكسل متحف للجرائد. ومنشئوه فان دن بريك كان قد جمع 35 ألف نسخة من جرائد مختلفة. وهي أكبر مجموعة من هذا النوع وقد أهداها صاحبها المذكور إلى المتحف الجديد مع سبعمئة كتاب عن الصحافة والصحافيين. ولدى متحف الصحافة هذا خمسة آلاف نسخة مزدوجة للمبادلة. * يقدر رئيس قلم الإحصائيات في الولايات المتحدة قيمة الهدايا التي تبودلت في بلاده بمناسبة أعياد الميلاد بخمسمئة مليون فرنك. هذا ما عدا التقادم المالية من المصارف والشركات والمحلات التجارية إلى مستخدميها. وقد وزعت البنوكة من هذا القبيل 50 مليون فرنك تقريباً، وأهدت جمعية احتكار الفولاذ إلى عمالها معاشات قيمتها 60 مليوناً. * اقترح أحد النواب الفرنسويين على المجلس سن ضريبة مقررة على حملة الأوسمة والنياشين. * مضى قرن كامل على احتكار التبغ في فرنسا. وقد باعت الحكومة في السنة الأولى بمبلغ 60 مليون فرنك وهي تبيع الآن سنوياً بمبلغ أربعمئة وخمسين مليوناً وبلغ ربحها الصافي في هذه المدة خمسة عشر ملياراً ونصف مليار. كل هذه المبالغ ذهبت دخاناً في الفضاء.

ختام السنة الأولى

ختام السنة الأولى هذا الجزء هو الجزء الثاني عشر والأخير من السنة الأولى للزهور التي تتألف منها الآن مجموعة من أنفس ما جادت به قرائح مشاهير كتاب العرب في هذا العصر. ويرى القارئ من إلقاء نظرة على الفهرس العام عدد وشهرة الكتاب الذين حصلت إدارة هذه المجلة على مساعدتهم بالتحرير لتكون الزهور كما وعدنا عند صدور الجزء الأول رابطةً بين أدباء الأقطار العربية، لأن المقصود من المجلة أن تكون معرض أقلام مختلفة لا مجموع مقالات من قلم كاتب واحد. وكلما كثر عدد محرري المجلة زادت قيمتها وزاد الإقبال عليها. هكذا نفهم المجلة وهكذا عملنا على أن تكون الزهور فتحققت آمالنا بفضل أنصار الأدب وأعوان العلم. ويحق اليوم للزهور بعد قطع المرحلة الأولى من عمرها أن تنافس بمحرريها وهم من أشهر من حمل قلماً عربياً، وأن تفتخر بقرائها وهم الطبقة الراقية من الأمة العربية. وستظل عاملة على إرضاء مشتركيها بالتحسن المتواصل والاحتفاظ بخطتها الأدبية المنزهة عن الشخصيات والتحزبات الجنسية والمذهبية. وإذا حق لها هذا الفخر فإنه يجب عليها إسداء صميم الشكر للمحررين فيها ولقرائها ووكلائها الأدباء على مؤازرتهم لها، ولحضرة صاحب مطبعة المعارف ومديرها وعمالها النشطين على ما بذلوه من سبيل حسن الطبع والترتيب مما صادف استحساناً كبيراً عند أصحاب الذوق. أحسن قصيدة وأحسن مقالة طالعت أيها القارئ في الاثني عشر عدداً من الزهور المجموعة لديك مقالات وقصائد كثيرة ولابد من أن تكون فضلت واحدة منها على سواها. فنقترح الآن عليك أن تكتب لنا عن المقالة أو القصيدة اللتين حازتا تفضيلك. - ومتى اجتمعت لدينا الأجوبة الكافية ننشر عنوان القطعتين اللتين تنالان أكثر الأصوات. -

العدد 12

العدد 12 - بتاريخ: 1 - 3 - 1911 السنة الثانية نودع اليوم السنة الأولى من حياة هذه المجلة ونستقبل السنة الثانية قطعت الزهور المرحلة الأولى من عمرها وهي لم تر إلا ابتسامة الرضى من المنشطين، ولم تسمع إلا كلمة التشجيع من القراء والمشتركين. قطعت الشوط الأول في مضمار النهضة الحديثة، وأقلام أعلام الأدباء تحدق بها فتقيها كل عثرة، ونفثات كبار الكتاب والمفكرين تحوم حواليها في كل خطوة. فأدركوا بها الغاية التي وضعتها نصب عينيها منذ وجودها. ظهرت هذه المجلة وقد غص عالم الأدب بالصحف والمجلات ومع ذلك فقد أتيح لها أن تفسح مجالاً واسعاً وتحرز لنفسها مقاماً سامياً. ندون ذلك في مطلع السنة الجديدة لا فخراً ولا مباهاة، ولكن إقراراً بفضل مشاهير الأدباء الذين خصوها بنفثاتهم الرائقة، واعترافاً بكرم القراء الذين شاؤوا أن يروا فيها الصحيفة الأدبية التي كانت إليها نفوسهم تائقة. فكان إقبال أولئك على تحريرها داعياً إلى إقبال أولاء على اقتنائها. قلنا في أول مقالة رسمنا فيها للقراء خطة هذه المجلة أننا سعينا لجعلها

رابطة بين كتاب الأقطار العربية حتى يتعارفوا وتتمكن فيما بينهم أواصر الأدب. ونشرنا إثر ذلك أسماء الكتاب والشعراء الذين وعدونا من أنحاء مختلفة بإبراز بنات أفكارهم على أوراق الزهور. ولم يكونوا بالنفر القليل. فأثنى الجميع على هذه الخطة الجديدة وأجمعوا على استحسان هذه الفكرة ولكن فريقاً أبى عليهم تحفظهم إلا أبداء الشك في التمكن من تحقيق هذه الأمنية العزيزة. وهي حمل أُدباء العرب على الاشتراك في تحرير صحيفة تكون لسان حالهم. واقروا بأنه لو أتيح لمجلة أن تجمع هذه الشتات لكانت في مقدمة المجلات. غير أننا لم ندخر وسعاً للوفاء بما وعدنا كما يتبين لك ذلك من مراجعة أسماء من وعدنا بنشر كتاباتهم وأسماء من ساعدونا فعلاً وهي مدونة في فهرس السنة الأولى. فتجد أن عدد الكتاب الذي اشتركوا في تحرير الزهور يناهز المئة وهي نتيجةٌ نفاخر بها لأن المجلة الحقيقية - كما ذكرنا في أحد الأعداد السالفة - هي معرض أقلام مختلفة، لا كتابة عن مجموعة مقالاتٍ لكاتب أو كاتبين. وقد وعد عموم هؤلاء الكتاب بالمثابرة على إتحاف قرائنا بدرر أقوالهم. وفاوضنا غيرهم أيضاً بهذا الشأن فكان مثل من تقدمهم مدعاةً لنزولهم أيضاً إلى هذا الميدان. أبواب المجلة وسنحفظ التبويب الذي سرنا عليه حتى الآن فقد صادف استحسان العموم وهو: 1ً - باب المقالات التي يدبجها مشاهير الكتاب في موضوعات متنوعة

2ً - في جنائن الغرب ننشر تباعاً تحت هذا العنوان خير ما يؤخذ عن آداب اليونان والرومان والفرنسيين والانكليز والألمان والايطاليان والروس وغيرهم من الغربيين قديماً وحديثاً لأن ذلك يكسب لغتنا ثروة طائلة من المعاني الجديدة والمباني الحديثة. كما ترى في مجموعة السنة الأولى. 3ً - في حدائق العرب ننشر فيه صفحات مطوية من خير ما قاله الغابرون من كتاب العرب لأن لدينا كنوزاً مدفونة نحن في أشد الحاجة إلى الانتفاع بها. 4ً - في رياض الشعر نعرض في هذا الباب عرائس القصائد التي يزفها إلى قرائنا أشهر شعرائنا. - ولما كانت قد تراكمت علينا مواد هذا الباب حتى تكاد تضيق عنها صفحات هذه المجلة ولو خصصناها كلها بالشعر رأينا إحالة كل ما يأتينا من هذا القبيل على لجنة مؤلفة من ثلاثة من شعرائنا المعروفين ينتقون منها ما يرونهُ ملائماً للنشر. أو يقولون كلمتهم في تلك القصائد إذا أراد ناظموها. 5ً - أشواك وأزهار يوالي تحرير هذا الباب صديقنا حاصد الذي عرفهُ القراء منتقداً دقيقاً بين الجد والهزل. أما نقد الكتب على الطريقة التي سلكناها فسنتابعهُ كل ما وقع لدينا كتاب يستحق الإفاضة في البحث. الوكلاء والاشتراكات طلب الكثيرون منا أن يكونوا وكلاء للزهور في أنحاء مختلفة. وكنا لا نجيب دائماً إلى طلبهم لأن الدفع سلفاً قد أغنانا عن كثرة

الوكلاء على أن من رغب في أن يكون وكيلاً لهذه المجلة عليه أن يجد لها على الأقل ستة مشتركين جدد. أما دفع الاشتراكات خارج العاصمة فنطلبهُ مقدماً. وأفضل طريقة لإرسال البدل هي حوالة على بوسطة مصر أو على أحد المصارف المعروفة. المبادلة والهدايا وقد أكثر أيضاً عدد الزملاء الذين يطلبون مبادلة الزهور على أن كثرتهم تحول دون إجابة طلب الجميع. وقد جاءنا في السنة الماضية ما يناهز المئة صحيفة أو مجلة أو نشرة مع طلب المبادلة. ولا يخفى أن إجابة الجميع من المتعذرات. وأكثر من ذلك عدد الأندية والجمعيات المختلفة التي تكتب لنا تستهدينا المجلة خدمة للأدب وإحياءً للمشروعات العلمية وهذا جلُّ ما تتمنى ولكن كثرة الطلب اضطرتنا إلى الرفض وكل ما في الإمكان حسم 30 في المئة من أصل الاشتراك لهذا الأندية شأننا مع طلبة المدارس. الكتب أعلنا في بداية السنة الماضية أن إدارة المجلة مستعدة لتقديم كل الكتب التي يطلبها المشتركون مع تنزيل يُذكر من أصل الثمن وذلك خدمة للقراء الذين كثيراً ما لا يعرفون أين يجدون مطلوبهم. وقد طلب منا في أثناء السنة 270 كتاباً تقريباً. ولما كانت الطلبات تتكاثر يوماً عن يوم رأينا أن نتفق مع أصحاب المكتبات الشهيرة لتكون المفاوضة معهم رأساً مع حفظ حقوق خصوصية لمشتركي الزهور سنعلنها مع اسم هذه المكتبات في عدد قادم.

إيماءة زائر

إيماءة زائر إلى بعض ما بأورشليم وبيت لحم من الصدقات الجاريان والمآثر الباقيات إن شوقي إلى أول أرض طلعت عليها شمس الإنجيل حملني هذه السنة على زيادة أورشليم وبيت لحم. فأبحرت من بيروت يوم الجمعة ثالث حزيران ومعي ابن عمي ميخائيل فانتهت بنا الباخرة إلى مدينة يافا عصر السبت ونزلنا عند الآباء الفرنسيسيين الكرام. وبعد ظهر الأحد علونا متن الباخرة البرية نريد بيت المقدس فلم ينقض إلا أربع ساعات حتى نعمت العين برؤية المدينة المقدسة لكن لا بالأعمال الصالحة بل بقتل الأنبياء ورجم المرسلين وصلب المسيح. ولقد تذكرت والقطار بنهب تحتنا الأرض ما كان القدماء يكابدون من مشاقِ السفر ومكارهه فقلت أين سرعة تلك اليعملات والهملَّعات والعُذافرات من سرعة هذا القطار. وأين العصور الخالية من عصر البخار والكهرباء الذي انبسط فيه سلطان العقل على القوى الطبيعية فسخرها لخدمة الجمعية البشرية حتى هان الصعب ولأن القاسي. ودنا العاصي. فصار يتسنى لنا السفر إلى الأرض المقدسة بل إلى أقصى المعمور براحةٍ وأمان حتى إذا قلنا السفر راحة ونزهة لا نكون قد أخطأنا كما أن

الذين قالوا السفر قطعة من العذاب لم يخطئوا فكل يصف السفر على ما هو في عصره. هذا ولقد رأيت هنالك من آثار رجال الفضل والخير الحاملين لواء المحبة البشرية ما دعاني إلى أن اكتب هذه الرسالة القصيرة إشادة بذكرهم وإثارةً لما في أفئدة غيرهم من كامن الرحمة وقد استحسنت أن أقدم على ذلك كلاماً في دواعي التعظيم والتكريم لتلك الديار الفلسطينية فأقول لا بدَّ لتفضيل بقعةٍ على بقعة من داعٍ ذاتي أو داعٍ خارجي. أما الداعي الذاتي فهو جودة التربة وطيب الهواء وعذوبة الماء ولذة الثمار وحسن الموقع والخصب. وأما الداعي الخارجي فهو ما يأيتها أما من رجل ممتاز بعلمٍ أو باختراع، وأما من حادثة عظيمة تقع فيها كذي قار والجفار وذات الرمرم وهي مواضع جرت فيها وقائع حروب فقالوا: يوم ذي قارٍ ويوم الجفار ويم ذات الرمرم. فكل بقعةٍ توصف بإحدى هاتين الصفتين أو بكلتيهما تحوز الكرامة في عيون الناس. فهل شغف الناس بزيارة الأرض المقدسة إلا لما طبعوا عليه من العناية بحفظ آثار العظماء والفضلاء وكل من عرف بمنقبة أو اشتهر بحادثة كبيرة أو باختراع نافع فهم يتغالون بأثمانها ويتفاخرون بإحرازها. فيا لحسن بخت من توجد عنده اليوم رسالة بخط ذي القرنين مثلاً أو بخط إسناده أرسطو الفيلسوف فيتزاحم أغنياء الغربيين على اشترائها بأغلى ثمن كما يتزاحمون على شراء جوهرة كبيرة

صافية فهم يتخذون مثل ذلك حلية خزائنهم وآية عظمتهم. وكما طبعوا على العناية بحفظ آثار العظماء طبعوا أيضاً على الحنين إلى كل بلدٍ نبغ فيه فاضل أو خرج منه عظيم حتى إذا حانت لهم فرصة لزيارته اغتنموها تبريداً لغلة الشوق بلقائه أن حياً وبرؤية بلده أو بيته أو رمسه أن ميتاً فهذا عاهل الألمان قد زار يوم كان في دمشق قبر صلاح الدين الأيوبي ووضع عليه أكليلاً أجلالا لذلك الملك المشهور بالبسالة والحزم ولم يردّه عن تكريم الرمس ما كان بين ضجيعه وبعض ملوك الألمان من الوقائع الحربية. ولقد جربت ذلك بنفسي فإني لما كنت العام الماضي في طريق حلب لم أكد أحول نظري عن جهة المعرة حتى جاوزت وذلك أن في قلبي حنيناً إلى بلدةٍ تشرفت واشتهرت بأنها مولد أبي العلاء المعري. فكم من بلد شرف من أجل أنه مولد شهير. وكم من بقعة عظم قدرها وبعد ذكرها لما أنها مدفن عالم نبيل أو فيلسوف عظيم أو فاتح عزيز. فهذه جزيرة القديسة هيلانة قد انتشر ذكرها في كل ناحيةٍ من الأرض لمجرد أنها كانت منفى نادرة الزمان بل يتيمة الأيام نابليون الأول عاهل الإفرنج. وهذه تواريخ المدن والممالك لا يُذكر فيها الأمن تنبه بهم أوطانهم وتعتز بهم بلادهم فيجعلهم المؤرخون قلائد على أعناق تلك الممالك وتيجان مجد على رؤوس تلك الأمم. فإذا كان إلى هذا الحد يبلغ أعظام الناس لأوطان المشاهير ومنازلهم وقبورهم فماذا عسى يكون إعظامهم للأرض التي ولد ونشأ فيها السيد المسيح الذي أبى أن يحفل بالظاهر الحسن والباطن قبيح.

فصب كل وصايا الذين في وصية واحدة وهي المحبة التي جعلها ينبوعاً لكل حسنةٍ وفضيلة وجعل كل ما سواها من التكاليف الدينية وقايةً لها بل ماذا عسى يكون شرف أرض وطئها مشترع تنقاد إلى أنجيله ممالك ضخمة وأممٌ عظيمة قد صارت بقية أمم الأرض تقفي على آثارها وتنهج منهاجها تعلم أمة تهوى الفلاح ولا تجري وراءها متبعةً خطاها في العلم والصناعة والزراعة والتجارة. فهذه المملكة اليابانية لم تصعد من هاوية الجهل والخمول إلاّ باقتصاصها آثار الممالك التي انبسط عليها نور الإنجيل أورشليم - هي مدينة يقصدها الإسرائيلي لأنها كانت قاعدة مملكتهم وفيها كان هيكلهم العظيم ويزورها المسيحي تبركا بما بها من الآثار المسيحية ويردها المسلم ليزور الجامع الأقصى فتلك الآثار الدينية التي تجرّ الناس إليها من قاصي الديار ودانيها قد صارت أشهر من أن تذكر وأعرف من أن توصف. فإن استغنى بلدٌ بذكر اسمه عن التعريف فأورشليم وبيت لحم لا يتقدمهما في ذلك بلد في المعمور. فليس في المشرقين أبعد منهما ذكراً ولا أشرف منهما أثراً فلا أجد حاجة إلى وصف تلك الآثار وإن كان تأثيرها في نفسي كتأثير الماء على الكبد الظمأى إذ لا إخال أحداً يتلو كتب العهدين ويمرّ بأسماء كثير من الأمكنة التي تردّد إليها السيد المسيح ورسلهُ وصنع فيها الآيات كبيت عنيا وقانا الجليل ما لم تلتهب بين جوانحه لواعج الشرق إلى زيارتها.

ولما رأيت القبر المقدس الذي تمسح به المسيحيون والمهد الذي يتبركون بزيارته ثم رأيت ما رأيت من الأديار الكبيرة والمدارس المجانية والمضايف الواسعة النظيفة الحسنة الأثاث التي تكرم مثوى الزوّار وتستحسن وفادتهم فتقدم لهم مثل ما يقدم للغني السخي في بيته. فعندئذ تخيلت تلك الآثار المكرمة قد استحالت ينابيع ذهب يعيش عليها خلقٌ كثير. وتمثلت جبل الجلجلة وبستان الزيتون وادي تبر وقلت في نفسي لو جمع ما أنفق الزوار في طريق الأرض المقدسة من لدن ابتداء النصرانية إلى اليوم لربما وازن ما على جبل الجلجلة من التراب. فأورشليم هي معرض الكرم المسيحي الأوربي فكم للآتين والروم والبروتستانت هنالك من أيادٍ بيض على نصارى تلك المدينة وسائر الأرض المكرمة فثمة من المدارس والمياتم والمضايف ما يقضي بالفضل لأصحابها وينادي بلسان حاله هذه الثمرات الطيبة إنما هي ثمرات الإيمان. ألا وان الأرض المقدسة كلها ألسنة تنطق بفضل الآباء الفرنسيسيين الذي تقدموا الجميع في هذه المبارّ فالمسيحيون هنالك سابحون في غمر مكارمهم متقلبون على بساط نعمهم فهم الذي يجمعون الحسنات الجمة من مسيحي أوربا وأميركا لينفقوها على المسيحيين من قطان الأرض المقدسة وزوارها. سعيد // الخوري الشرنوني ويلي ذلك كلام عن المسجد الأقصى ووصف ابن خلدون له سنذكره في العدد القادم.

في حدائق العرب

في حدائق العرب الأحنف هو أبو فخر الضحاك بن قيس التميمي الأحنف. وكان قد شهد مع علي بن أبي طالب وقعةً بصفين. فلما استقر الأمر لمعاوية دخل عليه الأحنف يوماً فقال له معاوية: والله يا أحنف، ما أذكرُ يوم صفين إلاّ كانت حزازةٌ في قلبي إلى يوم القيامة. فقال له الأحنف: والله يا معاوية، إن القلوب التي أبغضناك بها لفي صدورنا. وإن السيوف التي قاتلناك بها لفي أغمادها. وإن تدن من الحرب فترا ندنُ منك شبراً. وإن تمشِ إلينا نهرول إليك. ثم قام وخرج وكانت أخت معاوية من وراء حجابٍ تسمع كلامهُ. فقالت: يا أمير المؤمنين من هذا الذي يتهدد ويتوعدُ. فقال: هذا الذي إذا غضب غضب لغضبه مئة ألف من بني تميم ولا يدرون لما غضب. وأخبر النويري عنه قال: كان معاوية قد كتب إلى عماله أن يوفدوا إليه الوفود من الأمصار. فكان فيمن أتاه محمد بن عمرو بن حزم من المدينة، والأحنف بن قيس في وفد أهل البصرة. ثم أن معاوية قال للضحاك بن قيس الفيهري: لما تجتمع الوفود إني متكلمٌ فإذا سكتُ، فكن أنت الذي تدعو إلى بيعة يزيد ولد معاوية وتحض عليها. فلما جلس معاوية للناس، تكلم فعظم أمر الإسلام وحرمة الخلافة وحقها، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال الضحاك: يا أمير المؤمنين، أنه لابدّ للناس من والٍ بعدك فذلك أحقن للدماء، وأصلح للدهماء،

وآمن للسبيل، وخيرٌ في العاقبة. والأيام عوجٌ كل يوم في شأن. ويزيد ابن أمير المؤمنين في حسن هديه. وهو من أفضلنا علماً وحلماً، وأبعدنا رأياً. فحوله عهدك واجعله لنا علماً بعدك ومفرغاً نلجأ إليه ونسكن إلى ظله. وتكلم عمرو بن سعيد الأشدق بنحو من ذلك. ثم قام يزيد بن المقنع العذري فقال: هذا أمير المؤمنين وأشار إلى معاوية فإن هلك فهذا وأشار إلى يزيد ومن أبى فهذا وأشار إلى سيفه. فقال معاوية: أجلس فأنت سيد الخطباء فأذعن من حضر من الوفود. فقال معاوية للأحنف: ما تقول يا أبا بحر. . فقال الأحنف: نخافكم أن صدقنا، ونخاف الله إن كذبنا. وأنت يا أمير المؤمنين أعلم بيزيد في ليله ونهاره، وسره وعلانيته، ومدخله ومخرجه فإن كنت تعلمه لله تعالى ولهذا الأمة رضىً، فلا تشاور فيه. وإن كنت تعلم منه غير ذلك، فأنت صائرٌ إلى الآخرة، وإنما علينا أن نقول سمعنا وأطعنا. ومن أقوال الأحنف المأثورة: رب غيظ تجرعتهُ مخافةَ ما أشدُّ منه كثرة المزاح تذهب الهيبة السؤدد كرم الأخلاق وحسن الفعل الداء اللسان البذي والخلق الردي السنة الأولى للزهور في الإدارة مجموعة الزهور للسنة الأولى مجلدة تجليداً متقناً وثمنها خمسون قرشاً صاغاً. ويضاف إلى ذلك أجرة البريد للخارج.

الأب كابون وتولستوي أو حكيما روسيا

الأب كابون وتولستوي أو حكيما روسيا لقد عرف العالم أجمع تولستوي ومبادئه الفلسفية وقد قرأوا مصنفاته الكثيرة حتى طبق صيته الخافقين، فلم يبق محل إلا وانتشر فيه اسم هذا الفيلسوف العظيم ولا مجلة إلا وذكرت اسم هذا الحكيم بالإعجاب والتكريم. ولكن قليلون هم الذين يعرفون فيلسوف روسيا الثاني الكاهن العظيم كابون. ولذا أحببت أن أنقل لقراء العربية على صفحات الزهور ترجمة حياة هذا الكاهن العظيم وشيئاً من مبادئه السامية التي أدهشت العالم بأسره وخصوصاً الروس وقد عاش بينهم وتألم لآلامهم، الأمر الذي جعله مكرماً ومحبوباً من الفلاحين البؤساء الذين كانوا يعاملون معاملة قاسية تقشعر لهولها الأبدان ويندى منها جبين الإنسانية خجلاً، وأنني أنقل هذا عن إحدى المجلات الأميركية بقلم إحدى سيدات روسيا اللائي لهن القدح المعلى في فن الإنشاء واسمها بريبشكوفسكا. قالت: لقد خفي اسم هذا الكاهن العظيم قائد فلاحي روسيا يوم ثار ثائرهم من جراء الظلم الذي أصابهم من أصحاب الأملاك. وإن ما يعرف من مبادئ هذا الأب الورع المحروم من الكنيسة لتصرفه تصرف مهيج سياسي لهو أقل من القليل. ذلك لانصراف أفكار الجمهور للمظاهر الخارجية والترهات الباطلة. فسداً لهذا النقص وحباً في نشر مبادئه السامية القاضية على الظلم وذويه، أحببت أن أنشر عنه ما يزيد العموم معرفة به:

إن الأب كابون لم يكن ديموقرطياً ولا اشتراكياً فوضوياً ولا حراً متطرفاً بل كان للفلاحين كما كان تولستوي للإشراف. كلاهما تولستوي وكابون مؤمن بالقوة المبدعة، وكلاهما ينظر للعالم نظر الآسف المتحسر ويعد بذل النفس في سبيل فكر سامٍ شريف ومبدأ قويم منتهى ما يتطلبه البقاء الإنساني. الأب كابون كتولستوي له اعتقاد ثابت في القوة الأدبية المودعة في الإنسان وفي قوة نفسه الخالدة. الله والإنسان هما في نظر الفلاح الروسي تقريباً على التوازي وهذا هو السبب في عدم وجود شيء يصعب على الروسي العقلي القيام به. وهذا الاعتقاد يشمل عموم العقليين في البلاد الروسية ولكن معظم هذا الاعتقاد أو هذا العلم علم النفس يظهر باجلى وضوح في حياة بطلي روسيا في هذا العصر. وهاتان الطبيعتان تقصد بذلك تولستوي وكابون مع تشابههما تمام التشابه تظهران لتعمل كل واحدة ما يغاير الأخرى في ذات البيئة والظروف كلتاهما تطلب راحة الشعب ورفاهيته الراضخ. ولكن بينما نرى الفيلسوف تولستوي يحض الناس على نبذ التباغض وأبطال الحروب والرجوع إلى الطبيعة فيحفظ كل حقه لذاته، نرى الأب كابون يحثهم على العمل والدأب، ويدعوهم باسم الله الأزل للحياة والعمل، ويأمرهم بطلب حقوقهم الموهوبة من القوة المبدعة ولو آل ذلك لامتشاق الحسام وخوض غمرات الحرب والصدام. أما النتيجة

التي يرمي إليها هذان الفيلسوفان فواحدة، وما اختلافهما إلا في الطرق المؤدية إلى هذا النتيجة. فواحد يحلق في السماء ويتيه في التصورات الجميلة والأحلام الذهبية. والآخر ينزل إلى الأرض فيضع نفسه بجانب أخوانه التعساء ويبذل النفس والنفيس ليضع حداً لآلاتهم المبرحة ويجبر قلوبهم المنكسرة. وهو لا يصبر على هذا الضيم ولا يتوانى في إنقاذ إخوانه من الحيف المحدق بهم. ذلك لأنه يرى العار كل العار في أن ينظر إخوانه في البشرية يرزحون تحت نير العبودية، فيتألم لآلامهم فقط ولا يرمي إلى انتشالهم من وهدة سقوطهم. لذا أبت نفسه الشريفة إلا أن تستبيح ما حرمته الحكومة فتثير أفكار الفلاحين عليها ليطالبوا بحقوقهم المهضومة وقد كان يصرخ متألماً إلى السلاح! إلى السلاح! ليها الشعب التعس. حتى م ترضخ للذل؟ ألست الشعب صاحب النصرات القديمة والمجد الأثيل؟ فانزع عنك ثوب خمولك فإنه يحول بينك وبين الحقيقة الساطعة. فارتد ثوب الشجاعة لتحفظ مجداً طريفاً وتعيد عزا تالداً أودت به أيدي الوحوش الضارية وحوش الإنسانية. أما تولستوي فكان ينادي بأعلى صوته: تألموا أيها التعساء فإن العالم مملوءٌ بالمفاسد، وإن ما يدعونه مدنية وارتقاء لهو الانحطاط بعينه فاصبروا يا من مزقت أفكارهم حجب اللانهاية فعرفت أموراً قصرت عن إدراكها أفكار أقرانهم. واحتملوا الآلام، فإنكم بهذا تنالون السعادة وارجعوا إلى أمكم الطبيعة فإنها أكبر مخلص لكم هذا هو وجه الاختلاف بين هذين الحكيمين وهو ينحصر في الطرق كما ذكرت آنفاً ولا يتناول الغاية

إنه ليصعب على البعيدين عن روسيا الذين لا يعرفون من شؤونها غير ما يقرأون في المجلات والجرائد السياسية أن يتصوروا حالة الفلاح الروسي من حيث مذلته وانحطاطه وتألمه وصبره وقوته العظيمة. لذا أحب أن أظهر من أمرهم ما اختفى ومن أفكارهم ومبادئهم ما توصلت إليه. إن حالة الفلاح الروسي من حيث ذله وتألمه عن علمها القاصي والداني مما تنشره الصحف لذا أصبح الكلام عليها من قبيل تحصيل الحاصل. أما اعتقاده ومبادئه فأراني مضطرة إلى ذكرها لأنها ما تزل مجهولة بسبب الضغط الشديد وتقييد الصحافة. يقول فلاحو روسيا بأن العدل الله يقضي على الكائنات كلها بالسعادة والسرور دون فارق بين غنيّ وفقير، ويبغي للجميع على السواء الوسائل الآيلة لتعزية قلوبهم. وإنه يحظر عليهم عمل الشر وظلم بعضهم البعض، فلا يغتصب أحدهم حق أخيه ولا يؤذيه في عمله بل يكون له عوناً فيدرأ عنه كل شر مفاجئ. وهذا الاعتقاد عام يشمل عموم الفلاحين في بلادنا وهو قديم ولكنه في هذه الأيام تجاوز حيز القول إلى حيز العمل فصاروا يؤيدونه بالفعل. وقد توسعوا به حتى قالوا أن إلهاً صالحاً براً حكيماً خلق الإنسان من العدم وخلق له الأرض ليعيش فيها آمناً. وما وجدت هذه السهول الواسعة والرياض الجميلة والإحراج والأنهار إلا ليتمتع بها كل فرد فيعمل في السهول على قدر طاقته فلا يعارضه في عمله معارض ولا يهضم حقه أحد فلهذا لا يرهبون الشغل، بل يصلون إناء الليل بأطراف النهار كادّين، مبتهجين بمرأى الطبيعة وعندهم رغبة شديدة في معرفة أحوالها وإظهار مكنوناتها.

نحن وهم

هذه هي مبادئهم ذكرتها باختصار على أمل أن أرى في بلادي كثيرين كالأب كابون يبذلون كل مرتخص وغال في سبيل إنهاض هذا الوطن المحبوب من وهاد المذلة والخمول إلى أوج السعادة والرقي، فنعيش آمنين وننشق نسمات الحرية اللطيفة والسلام حمص شكري عافل نحن وهم في التربية والمرأة 1 - هم يصحبون تربية العقل بتربية الجسم فتصح منهم الأجسام والعقول. ونحن نهمل تربية الجسم فيضعف العقل فلا تصح منا لا العقول ولا الأجسام. 2 - هم أحسنوا تربية المرأة فحسنت تربية الرجال. ونحن أهملنا تربية الأم فساءت تربية الأطفال. 3 - هم يخيفون أولادهم بذكر الحقائق. ونحن نخيف أولادنا بالأوهام، فيشب رجالهم لا يخشون الحقائق التي ألفوها. ويشب رجالنا تزعجهم الخيالات. 4 - المرأة عندهم شريكة الرجل يحتاج إليها في كل لحظة. والمرأة عندنا رفيقتهُ لا يطلبها إلا وقت الشهوة. 5 - المرأة عندهم محترمة في الطريق، وعندنا عرضة فيه لكل سبّ وتضييق.

6 - اجتهدوا في اقتباس الحسن من مدنيتنا. واجتهدنا في تقليد القبيح من مدنيتهم. في الملاهي والمقابر 7 - ملاهيهم لتثقيف العقول. وملاهينا لإرضاء الشهوات. 8 - قابرهم جنات الدنيا ومقابرنا جحيمها. في العلم والعلماء 9 - طالب العلم وطالب المال عندهم لا يشبعان. وعندنا لا يكادان يبلغان طرفاً منهما إذ هما يكتفيان. 10 - العالم عندهم بعمل بعلمه. وعندنا يتحدث به. 11 - هم يرون قوى الطبيعة فيفكرون في استخدامها، ونحن نراها فنعجب بها أو نهرب منها. 12 - علماؤنا إذا استفتيتهم رجعوا إلى ذاكرتهم في إجابتك. وعلماؤهم إذا سألتهم حكموا المعقول في إفادتك. في الاقتصاد 13 - أكثرنا ينفق فوق ما يكتسب، وأكثرهم يكتسب فوق ما ينفق. 14 - يأتون بلادنا ليربحوا فيها. ونقصد بلادهم لننفق فيها. 15 - هم يجدّون وراء الثروة. ونحن نرى الثروة بجانبنا ولا نكلف أنفسنا مد اليد إليها.

16 - حبس أغنياؤنا الأموال فملكتهم. وأطلق أغنياؤهم الأموال فملكوا بها. 17 - ترفع كبيرنا عن الأعمال التجارية والمالية، فملكه صغيرهم بها. 18 - لا نملك في بلادهم، ويملكون في بلادنا. فيستخدموننا في الأرض. ونشتري منهم حاصلاتنا. 19 - فقيرهم إذا احتاج اشتغل، وفقيرنا إذا احتاج سأل. في فلسفة الحياة 20 - عندهم حب الأمة مقدم على حب النفس. وعندنا حب النفس مقدم على حب الأمة. 21 - الاتحاد عندهم رأس مال الأعمال العظيمة وسر نجاحها، وعندنا العمل العظيم يوجب التفريق فيه حب الاستئثار به فلا يتم أبداً. 22 - تتكل الأمة فيهم على أفرادها، ويتكل أفرادنا على الأمة. 23 - إذا اعترض العامل منهم عائق أزاله، وهذا عمل الرجال. وإذا اعترض العامل منا عائق أن واشتكى، وهذا عمل الأطفال. 24 - الرجل منا يرجو من المستقبل تحسين حاله. والرجل منهم يعمل على تحسينه بنفسه. 25 - رجلهم يبدأ بنفسه قبل الناس، ورجلنا يبدأ بالناس قبل نفسه. 26 - حكوماتهم تخدم الأمم. وأممنا تخدم الحكومات. 27 - هم ينظرون إلى مستقبلهم. ونحن ننظر إلى ماضينا. لهذا هم تقدموا ونحن تأخرنا. صالح جودت

في رياض الشعر

في رياض الشعر محمود باشا سامي البارودي ولد سنة 1840 وتوفي سنة 1904 هو محمود سامي بن حسني بك حسني وكان أبوه من أمراء المدفعية في الجيش المصري. وجده عبد الله بك الجركسي من الكشاف في أوائل عهد محمد علي. والكاشف يشبه مأمور المركز اليوم. وقد أضيف إلى اسم عائلتهم لفظ البارودي نسبه إلى إتياي البارود التي كانت في التزام أحد أجداده - ولد صاحب الرسم في السراي المعروفة باسمه والتي فيها اليوم إدارة الجريدة وتلقى العلم في المدارس الحربية التي أنشأها جد العائلة الخديوية ثم سافر إلى الأستانة وانكب فيها على الدرس ووظف في نظارة الخارجية. ولما سافر الخديوي إسماعيل باشا

إلى الأستانة سنة 1863 دخل البارودي في بطانته وعاد معه إلى مصر ثم أرسل مع بعض الضباط إلى باريس ولندرا لمتابعة الأعمال العسكرية وعند رجوعه رقي إلى رتبة قائم مقام ثم إلى رتبة أمير آلاي. وقد سافر مع الجيش المصري الذي أوفدته مصر لمساعدة الدولة العثمانية على إخماد الثورة في كريد سنة 1868 واشترك أيضاً في حرب الدولة مع الروس سنة 1877 وقد تقلب في مناصب عديدة عسكرية وإدارية. وبعد إقالة الخديوي إسماعيل باشا وتولي توفيق باشا عُين البارودي ناظراً للأوقاف. وكان في كل هذه المدة يحبر القصائد الشائقة ويجمع الكتب النفيسة فكان من أكبر أركان النهضة الأدبية الحديثة ولا يزال الشعراء حتى يومنا يعترفون له بالأسبقية. وقد كانت له اليد الطولى في إنشاء الكتبخانة الخديوية. ولما دخل الإنكليز مصر بعد ثورة عرابي كان البارودي من جملة الذين حكم عليهم بالنفي إلى سيلان مع زعيم الثورة. وإلى ذلك العهد ترجع المراسلات السامية التي ننشرها وقد عاد إلى مصر من المنفى قبل وفاته بقليل وتوفي في 12 ديسمبر ك 1 سنة 1904 هذا ملخص حياته. ولما كان له تأثير كبير في النهضة الأدبية سنعود فيما بعد إلى درس آثاره الكتابية. المراسلات السامية بدأنا في الجزء الأخير من السنة الفائتة بنشر المراسلة الشعرية التي دارت بين الأمير شكيب الأرسلان والمرحون محمود باشا سامي البارودي، يوم كان هذا الأخير منفياً في جزيرة سيلان. وقد نشرنا رسم الأمير الأرسلاني، وهاذ نحن ناشرون الآن رسم البارودي مع بقية المراسلات التي دارت بين الشاعرين ثم كتب محمود سامي باشا إلى لأمير شكيب بهذه القصيدة أدّي الرسالةَ يا عصفورة الوادي ... وباكري الحي من قولي بإنشادي ترقبي سنة الحرّاسِ وانطلقي ... بين الخمائل في لبنان ورتادي

لعلّ نغمةَ ودٍّ منك شائقة ... تهزُّ عطف شكيب كوكب النادي هو الهمامُ الذي أحي بمنطقِهِ ... لسانَ قوم أجادوا النطق بالضادِ تلقي به أحنفَ الأخلاق منتدياً ... وفي الكريهة عمراً وابن شدَّادِ أخي وداداً وحسبي أنه نسبٌ ... خالي الصحيفة من غلٍ وأحقادِ أفادني أدباً من منطقٍ شهدت ... بفضله الناس من قارٍ ومن بادِ عذب الشريعة لو أن السحاب همى ... بمثله لم يدع في الأرض من صادِ سرت بقلبي منهُ نشوةٌ ملكت ... بحسنها مسمعي عن نعمة الشادي يا ابنَ الكرام عدتني منك عادية ... كادت تسدُّ على عيني باسدادِ فاعذر أخاك فلولا ما به لجرى ... في حلبة الشكر جري السابق العادي وهاكها تحفةً مني وإن صغرت ... فالدرّ وهو صغيرٌ حلي أجيادِ فأجابه الأمير شكيب بالقصيدة التالية: هل تعلم العيس إذ يحدو بها الحادي ... أنَّ السرى فوق أضلاع وأكبادِ وهل ظعائن ذاك الركب عالمةٌ ... أنَّ النوى بين أرواحٍ وأجسادِ تحملوا ففؤادي منذُ بينهم ... في إثرهم نضوُ تأويبٍ وإسآدِ يرتادُ منزلهم في كل قاصية ... وحجبهُ لو درى أحرى بمرتادِ بين الجوانح ما لو أنتَ جايبهُ ... أغناك عن لفّ أغوار بانجادِ وفي الفؤاد كشطر الكفّ بادية ... في جنبها تيهُ موسى ليس بالبادي كم بتُّ أنشد أحبابي وأُنشدُهم ... في الهند يا شدَّ ما أبعدت إنشاديِ ولو أناجي ضميري كنت مُسِمعهم ... قولي كأنهمُ في الغيب إشهاديِ من كان دون مرامي العيس منزعهُ ... فلي هوى دون أمواج وأزبادِ

دون الخضارم أن ضل الحبيب سرى ... فإن وجدي نعم القائف الهادي هوى بأروع لو أن الزمان درى ... لما أحلَّ سواه الصدرَ بالنادي سامي الأرومة في أعراقهِ نسبٌ ... في المجد لا يشتكي من ضعف إسنادِ أرقُّ من شمأل الوادي شمائله ... وعند شدّ الليالي صخرة الوادي من معشرٍ لو يقيس الناس شأوهم ... إلى العلى افتقروا فيه لإرصادِ يا من لنا ردُّه من فائتٍ عوضٌ ... يمحى به وزرُ أحقاب وآمادِ أن يحجبوك فما ضرَّ النجوم دجى ... ولا زرى السيف يوماً طيّ أغمادِ لا بأس أن طال نجز السعد موعدهَ ... فأعذب الماء شرباً في فم الصادي عسى لياليك قد سلّت ضغينتها ... وقد صفت كأسها من سؤر أحقادِ واستأنف الدهر سِلماً لا يكدرها ... فالدهر قد يرتدي حالات أضدادِ لو كان يُسعد قوم قدرَ فضلهم ... ما لاقَ مثلك أن يحظى بإسعادِ النسيم العاشق قصيدة تلاها في جمعية شمس البر في بيروت في الشهر الفائت إلياس أفندي فياض وهو الشاعر المعروف لدى أدباء القطرين هذه قصة جرتلنسيم الرو ... ض فيما مضى من الأزمانِ وردت في كتاب سحرٍ قديم ... خطه فكر ساحرٍ شيطانِ لم يكن قادراً على فهم معنا ... هُ سوى شاعر لعوب المعاني وُجد الشعر حينما وُجد السخـ ... ـر شقيقين ليس يفترقانِ

قيل أن النسيم قد كان يوماً ... يتمشى على ربى لبنان كتمشي المصطاف لا شغل يدعو ... سوى حسن منظر الوديانِ هائماً لا يقرّ منهُ قرارٌ ... من مكان يميل نحو مكانِ تارة يلثم الزهور وطوراً ... يرتمي في معاطف الأغصانِ إذ أتى منزلاً عظيماً لشيخٍ ... من شيوخ القرى رفيع الشانِ فانبرى داخلاً إليه من الكوَّ ... ةِ وثباً من غير ما استئذانِ ثم بنتٌ للشيخ تغزل صوفاً ... وهي في مأمن من الحدثانِ تعزل الصوف كفها ولها جف ... نان بالسحر والهوى غزلانِ عبث الزائر الجسور بشعر ... ناعم فوق رأسها الفتانِ فتدلت أطرافهُ الشقر من ... فوق عيون سود وخد قاني ورأى صاحبي النسيم جمالاً ... ما رآه من قبل في إنسانِ فغدا شاخصاً إليها مديماً ... نحوها نظرة الفتى الحيرانِ ذلك الأهوج الخفيف المرائي ... القليل الثبات في كل شانِ فاضح العاشقين ناشر أسرار ال ... هوى بين كل قاصٍ ودان أصبح الآن بابنة الشيخ صباًّ ... مستهاماً بحبها متفاني عاشق لا يُرى ويكفيه منها ... إن يراها في كل حال وآن حيث كانت يكون في البيت أو في ال ... روض بين النسرين والريحانِ كل شي منها يراه فما تخ ... جل منهُ وليس بالخجلانِ همهُ كل همه أن يراها ... في سرور وغبطة وأمان جاعلاً نفسه كما تشتهي ... برداً فحراً على اختلاف الزمانِ

فإذا الليل كان ليل شتاء ... يخز البرد فيه وخز السنانِ صار حالاً إلى هواءٍ لطيف ... فاترٍ وفق نسبة الميزانِ وإذا اليوم كان يوماً شديداً ... يلذع الحرّ فيه كالنيرانِ جاءها من ذرى الجبال بنفح ... منعش الروح منعش الجثمانِ وإذا استشعر انقباضاً بها ... يوماً مضى مسرعاً إلى البستانِ وأتاها من الطيور الشوادي ... بارق الأنغام والألحانِ وإذا الفصل كان فصل خريف ... وغدا الروض مثل وجه العاني وخلا خدرها من الزهر من ... ورد ومن نرجس ومن أقحوانِ سار خلف الفراش في الحقل ... يجنيهِ كما تجتنى زهور الجنانِ وأتاها منهُ بباقات حسن ... مدهشات من سائر الألوانِ من عقيق ولازورد وياقو ... تٍ وتبر وأبيض كالجمانِ تتجارى في خدرها طائرات ... لامعات الجناح كالعقيانِ وإذا كان في يديها كتاب ... درسُهُ محوج إلى الإمعانِ وانتهت من تلاوة الوجه منهُ ... ثم همت بدرس وجه ثانِ فتراه بنفخةٍ قلبَ الوجه فلي ... ست تحتاج مد البنانِ ولكم وقفة له ليس تنسى ... عند ذاك السرير ذي الأركانِ وقد استحوذ النعاس عليها ... وتولى الكرى على الأجفانِ يجتلي حسن معصمين أضاءا ... فوق ملموم صدرها الملآنِ ولكم زحزح الستار وأدنى ... ثغره فوق ثغرها الظمآنِ فرواها كما ارتوى دون أن ... تخجل منه وليس بالخجلانِ

هكذا عاش في هواها زماناً ... ناعم البال خالي الأشجانِ حاسباً أن للصفاء دواماً ... هل دوام الصفاء بالإمكانِ ودّعِ الحبَّ يا نسيم فقد جا ... ءك خصم أقوى إلى الميدانِ جاء من يخطب الفتاة فتى ... في عصره كان أبسط الفتيانِ ما له ميزة على من سواه ... غير مال يفيض كالغدرانِ غرها كثرة الحليّ فمالت ... وقديماً تهوى الحليَّ الغواني رضيته بعلاً فيا خيبة الآما ... ل من ذلك المحب العاني آه مهما يكُ النسيم لطيفاً ... طيب النشر عاطر الأردانِ كيف يسطيع ضد مال وجاه ... وحلي بهية اللمعانِ لهف قلبي عليه بعد مزيد الع ... زّ يمسي في ذلة وهوانِِ واقفاً خلف كوة البيت يشكو ... بانين كأنه الثكلانِ وله كالحمام طوراً هديلٌ ... وفحيح آناً كما الثعبانِ ولكم حدثته بالشر نفسٌ ... ما لها بالشرور قبل يدانِ فابتغى أن يصير عاصف ريح ... هادماً بيتها على السكانِ ولدن وافت الكنيسة بالموكب ... تبغي إتمام عقد القرانِ عيل صبراً فثار ثورة ليثٍ ... وأثار الغبارَ ملء العيانِ وانبرى للشموع يطفئها غيظاً ... ولم يحترم جلال المكانِ زاد حقداً فرام تجفيف ما في ... الكأسِ حتى تبقى بلا قربانِ ومدير الناقوس مما اعتراه ... أسمع الناس دقة الأحزانِ كل هذا لم يجدِ نفعاً وتمَّ ... العرسُ رغماً عن ذلك الهيجانِ

لاعب القمار ومدمن الخمر

فمضى هائماً على وجهه والصد ... ر يغلي بالحقد كالبركانِ ساح في الأرض مستغيثاً ملو ... ك الريح من كل صادق معوانِ بين هيف وزعزع ودروجٍ ... وسموم وعاصف مرنانِ ثم وافى من بعد عامين في ... جيش خضمّ يموج كالطوفانِ يزرع الرعب في البلاد ويكسو ... هوله الشيب هامة الشبانِ خارباً في طريقه كل ما ... مرَّ عليه من عامر البلدانِ وصل البيت وهو يحسب أن ... يذريه في الهواء مثل الدخانِ إذ رأى في جوانب الدار مهداً ... فيه طفلٌ يبكي بغير بيانِ ولدى الطفل أمه وهي من ... خوفٍ عليه شديدة الخفقانِ فتلاشت قواه وانتصر الحب ... عليه والحب ذو سلطانِ فجثا قرب طفلها آخذاً عنها ... يهزُّ السرير كالغلمانِ بيروت إلياس فياض لاعب القمار ومدمن الخمر لابد لكل حي على وجه المعمورة من فطرة غريزية وميل طبيعي يسوقه إلى تنفيذ مآربه وقضاء حويجاته. وما الإنسان إلا عبد خاضع وخادم مطيع لكل ما يجول بفكره من كبيرة وصغيرة. فلاعب القمار ومدمن الخمر ومستعمل التبغ ومتعاطي المنبهات والسارق والزاني كل منهم يكتسب هذه العادات الذميمة والأفعال الرذيلة التي تؤول به إلى مهاوي التهلكة من مصدرين. أولهما وراثي عن آبائه وأجداده.

وثانيهما تقليدي عن أصحابه ورفقائه. فالوراثي هو ما يتلقاه من الوالدين اللذين اعتادا النزوع عن الفضيلة وعمدا إلى ارتكاب كل ما تأباه النفوس الطاهرة، فلا تعجب إذا رأيت الطفل يشب على أخلاق والده. فإذا كان الوالد سارقاً لقن ولده منذ نعومة أظفاره قواعد السرقة وشروطها. ويا له من درس مميت حياة الطفل الأدبية: وإن كان مدمن خمر علمهُ - على غير علم منه - طريق الحانة وارتياد محلات السكر وأوحى إليه فلسفة احتساء الكؤوس. وقد يطبق له العلم بالعمل فيمد له يده تحمل سماً زعافاً ويتناول الولد الكأس بإخلاص من يد أبيه ويتجرعها واثقاً بالمحبة الأبوية التي تريد الخير لأبنائها. ولا تسل يا صاح عما يصيب هذا الابن المسكين في مستقبل الأيام من الشقاء والحياة التعيسة التي أسست أركانها اليد الأبوية الأثيمة بل لا تسل عن تقهقر بلادٍ يربى أطفالها على هذا النمط. أعرف سكيراً هشمه الدهر بنابه وأناخ عليه بكلكله حتى أنفق كل ما لديه من مال وعقار فيما هو عليه من العادات التي لا تسمن ولا تغني من جوع وأصبح يلتحف السماء ويفترش الغبراء. وإذا بزغت شمس الصباح جال على بيوت أهل المدينة قارعاً باباً بعد آخر متوسلاً. فإذا أتاح الله له شيئاً من القوت وبعضاً من الدراهم رجع إلى الخامورجي وأعطاه ما لديه من النقود في طلب كأس خمر يروي بها ظمأه الذي لا يروى. ثم يرجع إلى كوخه خارج المدينة فيجد زوجته البائسة التي كثيراً ما يغمى عليها من كثرة البكاء والنحيب على ما حل بها وبه من البؤس والشقاء.

والمصدر التقليدي هو ما تكتسبه هذه الفئة من المعاشرات الرديئة التي تجمع أفراداً لا آداب لهم ولا أخلاق غير الافتخار بمباراة أمثالهم في الرذائل وعمل ما تقشعر منه الأبدان. وهذه الفئة مؤلفة من الرعاع والأوباش وبينهم أولاد المثريين الذين ورثوا عن آبائهم مالاً طائلاً. أضاعوه - لنقص في تربيتهم وآدابهم - في أماكن اللهو والطرب. على أنه كثيراً ما يكون المقلد لرفيقه أو المقتبس عن عشيره من عائلة شريفة المبدأ ومن أبوين شريفين يربيان أولادهما على الفضيلة والآداب القويمة التي لا تزعزعها يد الدهر. وإذا أحصيت الآفات القتالة في المعترك الحيوي كان أولها لعب الميسر الذي يهدم أركان الفضيلة. ويجلب العار والمذلة ويبدل الأفراح أتراحاً ويمزج كأس الحياة بمرارة حنظلية فينغص عيش مرتاده ويستفرغ قواه المادية والأدبية. حينذاك يثوب إلى رشده ويندم على ما فرط منه حيث لا ينفع الندم هذا أن لم تدفعه شدة الضيق وأنفة النفس إلى الانتحار تخلصاً من هذا الشقاء المقيم. ولعمري إذا كان المقامر حديثاً في مزاولة هذه المهنة وقضت عليه بد الزمان ونكبة الدهر بخسارة عاجلة وظهر طالعه المنحوس وهو يرى مواله تتسرب من جيبه إلي جيب سواه لا يكاد ينتهي من لعبه إلا وتتوالى عليه جيوش الذهول والأوهام فيضيع لبه ويفقد رشده ولا تمضي بضع دقائق إلا وهو مساق إلى حيث لا يدري وهو تارة يضحك وطوراً يبكي. وكثيراً ما تقوده هذه الحالة إلى السرايا الصفراء مأواه

بين القصور والأكواخ

حيث يلتقي برفقائه ليقضي معهم ما بقي له من الحياة التعيسة. فهذه نتيجة المقامرة وهذا هو الجنون بمعنى الكلمة. وأما إذا ربح المقامر بعد توالي خسارته فقلما يحترس على ماله. فتسول له نفسه - والنفس أمارة بالسوء - بالتقدم خطوة ثانية إلى الأمام في الملذات والموبقات لصرف دريهماته المكتسبة عن غير طريق العمل والنشاط. فالمقامر والحالة هذه سواء كسب أو خسر فهو كمن يبحث عن حتفه بظلفه. إن القمار أبيت اللعن مضيعة ... للمال والصيت وإلا رزاق والزمن فإن رأيت فتى يلهو بمقمرةٍ ... هييء له أدوات الغسل والكفن فو الله أنه يسوءنا كثيراً نحن معشر المصريين انتشار مثل هذه الآفات بمصرنا السعيدة وشقيقها السودان المصري. حيث إنها من دواعي التأخير وعثرة في سبيل الرقي والتقدم العصري. عطبرة (السودان) عبد المطلب لبيب بين القصور والأكواخ لمن القصور هنا؟ شامخة البنيان. تناطح الجوزاء في سماء الخيلاء؟ من الذي شيدها وبناها، وبزخرف الصنائغ حلاها وجلاها، فما الخورنق والسدير والإيوان، عند بداعة صنعها والاتقان. ولمن هاتيك الأكواخ هناك؟ خاملة الشأن، تعانق العساليج في ربي الأكام وظليل الوديان! كأنَّ من أنشاها وكونّها، بزهور الفردوس

وشاها وزينها، فما وشّاها وزينها: فما بهرجة القصور وزينتها، إزاء بساطة هيئتها. هو روح في عالم الخيال يطوف! ويستقصي كنه ما جريات القرون فإذا ما داني المدينة العجباء، انشقت جباهُ حصونها والأسوار، عن مشهد المملكة الدنيا، بل دار النقمة والويلات!. وما صوتٌ، إلا وانفتحت الأبواب، فلا حرَّاس ولا حجَّأب. وطرفةُ عينٍ وانزاح كل حجاب. فملوك تراؤا فوق عروش الملكية، قيدتهم قوانين البلاد، وحكام على منصات الأحكام، أعيتهم قضايا العباد. ورعايا تناوبتهم الضربات، بها الأغنياء والفقراء في حرب عوان نار وطيسها تشوي الحساد، مظالم ومغارم، شيدوها فوق أنقاض الأماني ومهاوي الآمال، وتقاليد وعادات، شوهت وجه الهيئة الاجتماعية وحياة الكل شؤون وشجون، تقسمتها ذكرى الماضي وهمّ الحاضر وأمل الآتي. أما حياة البؤساء فمذلةٌ وهوان! وهنا، هنا الإنسان عدو أخيه الإنسان! فكأن صراخ التذمر والشكوى يصم سماع الأجيال وانسدلت الأستار! فما البكاء، وما صرير الأسنان. أو ترى السعادة اسماً بلا مسمى، أم أثراً بعد عين؟ بل هي سر الحياة. وأين السر يكون؟ في ذلك المنبسط الهادي، مهد البساطة والأمان، في تلك الأكواخ المنسية، مبعث الراحة ومهبط الحرية، حيث

تمدن المرأة العصرية

لا شقاء ولا ضوضاء، والطبيعة في هدوّ وسكون وهناك عندما الفجر يلوح. على النغمات الأطيار ونسمات الأسحار، يرتاد فضاء اللاَّنهاية صوت رنان، تردّد صداه الأزمان: سلاماً يا ابنة الطبيعة الساذجة، يا ربيية الفضيلة الطهري، البرية من عيوب المدنية. . وتبرز فتاة الكوخ، ومظهرها رسول الشفقة وعامل النشاط وملاك السلام، وتحيي الأكوان! فتحنُّ إليها الإلهة وتباركها السماوات! وهناك يتجلى شبح الإنسانية! فيقيم الصلاة، ويقدم القربان بين تصاعد بخور الذكرى. وحنان الألحان السماوية، حتى إذا ما حل الروح، بارك الأم وابنتها، وتوارى. وفي ثغره ابتسامة الأبدية. . . انطاكية سمعان بطرس اللاذقاني تمدن المرأة العصرية دارت خلال السنة الماضية على صفحات الزهور مناقشة في المرأة العصرية وتمدنها بين الآنستين هدى كيورك وأدما كيرلس، نددت الكاتبة الأولى بالمرأة لأنها أخذت بقشور التمدن دون اللباب وفندت الثانية أقوالها مبينة أن الذنب - أن كان هناك ذنب - على الرجل لا على المرأة. وانقسم القراء إلى قريقين فريق يؤيد هذه، وفريق ينتصر لتلك. وكتب أحد الأدباء بإمضاء حسون محاولاً أن ينصف بين الكاتبتين. ولكن الآنسة أدما رأت في مقاله ما يشفُّ عن التجيز فبعثت إلينا بالرد الآتي:

طال الآخذ والرد في هذا الموضوع وما كنت لأعود إليه اليوم لولا تعرض حسون للوقوف موقف الحكم فكان صارماً شديدأً وإني والكثيرات من رفيقاتي لمندهشات من فتح صاحب الزهور صدر مجلته لمثل هذا الحكم الجائر، وهو الكاتب الذي طالما ترنمنا بكتاباته الشائقة في الدفاع عن حقوق المرأة المهضومة. . وقبل أن أجول الجولة الأخيرة في هذا الموضوع أرجو من الأدباء أن لا يحملوا كلامي على محمل الامتعاض من انتصار الغير لمناظرتي. كلاّ وإيم الحق، بل أن ذلك ليطربني وأرى فيه دليلاً أدمغ به خصمي إذ هو يعترف أن في صفوفنا نحن النساء من يجاهر بالحق ولو كان علينا. . وبعد هذه المقدمة أقول لحضرة الخصم الجديد الذي يحاول الظهور بمظهر الحكم المنصف: يا أيها الرجل المعلم غيرهُ ... هلاّ لنفسك كان ذا التعليمُ وقبل أن تنظر إلى القذى في عين أختك انزع الجسر من عينك. ثم أصلح تربية الرجال لأن الرجل بيده كل شيء في شرقنا، وليست المرأة - إن صالحة وإن صالحة - إلا صنعة يديه أدبياً. فهي إذا كانت الآن كما تزعمون فلانكم أنتم أردتموها كذلك يا معشر الرجال. وأنا قد كتبت ما كتبت واثقة بالإصابة لأن ما قلته من البديهات التي لا تحتاج إلى برهان، وقوة الحقيقة أوضح من نور الشمس. ولكن أكثر الأذهان في هذا العصر لا تكترث لأقوال النساء. على أنه لابدَّ من أن يأتي عصرٌ ينظرون فيه لا إلى من قال بل إلى ما قال. فيظهر الخفي على أهل هذا الزمان بأحسن جلاء. ويرى هذا القلم الذي يعدُّونه قصبة مرضوضةً

أحسن مقالة وأحسن قصيدة

سيفاً ذا حدين فيثبت الحق ويزهق الباطل أن الباطل كان زهوقاً. أنا لم أقل بعصمة النساء ولا بعصمة واحدة من نساء العصر، ولكني اعتقد اعتقاداً خالياً من كل ريب أن المخطئين أكثر من المخطئات، والواقع أصدق شاهد. تعود الرجل أن ينظر إلى المرأة نظر القوي إلى الضعيف ولكل امرئ من دهره ما تعود. وعليه فهو يحكم بلا خشية كما يشاء هواه لأن أنصاره كثيرون، بخلاف المرأة الضعيفة التي تنزل إلى ساحة المناظرة الأدبية واحدةً تجاه جيشٍ عظيم من الرجال وأهل المنهج القديم من النساء. ولكن لابدَّ من أن تنمو البذرة التي تلقيها وتثمر في أوانها. والإصلاح في أول أمره لا يكون إلاّ من أفراد قليلة ولكنه من طبيعته ينمو ويقوى إلى أن يبلغ الكمال. هذا ويحق لي أن أردّ حكم حسون أفندي واستأنف القضية إلى محكمة ترأسها أحدى السيدات لأنه ليس من العدل أن يكون الرجل في موضوعنا خصماً وحكماً في آن واحد. فضلاً عن أني وحضرة مناظرتي الكريمة لم نحكم بيننا حسوناً. . ولا غراباً. لأن نعيق هذا وتغريد ذاك عندنا سيّان والسلام بيروت أدما كيرلس أحسن مقالة وأحسن قصيدة سألنا القراء أن يكتبوا لنا عن أحسن مقالة وأحسن قصيدة استحسنوهما في مجموعة السنة الماضية. فجاءتنا أجوبة كثيرة والأراء فيها مختلفة. وسننشر النتيجة في العدد القادم ليتسنى للبعيدين أبداء رأيهم.

في جنائن الغرب

في جنائن الغرب نار السماء في الجوّ سحابة مسودة الأطراف، تبهت تارة، وتارة تتقد وهي عابسة للكون كأنها الصيف المحرق. إنها سابحة في الفضاء فتحلو مشاهدتها لرائيها الذي يخال في الوقت نفسه أن ريح الليل الهابة تحمل ضوضاء مدينة بأسرها قد أسكرتها حرارة التقبيل وكثرة الملذات. أمن السماء اندفعت هذه السحابة أم من البحر صعدت أو لُفظت من الجبال أو هي مركبة الجحيم النارية حاملة شياطين إلى كوكب من الكواكب القاحلة؟ قماء هي الآن ولكن يا للذعر إذ كيف يندفع بين حين وآخر من جوفها غير المدرك لهيب ساطع يتلوى كالثعبان البحر ثائر وأمواجه مزبدة وهي أمواج عالية لا يدرك البصر طولها والأسماك تسبح في هذه المياه العميقة فتبدو تارة على سطحها كقطع من الفضة وتارة تتوارى في اللجة. وكأن الأفق البعيد ملامس لهذا البحر فتتمازج زرقة السماء بزرقة الماء رأت السحابة النارية ذلك فثبتت وسألت: أَأُجفف هذه المياه؟ فأجابها صوت يقول: كلاّ! فاندفعت بقوة زفرة الرب ناشرة الظلمة في الأرجاء هوذا خليج على ضفتيهِ آكام خضراء قد ضربت عليها خيام

يصدر عنها أغانٍ شجية ينقلها الهواء إلى السماء. وها هم أناس رُحل يصيدون الأسماك والأطيار، وهم عائشون أحراراً موطنهم العالم كله إذا أرادوا ذلك وفراشهم الأرض وغطاؤهم السماء. إنهم قبيلة تلئهة حياتها في الشمس والهواء، وها هم أفرادها بين أطفال وشيوخ ونساء وفتيان وفتيات قد كونوا شبه دائرة وأخذوا يرقصون حول نار مشبوبة يتصاعد لهيبها حيناً أفقياً وحيناً تعبث به الرياح. إنهم مجهولون وقد أسفرت النساء منهم عن أذرع كالأبنوس وصدور كالليل فلاحت النهود السوداء. تعروا رجالا ونساء فألقوا بأنفسهم للاستحمام معاً الماء فامتزجت أصوات البشر الصادرة من صدورهم بهدير الأمواج. ورددت الريح الهابة صدى صنوج وغناء فتوقفت السحابة النارية في الفضاء فصاح بها صوتُ خفي: إلى الأمام. . مصر كبساط من سندس زاه منعكسة عليه شمس كالذهب الأصفر وكل ما فيها وديان. يغازلها في الشمال بحر بارد وفي الجنوب رمل محرق وهي ضاحكة بينهما ضحك السعادة والاطمئنان. هناك ثلاثة شواهق مثلثة الزوايا أقامها الإنسان وهي تدهش البصر، وقد مزقت رؤوسها الجو، وتجمعت حول قواعدها الرمال وإلى جانبها إله من الحجر الوردي اللون قد آل على نفسه حراستها لئلا تهب ريح سموم كاللهب فتضطرها إلى أحناء الرؤوس. وهناك مسلات منصوبة ونيل هادئ منساب تحركه نسمات تدفع الزوارق نحو مدينة تلامس منازلها الماء

سلطانة الكواكب متهادية نحو الغرب، خالعة على المدينة ثوباً من الورد، وقد داعب النسيم الماء العذي فطرقت مسامع مصر تنفسات عشيقها النيل الذي جعل يرنو بعينه الدامية إليها وهي منارة الأمصار. هوذا سلطان منير قد طلع يتهادى في فضاء فسيح صافٍ لا تشوبه سحابة وأخذ يتبع آثار مصدر نوره كما يتبع العشيق خطوات معشوقته مستعداً منها سعادة تدوم ما دام لم يكن هناك احتكاك. سألت السحابة قائلة: أين أقف؟ فأجابها صوت اهتزت له الأرض: ابحثي. الأرض كجمرة تتأجج ولا تشاهد العين سوى رمال يذرها هواء ملتهب وهي رمال تبدو حيناً شامخة كالجبال وتظهر حيناً منبسطة كالسهول فنحن أذن في الصحراء التي تجتازها قوافل الجمال ولا يعرف منعزلاتها الندية سوى الله. وهي صحراء كبحر يتصاعد الدخان منه وزبد أمواجه تراب من النار. فسألت السحابة أأحول هذه الأتون المترامي الأطراف إلى بحيرة تخترقها الأفلاك؟ فأجابها صوت من السماء: إلى الأمام! إلى الأمام! هذه بابل ذات القلاع المتهدمة، بل هذه هي المدينة العظيمة التي انبثقت منها مفاخر الفتوحات ولكنها خرب وانهارت فارتسمت أظلال الأطلال ذات المنظر المؤثر على أربعة جبال تحيط بها أحاطة السوار. بل هذه هي الدائرة التي أقيمت فيها سلم يرقى بها إلى السماء. ولكن السلم

حطمت فأصبح لا يسمع في تلك الأطلال سوى فحيح الأفاعي وزئير ملوك الغابات، ولا يرى حولها غير النخيل المحلقة في جوانبه العقبان. فسألت السحابة: أأجهز على هذه البقايا؟. . فأجابها الصوت السماوي: إلى الأمام! إلى الأمام!. فاندلع منها لسان ناري كان لاندلاعه دويُّ كقصف الرعود وقالت: إلى أين المساق؟. هاهما مدينتان تناطح قصورهما الجو ويتخلل طرقها وساحاتها الحدائق فتعبث النسمات بأزهارها ورياحينها فيمتزج شذاها العطر بزفرات دنسة صادرة عن أجسام وطئ ذووها الفضيلة بقدم الرذيلة فقتلوها في نفوسهم قتلاً فاستسهلوا تضحية الطهارة للعار والعفاف للشهوات، فباتوا عرايا تحت تأثير هزات الحب، سكارى بخمرة الوصل، فيا أيتها المدينتان الجهنميتان المندفعتان في لجج الأهواء، الخالعتان عنهما أكليل الكمال، الدائبتان في إيجاد سافل المسرات إنكما وصمة المدن ومصدر دنس للأمم جمعاء. ها نجمة الصبح قد أشرقت متلألئة في سماء مكفهرة الأفق، والمدينتان في سبات، إذ قد انقطعت ضوضاء القبلات وهمدت النفوس وانعكست أشعة القمر على أجسام منطرحة على الثرى وهي جامدة كالجثث لما حل بها من العياء، فأخذ الهواء من جوانب سادوم متجهاً نحو عاموره وللحين حجبت السحابة السوداء السماء، فقال لها القائل العلوي بصوت يصم الآذان. هنا! فانفجرت السحابة انفجاراً ذا دوي هائل، واندلعت

السنة النار اندلاعاً، وهوت على قصور تناطح السماء، فتحولت المدينتان إلى أتون متسعر ذي لهب قاتم يزعج النفوس واستفاق الأهلون الذين لم يفكروا هنيهة في الله، وأصوات الدماء توجف القلوب وانهيار الجدران يروّع الأسماع، فاندفعوا في الطرق المتقدة والذعر آخذ منهم كل مأخذ، فصارت الأجسام إلى بقايا سوداء. هوذا الملك يشرف من قصره والكاهن من معبده والرجل والمرأة من مخدع غرامهما الدنس، ولكن كيف السبيل إلى الفرار والنار المضطرمة تلتهم وتدمر. فقل أذن أن الجحيم قد انفتح لابتلاع الأرض وما عليها من مبان وإناس. لم تبق النار على شيء وعبثأً حاولوا استمداد الآلهة فإن يد الله قد ضربت فسحقت الإنسان مع الصخر، ولا شت العشب وجففت الماء، وحولت عواصف تلك الليلة الرهيبة رواسي الجبال من حال إلى حال هناك سواد منتشر في الأرض وفي السماء هناك الآن صخور قاحلة جرداء لا يكاد ينبت فيها عشب حتى يصفر ويذبل ويموت، فإن الهواء الذي يهب في تلك الأرجاء يلهب ويحرق. لم يبق للمدينتين من أثر. ولم يدع الماضي لعبرة الحاضر والمستقبل سوى بحيرة مرة تغلي كمرجل لذكرى نار السماء تعريب حنا صاوه فيكتور هوجو

جرائدسوريا ولبنان

جرائدسوريا ولبنان أصبحت الجرائد العربية كثيرة في سوريا ولبنان. فلا يمر بنا أسبوع إلا نقرأ فيه عن صدور جريدةٍ جديدة لكاتب جديد. ولا يخفى أن الإنسان لا تمكنه الأحوال من مطالعة الجرائد كافة لأنه لا قبل له بالاشتراك فيها بأسرها ولو كان موسراً كثير المال ولما كان لي نزعة خاصة إلى مطالعة الجرائد والمجلات العربية فقد أحببتُ أن أعرف الأخوان بالصحافة والصحافيين في سوريا ولبنان. جاعلاً بين الفريقين صلة تعارف ورابطة أخاء. فقسمت الصحافة إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول الجرائد اليومية والقسم الثاني الجرائد الأسبوعية والقسم الثالث المجلات الشهرية والنصف شهرية. ولما كان ذرعي يضيق عن مطالعة الجرائد جمعاء فقد ذكرت في هذه السطور أهم الجرائد التي أقراها دائماً، فإذا أغفلت جريدة فلأنني لم اقرأها طويلا. أو لأنني سمعت باسمها فقط. فعذراً من أصحاب هذين القسمين: 1 - الجرائد اليومية 1ً: الأحوال بيروت: صاحبها سابقاً خليل البدوي وأصحابها حالا رعد وبوبز. هي الجريدة الوحيدة التي تصدر في كل البلاد العربية مرتين في النهار. كاتبها سليم العقاد. هو أعرف المحررين بأسرار الصحافة.

تكثر هذه الجريدة من التلغرافات والأخبار المحلية. لهجتها مسيحية. تدلي إلى تخرب. جرئية في انتقادها الموظفين والمأمورين. 2ً: لسان الحال بيروت: صاحبها خليل سركيس. هي جريدة المعندلين. كاتبها رشيد عطية اللغوي المدقق. قراؤها التجار والكهول. آراؤها السياسية على خطة واحدة فهي نسخةٌ من الطان والليفانت هوالد هي سائرة على قاعدة القديم على قدمه أما في الانتقاد فهي والأحوال على طرفي نقيض. 3ً: المفيد بيروت: صاحباها عبد الغني العريسي وفؤاد حنتس. يساعدهما في الكتابة أحمد صلاح الدين. هم ثلاثة أشخاص في روحٍ واحدة. جريدتهم جريئة. ولها مواقف تشهد لها بحبها للعرب. وهي الجريدة البروتية الوحيدة التي تقرأ في الاستانة بروية واهتمام. فمنزلتها في بيروت منزلة طنين في الاستانة. قراؤها عديدون. وأكثرهم من ناشئة المسلمين. 4ً: النصير بيروت: صاحبها عبود أبي راشد. محررها سعيد عقل الداموري. كاتب وشاعر معاً. هو سركيس بيروت. حركة دائمة. وأسرع كاتب في تسقط الأخبار، وخصوصاً اللبنانية. تطبع كل يوم مضاعف بعض الجرائد اليومية. هي تمثل صوت الشعب كما أن لسان الحال يمثل مشيخة الشعب. 5ً: الرأي العام بيروت: صاحبها ومحررها طه مدور. جريدتهُ

مندفعة كثيرة الانتشار بين الشبيبة المسلمة. تريد أن تسبق المفيد. والمفيد لا يشق له غبار - محالفته ثلاثية - يغمس صاحبها قلمه في سويداء قلبه. فهو يكتب ليفيد أكثر مما يستفيد. 6ً: الاتحاد العثماني بيروت: صاحبها الشيخ أحمد طباره. هي عند المسلمين كلسان الحال عند المسيحيين، لها برقيات خاصة - والمفيد أيضاً - وخطتها سائرة مع الزمان. 7ً: حديقة الأخبار بيروت: هي الجريدة الأولى التي تأسست في سوريا بفرمان سلطاني في 1 ك 2 يناير سنة 1858. منشئها المرحوم خليل الخوري الشاعر الشهير. وقد تحول امتيازها لعهدة أخيه وديع الذي يحررها. مادتها ضعيفة. أخبارها وتلغرافاتها منقولة. 8ً: الثبات بيروت صاحبها اسكندر الخوري. رئيس تحريرها خليل زينيه، وهو شيخ المحررين، وأخفهم روحاً وأطولهم باعاً. والثبات هي الجريدة البيروتية الوحيدة التي تصدر عند الظهر. أما بقية الجرائد اليومية - ما عدا أحوال المساء - فإنها تصدر صباحاً إلا يوم الأحد. أما جريدة المفيد فإنها تصدر الأحد وتحتجب الجمعة. 9ً: المقتبس دمشق: صاحبها محمد كرد علي، مؤرخ مدقق وكاتب سريع الخاطر. يهتم بشؤون المسلمين اهتماماً شديداً. قوة الجريدة متوزعة بينها وبين المجلة. 10ً: العصر الجديد دمشق: صاحبها المحامي ناصيف أبو زيد. تختلف جريدته ارتقاءً وترتيباً باختلاف كتاب العصر فيها فقد تولى

من كل حديقة زهرة

إدارتها عيسى إسكندر المعلوف فجرجي الحداد وسليم العنحوري فاسكندر المرحالا. فالعصر في دمشق الشام كالصدق المحتجب في بونس إيرس. 11: الكائنات دمشق: صاحبها أديب نظمي. كاتب كبير. في إنشائه رقة وسلاسة. وفي نفحةٌ من مفحات الأديب ولو لم يكن. في دمشق العصر الجديد المسيحي والمقتبس الإسلامي لكان لهذه الجريدة شأنٌ يذكر في أرض الشآم. هذه هي أهم الجرائد اليومية ومن وصفها ترى أن فيها المتطرفة والمعتدلة والمحافظة. حليم إبراهيم دموس وسيأتي الكلام عن الجرائد الأسبوعية والمجلات من كل حديقة زهرة تبلغ قيمة الأشجار المغووسة في شوارع برلين مليون مارك وعددها 45 ألف شجرة مزروعة في ثلثمئة شارع. ولدى المجلس البلدي 250 بستانياً و700 مساعد لخدمة هذه الأشجار والحدائق العمومية. وثلاثة أرباعهم من النساء. من عادات اليابانيين في أعراسهم أن العروس توقد ليلة زفافها مشعلا وتقدمه إلى خطيبها وهو يتناوله ويحرق بناره الألعاب التي كانت للفتاة في صباها. في روسيا عدد كبير من البوليس السري. ولا يقل عدد النساء المنخرطات في هذا السلك عن ألفي امرأة. ويبلغ رواتب البعض منهن

خمسين ألف فرنك. فكيف يقال أن المرأة لا تحفظ سراً. أكبر مدفع ٍ في العالم موجود الآن في قلعة كرونستاد روسيا وقد صب في معامل كروب الشهيرة. ووزن قنبلته ألف ومئتا كيلوغرام وهو يقذفها إلى مسافة 19كيلومتراً ويكلف كل طلق من طلقاته 7 آلاف و 500 فرنك. ثبت أن ميكروب السل لا يتسرب إلى لبن الماعز فهو خير لبن يغذى به الطفل المحروم من لبن أمه. في ولاية ميشيغان تبيع الحكومة رخصاً بحيز لصاحبها أن يسكر متى أراد وحيث أراد دون أن يتعرض له البوليس كما تباع رخص الصيد وغيرها. لا غنى للإنسان عن الملح ويجب أن يأكل منه 15 غراماً على الأقل و30 على الأكثر. يقول الفلكي الأميركي ولد مركمبغرت أن النجم الذي سار وراءه المجوس إلى بيت لحم لم يكن إلا مذنب هالي. لدى إنكلترا أسطول من زوارق الصيد يبلغ 26 ألفاً و500 زورق يركبها مئة وستة آلاف صياد. تفتخر السيدة سارة برملي من بوننجهام في انكلترا بأنها أكبر نساء العالم سناً. فإن لها من العمر 112 سنة وقد عاشت في ثلاثة قرون الثامن عشر والتاسع عشر والعشرين لأنها ولدت سنة 1799.

عشرة أعداد الزهور

عشرة أعداد الزهور صدر في السنة الماضية اثنا عشر عدداً من الزهور في 560 صفحة. ولما كان العدد الكبير من المشتركين يغيرون محل إقامتهم في شهري الصيف حدث تبلبل في توزيع المجلة وفقد منها أعداد كثيرة، ولذلك رأينا أن نوقفها في شهري الصيف مصدرين منها عشرة أعداد بدلاً من الاثني عشر. ولكي لا يخسر القراء والمشتركون شيئاً زدنا عدد صفحات الأعداد كما ترى ذلك الآن حتى تبقى مجموعة العشرة أعداد 560 صفحة كمجموعة الاثني عشر عدداً. وخصصنا هذه الزيادة برواية شهرية تصدر في كل جزء إجابةً لطلب الكثيرين.

أزهار وأشواك

أزهار وأشواك مات محمد العبد الأديب المعروف بشعره الطلي، وزجله اللطيف، المشهور بلونه الأبنوسي القاتم الذي كان يعد لون عنترة معه بياضاً ناصعاً، مات إمام، فكان لمنعاه رنة أسف وحزن، لأنه عاش بائساً ومات بائساً، وكان يلقب نفسه في حياته إمام البؤساء ورئيس حزبهم وقد تطوع في هذا الحزب الكثيرون من الأدباء واقروا له بالرئاسة والإمامة. وله ولهم في هذا الموضوع قصائد جميلة تناقلتها الصحف. نظم إمام في موضوعات كثيرة ولكن الفكرة السائدة في شعره هي الأنين والشكوى من الزمن. فقلما تطالع له بيتاً ولا ترى الدمع نافراً من حروفه ولا تسمع الزفير متصاعداً من تفاعيله. وكانت له طريقة في إنشاد الشعر تشبه الندب والرثاء. ولكنه كان مع ذلك خفيف الروح لطيف المعشر لا يمل جليسه له حديثاً، وله في الإشارة إلى لونه نوادر ونكات ظريفة منها جوابه المشهور لمن سأله عن امتناعه عن الزواج وهو ذلك البيت: أنا ليلٌ وكلُّ حسناء شمسٌ ... فاجتماعي بها من المستحيل لقيته يوماً وقد شدَّ عنقه بربطة حمراء فسألته عن السبب فقال: ليعرف الناس أين ينتهي جسمي وأين يبتدئ رأسي وكنت ماراً صباح يوم قرب البوستة فلقيت أماماً في قهوة كان يكثر التردد إليها فقال: هل لك في سماع شيء من الشعر؟ - فقلت: هات - قال: أجببت أمس أن أحذو حذو زميلي وابن لوني عنترة العبسي فظمت أبياتاً في الحماسة. . وتلاها علي فإذا هي تهديد للأعداء وتغزل بالردينيات

والمشرفيات وتغني بخوض غمرات القتال، فقلت له: سبقت والله فارس بني عبس فكأنك رضعت من لبن المعامع وربيت بين السيوف والرماح فقال: ومع ذلك ألا ترى الجبن والخوف متجسمين في كل بيت فأجبته: لا أفهم إلى ما تشير فقال اسمع، بينما كنت أنظم هذه الأبيات ليلة أمس إذا بحركة بدت من ناحية النافذة فارتعدت فرائصي خوفاً، وكاد لبي يطير شعاعاً، ولم يكن ذلك ألا قطة جارتنا قفزت من كوة الدار. . . . وكان إمام بعيد الشهرة في سوريا وأميركا وكان يراسل عدة جرائد وقد أحرز بعض جوائز مالية في سباقات فتحتها صحف تلك البلاد. وسيكون لنعيه أسف هناك كما كان له هنا. ولكن ذلك لا يجديه نفعاً بعد مماته، كما أن شهرته لم تدفع عنه بؤسه في حياته. وهكذا يعيش ويموت الأديب في الشرق: كحصاة تلقي في الماء الراكد فتحدث بعض تموجات سرعان ما تضمحل، وانتهى! ولم يكن إمام العبد ليشذ عن هذه القاعدة رحمات الله عليه. . أم ولا كالأمهات جرت هذه الحادثة منذ شهرين، في أيام الأعياد، ولم يتسن لي أن أقصها على قرائي وقارئاتي قبل اليوم، ليشاركوني في التلذذ بها، لأنها وأيم الحق لذيذة جداً، بل هي ألذ من حلوى العيد، أو أن ذوقي وجدها كذلك. . . دعاني أحد الرفاق مع صاحب الزهور لمناولة الطعام عنده، فأجبت الدعوة. وقضينا ساعات رائقة بين أكل مريء

وشرب هنيء وحديث عذب. وكان لصاحبي ولد يذهب ويجيء بيننا فرحاً مرحاً. ويعرض علي الألعاب التي أهديت إليه في العيد وهو معجب خصوصاً بلعبةٍ تدور بلولب خاص وتسير كأنها القطار البخاري. فقلت للولد على سبيل المداعبة: أي متى يحملك الإعجاب بحركتها الخفية على كسرها؟ فالتفتت إلي الوالدة وقالت: بالله عليك يا حاصد هلا سألته أي متى يحمله الدرس والاجتهاد على اختراع مثلها؟ وقف الولد عن كل حركة وحدق عينيه الجميلتين في عيني أمه كأنه يحاول أن يرى في تلك المرآة الصافية معنى ذلك القول الذي لم يدرك كنهه عقله الصغير وقال بكل سذاجه: الحق معكِ يا أماه. . . قبلت الولد وانحنيت إجلالاً أمام تلك الأم الفاضلة. وقد ذكرني كلامها ما قاله قائد ألماني في خطبة كان قد ألقاها منذ أيام وجيزة: يا قوم أنتم في هذه المواسم تبحثون عما تهدونه إلى أولادكم، لا تفتشوا طويلاً، اهدوا إليهم سيوفاً وبنادق لتتربى فيهم روح الشجاعة والبسالة فينشأوا أشداء أقوياء. بل رأيت كلام هذه الأم الفاضلة أعقل واسمى من كلام القائد. ولما تركنا المنزل قال لي صاحب الزهور: عسى أن يكون وياشد ما تكون دهشة هذه الأم عندما ترى كلامها مدوناً في هذه الصفحة.

صلاة الحصان للغربيين عطفٌ على الحيوانات يفوق عطفنا على إخواننا بني الإنسان. وقد ألفوا الجمعيات الكثيرة للرفق بالحيوان وانفقوا في هذا السبيل الأموال الطائلة لتخفيف أوجاع الحيوان غير الناطق. وقد ابتدعت إحدى هذه الجمعيات في الولايات المتحدة طريقة لطيفة للوصول إلى هذه الغاية. فألفت صلاة دعتها صلاة الحصان وطبعت منها الملايين من النسخ وعلقتها في الشوارع والمحلات العمومية. وإليك نصها كما قرأتها في جرائد تلك البلاد: بخضوع أرفع إليك صلاتي يا معلمي اطعمني وارو ظمأي. وبعد العمل والتعب امنحني فرصة للراحة في الإسطبل الخاص. بلغني أوامرك بالكلام لأن صوتك أفعل بي من اللجام والسوط. علمني وعودني العمل بتمام إرادتي. لا تضربني عند الركوب ولا تجذبني بسير اللجام عند النزول. وإذا أنا لم أفهم حالاً لا تسرع وتقبض على السوط بل أنظر جيداً إلى اللجام لعله يجرحني وإلى الحديدة التي في رجلي لعلها تؤلمني. وإذا رأيتني أعلك حديده اللجام انظر إلى أسناني. لا تقطع ذنبي لأنه سلاحي الوحيد، أُحارب به الذباب المحيط بي. يا معلمي العزيز إذا جعلني كبر سني ضعيفاً وعاجزاً فلا تحكم علي بالموت جوعاً، بل أحكم علي بالإعدام ذبحاً تخفيفاً لعذابي. وفي الختام سامحني لأجل هفواتي، وأقبل هذه الصلاة التي أرفعها إلى مقامك السامي بكل تقوى، آملا أن تحوز قبولاً. فأنني مولود حساس مثلك أستحق الشفقة والرحمة. آمين حاصد

رواية الشهر

رواية الشهر مغارة العظام 1 أمسيكم بالخير يا جدعان أسعد الله مساك يا سليم! أهلاً وسهلاً كل عام وأنتم بخير وأنت بألف خير. يا مرحباً بك. تفضل واجلس وكان الداخل - سليم - فتى في مقتبل الشباب، تبدو على وجهه سمات السذاجة والقناعة، وهو لابس عباءةً قد التفع بها على زي القرويين في لبنان، متلثم بكوفية ترد عنه هجمات البرد وتكسب هيئته شيئاً من الشجاعة والإقدام. وعند دخوله انتصب الجميع واقفين ووضع كل يده اليمنى على صدره حسب العادة إجابةً للتحية. فجلس سليم القرفصاء في حلقة الإخوان والأصحاب، وهو يردد: تفضلوا، ربنا يحفظكم. . . وكان قد جاء لقضاء السهرة مع زمرة من عشرائه في بيت أحدهم، وكانت الليلة ليلة رأس السنة. وقد جرت العادة في مثل هذه الفرصة أن يجتمعوا فيتداولوا الأحاديث المتنوعة والأخبار والنوادر. وكثيراً ما خالط أصواتهم رنة الأقداح، وطيبت أرواحهم بنت الراح. فلما اجتمع شملهم في تلك السهرة خاضوا كل المواضيع. فتكلموا عن العام الجديد والأحوال الحاضرة، وعن المزروعات وبشائر الموسم، وعن العادات والتقاليد فأدى بهم الحديث بالطبع إلى ذكر الأيام الغابرة والأسف عليها والحنين

إليها. فقال: العم أبو حبيب وكان أكبر الجميع سناً. لا يذهب يومُ ويأتي مثله. سقى الله أيام أجدادنا فإنها كانت أيام خير ومروه وشهامة. وهكذا أخذوا يثنون على العصور الماضية وطفق كل يسرد ما رواه له أبوه وأجده عن أمور شتى ونوادر متنوعة وخصوصاً ما يتعلق بالبسالة والبأس وقوة الجنان. هذا وسليم صامت لا ينطق بحلوة ولا مرة. على أنه كان يتأفف في قلبه من الحط من شأن رجال اليوم وإقدامهم. فاعترضهم أخيراً قائلاً: بارك الله في همم الرجال: لا تظنوا أن النخوة قد تلاشت أو أن الشجاعة قد فقدت من صدورنا. وما أيامنا إلا كأيام من تقدمنا. وفي كل عصرٍ رجالٌ لا يهابون الموت إذا تمثل لهم، وآخرون يخشون ظلهم إذا انعكس في ضوء القمر. فاشتد حينذاك الجدال وأدى إلى التحزب للماضي أو الانتصار للحاضر. وجاء في عرض الكلام ذكر مغارة العظام وخوف الناس من المرور بجانبها، فقال أحد الحاضرين لسليم: إذا كنت يا صاحبي كما تدعي لا تقل شجاعةً وبأساً عن أبائك وأجدادك. هل لك أن تقصد مغارة العظام في مثل هذه الساعة فتدق فيها وتداً؟ أدق وتداً وآتيكم بجمجمة. . . قال سليم ذلك ببعض البساطة الدالة على ثبات جنانه. فوقع كلامه على الحاضرين موقع الدهشة. لأن المكان المذكور كان قفراً، قد انتصبت فيه صخور جرداء، لا نبات هناك ولا أثر للحياة، وكان في منعطف ذلك الموضع مغارة واسعة ألقيت فيها من أمدٍ مديد عظام وجماجم كثيرة فأكسبتها اسمها ومغارة العظام وكان ذلك القفر مخيفاً رهيباً. وإذا اضطر بعض القرويين للمرور به نهاراً يسير وجلا مذعوراً ويهرول دون أن يحول نظره إلى تلك المغارة المشؤمة

وهو يكثر من ذكر اسم الله العظيم مستعيذاً به من شر الأبالسة والجن. أما في الليل فما كنت تجد من يتجرأ على المرور من هناك ولو ملكته كل أملاك القرية لأن السكان كانوا يزعمون أن أرواح الموتى تطوف ليلاً في ذلك المكان، فيا ويل من يراها أو تراه. ولذلك أحدث جواب سليم دهشة في الحاضرين، فنسبوا كلامه في بداية الأمر إلى المزاج أو الإدعاء. لكنه اتبع القول بالفعل وقام للحال فالتفع بعباءته وتلثم بكوفيته وقال: على الله الاتكال وخرج والجميع في حيرة من أمره. 2 في بيت منفرد عن بيوت القرية فتاة يتيمة اسمها تعيش وحدها مع جدتها العجوز وتكتسب قوتهما بعرق جبينها من غزل القطن وتسليك الحرير. وكانت الفضائل قد زينت روحها كما أن الطبيعة قد زانتها بالجمال واللطف المقرون بالشجاعة وليس ذلك بالشيء النادر بين القرويات. وكان قد خطبها شاب يتيم مثلها ومكمل الصفات مثلها وهو صاحبنا سليم الذي عرفناه في مطلع هذه الرواية فأقسمت له أن تحفظ عهده وتصون وده، وعاهدها هو على مثل ذلك. فكان الحب بينهما متبادلاً. وكان إبراهيم عبد الله أحد الشبان المعروفين بسوء الأخلاق ولؤم الطباع قد فتن بهوى سلمى وأخذ يزاحم سليماً في حبها. ولكنها لم تكن تلتفت إليه. وكثيراً ما حاول أن يستميلها تارةً بالوعد وطوراً بالوعيد فلم تكن ألا لتزيد نفوراً منه. وقد علم خطيبها سليم بواقع الأمر فلم يكترث له لأنه كان واثقاً بمقدرته وفضله على إبراهيم ومكانته من قلب خطيبته. سيما وأنه يعرف في قرنه الوهن والجبانة فكان يعرض عنه ازدراء أو شفقة. وقد جاء سليم في أول تلك السهرة ليلة رأس السنة فزار خطيبته. وقدم

لها ولجدتها الهدايا البسيطة في ذاتها العظيمة بما قارنها من عواطف حبه. واتفق أن دعيت الجدة ليلتئذٍ إلى بيت كانت صاحبته مشرفة على الولادة، فلبت الدعوة عملاً بالواجب المرعية حرمته بين القرويين، وإذ ذاك لم يسع الشاب إلا الرحيل أدباً ولياقة، فسار قاصداً حلقة الأصحاب للسمر معهم فكان من أمره معهم ما عرفناه. وبقيت سلمى وحدها تتسلى بذكر خطيبها، وإذا بالباب قد فتح فجأة ودخل إبراهيم عبد الله وهو في منتهى التهيج. فإنه كان يترقب فرصة يخلو له فيها الجو. فطال انتظاره حتى عيل صبره وكاد يقطع الأمل لو لم تواطئه الأيام وتمهد له السبيل في هذه الليلة. ولما دخل صاح بالفتاة والآن. . . . وهجم عليها. ففرت من وجهه ولجأت إلى زاوية البيت فتبعها. ولما ضاق بها المكان ولم تجد لنفسها مناصاً رجعت إليه لتدفعه، فوقع نظرها على خنجر في منطقة، فانتشلته بأسرع من لمع البرق وصاحت إليك عني وإلا قتلتك وكان التهيج والغضب قد أخذا منه مأخذهما حتى كاد يفقد رشده، فهجم عليها. ولكنها قابلته بطعنة خرقت أحشاءه. فوقع على الأرض صريعاً يتخبط بدمه ولم يلبث أن فاضت روحه الخبيثة. وحينئذٍ اضطربت الفتاة واستولى عليها الذعر من هول هذا المشهد ونظرت إلى السماء نظر الخائف المستغفر ولسان حالها يقول: يا إلهي أنت الشاهد على غدره، لم يكن لي وسيلة أخرى لصيانة شرفي. أنا برئية يا إلهي. ولكن إذا كانت بريئة في عين الله فكيف يعلم البشر براءتها وكيف يصدقون كلامها؟ وماذا عسى أن يكون من أمرها وكيف العمل للخروج من هذا المأزق الحرج. . . لم تجد سبيلاً إلا مواراة الجثة وكتمان الأمر خشية الفضيحة والهوان، ولكن ما الحيلة ومن يكون نصيرها وسليم غائب، وجدتها بعيدة عنها، وكيف الوصول إليهما دون أن تتنبه الظنون. دارت كل هذه الأمور في رأس الفتاة واستولت الحمى على دماغها المضطرب

فلم تر إلا أن تستجمع قواها وتتكل على شجاعتها فتقوم وحدها بستر أمرها. فعمدت إلى الجثة ووضعتها في كيس وحملتها على ظهرها وقد ضاعف الرعب قواها وسارت قاصدة مغارة العظام لتواريها هناك. 3 وصلت المغارة وقد أنهكها التعب فتقدمت وهي ترتعد خوفاً ورعباً، وكان لأقدامها وقع مروع يرن في أذنيها كصوت قضاء رهيب. وقد حجبت الغيوم المتلبدة في كبد السماء وجه القمر الساري فساد على تلك الأطلال ظلامٌ مدلهم ترتعش من هوله الأبدان. تقدمت الفتاة وهي تعثر تارةً بجمجمة وتارة ببعض العظام المتراكمة فيزداد اضطرابها ورعبها. ولما وصلت إلى الداخل أخذت تعمل على مواراة الجثة تحت كومة من العظام إذ طرق مسامعها وقع أقدام على باب المغارة. فانتفضت مذعورة وقد أخذتها القشعريرة. فحولت نظرها إلى الخارج فتراءى لها خيال قائم أمامها يتقدم ببطء وهدوء ورأت نفسها وحدها في هذا المكان المخيف، ولا مجير ولا معين، فافتكرت: آه لو كنت هنا يا سليم ورأيت في أي حال أصبحت تلك التي قادها حبك والاحتفاظ بعهدك إلى هذا المكان في مثل هذه الساعة. ثم ما لبثت أن عاد إليها الجلد بعد أن استعانت بالله، فعمدت إلى العظام والجماجم المحيطة بها وأخذت تقلبها بعضها على بعض، فأحدثت قرقعة مخيفة رددتها جدران المغارة، وتواتر بها رجع الصدى. وكانت سلمى ترمي من وراء ذلك إخافة الطارق في مثل هذه الساعة. فلم يخطئ ظنها لأن الخيال وقف برهة كمن داخله الخوف. لكنه عاد فأخذ يتقدم إلى الأمام شيئاً فشيئاً، وسلمى واجفة لكنها تزيد في قرقعة العظام. 4 ولم يكن الداخل إلا سليم، فإنه جاء قاصداً مغارة العظام ليأتي بالجمجمة التي راهن

عليها رفاقه. فلما وصل وقف عند الباب وسرح بصره في الداخل، فلم ير شيئاً من اشتداد الظلام، فتقدم قليلاً فسمع تلك القرقعة في المغارة، فأول حركة بدت منه الرجوع إلى الوراء، لكنه نفى عن مخيلته ما تصوره حلماً وتقدم وهو يظن أن أذنيه اسمعتاه شيئاً وهمياً. . . ولكن زادت الضجة. . . لا محل للريب، إن في المغارة أحداً. . . أمن عداد الأحياء وأم من عالم الأموات. . .؟ تقدم بضع خطوات، والقرقعة تزيد كأن الأبالس حلفت أن تقلق راحة هذا المكان: ولكن لابد لسليم من أن يأخذ جمجمة ويقوم بوعده ولو خرج الشيطان بنفسه ليحول دون مبتغاه. فما زال يتقدم. وحينذاك انجلى القمر قليلاً فتراءى للشاب منظر هائل: جثة منتصبة أمامه تتقدم نحوه ووراءها يلوح خيال لم يتميزه. . . ثم انبعث من وراء الجثة صوتٌ يلقي الرهب في القلوب: يا من لا يخاف من الأحياء ارتعد أمام الأموات، فأوجس سليم خيفة مما رأى وسمع، وكاد يطير فؤاده روعاً. لكنه ما برح يتقدم كمن تجرهُ قوة جذابة، فما شعر إلا وقد سقط عليه شيء ثقيل بارد، ولم يكن ذلك غير الجثة، فصرخ بسم الله. . . . واستل خنجره، فأجاب صوتٌ ضعيف: استرني أيا كنت يسترك الله. وكان القمر قد سطع بكل جلاء فأضاءت المغارة ومن فيها، فعرفت سلمى الخيال الداخل عليها، وعرف سليم الشبح المنتصب أمامه، ففتح ذراعيه وهتف: أنت هنا يا سلمى. . .! حفظاً لعهدك يا سليم. . .! وأشارت إشارة معنوية إلى جثة مزاحمه المطروحة على قدميه بين العظام والجماجم ففهم كل شيء

العدد 13

العدد 13 - بتاريخ: 1 - 4 - 1911 كل مياه البحر لا تغسل الأدران التي تعلق بقلب الفتى من سوء التربية لو شئنا أن نورد ما قاله الفلاسفة والشعراء والكتاب وأساتذة الاجتماع عن الولد، ذلك المخلوق الطاهر، لضاقت عن ذكر بعضه فقط المقالات الطوال. فإن الولد كان ولم يزل موضع عناية كل من اهتم بخدمة بني الإنسان وترقية شؤونهم، لأن هؤلاء الأطفال هم الحجارة التي نعدها لبناية الغد. وبقدر ما نسعى في صقلها وحسن وضعها يجيء وضع بناية مستقبلنا جميلاً متقناً. فمهنا كتبنا وسطرنا في هذا الموضوع الجليل لا نكون وفيناه حقه من الاهتمام. ريع الجميع من كثرة القضايا التي تعرض على المحاكم بشأن التعدي على آداب الأولاد وهتك حرمتهم وتسطير حروف الفحشاء على صحيفتهم التي كانت بيضاء ناصعة، فعادت وقد مرت عليها يدُ المنكر فذرة سوداء. وقد زاد هذه الحوادث شناعةً وفظاعة أن أبطاها المشؤمين هم ممن يطالب منهم أكثر من سواهم السهر على نور الآداب لئلا تطفئة أهواء المفاسد.

ثم أنهم اتخذوا فريسة لنار شهواتهم أغصاناً رطبة ناضرة. وإذا كانت هذه الأعمال تشجب وتستنكر وهي تكون برضى الفريقين فكيف يعبر عنها حين تتم قسراً وعنوة مع من لم يبلغوا سن الرشد ولم يعرفوا من لذات هذه الدنيا إلا قبلات أم حنون، ومن آلامها إلا الحرمان من لعبة أو تأنيب والد شفيق. فهل بعد ما نرى ونسمع صباح مساء يمل القراء لو طرق الكتاب موضوع الآداب مراراً وأكثروا من الحض على التربية وهي المصل الواقي الشافي من كل هذه الأوبئة؟ لا لعمري أن الواجب الأول على حملة الأقلام قبل التسابق في نشر الأنباء السياسية وإذاعة الاكتشافات العملية الجري والمباراة في هذا الميدان. تتبدئ تربية الولد بين جدران المنزل وفي حجر العائلة بين الأخوة والأخوات حين تكون نفس الطفل كما قال عنها الشاعر اللاتيني هوراس كالشمع المرن تتكيف بالكيفية التي يريدها وليُّها ومن منا إذا تطلع في مرآة الذاكرة إلى تلك الأيام البعيدة لا يذكر كلمة سمعها أو حادثة شهدها كان لها أكبر تأثير على ضميره الأبيض ولا بياض السوسنة في الحقل، وأشد وقع على قلبه الصافي ولا صفاء الماء المتدفق من الصخر. ولكن ما أقل سهرنا على أولادنا وأكثر تغافلنا عنهم وهم في العقد الأول من العمر. انزل معي أيها الوالد إلى أي شارع شئت من شوارع المدينة وافتح هناك عينيك وأذنيك. تنظر ما تنبو منه عينك وتسمع ما

تنفر منه أذنك بل أنت لست بحاجة إلى فتح هذه وتلك فإن المشاهد المخجلة تلفت منك الأبصار قسراً، والكلمات البذئية تشق إلى أسماعك سبيلاً. بل علام أدعوك إلى ذلك وكثيراً ما تسمع وترى طفلك الصغير يأتي من الحركات ويفوه من العبارات بما يأبى القلم تسطيره، وذلك على مرأى منك ومسمع وأنت باسم له مشجع لعمله بسكوتك المذنب. . . وعندما يبلغ الولد العقد الثاني من العمر ويصير يافعاً ينتقل القسم الأكبر من واجب تربيته عن عاتق الوالدين إلى عاتق المؤدب في المدرسة. ففي هذا الطور من العمر تتفتح أزهار النفس وتستعد لطرح ثمرها. فإن وجدت الأزهار هواءً نقياً وماءً طاهراً، جاءت نضرة زاهية. وإن لاقت هواءً ساماً وماءً فاسداً، جاءت ذابلة قبل الأوان. فترى الشاب شيخاً هرماً ويا تعس من كان هذا شبابه. . . وفي هذا العمر تزداد مهمة متولي التربية أهمية بازدياد الأخطار المحدقة باليافع: أخطار داخلية لأن عقله بات يفهم ما لم يكن يفهمه وقلبه أصبح لعبة في تيار الأهواء النفسانية، وأخطار خارجية لأن هناك عشراء السوء يضعون يدهم بيده للسير في طرق الضلال؛ ودواعي الفساد تحدق به من كل جانب وتتنازع إرادته الضعيفة التي لم تتقو في نار الاختبار ولم تتصلب في خبرة الدنيا والناس. وما عسى أن يكون مصير الفرد الذي ألقيت بذرة الرذيلة في قلبه طفلاً، ووجدت من يتعهدها ويعمل على إنمائها في صدره يافعاً. .؟ إلا أن مصير هذا المسكين لا محالة إلى أدنى هوات الانحطاط الإنساني.

وهيهات أن يقبض الله له يداً فيها من القوة ما يكفي لانتشاله من هذه الوحدة. وإذا أسأنا تربية أولادنا فلا نعجب لكثرة الجرائم وتعددها بل فلنعجب لأنها لم تبلغ أضعاف ما نحن سامعون. فلنجعل أذن شؤون التربية نصب أعيننا فلا ندخر وسعاً لأبعاد الأولاد عن كل أسباب الفساد فنحفظ لهم حياة النفس والجسم. وعلى نظارة المعارف أن تزيد سهراً وتيقظاً في تعهد معاهد العلم، فتطهرها من حين إلى حين لئلا تنمو فيها ميكروبات أوبئة الآداب. وعلى رجال البوليس أن يحافظوا في الشوارع على حرمة الآداب فلا نسمع في غدواتنا وروحاتنا تلك الألفاظ البذيئة التي تعلو في الطريق على كل صوت. . . تشكلت جمعية رعاية الأطفال بهمة بعض الأفاضل الغيورين على مصالح بلادهم فأخذت تعمل بجد ونشاط لوقاية الأطفال ودرء الأمراض والعاهات عن أجسامهم النحيفة، فنعم ما فعلت. واهتمت الحكومة بوضع قانون يتعلق بتشغيل الأحداث واضعة نصب أعينها في سن هذا القانون صحة الولد لئلا تذبل وتذوي بين جدران المعامل ساعة هي في طور نموها، فحبذا ما فعلت. ولكن يتحتم علينا مع الاهتمام بشؤون الأولاد المادية أن نوجه اهتمامنا إلى شؤونهم الأدبية، فنعمل على وقاية القلب كما نعمل على وقاية الجسم. حتى يسلم هذا وذاك من الأمراض القتاله. وعليه فيجب أن تؤلف جمعيات لهذه الغاية تأخذ على عاتقها الاهتمام بهذه المسألة الخطيرة وما هذا على من يحب أبناء جلدته بالأمر العسير.

إيماءة زائر

وهكذا نكون أعددنا للمستقبل رجالاً أقوياء جسماً ونفساً، فيكسبون أمتهم قوة مادية وقوة أدبية تدفعها إلى مقدمة الأمم الراقية. قال ألفرد ده موسه، وهو ذلك الشاعر الطائر الصيت الذي رشف كأس الملذات حتى الثمالة: يا ويل من يدع الفساد يتملك فؤاده. فإن قلب الفتى أشبه بإناء عميق. فإذا كان أول ماء يسكب فيه فاسداً فإن كل مياه البحر لا تكفي لغسله لأن هذا الإناء بعيد القرار وشائبة الفساد في قعره. فلنجتهد إذن ليكون أول ماء نسكبه في قلوب أطفالنا نقياً من كل دنس، مستخلصاً من أجمل زهور الفضائل. إيماءة زائر إلى بعض ما باورشليم من المآثر تابع المسجد الأقصى نعم قلت إني لا أتعرض لوصف تلك الآثار، غير أن قلبي لا يسمح لي أن أذكر أورشليم وأعرض عن ذكر الحرم فإنه أبدع ما رأيت حتى اليوم وقد عثرت في تاريخ ابن خلدون على ما أظن أن السواد الأعظم من القراء لا يعرفونه وهذا نص قوله: وأما بيت المقدس وهو المسجد الأقصى فكان أول أمره أيام الصابئة موضع الزهرة، وكانوا يقربون إليه الزيت فيما يقربونهُ يصبونهُ على الصخرة التي هناك. ثم دثر ذلك الهيكل وأتخذها بنو إسرائيل حين ملكوها قبلة لصلاتهم. وذلك أن

موسى صلوات الله عليه لما خرج ببني إسرائيل من مصر لتمليكهم بيت المقدس كما وعد الله أباهم إسرائيل وأباه إسحق من قبله وأقاموا بأرض التيه. أمره الله باتخاذ قبةٍ من خشب السنط عين بالوحي مقدارها وصفتها وهيا كلها وتماثيلها، وأن يكون فيها التابوت ومائدة بصحافها ومنارةً بقناديلها وأن يضع مذبحاً للقربان. وصف ذلك كلهُ في التوراة أكمل وصفٍ، فصنع القبة ووضع فيها تابوت العهد. وهو التابوت الذي فيه الألواح المصنوعة عوضاً عن الألواح المنزلة بالكلمات العشر لما تكسرت ووضع المذبح عندها. وعهد الله إلى موسى بأن يكون هرون صاحب القربان. ونصبوا تلك القبة بين خيامهم في التيه يصلون إليها ويتقربون في المذبح أمامها ويتعرضون للوحي عندها. ولما ملكوا الشام وبقيت تلك القبة قبلتهم ووضعوها على الصخرة ببيت المقدس وأراد داود عليه السلام بناء مسجده على الصخرة مكانها فلم يتم لهُ ذلك. وعهد به إلى ابنه سليمان فبناه لأربع سنين من ملكه ولخمسمائة سنة من وفاة موسى عليه السلام واتخذه عمده من الصفر وجعل به صرح الزجاج، وغشى أبوابهُ وحيطانهُ بالذهب، وصاغ هيا كلهُ وتماثيله وأوعيتهُ ومنارتهُ ومفتاحه من الذهب، وجعل في ظهره قبراً ليضع فيه تابوت العهد وهو التابوت الذي فيه الألواح وجاء به من صهيون بلد أبيه تحمله الأسباذ والكهونية (كذا في الأصل) حتى وضعه في القبر. ووُضعت القبة والأوعية والمذبح كل واحد حيث أعد له من المسجد وأقام كذلك مما شاء الله ثم خربهُ بختنصر بعد ثمانمائة سنة من بنائه وأحرق التوراة والعصا، وصاغ الهياكل ونثر الأحجار. ثم لما أعادهم ملوك الفرس بناه عزير نبي بني إسرائيل لعهده بإعانة بهمن ملك الفرس الذي كانت الولاية لبني إسرائيل عليه من سبي بختنصر وحدَّ لهم في بنائه حدوداً دون بناء سليمان بن داود

عليهما السلام فلم يتجاوزوها. ثم تداولتهم ملوك يونان والفرس والروم واستفحل الملك لبني إسرائيل في هذه المدة ثم لبني خسمان (كذا في الأصل) من كهنّهم ثم لصهرهم هيرودوس ولبنيه من بعده وبني هيرودوس بيت المقدس على بناء سليمان عليه السلام وتأنق فيه حتى أكملهُ في ست سنين فلما جاء طيطش من ملوك الورم وغلبهم وملك أمرهم خرب بيت المقدس ومسجدها وأمر أن يزرع مكانهُ. ثم أخذ الروم بدين المسيح عليه السلام ودانوا بتعظيمه، ثم اختلف حال ملوك الروم في الأخذ بدين النصرانية تارةً وتركه أخرى. إلى أن جاء قسطنطين وتنصرت أمهُ هيلانه وارتحلت إلى بيت المقدس في طلب الخشبة على الأرض التي صلب عليها المسيح بزعمهم فأخبرها القساوسة بأنهُ رمي بخشبته على الأرض وأُلقي عليها القمامات والقاذورات فاستخرجت الخشبة وبنت مكان تلك القمامات كنيسة القمامة (كنيسة القيامة) كأنها على قبره بزعمهم. وخربت ما وجدت من عمارة البيت وأمرت بطرح الزبل والقمامات على الصخرة حتى غطاها وخفي مكانها جزاءً بزعمها لما فعلوه بقبر المسيح ثم بنوا بإزاء القمامة بيت لحم وهو البيت الذي ولد فيه عيسى عليه السلام. وبقي الأمر كذلك إلى أن جاء الإسلام وحضر عمر لفتح بيت المقدس وسأل عن الصخرة. فأري مكانها وقد علاها الزبل والتراب، فكثف عنها وبني عليها مسجداً على طريق البداوة وعظم من شأنه ما أذن الله من تعظيمه وما سبق من أم الكتاب في فضله حسبما ثبت. ثم احتفل الوليد بن عبد الملك في تشييد مسجده على سنن مساجد الإسلام بما شاء الله من الاحتفال كما فعل في المسجد الحرام وفي مسجد البني صلى الله عليه وسلم بالمدينة وفي مسجد دمشق. وكانت العرب تسميه بلاط الوليد وألزم ملك الروم أن يبعث الفعلة والمال لبناء هذه المساجد وأن ينمقوها بالفسيفساء فاطاع لذلك وتم بناؤها على ما اقترحه ثم لما ضعف أمر الخلافة أعوام الخمسمائة من الهجرة في

آخرها وكانت في ملكة العبيديين خلفاء القاهرة من الشيعة واختل أمرهم، زحف الفرنجة إلى بيت المقدس فملكوه وملكوا معه عامة ثغور الشام وبنوا على الصخرة المقدسة منهُ كنيسة كانوا يعظمونها ويفتخرون ببنائها حتى إذا استقل صلاح الدين بن أيوب الكردي بملك مصر والشام ومحا أثر العبيديين وبدعهم زحف إلى الشام وجاهد من كان به من الفرنجة حتى غلبهم على بيت المقدس وعلى ما كانوا ملكوه من ثغور الشام، وذلك لنحو ثمانين وخمسمائة من الهجرة، وهدم تلك الكنيسة وأظهر الصخرة وبنى المسجد على النحو الذي هو عليه لهذا العهد. انتهى. هذا وأما الذي أردت الإيماء إليه من بعض ما بأورشليم وبيت لحم من الصدقات الجاريات والمآثر الباقيات فهو المدرسة الصلاحية في القدس الشريف ومدرسة اليتامى العلمية الصناعية في بيت لحم. أما المدرسة الصلاحية المعروفة بمدرسة القديسة حنة فهي مدرسة كهنوتية كبيرة متقنة البناء مجانية معدة لمائة وخمسين طالباً، ومدة الطلب فيها عشر سنين، لكنها مخصصة بمن يترشح لخدمة الله من طائفة الروم الكاثوليكيين دون سواها. وكلما انتهى فوج تستقبل فوجاً آخر. والقائمون فيها على إنارة العقول بالتعليم وتهذيب الأخلاق بالترويض رجالٌ ممن برزوا في حلبة الفضل وممن أخذوا السبق في مضامير العلم. إلاًَّ وهم إجلاء من الرهبان البيض الذين كأنما بياض ثيابهم ينادي ببياض سرائرهم. وقد تخرج في هذه المدرسة العظيمة الشأن عدة من الكهنة الذين تعتز بهم المنابر وتستنير بأقوالهم المجامع والمحافل ويفوح من آثارهم شذا الفضائل فإذا نظرت يا رعاك الله إلى ما تجني من العوائد الكبيرة طائفة يقوم على إرشاد أبنائها رجال من أهل العلم والصلاح من أمثال

هؤلاء عظم في عينك قدر منشئ هذا المعهد العلمي الحري بأن يُدعي (بيت النور والفضل) وجلت في نفسك همتهُ ولاح لك ضوء حكمته. ولاسيما متى اعتبرت سداد رأيه بتوسيده أمر التعليم والتربية والإدارة في ذلك المعهد إلى أولئك الرهبان الذين أفصى همهم أن يوقدوا مصابيح العلم ويبذروا بذور الفضائل ويزيلوا من أمام المجتمع الإنساني دواعي الشقاء ويكشفوا حنادس الجهل وناديت بأعلى صوتك يا رحمة الله أسقي قبر الكرديناك لا فيجري الذي دخل سورية محسناً وودعها محسناً. وأما مدرسة البنين ببيت لحم فهي بناية بل بنايات هائلة عالية كأنها خطيب فصيح متبوئ منبر الثناء على همة رجل الفضل الذي أخذت آثاره من النفع بأوفر حظ، وضربت له من مجد العاجلة والآجلة بسهام لا بسهم. فقد زرت هذا المعهد الرحب الذي أسكرت منشئه خمرة الهيام بتعليم الصغير، واستغرقته لذة الغرام بتربية اليتيم، فرأيت فيه زهاء المائة من الفتيان يتعلمون عشر صنائع من الصنائع اللازمة للبلاد ورأيت من مصنوعاتهم ما يشهد لهم بالبراعة والحذق في الصناعة وقد عرفوا بذلك حتى صار المتأنقون من أهل اليسار من الأطراف القريبة والبعيدة يستصنعونهم ما يحتاجون إليه.

وهم يتعلمون مع تلك الصنائع العشر ثلاث لغات الفرنجية والطليانية والعربية، ويلقى في أذهانهم من بذور التعاليم والآداب المسيحية ما أجمع الكون على أنهُ منبثق أنوار المدينة. ثم أن تلك المدرسة مجانية تبذل لذلك العدد العديد من اليتامى كل ما يعوزهم من طعام وكسوة وكتب وأدوات صنائع ولا تطلب من تلك النفقة الباهظة عوضاً إلا وجه الله الكريم. فأولئك اليتامى وكل من اتصل به خبر هذا الأثر الجليل يقولون: رحم الله (الأب انطون بلوني) الذي أعلى للجميل معالمه وحمى مكارمهُ فلقد كانت أيامه أيام المبار والمحامد وأزمان المكارم والمآثر. ومن حسن نظر هذا الغيور في عواقب الأمور أنه لما طعن في السن ووصل إلى عصر يوم الحياة خشي على هذا الميتم الكبير وسائر المدارس التي أنشأها في الناصرة وفي بيت جمال وفي كرم الزان أن تغلق أبوابها وتنضب ينابيعها فسلمها إلى من لا يألون جهداً في المحافظة عليها بل إلى من لا يصرفهم عن إنمائها وتوسيعها غرضٌ من الأغراض فهم جماعة من الآباء الساليسيان متجردون لخدمة الله بتعليم الأحداث والسعي لتخفيف شقاء الحياة (بيروت) سعيد الخوري الشرتوني. السنة الأولى للزهور في الإدارة مجموعة الزهور للسنة الأولى مجلدة تجليداً متقناً وثمنها خمسون قرشاً صاغاً. ويضاف إلى ذلك أجرة البريد للخارج.

بين هدى وأدما

بين هدى وأدما عود إلى تمدن المرأة العصرية قرأت أدبية بيروت كلمتي بين هدى وأدما فأغضبتها وهي على ما هي عليه من لين العبارة ونعومة المعنى وقرأت ردها علي فأخذتُه بحلم وسعة صدر على ما فيه من القوارص والمغامز فكان غضبها وحلمي دليلين على نقيضين: ضعف النساء ورصانة الرجال. قبل الموضوع لي ملاحظة: أولاً: عتبت الآنسة أدما ورفيقاتها على صاحب الزهور لأنه وسع لمقالي صدر مجلته فهي إذن تريد أن يباح القول ويمنع عن فريق آخر، ويصدر الحكم لصالح الفريق الأول. فالداعي وإن لم يكن من القضاة ولا المحامين يرى أن استئثار خصم بالكلام دون الآخر يجعل البحث والحكم باطلين، وهي حقيقة بديهية ما كانت لتخفي على الآنسة أدما ورفيقاتها لولا ثورة العواطف. ولو أنهن رغبن بحرية الكلام وإباحته للخصوم لأثبتن رحابة صدرهن. أما الآن فقد سجلت السيدة أدما ورفيقاتها المندهشات على أنفسهن واحدة من تلك المميزات التي تؤكد ضعفهن وتكون حجة للرجال عليهن. ثانياً: جاء في ردها فإذا كانت المرأة الآن كما تزعمون فلأنكم أنتم أردتموها كذلك يا معشر الرجال. هنا قررت الآنسة الأديبة ضمناً أحقية دعوانا وسلمت أن المرأة هي

فعلاً كما وصفناها وإن حالها تستدعي العلاج العاجل لكنها ترى أن المرأة ما أصبحت هكذا إلا لأننا نحن أردناها هكذا. معنى هذا: إن النساء ما هن إلا مخلوقات وجدن لإرضاء الرجل لا غير. أيرضيك هذا الاستنتاج المنطقي يا سيدتي؟ ثالثاً: كتبت أديبة بيروت المتحمسة جداً ثلاث رسائل طالعناها بشغف وأثنينا على همة ونهضة ناسجة بردها إلا أن النقطة الوحيدة في الرسائل الثلاث هي أن في النساء فاضلات وأيدت ذلك بالحجج الدامغة، وأن في الرجال غير فاضلين وأثبتت ذلك بالبراهين الناصعة كل هذا صحيح، وكل هذا مسلم به، ولكن ليس هنا الموضوع. مثلاً: أب له عشرة أولاد خمسة ذكور وخمس أناث. في الذكور ولدان شقيان وثلاثة فاضلون. وفي البنات اثنتان فاضلتان وثلاث شقيات. أراد الأب إصلاح ما أعوج في الأناث الثلاث فأجبنهُ: ما لك ولا صلاحنا ألا ترى أن في أولادك الذكور شقيين وأن بيننا نحن فاضلتين، فما دام بين أخوتنا الذكور أشقياء وما زال بين شقيقاتنا فاضلات دعنا في جهلنا. أجواب البنات الثلاث مقنع سديد أم هو برهان فاسد؟ وجوابك يا سيدتي لا أراه مستنداً على دعائم أوطد. ولما كان في النظريات الصرفة بعض الصعوبة اسمحي لي أو أورد حكايتي مع امرأتي قديماً وحديثاً وهو بحث واقعي لا يحتاج إلى فلسفة وقولي لي إذا لم تكن حكايتي هي حكاية سائر الفتيان والفتيات التي تحدث كل يوم: يا طير

والأمثال تضرب للبيب الأمثل. لما كنت عازباً وقد مضى على ذلك زمن ليس باليسير كنت أحسبني لا أتزوج أبداً لدواع لا محل لذكرها أهمها اعتقادي بعدم مقدرتي على القيام بكل الواجبات التي تطلبها المرأة إلى أن علقت يوماً بفتاة فتانة. ترددت على بيت أهلها وبعد المعاشرة عرفوا أميالي ولم يقصدوا منعي عن فتاتهم فأخبروني بأنها كما أحب: عمرها 18 سنة، تتقن فن الطبخ، وتعرف أن تهيئ ألف شكل وشكل، غير مكترثة بالمودة، ولا تحب النظر إلى الأكبر منها وهي فوق ذلك تحب تدبير بيتها بنفسها ولا تتكل على الخادمات في شيء، فضلاً عن أنها تحب اللغة العربية لغة أهلها وهي تكاد تكون متعصبة لها. وكان الهوى قد دب في الصدر وقضى على بقية كانت لا تزال تحبب إلي العزوبة فاستسلمنا للأقدار وعقد الزواج. مضى شهر العسل وابتدأت المعيشة البيتية العادية، فماذا رأيت؟ علمت في أثناء الحديث أن عمرها 24 سنة لا 18 وقالت معتذرة: لا تزعل. فنحن النساء نخصم دائماً 30 بالمئة على الأقل من عمرنا. فقلت: قيدنا الأولى يا سيدتي وبتنا ننتظر أخواتها. أتيت يوماً إلى البيت فلم أجد الطعام جاهزاً فسألت عن السبب فقالت مولاتي: الخادمة متمارضة وأنا لا أعرف من شغل المطبخ شيئاً. ففي بيت أهلي كان لكل عمله: لي الزينة والنزهات، وللطاهي الطبخ،

وللخادمة التنظيف وما أشبه. . فقلت: قيدنا الثانية يا سيدتي. لم تمض مدةٌ وجاءتنا سيدة من المثريات كثيراً تلبي من الملابس الثمينة ما يدهش وعليها من الحلي ما يقدر بمئات الجنيهات وربما الألوف. فأخذت سيدتي تسألها عن هذا وذاك وهي معجبة مفتونة وأنا أقول: سؤالها من قبيل حب المعرفة بالشيء ولا الجهل به فقد أكد لي أهلها أنها لا تنظر إلى الأكبر منها. ذهبت الزائرة الكريمة وإذا بسيدتي تقول: ما أجمل حلقها سألت لك عن البائع فهو زيفي تعال ننزل ونشتر مثله. . . فدهشت وقلت: ولكن. . لا لزوم إلى لكن. . أنا أعلم أن المبلغ ليس متوفراً كله معك الآن فندفع قسماً ونعطي وصلاً بالباقي فندفعه بعد سنة. أمرك سيدتي. ولكن اسمحي لي أن أقيد الثالثة. قيد ما تريد بشرط أن نشتري الحلق وانظر كم أنا حريصة: ما طلبت غير الحلق وتجاوزت عن المشبك وعن أسورة الماس وغيرها من الحلي. أشكر لك تجاوزك وحرصك يا سيدتي: ثم رزقنا طفلاً صغيراً وبعد أن مننتني سيدني ما شاءت بسبب هذا المولود حسبت أنها تغير شيئاً من خصالها فتنبته إلى المنزل وتصبح حريصة حباً بولدها فضلاً عن اعتقادي أنها ستحرص عليه حرصها على عينيها السوداوين وما كان أشد دهشي حين طلبت حالاً مرضعاً. فقلت ولكن المرضع لا تنتبه إلى الولد

فقالت: شيء مضحك. وهل تريد أن أنهك جسمي. لا لا. أحضر المرضع حالاً. أما يكفيك أني أعطيتك ولداً. آه منكم يا رجال. فقيدنا الرابعة. جاء دور تسمية المولود. فسألتها عن الاسم الذي تريده قالت ويلهلم فيكون سمي امبراطور ألمانيا. قلت: يا سيدتي أنا عربي وابن عربي وأحب أن اسمي ابني اسماً عربياً. أيكون اسمي حسون واسم ابني ويلهلم. فضحكت مولاتي مني ومن اسمي وقالت ومن قال لك أني لم افتكر بتغيير اسمك. يجب أن تسمي نفسك: إدجار فقلت: سمي ابنك كما تريدين واسمحي لي أن أبقي اسمي كما هو: بعد ها لكيرة جبة حمرا. هذا قليل من كثير مما جرى لنا وعندي زيادة للمستزيد. فرأيت أن دوام الحال على هذا المنوال من المحال فأخذت اسعى بتحسين الحالة رويداً رويداً متربصاً الفرص السانحة الملائمة إلى أن أصبحت سيدتي اليوم من خيرة العقيلات رأياً وتدبيراً وحرصاً وطبخاً إلى آخر ما يلزم من الأعمال البيتية. . وقد قرأت عليها ما تقدم وولدنا أمامنا يصغي باندهاش عمره خمس سنين فتبسمت وقالت: حقاً أن المرأة تجهل الحال المحزنة التي تكون فيها حتى تتغير فحينئذٍ ترى الفرق الهائل بين ما هي وبين ما يجب أن تكون فكم أنا مديونة لك يا عزيزي. . .

الحيدرية

الحيدرية 1 - لمعة عامة في أهل هذا البيت في الزوراء بيت شريف المحتد، عريق النسب، كثير العلماء، شهير بالفضلاء والأدباء، اسمه بيت الحيدرية وأول من نبه منهم الجد الأعلى الشريف أحمد الأعرابي وكان من بادية الحجاز فتحضر في المدينة فأصبح من أكابرها المعدودين وممن يشار غليه بالبنان. ويتصل نسبه بموسى الكاظم. وقد هاجر بعض من سلالته إلى العراق والبعض الآخر إلى بلاد ما وراء النهر. فالذين احتلوا العراق جاؤوه أيضاً من بلاد وراء النهر وكان أول نزولهم في البصرة فأقاموا فيها معززين وما أبطأوا أن غدوا من سادتها العظام ورؤسائها الفخام يأخذون جزية اليهود والنصارى والصائبة الذين كانوا في تلك الحاضرة. ثم أبدلت الجزية بدراهم معينة في عهد السيد عبد الغفور الحيدري مفتي الشافعية في بغداد. وكان يتقاضاها من خزينة البصرة. وكان لهؤلاء السادة عدة قرى في جوار بغداد مثل شهربان وهبب وشروين وغيرها. ونحو ثلاثين قرية في نواحي شهرزور وذلك من عهد السلطان سليمان خان الذي ملك من سنة 1520 - 1566 م إلى أيام السلطان عبد المجيد 1839 - 1861. وأما اليوم فإن السادة الحيدرية وأن كانوا أغنياء ولهم أراضٍ كثيرة بيد أنهم لا يضارعون أجدادهم بوفرة حطام الدنيا. وكان إفناء الحنفية والشافعية في دار السلام منحصراً في السلالة

الحيدرية قبل وقوع طاعون بغداد الجارف الذي اجتاح المدينة سنة 1247هـ - 1831 م. ثم انحصر بهم إفتاء الشافعية فقط. وجميع إجازات علماء العراق تنتهي إلى الحيدرية وتنتمي إليهم. بل وبعض إجازات بلاد الروم أيضاً أي آسية الصغرى تنتمي إلى أحمد بن حيدر صاحب المحاكمات الشهير. وأما الذين ظعنوا إلى ديار ما وراء النهر فإنهم أصبحوا هناك أيضاً من امرائها العظام وفضلائها الكرام، بل نشأ منهم الدولة الصفوية في الديار الفارسية. واتصال هذه الدولة بالحيدرية يرتقي إلى الشيخ صدر الدين بن القطب الشيخ صفي الدين أبي الفتح إسحاق. وكان الصفوية على مذهب أجدادهم مذهب السنة والجماعة. ثم تشيعوا وأول من عدل عن سنة آبائه وزاغ عنها إسماعيل شاه الصفوري. وذلك أن واحداً من أصحاب هذا المذهب نفث في صدره أنه إذا تشيع هو وعساكره يقهر عدوه السني السلطان سليم خان ويورده حياض الخاسرين الخاسئين. ففعل، إلا أن الواقع لم يحقق ما كان في النفس من الأمنية. قال السيد إبراهيم فصيح بن صبغة الله الحيدري، وهو الذي أخذنا عنه معظم أنبائنا وأفاداتنا: إن الشيخ صفي الدين رأى في المنام أن قد خرج من يده اليمين نور امتد إلى عنان السماء. ومن يده اليسرى كلب فلما أفاق قصّ الرؤيا على أحد المعبرين. فأول النور بأنهُ سيكون له ولد يتناسل منه العلماء إلى انقراض الدنيا. وأما الكلب فإنهُ سيولد له ولد يتناسل منه أناس خوارج عن جادة الكتاب والسنة والجماعة. وقد

وقع ذلك لأن الحيدرية من لدن صفي الدين إلى يومنا هذا ولله الحمد لم تنقطع العلماء منهم. بل ورثوا العلم عن أب وجدٍ. ولا فخر. وأسأل الله تعالى أن يمد ذلك إلى قيام الساعة كما أول ذلك. والملوك الصفوية ارتدوا على أعقابهم وترفضوا وتركوا مذاهب آبائهم أهل السنة والجماعة. فنعم الجدود. ولكن بئس ما خلفوا انتهى كلامه بخرفه. هذا كله من جهة النسب إلى الأب الأعلى. وأما من جهة الأم فإن السلطان حسن الأيلخاني المعروف بسلطان حسن الطويل أو الشيخ حسن الكبير الذي ملك بغداد وآمد ديار بكر وخراسان ونواحيها كان فرعاً من هذه الدوحة العريقة في الشرف وقد توفي الأمير المذكور سنة 757 هـ=135م. 2 - أسعد صدر الدين الحيدري إذا وعيت ما قرأت ثبت لديك أن هذا البيت بل الأولى هذه الدوحة كثيرة الفروع والأفنان وشيجة العروق متشعبة الأغصان، والأحاطة بمن نبغ من رجالها من الصعب العسر الحصول عليه. إلا أننا نذكر بعض من اشتهر ذكره في العراق وامتد صيتهُ إلى أبعد الآفاق. فمنهم أسعد صدر الدين مفتي الحنفية ببغداد وهو ابن العلامة عبد الله الحيدري البغدادي وكان من الرجال الدُهاة. وكبار الرواة. ذا هيبة ووقارٍ. وجاه كبارٍ. نال من القبول والكلمة النافذة بين العباد. ما جعله بين أول مستشاري ولاة بغداد. ودرس العلوم العقلية والنقلية أربعين سنة متوالية وعاش حتى ناهز عمره الثمانين من الأعوام. وأخذ عنه العلم عدة علماء أعلام، منهم: العلامة الكبير والوزير الخطير

والي بغداد الشهير داود باشا فإنهُ لازمهُ قبل الوزارة سبع عشرة سنة وقرأ عليه المعقول والمنقول حتى فاق أقرانهُ. ومما يؤسف له أننا لم نستطع أن نتوفق إلى العثور على تاريخ ولادته ولا على سنة وفاته. وأما تأليفه فمنها: 1: حاشية على تحفة المحتاج للشيخ العلامة ابن حجر الهيتمي المكي. حاكم فيها بين المحشين على التحفة. جمع فيها وحقق وأوعى. 2: حاشية على المحقق عبد الحكيم الهندي علي الخيالي. 3: حواشيه على حاشية العلامة اللقاني المصري على شرح الغزي للتفتازاني في علم الاشتقاق. 4: حواشيه على حاشية القرباغي في المنطق. 5: حواشيه على حاشية العلامة الطحطاوي على الدر المختار. 6: شرحه على اللغز البهائي المشتمل على علوم شتى. وغير ذلك من التعاليق والحواشي المفيدة المختلفة ولكن لم نقف له على شعر منظوم ولا على كتب تاريخية ولا على مصنفات رياضية أو ما ضاهي هذه الأبحاث العقلية أو الأدبية أو اللغوية. 3 - صبغة الله الحيدري ولد صبغة الله بن إبراهيم الحيدري في قرية ماوران ورحل إلى بغداد في صباهُ فاستوطنها وهو شيخ مشايخ علماء بغداد في عصره وقد أخذ عنه العلم جميع معاصريه في الموصل وبغداد وما بينهما. وكانت وفاته في بغداد في طاعون سنة 1187 هـ=1773م. وممن نبغي من أولاده الملا عيسى فإنه كان فاضلاً أديباً تلقى العلوم عن أبيه صبغة الله فبرع فيها ولما سافر إلى بغداد أمين العمري قرأ عليه واستفاد منه كثيراً. وتوفي قبل أبيه ونبغ أيضاً ابنه الآخر حيدر مفتي

بغداد وعالمها أخذ العلم عن أبيه ففاق اقرأنه وذويه، أقام بالإفتاء مدة طويلة في حياة والده إلى أن توفي بطاعون بغداد سنة 1187 هـ=1773 م. وممن أخذ عنه المعقول والمنقول: أمين العمري. ومن قبله شيخهُ السيد موسى الحدادي الموصلي والعلامة الملا جرجس الأربلي والملا حمد الجميلي وخير الله العمري. وغيرهم. ومن تآليفه: 1: حاشيته علي البيضاوي. حواشيه على حواشي المدقق عصام الدين على شرح الكافية للجامي. 3: حواشيه على الحاشية المسماة بالمحاكمات على العقائد الدوانية لجده العلامة أحمد بن حيدر. 4: حواشيه على الكتب الحكمية الصعبة المأخذ. 4 - إبراهيم بن حيدر هو والد صبغة الله المتقدم ذكره. ولم نقف على سنة ولادته ولا على عام وفاته. وله تآليف جمة. منها: 1: حاشية على تحفة المحتاج لابن حجر المكي. 2: شرح الزوراء للدواني. 3: الإلهامات الربانية وهو سفر جليل يتناول كل بحث وفن. ويسميه بعضهم الملهمات واسمه يدل على فحواه لأنه يحوي خواطر في مختلف العلوم. 4: شرح بانت سعاد. 5: تفسير القرآن في مجلدين. 6: شرح تشريح الأفلاك في الهيئة. 7: الحاشية الدقيقة على حاشية لحاشية قول أحمد علي الفناري في المنطق. 8: الحاشية على حاشية الوغ بيك على شرح المسعودي في آداب البحث. 9: حاشية على حاشية المحقق ميرزا خان على حاشية السيد السند على شرح المطالع في المنطق. 10: حاشية على الجوامع في أصول الفقه. 11: حاشية على شرح عصام الدين على رسالة البيان. 12: حاشية

على الكواكب الدرية في القواعد الجفرية. وغير ذلك من الحواشي بل الغواشي التي ليس تحت إيرادها بل ومطالعتها فائدة جزيلة إذ هي على الحقيقة عقبات تصد المطالع عن الوقوف على الحقيقة مثل كتابه: حاشية على حاشية عبد الحكيم الهندي على شرح الشمسية في المطق. 5 - الشيخ حيدر بن أحمد هو والد إبراهيم المار ذكره. ولا نعرف أيضاً يوم ميلاده ولا يوم رحيله. وكان أيضاً من أساطين العلم المعدودين في وقته: قال عصام الدين عثمان العمري الموصلي في كتابه الروض النضر في ترجمة أدباء العصر وهو كتاب خطي موجود في دير مبعثنا العراقي ما نصه: نشر ألوية التدريس في قرية ماوان. فقصدته رجال التحصيل من كل مكان. والتفت إلى الإفادة عرضاً. فأزحمت الفضائل بعضها بعضاً. فقصدوه من سائر البلدان. ومن خراسان وطخارستان. والعجم وداغستان. وصنف وأفاد. وملأ بتأليفاته الأقطار والبلاد. فحاز المعالي. واستخدام الأحرار والموالي. وتفرد في فنونه. حتى نزل من جسد الفضل منزلة عيونه وقبره تحت قلعة إربل يزار. إذا كان عليه الحول في المكارم والمدار. وله من التآليف: 1: حاشية على شرح مختصر المنتهى في أصول الفقة. 2: حاشية على شرح التجريد في علم الكلام. 3: حاشية على شرح حكمة العين في الحكمة. 4: حاشية على حاشية اللاري على شرح القاضي الرومي على الهداية في الحكمة. 5: حاشية على شرح العقائد العضدية للدواني. 6: حاشية على حاشية الخيالي على شرح العقائد

النسفية للتفتازاني. 7: حاشية على أشكال التأسيس في الهندسة. 8: حاشية على شرح عصام الدين على الرسالة العضدية. 9: حاشية على إثبات الواجب. وغيرها من هذا الطرز الذي يضيع فيه الزمان إذا أوردنا أسماءها. وكأن تأليف الحواشي على الحواشي على الشروح على الشروح على الشروح من مزايا هذا البيت. 6 - أحمد بن حيدر هو والد الشيخ حيدر المذكور وسنو ولادته ووفاته مجهولة أيضاً لم نقف عليها مع ما بأيدينا من كتب الحيدرية الخطية. ومن تآليفه: 1: حاشية على شرح العقائد الدوانية المشهورة باسم المحاكمات لأنه حاكم فيها بين جميع الحواشي الواقعة على الشرح المذكور. وصارت جادة تقرأ عند التكميل في الديار العراقية وغير ذلك من البلاد العربية بل وفي البلاد الهندية أيضاً من متعلمي اللغة الضادية. 2: كتاب رد الرافضة. 3: كتاب إثبات غسل الرجلين في الوضوء وأبطال المسح. 4: رسالة كبيرة في تفسير هذه الآية: [الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاةٍ] 5: حاشية على الشفاء في علم الحكمة لابن سينا. وقد استشهد المؤلف في تأليفه هذا بالفاضل العلامة عبد الحكيم السيالكوتي الهندي وكانا قد تعارفا في إحدى السفن البحرية في أثناء السفر وأهدى أحمد الحيدري نسخةً من كتاب المحاكمات إلى صديقة السيالكوتي وهذا أهدى إليه كتاب المطول بخط مؤلفه العلامة التفتازاني مع حاشيته عليه بخطه. والحاشية على المطول الذي أهداها السيالكوتي إلى الحيدري هي أول نسخة وصلت إلى الديار العراقية.

7 - حيدر بن محمد الصفوي هو والد أحمد السابق ذكره. وكان أيضاً من العلماء العاملين وله حاشية عظيمة على تحفة ابن حجر وكان مفتي الشافعية في خطة العراق ترجع إليه فحول العلماء في الفتوى وكان يدعى في العراق بابن حجر الثاني وكان معاصراً له. 8 - محمد بن حيدر بير الحيدري هو والد أحمد المشار إليه. وله حاشية على إثبات الواجب. وهو أول الواردين من ديار ما وراء النهر إلى العراق وقد نشر فيه العلوم العقلية والنقلية وتلقتهُ العلماء بالتعظيم وأخذوا عنه الحقائق العلمية وكان يتكلم باللغة التركية الجغطائية. وولد ابنه حيدر المذكور آنفاً في العراق من امرأة تزوجها من الطائفة الباشورية من أولاد عبد الله بن عمر بن الخطاب وهم أيضاً بيت علم وفضل وجاهٍ أقدم أهل العلم وغيرهم في العراق لأن جدهم أتى العراق من زمن أبيهم الأكبر عبد الله بن عمر بن الخطاب. 9 - حيدر بير الدين 10 - الشيخ أمين الدين وأخذه العلم عن آبائه بالتسلسل ونسبهُ الأعلى. ونختم مقالتنا هذه بكلام السيد إبراهيم فصيح الحيدري تتمة لما أتينا بذكره قال: ووالد محمد العلامة المشار إليه هو الشيخ العلامة المرشد الكامل حيدر بير الدين بن أمين الدين له خوارق عظيمة وقد جمع بين علم الظاهر والباطن. ووالد هذا العلامة المرشد المشار إليه الكامل الشيخ أمين الدين له كرامات وخوارق عجيبة جمع علم الظاهر والباطن. وكل واحد من هؤلاء

الرجال العظام أخذ العلم عن أبيه وكمل عليه إلا أحمد بن حيدر صاحب المحاكمات فإنه أخذ عن أبيه العلوم النقلية وبعض العقلية وأخذ عن غيره بعض العقلية وسمع الحديث عن عبد الملك العصامي عن الشيخ ابن حجر المكي كما هو مذكور في ثبته. وأخذ جدنا محمد العلم والطريقة عن أبيه بير الدين عن أبيه العلامة إبراهيم برهان الدين عن أبيه المرشد الكامل الشيخ صدر الدين عن أبيه سلطان المشايخ الشيخ صفي الدين أبي الفتح إسحاق عن القطب الشيخ أحمد أخي حجة الإسلام أبي حامد الغزالي. وأخذ جدنا صفي الدين أيضاً عن أبيه الشيخ أمين الدين عن والده العلامة المرشد الشيخ قطب الدين عن والده العلامة الحافظ المرشد الشيخ صلاح الدين رشيد عن والده العلامة الولي الكبير فيروز شاه عن أبيه الولي الكبير محمد شاه عن أبيه الولي المرشد الكامل شرف شاه عن أبيه الشيخ محمد عن أبيه الولي الجليل الشيخ إبراهيم الملقب بالأذهم عن أبيه الشيخ جعفر عن أبيه الشيخ محمد عن أبيه الشيخ إسماعيل عن أبيه المحدث الحافظ أحمد الإعرابي عن أبيه المحدث الحافظ الشيخ محمد عن أبيه الإمام أبي محمد القاسم عن أبيه الإمام أبي القاسم حمزة عن أبيه الإمام الهمام موسى الكاظم عن أبيه الإمام جعفر الصادق عن أبيه الإمام محمد الباقر عن أبيه الإمام زين العابدين عن أبيه الإمام الشهيد السيد شباب أهل الجنة وقرة عين أهل السنة أبي عبد الله الحسين عن أبيه الإمام والبطل الضرغام

الجرائد والمجلات في مصر

أسد الله الغالب علي بن أبي طالب أمير المؤمنين ورابع الخلفاء الراشدين عن سيد المرسلين وأفضل العالمين ابن عمه محمد المصطفى - صلى الله عليه وسلم - فلله الحمد على هذا النسب العالي ولا ترى نسباً كنسب الحيدرية في أخذ كل عن أبيه وهو من عجيب الاتفاق وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. بغداد ساتسنا الجرائد والمجلات في مصر يؤخذ من التقرير الأخير الذي أصدرتهُ مصلحة البوستة المصرية أن عدد الجرائد في مصر قد هبط في سنة 1910 المنصرمة من 144 جريدة ومجلة إلى 124. وكان أكثر النقصان في الصحف العربية فإن 16 جريدة منها احتجبت ولم يحتجب من الصحف الإفرنجية سوى جريدتين. وفي مصر 29 جريدة عربية سياسية، و41 جريدة أفرنكية سياسية و4 جرائد شرقية غير عربية، و17 مجلة علمية وأدبية وصناعية عربية و9 أفرنجية، وجريدة هزلية عربية، و3 مجلات قضائية عربية، ومجلة واحدة أفرنجية، وثلاث مجلات طبية عربية، ومجلتان أفرنجيتان، و9 مجلات عربية دينية، ومجلتان أفرنجيتان، ومجلتان عربيتان نسائيتان ومجلة أفرنجية ومن هذه الجرائد 80 تصدر في مصر و37 في الإسكندرية و3 في بورسعيد و3 في طنطا وواحدة في أسيوط.

في جنائن الغرب

في جنائن الغرب نشرنا حتى الآن تحت هذا العنوان بعض مختارات من كتابات مشاهير أدباء الغرب، وقد أحببنا اليوم أن نأخذ صفحة عن اللغة التركية وهي مرصعة بالمعاني النفيسة: الابتسامة الابتسامة هي علامة الابتهاج، وبشيرة الأرواح الحساسة. الابتسامة عدوة لجيوش الهموم تهاجمها فتمزق شملها شذر مذر الابتسامة مرآة الباطن، الابتسامة لسان القلب كل شي في الكون ابتسامة الابتسامة، واسطة فعالة تجعل العدو صديقاً الابتسامة، دواء القلوب المنكسرة الابتسامة، سبب لتعارف القلوب الابتسامة، أمضى سلاح للنساء رب ابتسامة ينكسر بها القلب، وابتسامة ينجبر بها، وابتسامة تلتئم بها القلوب المنكسرة. الابتسامة موهبة إلهية يتفجر منها ينبوع السعادة لكافة البشر في لمعان البروق، ورعد الصواعق وخرير المياه، وتغريد الطيور، ابتسامة. النور، والضوء، واللون، والجمال، والروض، والربيع، والورد وروض الورد - كلها ابتسامة. جميع الكائنات تبتسم، السحر بنسيمه، والصباح بفجره، والشمس

الطالب البائس

بطلوعها والمساء بشفقه، والليل بضوء قمره، ولمعان بحومه، والشبوبية بنضارتها، والشيبة ببياضها، والسماء بأمطارها، والأرض بمراعيها، والكلام بمعناه، والنظر بغمزه، والغناء بوزنه، والموسيقى بتوافق ألحانها تبتسم المسرة لانخداعنا بها، والمشقة لانتقامها منا. يبتسم المرء باختلاف الأحوال الطارئة عليه في زمن التحقير، ووقت التبشير وحيثما يقع بمصيبة، وعندما يسر، وفي الحزن واليأس والأمل والمحنة والظفر. ضحك الأطفال كنغمات البلابل، وضحك النساء كرائحة الرياض العطرة، وضحك الرجال كأصوات الصواعق إذ في ضحك الأطفال عصمة، وفي ضحك النساء شفقة، وفي ضحك الرجال عزم وثبات. الابتسامة، هي التي تستقبل الآتين إلى عالم الوجود وهي التي تودع الراحلين إلى عالم البقاء. فالعالم هو الذي يجعل حياته ابتساماً وضحكاً ويبتعد عن أراقه دمعة في زمانه الضحوك المبتسم. فيسكن في البيت الضحوك، ويشارك في حياته من تضحك وتبتسم، ويتخذ أحباء يضحكون، ويمضي سحابة حياته في الضحك والابتسام. الطالب البائس ذكرنا كلمة في العدد الماضي عن المرحوم محمد أمام العبد الشاعر البائس الذي كان يقول أن سواد جلده حداد على حظه. وقد أحببنا أن ننقل إلى قرائنا شيئاً

من نثره، وهو كلام له في البؤس والبائسين، قال: خرجت ذات ليلة من داري وأنا بين الهم والغم، وفي صدري من الأشجان ما في قلبي من الأحزان، فضربتُ في الطريق من غير صديق. اللهم إلا نفس يتردد، وحزن يتجدد، فما زلت كذلك حتى اكتنفني التعب، وغلب علي النصب. وكنت على مدى النظر من الجزيرة فرأيت أن أكون فوق الجهد، لأدني مسافة البعد، فصدقت. عزيمتي بعد جهاد، وبلغت اربتي أو كدت أكاد، وما هي إلا خطرة مرت مر النسيم، تحت سجن الليل البهيم، حتى بصرت بظل يسرع في مشيته، وكأني به يقاضي الأقدار في محنته، ولما أمسى مني حيث أمسيت منه، تسرب إلى نفسي أن أقف منه على نفسه لأن البائس يميل إلى البائس، واليائس يحن إلى اليائس. والوجوه صحيفة لما تخفيه السرائر أو تضن به الضمائر. فألقيت عليه تحيتي فأردفها بأحسن منها، ثم جعلت له إلى الحديث سبيلاً فتمشى الحزن في صدره حتى كدت أحس به في صدري، وأسبل من جفونه دموعاً في كل دمعة لؤلؤة بيضاء ترى على خده ياقوتة حمراء كأنها بنت الشفق، في ذلك الغسق. فقلت له: ما شأنك يا بني؟ وما أمر الجائحة التي نزلت بك؟ فقال لي بصوت لا يسمعهُ إلا من أراد أن يتسمع: إنني ولدت في يومٍ أخذ صباحه بمسائه، وذهب ظلام بضيائه. فتوفي والدي قبل عقد التمائم، فأسلمتني الأقدار إلى أم حنون لا تملك من المال غير ما يغني عن السؤال، وكانت تلك الأم الكيسة تعمل صباح مساء في بيت

رثاء إمام

وحدتها أو دار هجرتها، وكنت أنا في ذلك العهد من طلاب العلم في المدرسة. فما قنعت الأقدار بفعلتها الأولى، بل نزلت علينا في ليلة اختلفت أجرامها وتنكرت نجومها، وكثرت همومها، ولم تزل بنا حتى أصابت والدتي بعلة طوتها في لحدها، واسقمتني من بعدها. فلم أجد من يقوم بتربيتي من بني الإنسان في هذا الزمان بعد ما أبعدتني المدرسة عن مناهل العلم وتركتني أتلمس نصيراً من الوهم. وأنا الآن لا أملك غير نفس أبي اليأس أن يبتعد عنها قيد شبر، وفؤاد أصبح غرضاً لسهام الدهر. فامتعضت قليلاً وقلت في نفسي أما آن للأغنياء أن تساعد زمرة الفقراء؟ رب أن ناظر المعارف أولى الناس بإجابة هذا النداء. فإن لم يكن كذلك فقد ضاقت المسالك، والأمر لله ولا حول ولا قوة إلا بالله. محمد أمام العبد رثاء إمام وقد أرسل إلينا الأدباء مراثيهم يندبون فيها زميلهم وصديقهم العبد، فلم نتمكن من نشرها سيما وقد عزم حضرة عز الدين أفندي صالح علي جمع مختارات إمام مع أقوال لأدباء فيه. فلترسل إليه في الإسكندرية (بوستة ثابتة). غير أننا ننشر الأبيات الآتية التي جاءتنا مت عزتا وإبراهيم بك العرب، وفيها خير وصف لحالة الأدباء: يا إمام القريض بالشعر تُرثى ... وقليلٌ على الإمام الرثاءُ ما وفى بالوفاء فيك خليلاً ... أين مني ومن حليل وفاءُ

أنا قاتل عصفوري

ليتني عندما أحببت نداء الله ... أخبرتُ حين جاء النداءُ كنت أوفى عهداً وأرعى إِخاءً ... أن مثلي لديه يُرعى الإخاءُ شغلتني عنك الشؤونُ ببعدٍ ... علم الله ليسَ فيهِ جفاءُ تعبٌ كلها الحياةُ لعمري ... وعناءٌ لا ينتهي وشقاءُ عشتَ في الدهر تشتكي ألم البؤ ... س وحظُّ الأديب ذاك البلاءُ هكذا هكذا الأفاضل تشقى ... في حياةٍ وتسعد الجهلاءُ أن حظَّ الأديب أضيقُ حظٍ ... حُسبَ الفضل قسطه والذكاءُ فإذا عاش فالهجاء نصيبٌ ... وإذا مات فالرثاءُ الثناءُ كل من مات ظامئاً لم يفدهُ ... أنهُ بعده يفيض الماءُ أو يجدي المدفونَ عمران قبرٍ ... فيهِ جسمٌ عليهِ يجري الفناءُ ليس للمرءِ في الحياة سوى يو ... م سرورٍ يطيب فيهِ الهناءُ إنَّ هذي الحياةَ من عاشَ فيها ... ألفَ عام أو ساعةً فسواءُ فحياةُ الأديب داءٌ عضال ... وممات الأديب نعم الدواءُ العرب أنا قاتل عصفوري في فجر يوم من أيام الربيع، بكرت إلى رواق من منزلي في وسط سهل يقبع، يشرف على حديقة غناء، ومروج ملونة بين خضراء وحمراء وصفراء. جلست إلى تلك المناظر البديعة، الجامعة بين اعتدال الطقس

وسكون الطبيعة، أروح النفس في فضاء أرجائها، واملأ العين من بديع بهائها، ولم تكن الغزالة بعد أرسلت أشعتها أو بأن سماطها، وقد أخذت الطيور تغادر أعشائها وأوكارها، وترسل في الفضاء الهادئ شجي أصواتها، ما بين هديلٍ وسقسقة، وسجعٍ وقطقطة، فكان من مجموع تلك الأصوات الرخيمة العذبة، ذات الألحان الشجية، جوقة موسيقية، ألفتها القدرة الألهية، لعبادته سبحانهُ وتوحيده، ولقنتها الكائنات شكرها له على سوابع نعمه وللاستزادة من رحمته وجوده. وأنا في ذلك الاستطراد من حالٍ إلى حال، ما بين مشاهدة الطبيعة وركوب الخيال، حط بي الطوف عند كناريين، متماثلين في حسن الحلية وجمال المنظر متحاكيين، يتداعبان فوق غصنٍ وهو يميل تحتهما أو يختلج ويضطرب، كما شاء أو شاء لهما الحب واللعب، ثم يعود فيتثنى أو يستقيم، كأنه راحة بسطتها الطبيعة إليهما للتسليم، أو ذراع تهدهدهما به تهدهد الأم لابنها الفطيم على سماع نوس هبات النسيم. أقر هذا المشهد ناظري، وبدا لي التأمل فأخذت أتأملهما والسرور آخذ بعطفي، ذلك والعصفوران في مداعبة وطفر، وكر ومفرّ، هذا يجثم، وذاك ينقز أو يدوم، هذا يرفرف حول ذاك أو يزف، وذاك يدف هرباً من هذا أو يسف، ثم يهفان إلى الأرض يمرحان ويتلبدان، ويعودان إلى الغصن يجتمعان. شاهدت ذلك مبهور النظر طروب السمع، فهبت بي عاطفة الاستئثار والميل إلى الجشع، فمددت لذينيك المتحابين السعيدين شركاً

اصطادهما به، حتى كان صباح الغد وافيت الشرك فرأيت أحدهما فيه. مضى الربيع وتلاه الصيف وأعقبه الشتاء، والعصفور ملكي أفعل به ما أشاء، وقد حبستهُ في قفصٍ ذي صنع بديع محكم البنيان، وشكل جميل بهي الألوان، وكنت أتعهده بكل صنف تمكنت من جلبه من صنوف مطعم البغثان، ولكن العصفور كان قليل الأكل مقهم الشهوة، نادر الاستحساء نزر النغبة، وكان كلما ازددت به اعتناءً واهتماماً، ازداد مني نفوراً واعتصاماً، أو جئت أستميله تململ وتلوى، وكأنه يشكو جراحاً بالحشى أو أنه كره مقامه واجتوى. انقضى فصل الشتاء وأنا أعالج نفرته ووحشته، وأراود سآمته وكأبته، وأخذت لذلك بجميع أسباب رفاهية الطيور وراحتها، واحتلت بصنوف الحيل التي تؤدي إلى استمالتها، فلم يكن ما يستمال به ويرضيه، أو يحفف من زهده في حياته ويسليه على يأسه من تحقيق أمانيه. جاء الربيع وأخذت الكائنات المرئية تتحلى بحلاها البهية، والطبيعة تعرض مصنوعاتها السنية، قمن زهرٍ تبسم عن ثغره، وشجر جاد بثمره، ونسيم سرى بنسماتِه، وجدول جرى هادئ في منعرجاته، وبرزت الطيور من مكامنها، وعادت تصدح على أفنانها، ولكن طيري لم يشترك مع بني جنسه في أفراحهم ومسراتهم، كأنه لم يكن منهم وهو بعيد عنهم وعن مختلفاتهم، حتى كان صباح يوم وأنا في شغلٍ شاغل، طرق أذني صدح شجيٌ متواشل، فأسرعت مستبشراً فرحاً إلى وجهة مصدره، استعلم عن مرسله وأتحقق صدق خبره، فألفيت كناري

مضطرباً هائجاً في قفصه يروح ويجيء لا يستقر، وقد عاينته في مجيئه ورواحه ملازماً جانباً واحداً من قفصه، وناظراً صوباً واحداً لا يحيد عنه حدقة بصره، فاتجهت وجهته انظر فرأيت على زجاج النافذة المطبق، كنارياً آخر قد انشب مخالبهُ في الأفريز منه وتعلق، وناءى بجؤجؤه فارشاً جناحيه على الزجاج، وقد فتح منقاره يلهث تعباً مع اضطراب في الجسم واختلاج، وهو يحدُج إلي حيناً ويحدق إلى العصغور السجين حيناً، ويتبادل معه صدحات متقاطعة متداركة متواصلة مملوؤة حناناً وحنيناً. كأنها أُحاح مكروب مكدود، أو همهمة مصدور مفؤود، طال عليها العهد، ولم يقو على حبسها عن النفث بها منه جهد، فأرسلها رنيناً ثم أدركها نادماً وأراد إخفاءها أو ملاشاتها بين جوانحه فتراجعت مترددة في فيه مسممةً لها في قفص الضلوع منه هنيناً. نظرت وسمعت فحرت في أمري، وبقيت لا أعي فعلاً آتيه ولا أدري، وفي هذا الحين وقف العصفور المحبوس بغتة وأرسل صوتاً ليس بالصدح المألوف، ولا بالتغريد المعروف، وإذا هو كرير صدرٍ مثقل بالغموم، وتأوه فؤاد مكلوم، زفر به صاحبه زفيراً، مد به النفس حيناً فكان شجياً مثيراً، ثم رمى به فإذا هو بقية روح كان الأمل قد حبسها عند حد التراقي، ودفع بها اليأس فغادرت صاحبها قتيل الاستبداد والاسترقاق ملكتُ جسمه وحياته ولم أملك فؤاده وعواطفه وهو الحر الكريم فكنت قاتله أيها المستبدون اتقوا الله في خلائقه وعباده فيليب مخلوف

في رياض الشعر

في رياض الشعر الأخوان الشاعران في سورية اليوم أخوان شاعران، بل بلبلان مطربان، تكفي الإشارة إليهما، لمعرفة اسميهما، وهما تامر بك وشبلي بك ملاط، ينشدان من على قمم لبنان قصائدهما المرقصة، فيرنُّ صداها في كل بلاد العرب. أصاب كبيرهما مرضٌ في عقله إثر حوادث سياسية لا مجال لذكرها الآن. فبات يهيم على وجهه، لا سلوى له إلا الشعر ينشده إبّان إفاقته من ذهوله. وصغيرهما شبلي بك يتولى الآن باشكتابة القلم العربي في جبل لبنان بعد أن خاض ميدان الصحافة وأنشأ جريدة

الوطن البيروتية فكان له فيها جولات صادقة كما أن له في الشعر وسائر فنون الأدب المنزلة السامية وقد سبق لنا نشر منظومة من شعره (ص 510 من السنة الأولى) عند وجوده في مصر. وقد أحببنا الآن أن ننشر رسم الأخوين مع شيء من شعرهما: الشاعر المريض قال تامر بك يصف حالته في مرضه وهو كما وصف: دعاني أجرع الغمَّا ... فجفني بالأس نمّا وخلاّني أُصيحابي ... وسهم الغدر قد أصمى فلم أُبصر أخاً يُرجى ... ولا خالاً ولا عمّا وراح الحظ عن شكوا ... يَ في أذن له صمّا وجدَّ الدهر في قهري ... يحثُّ الهمةَ الشما رأيت الناس تخشاني ... كأني وأبئُ الحُمَّى فلا أدري أحيّاً ب ... تُ أم ميتاً قضى ظلما أرى بيني وبين البؤْ ... س وداً طافحاً يمَّا أما من مفسدٍ واشٍ ... سعى بالوشي مهمّا فخلى ودَّنا شملاً ... شتيتاً لن يرى لمّا يميناً حار عقلي في ... حياةٍ تشبه الحلما أرى فيها من الأضدا ... د ما يستوقف الفهما أعاجيبٌ قضت مني ... شؤوناً بالأذى جمَّا فبي كالضرب آلاماً ... وما من ضاربٍ همّا

وكالتجريح أوجاعاً ... وما من جارحٍ أمَّا وكالنيران تشوي الرو ... ح ثمَّ اللحم والعظما ولا نارٌ ولا جمرٌ ... وما يُشعلُ الفحما وكالأدواء أعراضاً ... تُذيب الصخرةَ الصمّا وما من علة تُشكى ... لطبٍ يبرئُ السقما وكالأغلال في جسمي ... ولم أحملْ به دهما وعقلٌ ذاهلٌ ساهٍ ... سجينٌ موثقٌّ رمَّا كأني غير موجودٍ ... وموجود قد اهتما أراني قد أرى ريناً ... بأنف الحق قد شما أشكُّ اليومَ بي حتى ... وجودي خلتهُ وهما فقبلي لم يكن سجنٌ ... يعمَّ الروحَ والجسما حبيسُ الروح عن حسٍّ ... وفكرٍ سرَّ أو غمَّا وعن حفظٍ وعن ذكر ... وعن حكمٍ ولو مهما. . . حبيس الفعل ثم النط ... ق لا حتى ولا أمَّا ولا سمعٌ ولا شوق ... ولا لمس ولا شما قوى محبوسةٌ جمعا ... ءُ مما خص أو عما فعالٌ وانفعالاتٌ ... ولا حريةٌ ثمّا وحسّاس جمادٌ في ... زمان واحدٍ حكما مقود غير مختار ... كأني آلةٌ صما إذا ما حشرةٌ أزّت ... عرتني هزّة رغما

وإن صرّ الذباب الغثُّ ... صرّت أضلعي مما. . . ويأتيني البكا عفواً ... ويعصيني البكا لما. . . ولا أستطيع جذب النف ... س عن ضحكٍ بي أنتما ولا أقوى على ضحكٍ ... إذا أميتهُ أمّا وحال كالغني شكلاً ... بقفرٍ مدقعٍ نمَّا رياشٌ جمة شتى ... ومالي مسّها جزما طعامٌ شائق حلوٌ ... ولكن مرَّ لي طعما ونوم دون تهويم ... تراه أعيني حتما شؤون لو رواها الح ... رُّ نالت سمع من صمّا وقالوا جِنَّةٌ عاثتْ ... بعقلي فالتوى رقما وقالوا إنما القسي ... سُ فيه نافعٌ حسما خرافاتٌ وأوهامٌ ... تعيب العقلَ والعلما وقالوا إنهُ داءٌ ... لأعصابي قد انضما ومنهم من رأى شيئاً ... ولا أكنى ولا سمى فهذا النزرُ مما بي ... على ما استطعتهُ نظما ولا أرتادُ للأيا ... م تمداحاً ولا ذمّا فذا حظي من الدنيا ... فدعني لا تزدْ غمّا تامر ملاط

الوردة الذابلة بسمَ الحبُّ للربيع محيّا ... فهفا القلب للهوى وتهيا نشقةٌ من عبير أثواب ميّا ... تترك الشيخ في الغرام صبيا وتردُّ الفتى المكفّن حيا يا دمَ القلب فوق زهر الخدودِ ... كم معنى فدىً لها وعميدِ وقتيل كما قتلتُ شهيد ... وشقي يشقى - وكم من بليد يدّعيها وبالهوى يتزيا

ما الهوى أن يكون كالزيزفون ... (خيره ما يكون كالزيتون) مثمراًو الثمارُ فوق الغصون ... كملاح الولدان ملئ العيونِ يتناغون بكرةً وعشيا حول أم تذري دموع الحنان ... كلآلٍ منثورةٍ أو جمان وأبٍ بين تلكم الغزلان ... خافق القلب حالم بالأماني حبذا الحلم بالمنى ذهبيا تتمشى بأهلها الأجيالُ ... فعيالٌ في أثرهنّ عيالٌ كل ما في الوجود طيفٌ خيال ... يتراءى كما تراءى الآلُ ثم يمضي وما يغادر فيّا في بلاد الشام بيتٌ عالٍ ... أفسد الحسنُ فيه بعضَ الخصال وإذا شئتَ قل جبين الجمال ... فيه قد مس حمأة الأوحال وهوى للحضيض شيّاً فشيا لم تصن بالعفاف عزَّ الجبين ... ربةُ البيت عن هوىً وفتونِ فانتحى زوجها مكان الظنون ... وهي لجت تمادياً في الهونِ فأضاعا نهج الحياة السوّيا لست أدري ما للضلال دعاها ... ربما زوجها به أشقاها هي تاهت لما رأته تاها ... وتباهت لما رأته تباهى بحياةٍ ماتا بها أدبيّا ولو أن الحسناء كانت فقيره ... ربما قال بعضهم (معذوره)

غير أن الحسناء كانت كبيره ... بغناها وبالخصال صغيره تستبيحُ الهوان بغياً وغيا لم تقف قلبها عن حب واحد ... شأن من صادها على الرغم صائد بل كما قيل أطعمت كلَّ وارد ... واستوى عندها الخلي والواجد ونضت برقعَ الحيا علنيا فتحامت مكانها السيداتُ ... وتجافت عنها الظبا الخفرات والأديبات في النسا الراقيات ... طرحتها كذاك تلقى النواة وطوتها يدُ المعرة طيا يا ابنة التيه صحوة وأفيقي ... ودعي الكرع في فساد الرحيق حان أن تنهجي سواء الطريق ... إن ذنباً جنيته بالعقيق قد سرى سمه إلى سوريا وبكت منه بنتكِ العذراءُ ... يوم قالوا كأمها (أسماءُ) دُمية كالصباح لا أهواءُ ... ساورتها ولم يمسّ الهواءُ من لظى خدها الدم الوردّيا وردةٌ في منابت الشوك صلى ... من هيام لها البها وأهلاَّ تتجلة وفي القلوب مصلى ... لهواها فيه التسابيح تتلى ذلك الحسن كان روحانيا ملكٌ فر من يدي رضوانِ ... ويد الخلد والنعيم الثاني كلما لاح مائساً غصنُ بان ... أكبرت قده مهى عسفان وأتقى الناس لحظه البابليا

أيها الهابط التراب لتشقى ... كان أفق الجنان للحسن أبقى بذنوب الآباء أصبحت رقا ... ليس غير الهوان والضيم يُلقى فاهجر الأرض أو تعيش شقيا كل ما في الرياض من أزهارِ ... كل ما في السماء من أقمار كل هذا تلقاه عند العار ... شهب الرجم أو لهيب النار أو ضباباً من الشقا أبديا هفوات الجدود والآباء ... عثرات الأحفاد والأبناء ذاك ما جاء في فم الأنبياءِ ... عن إله الشرائع الغراء بشقاء البنين كان نبيّا. . . بلغت بنت زينت العشرينا ... تجتني من أحلامها الياسمينا وتشمُّ الريحان والنسرينا ... من رياض الصبا جوىً وحنينا وتناجي سرَّ الشباب الخفيّا طالما شادت القصورُ رجاَء ... طالما هزّها الصبا كبرياء لست أرضى تقول إلا العلاء ... لست أرضى إلا الغنى والثراَء لستُ أرضى إلا الفتى اللوذعيا أنا بنت الصباح ثغراً وخدّاً ... أنا بنت الجوزاء قدراً ومجداً قلْ لدهرٍ يروم للحسن حدّا ... إن قومي النجوم عماً وجدّا وأبي المشتري وأمي الثريا يا ابنةَ الصبح أنتِ بنتُ الظلامِ ... أنت بنت الأحلام والأوهام

ليس بالوجه حلةُ الإعظام ... ليس بالحسن حلية الآرام إن يكن منبتُ الجمال دنيا قد يكون الجمال سعداً ونحسا ... قد يكون الجمال ليلاً وشمسا فاقرائي من جمال أمك طرسا ... تعلمي أن دون عرسك رمسا جاده وابلُ الشقاءِ سخيا أنت لم تذنبي إلى الناس ذنبا ... أنت أنقى من مدمع الصب قلبا لكن الكون ظالم فهو يأبى ... أن يبرّيك كارهاً أو محبا أو يرى ثوبك النقيّ نقيا خرجت بنت زينبٍ للخلاءِ ... في أصيل مفضض الزرقاء حيث كانت معاشر الأغنياء ... تتلاقى قبيلَ كل مساء تنشق الريح والهوا البحريا فاشرأبت من دونها الأعناقُ ... وتمشت لوجهها الأشواقُ وسعت إثر خطوها الأحداقُ ... فتراءوا كأنهم عشاقُ عبدوا ذلك البها الملكيا ذاك حيث انثنت شكا وتوجد ... ذاك أن لاح ثوبها يتنهدْ ذاك يبدي أشايراً لا تحمد. . . ... أبهذا يا قوم مرقى ومصعد للمسمى تمدناً غربيا؟ أين تلك الشمائل العربيه ... أين تلك الشهامة الشرقيه أين تلك النفوس وهي أبيه ... أين تلك الأبصار وهي حييه رحم الله مجدنا الشرقيا!!!

وقت كانت أسما تجيء وتذهب ... سمعت قائلاً بها يتريب إن أسما لو لم تكن بنتَ زينب ... قارنت في الفتيان حراً مهذّبْ من كرام العيال شهماً غنيّا كلمات رنت بأسماع أسما ... رنة السهم أو أشد وأصمى وردت سرّ أمها والمعمى ... من حياة كانت بلاءً وظلما لفتاةٍ لم تأتِ أمراً فريّا صغرت نفسها هواناً وذلاّ ... وامّحى ظلُّ عجبها واضمحلاّ لحظةٌ لم تدع لأسماء ظلاّ ... من ليالي أحلامها البيضِ قبلا فجرى دمعها وكان أبيّا وسرت في العظام منها الحمى ... سرياناً راع الطبيب وهمّا أم أسما لا كان مثلك أمّا ... ليس بالجسم داء بنتك أسما إن في القلب داءَها المخفيا فتواري عنها إلى الظلماتِ ... ودعيها ترجعْ إلى الجناتِ أن تكوني شر النسا الأمهاتِ ... فهي شمس العرائس الطاهراتِ وهي زهر الآداب طيباً وريّا. . . بين دمع ولوعةٍ وزفير ... جثت الأمُّ قرب ذات السريرِ وتراَءت لها أفاعي الضمير ... نازلات منهُ بمثل القبورِ تنهش اللحم ما لعظام مرّبا وتراءت أمامها الأشباحُ ... وضحايا الخداع والأرواحُ

يوم كانت ولحظها السفاحُ ... دمُ قتلاه مهرقٌ ومباحُ وهي تسقى دم الكروم هنيا لا وفاءٌ لا عزة لا صدودُ ... لا ضمير لا ذمة لا عهودُ لا شرفٌ ضائعٌ وكف جحود ... وفؤادٌ له الدنايا قيودُ لم تفارقهُ يابساً وطريّا فأحست بما جنت في صباها ... وبكت حظها دماً وبكاها وانحنت فوق بنتها ترعاها ... وهي بالخلد شاخص ناظراها والردى هاتف إلى القبر هيا ربِّ قالت رفقاً بشمس حياتي ... خذ حياتي واحفظ حياة فتاتي ما مضى فات والذي هو آتِ ... قمت فيهِ بالزهدِ والصلواتِ وسقيت التراب من عينيا أنا بنت الهوى وبنت الخطيه ... أنا أشقى من كل أمٍ شقيه أنا يا رب مريم المجدلية!! ... نظرة من علاك تشفِ الصبيه وتجدد إيماني العيسويا. . . أمَّ أسماء فات وقت المتاب ... فاسألي للفتاة خير الثواب والبس بعدها سواد الثياب ... واندبي الغصن ذابلاً في التراب وصباح الشباب ليلاً دجيا. . . ذبلت وردة الشام سقاما ... وهي ترنو إلى الحمام ابتساما لا غرام حتى تخاف الحماما ... إن من عفَّ ليس يدري الغراما وفؤاد الفتاة كان خليا

جرائد سورية ولبنان

لم تقل حين أومأت بالسلام ... ساعة الموت غير هذا الكلام كل ذلي وشقوتي وسقامي ... وبلائي وما رأيت أمامي كل هذا جنتهُ أمي عليا شبلي ملاط جرائد سورية ولبنان (سبق الكلام عن الجرائد اليومية وفي العدد القادم كلام عن المجلات) 2 - الجرائد الأسبوعية 1 - المناظر: صاحبها نعوم لبكي، الكاتب المعروف في سورية ومصر والمهجر. جريدته ربنة عاقلة، تقرأ مقالاتها وأخبارها بسرورٍ وارتياح. هذا ذات مبدأ في كل مباحثها. وهي محتجبة الآن. وستظهر قريباً في لبنان. 2 - البرق (بيروت): صاحبها بشارة الخوري. الكاتب الرقيق والشاعر اللطيف. جريدته عنوان الاعتناء، ومثال الذوق والترتيب. تقرأها الشبيبة الراقية. وتخشى الحكومة اللبنانية وحزب المتصرّف سهام شواردها ورؤوس حرابها. وهي أكثر الجرائد انتشاراً. 3 - المراقب (بيروت): صاحبها جرجي شاهين عطية. كاتب عاقل. وشاعر صميم. جريدته رصينة، ولها مباحث سياسية جديرة بالاعتبار. تطربك افتتاحياتها، وتسليك رواية أسبوعها. 4 - الحرية (بيروت): صاحبها داود مجاعص. كاتب جريء

متطرف. كثير الذكاء. قليل الاعتناء. له صيحات مشهورة قبل 24 تموز جريدته عدوة المتصرّف ومريديه. وحي محتجبة الآن لأسباب قاهرة. 5 - الوطن (بيروت): كان يومياً بعناية الشاعر المطرب شبلي بك ملاط. وقد أصبح أسبوعياً بإدارة باترو باولي. هو كاتب متطرف. له انتقادات صائبة. وملاحظات مفيدة. 6 - الحارس (بيروت): صاحبة أمين الغريّب، صاحب المهاجر سابقاً. كاتبٌ عصريّ متفنن، خلق ليكون صحافياً. يصدر جريدته مرتين في الأسبوع بحجم المناظر. له اعتناء خاص في انتقاء المواضيع والأخبار اللذيذة المسلّية. 7 - البشير (بيروت): أنشأه الآباء اليسوعيون بعد احتجاب مجلة المجمع الفاتيكاني. مديره الأب لويس معلوف الزحلي المولد. يصدر اليوم مرتين في الأسبوع وله خطة قديمة لم يحد عنها قط. هو في ثباته على مبدأه خيرٌ من أكثر الجرائد المتقلبة. 8 - النشرة الأسبوعية (بيروت): أنشاها المرسلون الأمريكان. يحرر رئيسياتها ويعتني بلغتها العالم الكبير إبراهيم الحوراني. وهو كاتبٌ بليغ وشاعر مدهش. له قلمٌ سيال يجعل للنشرة رونقاً. 9 - لسان الاتحاد (بيروت): صاحبها فيلكس فارس. كاتبٌ وخطيبٌ جريء، أفكارها جديدة، يميل إلى الخيال. للجريدة اعتبارٌ وشأن عند أعضاء الاتحاد والترقي. ولو أن سرعة انتشار الجريدة تتوقف على سرعة قلم كاتبها لكان لسان الاتحاد أوسع الجرائد انتشاراً.

10 - أبابيل (بيروت): صاحبها حسين محيي الدين حبَّال. كاتبٌ جارح مصيب وجريدتهُ وطنية بحتة وانتقاداتها عادلة. 11 - الإقبال (بيروت): صاحبها عبد الباسط الأنسي. محررها الشيخ محيي الدين الخياط. هو أغزر كتّاب المسلمين البيروتيين مادة، وأعلاهم كعباً. هو عندهم الأستاذ البستاني عند المسيحيين. ولو أنه يهتم بالمواضيع العمومية اهتمامه بالمواضيع الإسلامية لكان الإقبال أنفع الجرائد وأرقاها. 12 - لبنان: صاحبها إبراهيم الأسود. هو من الحكومة وللحكومة ومع الحكومة. يناصرها ويدافع عنها في كل حين. وتختلف الجريدة رقياً باختلاف محرريها. ويكتبها اليوم محبوب الشرتوني وهو كاتبٌ وشاعرٌ مجيد. مركز الجريدة بيروت. 13 - الصفاء (عاليه - لبنان): صاحبها علي ناصر الدين، محررها ولده أمين ناصر الدين. هو شاعرٌ فحل وكاتبٌ بليغ. للجريدة اعتناءٌ خاص بالمواضيع الدرزية اعتناء البشير بالمسائل اليسوعية، والإقبال بالشؤون الإسلامية. 14 - المهذب (زحلة): صاحبها الخوري بولس الكفوري. هي الجريدة التي تعيش في لبنان لتفيد دون أن تستفيد. منشئها شمعة مضيئة في زحلة تذوب لتنير غيرها. كاتب افتتاحياتها اليوم خليل سعد. وهو عالمٌ كبير وكاتب ناضج. 15 - البردوني (زحلة): صاحبها اسكندر الرياشي. هو يكتب

للشبيبة والشبيبة المقبلة على جريدته ولو اعتدل في الهزليات لكان البردوني أفضل جريدةٍ في زحلة. 16 - زحلة الفتاة: صاحبها إبراهيم الراعي. محررها شكري بخاش. كانت مجتهد حرّ. الجريدة صلة بين زحلة والمهجر. لها اهتمامٌ خاص بتاريخ زحلة ورجالها الذين اشتهروا بالسيف والقلم والصناعات. تعتني في محلياتها اعتناءً شديداً. 17 - الإخاء (حماه): صاحبها جبران مسّوح. كاتبٌ عصري متطرف ولكنه مصيب. له انتقادٌ عادلٌ على الجرائد والمجلات العربية التي تنقل ولا تشير إلى مكان النقل. للجريدة مباحث اجتماعية خليقة بالاعتبار. 18 - حمص (في حمص): صاحب امتيازها سيادة المطران اثناسيوس عطا الله. محررها قسطنطين يني. كاتبٌ عصري رقيق وشاعر أرق، تعتني الجريدة في شؤون المهاجرين. ولا عجب، فمنهم نشأت. وبمكارمهم نمت وأزهرت. هذه أهم الجرائد الأسبوعية التي أقرؤها دائماً على وجه التقريب. وهناك جرائد عديدة كالحقيقة. والأيام، والخرج، وحط بالخرج، والرشيد، وصدى الجامعة العثمانية، وحمارة بلدنا، وطرابلس، وعيواظ، والحكمة، والروضة، ولبنان الرسمية، والاتفاق، والأجيال، والشعب، والتقدم، والراوي، والمنتخبات، والنفير، والكرمل، والزهرة، وفلسطين، وغيرها من الجرائد التي ضربت عن ذكرها صفحاً لعدم تمكني من قراءتها طويلاً والسلام. - حليم إبراهيم دموس

أزهار وأشواك

أزهار وأشواك سمكة أبريل رويت لقرائي السنة الماضية حكاية هذه السمكة أو الكذبة فاكتفي اليوم برواية إحدى الكذبات المشهورة في هذا الصدد: أعلن أحد الظرفاء في جريدة باريسية عن رغبته في الزواج وطلب من الراغبات في الاقتران به أن يكتبن إليه عن عنوانهنّ إلى نمرة عينها لهن. وأردف هذا الإعلان بإعلان آخر عن لسان فتاة غنية جميلة تطلب من الشبان الراغبين في الزواج مثل ما طلب في إعلانه الأول من الشابات. فاجتمع لديه في مدة وجيزة ما يناهز المئتين من الأجوبة الواردة من الفتيات ومثلها من أجوبة الفتيان، فأجاب كلاً بمفرده ضارباً له موعداً في إحدى ساحات باريس العمومية للمقابلة وطلب من الفتى - أو الفتاة - أن يزين صدره بوردة بيضاء لسهولة التعارف ثم كتب - دائماً باسم مستعار - إلى مدير البوليس ينبئه بوجود مؤامرة من الحزب الملكي ضد الجمهورية وعزم الأعضاء على مباغتة الحكومة بمظاهرة كبيرة وأفهمه أن شارة المتآمرين وردة بيضاء. فلما أزف الموعد اجتمع في الساحة المعينة أربعمئة فتى وفتاة تقريباً وعلى صدورهم الورد الأبيض. وإذا بالبوليس مقبلٌ بخيله ورجله للقبض على أعضاء المؤامرة الموهومة. ولم يلبث أن جاءت إشارة تلفونية من المحافظة أن قد أتاها أن المسألة من قبيل كذبة أول أبريل. . . فضحك البوليس وضحك المتآمرون وضحك خصوصاً مدبر هذه الحيلة. . .

زيٌّ جديد وما أكثر أزيائك يا سيدتي! وما أدهش تفننك في ملابسك. . . ضلّ الحكيم القائل لا جديد تحت الشمس أو أن قوله وصل إلينا ناقصاً مبتوراً، ولا شك أنه استثنى مما نفى فقال:. . . إلا ما تولدهُ أدمغة النساء ويا لله من أدمغة بنات حواء! حملت في ما مضى الحملة الشعواء على مودة المقيدات فنالني ما نالني من غضب السيدات أثناء تلك الحملة. ولذلك لستُ بمجددها اليوم بمناسبة مودة السراويل والشناتين التي بدت طلائعها في ربوعنا، بل أن أتقهقر بانتظام أمامها. وأخلي لها المكان، فامرحي أيتها الحسناء ما شئت في شنتانك الجديد وسروالك الحديث، فقد كفى ما أصاب رجليك وساقيك من الضغط والتقييد. وأنا أضع على رسمك الذي زينت بهِ هذه الصفحة باقة من أزهاري، حافظاً أشواكي لوقتٍ آخر. الحكومة والأدباء أبت حكومتنا المصرية إلا أن تضع يدها على كل كاتب أديب أو شاعر بليغ. وآخر من استهواه ذهبها الوهاج واستماله راتبها الضخم حافظ إبراهيم شاعر النيل، فاختطفته من بين الرياض التي كان يغازلها، والنجوم التي كان يناجيها، وجماعة البؤساء التي كان يسليها، ووضعته في المكتب الخديوية لينسقها ويحليها، ومن عرف ما في دماغ حافظ من بديع المحفوظ أيقن أن الحكومة قد ضمّت إلى مكتبتها الجامدة مكتبة حية. وإذا كان

قد شق على الكثيرين أن يروا حافظاً منصرفاً عن خدمة دولة الشعر إلى دولة الإدارة فإنهم يتعزون متى عرفوا أنه ضمن حياته عن غير طريق القصبة المشقوفة. وقد خاطبه أحمد نسيم بهذه الأبيات: أديبَ الأمتين لك البقاءُ ... سعدت فلا عناء ولا شقاء نقضت عنك أيامٌ طوال ... من البأساءِ وارتفع البلاءُ أتيتُ إليك في بردَى أديبٍ ... كريم لا يدنسه الرياءُ يصوغ لك التهاني في قوافٍ ... لها بك في متانتها اقتداءُ كعهدك لا تكن إلا وفياً ... سجيّته المروءةُ والوفاءُ أتحجبك المناصب عن نسيم ... وتُبعدك المراتبُ والعلاءُ وألا كيف كنتَ فأنت خدنٌ ... خليقته المودةُ والإخاءُ أتذكر يومَ تذكر بؤس عيش ... وأنت إزاَءه وأنا سواءُ ويوم نذمُّ دنيانا ونشكو ... أناساً خاب عندهمُ الرجاءُ. . . تقول إذا استطعت وهبت نفسي ... فما عندي سوى نفسي سخاءُ فأما الآن ليس لديك عذرٌ ... ولا لك عن مواساتي إباءُ إذا أنشدتُ بين يديك شعري ... وتمداحي فقد وجب العطاءُ وفي عشرين ديناراً لمثلي ... إذا مُنحت قنوعٌ واكتفاءُ بحق البؤسِ إن لم تعطينها ... فما لك بعدها إلا الهجاءُ وإلا فالسلامُ عليك مني ... إذا قالوا على الشعر العفاءُ فليحذر حافظ اليوم هجاء زملائهِ المعجبين بهِ بالأمس، وليكن لحالهم ذاكراً، ولعهدهم حافظاً. حاصد

رواية الشهر

رواية الشهر العروسان أغرم لوتيك بإيقون الرائعة الجمال، وكان كلاهما في سن يحن فيها القلب إلى القلب، وتتوق النفس إلى النفس. وكانا يقطنان بريطانيا والعادات القديمة لا تفتأ مرعية تتجلى فيها بأبهى مظاهرها والطباع الكريمة تظهر بأجمل حلاها. وكان حبهما طاهراً يرفع قلب الإنسان إلى أعلى مراتبه السامية، ويهذّب الطباع على خير ما تبتغيه البشر. فإذا خرجا من الكنيسة يوم الأحد استقرا الأنظار وتكلما بالعيون كما كانا يتراسلان كتب الهيام مع هبوب النسيم وتألق النجوم. غير أن إيفون كانت فقيرة لا تملك سوى بقرة واحدة تنتجع الكلاء في الرياض الخضرة وترد الماء في المناهل العذبة. وكان لوتيك قبلة حبها وكعبته غنياً يملك العقارات والضياع وكروم التفاح ولم يكن لأحد من السادة ما كان له من الحلي والحلل النفيسة والدرر اليتيمة. أما والد لوتيك فكان رجلاً محنكاً ذا خبرة بأحوال العالم عليماً بأسرار الغرام فشعر بحب ولده وقال يوماً لزوجته حنة: إني أرى لوتيك يكاد يكون مقطباً فلا يبسن إلا متجهماً ولا يتكلم إلا مدمدماً. ألف الأسى فكأنما بين الأسى قرب وبين قلبه الدامي. على أني عرفت علة حزنه وسبب وجومه فإنه قد اختار لك كنة فتاة فقيرة لا تملك من حطام الدنيا إلا بقرة وهو مالها التليد الوحيد ولكنها بديعة ذات محاسن هيفاء القد تخجل البدر إذا طلع والنجم إذا سطع. ألا يمكن الفضيلة والجمال أن يعوضا عن الغنى والجاه لنضربنَّ صفحاً عن غرامه ولندعه وشانه وليقترن بحليلة أصمت فؤاده بنبال هواها وتيمته بجمال طلعتها. وآهاً لك أيها القلم تكسر على صخور عجزك وتمزق يا قرطاس بين أنياب ضعفك فإنكما لا تستطيعان أن تعربا عما خامر قلبي ذينك الشابين من السرور والجذل لما أنبأهما والد لوتيك برضاه عن زفافها إليه. فلا خير في يراعٍ يخون الفكر ولا ينقاد للقلب

ولا جناح إذا مزق طرس ينوء بوقر حديث الابتهاج. فانطرح لوتيك بين ذراعي والديه ودموعهُ تهمي. أما إيفون فإنها ضمن يديها إلى صدرها ورفعت عينيها إلى السماء شاكرة لرحمان. غير أنه لم يكن لها من يقاسمها أفراحها فالموت القاسي كان قد مزق بمخالبه المفترسة حياة والديها وزج بهما في أعماق القبور. بزغت غزالة النهار مائسة تبدد عن الأفق غيوم الظلماء كما كانت شمس الحب تمزق بأضوائها المتلألئة حنادس الحزن والأسى عن قلب لوتيك وعشيقته إيفون. قرع الناقوس واحتشد القوم في الساحة العمومية ينتظرون بذاهب الصبر قدوم العروسين ليسرحوا الأنظار في حسن محيا إيفون الفتاة. وما كنت ترى إلا عيوناً شاخصة ولا تسمع إلا أفواهاً تقول ما أجمل وأبهى سنا طلعتها. فرفع الكاهن يديه وقال: ليبارككما رب السماء وليسكب عليكما غيث رضوانه ما أحسن مثلكما فعلى الأغنياء أن يمدوا يد المصافحة إلى البؤساء لنهم كلهم أبناء أسرة واحد، اذهبا وعيشا بسلام آمنين. بالقرب من تلك القرية جزيرة صغيرة تتحطم على صخورها أمواج البحر المتلاطمة وتأوي الطيور إليها فتؤنس وحشتها بشجي ألحانها حتى أن القادم إليها يكاد يحسب نفسه قد هبط في جنة عدن أو صعد إلى عالم الأبرار وكان يسكنها ناسك قوَّست الأيام ظهره وأضعفت السنون بصره وكان على كل من يتزوج من سكان هذه القرية أن يقدم له شيئاً من العسل واللبن. فركب العروسان القارب ترافقهما أصوات الغناء وعزف آلات الطرب حتى إذا قاما بالعادة المرعية وقدما للناسك الهدايا المعدة ركبا البحر فشاهدا من أهواله ما لا يعبر عنه إذ سمعا للجبال صفيراً وللرياح دوياً عظيماً وزفيراً والأمواج تطرب لسماع أصوات الرياح فكانت طوراً تبتعد وتضطرب وتارة تلتطم وتصطفق فلما أيقنا أنهما لا يجدان إلا فضل الله واقياً ومجيراً قالت إيفون: رب نجنا من وهدة العطب ولك منا أن نزور مذبح هامة رسلك. فاستجاب الله الدعاء. فهدأ البحر وسكن وحصل بعد الشدة الفرج وشما من السلامة أطيب الأرج.

وآهاً لك يا أيام الفرج والسرور ما لك تمضين كوميض البرق ما لك تمرين مر السحاب ولا تعودين. يا عيشنا المفقود خذ من عمرنا ... دهراً وردَّ من الهوى يوماً كفى مضى شهر على عرسهما. رعياً لكما أيها الزوجان المسيحيان أن الدين يأمركما فسافرا وودعا الأوطان والأهل والخلان. والوداع يا بريطانيا الحبيبة الوداع. مضى اليوم الأول والقلب راجف ولكن للأيام حداً وللأسى نهاية فكما يفنى السرور هكذا تفنى الهموم. أما كانا يجددان العزم بحديث الحب وغضاضة الشباب، ألا يكفي الغرام لتبديد ما تلبد في أفق سماء النفس من غيوم السآمة والكآبة. كانا يمشيان باحترام ويركعان أمام المعابد ويتصدقان على الفقراء. وإذا ما الشمس أحرقت بلظى أوارها ولهيب شعاعها أديم الأرض التجأا إلى ظل بعض الأشجار فأكلا الخبز تقشفاً وشربا الماء صرفاً وشكرا المولى ورب العباد. وكان الناس يرونهما ماشيين مطرقين والسبحة في أيديهما. على أن الحب فضاح فكان حنو نظرهما واضطراب قلبيهما يذيعان سرهما على الطريق ويهزان أفئدة الناس عطفاً عليهما. وإذا رآهما الشيوخ قالوا: حاجان يؤمان بين الله. أما الفتيات فيخلنهما عاشقين يتبادلان كلمات الصبابة والهيام. فلما اجتازا الوابور ووصلا إلى نيفير فاجأهما نبأ فشو الطاعون في تلك الضواحي وكان الموت يحصد بمنجله البتار كل من تقع يداه عليه، فقال لوتيك: بدار نهرب من هذه البلدة لئلا يصيبنا الداء. ولكنها لم تجب شيئاً بل اصفر وجهها واصطكت ركبتاها وارتجفت شفتاها ووقعت بين ذراعي زوجها وقالت: اهرب أنت وحدك يا حبيبي ودعني فإني مصابة، فقال لوتيك: ويلاه ماذا تقولين؟ لا تموتي بربك لا تدعيني وحدي. قلت كلا إني لا أقضي بل أنا ذاهبة لأعد لك مكاناً في جنة الخلد ودار البقاء فلا تجزع يا حبيبي إني أنتظرك. تحت عرش الله إلى الملتقى. غداً يكثر الباكون منا ومنكم ... وتزداد داري عن دياركم بُعدا تحمل يا قلب تحمل ولا تتفطر حزناً وكمداً. وضع جثتها في التابوت بعد أن زودها بقبلاته الحارة وأنشده لها بصوته الرخيم غناء الوداع الأخير وحفر لها جدثاً تحت ظل

دوحة وزينهُ بالأزهار وسقاه بالدموع ثم مضى ولم يدع الحزن في قلبه ولم يذر. قضى النذر وعاد ووقف على قبر الحبيبة وقال: أفدي بروحي ذلك الوجه الذي ... جمع الجمال وحسن ذاك المبسم زيحي لثامك يا ابنة الصبح التي ... قد أصبحت شرفاً لكل الأنجم فمتى ترى عيناي ما قتلت به ... روحي عسى تحيي بمنظره السمي فلو انجلت كل الغواني لي ولم ... أكُ ناظراً لسناك لم أتنعم فضعي يديك على ضنا صدري عسى ... تدرين ما فعل الحمام بأعظمي عبثت أيادي الدهر بي فأذبنني ... وأعادت العبرات مثل العندم ها أنا ذا يا حبيبتي رجعت، ها أنا ذا قد أعتقت من أسر ذلك النذر المشؤوم، لقد ذهبت حتى ينابيع التيبر وصليت على أعظم الشهداء والقديسين فلا شيء الآن يوقف حياتي في هذا العالم إنها تطير مشتاقة إليك. يا رب أنت أعطيتني حياتي فلا تبخل علي الآن بمماتي. وأنتم يا حراس القبور والأموات أستحلفكم باسم الله وابنه أن تضمانا كلينا في قبر واحد وأن تكتبا عليه هذين البيتين: كنا على ظهرها والعيش في مهل ... والعيش يجمعنا والدار والوطنُ ففرق الدهر بالتشتيت الفتنا ... فاليوم يجمعنا في بطنها الكفنُ. قال هذا ووقع على القبر جثة هامدة. أنشدي أيتها الطيور احزن الألحان وخذ، مثلاً مما ترى أيها الإنسان. لما فتحوا قبر إيفون ليضموا لوتيك إليها توردت وجنتاها المصفرتان وأفتر ثغرها وتنحت ليلاً ووسعت لحبيبها مكاناً. فدهش الناس مما رأوا ونصبوا لهما قبراً منيفاً يركع بجنبه للصلاة من يريد أن يفتح قلبهُ للحب الزواجي الطاهر. (عن فيكتور هوغو) - حلب، لويس أسود

العدد 14

العدد 14 - بتاريخ: 1 - 5 - 1911 زهرة الشباب 1 يوم من أيام الربيع: جو السماء صافٍ ووجه الأرض زاهر زاهٍ. خرجت إلى البرية وفي النفس عوامل لم أدرك سرها المكنون، وكنت آنئذٍ أجد لذة قلبية في الوحدة والانفراد. نظرتُ إلى المغرب، فرأيتُ الشمس تتوارى وراء بحار من الذهب والياقوت، وستار الليل يمتدُّ شيئاً فشيئاً على وجه البسيطة وقد هبَّ نسيم لطيف ممسَّك فأحنى سنابل الحقل، وطلع القمر على أفق المشرق يتمايل تيهاً ويتمايس عجباً بين النجوم الزواهر وهو يرسل إلى الأرض أشعة أنواره الذهبية. وبينما أنا أسير مرتشفاً هذه الأنوار العلوية، مستنشقاً هذه الروائح العطرية، إذ ظهرت لي في غسق المساء مخلوقةٌ عجيبة نظرت إليَّ وابتسمت، وقد سترها رداءٌ أنصع بياضاً من زنابق الحقل، ولاحت على وجهها حمرة أبهى من حمرة الورد الذي يكلل رأسها. وكان شعرها

الذهبي مسترسلاً على كتفيها. ومن عينيها الدعجاوين تنبعث أنوار الأمل والطهارة. . فمدَّت نحوي إحدى يديها وأشارت إليَّ بالثانية إشارة الحنو والانعطاف. . . فبقيت برهةً شاخصاً إليها أقول في نفسي: لاشك إنها من سكان السماء. إذ لم يكن في بهائها الرائع شيءٌ أرضي، وكانت تحيط بها أنوار سماوية فتزيد في سنائها سناء. فمددت يدي وهتفت: ومن؟؟؟. . . . فأجابتني بصوتٍ أرقّ من نسيم الربيع وأعذب من نغمة الشحرور: يا صاحٍ، وضعني الإله الخلاق في صدرك عند ولادتك، فنموت وترعرعت معك وها أنا قد بلغت أشدي مع سنتك السادسة عشرة. فحياتي حياتك وموتي موتك. أنا شقيقتك وأكون رفيقتك في قطع مفاوز هذه الحياة إلى أن أذوي وأذبل فأطرح على الحضيض، فأتركك في نصف الطريق بعد أن نكون قطعنا معاً النصف الأول منها، وليس هذا اليوم ببعيد يا أخي. فحياة الزهرة رمزٌ عن حياتي القصيرة. فمتى ذبلتُ تأسف عليَّ حين لا يجدي التأسف. فلا ماء عينيك يحييني ولا حرارة قلبك تنعشني. . . أنا لستُ غنية، وكل ثروتي في الزهور التي تكلل رأسي، لكني سأسكب عليك نعماً يحسدك عليها كبار الأرض وأغنياؤها. وأضع على مفرق رأسك إكليلاً يغبطك به كل من نظر إليه. سأتتبع آثارك دائماً دون أن تنظرني غير أنك دائماً تشعر بوجودي. . . سأنفخ من روحي الطاهرة في الطبيعة لتروق عينك

وتبتسم لك في صباحك ومسائك. . . لكن عليك أن تقدّر هذه النعم قدرها قبل أن تفلت من يديك. وأدّخر منها للنصف الثاني من الطريق حيث أكون قد غادرتك. . . . . قالت وكان كلامها ينسكب على قلبي كندى الصباح وبعد برهة استأنفت الكلام: قلت لك يا أخي إن حياتي قصيرة ولكنه بوسعك أن تطيلها أو تقصرها. إن رجليّ نحيفتان فلا تقدني في المسالك الوعرة، وحمرة وجهي أبهى من حمرة الورد فلا تكدرها بريح الأهواء اللافحة، واعمل كي لا ينخزك الضمير إذا ما فقدتني. ومتى فارقتك فليبق ذكري محفوظاً طيَّ صدرك فينعشك ساعة القنوط ويضيء نبراسه ظلام حياتك وحينئذ أحنت رأسها نحوي كالملاك الحارس وشعرت بيدها تخطُ على جبهتي علامة سرية ففتحت يديَّ فكنت كالقابض على الهواء وتوارى طيفها في غسق المساء. . . 2 يوم من أيام الخريف: عبس وجه السماء واكفهر، وعريت الأرض من بهائها ورونقها. وكنت سائراً أجد في حزن الطبيعة صورة حزني وقد استولت عليًّ الوحشة التي تستولي على القلوب عند غروب شمس النهار. فتراءت لي مخلوقة نظرت إليَّ وبكت، وقد اتشحت برداء ممزق بالٍ، ولاحت على خديها صفرة أشبه بصفرة الأوراق المتناثرة وقد حرقت

عينيها دموع الأسى، وكانت محنية الظهر كزنبقة ذابلة قُطعت عنها مياه الحياة. فعرفت فيها تلك التي ظهرت لي منذ خمسة عشر عاماً، وهتفت بصوت الرعشة: وما تريدين الآن؟. . . فأجابتني بصوتٍ أشد حزناً من زمهرير هواء الشتاء: قد أزفت ساعة الفراق وهو فراق أبدي، وقبل أن أتركك أحببت أن أودّعك وداعي الأخير. . . لقد أنكرتني يا ناكر الجميل. قمت أنا بكل وعودي لكنك لم تكترث لها. وضعت على رأسك إكليل الطهارة وخفرتك بحراس الإيمان والأمل والمحبة. . . آنست وحدتك بأحلام ذهبية وشغلت مخيلتك بأفكار زهرية، جعلت السماء تبسم لك والأرض تتهلل أمامك. أما أنت فقل لي بربك ماذا صنعت بكل هذه المواهب. . .؟ بذّرتها ودستها بالأقدام. . . فهتف بصوتٍ تخنقهُ العبرات: قد زال الغشاء عن عينيّ. ألا رحماك إبقي. . . ردّي إليَّ الأمل والمحبة فأفارق الحياة ولساني يستمطر عليك البركات. فأجابت: أنت ستعيش بعد. أما أنا فعما قليل سأموت. انظر إليّ واعرف ما قاسيتُ من المشقات. أنهكتَ قواي وهددت عزيمتي. كنتُ أرفع إليك نداء الاستغاثة وأسألك الرحمة، أما أنت فلم تفهم هذا النداء بل كنت تقودني وتدفعني إلى المهالك. فمزَّق ثوبي شوك الطريق وأدمى

إلى السراية الصفراء

قدميّ. وأحرقتني حرّ الهجيرة واستنزف ينبوع الحياة فيَّ. لم تعد ترطب زهرتي بماء الإيمان والرجاء فذبلت زهوري وتساقطت على الأرض ذاوية فنثرها الهواء في كل الأنحاء. . . كل هذا وأنت لا ترحم ولا تشفق. أما الآن فها قد جمد الدم في عروقي وعلا جبهتي اصفرار الموت فأتيت أودعك الوداع الأبدي الأخير. . . .!. فصرخت صرخة اليأس: لا. لا تموتين بل تعيشين فلم تنبس ببنت شفة، فأردفت قائلاً: ومن تكونين أيتها المخلوقة العجيبة. . .؟. فقالت: يا أخي أنا لست الآن شيئاً. . . لكنني كنت زهرة شبابك. قالت وتوارت عني في غيوم السماء فمددت يدي فلم أقبض إلا على زهور سقطت من إكليلها الوردي فأخذتها فإذا هي ذابلة لا أثر فيها لطيبها السابق ولنضارتها السالفة. فذرفت دموع الندامة وهتفت: ربي اقبل توبتي وامح خطيئتي واغسل ذنوبي يا أرحم الراحمين. . . . إلى السراية الصفراء تدل الإحصاءات الأخيرة في كل مملكة من العالم المعروف على أن عدد المجانين يزداد يوماً عن يوم وهي نظرية تخالف المألوف فإن العالم كما نعتقد في تقدم إلى الأمام نحو المدنية والرقي العقلي ولا أدري ما

معنى هذا التقدم إلى الرقي العقلي مع ازدياد عدد المجانين!! مسألة فيها نظر. محسوس بل وملموس باليد تقدم الصناعة ومشاهد بالعين تفوّق المكتشفين والمخترعين عن أسلافهم إذ لا أظن أن ابن آدم سبق فاخترع المنطاد أو اكتشف الكهرباء في حقب الزمان العابر أو عثر على مجاهل الأرض أو اخترق اللحم بأشعة فنظر العظم أو استأصل المعدة وعمل جهازاً لحياة صاحبها فعاش بدونها أو تطرف في الأبحاث الكهربائية فكلم أخاه على بعد شاسع بلا واسطة أو استخدمها لنقل صورة المتكلم في ثوانٍ لتظهر أمام المخاطب. مع الاعتراف بكل ذلك لا أدري معنى لهذا التقدم مع ازدياد عدد المجانين إلا إذا كان ازدياد عددهم يعد تقدماً للجنون!! أو أن أكون أنا مجنوناً هربت من السراية الصفراء ولا عجب فكم بين غير المحبوسين بها من هم أجدر وأولى بدخولهم فيها مصفدين بالحديد مقيدين بالأغلال. روى لي أحد الثقاة أن رجلاً كان يدعى علي كجك من نسل الأتراك الذين تمصروا يسكن حياً بالقاهرة من الأحياء الوطنية خرج يوم جمعة للصلاة بالمسجد فلقيُه رهط ممن لا خلاق لهم - وكثيرٌ ما هم - فابتدروه بقولهم علي كشكش ومازالوا به حتى خلص منهم بدخوله إلى المسجد. حبس نفسهُ في بيته شهرين وظن بعد ذلك أن الرهط انقشع أو نسيهُ فخرج في يوم جمعة إلى المسجد ولكن القوم قابلوه بمثل ما فعلوا وزادوا على ذلك قولهم حرامي المشمش ومازالوا به حتى جنّ

الرجل فتناول حجراً وضرب به أحدهم فشج رأسه فاستاقوه إلى المخفر ومنه إلى المحكمة حيث كان المرحوم الشيخ محمد عبده على كرسي القضاء الأهلي ولما سأله القاضي عن جرمه اعترف ولم يجحده ولكنه قال إنه فعل ذلك عن سبب فسأله القاضي عن السبب فقال صلّ على النبي فأجابه الإمام فكرر الرجل طلب الصلاة على النبي مراراً والإمام يجيبهُ إلى أن ملَّ القاضي من هذه المطاولة فقال ألا تقص السبب؟ فقال المجرم إذا كنت وأنت الإمام المعروف مللتَ الصلاة على النبي أفلا أملّ أنا من صياح هؤلاء خلفي بما أكره؟ هذا هو أحد المجانين جن من الناس وراح فريسة أخيه الإنسان لا ذنباً جنى ولا جرماً ارتكب ولا حشيشاً تعاطى ولا شأواً قصده فلم يدركه فكأنما كلما تقدم الإنسان تأخر وكلما داوينا جرحاً سال جرح. دخلت طور الكهولة وعركت شطراً طويلاً من الدهر وعاشرت الناس أجناساً متعددة بأخلاق متباينة - عاشرتهم حسب أخلاقهم وإني أقسم بمن يرحم روح المسكين حرامي المشمش إني عييت عن درس طباعهم ومعرفة طلباتهم. يعضك أحدهم بنيابه ويجبهك لأنك لا تصلي ويقول لمن حوله أبيبه فإن صلاة العشاء قد وجبت!!! يذكر أحدهم أخاه الإنسان في غيبته ذكراً مؤلماً حتى ليكاد يبكي من حدته وحتى تظن أنه إذا قابله قتله، وقبل أن يتم اغتيابه يحضر ذلك المذكور بالسوء فيقفز المغتاب دون الجماعة للقياه ويأخذه ملء حضنه

ويقبله عشراً ويجامله ويفسح له مكاناً بجانبه ويشرب نخبه!!! يسمع الجالسون ذلك ويرونه ولا يجرأ أحدهم على صفه المغتاب الأثيم بل يسكت وهو بسكوته يساعد على انتشار الرذيلة. يأخذك أحدهم على معزل ويقول لك أنه يريد أن يكلمك في أمر ذي شأن ولكنه سريّ جداً ويهمك الاطلاع عليه حتى إذا ما شوّقك إلى سماعه استحلفك بالطلاق أن لا تبوح به لأحد فإذا فعلت وحلفت قال لك أن فلاناً قال عنك كذا وكذا وكذا فتصبح في حيرة لا أنت بالقادر على مناقشة المغتاب الحساب لأنك مقيد بالحلف ولا أنت بالقادر على كظم غيظك فتبتلى بمرض في فكرك فتجن فتساق إلى السراية الصفراء ولا ادري على من يكون الذنب في جنونك - أعلى المغتاب أم الجالسين معه الذي تجردوا من الشجاعة الأدبية أم ذلك الذي بلّغَك فكسر قلبك. تضيق نفسك ليلة فتذهب إلى محل التمثيل عسى أن يذهب بهمك فتجد المكان غاصاً بجمهور المتفرجين فينشرح صدرك وتظن أننا عرفنا أين نقضي سهراتنا حتى إذا بدأ التمثيل ووصل الممثل إلى قطعة محزنة مثل موت رومية على قبر حبيبته جولييت ثم موت جولييت ظهرت لك أخلاق القوم بكل مظهرها إذ ترى الجمع وقد اختبط - تسمع تصفيقاً حاداً وطلب استعادة تلك القطعة المحزنة ليس لأن الممثل أو الممثلة أجاد أو أحسنت بل لظنهم أن تلك التأوهات التي مثلتها الممثلة أحسن تمثيل إنما هي خلاعة منها - ذلك لأنهم لم يفقهوا معنى لما سمعوا -

ترى ذلك وتسمعهُ فتذهب إلى بيتك محموماً بحمى دماغية فتجن فتؤخذ إلى السراية الصفراء. تجول بطرفك بين من حولك فتجد شباكاً منصوبة للكيد بك خيوطها بأيدي من أحسنت إليهم فتصرف وقتك في التفكير فيما عساه أن يكون سبباً لانقلاب ذلك الإحسان إلى هذه الإساءة فلا تجد سبيلاً لحل المعضلة فيختلط عليك الأمر فتجن فتؤخذ إلى السراية الصفراء. تسمع السارق يفتخر أمام الجمهور بسرقته والزاني يحدث الناس بحوادث فحشه وفجر العاهرات معه والسكير يزهو على الحضور بنموذج عربدته والكاذب يضحِك من حوله بنكات كذبه - فإذا ما وجهت بلومك إلى أحدهم هبَّ الجمع المحتشد حولهم ورموك بالغلظة وسوء الخلق ونسبوا أولئك المجرمين لخفة الروح والدم. فكأنما الناس قد أجمعوا أمرهم على استحسان المنكر فإذا كنت حراً يجري في عروقك دم أحمر جننت فتؤخذ إلى السراية الصفراء. أحبس نفسك في بيتك بين أولادك أو كتبك وإذا مررت بقوم فمرّ بهم مر الكرام ولا تختلط بهم تعش سعيداً، أو فجهز وصيتك إذا أردت الاختلاط بالناس لأنك ستجن حتماً وتساق إلى السراية الصفراء. عطبره (السودان) محمد فاضل

أيها البدر

أيها البدر يسر الزهور أن تقدم اليوم إلى قرائها أديباً لبنانياً لم تشغله وظائف الحكومة عن الاشتغال بالعمل والأدب، وهو حضرة رشيد بك نخلة قائم مقام قضاء جزّين. وسيرى القراء في ما سيتحفهم به على صفحات هذه المجلة من المقاطيع الشعرية والمقالات الأدبية أية منزلة رفيعة أدركها في عالم الكتابة. ولما كان حضرته مجهولاً من أدباء مصر اقترحنا على أحد مواطنيه من الكتّاب المطلعين على أسرار الأدب أن يكتب للزهور درساً بيانياً عنه سننشره في عددٍ تالٍ: تآكلت العيون، وتناهبت القلوب، وما تركت مضجعاً هادئاً، ولا جنياً مطمئنة أيها البدر. . . ما التصقت في كبد القبة الزرقاء ساهياً لاهياً إلا لتزيد غصة عاشقيك، وتحول ملايين أميال المسافة بينك وبين القلوب، فيمتنع التفاهم حتى بالخفوق والأنين أيها البدر. . دموع الحب وتنهدات الوحشة وزفرات المهجورين، زهور منثورة على قدمي نورك وبهائك يا عريس السماء. . . شكاوي الموجعين وتذكر المساكين وصدى قرع صدور البائسين، نغماتٌ ربما طربت لها وأنت نشوان عالق حيث تنخلع عنك الرقاب أيها المحلّق السماوي. . . الطوى من يوم إلى يوم، والسهر من ليلٍ إلى ليل، والتسجي على نواتئ الصخور ومناخز الأشواط، بالعين السابحة والفكرة السائحة، كل ذلك ربما اتخذته تفرغاً إليك وتدلهاً أيها المحبب البدري.

انتزاع الإحساس من الآدميين، وتجلمد قلوب بني الإنسان، وتعري شجر الخريف من لباسه الورقي، ونضوب موارد الماء، وعقم بطن الدأماء، كل هذا ربما اعتبرته تجرداً لحبك وتخلياً عن سواك أيها الكوكب الدري. . . أنت منذ كنتَ، ونحن منذ كنا. . . أنت تنظر إلى ما هو دونك نظراتٍ ليس فيها من المعنى إلا أنك ذو نظرٍ وتنظر (وقد لا يكون ذلك) ونحن على وفرة ما حول العيون من البهارج والجمال لا ننظر إلا إلى ما فوق. . . إليك أنت ننظر. . . بكل المعاني وبملء ما يتسع مجال النظر. أيها السراج المشعل بغازٍ إلهي والعالق في لا شيء. الليل إذا كفر وتولى الصب الضجر، وسئم المهجور موعد مبزغ النور، وافترشت جنبهُ التراب والتحفت بأم السحاب، وتحول من حركة إلى سكون ومن فكرٍ إلى عيون. . يقولون إنك أنت السلوى بدون مَنّ، وأنك إن لم تكنها إذاً فمن. . . أهو كذلك يا سمير العاشقين. . . القلوب مواطن الرحمة - قبل هذا الجيل - فهل لك بين ضلوعك أيها البدر ذاك العضو الأجوف الذي يسمونه قلباً. . . . رشيد نخلة السنة الأولى للزهور في الإدارة مجموعة الزهور للسنة الأولى مجلدة تجليداً متقناً. وثمنها خمسون غرشاً صاغاً ويضاف إلى ذلك أجرة البريد للخارج.

في حدائق العرب

في حدائق العرب الوفاء خرج النعمان بن المنذر يتصد على فرسه اليحموم، فأجراه على أثر حمار وحش، فذهب به الفرس في الأرض ولم يقدر على رده. وانفرد عن أصحابه وأخذته السماء بالمطر. فطلب ملجأ يتقي به حتى دفع إلى خباء وإذا فيه رجل من طيّ يقال له حنظلة بن أبي عفراء ومعه امرأة له. فقال النعمان هل من مأوى - قال حنظلة: نعم. وخرج إليه وأنزله وهو لا يعرفه. ولم يكن للطائي غير شاة، فقال لامرأته: أرى رجلاً ذا هيئة وما أخلقهُ أن يكون شريفاً خطيراً فماذا نقريه؟ - قالت: عندي شيءٌّ من الدقيق، فاذبح الشاة وأنا أصنع الدقيق خبزاً. فقال الرجل إلى شاته فاحتلبها ثم ذبحها واتخذ من لحمها مضيرة، فأطعمه وسقاه من لبنها، واحتال له بشراب فسقاه. وبات النعمان عنده تلك الليلة. فلما أصبح، لبس ثيابه وركب فرسه ثم قال: يا أخا طي أنا الملك النعمان فاطلب ثوابك - قال أفعل أن شاء الله. ثم لحقته الخيل فمضى نحو الحيرة. ومكث الطائي بعد ذلك زماناً حتى أصابته نكبة وساءت حاله فقالت له امرأته: لو أتيت الملك لحسن إليه. فأقبل حتى انتهى إلى الحيرة. وكان النعمان قد سكر في بعض الأيام وله نديمان يقال لأحدهما خالد بن المضلل وللآخر عمرو بن مسعود بن كلدة فأمر بقتلهما. ولما صحا سأل عنهما فأُخبر بخبرهما فخزن عليهما حزناً عظيماً لأنه كان يحبهما محبة شديدة

وأمر بدفنهما وبنى فوقهما بناءين طويلين يقال لهما الغَريَّان وجعل لنفسه كل سنة يوم بؤس ويوم نعيم يجلس فيهما بين الغرييّن. فكان يكرم من وفد عليه في يوم النعيم ويقتل من وفد عليه في يوم البؤس. ولما وفد عليه حنظلة وافق وفده يوم البؤس. فلما نظر إليه النعمان ساءه وفوده في ذلك اليوم وقال له: يا حنظلة هلا أتيت في غير هذا اليوم؟ - فقال أبيتَ اللعن لم يكن لي علم بما أنت فيه - فقال: لو سنح لي في هذا اليوم قابوس لم أجد بداً من قتله، فأطلب حاجتك من الدنيا وسل ما بدا لك فإنك مقتولٌ لا محالة - وقال: أبيت اللعن وما أصنع بالدنيا بعد نفسي - فقال النعمان: لا سبيل إلى غير ذلك - قال: إن كان لابد منه فأجلّني حتى أعود إلى أهلي فأوصي إليهم وأقضي ما عليّ ثم أنصرف إليك - قال: فأقم لك كفيلاً - قال: فالتفت الطائي إلى شريك بن عمرو بن قيس الشيباني وكان يكنى أبا الحوفزان وهو صاحب الردافة فقال: يا شريكاً يا ابن عمرو ... هل من الموت محاله يا أخا كل مصابٍ ... يا أخا من لا أخا له يا أخا النعمان فيك ال ... يوم عن شيخٍ بكفاله ابن شيبان كريم ... أنعم الرحمن باله فأبى شريك أن يكفله. فوثب إليه قراد بن أجدع الكلبي وقال للنعمان: أبيت اللعن عليَّ ضمانه. فرضي النعمان بذلك وأمر للطائي بخمس مائة ناقة. فانصرف الطائي وقد جعل الأجل حولاً كاملاً من ذلك اليوم إلى مثله من القابل. فلما حال الحول وقد بقي من الأجل يوم واحد، قال

النعمان لقراد: ما أراك إلا هالكاً غداً فقال قراد: فإن يك صدر هذا اليوم ولَّى ... فإن غداً لناظره قريب فذهب قوله مثلاً. ولما أصبح النعمان ركب كما كان يفعل حتى أتى الغريين فوقف بينهما وأمر بقتل قراد. فقال له وزراؤه: ليس لن أن تقتله حتى تستوفي يومه. فتركه النعمان وهو يشتهي أن يقتله ليسلم الطائي. فلما كادت الشمس تغيب وقراد قائم مجرد في إزارٍ على النطع والسياق إلى جانبه رفع له شخص من بعيد. وكان النعمان قد أمر بقتل قراد، فقيل له: ليس لك أن تقتله حتى يتبين الشخص. فكفّ عنه حتى دنا وإذا هو الطائي. فلما نظر إليه النعمان، قال: ما الذي جاء بك وقد أفلتَّ من القتل قال: الوفاء - قال: وما دعاك إلى الوفاء! - قال: ديني - قال وما دينك؟ - قال: النصرانية - قال: فاعرضها علي. فعرضها، فتنصر النعمان وأهل الحيرة جميعاً وكان قبل ذلك على دين العرب. وترك تلك السنة من ذلك اليوم وأمر بهدم الغريين وعفا عن قراد والطائي وقال: ما أدري أيكما أكرم وأوفى. أهذا الذي نجا من السيف فعاد إليه أم هذا الذي ضمنه. وأنا لا أكون ألأم الثلاثة. وقد أخذ المرحوم الشيخ خليل اليازجي هذه الحادثة وبنى عليها رواية تمثيلية شعرية عنوانها المروءة والوفاء. وألف في هذا الموضوع أيضاً الأديب ميشال أفندي سرسق روايةً تمثيلية فرنسوية العبارة مثلت في باريس وبيروت منذ بضع سنوات وعنوانها '

خطاب

خطاب ألقته الآنسة الأديبة هدى كيروك في السوق الخيرية التي أقيمت في المشغل النسائي الذي أنشأته الجمعية الخيرية للروم الكاثوليك: نعم أن عطف القلب مجدٍ ونافعٌ ... ولكن عطف الكف بالبذل أنفع سلامٌ على جمهور عطف قلباً وكفاً، سلام على كرام دفعتهم حماسة الشرف، وحرّكتهم رقة الإنسانية إلى مثل هذا الاجتماع، سلام لوجوهٍ باسمة، وتحية لنفوسٍ آنسة، أتت تفتح أبواب المساعدة، وتمهد سبل السعادة لأخوات بائسات بتنَ زمناً طويلاً يقرعن أبواب ضمائرنا طالباتٍ رحمةً وإغاثة. فنعم الإجابة إجابتكم إياهن اليوم في هذا المجتمع الخيري، نعم القلوب الرقيقة، ونعم الأيادي الكريمة. سيداتي وسادتي، قد احتفلنا في السنة الماضية بافتتاح المشغل الخيري وكنا نعلل النفس بنجاحه واتساعه. ومع ذلك كنا نخشى أن تنتابه يد النسيان، وتسدل عليه غشاءً كثيفاً ككثير من المشاريع التي تنشأ في المشرق بين الرياحين والأزهار، ولا تلبث أن تختنق بين شوك التخاذل والتقصير. غير أن هذا المشروع قد نجا بعون الله وقد رأينا تلك الغرسة الضئيلة التي زرعت بالأمس شجرةً باسقة بفضل ما بذل في إنمائها من الهمة الشماء والتفاني المتواصل. وإن اجتماع هذا اليوم لبرهان ساطع على ما للطائفة من الميل لفعل الخير والبذل في سبيل الإحسان. نعم أيها السادة الأفاضل، إن الطائفة على العموم قد ساعدت هذا المشروع بكل قواها. فراعيها الجليل ببركاته وإرشاده، وأغنياؤها ببذلهم

وسخائهم. وعقلاؤها بأفكارهم وآرائهم، وأعضاء جمعيتها الخيرية برقابتهم ونشاطهم وتذليلهم أشد الصعاب ليُسَيّروا المشروع في الطريق القويم. هنا هي النهضة الحقيقية. وهذه هي الجمعيات الخيرية التي يقوم بها نجاح الأمة وبمساعدتها إتمام فروض مقدسة. وقد اتقدت تلك الروح الحميدة في صدور السيدات بكل ما لها من الحماسة والإقدام، وجعلت ذلك الجنس الضعيف جيشاً باسلاً يتغلب على الصعوبات ويقاوم كل معارض في سبيل الخير، ويفتح الجيوب بكل ما لديه من أنواع الرقة والتأثير. فلذا رأيتم جمعية لأوانس متحليات برداء الطهر والفضيلة تبرز لنا من الأشغال اليدوية ما نعده كنوزاً ثمينة إذ حاكته أيدي عذارى متقدات غيرة متفانيات حباً في سبيل منفعة البائسة وانتشالها من وهدة الفاقة. وقد اتفقت تلك القلوب الشفيقة وتعاضدت فتألقت جمعية خيرية قضت سنة كاملة في استخراج الفوائد والأشغال، لتحيي هذه الحفلة في هذا اليوم، وتدعونا للاشتراك فيه تنشيطاً لها ومساعدة. فنشطوا وساعدوا وافتحوا أيديكم الكريمة، وجودوا على هؤلاء الأخوات موضوع جهاد الأنفس الأبية، جودوا بما يُطَيّبُ عيشهن لأهنئهن بحضوركم وأناديهن: ثقنَ أيتها العزيزات وأعلمن بأنكن أيدٍ عاملة ضمن دائرة الجمعية بل دائرة الرحمة بين آباء وأمهات وإخوان وأخوات جلّ غايتهم صيانتكن وضمان مستقبلكن فافرحن إذاً وصفقنَ واصرخن معي: بشرى الأيتام فقد صانتهم يدُ الإحسان. . .! - هدى إسكندر كيورك

الفتاتان

الفتاتان الشرقية والغربية ما السنن وفيضانه، والهواء الأصفر وسريانه، وعبد الحميد وطغيانه، بأهول مما ابتليت به الفتاة الشرقية من الجهل المبين، والحيف المشين. تعسة أنت أيتها الفتاة! الكتّاب يسلقونك بألسنة حداد ودعاة الإصلاح ينظرون إليك ظلاماً، أنت هي داءُ الشرق يقول أولئك، وهؤلاء يصيحون أنت هي دواؤه، بينا نرى زيداً ينادي بوأدك وعمرو يعمل على كيدك! ذاك يقودك إلى الأمام إلى فردوسك المفقود وسؤددك القديم، إلى مجدك، إلى نعيمك، إلى سمائك الخالدة وهذا يتبجح ويصرخ بملء فيه: مكانك تحمدي أو تستريحي. تعسة أنتِ أيتها الفتاة! خيَّروك فحيّروكِ فارقبي يوماً يحرجونك فيخرجونك، يوم تصعقين بنيازك نهضتك عمد الضلالات، وتقوضين بما أوتيت من الحكمة أسس التقاليد والعادات، يوم تشقين بصولجان عظمتكِ سجوفاً حاكتها أكفُّ الجهالات في الأعصر المظلمات، يوم تنعشين من صرعتك، وتنشطين من عقالك، يوم يأتي عليك حين من الدهر تنوئين فيه بأعباء ثقال، يوم تصمين أذنيك عن استماع المورطين في شبهات الجل الضاربين في بهماء الغرور: في ذلك اليوم: يوم تزلزل بكِ الأرض زلزالها ويصير سافلها أعلاها، يومَ تضجّ بكِ الدنيا من

أقصاها إلى أقصاها، قولي: إن التي تهز السرير بيمينها تهز العالم بيسراها. أيتها الفتاة: أنت أمّاً أشقى منك فتاة. وما الذنب ذنبك لأنكِ نشأت كما أراد قيّمك وذووكِ، وشاء أهلكِ وأوبكِ. اتخذوك عانية فلم يتقوا الله فيك، وحسبوك سائمة فباعوك بيع السماح فوق ما حمّلوك، فيا حبذا لو خلَّقوك بأخلاق غير أخلاقهم، وعلموا أنكِ خلقتِ لزمانٍ غير زمانهم. أيتها الفتاة! لو علمتِ خطورة مركزك وما يصير إليه أمركِ. يوم تضحين أمّاً ترضع أولادها لبان الغباوة وتنهلهم أفاويق الشقاء، لو علمتِ ذلك لرغبت عن الزواج وفضلتِ حياتكِ فتاة حمقاء على أن تكوني أماً شعراء. اسمعي ما يقول هملت: إلى الدير أيتها الفتاة إلى الدير، وإذا أردتِ أن تتزوجي فتزوجي الموت. إن الموت ستار للعيوب. يستخف الشرقيون بوقر الأمومة فيقدمون فتاتهم عليها غير هيابين، فيستحدثون وقراً يهبط كاهلهم، يا ويل الشرق ممن عرمت نفوسهم وزاغت أبصارهم وكانوا الحوائل دون تهذيب الفتاة ورقيّ أمّ المستقبل. الجنة تحت أقدام الأمهات - حكمة أدركها بنو الإنسان إلا المشرقان، يا ويحنا أنورد نفوسنا موارد المخاوف ومصادر المهالك، والحيوانات العجماوات قد خصت في طبائعها بالميل عما فيه هلكتها وصرعتها، وهي لا تفهم خطاباً ولا تحير جواباً، إنها لمصيبة تقصم الظهر وتسحق العظم. كلمات كالليمون الحلو حلوة في البداية مرة في النهاية. شلّت يميني

إذا كنت لا أجاهر بالحق ولو كان الحق يجرح أحياناً، أيظنُّ عاقل أنه يمكن لهذا الشرق أن يستطفَّ على عالم العقل والحقيقة وأن يتشرب روح التمدن القديم ما دام مقام المرأة غير متعير فيه؟ أو نبلغ الكمال التي تتوخاه الشعوب الراقية وتسدد نحوه الخطوات ما دامت نفوسنا صغيرة؟. أيتها المرأة، أيتها الفتاة، أنتِ لم توجدي لتكوني في أقفاص ذهبية تخلب بجمالها وتسلب بقوامها، ولا لتباهي كما يباع البلبل والببغاء. ولا لتشوه محاسنك وتمسخ مصوناتك، أنتش لم توجدي لنسيب الناثر وتشبيب الشاعر، ولا ليقول فيك صريع لحظكِ وقتيل طرفكِ: قتولٌ بعينيها رمتك وإنما ... سهام الغواني القاتلات عيونها ولا لتخدعي بقول القائل: إذا قامت لحاحها تثنَّت ... كأنَّ عظامها من خيزران إن هذه إلا خواطر يوحيها شيطان الشاعر على الخواطر، والجمال كما تعلمين في عين الناظر. دخل عمرو بن العاص على معلوية وعنده ابنته عائشة فقال: من هذه يا أمير المؤمنين. فقال: هذه تحفة القلب - فقال: انبذها عنك، فإنهن يلدن الأعداء ويقربن البعداء ويولدنَ الضغائن. - قال: لا تقل يا عمرو ذلك فوالله ما مرَّض المرضى ولا ندب الموتى ولا أعان على الإخوان إلا هنَّ - فقال عمرو: لقد حببتهنَّ إلي يا أمير المؤمنين. أنت خلقت لغاية أسمى وغرض أجل وحياة أرقى وزمنٍ يفهمك

وتفهمينه ويعرفك وتعرفينه! إن هذا الزمان وأريد بالزمان بينه قد هضم حقك، وغمط فضلك، ونكث عهدك، ولم يوفّكِ قسطك، فلا تركني إليه ولا تعولي عليه بل اجعلي رائدك سوء الظن به، إن سوء الظن من حسن الفطن. رحماكِ يا نفس الأمين، ولله أبوكَ يا جميل، وسلام عليم يا وليَّ الدين، إذا كان للحق أنصار فأنتم أنصاره وإذا لم يكن للفتاة حماة فانتم حماتها وقادتها، سيروا على بركة الله مسراكم ولا تحفلوا بتنطع المتنطعين واستهتار المستهترين. أيتها الفتاة الشرقية، لقد سبقتكِ أختكِ ربيبة الغرب لأنها يقظى وأنتِ في منام، تجرين شوطاً فتسبقك بأشواط، ومن سبق في أول الميدان سبق في آخره. ولكن لا يهولنكِ هذا القول ولا يقعدنك عن السعي فيما يقيل عثرتك وينهض بكِ من كبوتكِ لأن ليس على المجتهد حرج ولابد دون الشهد من إبر النحل. أنتِ إذا امتثلت بالسلحفاة التي أدركت شفعة الجبل قبل الأرنب الذي استخف بطئها وازدهى بسرعته (ولا أراك إلا ممتثلة) فإني مبشركٍ بنجاح باهر وفوزٍ عظيم بحول الله. أتستهجنين ما أتته شجاعة جان دارك وحصافة كاترين وحكمة فكتوريا وأنت القائلة. قيَّدوني هوَّلوني ضربوا ... موضع العفة مني بالعصا كذب الأعجم لا يقربني ... ما معي بعض حشاشات الحيا

حول تمدن المرأة العصرية

أتستغربين أمر المطالبات بحقوق الانتخاب ومنك الزباء والخنساء وفيك القائلة: النار ولا العار، والحتف ولا الإقامة على الخسف. في مجلس نواب أسوج سيدة تنوب عن جم غفير وعدد كثير من بني بجدتها وهي تعمل مع الرجل جنباً إلى جنب وسرعان ما يجري على أثرها آرام التايمز وغزلان السين. فإلى الأمام يا ابنة قحطان، وإلى العلا يا ابنة عثمان، حلّقي في سماء هذا الوجود وانعمي نظرك في جناية يدك يتبدَّ لعينيك البون بين الفتاتين كما يتبدى الصبح لذي عينين، أرسلي من كنانة لحظيك سهماً يبقر بطن الجهل، واحملي عليه بما أوتيت من قوة الأسود وعظمة الآلهة حملة ترقص لها عجائز وائل وحينئذٍ قولي: وإني وإن كنت الأخيرة عصرها ... سآتي بما لم تأتِ قبلي الأوائل بيت جالا (فلسطين) إسكندر الخوري البيتجالي حول تمدن المرأة العصرية تابعت بمزيد الشغف المناقشة التي دارت على صفحات هذه المجلة الزاهرة بين هدى وأدما ونزول حسون إلى ميدان الجمل. وسرني كثيراً طرق هذا الموضوع العمراني الجليل لما فيه من الفائدة العائدة على الجنسين ولو كابر الرجال وادّعوا أنهم بغنى عن الإصلاح لإدراكهم آخر درجات الكمال. أكبرتُ الشجاعة الأدبية التي أبدتها هدى في نقد

أخواتها، وأعجبتني الحمية التي أظهرتها أدما في الانتصار لهنَّ، وقلت إن كلاهما ترمي إلى الإصلاح وإن اختلفت الطريق. وسرّني في بداية الأمر إقدام حسون وإن كانت ساءتني فيما بعد مغالطاته وانتقاله من العموميات إلى الخصوصيات. وإنّ في سكوت هدى وإحجامها عن الردّ لأكبر دليل على موافقتها لي فيما أقول. يطول بي المجال لو أردت تفنيد مزاعم حسون. وأنا أسلّم معهُ أن في النظريات الصرفة بعض الصعوبة فليسمح لي أيضاً أن أكتفي بإيراد حكايتي مع زوجي - كما أورد لنا حكايته مع زوجته، وهو - كما يقول - بحثٌ واقعي، لا يحتاج إلى فلسفة، وليقل لي إذا لم تكن حكايتي هي حكاية معظم الفتيات مع الفتيان يا طير والأمثال تُضرب للبيب الأمثلِ. . . . لما كنت فتاة عزباء - وقد مضى على ذلك زمن ليس باليسير - كنت أحسبني لا أتزوج أبداً لأسباب يطول ذكرها - أهمها خوفي من شبان العصر وما آلت إليه حالهم وأميالهم. زارنا في أحد الأيام شابٌ فأعجب والدي ما ظهر عليه من الرزانة والرصانة. وأكثر الترداد إلى بيتنا وهو دائماً بمظهر الكمال والسكينة. فكان إذا دعوناه إلى الطعام وقدمنا له كأساً من المقبلاتً التي تؤخذ قبل الأكل، تمنع وأظهر كرهه لكل ما يشتم منه رائحة المسكر. وإذا قضى عندنا سهرته وعرضنا عليه أن يشاركنا في إحدى تلك اللعبات البسيطة التي تتداولها العائلات وليس فيها ما يؤاخذ عليه، رفض لميله مبدئياً عن

كل ما يشبه الميسر والمقامرة. وهذا وأهلي يزيدون إعجاباً به، وانتهى الأمر بأن فاتحهم بميله إلى فتاتهم ورغبته في الاقتران بها. فأجابوه بطيبة خاطر وأكد أنه لا يريد شيئاً من دوطتي (أو مهري) بل إن هذا المال يبقى لي ولمن نرزق من الأولاد. وكان نصيبٌ، وكان اقتران وكان شهر عسلٍ وانقضى، ويا ليته ما ابتدا. . . . أعددت الطعام في إحدى الليالي وبت منتظرة قدوم شريك الحياة الساعة والساعتين، إلى أن سمعت كرَّة عربةٍ فأسرعتُ إلى فتح الباب وقابلت الزوج بالابتسامة المعتادة، فقابلني بوجهٍ عبوس، فقلت: أشغلتَ بالي أيها العزيز بتأخيرك غير المعتاد. فأجاب ببرودة: - لا لزوم إلى انشغال البال، فإن هذا التأخير من عاداتي حيث أكون في الكلوب مع أصحابي. . . ولم ألبث أن رأيت العادة راسخة. لأنني كنتُ أقضي معظم الليل وحيدة وهو بين السركل والكلوب والنادي، ولا يعرف باب البيت إلا عند بزوغ الفجر. وكان في بداية الأمر يدّعي أنه مضطرٌ إلى ارتياد هذه المحلات لمقابلة أناس ذوي شأن تهمه مقابلتهم. ثم لم يعد يرى ما يدعو إلى التستر فكان يجاهر بانشغاله عني بالبوكر والبريدج والبكارا. - ولكنك، وأنت خطيبي، كنت تكره حتى اللعبات العائلية فما حملك الآن. . .؟ - أنا اكره ما أريد وأحب ما أريد، فليس هذا من شأنك.

فسكت وقيدت الأولى. . . . هذا وهو يتمادى في هذه العيشة الطائشة ولا يترك طاولة اللعب إلا لطاولة الشرب فيجيئني وقد تخدر دماغه، وتشنجت أعصابه من الوسكي المعززة بالكونياك المدعوم بالابسنت. - عهدتك تكره كل ما يشتم منه رائحة المسكر فما. . . - أكره وأحب على ذوقي. وأنت تعرفين طريق بيت أبيك. . . فسكت وفي القلب غصة، وفي العين دمعة وقلت: قيدنا الثانية. لا أحب إطالة الحديث لأن هذه الذكرى تؤلمني. أخذ يعرض عني تماماً لميه عن بساطة الزوجة إلى تبرُّج الغانيات، أنهكه السهر، وهدّ قواه الكحول، فأهمل شغله وصار يقضي نهاره بالراحة وليله بالملذات، فمدّ يده إلى دوطتي ثم إلى مصاغي، فذهب كل شيء على طاولتي اللعب والشرب، وأنا صابرة خشية العار والفضيحة. قصتي هي قصة معظم الزوجات حتى أصبح الإسهاب فيها من باب الابتذال فأكتفي بما تقدم. حكاية بحكاية يا حسون فعساك أن تعرض بعد الآن عن سرد الحكايات، وإلا خرجت من هذا الموضوع منتوف الريش مهشم الجناح. . . غرّد ما شئت وزقزق ما أردت، فقد تحسنُ التغريد والزقزقة، ولكن دع عنك محاولة درس قلب النساء، فقلب النساء لا يعرفه إلا من كوَّنه وهو وحده يعلم ما يقاسي هذا القلب من الظلم والعذاب. - سلمى

2 وجاءنا أيضاً ردُّ من سيدة فاضلة جمعت بين أنفة البدويات ولطف الحضريات إذ قضت شطراً من صباها في قبائل العرب الرحَّل بين الجياد والرماح، ثم انتقلت إلى منازل الحضر تزّين مجتمعاتهم بظرفها وأدبها. فأكرم بسيدة تهزُّ في آن واحد السيف والقلم وكلاهما في يدها ماضٍ قاطع. وإليك ما كتبته: قرأتُ مقالة حسون أفندي للدرجة في الجزء الثاني من الزهور رداً على مقالة الآنسة أدما فعنَّ لي أن أكتب كلمة في الموضوع وإن كنت أفضل حمل المغزل على حمل اليراع. لا أنكر ما في مقالة حسون من خفة الروح، ويعجبني ما يحتاط به لنفسه قبل طرق موضوعه من المقدمات والملاحظات. وجرياً على ذلك أطلب إليه أن لا تأخذه الحدة مما سأقول لأني أميل إلى بعض الخشونة الطبيعية مني إلى الرقة المصطنعة والمجاملات المصطلح عليها. وعليه فأؤكد له أنه لا يرى أبرّ مني في نصحه ولا أخلص في ردعه. حكايتك مع زوجتك مدهشة لعمر الحق. وأنا أشك كثيراً في أنك متزوجٌ حقيقة، لأنه لو كان كذلك لما وصف المرأة بما وصفتها به إذ جردتها عن كل ما يسمى قلباً. ولكن أسلم معك جدلاً أن حكايتك واقعية وأنها حقيقية كما رويت ووصفت. فأقول حينئذ أن هذا لا يفيد موضوعك شيئاً ولا يكسبك برهاناً يعوّل عليه. لأننا نكاد لا نجد امرأة واحدة في الألف تشابه امرأتك هذه الغريبة الأطوار. ثم أننا نرى من جهة ثانية أن كل الذنب عليك لأنه كان بإمكانك مدة

خطبتك لها أن تتحقق من أميالها وأخلاقها. ذكرت إعراضها عن العربية لغة قومك وكان يسعك أن تعرف ذلك قبل الزواج من حديثك لها ومكاتبتك إياها. آخذتها بشغفها بالأزياء، وهذا أمرٌ كان من السهل أيضاً الاطلاع عليه من ملابس خطيبتك وطريقة تزييها. أوردت تمنينها لك بالمولود، وهذا يدل على سخافةٍ في عقلها كان بوسعك أن تعرفها من جلسة واحدة فضلاً عن معاشرتك لها - كما تقول - وأنت خطيبها. وهكذا قل عن سائر ما أوردت من المآخذ والمغامز. فلا لوم إذن إلا على نفسك. وهب إن عين الحب عمياء وأنك غفلت عن أمورٍ كان يجب أن لا تغفل عنها، فإن أمثال من وصفت من النساء كثيرٌ بين الرجال. فإذا كانت المرأة عادةً تخصم 30 في المئة من عمرها فكم يخصم الرجل الذي يخضب شعره لتسويد شبيبته؟ قبيح بكم معشر الرجال أن تحملوا هكذا حملة على النساء. والمرأة أول ما وقع عليه نظركم في هذا العالم وهي التي أرضعتكم وسهرت عليكم الليالي الطوال وهزت مهدكم وصانتكم بحنانها وبلّغتكم ما بلغتم من الرقي. وأنتم تسومونها عذاباً وأختاً وزوجة. وعلى كل فإن امرأتك يا حسون درّة ثمينة وكل ما عددته لها من الذنوب لا يذكر، لأنك شهَّرت بها وهتكت حرمتها وهي لا تزال بك مغتبطة وعنك راضية. سردت لنا حكايتك معها ولو أتيح لها أن تقص لنا حكايتها معك لسمعنا مثل شكواك وأكثر - على ما أظن - وأنا أعتذر بما ألفته من

في جنائن الغرب

حرية البدو لأقول: عن امرأة سيادتكم قبلت النصح ورضيت الإصلاح ولكن سيادتكم الله اعلم إذا كان. . . . - هند الريان (الزهور) نرى أن المتناقشين على ما في مناقشتهم من اللذة والظُرف قد خرجوا كثيراً عن دائرة البحث الأول، ويا حبذا لو حصروا مناقشتهم في نقطة معينة، لأن الموضوع واسعٌ متشعب الأطراف يصعب استيعابه إذا لم يتم البحث في كل فرع على حدة. في جنائن الغرب الحب المكتوم كثيرون هم الشعراء والكتاب الذين أحبوا وتغنوا في شعرهم بذكر الحبيب ولم يبوحوا قط باسمه محافظة على كرامته أو لغير ذلك من الأسباب. ومنهم من لم يدع الحبيب نفسه يدري بعاطفة المحب ومثل هؤلاء العشاق يعشقون بحواس الروح لا بحواس الجسد وقليل ما هم. نروي اليوم من هذا القبيل قصة الشاعر الفرنسوي فليكس أرفر (1806 - 1850) فإنه أحبَّ امرأة مدة حياته كلها وتيمه هواها وهي تجهل ذلك تمام الجهل لأن مروءته أبت عليه أن يكاشفها بهواه وهي غير مطلقة الحرية، لئلا تخون واجب الأمانة المطلوبة منها لغيره. وقد نظم في هذا الموضوع قصيدة جميلة أحببنا أن نعربها لقرائنا بالنظر إلى شهرتها في الآداب الفرنسوية. وقد تكاثرت الأقوال والظنون لمعرفة تلك التي سلبت فؤاد الشاعر دون أن تدري فمنهم من توهمها مدام فيكتور هوغو ومنهم من تصور غيرها ولكن الشاعر لم يبح أبداً بهذا السر ويقول أن الحبيبة ذاتها ستقرأ أبياته ولا تدري من يعني. وهذا هو تعريب الأبيات:

في رياض الشعر

في نفسي سرٌّ محفوظ، وفي حياتي حادثٌ مكتوم: هو غرامٌ أبدي تولّد في لحظةٍ من الزمن. ولما كان لا دواء لهذا الداء اضطررت إلى كتمانه، وتلك التي سببته لم تدر به قط. وآهاً علي: أمر بالقرب منها دون أن تنظر إلي. فأنا دائماً معها، ودائماً وحدي. وسأقطع مفاوز حياتي حتى النهاية وأنا لم أعط شيئاً ولم أتجرأ على طلب شيء. أما هي - وإن كان الله قد خلقها رقيقة الشعور شفيقة القلب - فستسير في طريقها غير مبالية ولا سامعة حفيف الحب الذي يرافق خطواتها. وهكذا، وهي في أمانتها التامة على الواجب، ستقول عندما تقرأ هذه الأبيات المملوءة بذكرها من هي تلك المرأة. . . .؟ تقول ذلك ولا تدري من هي. . . .! في رياض الشعر يا موت يا موت خذ ما أبقت ال ... أيام والساعات مني بيني وبينك خطوةٌ ... أن تخطها فرّجت عني إسماعيل صبري على قبري أقول لهم في ساعة الدفن خففوا ... عليّ ولا تلقوا الصخور على قبري

المراسلات السامية

ألم يكف همٌّ في الحياة حملته ... فأحمل بعد الموت صخراً على صخر أحمد شوقي خيبة أمل وخيّب آمالي وقوفك دونها ... وأنك عند الظالمين مكين يسرك أني نائم الجد عاثرٌ ... ويرضيك أني للخطوب ألين ليهنك ما بي من أسى وخصاصةٍ ... وتقليبي الكفين حيث أكون حافظ إبراهيم المراسلات السامية ضاق العدد الماضي عن متابعة نشر المراسلات التي دارت بين المرحوم محمود باشا سامي البارودي والأمير شكيب أرسلان: كتب محمود سامي إلى الأمير من جزيرة سيلان: ردي التحية يا مهاة الأجرع ... وصلي بحبلك من لم يقطع وترفقي بمتيم علقت به ... نار الصبابة فهو ذاكي الأضلع طرب الفؤاد يكاد يحمله الهوى ... شوقاً إليك مع البروق اللمع لا يستنيم إلى العزاء ولا يرى ... حقاً لصبوته إذا لم يجزع ضمنت جوانحه إليك رسالة ... عنوانها في الخد حمر الأدمع فمتى يبوح بما أجن ضميره ... إن كنت عنه بنجوةٍ لم تسمع أصبح بعدك في دياجر غربةٍ ... ما للصباح بليلها من مطلع لا يهتدي فيها لرحلي طارق ... إلا بأنة قلبي المتوجع

أرعى الكواكب في السماء كأن لي ... عند النجوم رهينةً لم تدفع زهرٌ تألق في السماء كأنها ... حببٌ تردّد في غدير مترع وكأنها حول المجرّ حمائم=بيضٌ عكفن على جوانب مشرع وترى الثريا في السماء كأنها ... حلقات قرطٍ بالجمان مرصع بيضاء ناصعة كبيض نعامةٍ ... في جوف ادحى بأرضٍ بلقع وكأنها أكر توقد نورها ... بالكهرباءة في سماوة مصنع والليل مرهوب الحمية قائمٌ ... في مسحه كالراهب المتلفع متوشح بالنيّرات كباسلٍ ... من نسل حامٍ باللجين مدرّع حسب النجوم تخلفت عن أمره ... فومى لهن من الهلال بإصبع ما زلت أرقب فجره حتى انجلى ... عن مثل شادخة الكميت الأتلع وترنحت فوق الأراك حمامة ... تصف الهوى بلسان صب مولع تدعو الهديل وما رأته وتلك من شيم الحمائم بدعةٌ لم تسمع ريا المسالك حيث أمت صادفت ... ما تشتهي من مجثم أو مرتع فإذا علت سكنت مظلة أيكة ... وإذا هوت وردت قرارة منبع أملت عليَّ قصيدة فجعلتها ... لشكيب تحفة صادقٍ لم يدّع هي من أهازيج الحمام وغنما ... مشكاته حد السماك الأرفع نبراس داجيةٍ وعقلة شاردٍ ... وخطيب انديةٍ وفارس مجمع صدق البيان أعض جرول باسمه ... وثنى جريراً بالجرير الأطوع لم يتخذ بدر المقنع آية ... بل جاء خاطره بآية يوشع

أحيى رميم الشعر بعد هموده ... وأعاد للأيام عصر الأصمعي كلمٌ لها في السمع أطرب نغمةٍ ... وبحجرة الأسرار أحسن موقع كالزهر خامره الندى فتأرجت ... أنفاسه بالعنبر المتضوع يعنو لهما الخصم الألد ويغتذي ... بلبانها ذهن الخطيب المصقع هي نجعة الأدب التي من أمها ... ألقى مراسيه بوادٍ ممرع ملكت هوى نفسي وأحيت خاطري ... وروت صدى قلبي ولذت مسمعي فأسلم شكيب ولا برحت بنعمة ... تحنو إليك بأيكها المتفرع فلأنت أجدر بالثناء لمنةٍ ... أوليتها والبرّ أفضل ما رُعي أرهفت حدي فهو غير مفلل ... ورعيت عهدي فهو غير مضيّع وبثقت لي من فيض بحرك جدولاً ... غمر البحار بسيله المتدفع عذبت موارده فلو ألقت به ... هيم السحاب دلاءها لم تقلع وزهت فرائده فصارت غرةً ... لجبين كل متوجٍ ومقنع هو ذلك النظم الذي شهدت له ... أهل البراعة بالمقال المبدع أبصرت منه أخا أيادٍ خاطباً ... وسمعت عنترة الفوارس يدّعي وحلمت أني في خمائل جنةٍ ... ومن العجائب حالمٌ لم يهجع فضل رفعت به منار كرامةٍ ... صرف العيون عن المنار لتبّع فمتى أقوم بشكر ما أوليتني ... والنجم أقرب غايةً من منزعي فأعذر إذا قصر الثناء فإنني ... زرت المقال فلم أجد من مقنع لازلت ترفل في وشاء سعادةٍ ... وحبير عافيةٍ وعيشٍ أمرع (وفي العدد القادم جواب الأمير)

يا أيها الريح

يا أيها الريح تمرُّ آناً مترنحاً فرحاً، وآونة متأوهاً نادباً، فنسمعك ولا نشاهدك، ونشعر بك ولا نراك. فكأنك بجرٌ من الحب يغمر أرواحنا ولا يغرقها، ويتلاعب بأفئدتنا وهي ساكنة. تتصاعد مع الروابي وتنخفض مع الأدوية وتنبسط مع السهول والمروج. ففي تصاعد عزم، وفي انخفاضك رقة، وفي انبساطك رشاقة. فكأنك مليكٌ رؤوفٌ يتساهل مع الضعفاء الساقطين ويترفع مع الأقوياء المتشامخين. في الخريف تنوح في الأودية فتبكي لنواحك الأشجار، وفي الشتاء تثور بشدة فتثور معك الطبيعة بأسرها، وفي الربيع تعتل وتضعف، ولضعفك تستفيق الحقول، وفي الصيف تتوارى وراء تقلب السكون فنخالك ميتاً قتلته سهام الشمس ثم كفنته بحرارتها. لكن - أنادباً كنت أيام الخريف أم ضاحكاً من خجل الأشجار بعد أن عرّيتها من ملابسها؟ أغاضباً كنت أيام الشتاء أم راقصاً حول قبور الليالي المكلسة بالثلوج؟ أعليلاً كنت أيام الربيع أم محباً أضناه البعاد فجاء يصعّد بالتنهيد أنفاسه على وجه حبيبته الطبيعة لينبهها من رقادها؟ أميتاً كنت أيام الصيف أم هاجعاً في قلوب الأثمار وبين جفنات الكروم وعلى يبادر القش؟ أنت تحمل من أزقة المدينة أنفاس العلل، ومن الروابي أرواح

الزهور. وهكذا تفعل النفوس الكبيرة التي تحتمل أوجاع الحياة بسكينة، وبسكينة تلتقي بأفراحها. أنت تهمس في أذن الوردة أسراراً غريبة تفهم مفادها فتضطرب تارةً، وطوراً تبتسم وهكذا تفعل الآلهة بأرواح البشر. أنت تبطئ هنا وتتسارع هناك وتتراكض هنالك، ولكنك لا تقف قط. وهكذا تفعل فكرة الإنسان التي تحيا بالحركة وتموت بالسبات. أنت تكتب على وجه البحيرة أشعاراً ثم تمحوها، وهكذا يفعل الشعراء المترددون. من الجنوب تجيء حاراً كالمحبة، ومن الشمال تأتي بارداً كالموت، ومن المشرق لطيفاً كملامس الأرواح، ومن المغرب تتدفق شديداً كالبغضاء. أمتقلب أنت كالدهر، أم أنت رسول الجهات تبلغ إلينا ما تأتمنك عليه؟ تمر غضوباً في الصحاري فتدوس القوافل بقساوة ثم تلحدها بلحف الرمال. فهل أنت أنت ذلك السيال الخفي المتموج مع أشعة الفجر بين أوراق الغصون، المنسل كالأحلام في منعطفات الأودية حيث تتمايل الزهور شغفاً بك وتتخاصر الأعشاب سكراً من أنفاسك؟ تثور ظلوماً في البحار فتحرك ساكن أعماقها، حتى إذا أزبدت حنقاً عليك فتحت فاهاً لجةً ولقمتها من السفن والأرواح لقماً مرة. فهل أنت أنت ذلك المحب المتلاعب حنواً بغدائر الأطفال المتراكضين حول المنازل؟ إلى أين تتسارع بأرواحنا وتنهداتنا وأنفاسنا؟ إلى أين تحمل رسوم

عناصر الجنس المصري

ابتساماتنا وماذا تفعل بشعلات قلوبنا المتطايرة! هل تذهب بها إلى ما وراء الشفق - إلى ما وراء هذه الحياة. أم تجرها فريسة إلى المغائر البعيدة والكهوف المخيفة، وهناك تقذفها يميناً وشمالاً حتى تضمحل وتختفي؟ في سكينة الليل تبيح لك القلوب أسرارها. وعند الفجر تحلك العيون اهتزازات أجفانها. فهل أنت ذاكر ما شعرت به القلوب وما رأته العيون! بين جنحيك يستودع الفقير صدى انسحاقه، واليتيم حرقته، والحزينة تأوهاتها، وطي أثوابك يضع الغريب حنينه والمتروك لهفته والساقطة عويل نفسها. فهل أنت حافظ لهؤلاء الصغار ودائعهم. أم أنت كهذه الأرض لا نودعها شيئاً إلا تحوله إلى جسمها؟ أسامع أنت هذا النداء وهذا العويل، وهذا الضجيج وهذا البكاء، أم أنت كالأقوياء من البشر تمتد إليهم الكف فلا يلتفتون وتتصاعد نحوهم الأصوات فلا يسمعون؟ أسامع أنت يا حياة للمسامع؟ خليل جبران خليل عناصر الجنس المصري كلها من جنس واحد يصدر هذا العدد من الزهور والمؤتمر المصري لا يزال منعقداً في مصر الجديدة يتباحث أعضاؤه في شؤون البلاد الاجتماعية والاقتصادية ويضيق نطاق هذه المجلة عن إيراد كل ما جرى وقيل في هذا المجتمع الكبير، كما أن ذلك خارج

عن موضوعها. ولذلك نقتصر على تلخيص خطبة جميلة لسعادة العالم الدكتور اباته باشا في وحدة العناصر المكونة للجنس المصري قال: أيتها الأمة المصرية، أحييك بكل إجلال وأكبرك بكل احترام. هل تسمحين بالخطابة لشيخ غريب عنك هو إيطالي مولداً وقلباً، إلا أنه أقام أكثر من نصف قرن في بلدك الكريم تحت هذا السماء الجميل، فأصبحت مصر وطناً ثانياً له وأصبح هو من أبنائك تجمعه بك صلة دائمة رابطتها الإخلاص. قد خدمت هذا البلد بكل أمانة وفي خدمتي الطويلة رأيت كثيراً وفكرت كثيراً وحق علي اليوم أن اجهر بكل إخلاص باعتقادي، أجهر به مستريح الضمير غير مدفوع بمصلحة شخصية إليه، وأملي أنكم بعد أن تسمعوا هذا الاعتقاد من فم رجل على باب الثمانين لا يزال في قوته تتقبلونه منه بقبولٍ حسن، عسى أن يكون قوله نافعاً لكرامة الأمة ولإخاء أبنائها. وإني إذا اشتركت قليلاً في عمل اليوم بخطابي هذا، إلا أني أطلب أولاً أن يزال كل سبيلٍ لسوء التفاهم. ولذلك يجب علينا أن نسعى أولاً في الاتفاق على معنى المؤتمر المصري وأني على ثقة تامة بأني أعرب عما في نفوسكم إذا قلت إن معنى المؤتمر المصري هو في عرفكم كما هو في عرفي ذلك المعنى الدقيق الذي هو أوسع وأكرم معنى. فإذا قلنا مؤتمراً مصرياً فقد قلنا مؤتمراً قويماً اجتماعياً لكل المصريين الذين هم أبناء أصل واحد لأنه إذا قيل في أي بلد آخر من بلاد العالم، إنكليزي، ألماني، فرنساوي، إيطالي، روسي أو تركي، فالاسم مطلق على أبناء الأمة بلا

تمييز بين الدين أو العقيدة. أما وقد ثبت ذلك، فسأبرهن لكن بسرعة على أصل هذه الأمة وأقيم الحجة على أنكم من عنصر واحد. إن جل مطمعي أن لا آتي بشيء جديد أو غريب، وأن لا أعطيكم إلا ماهر ملك لكم. لأني أود أن أكون الصوت المعبر عما يدور بخلدكم وأن أعبر عما في ضميركم إذا بحت لكم بما في ضميري. ولكني سأتكلم عن أشياء قل من يعرفها وأني أعتمد على عنايتكم حتى يسهل علي أداء مأموريتي. . . كل شيء له علاقة بالعصور التي سبقت التاريخ المعروف لنا فهو قائم على الفروض، ولابد لنا إذاً من الاكتفاء بإلقاء نظرة سريعة على الأمم الأولى التي كانت في مصر. فمن هذه العصور الخيالية إلى عائلة منيس يجب علينا أن نعتبر سكان مصر الأولين أنهم الأبناء الأصليون لهذا البلد. في العصور الأولى جاء جماعةٌ من أهل البادية المقيمين على ضفاف البحر الأحمر واجتازوا الصحراء (صحراء العرب الآن) بينما اخترق صحراء ليبيا جماعةٌ من بدو الشمال وأقاموا في البلاد الواقعة تحت الشلال الأول حيث كان طمي النيل قد كوّن وادي النهر وقد تكاثر هذا الطمي حتى كوّن الدلتا إلى البحر الأبيض المتوسط. وبينما الساميون الذين جاؤوا من آسيا والليبيون الذين جاؤوا من شمال أفريقيا يجتمعون جماعاتٍ وفرقاً كان الأتبيون الذين جاؤوا من الجنوب قد نزلوا إلى بلاد النوبة وأدخلوا فيها الجنس الأسود الذي لا يزال قائماً بها إلى الآن.

من هذه الاجتماعات الأولى تكوّنت العائلات الفرعونية الأولى لما انتشر طمي النيل في واديه أخصبت طبقات الأرض الأولى هذا الطمي القائم المسمى (كم) ومن ذلك سمي السكان الأولون للبلد تو - كم وقد بقي هذا الاسم علماً على البلد زمناً طويلاً. وفي ذلك الحين رأى الفراعنة أن من الضروري لهم جداً أن يتخذوا إقليم كوبتوس مبدءاً لغزواتهم لأقاليم سينا الجبلية وأن يجلبوا منها (المافك) النحاس ثم دعتهم الحاجة الماسة لجلب الذخيرة إلى فرع النيل الأيمن. ولما كانت صحراء العرب هي أقرب الطرق إلى البحر الأحمر فقد أصبحت أسهل وأعمر النقط التي يرحل إليها سكان الجزء الأعلى الأقدمون وبذلك صارت مدينة كوبتوس مورداً للتجارة ومركزاً للمواصلات بين القصير والبحر الأحمر والصومال. وقد لاحظ ذلك المقدونيون عند غزوهم مصر، فغيّروا اسم كمي باسم أجيبت الذي نسخوه من اسم مدينة كوبتوس التي كانت ترحل منها القوافل لأنها كانت مركز التجارة. فكوبت أو كبيت كانت عاصمة إقليم كان يحرسه إله اسمه خيم وأصلها مشتق من اسم البلد القديم (كم) الذي يؤيده اللون الأسود. واليونانيون أضافوا لهذه الكلمة حسب عادتهم حرفاً يضعونه في أول الكلمات (ابثيلون) وبذلك كوّنوا كلمة إجيبت. مصر العليا التي دعيت بهذا الاسم الجديد كان يرمز إليها بباقةٍ من زهر اللوطس، بينما كان الوجه البحري يرمز إليه بورقة بردى لأنه كان يوجد بكثرة زائدة في مستنقعاتها.

ومن ذلك الوقت وللأسباب التي قدمناها، صارت كلمة مصري تطلق على الأمة بأسرها الأرض والسكان القائمين عليها لا دخل للدين ولا للطبقات في ذلك مطلقاً، ولا يوجد في العالم إلا الإسرائيليين الذين يطلق عليهم كلمة يهود كأن دينهم علامة على أمتهم لأنهم لا يزالون منتشرين في العالم يسعون في تكوين مملكة صهيون. فمن قال مصري، فقد قال أهل البلد الذين أطلق عليها الاسم والذين كوّنوا الأمة المصرية وذلك بالرغم عن ديانات الفراعنة أو المسيحيين أو المسلمين في ما بعد. فالمصريون هم المصريون فكل مصري قديم بدل عقيدته بالعقيدة الجديدة لا يزال مصرياً لأن الدين خاص بالشخص أو بالجماعة ولا دخل له في سلطة الأمة التي هي كل لا يقبل التجزئة، وكلٌّ منا يعاشر أشخاصاً لا يعرف عقائدهم وكلمة كافور المأثورة كنيسة حرة في أمة حرة لا تزال أثراً كبيراً للحاضر والمستقبل بالنسبة للأمم. . . أيها المصريون أذكركم أنه يجب أن تتحدوا كلمة واحدة وأن تجمعكم أخوَّة واحدة مسيحيين كنتم أو أقباطاً أو مسلمين فالقوة في الاتحاد فليست الغاية نصرة المناقشات الدينية لأن الدين لا دخل له في الشؤون الوطنية. مراعاة الحق العام والآداب الخاصة هي جزء من الوطنية والوطنية تشمل الجميع ولا شيء يخرج الناس من الأوهام القديمة ويريحهم منها إلا الذكاء. وما دمتم أيها المصريون عائشين في علاقات مستحكمة، أفلا يكون بعضكم محتاجاً للبعض! إن هذا الارتباط من لوازم الحياة ومن

طبيعة الأشياء ومن مقومات الوطنية، إن ضعف ضعفت وإن قوي قويت فوجب أن تكونوا أيها المتواطنون إخواناً. يجب أن يكون بروغرام وحدتكم وعملكم المشترك مؤسساً على هذه القاعدة حرية الأشخاص في عقائدهم غاية. والتربية والرقي الأدبي واسطة. فالسلام على أقوياء العزيمة من الرجال الذين يسعون إلى الوحدة لا من طريق الدين ولكن من طريق احترام عقيدة الفرد. إنه إذا أراد أحد الكلام عن أي واحد من المصريين يعبر عنه بكلمة قبطي أو مصري. خطأ كبير، خطأ تاريخي، خطأ أدبي، خطأ وقع فيه كل الكتّاب بلا تفكر ولا روية لأنه بذلك قد أضلوا الحق أحياناً. لابد أن تضيء الأفكار الجديدة في كل مكان، ولابد أن يسود الفكر الجديد في وادي النيل السعيد، ولابد أن نقول جميعاً بصوتٍ واحد تهتز له أركان المسكونة إنما المصريون متساوون، إنما المصريون أخوة. إن امتيازات الطبقات تزول ولكن الأمة لا تبيد أبداً، ففي خلط العناصر والمساواة بينها إيجاد روح واحدة للأمة. فيا أيها المصريون إذا كانت العقائد قد فرّقت بينكم فلتقرب الأفكار وتجمعكم. كونوا خير خلف لأكبر سلف فإن آباءكم كانوا أهل مجد كبير. يلزمنا أن نكرر القول بأن عقائد الفاتحين لمصر لا دخل لها في أصل أهلها المتناسق. الأمة ليست خليطاً وليست هي كوم من الرماد تذروه الريح وتبعثره، ولكنها جسم حي كبير تجمعه روح واحدة مكونة من إرادات

مجتمعة ومن أفكار مشتركة ويجب أن تكون تربية الأمة قائمة على المحافظة على هذه الروح. من المحتم أن يتعلم الأبناء في المدارس العليا والدنيا حب مصر وتاريخها، وإن يشبوا وهم يعتقدون أن مصر هي المصريون، هي كل واحد، هي كلكم جميعاً. لا يشوب هذا التعليم شائبة من أموركم الخصوصية وأحوالكم الدينية. فالمصري القديم لا يزال باقياً على أصله وأكبر برهان على ذلك أهل القرى الذين نراهم محافظين على صورة آبائهم الأولين. وإني لا أبيح لنفسي أن أتكلم عن الحق والمساواة والرقي أمام مجتمعكم لاعتقادي أن هذه المبادئ السامية هي قائمة بينكم منقوشة في صدوركم ولاشك أنه سيأتي يوم قريب تضيء فيه على أرض مصر المباركة. إن مصر تطل عليكم من أعلى آثار مجدها القديم تنظر إلى المستقبل بعين كلها أمل ترجو أبناءها أن يجتمعوا فيما بينهم وأن يتحدوا كأنهم شخص واحد حتى يطمئن قلبها وتعلم أن أولادها بارون بها. لتحيى الوحدة الوطنية فهي التي ستقربكم من بعضكم والتي ستشيد هذا البناء الفخيم الذي ترمون أساسه اليوم. . . فيا مصر كم من تذكار يهيّجه في نفوسنا اسمك الكريم. فإن العالم بأسره يتطلع من زمن مديد إلى هذا البلد الذي لا يصادف أبناؤه إلا تعضيداً من البلاد الأخرى. وإنه يحقق للمصريين إذا نظروا إلى ماضيهم الجميل وإلى أصلهم الجليل أن يصيحوا بمزيد الإعجاب لتحيى مصر.

من كل حديقة زهرة

من كل حديقة زهرة * كلف القطار الخاص الذي أنشئ للإمبراطور غليوم خمسة ملايين من الماركات، وقد اشتغلوا به مدة ثلاث سنوات وهو يقطر 12 عربة فيها غرف نوم والأكل والمكتب والحمام والاستقبال إلخ أي انه كناية عن قصر نقال. * عرضت فتاة في الولايات المتحدة على إحدى السيدات مبلغ 25 ألف دولار لتطلق زوجها وتدع لها حق الاقتران به، فرضيت. * الضريبة على الكلاب قديمة، وقد بات بعض الحكومات ينوي وضع ضريبة على القطط بغية المساواة في عالم الحيوان. * يحدث في الولايات المتحد 30 حادثة قتل في اليوم أي 11 ألفاً في السنة تقريباً. ولا يقبض إلا على اثنين من المئة منهم فقط. أما الباقون فيتمكنون من الفرار. ومعدل المجرمين الذين يلقى عليهم القبض في ألمانيا 95 في المئة، وفي إسبانيا 85، وفي إيطاليا 77، وفي فرنسا 61، وفي إنكلترا 50. * يجب على المحامين في فنلندا قبل الحصول على الرخصة لمزاولة مهنتهم أن يتطوعوا بضعة أشهر في سلك البوليس. * يزداد النظر حدة كلما امتد الأفق وبعد. فالعرب الذين يقطنون الصحراء الفسيحة هم أحد نظراً من سواهم. فينظرون على مسافة 10 أو 12 كيلومتراً أشياء لا يميزها غيرهم. وكذلك الأسكيمو في أوروبا، فإنهم يرون الكلب الأبيض على الثلج على مسافة بعيدة جداً. وما ذلك إلا لأن

أزهار وأشواك

عيونهم التي لا يقف أمامها حاجز تتعود النظر إلى بعيد بخلاف سكان المدن. * أقدم شجرة في العالم شجرة اكتشفت في المكسيك يقدر علماء النبات عمرها بستة آلاف سنة وتبلغ دائرة قطرها 35 متراً. * تبني إحدى الشركات الأمريكية الآن في نيويورك بنايةً يبلغ علوها 600 قدم وهي مؤلفة من 50 طابقاً وليس فيها شيء من الخشب. وسيستعمل لإنارتها 15 ألف قنديل وفيها 16 مرقاة (اسنسور). أزهار وأشواك شم النسيم كان يوم العيد وكان بعده يوم شم النسيم، احتفلت به مصر كبيرها وصغيرها، وغنيها وفقيرها، ساد السرور، وعم الابتهاج والحبور. جميلة الأعياد التي تشترك فيها أمة بأسرها، وخصوصاً متى كانت هذه الأمة - كأكثر أمم الشرق - مؤلفة من عناصر مختلفة، وإذا كان لا شيء يقرّب القلوب مثل الاشتراك في الأحزان فكذلك قل عن الاشتراك في الأفراح. فالعاطفة المتبادلة المشتركة مدعاة إلى التآلف والتسالم. كل ذلك تجلى بأجمل مظاهره في العاصمة وضواحيها - وفي سائر مدن القطر بالطبع - حيث كانت المسرة رائد الجميع والغبطة مرفرفة على كل الرؤوس، ولسان القوم ينشد مع صديقي الشاعر المصري: العمر يومٌ للسرو ... ر وألف يومٍ للهموم فدع النواح وهاتها ... صفراء بيضاء الأديم

راحٌ وريحانٌ ورو ... ضٌ زانه عودٌ وريم وجرت على أوتاره ... أطرافه جري النسيم فمغردٌ ومرددٌ ... هذا يدل وذا يهيم ومصفقون مقاطعو ... ن ومستعيدٌ مستديم أما في بيروت فقد غنى الرصاص بين القوم، وأبرقت الخناجر، وسالت الدماء، فما اغرب ما يفهمون من الحرية والمساواة والإخاء. . . .! القبلة تلك الحركة اللطيفة التي تغنى بها الشعراء قديماً وحديثاً، تلك الإشارة البليغة إلى ما تكنّه - أو لا تكنه - الضمائر أصبحت الآن في خطر عظيم. والقتال شديد حولها بين جماعة الأطباء وأهل الشعر والشعور: الأولون مهاجمون يريدون استئصالها من العادات والآخرون مدافعون يريدون الذود عنها. قرأت أن أطباء المجلس الصحي في ولاية إنديانا الأمريكية وزعوا منشوراً جاء فيه: بأمر من مجلس الصحة العمومية نحظّر التقبيل ولاسيما التقبيل في الفم فأصبحت القبلة الآن - على ما يقال - تختلس اختلاساً في تلك الولاية بعد أن كانت مباحة. على أن فريقاً من الشبان اجتمعوا وعلقوا على منشور المجلس الصحي الملاحظة الآتية نحن لا تقبل فم أحد ولكننا لا نملك النفس عن تقبيل نرجس العيون وورد الخدود، فالقبلة ممنوعة في ولايتنا ولكنها مباحة في صفحة الوجه الصبوح. كن ما شئت إلا عضواً في مجلس الصحة. . . .

فما رأي قرائي وقارئاتي هل هم ينتصرون للأطباء للقضاء على القبلة، أم هم يقفون في جنب الحزب الثاني ويدافعون عنها. . .؟ هم وهن. الله ما أشد الحرب التي أصلت نارها كاتبات الزهور الأديبات حول مسألة المرأة! هذه الحرب قديمة العهد - منذ آدم وحواء - ولكن أديباتنا قد جلن فيها جولات مشهودة على صفحات هذه المجلة. أنا اليوم لست كامل العدة لأنزل إلى الميدان، بل أقف بعيداً عن هذه المعمعة. وليسمح لي المتخاصمون أن أقص عليهم حادثتين من قبيل الرواية فقط: الأولى: حاصر كونراد الثالث إمبراطور ألمانيا مدينة وينسبرج فلم يتمكن من فتحها وإخضاع سكانها إلا بعد حصار طويل، ولذلك أحب الانتقام وأباح لعسكره السلب والنهب لكنه شفق على النساء فأذن لهن بالخروج من المدينة سالماتٍ وبأخذ أثمن ما لديهن. وما أعظم ما كانت دهشته عندما رأى كل امرأة قد حملت زوجها على ظهرها. فسأل عن معنى ذلك فأجبن بصوتٍ واحد ألم تسمح لنا بأخذ أثمن ما لدينا؟ وهل أثمن من رجالنا؟ فأعجب الإمبراطور بسمو عواطفهن وعفا عن المدينة. القصة الثانية: اشتدت العاصفة على إحدى السفن وهاجت عليها الأمواج وماجت حتى كادت تغرقها ومن عليها، فأمر القبطان أن يطرح إلى البحر كل ما هو ثقيل يستغنى عنه، فعمد أحد الركاب إلى امرأته وطرحها في لجج المياه قائلاً: هذا أثقل شيء لدي. - حاصد

رواية الشهر

رواية الشهر الملك المسروق حكى الكاتب قال: جلست إلى السفير بعد طعام العشاء وقد ملأ كأسي ثم ملأ كأسه من الكونياك اللذين الذي كان قد اعتاده، واتكأ في مقعده مسنداً رأسه على شماله، ومشعلاً في يمناه سيكاراً طيب النكهة كان يرسل دخانه دفعةً إثر دفعة فتفوح منه رائحة ذكية. وكنت صامتاً أنظر إليه محترماً سكوته فلم أشأ أن أبادئه الحديث حتى رأيته قد مد يده إلى الكأس فتجرعها ثم ملأها والتفت إلي وقال: - من الأسف أن يظل تاريخ أوروبا السري مكتوماً عن الناس لم يدونه الكتاب ولم ينشروه! فقلت متعجباً: أو لأوروبا إذن تاريخ سري غير معروف؟ فأمال السفير رأسه إلى الوراء، وامتص مصة طويلة من سيكاره ثم نفخ دخانها وقال: - أو ترتاب في ذلك؟ إن البرنس بسمارك لم ينشر رسالته البرقية التي هاجت الحرب الفرنساوية الألمانية إلا منذ أيام خلت فهو قد خبأها نحواً من عشرين سنة. فالتاريخ السياسي الحديث مملوء حوادث جهلها إبان حدوثها هذا البارون روتر المسكين فبقيت سرية غامضة. أما الصحف فاكتفت بالقشور دون اللباب! - ولكننا يا سعادة السفير - وكنا في باريس - يجب أن لا ننسى أن الرسالة البرقية يسهل كتمانها. وأما الحوادث الجلى. . . - رويدك يا سيدي ولا تتعجل في حكمك! أمل يتصل بك مثلاً نبأ المرض الوهمي الذي أصاب ملك إسبانيا في حداثته؟ - المرض الوهمي؟

- وبعبارةٍ بسيطةٍ تلك الإشاعة القائمة يومئذ أن ألفونس الثالث عشر أصيب بداء معديٍّ خطر، وإنه لزم سريره في غرفته فلم يكن يسمح له بالخروج، ولا يؤذن لأحدٍ بالدخول عليه؟ - بلى أنا أذكر ذلك ولكن. . . - ولكن الملك الصغير كان سليماً معافى! وأما أخبار الصحف فكانت كاذبةً ولم يكن يقصد منها إلا ذر الرماد في العيون فيعمى الناس عن الحقيقة التي لو عرفت حينئذٍ لأقامت إسبانيا وأقعدتها. إن ألفونس الثالث عشر لم يكن مريضاً في ذلك العهد ولكن مسروقاً!! وكان السيكار قد احترق إلا بعضه فرمى السفير بعقبه إلى صحيفة فضية وأطفأه فيها ثم تناول آخر فأشعله وعاد إلى حديثه فقال: - إذا شق عليّ أن أحدثك بخبر هذه الواقعة فلأني لعبت فيها الدور الأهم. فأنا أخاف أن يظن بي حب الإثرة والتباهي وذلك ما أأباه! لا تحن رأسك يا سيد فإني أقول ما أتيقنه! - عفوك يا سعاد السفير! وكيف كان ذلك؟ - منذ خمس عشرة سنة نشرت الصحف الأوروبية نبأ خلاصته إن داءً عقيماً معدياً أصاب الملك الصغير فلزم غرفته ولازمته الملكة أمه واثنان من الخدمة الأمناء ولكنهما لم يكن يؤذن لهما بمخالطة أحد في القصر. وكان الأب أوليفا مربي الملك، والسنيور جويستالا رئيس الوزارة يومئذٍ الشخصين الوحيدين اللذين كان يباح لهما أن يعودا المريض. أما حكاية هذا المرض فكما سترى: كانت الحكومة الإسبانية قد عزمت على الاحتفال باستعراض عسكري إكراماً لعيد القديس يعقوب شفيع إسبانيا، وقد أعلنت أن الملك والملكة أمه سيحضران الحفلة. وكان شعب مدريد قد تهافت في ذلك اليوم إلى الساحة الكبرى أمام القصر الملكي حيث وقف الجيش على أتم أهبةٍ وانتظام يرقب طلعة الملك عليه فيحييه ثم يبتدئ الاحتفال.

ففي صبيحة العيد وردت على الملكة رسالة مكتوبة على غلافها لفظة مستعجل ومختومة بطابع البريد من مدينة بامبلون. وإنك لتعلم أن فريقاً من الشعب الإسباني كان قد بنى آماله على موت ألفونس الثاني عشر بدون عقب ذكر ليولي على العرش الدون كارلوس. فلما ولد ألفونس الثالث عشر لم تذهب تلك الآمال لأن الدون كارلوس ما فتئ يطالب بالعرش لأسبابٍ شتى لا أرى فائدةً من ذكرها، ومثلك كاتباً صحافياً لا يجهلها. أما بامبلون هذه - وقد دلتني أمائر وجهك على أن ذكرها أثر فيك تأثيره في الملكة يومئذ - فهي مقر الكارلوسيين ووسط هذه الشيعة السياسية! فلما فضت الملكة تلك الرسالة وجدتها خلواً من التوقيع ولكنها قرأت فيها أن مؤامرة سرية قررت اغتيال الملك الصغير وعينت موعداً للفتك به في يوم عيد القديس يعقوب، ومكاناً لارتكاب الجناية ساحة الاستعراض العسكري في ذلك العيد. فأطلعت الملكة الأب أوليفا على الرسالة فرأيا معاً إبقاء الملك في القصر وخروج البرنسس دزاستوري شقيقته البكر إلى ساحة الاستعراض بالنيابة عنه. أما ألفونس فاستاء كثيراً فألهاه مربيه بلعبةٍ تمثل فيلقاً من الجند مصطفاً في شبه ساحةٍ للقتال. ثم كان موعد الاحتفال فزايلت الملكة القصر إلى حيث الجيش والشعب ولازم الأب أوليفا تلميذه الصغير في كل صباح. ولكنه ما انقضت ساعة على ذلك حتى دخلت ساحة القصر عربة مقفلة تقل ضابطاً لابساً لباس جنرال إسباني وآخر كان يظهر بصفة أركان حرب. وأعلن الأول نفسه باسم الجنرال اسبينوزا رسول الملكة إلى الملك فأدخله الحجاب تواً إلى حيث ألفونس الصغير ومربيه. وقطع السفير حديثه هنيهةً فقلت مستفهماً: عفوك يا مولاي وهل كان يوجد جنرال إسباني بهذا الاسم؟ فمد السفير يده إلى شاربيه ففتلهما بين السبابة والباهم وقد صعدهما إلى أعالي وجنتيه ثم قال: نعم! غير أنه كان يقود في ذلك العهد الفرقة المعسكرة في برشلونة. مهلاً رويداً فإنك ستعلم كل شيء.

فلما مثل الجنرال بين يدي الأب أوليفا والملك الصبي قال لهما إن الجيش تظاهر بالاستياء لغيبة الملك فخشيت الملكة حدوث أمر ذي بال فأنفذته إلى القصر ليستصحب ألفونس الثالث عشر إلى ساحة الاستعراض. وكان الجيش في تلك الأيام الآمر الناهي في إسبانيا فلم يخامر الأب أوليفا ريبٌ في كلام الجنرال فهمّ إلى قبعة الملك فوضعها له على رأسه وأوعز إليه بالذهاب فوراً. وكان ألفونس في السابعة من عمره فقفز درج القصر قفزاً شأن الصغار إذا دعوا إلى ما يحبون، وركب في العربة المقفلة وإلى جانبه الجنرال اسبينوزا وأمامهما الضابط الآخر. ولما عادت الملكة إلى البلاط على أثر الاستعراض استقدمت ولدها إليها فهب الأب أوليفا مرتبكاً وقص عليها ما كان. ففهمت جلالتها أن ألفونس إنما انتشل انتشالاً من قصره لأن الجيش لم يتظاهر بالاستياء المزعوم فهي لم تستقدمه إلى الحفلة قط. تصور يا سيدي إذن الألم الذي أحست به الملكة كريستيانا سليلة هابسبورج تلك المرأة التي كانت تخبئ تحت عظمة الملك وأبهة التاج حنان الأم الرؤوف، وشغفت الأرملة ببنيها. إنني تشرفت بمعرفتها وقوبلت مراراً في مخدعها الملكي فما ظننت قط أن تلك الملاحة الخلابة، وذلك الجلال الباهر يلينان للحزن الوالدي حتى حده الأقصى. وكانت جلالتها حينئذ في موقفٍ حرج فاستشارت السنيور جويستالا فأشار بوجوب كتمان الأمر كل الكتمان مخافةً أن يغتنم الكارلوسيون تلك السانحة، أو يستفيد الجمهوريون من تلك الفرصة فتسود الفوضى، وتكون في المملكة من أقصاها إلى أقصاها ثورة لا تحمد عاقبتها. إن مخافة هذه الفوضى خلقت ذلك المرض الوهمي الذي أشرت إليه فزعمت الملكة أن ألفونس أصيب فجأة بداء عقيم، وإنه حجر عليه في غرفته، ورددت الصحف هذه المزاعم فعكف الشعب على الصلاة وبكر إلى الكنائس يتشفع القديس يعقوب! * * * وتوقف السفير هنيهةً عن حديثه فتناول كأسه وابتلع ما فيها دفعة واحدة، وأشعل سيكاراً جديداً وأشار إلي بأن أشرب فامتصصت مصةً من كأسي عملاً

بإشارته. ورأيته قد أمرَّ يده على جبينه ففركه قليلاً والتفت إلي فقرأ في عينيّ معنى الاستزادة والرجاء فتمجد في مجلسه وفتل شاربيه ثم تنحنح وعاد إلى حديثه: أود إليك يا سيدي أن تعذرني عن متابعة حكايتي فقد بلغت فيها الآن حيث بدأ دوري بالعمل وأنا لا أريد أن أتباهى بأعمالي وإنما يكفيك أن تعلم أن الحظ أسعد إسبانيا بوجودي يومئذ في مدريد ولولاي لكان في تلك المملكة ما كانت المملكة في غنىً عنه. فدنوت بكرسي قليلاً من مقعده وتململت كمن ذهب صبره وقلت: كلي إصغاء إليك يا سعادة السفير. غير أن لي سؤالاً أستفيد جوابه. إنك كنت في مدريد في ذلك العهد فكيف كان ذلك فأنا لا أعهد أن سعادتك تقلدت السفارة في تلك العاصمة؟ فقطب سعادته جبينه وأليس وجهه هيئة الرزانة والوقار وقال: لا لم أكن سفيراً هنالك ولم تكن لي مهمة سياسية قط. فلا توقف علي في السؤال لأن من الأمر سراً أود كتمانه وغنما حسبك أن تعرف أنه كان لإحدى الأوانس الفاتنات دخل في وجودي يومئذ في عاصمة الإسبان. فأحنيت رأسي احتراماً واعتذرت عن هفوتي بما حضرني ثم قلت وأنا أفرك كفاً بكف. عفوك يا سيدي فقط قطعت عليك حديثك. فتبسم تبسمة من فهم براعة الطلب فارتحت إلى رضاه وسكت فقال: هذا ما كان من أمر الملك والملكة: وأما أنا فلما أتاني أن ألفونس مريض وقد كنت أحبه ويحبني ويهفو إلي حين يراني أبرقت إلى باريس إلى أميل جيرولت وشركاه أن يرسلوا إلي أثمن وأجمل لعبة في مخزنهم المشهور وقد وصلتني في اليوم الرابع وهي تمثل فارساً مغربياً متقلداً سيفه ومعتقلاً رمحه وممتطياً هجيناً يتحرك بلولب فيمشي متثاقلاً. وحملت اللعبة إلى القصر فلما قرأت جلالة الملكة كلمة ضروري على بطاقة زيارتي أمرت فوراً بإدخالي إلى الحجرة المحاذية حجرة الملك الصغير. وكانت سلسلة هابسبورج قد أخذ الحزن مأخذه منها، وتولاها اليأس وساورتها الهواجس

والرؤى غير أنها ما برحت حافظةً عزتها وكبرها؟ فلما مدت يدها مسلمةً قالت بالفرنساوية وهي تتكلف الرقة: أي داعٍ أتى بك إلينا يا حضرة البارون؟ فانحنيت ثم أجبت بالإسبانية وأنا أحسن هذه اللغة: نبئت أن جلالة الملك مريض فأتيت أعوده حاملاً إليه هدية تؤنسه في وحشته. وأني لأرجو أن أنال الحظوى في عينه فأسليه في بلواه ولست أخاف العدوى فأحجم عن القيام بالواجب. وكنت أتكلم محدقاً في عيني جلالتها فلم تفتني معاني الحيرة فيهما فلما سكت قالت: يسوءني يا حضرة البارون أنني لا أتمكن من قبول التماسك فإن جلالته لا يستطيع مقابلة العواد. على أنني أعدك أنني لا أكتمه حديث لطفك ومروءتك متى تم له الشفاء. فقلت وقد بسطت بين يدي جلالتها اللفافة المتضمنة اللعبة: سمعاً وطاعة! لا أخال أني صديقي ألفونس مريض إلى حد أنه لا يستطيع التسلي بمثل هذه اللعبة الجميلة. حنانيك يا مولاتي فلا تمنعي عنه فرحه بي، ولا تمنعي ابتهاجي برؤيته! فحولت الملكة وجهها عني، ولوت رأسها ثم مدت يدها بمنديلها إلى عينيها تنشف لؤلؤتين صافيتين أبرقتا فيهما. أسليلة هابسبورج تبكي؟ إن الملكة كريستيانا أرملة ألفونس الثاني عشر، وأم ألفونس الثالث عشر ملك إسبانيا نسيت عظمة الملك وفخفخة التاج، وعزة الصولجان، فرأيتها حينئذ أماً لا ملكة وكانت تلك الدموع دموع الأمومة لا دموع الملك! فتقدمت من جلالتها جازعاً مرتبكاً وأنا أقول: رحماك يا سيدتي! أتراني ارتكبت إثماً بإلحاحي إلى هذا الحد فعفوك إذن عني! فمالت إلي وأمسكت بيدي قائلة بل أتيت كل جميل وما قلت غير ما أشكرك عليه. إنني اعلم وفاءك فإذا بحت لك بالسر الذي يبكيني فلأني أعتقد بشرف خلقك: إن ألفونس لا يتمكن من قبول هديتك لأنه ليس في حجرته فقد انتشل من هذا القصر منذ أربعة أيام. فصعقت في مكاني وهالني الأمر جداً ولكنه لم يذهب بثبات عزائمي، وحدة ذهني فلفت إلى جلالتها لفتة السائل المستفيد فأومأت بأن أجلس وجلست على مقربة مني، ثم قصت علي الحكاية كما قصصتها الساعة عليك. وزادت أنها أوعزت إلى

البوليس السري باقتفاء أثر العربة المقفلة التي دخلت القصر في صباح العيد وخرجت منه بالملك الصبي. غير أن البوليس لم يعلم قط أن ذلك الصبي المنتشل كان ألفونس نفسه. وكنت أسمع حديثها بإصغاء وانتباه شديدين فلما جاءت على آخر القصة أبرقت عيناي ولم يفتها بريقهما فنظرت إلي مستغيثة فقلت: علي يا سيدتي بالأمر فأرد إليك الملك المسروق في خلال خمسة أيام. فانتفضت في مقعدها انتفاض قلبها في صدرها وإنما الأم بعض حياة البائس رد إليه. ثم مدت يدها إلى يدي فشدت عليهما وهي تقول: أتعدني وفي وعدك مثل هذا التأكيد فكأن لك إذن نفوذاً عظيماً على الكارلوسيين؟ فقلت رويدك يا سيدتي لا تتهمي الكارلوسيين بمثل هذا الإثم الفظيع. إنني عرفت الدون كارلوس المطالب بعرش إسبانيا وشرفني بأن دعاني إلى مائدته الخاصة وصادقته فسبرت نفسه فأنا أعيذه من التدني إلى هذه السفالة. فبهتت جلالتها لدفاعي عن الدون ومريديه ثم قالت: كيف تفسر إذن الرسالة التي وردت علي من بامبلون قلت حيلة احتالها بعضهم طمساً للحقيقة ودفعاً للشبهات. فقامت إلى خزانة في الحجرة التي كنا فيها وفتحت درجاً صغيراً وعادت إلي بالرسالة فقرأتها فإذا بها تحتوي طلب مليون بيستاس فديةً للملك وهي خلو من التوقيع غير أن في ختامها هذه الكلمات: بأمر جمعية اليد السوداء فلما تأملتها جيداً أعدتها لجلالتها قائلاً: وإن هذا التوقيع مستعارً أيضاً فاليد السوداء لم تقدم قط على انتشال الملك وإنما انتشله أثمة جناة استعاروا اسم جمعية اليد السوداء تهويلاً وتستراً. ثم اقترحت اقتراحي على جلالتها فرضخت له وأمضت لي كتابةً خلاصتها الإذن لي بعمل كل ما أراه نافعاً. فتسلحت بتوقيعها الملكي وانصرفت. وكان أول همي أن أجد لنفسي صفة التبس بها عن المظان والشبهات ففكرت كثيراً فقر رأيي على أن أستعير صفة طبيب إنكليزي فلبست اسم الدكتور هري برون وألحقته على بطاقة الزيارة بهذه الكلمات: من المدرسة الطبية في لندن. فقلت عفوك يا سعادة السفير فقد كان التعبير الأصح من جامعة العلماء الطبيعيين في لندن فهز سعادته كتفيه غير مكترث لتصحيحي وقال: أنتم الإنكليز

جميعكم سواء في الأنانية. أو ظننت أن كل المدريديين يعلمون أن أطباءكم يميزون معاهدهم في تسميتها مدرسة أو جامعة؟ وتناول سعادته كأسه فتجرعها ثم ملأها وعاد إلي فقال: وقد اختر أن أكون طبيباً إنكليزياً لأن غرابة الأطوار منتشرة بين الإنكليز حتى لقد أصبحت أشبه بداء معدي أصبتم به أنتم سكان تلك الجزر البريطانية. وكان الدور الذي وددت أن ألعبه في القصر الملكي يقتضي شذوذاً في الأخلاق وهذا ما لا يتاح لي إذا لم أكن إنكليزياً. ثم بدأت عملي فاستنطقت الأب أوليفا استنطاقاً دقيقاً وسألته أن يريني آخر رسم للملك المسروق فرأيته يمثله أجمل تمثيل بعينيه الكبيرتين البراقتين وملامحه الدالة على العزة والعنفوان. وعرفت من الأب أيضاً أن تلك الصورة انتشرت انتشاراً عظيماً في المملكة وتداولتها الأيدي في جميع الأنحاء فعلقها التاجر في معرض تجارته، والغني في قاعة منزله والفقير على حائط كوخه. فقلت للأب حينئذ إذا كان ذلك كذلك فغنه يستحيل على سارقي الملك أن يخرجوا به في شوارع العاصمة في رائعة النهار فالشعب يعرفه والبوليس لا يجهله. ثم طلبت منه أن يسمي لي الخدمة الذين رأوا الصبي راكباً فيها فتردد في قبول طلبي زعماً أن جميع من في القصر يعتقدون بأن الملك عاد إلى بلاطه سليماً معافىً. ولم يكن من خلقي امتهان الإكليروس، واحتقار آرائهم وفلسفتهم رغم كوني غير كاثوليكي. إنك تعلم يا سيدي أن لا دين لي سوى حب فرنسا، وأن لا إله أعبده غير الشرف ومع ذلك فإني أحترم الكنيسة وما الإكليروس في نظري إلا كالنساء صنف من الناس أرى من النذالة أن يهانوا ويشتموا. إما انتم البروتستانت فقد برهنتم على ذكائكم بإقصائكم هذه الطغمة عن الشؤون السياسية. - عفوك يا سعادة السفير. . . بل إقصائها فقط عن كراسي النيابة في مجلس العموم. - هذا كذاك فالمعنى واحد. قلت إني أنفت من فلسفة الأب أوليفا ولكنني أبيت أن أتدنى إلى إهانته بل أفهمته أنه يجب أن لا تكون له إرادة في جانب نهيي وأمري. ثم مشى أمامي إلى دائرة الخدمة فنظرت في ساعتي وسألته متى خرج الملك فقال في مثل هذه الساعة ولهذا فإن الذين شهدوا خروجه كانوا قليلي العدد. فقلت

ذلك خير وأبقى. ودعا الأب ثلاثة من الخدم بأسمائهم فهرولوا مسرعين فبادرتهم بالسؤال ولم أدع لهم سبيلاً للاختلاف والتلاعب في الشهادة ففهمت أن الملك كان ملتفاً بغطاء من القطيفة، ومنزوياً في العربة كمن يحس بشدة البرد، ولم أستفد غير ذلك مما يعول عليه. فعدت بالأب إلى حجرته وقد بدأت استخفه وأمله لكثرة ما كان يلقيه علي من الأسئلة الباردة ولما استقر بنا المكان وأخذت أفكر في السبيل المؤدي إلى الحقيقة، إذ فتح علينا الباب فجأة ودخل منه رجل فسلم على الأب أوليفا بخشوع واحترام. فمال الأب إلى أذني وأسر إلي إن الزائر الدكتور هناريز طيب القصر فأبيت أن أتعرف إليه لأنني خشيت أن يطارحني حديث المدرسة الطبية في لندن فينكشف له سري. ورأيت أن أشغل الأب عن زائره فسألته عن طعام الملك فقال إن جلالته يحب الأطعمة التي يقدمها السنيور غوميز رئيس طهاة القصر وقد ساءه في الأيام الأخيرة انحراف ألم بمزاج هذا الطاهي فلم يذق جلالته أقراص الحلوى والكعك وهو ولوع بها ولكنه لا يشتهيها إلا من صنع غوميز نفسه الذي لا يزال مريضاً حتى اليوم. على أننا نرجو أنه متى تم الشفاء لجلالته يكون السنيور غوميز قد تعافى أيضاً كما يرى حضرة الدكتور وفي تلك الآونة وقف الطبيب فودع بالاحترام كما سلم فقلت للأب علي بوكيل القصر الساعة. فلما مثل بين يدي أمرته بأن لا يدخل القصر مخلوق فيه حياة قبل أن يستأذن له منا اللهم عدا الملكة والسنيور جويستالا ثم قلت له: أما خدمة القصر فراقبهم وضيق عليهم فلا يخرج أحدهم على غير علم مني، وأما أنت فقدم لي في كل ساعتين تقريراً مسهباً فيه عن صفة كل طالب أذنت له بالدخول أو لم آذن. فانحنى الوكيل احتراماً ثم قال: وهل تشمل هذه الأوامر دائرة المطبخ حيث يكثر اختلاط الباعة بالطهاة والخدمة؟ فأرسلت إليه نظرتين حادتين وقلت: بل هي تشمل تلك الدائرة في الدرجة الأولى. وحذار الحليب خصوصاً فهو قارورة الميكروبات، ومنشأ الأمراض المعدية. ثم كانت ساعتان فأقبل علي الوكيل حاملاً تقريره الضافي فنظرت فيه ووعيته

تماماً ثم حملته إلى جلالته الملكة. . . ولكني ما لي أراك لا تشرب كأسك أتراك شغلت بحديثي عنه؟؟ فقلت: حديثك يا سيدي السفير أطيب من الكونياك. فتناول كأسه وابتلعه ثم أشعل سيكاراً وامتص منه بضع مصات ملأ دخانها سماء الغرفة وعاد إلي فقال: يذكرني دخان هذا السيكار بليلة ساهرة مرت بي على شاطئ البوسفور في الأستانة على أثر خلع السلطان عبد العزيز وقد أحرقت في تلك الليلة عدداً ليس بقليل من أمثال هذا السيكار. . . لأن لخلع ذلك السلطان وموته حديثاً سأطرفك به في إحدى ليالينا فقد كنت في ذلك العهد موظفاً في سفارتنا في عاصمة الترك وحضرت بنفسي وقائع تلك الرواية المحزنة فلم يفتني شيء منها! - عفوك يا سعادة السفير! وحملت التقرير إلى جلالة الملكة ثم كان ماذا؟ - فلما اطلعت جلالتها عليه لم تجد فيه ما يريبها غير أني رجوت منها أن تستعيد ذاكرتها وقائع الأيام الأخيرة في القصر، ومازلت أسمع حديثها حتى ذكرت أنها غضبت مرة من السنيور غوميز رئيس الطهاة وعاقبته. وكان لهذا الرجل ولد صغير سنه كسن الملك ألفونس يحبه الملك ويهفوا إليه، فأنفذه أبوه إلى ألفونس يستعطفه عليه ولكنني أبيت مصرة على عقابه. وفيما كانت جلالتها تقص علي هذه الأحاديث إذ دخل علينا الوكيل فقال لي: أمرتني يا حضرة الدكتور أن أستميحك لأذن لك داخل إلى القصر وهو ذا الآن ولد صغير واقف بالباب يستأذن بالدخول على أبيه. فقلت: من الولد ومن أبوه؟ قال بدريلو غوميز ابن السنيور غوميز رئيس الطهاة. قلت لا يدخل. بل احرص عليه في حجرتك حتى تصلك أوامري بشأنه! فالتفتت إلي الملكة قائلةً: وما شأن هذا الصغير حتى يمنع من الدخول على أبيه؟ قلت عفوك يا سيدتي إن هذا الولد ليس بدريلو غوميز بل رسول أنفذه سارقو الملك إلى القصر. فامتقع وجه جلالتها، واضطربت اضطراباً فقد جاء فيه أن بدريلو غوميز دخل

القصر إذ أذنت له بالدخول ثم لم يخرج منه فكيف يمكن أن يكون هو هو الداخل الآن؟ ونظرت إلى جلالتها فرأيت في عينها معاني القلق والخوف فرأيت أن لا أكتمها الحقيقة فقلت: وعدتك يا سيدتي بإعادة ابنك إليك وها أنذا أبر بوعدي الآن قبل الميعاد المحدد. إنني ذاهب لآتيك بألفونس الثالث عشر!! ثم خرجت ووقف على باب الدائرة المخصصة لسكنى السنيور غوميز وعائلته وطرقت الباب، فسمعت صوتاً من الداخل يقول: أو هذا أنت يا بدريلو؟ ثم فتح الباب نصفه فدخلت فإذا أنا برجل كبير الجثة، عرض الصدر، مفتول الساعدين، متين العضلات. فلما بصر بي نظر إلي نظرتي نمر كاسر وقال: من أنت يا سنيور؟ قلت طبيب أرسلتني إليك جلالة الملكة لأعودك. قال أنا أشكر تعطفات جلالتها ولكنني لست بحاجةٍ إليك فقد زايلني الطبيب الساعة. قلت لا بأس ولكن أمر جلالتها يجب أتنفيذه فدعني أجس نبضك على الأقل ثم تناولت يده بغتة قبل أن يحير جوباً وقلت له إن نبضك سريع يا سيدي وأنا أرى أن حالك تقتضي تبديل الهواء لأن مناخ هذه الدائرة من القصر سام قتال. هلم بنا إلى الخارج. . . فاتقدت عيناه بالشرر وارتمى على مقعد هناك وقال: بلى أن رأيك سديد يا سيدي الدكتور غير أني أشعر بارتخاء في أعصابي فأنا لا أستطيع مزايلة هذا المكان اليوم! فلم أكترث لجوابه ولكنني تقدمت إلى باب مقفل في أقصى الحجرة وهممت بفتحه فإذا بذلك الرجل قد وثب إلي وثبة الذئب الجائع يريد أن يحول بيني وبين الباب فشهرت مسدسي وصوبته إلى صدره قائلاً له: مكانك أو تموت!! فارتد إلى الوراء خائفاً مذعوراً ففتحت الباب ودخلت فرأيت الملك مضطجعاً في كرسي طويل وماسكاً قرصاً من الحلوى يأكله قضمة قضمة. حينئذ وقف السفير فتجرع كأسه ووضع باهميه في كمي صدريته عند الكتف وقدم رجله اليسرى مسافة نصف خطوة عن اليمنى ونظر إلي بكبرٍ وإعجاب فقلت: ثم كان ماذا؟ فهز كتفيه وقال بصوتٍ أجش: كان ما أنت تعرفه ويعرفه جميع الناس! أنني أعدت ألفونس الثالث عشر إلى سرير الملك الذي يتربع فيه اليوم!!

ثم سكت سعادته فقلت: ولا أبنت لي يا حضرة السفير كيف عرفت أن الملك كان لم يزل محجوزاً عليه في القصر: قال أخالك يا سيدي لم تصغ إلى حديثي كل الإصغاء. أو لم أقل لك إن أولئك الجناة لم يستطيعوا الخروج به من المدينة لأن الشعب يعرفه والبوليس لا يجهله؟ أو لم أقل لك أيضاً أن غوميز مرض قبل حفلة الاستعراض العسكري بنحو ثمانية أيام كان يعوده في خلالها الطبيب هناريز؟ إن غوميز هذا كان رئيس تلك العصابة الشريرة وأما الطبيب فلم يكن إلا أحد أعضائها. فمتى وعيت هذين الأمرين وتفهمت الوقائع جيداً سهل عليك أن تعرف ما عرفته. - ثم ماذا كان عقاب هؤلاء الأثمة الأشرار. - عفي عنهم لم يعاقبوا إذ كان من الخرق في الرأي أن يذاع في المملكة سر انتشال الملك على تلك الصورة. أما أنا فقد حمدت الاتفاق الذي أتاح لي الدفاع عن صديقي الدون كارلوس وقد اعتذرت الملكة مني لإساءتها الظن بهذا الصديق الشريف ثم خصتني جلالتها بنوع من الشكر عن عملي كان لذيذاً وحلواً. إن الملكة كريستيانا امرأة جميلة فتانة! ولما استأذنت جلالتها بالانصراف قال لي: أما خدمتك لإسبانيا فالسنيور جويستالا رئيس الوزراء يشكرك عليها، وأما خدمتك لأم الملك فجزاؤها هذا التذكار مني إليك. ومدت يسراها فأخرجت من إحدى أصابعها خاتماً من ألماس ووضعته بيدها في إصبعي هذه. . . . وتأملت يد السفير فلم أجد فيها الخاتم فقلت: وددت إليك يا سيدي أن تريني هذا التذكار الجميل. فتنهد ثم قال: فقدته في ساعة لذة ولهو فقد مر إلى يد أجمل من هذه اليد، فلا تسلني كيف وأين فإن الواجب يقضي بكتمان أسرار النساء. وحينئذ مد السفير يده إلى ساعته فوقفت مستأذناً فهز يدي وهو يقول: عدني بأنك لا تفشي حديثنا الليلة فأنتم الصحافيون لا تؤتمنون على سر ولا تقدسون شيئاً. فتبسمت وقلت بل عفوك يا سعادة السفير. . . فلم يدعني أتم حديثي بل قال: فأقسم أمامي إذن بأنك إذا نشرت هذه الحكاية لا تنشر اسمي فأعدك بأن أقص عليك أمثالها من تاريخ أوروبا السري فأقسمت لسعادته وودعته وهو يقول لي: إلى الغد!.

العدد 15

العدد 15 - بتاريخ: 1 - 6 - 1911 الزهور في عهدها الجديد في غرة مارس من السنة الفائتة، صدر العدد الأول من مجلة الزهور متوجاً بأسماء أعلام الشعراء ومشاهير الكتاب، الذين وافقوا على الفكرة الباعثة إلى إنشاء هذه المجلة، وهي إيجاد صلة تعارف بني حملة ألوية الأدب في عموم أقطار العرب. وقد شاؤوا جعل الزهور لسان حالهم للتراسل فيما بينهم، واتخاذها مجالاً للمباراة في نشر نفثات أقلامهم وبنات أفكارهم. ألقيت هذه البذرة في عالم الأدب فنمت وأزهرت وأثمرت ومر على المجلة سنة وبعض السنة وهي سائرة على الخطة التي اختطها لها هؤلاء الأدباء. فكانت جنة غناء وروضة فيحاء تغني على أفنانها بلابل النظم وسواجع النثر، فأطربت الأسماع، ولذت الأفهام بما جمعته من عرائس الأفكار ومبتكرات الأقلام. وقد لقيت من الرصفاء الكرام أصحاب الجرائد والمجلات تنشيطاً كبيراً. فما صدر منها جزء إلا قوبل بأحسن كلمات التقريظ والثناء بل كثيراً ما فسحت تلك الصحف مجالاً بين صفحاتها لنقل ما كان ينشره امراء البيان في الزهور من شائق الكتابات. وقد يضيق الجزء والجزءان من هذه المجلة عن إيراد ما خطته صحف مصر وسورية وأمريكا والعراق والمغرب بهذا الشأن. فكانت شهرة محرري الزهور وإعلان الصحف عنها وتحبيذ خطتها مدعاة إلى انتشارها

وبعد صيتها في كل الأقطار. وقد جاء ما نشرته المجلة من رسوم ومشاهير الكتاب - أسوة بأمها المجلات الأوروبية - مشوقاً كبيراً إلى زيادة الإقبال عليها. هذا ما أدركته المجلة في عهدها الأول. * * * ولما كانت الفكرة الداعية كما تقدم إلى إنشاء هذه المجلة متشعبة الفروع تقتضي القيام بأعمال جمة لتحقيق هذه الأمنية العزيزة، رأى صاحب الامتياز أن يحول الزهور إلى شركة تديرها وتقوم بجميع مقتضياتها من أقلام إدارة وتحرير ومكاتبات، واستيعاب أبواب المجلة الكثيرة، والبحث عما طوته الأيام من آثار الكتّاب النفيسة إلى غير ذلك من لوازم المجلات الكبرى فتم تأليف الشركة بعنوان الجميل وتقي الدين وشركاؤهما وهكذا أصبح بالإمكان أن نعد القراء والمشتركين الذين وضعوا يدهم بيدنا منذ أول ساعة بإجراء تحسينات كثيرة في أبواب المجلة المعروفة، من مقالات وقصائد، وتعريف أهم آثار الغربيين، ونشر أحسن مختارات العرب، وفتح أبواب جديدة للأخبار العلمية والأدبية وتراجم الكتاب وغير ذلك مما يجعل المجلة جامعة كما يريدها القراء، كل هذا مع الاحتفاظ بخطتها الأدبية الصرفة البعيدة عن كل المنازع السياسية والمذهبية. ولذلك فنحن على يقين من حفظ ثقة المشتركين والقراء العديدين مع اكتساب ثقة غيرهم، وإنا سنعمل في كل الأحوال على إرضاء من أصبحت نفسهم تتوق إلى نشرة أدبية تطلعهم على مجرى الحركة الفكرية وليسوا بالنفر القليل. تحرير الزهور إن محرري الزهور في عهدها الأول - وهم خيرة الكتاب والشعراء الذين نفحوا هذه المجلة بالزهرات الطيبة الجميلة، فكان منها في كل شهر باقة، وكان من

مجموعها في الاثني عشر شهراً روضة زاهرة متضوعة الأريج - هؤلاء الكتاب والشعراء الذين أحبهم القراء وولعوا ببنات أفكارهم سيظلون على عهدهم الأول ينشرون في الزهور كل جيد نفيس وكل طيب رائق. على أننا - ونحن لا نريد إلا التحسين المتواصل - قد فاوضنا جمهوراً آخر من أدبائنا لمشاركتنا أيضاً في تحرير الزهور حتى تتحقق الآمال الموضوعة منذ البداية أساساً لحياة هذه النشرة، فتتم بذلك كله الصفة المميزة لها في عالم الأدب. وقد دفعنا طمعنا بالتحسين ورغبتنا في طرق كل جديد إلى إشراك كبار المستشرقين أنفسهم وقادة الأفكار الأجانب في تحرير هذه المجلة. فكتبنا إلى فريق منهم نستكتبهم مقالات خصوصية عن الحركة الفكرية في بلادهم لنعربها خصيصاً لقرائنا. ولنا بالقراء وطيد الأمل بأنهم سيكونون عوناً لنا في تحقيق هذه الأماني جميعها، فلا يبخلون علينا بكل وسائل التنشيط والتشجيع، ورجاؤنا إليهم أن يعتقد كل فرد منهم أن الزهور إنما هي منه وله. أما إدارة المجلة الداخلية فسيتولاها أحدنا أمين تقي الدين فالرجاء من وكلاء الزهور ومشتركيها أن يعتمدوا توقيعه في كل ما يتعلق بشؤون المجلة الجميل وتقي الدين وشركاؤهما السنة الأولى للزهور في الإدارة مجموعة الزهور مجلدة تجليداً متقناً وثمنها خمسون غرشاً صاغاً ويضاف إليها أجرة البريد للخارج.

لو

لو الشبيبة ربيع الحياة، والشبان زهرة الوطن، والشيخوخة صيف الحياة، والشيوخ ثمرة الأمة. وإذا كان الفيلسوف اليوناني يقول: أمة بلا شبيبة هي سنة بلا ربيع فيمكنا أن نزيد: أمة بلا شيوخ هي أزهار بلا ثمار. صدر الشباب الرحب مملوء آمالاً ونشاطاً، وعافية وإقداماً. لكن الشباب لا يعلم، والشباب لا يدري. فتذهب قواه سدى، وتضيع سجاياه عبثاً. فهي كالقوة الميكانيكية التي لا يعرف صاحبها أن يستعملها فتضيع بلا جدوى ولا فائدة. ورأس الشيوخ مملوء حكمة وعقلاً وتروياً وإدراكاً. لكن الشيوخ قد فقدوا النشاط والإقدام. عرفوا استعمال القوى بعد أن أضاعوها. وأدركوا صفات الشباب بعد أن فقدوها. فهم أشبه بالميكانيكي الذي تعلّم إدارة آلته بعد أن تخربت. فيجب أن يكون الشيوخ في الأمة الرؤوس المفكرة، وأن يكون الشبان الأيدي المنفذة. فباتحاد هاتين القوتين تترقى البلاد وتسعد. وليس أكبر من أمة شيوخها يرشدون شبانها، وشبانها يطيعون شيوخها. بذلك افتخر الشاعر العربي بقبيلته إذ قال: وفتية إن نقل أصغوا مسامعهم ... لقولنا أو دعوناهم أجابونا وبهذا المعنى قال الإفرنج في أمثالهم:

عواطف وآمال

لو علم الشباب. ولو قدر المشيب!. . , وقد أخذ إسماعيل باشا صبري هذا المثل الإفرنجي ونظمه في شعر عربي من شعره المعروف بسلاسة المبنى وبلاغة المعنى فقال: لم يدر طعم العيش شبان ... ولم يدركه شيب جهلٌ يضل قوى الفتى ... فتطيش والمرمى قريب وقوىً تخور إذا تشبث ... بالقوى الشيخ الأريب أواه لو علم الشباب ... وآه لو قدر المشيب فلو كان الشباب يجمع إلى قواه الخبرة والتجربة لأتى بالمعجزات ولو كان المشيب يجمع إلى اختباره المقدرة على العمل لجاء بالآيات الباهرات. ولكن آواه لو علم الشباب ... وآه لو قدر المشيب عواطف وآمال لا لا لم ينزل العندليب على الزهرة إلا ليشكو لها الصبابة ويبثها الهيام، ولم ترسل هذه عطرها إلا لتؤكد له جبها، وما فتقت عنها الآكام إلا لتضم بين ذراعيها الحبيب، فعطفاً على المحب أيها الإنسان. . .! لله ما أنكد العيش وأنغصه إذا لم يقطعه السرور وتتخلله الأغاني!

وما أمرّ الحياة وأظلمها إذا لم يمتزج بشرابها سيال الحب ولم تسطع فيها أنوار الغرام! ونظير مياه الينبوع تجري في السواقي وتخفيها البحار، وكمثل رياح القفر تهب في وريقات الزهور وتبتلعها أوراق الأشجار، تمضي الحياة الخالية من الحب ويتصرم الشباب تطويه الوحشة ويقصره السأم. . . . دب النعاس بجفن ذكاء فاضطجعت على فراش الأمواج ونامت نوماً هادئاً رغماً عما كان بنفس هذه من الهيجان. ورأت ذكاء ولو في المنام حزن الأرض وانقباض أهلها فأرسلت فتاها فأتى وملأ الفضاء نوراً والقلوب رجاء. هب النسيم نسيم الغروب فمزق عن الوردة اللباس وكساها بثوب من الإنعاش قشيب فأعجب لمعرٍّ وكاسٍ. . . عسعس الليل وأوت إلى أوكارها الأطيار. وطالت ظلال الأشجار فزادت المكان وحشة، وساد السكون عميقاً فأخلدت عوامل الطبيعة إلى الهدّو، وما استطاع تقطيعه سوى أنفاس الباري يرسلها نسمات لطيفة فتزكي تلك الأرجاء، وتترك منها للإنسان أثراً جميلاً يستهوي القلوب ويسترق الأسماع. وكأن السرور جالب التأمل إن هو تناهى، فجلست على صخرة هناك وجعلت أتأمل. بالطبيعة جلست أفتكر في أصل وجودها وكيف يكون فناؤها من أصغر زهرة فيها إلى أكبر سروة، فعجبت من عواملها ومجدت خالقها. بهذا الهواء كيف يهب منها نقياً كأن أنفاس البشر لم تقو على

إفساده وقد اختلطت به مراراً. بهذا الليل وقد رأى العالم يرتكب تحت حمايته أفظع الذنوب وأشنع الآثام كيف يستره كأنه جهل أن من سكت عن الأشرار بالشر رمي ومن دافع عن المذنب بالذنب اتهم. . . أحزنت نفسي هذه التصورات فبدت على وجهي منها دلائل القلق. وكأن الطبيعة وقد علمت أنني من محبيها لم تشأ أن تتركني حليف الغم والقلق وقد طلبت منها سميراً فأرسلت إلي ما يلهيني فرأيت شبحين كانا يظهران تاراً من خلال الأشجار ويختفيان فأوقعاني في الريبة ولم يجدني ذلن نفعاً فرجعت أفتكر أيضاً ولكن لا فبين الأول والثاني خطى ومراحل. * * * تقدمت لأرى ما وراء ذلك وإذا بي أمام شاب تنبعث من عينيه شرارات القسوة والخشونة يداعب حيزبوناً تبينت بوجهها تجعدات جمة وبجبينها خطوطاً عديدة ولم أستطع علم هيئتها وإدراك كنه أمرها رغماً عن إحداقي بها وإعمال الفكرة في قراءة ما في نفسها. وهناك إلى جانب من الغاب كهلٌ ملقى على الحضيض دامي الأحشاء على وجهه سمة الوقار وبنظرته الحنو والإشفاق. ولم ألبث أن رأيت الشاب قد أخذ بذراع العجوز وتوغلا في الغاب. وأما أنا فتوسمت في خطوط جبين المرأة وبعد النظر طويلاً قرأت بأحرف كتب بعضها بشوكٍ غليظ وبعضها بزهورٍ لطيفة هذه الكلمة - الحياة - واستلفت نظري شيء ناتئ على كتف الشاب فحدقت فيه وتهجيت هذه الكلمة وقد كتبت بمداد أسود على

نظرة إشراف عام

صحيفة من النحاس - الفساد - ولما بعدا عن الشيخ ووارتهما أغصان الغاب رجعت إليه فلقيته يئن أنيناً متقطعاً وهو يحتضر وكان احتضاره رهيباً مزعجاً فدنوت منه وسألته وأنت من أنت يا هذا فأجاب والنور يخرج من فيه: أنا الحب العذري - أنا الطهر - أنا العفاف. قال هذا وتنفس الصعداء وكان بها خروج الروح. وأدرت لحاظي في هيئته فرأيته قد تحول كله إلى شعلة من نور ورأيت زهرة آسٍ كان يتضوع منها عرفٌ قوي الرائحة رغماً عن ذبولها. وساد السكون على تلك الأنحاء عميقاً فرجعت أدراجي نحو منزلي لما رأيت أن الهواء أصبح بارداً وشعرت بوطأة السكون. بيروت، جميل مدور نظرة إشراف عام على ديار نجد وقعت مقالات مراسلنا البغدادي الفاضل أحسن وقع عند قرائنا لأنه كشف فيها النقاب عن أمور وحقائق من اطلع عليها، وهي تتعلق ببلاد العرب وتاريخ النهضة الأدبية فيها. ونحن نبشر القراء اليوم بأن هذا الكاتب القدير سيدبج للزهور سلسلة مقالات في هذا الموضوع الجليل الذي لم يسبق إليه. وهو يبني كتاباته على أبحاثه الشخصية الواسعة مدعومة بما يستقيه من أوثق المصادر. وها نحن ننشر اليوم مقالته الأولى التي تشرح هيئة تلك البلاد وحالتها الحاضرة وهي مقدمة لأبحاث آتية. وفي هذه المناسبة نكرر له الشكر باسم الزهور وقرائها على ما يتحفنا به من المباحث الشائقة التي تعد خير خدمة للعلم والأدب. وإليك الحلقة الأولى من هذه المقالات:

1 - توطئة - خذ بيدك أي كتاب أردت، وتصفح أية مجلة شئت، وطالع أية جريدة شاقتك، بشرط أن يكون موضوعها الكلام على نجد، ثم قل في نفسك بعد أن تكون قد فرغت من الوقوف على ما راقك: هل هذا الذي قرأته صحيح يا ترى؟ - أقول: هلم ننظر إذا كانت شروط الصحة متوفرة في هذا السؤال. إن الكاتب الذي حبر تلك الأقوال لا يخرج عن إحدى هاتين الحالتين: إما أن يكون غريباً عن بلاد نجد، وإما أن يكون من أهلها وسكانها. فإن كان دخيلاً في تلك الربوع، فلا غرو إنه لا يستطيع الوقوف على الحقيقة كما لو كان من أبناء تلك الديار نفسها، لأنه قد قيل: وصاحب البيت أدرى بالذي فيه. وكيف يمكن الأجنبي أن يعرف من الأمور إلا ما يشاهده وهل يشاهد غير ظواهرها؟ بل كيف يسوغ لأبناء الوطن أن يبوحوا بجميع أسرارهم لمن كان غريباً عنهم؟ أما إذا كان من صميم أهلها فهو أيضاً لا يخرج عن إحدى هاتين الحالتين: إما أن يكون أمياً من طبقة الناس السافلة، وإما أن يكون علياً أو عالماً، فلا تكاد تراه ينطق إلا بما له ويسكت إلا عما عليه خوفاً مما يتوهمه فضيحة لأبناء وطنه، أو خشية أن يندد به تنديد خائن لبلاده. ومن ثم وجب أن يكون الكاتب عن هذه الديار وطنياً صادق الوطنية. أديباً فاضلاً من علية الناس وأشرافهم، عارفاً بما اختفى من تلك

الربوع وما ظهر، بعيد النظر بأحوال أهلها، كاتباً ضليعاً بل من حملة الأقلام الصادقي اللهجة، جريئاً مقداماً لا يخاف لومة لائم، محباً لترقي وطنه، ناطقاً بما له وعليه ليصح الاعتماد على كلامه في كل ما يقول. وهذه الشروط كلها قد اجتمعت في سليمان أفندي الدخيل صاحب جريدة الرياض (من صحف بغداد الحرة). فهذا الرجل من صميم بلاد نجد، ومن خيرة سراتها، وقد جاب تلك الأقطار طولاً وعرضاً، وسافر إلى بلاد الهند وإلى غيرها من الديار المتمدنة وقابل بين الأمم الراقية في الحضارة والأمم السائرة إليها سيراً وئيداً أو حثيثاً، وعرف الداء ووصف الدواء، ولهذا طلبت إلى هذا الفاضل الأديب (وهو خال أحد أبناء ابن سعود) أن يتحفني بما يعرف عن نجد معرفة تفيد قراء الزهور وتكون المقالة شاملة لأحوال نجد شمول مشرف عليها من أحد جبالها، ناظراً غليها نظراً عاماً بعيني البصر والبصيرة معاً. فكتب لي مقالة حسنة وضاءة. وقد أدمجت فيها ما وقفت عليه في أثناء مطالعاتي، وما سمعته من بعض الأدباء الفضلاء من أهالي تلك الربوع فحصل من هذا الإدماج شيء يشبه تداخل للحمة والسدى. وقد أحطت بقوسين ما لحضرة الكاتب الصديق من النص الرائق الفائق إقراراً بفضله وبراعة قلمه وسداد آرائه. وأبقيت بدون علامة ما لهذا العاجز الذليل من الكلام النزر القليل. 2 - موقع نجد وحدودها - ديار نجد واقعة في قلب بلاد العرب وهي سرتها. وحدودها من الشمال النفود الفاصلة بلاد الجوف عن بلاد

نجد. وهي النفود بوجه الإطلاق. ومن الجنوب النفود المسماة بالربع الخالي وهي بلاقع أو مفاوز أو فلوات لا تفرق بشيء عن نفود الشمال. ومن الشرق الإحساء والقطيف ومن الغرب بلاد الحجاز. 3 - سكان نجد في الزمن الخالي وفي الزمن الحالي - كان أهل نجد في السابق كأغلب سكان بلاد العرب: أخلاطاً من أمم شتى من عرب وفرس وإدميين وعبران وآشوريين وكلدان وبابليين ثم امتزجوا امتزاجاً واحداً مع الزمان حتى أضحوا أمة واحة، ولما جاء الإسلام زادوا وحدة ولما ظهرت الوهابية بانوا كل البينونة عن سائر سكان الجزيرة حتى أضحوا أمة مستقلة بنفسها ولها أوصاف خاصة بها كالشجاعة والبسالة والتدين المفرط الضارب إلى التعصب والإباءة وعدم تحمل الضيم وتوقد الذكاء وحب التجارة الواقفة على أصول الشرع إلى غير هذه المناقب الدالة على أن النجديين من الناس الذين بانوا عن سائر العرب بالمآثر الجليلة التي لا تشاهد إلا في السلف الخالي. 4 - أقسام نجد - تقسم نجد إلى ثلاث إمارات ولكل إمارة

حاضرة قائمة بنفسها. الإمارة الأولى قاعدتها (الرياض) وهي حاضرة إمارة الأمير الخطير ابن سعود الذي قام بتجديد مذهب السلف الصالح وهو المذهب الذي يلقب الآن بمذهب الوهابية أو بالوهابية من باب الإطلاق أو من باب الأغلبية. وأهل نجد كلهم يلقبون بالوهابيين نسبة إلى من قام بالدعوة في بداية الأمر وهو الشيخ محمد بن عبد الوهاب. أما موقع الرياض فمعروف أي في جنوبي نجد. الإمارة الثانية: إمارة الأمير الجليل ابن الرشيد وقاعدتها (حائل) وهي في شمال نجد. الإمارة الثالثة: القصيم (بالصاد لا بالسين كما يكتبها بعض أهل الجرائد) وهي عبارة عن بلدتين كبيرتني وهما: (عُنيْزَة) وهي عاصمة إمارة (آل سليم). و (بُرَيْدة) وهي عاصمة إمارة (آل مُهنَّأ) وما بين هاتين البلدتين مسافة قدرها ست ساعات للراكب. وكلتا البلدتين عُنَيْزَ وبُريدة دخلت في قبضة الأمير عبد العزيز بن سعود الموجود الآن. 5 - العلم بوجه الإجمال في هذه الإمارات الثلاث - استناداً إلى ما تقدم، نقسم البحث إلى ثلاثة أقسام ونخص كل إمارة بكلام يناسبها مناسبة إجمالية فنقول: كانت ربوع ديار (الرياض) وتلقب حيناً (بالعارض) منبعث أنوار العلم والعرفان في عهد غضارة إمارة آل سعود. لكن أكثر هذا العلم يدور على علم التوحيد والكلام والأصول والتفسير والفقه واللغة وجميع العلوم الدينية وقليل من النحو والصرف وسائر علوم الآلة.

فلما أخذت دولتهم بالزوال تقلصت ظلال العلوم عنهم أيضاً رويداً رويداً وتشتت العلماء على أوجه شتى: فمنهم بالموت وآخرون بالمهاجرة إلى بلاد أخرى يرتزقون فيها لأن عيشتهم في السابق كانت متوقفة على ما يجريه الأمير ابن سعود من الرواتب الدارة الأخلاف الجارية من بين المال وهذا يمتلئ مما كان يجمع على ما جاء به الشرع الشريف من النظام والأصول المثبتة في الإسلام. أما اليوم فلم يبق من تلك العلوم شيء في الرياض وانتقل أغلبه إلى بلاد (القصيم) و (حائل) السالفتي الذكر. ولا يوجد من يتعاطى العلوم فيها إلا أناس قلال. ووجودهم كعدمهم. وهم الذين خبطوا في الديانة خبط عشواء. وأظهروا التعصب الديني الأعمى وأشاعوا عنه وعن أصحابه أموراً لا توافق مذهب السلف. وهي وإن كان اغلبها ملفقاً إلا أن لها بعض الحقيقة فجسمها خصومهم وحسادهم على تلك البقاع وعلى عزتهم فيها وانتصارهم على مناوئيهم إلى أن تقلص ضل دولة آل سعود ففرحوا بذلك فرحاً لا يوصف. وما زالت الحالة في تأخر وتقهقر حتى اضطر أكثر أهل تلك البلاد إلى المهاجرة للاسترزاق فظعنوا عنها مكرهين ولكن هجرتهم لم تبعد لأنهم لم يتجاوزوا الإحساء والزبير والبصرة. أما اكثرهم فتراهم في البحرين وعمان وسائر تلك الأصقاع وكلها لا تخرج عن بلاد العرب. والذين هاجروا لم يكتسبوا بهجرتهم علوماً تقدمهم إلا النزر القليل مما يوافق مشربهم وتغربهم أي معرفة أعداء الدول وقواها وبعض ممالكها ومستعمراتها وسياسة بعضها لبلاد نجد. والخلاصة أنهم يتأثرون

كل ما له تعلق ببلادهم. والبعض منهم (وهم أفراد قليلون) وصلوا إلى الهند كمدينة لكنو وحيدر آباد وأمرتسر وغيرها ودرسوا بعض علوم الدين وشدوا شيئاً من الفلسفة وعلوم العمران والاجتماع. لكن علوم هؤلاء الأفراد لم تؤثر في قومهم التأثير المطلوب لما رجعوا إليهم قافلين بها، ولذا لا تراهم حظيين في عيون وطنييهم. أما إمارة ابن السعود الآن وحاشيتها. وإن شئت فقل: أما مقدمو إمارة ابن السعود فإنهم على كفاية من العلم اللازم لإدارة شؤونهم حسب سعتها وما تطلبه منهم مكانتهم بل يوجد بينهم أفراد لا يستغنى عنهم لحل الأمور المعضلة أو المشكلة. وأكثرهم ممن تربوا في المدن. وفي هذا العهد (أي منذ إعلان الدستور العثماني) انتبهوا انتباهاً عظيماً وهم في شوق لاعج إلى الاطلاع على حقائق الأمور والانضمام إلى الحكومة العثمانية. ولكن يا للأسف أن الحكومة لم تشرح صدرهم إلى اليوم فهي لا تراسلهم بل لا تنظرهم. لا بل لما طلب ابن السعود من ناظر الداخلية (طلعت بك) - حسبما بلغني - ليبعث إلى المجلس من قبله مبعوثين رده قائلاً: تفعل ذلك في الانتخاب الجديد. ولما كانت بيني وبين الأمير ابن السعود قرابة (إذ أني خال أحد أولاده) مثلت بين يديه بعد ما قضيت سنين في الهند وشرحت له أحوال الدستور في الأمم الراقية فانشرح له صدره وأفادني بأنه يكون أول مؤيد له وأعظم مساعد للحكومة العثمانية في ما تريده وألححت عليه بأن

يوفد إلى الحكومة العثمانية مبعوثين من قبله ففعل وطلب ذلك لكنه رد كما تقدم القول. هذا وأهل هذه الإمارة يطالعون بلاعج الهوى الجرائد والمجلات وهي تأتيهم من كل حدب وصوب ويطلبون الكتب ولاسيما الحديثة الوضع ليقتنوها ويطالعوها. وهم يقبلون عليها إقبال الجياع على القصاع. غير أن الاضطرابات التي تحدث بين القبائل غالباً لأدنى سبب. وسنة الأعراب منذ القدم سنة الغزو والهجوم لا تدعهم يتفرغون لها كل التفرغ ليستفيدوا الفائدة المطلوبة. ومع هذا فإني أرى أنه لا تمضي سنوات إلا ويصلون إلى درجة حسنة من العلوم والآداب بمنه تعالى وكرمه. 2 - وأما العلوم والآداب في حائل (ويقال لهذه الإمارة أيضاً الجبل وجبل شمَّر وهو جبل طيء في السابق) فهي على غير ما رأيته في الإمارة الأولى. ومما يجب أن تعلمه قبل إيغال في البحث أن هذه البلاد قد وصلت إلى درجة تذكر في العلوم منذ سابق العهد. وإمارتها لشمّر منذ أن وجدوا إلى يومنا هذا. وقد استولى عليها آل السعود حين قويت شوكتهم وعظمت صولتهم. وما كادت شمسها تميل إلى الغروب إلا وعادت تلك الديار إلى أهلها الأقدمين. وكان أول أهلها ورؤسائهم: آل علي ثم انتقلت إلى طلال فبندر فمحمد الرشيد. بغداد ساتسنا

صحافة سورية ولبنان

صحافة سورية ولبنان 3 - المجلات هذه مقالتي الثالثة عن صحافة سورية ولبنان. . . ولا يخفى أن للانقلاب العثماني الأخير فضلاً عظيماً على هذه المجلات التي أنا ذاكر. فمل يكن منها قبل إعلان الدستور إلا مجلة المشرق ومجلة المقتبس. أما بقية المجلات فقد صدرت في العامين الأخيرين كما يظهر لك في هذا المقال. وقد اجتهدت، في هذا القسم، أن أذكر تاريخ صدور لهذه المجلات متخيراً أوثق المصادر في ذلك فأقول: 1 - المشرق (بيروت): نشأت في أول كانون الثاني سنة 1898. صاحبها الأب لويس شيخو اليسوعي. كاتب باحث. كثير التنقيب. كثير الاطلاع. مجلة شهرية يسوعية محضة. هي وجريدة البشير فرسا رهان في مضمار المدافعة عن الدين. لهجتها شديدة، وعبارتها بين بين. 2 - المنتقد (بيروت): هي شهرية. نشأت في 15 أيلول سنة 1908 صاحبها محمد باقر، كاتب رقيق، له ذوق سليم في ترتيب مجلته وتبويبها. متساهل في آرائه. 3 - النبراس (بيروت): نشأت في 22 كانون الثاني. صاحبها الشيخ

مصطفى الغلاييني، كاتب وشاعر مجيد. أصح أصحاب المجلات السورية عبارة. وقد احتجبت النبراس والمنتقد لأسباب قاهرة. 4 - الحسناء (بيروت): شهرية نشأت في 20 حزيران سنة 1909. صاحبها جرجي نقولا باز، كاتب عصري مجيد. أستاذه الاجتهاد، ومدرسته المطالعة. هو نصير السيدات الخاص. أكثر مباحث مجلته ترقية الفتاة. قارئات المجلة أكثر من قرائها. لجرجي أفندي أسلوب خاص في كتابته. 5 - الكوثر (بيروت): شهرية. نشأت في 18 تموز سنة 1909. صاحبها بشير رمضان، كاتب مجتهد له اعتناء خاص في ترتيب المجلة. لا يضع فيها رسالة أو قصيدة نشرت في إحدى الجرائد. عبارته جزلة، ومجلته منتشرة جداً بين الشبيبة الإسلامية الراقية. 6 - الكلية (بيروت): شهرية. نشأت في أول شباط سنة 1910. تصدر في الكلية الأمريكانية، في اللغتين العربية والإنكليزية. الأولى بقلم الأستاذ بولس الخولي العالم المتفنن، والثانية بقلم رئيس الكلية هورد بلس الخطيب الشهير. أكثر مباحثها في شؤون المدرسة والأساتذة والتلامذة. 7 - النفائس (بيروت) نصف شهرية. نشأت في 1 آذار سنة 1910. صاحبها أنيس الخوري. يكتبها كامل حمية، الكاتب الرقيق والشاعر المجيد. مباحث المجلة طلية. ولمحررها أسلوب داخله هزل يدلي إلى انتقاد. 8 - الرابطة (بيروت): مجلة جامعة. نشأت في أول كانون الثاني

سنة 1911. تصدر في المدرسة العلمانية الفرنسوية بثلاث لغات (العربية والتركية والإفرنسية) بعناية رئيس المدرسة المسيو ديشان، والأستاذ عساف بك الكفوري الكاتب العربي الصميم، والمجلة كاسمها رابطة ولاء وصلة إخاء بين التلامذة. 9 - المسرة (حريصا - لبنان): نشأت في أول حزيران سنة 1910. أصحابها المرسلون البولسيون. يحررها السيد جرمانوس معقد أبلغ مطران عربي، له أسلوب خاص في إنشائه. 10 - النديم (جسر نهر بيروت): نشأت في 15 أيلول سنة 1910 صاحبها شاكر عون، عالم غير كاتب. والنديم أقرب إلى جريدة منه إلى مجلة. 11 - النفائس العصرية (القدس): نشأت سنة 1908 وهي مجلة شهرية. صاحبها خليل بيدس، كاتب اجتماعي رقيق. لمجلته اعتناء خاص في ترجمة الروايات المفيدة المسلية. قراء المجلة كثيرون. وأكثرهم من الأرثوذكس. 12 - الإنسانية (حماه): نشأت في حماه سنة 1910. صاحبها حسن رزق، كاتب متساهل، وشاعر بليغ. لمجلته اعتناء خاص في ترقية المرأة. 13 - المقتبس (دمشق الشام): نشأت أولاً في مصر سنة 1905. صاحبها محمد كردعلي، كاتب مؤرخ. مجلته ثقة في سرد المسائل التاريخية. ولو كان حظه بقدر اجتهاده لكان لمجلته شأن عظيم في الشرق. 14 - العرفان (صيدا): نشأت سنة 1909. صاحبها الشيخ أحمد

في جنائن الغرب

عارف الزين. مجلته جامعة. فيها من كل فن خبر. منشئها مثال التساهل الديني. * * * وهناك مجلات أخرى لم أذكرها لعدم قراءتي إياها طويلاً كالطبيب للدكتور إسكندر بارودي، والجسمانية للأب يوسف علوان، واللطائف الأهلية لمحمد جمل، والتلميذ للمدرسة العثمانية، والمجلة السورية لفيليب يوسف تيان، ومجلة الاقتصاد لأنيبال إبيلا، والحقوق لمعوشي وخلف، والعري، والعروس، والشبيبة وغيرها من المجلات التي لم تعش كثيراً لضعف مادتها العلمية من جهة. وفقر أصحابها من جهة أخرى. حليم إبراهيم دموس في جنائن الغرب عفريت المنزل معربة عن كتاب لفيكتور هوغو. لوسي. . . ما لك ترتجفين. لا ترتعدي فرقاً، ولا تجزعي قلقاً. أتخشين عبدك، وهو يتفانى في سبيل خدمتك. أتخشين ممن يريد أن يظل قربك ما دام الليل ليلاً والنهار نهاراً. أتخافين من يبذل حياته وسعادته ليزيد يوماً واحداً في عمرك؟ ألا اغفري لي أيتها الصبية الجميلة إن أزعجك كلامي أو راعك منظري. فالكلام قد ضاق في صدري وأنا

أريد أن أتكلم فإن السكوت يؤلمني. ألا قولي ما الذي يدعوك إلى البرية، إذا ما الشمس هتكت حجب السحب، وبددت جيوش الظلام، وتمايلت الحقول طرباً لهبوب نسيم الصباح البارد. ألا أمكثي في بيتك واسمعي ما يوحي به إليك عفريت دارك، وعي في صدرك ما يبث في نفسك من الحب والهيام. وإذا ما الكرى أسبل عليك ستاره، وبت سكرى من نشوة خمره الفتان. أنفث في صدرك ذكرى الأحباب ومن طوتهم الأيام وأدرجتهم القبور تحت أحجارها، وأكلل مهادك الجميل الوثير بأجمل الأزهار لوناً وأعبقها أرجاً. فأجعل أيامك كبعض أيام أيار، وليلك كبعض الليالي المقمرة. وإن طمت بك السأمة مرة إلى استماع تغريد الأطيار تحت ظل الأشجار أو صفير البلبل المعجب عندما تمي ملكة النهار مائسة نحو ظلمات المغرب، أعير الأطيار شجي نغماتي، وأضع في فم البلبل أطرب آلاتي، وأنفخ في هبوب النسيم البليل بعض شذا الجنة فيحيي أنفاسك المنهوكة تحت وقر العمل. وإذا ما الغراب الأسحم نعق قرب دارك، طرته بعيداً وأقصيته عنك كيلا يوشوش عليك ذهنك أو ينغص عليك عيشك. عندما تستسلمين بنفسك إلى زورق الصايد المتمايل فرقاً فوق تجعد الأمواج واضطراب المياه، فإني أنا أدفع بذلك الزورق الغارق إلى بر السلامة وآمر الأرواح فتهدأ وريح الجنوب فتهب باردة وتنفح وجهك الأحمر، وآمر الأسماك الصغير أن نبهج ناظريك بألوان ظهرها الذهبية

فتجلو عن نفسك صدأ الأحزان والكآبة. وأنا كالكلب الأمين أحرس دارك من شر اللصوص، وأرافق أنعامك إلى مرعاها الأخضر، وأذب عنها الذئاب والضباع، وأرد إلى أسرابك ما شرد عنها من الأغنام. أصنع لك الجبنة عندما تدر لك قطعانك أبانها، وإذا ما الشمس نادت حي على الفلاح كنت أول بادئ في العمل فأهيئ لك خيلك وأجرد عنها أقذارها. ألا تريدين أن تنظري إلي. . . آه لو لم ترفضي إذن لعلمت أن الأرواح ليست قبيحة كما تتوهمها عقول البشر، لي أجنحة أطير بها وعينان زرقاوان كرقيع السماء الصافي، أنا ابن الهواء، أنا ابن الهباء، ونحافة جسمي تدلك على صدق قولي. ألا قولي يا لوسي ما بالك ترتعدين؟ إني لست أعجب من رعبك. إليك آخر سؤلي، وما العهد بك أن ترفضي نعمة طلبت إليك فاسمعي. إن الله يأذن للأشباح أن تلبس الهيكل الإنساني مرة في السنة. فأنا سآخذ صورة حبيبك مانيوس من نقشت صورته على سويداء قلبك وعلقت نفسك بهواه. ألا فاقبلي طيفي الشارد كما لو كنت إياه وارحمي شقائي. . . إن التي كانت ترتعد خوفاً وتغرق رعباً منذ هنيهة من ذلك الصوت الحنون الرخيم، وتطرده منتصرة بالصليب، قد علا وجهها الأحمر وصمتت حياءً وخجلاً، فدنا من فمها فمٌّ وتعانقا. أتلك قبلة بشرية أم قبلة روح طوتها الأيام فبعثها الغرام. . .؟ لويس أسود

في رياض الشعر

في رياض الشعر فؤادي أقصر فؤادي فما الذكرى بنافعة ... ولا بمرجعة بعض الذي كانا سلا الفؤاد الذي شاطرته زمناً ... حمل الصبابة فأخفق وحدك الآنا ما كان ضرك إذ عقلت شمس ضحى ... لو أذكرت ضحايا العشق أحيانا من يعص في الحب نصح الناصحين يذق ... في الوصل ناراً وفي الهجران نيرانا إسماعيل صبري ما كان تنأى فتدنيك آمال مكذبة ... لم تبق ذكراً ولا هيأت سلوانا قد كان ما كان من قلبي ومن نظري ... يا ليت ما كان قبل اليوم ما كانا ولي الدين يكن الحب المكتوم نشرنا في جنائن الغرب من العدد الماضي تعريب أبيان بالعنوان المتقدم للشاعر الفرنسوي فليكس أرفر وقد نظم الترجمة شعراً صاحب الإمضاء قال: بنفسي سر للغرام مكتم ... وحادث حب في فؤادي مبهم تولد في قلبي على حين غرة ... وتلك التي أوحت به ليس تعلم سأقطع عمري لا وصال ولا لقا ... ولا أمل يدني إليها فانعم فواهاً على صب يمر بقربها ... وقد جهلت أن الذي مر مغرم تسير ولا تدري بسر غرامه ... ولو علمت كانت ترق وترحم إذا قرأت شعري تقول من التي ... تتيمه والقلب فيها متيم أحمد نسيم

المراسلات السامية وكتب الأمير شكيب أرسلان إلى سامي باشا البارودي جواباً على قصيدته العينية المنشورة في العدد الماضي: أترى يحل هواك بين الأضلع ... ويحل لي بسواك ذرف الأدمع وأبي أشرك فيك في دين هوى ... وأكون للتوحيد أول مدعي وتظل تشرد بي لغيرك صبوة ... هي من سجوفك في المحل الأمنع وأهيم في روض الحسان موزعاً ... قلباً وهي بالحمل غير موزع قلب عليك تختمت أبوابه ... ما نحوه لسواك طرقة مطمع إني طويت عن النسيم شغافه ... إن جاءني من غير تلك الأربع وحجبت عن كل العواطف حجبه ... إلا الحنين لبدر ذاك المطلع وأبحت إلا في الغرام هوادةً ... ومنعت إلا أنة المتوجع أضحت تغاير في هواك جوارحي ... حتى ليغضب ناظري من مسمعي وأغار من طرفي لغيرك ناظراً ... لمحاً ولو شيم البروق اللمع ولو استطعت الشمس ذدت لهابها ... عن وجنتيك ولو سعت في رقع ولقد أغار الهاجس من خاطرٍ ... من سر مهجة راهب متورع يمشي إليك ولو بأعمق قلبه ... ويشير بالأفكار لا بالإصبع درعت حسنك بالكمال وفتية ... من حول خدرك حاسرين ودرّع في كلةٍ تذر الضراغم عندها ... من ذلة أمثال عفر الأجرع ما للمطامع في الوصال ودونه ... خفر الشريعة والرماح الشرّع نفسي الفدا لمقنع هجرت له ... أجفانهن شفار كل مقنع تتهافت الأوهام عن حجراته ... ويرد خاطره المتيم إذ يعي

ذاك الحمى إلا على من أمه ... مني بممتنع الوجيب مشيع أكنهت بالإقدام سر ضميره ... وحللت بالأقدام قلب المصنع هي زورة تحت الظلام وردتها ... فرداً بلا عضدٍ. . . بلى قلبي معي فنظرت من ذاك الهلال لنير ... وعلقت من ذاك الغزال بأتلع وأسغت في نهل الشفاه وعابا ... ما ليس يعذب بعده من مكرع بتنا كأنا خطرة في خاطر ... أو وهلة حلت فؤاد مروع نبهت بالأغزال هاجع حبها ... وحماتها من غافلين وهجع وسقيتها كأس الهوى دهقاً ولم ... يحل الهوى إلا بكأس مترع متمليين من العناق كأننا ... قوس خلا لزيادة من منزع أروي غريب حديث أحوال الجوى ... والراح ليس يطيب غير مشعشع وصلٌ أعاد الشمل أي موصل ... لكن أعاد القلب أي مقطع عاطيتها صرف الهوى وعفافنا ... طول التلازم لم يشب من موضع كانت مضاجعنا تنث كمالنا ... لو كان يوجد منطق للمضجع والليل يكتم ما ينم بسره ... أرج النسيم سرى بمسك أضوع وترى المجرة في السماء كأنها ... در تناثر من سماء مضرع حتى إذا شق الدحنة شوقها ... لقا ذكاء وشاب فود الأسفع ورأيت أسراب النجوم تتابعت ... بفرارها مصع النعام الأمزع ما كان أحوجنا بذاك لآية ... تأتي لنا في عكس آية يوشع زحزحت عنها ساعدي وتركتها ... دون الكرى من تحت عبء مضلع وطلعت أعثر بالسيوف ولو درى ... أهل السيوف مقامتي لم أفزع أيفول مهجتي الكماة وما لهم ... فخر سواي إذا اغتدوا في مجمع وترى تخون الخيل فارسها وهل ... يردى الحسين على يد المتشيع

أو من لهم مثلي إذا عبس الوغى - وتضاحكت أنياب ثغر المصرع وتشاجرت سمر القنا وتجاذبت ... بذوائب والسيف شبه الأصلع ولقد بذذت السابقين فمن لهم ... بوقوف سير بالمكارم موضع وبلغت من سامي الفخار وجاءني ... التقريظ من محمود سامي الأرفع خنذيذ هذا الدهر واحد أهله ... مقدام حلبته الغر الأبتع القائل الفصح التي عن مثلها ... يثنى المقفع في بنان مقفع لو جاء في العصر القديم لما روى ... إلا قصائده لسان الأصمعي قد قاد مملكة الكلام وحازها ... أخذ الأعزة للذليل الأضرع أن يعصه قول فلم يك لفتة ... حتى يذلل مستقيم الأخدع سهل البيان عصيه للمحتذي ... فلأنت منه بين عاصٍ طيع خلقت له عليا اللغات فلو هفا ... نحو الركاكة جاء كالمتصنع تهجو المعاني حوّماً حتى إذا ... سامين فكرته هبطن بموقع مازال يبدع قائلاً حتى يرى ... بدعاً على الأيام إن لم يبدع إن أجدبت أرض الخلائق بالثنا ... فخلاله للحمد أمجد مرتع أو حار قومٌ في الشعاب فإنه ... رب المضي على المضيء المهيع أضحى يطارحني القريض وهل ترى ... من إصبع يوماً يقاس بأذرع أملى إلي قصيدة فأذابني ... خجلاً وهيبةً خاشع متصدع يا ابن الغطارفة الألى لم ينتموا ... إلا بأزهر في الندي سيمذع يا غرو أن يرتج علي بحضرة ... إن قابلت شمس الضحى لم تسطع فلو أن سحبان الفصاحة قائم ... في بابها ما قال غير متعتع فهناك ما بهر الخواطر هيبةً ... وزرى بعارضة الخطيب المصقع كل العقائل في حماك وصائف ... والمنشآت من الجواري الخضع

رسائل غرام

فأسلم رعاك الله سابغ نعمةٍ ... وأعاد عيشك للزمان الأمرع وأعذر إذا قصرت عن حق فلو ... أمليت أسود مقلتي لم أقنع رسائل غرام بين نساء شهيرات ورجال عظام الرسالة الأولى من مسز هملتون إلى الأميرال نلسن كانت مسز هملتون أجمل نساء عصرها حتى قال فيها أحد شعراء قومها: ليشفق الله عليك فما أشقاك في جمالك الساحر. وقد جرى لها مع الأميرال نلسن الشهير أمور معروفة في التاريخ انتهت بانفصالهما وبعثت إليه بالرسالة الآتية على أثر ذلك. قالت: لا يشفع في كتابتي إليك إلا ذكرى أيامنا الماضية وأحلام الصبى التي كنا نتعلل بها. وقد انطوت اليوم صفحة تلك الآمال وانقضى ما بيننا من عهود كانت أشبه بحلم أعقبته يقظة هائلة. كيفما التفت أرى العالم أشبه بفراغ لا تستطيع الكائنات جميعها أن تملأ زاوية من زواياه. ذلك لأن قلبي الذي كان طافحاً بأحلام السعادة قد أصبح اليوم خالياً ولعل قلبك أيضاً مثله فلا حب ولا آمال ول عهود ولا وعود.

هل تذكر أيامنا السالفة والعهود التي كانت تربط قلبينا معاً رباطاً كنا نهزأ إذا قيل لنا أن الأيام ستفت فيه؟ أمل تقل لي يومئذ أنك تحب الحياة لأنني في الحياة، وتخشى الخلود لأنه قصير المدى في أعين المحبين؟ فأين ما كنا نتعلل به من أحلام الشباب؟ * * * . . . . أنا جالسة إلى نافذتي اكتب إلي هذه الأسطر ولا اعلم أين أنت. أنت بعيد عني ولعل بين وبينك شقة شاسعة من الماء والفضاء. أرى الشمس وقد أوشك قرصها أن يختفي وراء الأفق وهي تنثر التبر من أشعتها الذهبية. كنت أود لو أنها لم تكن مشرقة على هذا العالم لأن ذلك أدعى إلى مؤاساة الحزين ولأن في ابتسامتها شماتة بالقلب المنكسر. وما أوقعها عظمة في النفس وهي واقفة تلقي على الكون حية الوداع. * * * لست ألومك لما جرى. . . ولكنني آسف لزهرة غرسناها فلما آن قطوفها لفحتها ريح محرقة. فإذا كانت الآلهة تستطيع أن تعاقب البشر فهذا منتهى الشدة في العقاب. ألم أحب الآلهة لنني أحببتك؟ ألم أتمثلك دائماً الكل في الكل؟ ألم أقل لك أنني أخشى أن ينتهي الخلود قبل أن يشبع القلب من حبك؟. * * * لزمت الفراش مدة فلم أترك غرفتي قط. لا أزال أشعر بضعف وشقاء. في لجو غيمة، وفي قلبي غيوم. ليتني أنسى الماضي وأعود إلى

ابتسامتي السالفة. أتذكر يوم كنت تقول لي إن ابتسامتي مسروقة من ثغور الملائكة؟ فأين أنت اليوم لتنظر ما قد حل بتلك الابتسامة؟ حقاً ما أظلم الآلهة: إنها تمنح الربيع للطبيعة، والأريج للأزهار، والحب للقلب، ولكنها تمنع الابتسامة عن ثغور الحزانى فما أشقى القلب الحزين - الحزين بسبب الحب! * * * فكرت فيك اليوم ملياً لسبب لا أدريه. ذكرتك فتمثلت نفسي كمن يستيقظ من حلم هائل. أصحيح أن ما بيننا قد انتهى؟ أصحيح أن صفحة الماضي قد انطوت؟ إذن لماذا لا تنطوي معها هذه الحياة؟ لماذا لا تخمد نبضات هذا القلب وتهدأ دقات هذا الفؤاد؟ أإلى هذا الحد يبلغ بالمرء الشقاء؟ * * * إن الزمان هو الطبيب الأكبر يا. . . . هو سيشفيك من مرض الحب الذي ألم بك ردحاً من الأيام، وربما لا تزال آثاره في زوايا قلبك الذي كان قبلاً مسكناً لي. سوف يأتي يوم لا تذكر فيه من هذه التي تخاطبك الآن سوى شبح يتضاءل كلما مرت به الأيام إلى أن تسدل عليه حجاباً، وتقذف به في هاوية الماضي. وما أعرب تلك الهاوية اللاقرار لها - أبدية تفغر فاهاً لتبتلع كل تذكاراتنا العذبة، وأحلامنا الماضية - رحماك أيتها الأبدية بتلكم الآمال! * * *

رشيد بك نخلة

قلبي مفعم غماً وآلاماً مبرحة. ونفسي تميل اليوم كثيراً إلى الدير. ولكنني كلما ثبت إلى نفسي رأيت الدير أشبه بمقبرة تزج فيها الفتاة نفسها وتقضي على البقية الباقية لها من الآمال في هذه الحياة. يقولون إن الدير أول محطة على الطريق إلى السماء. ولكن فاتهم أنه أيضاً مقبرة للأحياء تدفن فيها المرأة ما أبقى من حشاشتها الغرام. . . رشيد بك نخلة السماء التي أظلت صاحب هذا الرسم أظلت غير واحد من أهل البيان. هي ألهمت هؤلاء وهي أوحت إليه. وكما متعت رشيداً بجمالها

وتصبت قلبه بآياتها. أنزلت تلك الآيات على قلوب كثيرين، وابتذلت أمامهم جمالها الفتان. تلك السماء الصافية الأديم جوّادة تعطي، وكريمة لا تمنع، فالشاعر القدير من استفاد من عطائها، وأثرى بهباتها، واستنزل إلهامها، واستجلى بديعها، واقتبس من سحرها، واسترق من أسرارها. وعلى قدر هذه المواهب تكون مسؤولية الشاعر أمام نفسه، وأمام السماء التي أوحت إليه. لهذا أرى أن يسأل الأديب اللبناني عن كثير، ويطالب بمقدار وافر: * * * أمامي هذا الرسم ولي بصاحبه صلة مودة قديمة. إن رشيد بك نخلة معروف في لبنان لا يجهله مواطنوه. قد لا يعرفه بعضهم سياسياً حاذقاً ولكن جميعهم يعرفونه شاعراً مجيداً، وكاتباً بارعاً حلو الحديث أديب اللسان!. ولد في الباروك إحدى قرى لبنان وحيداً لأبوين كريمين فنشأ كريم الأصل شريف التربية. لم يعرف المدرسة قط قبل أن كان يافعاً فلما أقام فيها بعض السنة ملّها وملته. ليس في فطرته ميل إلى التقيد ولا في خلقه غير حب الانفلات والحرية. كان في حداثته يقول الشعر العامي اللبناني ومنه تدرّج بفضل السليقة إلى الشعر الفصيح. أما قواعد العربية فاقتبسها من مطالعاته لدواوين الشعراء وكتب الأدباء فبات ينطبق عليه قول بعضهم.

أنت

ولست بنحوي يلوك لسنانه ... ولكن سليقيٌّ يقول فيعرب * * * في مكتبة الزهور شيء يسير من شعر هذا الشاعر المطبوع وإنما هو قليل من كثير لأن رشيداً محب للشعر جواد القريحة غير أنه قليل الاكتراث لبنات أفكاره وعدوٌّ للشهرة والظهور. يقول الشعر ليلذ نفسه ويطرب فؤاده فإذا ما اكتفى لذة وطرباً رمى بأوراقه في أدراج مكتبته فليس تنفتح عليها تلك الأدراج ولو ثقبناها بمسمار. ولقد تسنى لنا أن نفوز ببعض تلك اللآلئ المكنوزة فرأينا أن ننشرها تباعاً تاركين للقراء أن يقدروا قيمتها الغالية ويعرفوا مكانتها من الأدب. قلت أولاً إن الشاعر الذي أوحت إليه سماء لبنان، وألهمته الطبيعة الباهرة الجمال في تلك الربوع والأصقاع، مطالب بكثير، ومسؤول عن أدبٍ وفرٍ وبيان ساحر يكونان بمقدار ما استنزل مما حواليه من الوحي والإلهام. إذن فإن رشيداً سيكون ولا ريب حبيباً إلى قراء الزهور ولعله لا تشغله وظيفته السامية في حكومة جبل لبنان عن إتحافنا على التمادي بزهراته الطيبة؟ أمين أنت ملك أنت يا مادحة السرير ومنهنهة الصغير، ومعنى حيوة هذا الوجود أنت. أنت آنست وحشة الجد الأول حيث كان، وحبك كان حماطة قلب

صاحب الحكمة، وجمالك هو نشيد الأناشيد، وكلما في هذه الحياة من القوة هو أنت. أنت الضلع المسلوخ عن القلب، وأم البشرة الناعمة، وذات الجسم البض، والكتلة المكهربة التي كوّنتها يد المبدع العظيم، وكلما في الطبيعة من جاذبية وجمال هو أنت. أنت وكلما يقع تحت معنى اللطف ورقة الشعور هو أنت. أنت يا نقية القلب يا سلسلة المقادة يريدون أن يجعلوا منك غير ما هيأت الطبيعة. يريدون أن يمتهنوا امتيازات نوعك التي اختصته بها الفطرة. يدّعون أنهم يريدون لك الكمال وهم بذلك غنما ينتقصون قدرك ويستخفون بميزتك. يحاولون أن يزيلوا عنك مزايا الأنوثة المحبوبة ويخلّقوك بأخلاق الرجال وأنت لو فطنت لعلمت أنهم بذلك إنما يحاولون تبغيضك إلى القلوب عدا أنهم يعالجون من ذلك أمراً أدّاً. يقولون إنهم يريدون أن يجلسوك في صدور المجالس وعلى كراسي النيابة ويدججوك بالسلاح وينزلوك إلى ساحات القتال وأنت لو علمت ما خلقت لهذا. يزعمون أن الأجيال الماضية ظلمتك، وإن عصر النور هذا سيرفع عنك تلك الظلامة بما سيعدون لجسمك الأبض من المقاعد الخشبية في تلك المجالس ويدفعونه لبنانك المنمنم من رهيف الحد. يريدون أن يفتلوا ساعديك ويضخموا منكبيك ويميتوا من ذلك

أفكار وآراء

القلب الملكي عاطفة الحنو والإشفاق ويبتذلوا مجلى جمالك وبهائك للعيون وبالجملة يريدون أن يجعلوك رجلاً وامرأة معاً. هذا ما يريدون وذلك ما يعالجون ويدّعون نصرتك ويهزون لواءك. أما أنا يا ذات المعصم وربة السوار، فلا أريدك إلا كما خلقت مادحة السرير منهنهة الصغير مؤنسة الوحشة مملكة القلوب ناعمة البشرة أنيقة الجسم منمنمة البنان رقيقة الشعور. رشيد نخلة (وسننشر في العدد القادم شيئاً من شعره) أفكار وآراء * عمل الطفل الصغير لا يفقد قيمته في جانب عمل جبار الأعمال، وعمل الفرد لا ينقص من قوته إنه جزء من عمل البشرية كلها. * إتمام الواجب هو دليل الحياة، ومعنى الحياة وكمال الحياة، فمن لا يقوم بواجبه فلا حياة فيه، وقد يعيق سائر الكائنات عن عملها العظيم. * الإنسان سيد المخلوقات، وأدقها صنعاً، وأكملها تركيباً، عليه من الواجب نحو نوعه ونحو سائر المخلوقات أكثر مما عليها جميعها، وهو يشتد إعراقاً في الإنسانية بقدر ما يشتد على القيام بالواجب. * إن الراحة أو ما يدعونه في اصطلاح الفلاسفة سعادة إنما هو القيام بالواجب على أنواعه.

* بقدر ما يتعمق الإنسان في العمل ويتبحر في الفلسفة يزيد احتراماً لفضيلة واضعي الأديان، وتساهلاً في قبول الحكمة التي أتوها. * قبل كل محبة أيها الإنسان حب ذاتك لأن من لا يحب نفسه لا يستطيع أن يحب الآخرين. * من لم يجد بداً من إتلاف كيان المعتدي عليه صوناً لكيانه هو، فقد اختار أهون الشرين. * إن الانتحار الذي يزيد عدد الملتجئين إليه كل عام في الشعوب الراقية لهو دليل على انحطاط أولئك الملتجئين إلى الموت فراراً من الحياة وهرباً من القيام بالواجب نحو نفوسهم. * آدابك الفكرية تظهر على لسانك لأنه قرطاس تصوراتك، فجرّب أن تفتكر حسناً وتفعل حسناً، فلا تستطيع أن تقول إلا حسناً أيضاً لأنه من فضلة القلب يتكلم اللسان. * يعتقد البعض أن لكل إنسان ملاكاً حارساً، وأنا أقول لك إن لكل إنسان شيطاناً أيضاً، وواجباتك الأدبية هي أن تقاوم هجمات هذا الشيطان حينما يريد التغلب على عقلك وضميرك، ولذة الانتصار في هذا العراك هي إضعاف المرارة التي تعانيها في مغالبة عواطفك وأهوائك. متى عرفت أيها الإنسان كيف تتسلط على أهوائك، فقد عرفت كيف تضبط كل أعمالك، ومتى فهمت أنك تعيش لتفيد فقد عرفت كيف تستفيد لتعيش، فالطمع إذا كان مقروناً بغاية حسنة فهو خلة محمودة رغماً عما يقول في مذمته المكابرون.

* من يعرف كيف يكسب الدينار عن طريق الاستقامة، لا يخشى من بذله في الطريق الحسنة. * قد أجمع السواد الأعظم من الناس على جعل ما لا تصل إليه أفهامهم من مظاهر القوة صفة للخالق فإذا لم تقدر أن تعتقد ما يعتقدون، فاختر لنفسك معتقداً يعلمك الخير ويرتاح إليه ضميرك ويحيا به. * خير للمرء أن ينظر إلى ما وراء المحسوس بعين الرجاء وآمال السعادة من أن يغمض عينيه ويستسلم إلى الحكم الظلمة. * سيرة الإنسان في بيته تظهر أخلاقه الحقيقية أكثر مما يظهرها أي مظهر آخر. * كما تكون العائلة تكون الأمة، والأمة المنحطة إنما هي مجموع تغلب فيه العائل المنحطة، كما ان الأمة النشيطة التي ينبغ أفرادها إنما هي مجموع تغلب فيه العائلة المرتقية. * البيت يؤثر في الأفراد أكثر مما تؤثر فيهم المدرسة والكنيسة والجامعة، لذلك أطلق الناس على الرجل الفاضل اسم ابن البيت مضموناً به كل الألقاب والأوصاف الحميدة. * بيتك هو المقدس الذي تطهر به نفسه، بل هو الكنيسة والكنيس والجامع والخلوة، وهو المكان الذي تلتهب فيه عليقة المحبة والتهذيب، وإذا لم يكن عليك أن تخلع نعلك من رجليك كما جعلت العزة على موسى، فعليك إن تخلع عنك كل وصمة عار أو فكر شرير يطرأ على ذهنك. هذا هو البيت بكل معناه، فواجباتك الأولى أن تحترمه كمقدس لك.

أحسن مقالة وأحسن قصيدة؟

* حسن سلوكك في بيتك سعادة لك ولشريكة حياتك، ومدرسة لبنيك وبناتك، فإن كنت لا تستطيع هذا، فجرب أن تكون بلا بيت لئلا تنزل عن عرش رجوليتك وتقلل من هيبتك واعتبارك وتدوس الإنسانية وواجباتك نحوها. * الأخلاق الحسان تلقى إليك كالوزنات التي أشار إليها يسوع الجليلي على شرط العمل بها وإنمائها، فإن لم يكن لك ضمير حي يطالبك بها، فلابد من أن تطالب بها من أولادك يوم يرون ذواتهم تعساء في حياتهم، ذلك إذا لم تستوف الطبيعة نفسها حقها منك. سامي الراسي أحسن مقالة وأحسن قصيدة؟ سألنا القراء رأيهم في أحسن مقالة وأحسن قصيدة نشرت في السنة الأولى للزهور. فجاءتنا الأجوبة مختلفة مما يدل على الاختلاف في الأذواق. مقالة رجوع الحبيب لجبران خليل جبران وقصيدة شوقي بك في رثاء تولستوي أحرزتا أكثرية الأصوات. وجاءت بعدها قصيدة فرعون وقومه لإسماعيل باشا صبري وقصيدة نفس مكرمة ونف تزدرى لولي الدين بك يكن. ونالت قصيدتا صبري باشا أيضاً بكاء صديق ودمعة أصواتاً غير قليلة. ومثلها قصيدة شوقي بك إلى الحبيب. ومقالة الرقيق الأبيض ومن القفص إلى العش أحرزتا خصوصاً استحسان القارئات.

أزهار وأشواك

أما محبو الأبحاث الأدبية فقد أعجبوا بوجهٍ خاص بتاريخ الآداب لعيسى معلوف وبالنهضة في العراق لساتسنا. ومن المقالات التي نالت أصواتاً غير يسيرة العمال والحكومات والقطران الشقيقان لداود بركات وما كان في معناها من قلم تحرير المجلة في مفتتح العدد الأول وفي العدد الكبير مصر وسورية. وقد جاءتنا كتابات أيضاً تعرب عن استحسان خطة درس الكتب كالريحانيات والنظرات ومجموعة الشميل والمقابلة بين شوقي والبوصيري وحافظ إبراهيم والفرزدق. وطلب أصحابها أن نكثر من هذه الدروس الانتقادية فنجيبهم: أعطونا كتباً وخذوا دروساً. وأثنى الكثيرون على الأشواك والأزهار التي يجمعها حاصد وكتب إلينا أحد الظرفاء يقول: باقةٌ جميلة جمع فيها الورد والبنفسج والزنبق والياسمين: مجموع أزهار عطرية لا أعرف أيها أفضّل فلذلك جمعتها كلها وحرصت عليها في خزانتي. هذا مجمل ما جاءنا من الأجوبة على سؤالنا نورده مع الشكر لكل الذين لبوا الطلب. أزهار وأشواك القبلة والقانون ذكرت في العدد الماضي كلمة عن القبلة والصحة، وتحظير المجلس الصحي في ولاية إنديانا للتقبيل. وقد كتب إلي فريق من القراء نظماً

ونثراً يشاركون شبان تلك الولاية في احتجاجهم على هذا المنع الثقيل. ولم يأتني شيء بهذا المعنى من القارئات. مع أن رأيهن في الموضوع ذو شأن خطير. وقد قرأت خبر حادثة جرت في أمريكا - وأية غريبة لا تحدث في العالم الجديد؟ - مفادها أن قد طرح على القضاء حل هذا المشكل هل يجوز للزوج أن يقبل زوجته ساعة هي لا ترغب في ذلك. . .؟ جاوبت المحكمة سلباً، وحكمت على مستر جورج شوت بغرامة مئة دولار مع الأمر بعدم تقبيل زوجته قبل. . . الحصول على رضاها. ونحن نود لو صرحت لنا المحكمة برأيها في ما إذا كان الرجل مضطراً إلى تقبيل زوجته ساعة هي ترغب في ذلك وهو لا يرغب. . .؟ غريبة ثانية عن المحاكم الأمريكية: تضايقت امرأة من قبلات زوجها الكثيرة فرفعت أمرها إلى القاضي. فرتب للرجل عشر قبلات فقط في النهار تاركاً له الخيار في تقرير مواعيدها، فجعلها خمساً صباحاً وخمساً بعد الظهر. . . أف للقبلة ما أثقلها إذا كان شبح القانون واقفاً بين الشفاه والخدود. وقبحاً لها ما أمرّها إذا كانت تؤخذ بكمية ومواعيد مقررة كحبوب بنك ومستحلب سكوت. . . بريد وبريد مصلحة البريد وجدت لتخدم مصالح الجمهور. أنت تدفع الغرش أو الخمسة والعشرين سنتيماً على رسالة تكتبها لتصل تلك الرسالة إلى من كتبت إليه. ويتقاضى منك صاحب الجريدة أو المجلة علاوةً عن قيمة

الاشتراك تلقاء نفقات البريد، حتى تصل الجريدة أو المجلة إليك، لا إلى أحد عمال البوستة ليطالعها ويعيدها إليك متأخرة - هذا إذا خطر على باله أن يردّها. هذه أمور معروفة، فيثقل عليك وعلي ترديدها، ولكنها كثيرة ما تهمل فيضايقك ويضايقني إهمالها ولربما ألحق بنا ضرراً. وكيل إدارة الزهور مضطر إلى إرسال الأعداد إلى بعض الأنحاء مؤمناً عليها لئلا يختطفها عمال البريد في تلك الولاية. وكثيراً ما لا يجديه التأمين نفعاً ضد هذه الأيدي الطويلة. سبق لي تسديد شوكة من أشواكي إلى هؤلاء القوم غير المحترمين. فتكسرت على جلدهم وهو أسمك من بعض الجلود. . . وإذا عدت اليوم إلى هذا الموضوع فلأقدم زهرةً من أعطر أزهاري لعمال البريد الأمريكي. جاءني ظرف وعليه طابع من الولايات المتحدة ففضضته ووجدت فيه ظرفاً آخر مختوماً بالشمع مطبوعاً بطابع باريس، وضمنه رسالة من أحد أصدقائي هناك. فتعجبت للأمر، لكني قرأت على زاوية الظرف ما ترجمته وجد هذا المكتوب غلطاً ضمن رزمة جرائد فليرجع إلى صاحبه، فما أعظم الفرق بين بريد وبريد. . .! حول إمام العبد قلت في عددٍ مضى كلمة عن المرحوم إمام العبد وكان مدير هذه المجلة الجديد قد كتب نبذة في البرق عن ترجمة ذلك الشاعر فأرسل عز الدين أفندي صالح أحد أصدقاء إمام بهذه المناسبة بعض ملاحظات

خصوصية اقتطف منها بعض ما يأتي: كنت قد أشرت في ما كتبت إلى الأبيات الحماسية التي نظمها الشاعر الأسود محتذياً حذو ابن لونه شاعر بني عبس وذكرت كيف أن القطة القافزة من النافذة قد أطارت لبه شعاعاً وهو يفتخر بالأسنة والسيوف وإليك هذه الأبيات: ولما التقينا والأسنة شرع ... ونادى المنادي لا نجاة من الحتف عطفت على سيف المنية فانجلت ... صفوف وكان الصف ألصق بالصف فرحت وفي وجهي وجوه عبوسة ... وعدت وأشلاء الفوارس من خلفي فلم أر قلباً غير قلبي بجانبي ... ولم أر سيفاً غير سيفي في كفي وقسم سيفي القوم قسمة عادل ... فأرضى الثرى بالنصف والطير بالنصف وأشار كاتب ترجمة إمام في البرق إلى أبيات نظمها الشاعر في شاب توفي مسلولاً، وإليك بعضها: عشق الموت مكرهاً في شابه ... رب موت تحار في أسبابه قبل أن يدفنوه في الرمس ميتاً ... دفنته الأيام في جلبابه فإذا رمت أن تراه بعين ... لا ترى غير أنةٍ في ثيابه كيف تقوى كفاه في موقف ال ... عرض إذا كلفوه حمل كتابه أيها الموت لا عدمتك خلاّ ... طالما أنقذ الفتى من عذابه وأورد صديقي من النكات عن إمام غير ما أوردت قال: شد عنقه يوماً بربطة سوداء فقال أن أحد إخوانه لما رآه هكذا حسب قميصه غير مزرر فطلب منه أن يزرره. وجلس يكتب فسقطت نقطة حبر على القرطاس فقال أن جليسه يومئذ قال له (نشف عرقك).

تمدن المرأة العصرية

وأراد يوماً أن يذهب إلى البيت وليس في جيبه نقود. فركب عربة حتى إذا وصل إلى داره وولجها أطل للسائق من النافذة وقال له يا عربجي. سيدي مش عاوز يركب. . . وقال إمام يتغزل بغادة بيضاء: أنت عبدٌ والهوى أخبرني ... أن وصل العبد في الحب حرام قلت: يا هذي أنا عبد الهوى ... والهوى يحكم ما بين الأنام وإذا ما كنت عبداً أسوداً ... فاعلمي أني فتى حر الكلام وقال متغزلاً بغادة سوداء مثله: وسوداء كالليل البهيم عشقتها ... لأجمع بين الحظ واللون في عيني إذا ضمَّنا ليلٌ تبسم ثغرها ... فلولا سناه بت في جنح ليلين وقال شاكياً: نسبوني إلى العبيد مجازاً ... بعد فضلي واستشهدوا بسوادي ضاع قدري فقمت أندب حظي ... فسوادي عليه ثوب حداد أضفت كل ذلك إلى ما سبق لي ذكره عن صديقي الإمام إعلاناً لفضله وقياماً بواجب الحرفة. حاصد تمدن المرأة العصرية طالت المناقشة في هذا الموضوع وخرج المتناظرون كما قلنا في العدد السابق عن دائرة البحث الأول، فباتوا يتناقشون في ما إذا كان عدد الفضلاء يزيد على الفاضلات أو إذا كان الأمر بالعكس وهذا ما يصعب تقريره. وجاءتنا ردود كثيرة نظماً ونثراً يضطرنا ضيق المقام إلى الاكتفاء بتلخيصها أو الإشارة إليها. منها مقالة

طويلة معتدلة اللهجة بإمضاء منصف حاول صاحبها أن يوفق بين الفريقين فقال بعد مقدمة أثنى فيها على الآنستين اللتين فتحتا هذا الباب: . . . قد أجادت الآنسة هدى بوصف الحالة السائر عليها العدد العديد من نسائنا وفتياتنا الجاهلات، وقد أصابت المرمى بانتقادها تلك العادات الذميمة التي ستؤول بنا إذا طال أمدها إلى الهلاك والدمار أدبياً ومادياً. ولكنها بالغت جداً أو أنها غلطت في التقدير فتوهمت أن الحالة أسوأ مما هي وتصورت أن الفاضلات من الشرقيات أقل من القليل، ووافقها على ذلك طيرها المغرد، فأصدرا حكمهما الجائر وأعلنا قضاءهما المبرم. وإني لمخالف لهما ف الرأي ومتفق مع كاتبة بيروت، فأرى أن الفاضلات الحكيمات لم يزلن والحمد لله أكثر كثيراً من الجاهلات الخاملات، مما يبشرنا بحسن المصير ويؤملنا بحميد المنتهى، بشرط أن نثابر على ما نحن مجدون في أثره من الإصلاح. . . . . قُيّض للذكر طبقاً لناموس القوة وشدة البأس أن يكون المتسلط المتبوع، وللأنثى بحكم ضعف الجسم ونحافة البنية أن تكون الخاضعة التابعة. وهو ناموس سارٍ منذ بدء العالم حتى اليوم، وعام بين المخلوقات كافة دون استثناء. . . وعليه لا غرو إذا رأينا المرأة تتوخى أن ترضي الرجل في كل عمل من أعمالها وتحاول أن تنال منه الالتفات والإعجاب. فحق والحالة هذه للآنسة أدما أن تقول إن معظم ما تؤاخذ به المرأة العصرية من التفرنج والتورط في اتباع المودة سببه الرجال لأنهم يميلون إلى هذه المظاهر.

ثم بين الكاتب الأديب ما ألت إليه حال شبان هذا العصر من سوء فهم التمدن، وقال إن إصلاح المرأة الذي ينشده المتناظرون لا يتم إلا بإصلاح الرجال: يجب علينا أن نصلح أنفسنا أولاً ومن ثم نسعى وراء إصلاح نسائنا وبناتنا، ولربما لا نبقى بحاجةٍ إلى هذا وقتئذ إذا أنهن يسبقننا حالاً إلى الإصلاح طبقاً لرغائبنا وسيراً مع أميالنا. وإن لمخالف حسوناً فيما نسب إليهن من الضعف ووهن المبدأ، فإنهن وإن يكن ضعيفات الجسم نحيفات القوام، فهن قويات الشعور شديدات الإحساس، وما كان غيظهن من انتقاد الآنسة هدى وسرورهن من مدافعة أديبة بيروت إلا نتيجة هذين العاملين وهما كما يشهد الجميع رمز الرقي وعلامة التفوق في سمو الأخلاق. وقد نسي أديبنا على ما يظهر ما وصفهن به شيخنا العازار حيث قال: وصفوا المرأة بالضعف وقد ... جهلوا ما قال فيها الكما هي في الأرض إله مثلما ... خالق الأرض إله في السما ثم رد منصف على حكاية حسون مع زوجته مما لم يخرج في المعنى عن رد سلمى وهند في العدد الماضي. أما حسون فقد أرسل إلينا ردين الأول على سلمى والثاني على هند. ونحن لما تقدم من الأسباب نقتصر على نشر الأول منهما خصوصاً لأنه يرجع البحث إلى نقطته الأصلية ويظهر بأحسن بيان الغاية من هذه المناظرة، ويبين بطريقةٍ منطقية واضحة دور المرأة في المجتمع الإنساني ووجوب إصلاحها. ولنا الأم بأن يكون جوابه المقحم خاتمة هذه المناقشة، قال موجهاً الكلام إلى سلمى: أسلم لك جدلاً بأن معظم الفتيان على شاكلة فتاك، وأسمح لنفسي

بأن أقرعه على سلوكه الفظ مع فتاة من مثيلاتك حليتها الأدب والفضل وزينتها اللطف وخفة الدم. . . ولكن تسليمي هذا لا يخرجنا من الدائرة التي رسمناها وهي أن وجود فتيان أشقياء لا يجيز للفتيات أن يكن على مثالهم. ولما كان قصدنا الإصلاح وكنت من المسلمات بوجود النقص الذي ذكرناه في السيدات وجب أن تسلمي حتماً بأننا على حق فيما ذهبنا إليه وبأنه يجب تقويم ما اعوج فيهن بصرف النظر عما في أخلاق الرجال من الاعوجاج. فعيب الرجل يقتصر غالباً على الرجل وحده على حين أن نقص المرأة يتعداها إلى أولادها وهذا هو السبب الذي يحملنا على المناداة بوجوب إصلاحها قبل إصلاحه وإليك البرهان: قوام الهيئة الاجتماعية موقوف على قوام العائلة وقوام العائلة منوط بالتربية البيتية والتربية البيتية من اختصا المرأة دون الرجل: فالرجل عادةً بعيد عن البيت منهك في أشغاله. فهو لا يرى أولاده إلا خلسة ويظهر ذلك جلياً في البلاد الحية التي تتطلب الجهاد اليومي حتى يتمكن الإنسان من حفظ مركزه بين الناس. أما المرأة فواجبها وحالها الطبيعية تقتضي عليها بان تكون في البيت مع أولادها. فهم يشبون على ما تريد ويتخلقون بأخلاقها. فهي إذن مسؤولة عن التربية البيتية أي عن قوام العائلة. نظرة يا سيدتي إلى العائلات يثبت لك صدق ما قدمنا. ولا تجهلين أن أمثلة العامة هي فلسفة الشعوب وأن فلسفة الشعوب هي من أصدق النظريات وأشدها انطباقاً على الواقع ففي كل الدنيا تقول العامة ما معناه: إن البنت

مولود عجيب

هي صورة أمها. فنحن نقول: طب الجرة على فمها تطلع البنت مثل أمها. والفرنجة تقول: كما تكون الأم تكون البنت. ولما كانت التربية البيتية منوطة بالأم دون الرجل كما أسلفنا فحيث تكون الأم الصالحة تكون البنت الصالحة وصلاح البنت فتاة يكفل صلاحها أماً وهذا يكفل صلاح العائلة وصلاح العائلة يكفل صلاح الهيئة الاجتماعية. إذا فصلاح الهيئة الاجتماعية موقوف على صلاح المرأة قبل الرجل. تلك حلقة مقدمات ونتائج محكمة الرباط لا يتسع المكابر إنكارها. فمتى تبين ذلك ظهر سبب تصدينا لهذا البحث وثبت حسن قصدنا وسلامة نيتنا. . . (وليعذرنا أصحاب باقي الردود إذا اضطررنا إلى إهمالها والسلام). مولود عجيب كتب من المنصورة أن امرأة فقيرة قد وضعت مولوداً عجيباً عمره تسعة أشهر رحمية. وله رأس ووجهان وأربع أعين. اثنتان في مركزهما الطبيعي واثنتان في الجبهة، وله أيضاً أنفان وأذنان وفمان وشفتان علويتان وأرنبتان وفكان سلفيان، وما بقي من الجسم فهو طبيعي وقد ولد ميتاً وهو خنثى.

ثمرات المطابع

ثمرات المطابع تذكار الماضي - إذا قال أديب الشعر في أيامنا الحاضرة نشره في الصحف والمجلات على زعم أن الناس لا يطربون إلا لشعره ولا تستهويهم إلا بنات أفكاره. وقد يغالي بعضهم في تهوسه إلى حد أنه يحسب أن شعره من ضروريات الحياة فالجرائد والمجلات في مصر وفي سورية لا تفتأ تحمل في كل عدد من أعدادها شيئاً كثيراً من شعر النشأة الحديثة، والقراء لا يبرحون يتعرفون إلى شعراء من هذه الفئة لم يكونوا يعرفونهم من قبل. كذلك لم نجد أديباً من هؤلاء ولوعاً بالشعر يقوله في أغراض كثيرة ويجيده في مواقف عديدة وهو يكاد يكون مجهولاً من إخوانه الأدباء مثل صاحب ديوان تذكار الماضي. إذا قرأت هذا الديوان لم تذكر أنك قرأت شيئاً منه في الصحف والمجلات ولا عرفت صاحبه إيليا أفندي ظاهر أبا ماضي لولا أبيات نشرتها له جريدة العلم منذ عهد غير بعيد، فإذا جربت أن تتعرف إلى هذا الأديب بأدبه وشعره عرفت أنه سمح القريحة يحاول أن يأتي في أكثر أبياته بالمعاني الجديدة فينظمها في قالب يغلب فيه اندماج اللفظ ومتانة التركيب.

ذلك كله جيد ولكن الأجود أيضاً أنما هو تلك السهولة التي يجدها الناظم في نظمه على اختلاف الأوزان الشعرية والمواضيع المتنوعة! في الديوان قصائد تقع في نحو ثمانين صفة تحامى فيها شاعرها المدائح وأشباهها منصرفاً إلى أغراض ثانية هي أجمل وقعاً في النفوس، أكثر دلالة على الشاعرية. وفي الديوان أيضاً كلمة وجيزة أهدى بها الناظم مجموعة أقواله إلى الأمة المصرية وقد خاطبها بقوله عن ديوانه هذا وهو بحمد الله لا يجمع بين دفتيه سوى ما يرضي الحق ويرضيك ويرضي هذا الفن الجميل على أن كلمته هذه تغتفر له في جانب ما في الصفحات التي تتلوها من القصائد والمواضيع المختارة. والديوان في جملته يبشر صاحبه بمستقبل مجيد في عالم الأدب ولاسيما إذا هو اعتنى باختيار ألفاظه الشعرية وتنقيتها، وتجنب التعابير التي هي أقرب إلى العامي منها إلى الفصيح. أما الشاعرية في حد ذاتها فهو مطبوع عليها. الواجبات - تقول الآية الذهبية: افعلوا بالناس ما تريدون أن يفعل الناس بكم. وتقول الحكمة السائدة: إذا عرفت الواجب عليك كنت إنساناً حقيقياً. وتقول كارمن سيلفا ملكة رومانيا الحالية في كتابها خواطر ملكة: لا سعادة إلا في الواجب فمعرفة الواجب هي أصعب ما يلاقيه الإنسان في جميع أدوار حياته. وفي

اعتبارنا أن الواجب لا يتسنى تحديده ووصفه فهو يتكيف بحسب الأحوال التي تقتضيه. غير أن من الواجبات ما أصبح عاماً معروفاً كواجبات الإنسان نحو نفسه، وواجباته نحو الهيئة الاجتماعية في نظر إجمالي وهو ما تحدّى ذكره ووصفه حضرة الفاضل سامي أفندي يواكيم الراسي أحد أدباء الجالية السورية في البرازيل في كتابه الواجبات - العامة والإفرادية. أهدى إلينا حضرته هذا الكتاب فطلعنا معظمه فإذا هو نتيجة تفكر وتعمق في ما يحيط بكل إنسان من الأحوال. وخلاصة نظرات دقيقة تدل على ذكاء الكاتب واستدلاله بصغائر الأمور على كبائرها شأن المفكرين الباحثين الذين يقفون في بحثهم وتفكيرهم عند الأشياء التي يتجاوز عنها الكثيرون منا، ويعنون بدرس المسائل التي لا يخطر لمعظمنا أن يعنى بها هنيهة ما. تلك هي فلسفة الأشياء الصغيرة تبنى عليها الحقائق والنتائج. فالواجبات - وإن كانا لا نوافق مؤلفه في كل أفكاره فيه - كتاب مفيد يحسن بأن يكون في مكاتب الأدباء إلى جانب الكتب العربية العصرية القليلة العدد في مثل هذا المواضيع المفيدة. أما لغته فسهلة سلسلة كأنما لم يحفل الكاتب إلا بالتعبير عن أفكاره بوضوح وجلاء غير مهتم لزخرفة العبارة وتزويق التركيب حتى لقد يعثر قلمه أحياناً ببعض الهنات فيهمله ويظل سائراً في طريقه. وكما يرى القارئ في غير هذا المكان فإننا اقتبسنا من الواجبات بعض الأفكار من الصفحات الأولى

منه دلالة على ما فيه من الفائدة. ولعلنا نفعل مثل ذلك في عدد آتٍ. نشكر المؤلف على هديته ونلفت الأنظار إلى كتابه. رواية البائسين - هي الرواية الاجتماعية الشهيرة التي وضعها فيكتور هوغو شاعر فرنسا الأكبر في نهضة آدابها الحديثة. وبطلها جان فالجان الذي حكم عليه بالنفي لأنه سرق كسرة خبزٍ ليسد بها رمق أولاد شقيقته يوم كانوا يتضورون جوعاً. كتبها مؤلفها سنة 1862 وهو حينذاك في الستين من عمره. فنالت شهرة بعيدة وترجمت إلى معظم اللغات لأن كاتبها الكبير جمع فيها جل آرائه وأفكاره في الهيأة الاجتماعية. ويضيق بنا المجال اليوم لتحليل هذه المبادئ وإيفائها حقها من الدرس والبحث. جاءنا الجزء الأول من هذه الرواية منقولاً إلى العربية بقلم الكاتبين جرجي وصموئيل يني صاحبي مجلة المباحث الطرابلسية. وقد حاول المعربان أن يطابقا الترجمة عل الأصل قدر الإمكان ليحفظا أسلوب المؤلف وخطته الكتابية. . . وقد سبق لحافظ إبراهيم منذ بضع سنوات أن عرب أيضاً جزءاً من هذه الرواية فكان لظهوره ضجة في عالم الأدب العربي. ولا ندري لماذا أحجم شاعرنا عن متابعة عمله. هذا ونحن لا نزال نقول إن نقل آداب الإفرنج إلى لغتنا لمما يكسب العربية ثروة طائلة من المعاني بشرط أن يوفق أدباؤنا إلى تعريب الصالح منها وإيفائه حقه.

رواية الشهر

رواية الشهر زعيم اللصوص 1 على مسافة فرسخين من قرية ألبي إحدى قرى كالابريا فوق رابية صغيرة كنت ترى بيتاً قديم البنيان في وسط بقعة خضراء، وهو يشرف من الغرب على القرية المذكورة، ومن الشرق على غابات كثيفة وكان يسكنه قرويان - جاكوبو وامرأته حنة - عُرفا عند العامة بتقواهما وبرّهما. على أنه كان في القرية أناس يزعمون أن في الزوايا خبايا ويؤكدون أنهم كثيراً ما نظروا رجالاً من ذوي الشبهات مدججين بالسلاح يطوفون ليلاً حو هذا البيت المنفرد ويدخلون إليه من باب سري ثم ينسلون منه باكراً ويتوارون في الغابات. ومما كان يؤيد هذه الإشاعات أن جاكوبو كان يرصد بابه عند غروب الشمس فلا يقبل زيارة أحدٍ من أهالي القرية. فكان ذلك مدعاة لزيادة الريب والظنون. وفي الواقع لو أتيح لهؤلاء دخول هذا المنزل في إحدى ليالي شباط لأصبح ظنهم يقيناً وزعمهم رواية صدق. فإنك كنت ترى في إحدى القاعات بضعة عشر رجلاً شاكي السلاح بأزياء مختلفة جالسين ول طاولة عليها قطيع من اللحم المشوي وبالقرب منهم برميل يستقون منه خمراً فيأكلون ويشربون بشراهة. وكان جالساً على أحد طرفي الطاولة رجل يناهز الثلاثين من عمره تنم ثيابه وهيأته على انه زعيم هذه الجماعة. وكان بالقرب منه فتاة لا تتجاوز العشرين ربيعاً بديعة الجمال، رشيقة القد مدمجة المفاصل، قلما ينظر لها شبيه بين القرويين. وكانت علامات الحزن باديةً على محياها وهي تنظر إلى رفيقها ببعض الحنو. أما الباقون فكانت قد لعبت برؤوسهم حميا الخمرة فأخذوا ينشدون ما طاب لهم ويقهقهون بأعلى أصواتهم حتى اشتد اللغط. وكثرت الضوضاء. فصرخ بهم زعيمهم:

- وحق إبليس إن هذه الجلبة كادت تفضحنا، ألا تصمتون! وكان للمتكلم على ايظهر عظيم نفوذ في رجاله، إذ سادت السكينة للحال، فتابع كلامه قائلاً: - لا أعلم ماذا يحملني على التشاؤم هذه الليلة. . . وعلى كل فها أنا أقوم حارساً في الغرفة المطلة على الغابة، وابقوا أنتم هنا، كلوا واشربوا، ولكن اعلموا أني سأغمد خنجري في صدر من يأتي بضجة. قال، وأشار إلى الفتاة أن اتبعيني، وأخذ بندقيته وخرج وجلس مع رفيقته قرب نافذة الغرفة الثانية. 2 - لم البكاء يا إميلي. .؟ - آه يا أنجلو! إن منظر هؤلاء الرجال يخيفني - لا تخافي يا عزيزتي، أنت قلبي، وما عهدي بقلبي يعرف الخوف. هؤلاء الرجال الذين يبارزون الموت لو رأوا رسم شخصه يرتجفون أمامي. وقد مازج خوفهم مني حبهم لي. فهم دون شك يعتبرونك ويجلونك ولا يسعهم إلا الائتمار بأمري. أما الفتاة فاتكأت إلى ذراعه بحنو واسترسلت في ذرف الدموع، فقال: - آه يا أميلي، لا شك أن الندم يستولي على قلبك الآن لأنك عرضت نفسك فتبعتني، ألا بربك ارجعي إلى ذويك، فلا أريد أن أنالك قسراً، لا أريد أن أعرضك إلى المخاطر والمهالك إلى المنفى والموت، فاعلمي يا عزيزتي أن كل خطوة من خطواتي تقودني إلى الهاوية، أما أنت فأمامك طريقان: طريق سهلة أمينة وهي الطريق التي تركتها، وطريق صعبة خطرة، في كل خطوة منها إثم وفي كل مرحلة جريمة وفي آخرها المشنقة، فاختاري لنفسك: - إني اختار الطريق التي تسير فيها أنت. - اسمعي إذن، لأنه يجب الآن أن تعرفي من أنا وما هي غايتي. . . كان أبي من عائلة شريفة النسب عريقة الحسب وكان من حزب البوربون فسقط

بسقوطهم. وكان شيخ القرية الجديد يخاف صلاح أبي ونفوذه فأصبح له عدواً لدوداً لأن الفضيلة لا تجعل صاحبها بمأمن من العدوان بل كثيراً ما يجعله هدفاً لاضطهاد الأشرار. وكان للشيخ المذكور ولد سكر من نشوة الكبرياء ولعبت في رأسه ثورة الأهواء وكان ينظر غلي بعين الحسد والضغينة لأني كنت أفوقه في الرماية وشدة الساعد. فكان يقابل تحياتي بكلام الهزء والسخرية ويعيرني حزبي كلقب عار وذل. . . آه إن خنجري كان يرقص حينذاك في غمده ونفسي تحدثني بأن أذيق هذا المتعجرف ثمرة عنفوانه، لكن التروي كان يسكن ثائري خشية ما سيجر ذلك على عائلتي من الولايات. . . كنت عند عودتي من شغلي مساء أرى أهلي في حالة الجزع التام: أمي وأختي تذرفان الدموع، وأبي يتمشى باضطراب ويرمي بنظرات اليأس إلى بندقيته القديمة المعلقة على الحائط. . . وعند هذه الذكرى انتصب انجلو واقفاً وقدحت عيناه شرراً، فمالت إليه الفتاة قائلة: - لا تنقطع عن الكلام يا أنجلو فإن عندما تتكلم أشعر بأنك تبث في شيئاً من روحك. . فكبح جماح غضبه المتصاعد وعاد إلى حديثه: - وكانت والدتي تعرف ما أنا عليه من الحمية فباتت تتوقع من يوم إلى آخر وقوع الصاعقة. . . كانت هي وأختي فيلومين تغزلان وأنا أبيع الغزل في آخر الأسبوع. . . آه ما كان أشد حبي لأختي. . ألا تتذكرينها يا إميلي. . . فإنها من عمرك وجميلة مثلك. . . قال هذا وسالت من عينيه دمعتان. . . وكان القمر في الخارج قد احتجب وراء غيمة سوداء وتراءت الأشجار كالأشباح. هذا وكان سائر الرفاق لا يزالون في القاعة يأكلون ويشربون. . فاستأنف أنجلو الكلام قائلاً: - فعادت أختي يوماً إلى البيت وهي تبكي بكاءً مراً وذلك بسبب أرنست اللعين ابن شيخ القرية الذي أسمعها كلمات تمس بشرفها. مرت بضعة أيام وإذا بي ذات صباح أمام ذلك الوغد اللئيم قرب منزلنا وهو يترصد خروج أختي ليكاشفها

بحبه. فوثبت عليه وألقيته على الحضيض وأوسعته ضرباً، وكدت أقضي عليه لو لم يخلصه بعض القرويين. ولما عدت إلى البيت وجدت عائلتي باضطراب عظيم فتقدم إلي أبي بكل وقار وأعطاني البندقية والخنجر وقال: يريدون أن تكون لصاً فاذهب إلى الوعر. . . فودعت أهلي وذهبت. ولما لم يتمكن أعداؤنا من إلقاء القبض علي حولوا كيدهم إلى ذوي. فاتهم أبي بمؤامرة سياسية مع حزب البوربون وهو بريء منها فزج في السجن. وكان أرنست السافل لا يزال يعلل النفس ببلوغ مأربه. ولما لم يكن الوعد ولا الوعيد يثنيان أختي فتحيد عن طريق الشرف عمد هذا الشيطان إلى حيلة جهنمية. وكان يعرف تماماً أن بعد فراري وسجن أبي لم يبق في البيت من يحمي حماه. فأتى مع أحد رفقائه في ذات ليلة ونادى أمي أن لها مكتوباً من وحيدها. وكانت والدتي قلقة البال لانقطاع أخباري عنها منذ أسبوعين، فأسرعت إلى فتح الباب وهي لا تعرف من المنادي. ففاجأها هذا الشرير بضربة كادت تفقدها الحياة ووضع على فمها الشبام أما أختي فوقعت مشغياً عليها من شدة الرعب. فنقلت إلى فراشها. . . وهكذا دخل العار إلى بيتنا. . . وعند الصباح كانت فيلومين قد فقدت الرشد لأنها لم تتحمل ما أصابها من المنكر. . . . قال أنجلو هذه الكلمات الأخيرة وقد جحظت عيناه وهو يلهث ويرتجف غيظاً. - يا لله ما أكبر مصابك يا أنجلو. . .؟ - فبلغ أبي في السجن خبر ابنته، فأبت نفسه الأبية احتمال العار. فمات وهو يلعن السماء والأرض أما أمي فبعد هدر دم ابنها وفضح ابنتها وموت زوجها كافراً قضت نحبها في أتعس حالة. أما أنا. . . أما أنا يا إميلي فلم أعد أفتكر بموت والدي ولا بما أصاب شقيقتي بل صرفت كل أفكاري إلى الأخذ بالثأر حلفت أغلظ الإيمان بان أنتقم من على مصائبنا شر انتقام. ولم تلبث الظروف أن بلغتني مرامي، إذ أعلمني أحد اللصوص - وكنت قد أصبحت منذ يومين زعيم إحدى جماعاتهم - أن شيخ القرية وابنه سيمران عند المساء قرب الغابة عائدين من المدينة. فذهبت ولم استصحب أحداً من رجالي لأذوق وحدي لذة الانتقام. فكمنت هناك ولما مر

الشيخ وجهت إليه رصاصة كانت القاضية عليه، أما أرنست فأصابت رصاصتي الثانية رجله فسقط عن جواده ولم أكن أقصد قتله كأبيه. فقدته إلى مغارة هناك وأوقدت ناراً وأخذت أذيقه من العذابات ألواناً وهو يبكي ويتضرع وأنا اضحك ضحكاً مخيفاً. . . آه أن الليلة التي قضاها معي تساوي تلك الليلة التي قضاها مع شقيقتي المسكينة. خرجت فيلومين من يديه وقد فقدت رشدها وشرفها، وخرج هو من يدي وقد أصبح جثة كالفحم وذهبت روحه الخبيثة إلى الأبالس. . . آه ما أشد ما كان فرحي في تلك الليلة. . . . قال وضحك ضحكاً أشبه بهرير الكواسر، فارتعدت فرائص إميلي وعادت إلى الوراء. ثم نكس أنجلو راسه وبكى. . . فاقتربت إميلي وأخذت يده وجلست بقربه وبقيا هكذا مدة. . . ولما رفع رأسه قال: - آه يا إميلي لست قاسياً بهذا المقدار، ولكني. . . فلم يتمم عبارته بل أخذ بندقيته بكل سرعة وحدق بنظره نحو الغابة كأنه يريد خرق الظلام بعينيه. فانتفضت إميلي قائلة: ماذا اعتراك؟ - فأجاب: رجال الدرك. . . ألا تنظرين هذه الخيالات؟. . . ثم أسرع إلى الغرفة، وصاح بجماعته: خيانة! وقعنا في الشرك! وكأن وقوع الخطر بدد عنهم سكرتهم فابتدروا السلاح واجتمعوا حول عريفهم سائلين: ما العمل؟ فأجاب أكبرهم سناً وكان قد نظر من النافذة إلى الجنود: يحاول رجال الشرطة أن يطوقوا هذا المنزل. فهيا بنا إلى الغابة ومتى راموا الدخول نهجم هجمة واحدة. هذا رأيي. فأجاب الجميع: وهذا رأينا. فقال انجلوا: وإميلي؟ ماذا نصنع بإميلي. فقال أحدهم تبقى هنا؟ - فأجاب أنجلو وأنا أيضاً أبقى - ولكنهم يقتلونك - يقتلوني ولكني لا أتخلى عنها - كم أهلكت النساء رجالاً. . . وكان جاكوبو وامراته صاحبا المنزل أثناء ذلك في بكاء ونحيب، يندبان سوء طالعهما. فتقدم أكبر اللصوص سناً وقال: لو كان الفداء لما تأخرنا. ولكن

يا زعيمنا إذا بقيت هنا فإنك تجلب الموت عليك وعلى من تريد خلاصها فاسمع لي: نشد وثاق الثلاثة - صاحبي المنزل وإميلي - ويدّعي جاكوبو أنها ابنة أخته أتت تزوره في هذه الأيام وأننا دخلنا هذا المساء إىل منزله عنوة وقيدناهم بعد الوعيد والإهانة. فتنطلي الحيلة على رجال البوليس، أما نحن فإننا نؤمل النجاة بنار بارودنا ومضاء خناجنرنا. فلم ير أنجلو بداً من لإذعان بعد موافقة الجميع على هذا الراي وقبول إميلي به، لاسيما وقد نادى اللصوص به: عليك يا زعيمنا الاعتماد. . .! فنزل الجميع بعد أن شدو وثاق الثلاثة المذكورين. فقالت حنة إذ ذاك لزوجها. أجل سندعي أن الفتاة ابنة أختك وهكذا ننجو ولكن الحكيم من قدم الحذر فإذا ألقي القبض على أنجلو ألا تبوح إميلي بكل شيء فإنها تحبه وتجود بكل شيء في سبيله فتكون العاقبة علينا وخيمة. فإذن - وأشارت إشارة معنوية إلى خنجره - تدعي إنهم دخلوا بالرغم عنا وأنهم قتلوا نسيبتنا. . . سمع أنجلو صوت استغاثة فصاح آه صوت إميلي؟ ما حل بإميلي. . . فأجاب أحد رفقائه: لا شيء. ولا سبيل للإحجام. . . وهجم اللصوص هجمة واحدة، وكان أنجلو بينهم كالأسد الكاسر ينشطهم بالقول والفعل ومسدسه لا يسكت وخنجره لا يغمد إلا فص الصدور. فاجتمع حوله معظم قوات العدو وتمكن رفاقه من النجاة. أما هو فظل يقاتل بكل بسالة ولكن ما تجدي البسالة والعدو يتكاثر حوله ويضيق عليه النطاق حتى قبضوا عليه وشدو وثاقه. 3 هجم الليل، السكوت سائد والظلام باسط سدوله على الطبيعة. في قاعة سفلى رجل جريح ملقى على الحضيض: هو أنجلو وقد ألقي في هذا السجن بعد أن كل بالقيود. عيناه تقدحان شرراً والدم يسيل من جروحه. على الباب خفيران يتحدثان عن الواقعة الأخيرة. - لله ما أشد ساعد أنجلو وما أشد بأسه. . .

آثار العباسيين في بغداد

- نعم ولكن قتله لتلك الفتاة المسيكة - كما أفاد جاكوبو وامرأته - لمما يسمه بسمة الدناءة والعار. - إن في الأمر لسراً. فقد أمر الحاكم بتوقيف هذين الشخصين، فإن في أعمالهما وأقوالهما ما يفتح مجالاً للشكوك. خصوصاً أن ليس من يعرف لهما هذه النسيبة التي وجدت مقتولة في منزلهما، فإن جاكوبو. . . انقطعا عن الكلام لأن الحاكم بعينه كان قد دخل يتبعه أربعة من الرجال حاملين جثة فتاة، فقال الحاكم لأحد أتباعه: دعوا الجثة قرب السجين، وابق أنت هنا لاحظ كل حركاته فإن كلمة واحدة تكفي لإرشادنا إلى الحقيقة. قال هذا وانصرف، فأدخلوا الجثة ووضعوها قرب أنجلو دون أن يكلموه. ولم ينتبه هو لهم لأنه كان كالمغمى عليه من شدة الألم. وبعد قليل أفاق من غيبوبته فرأى على نور السراج الضئيل شيئاً بالقرب منه. فجر قيوده بكل عجز حتى وصل إليه. . . فلمس شيئاً بارداً. . . جثة إنسان. . . فرفع النقاب الذي كان يستر الوجه، فانتفض جسمه ثم بقي مدة صامتاً جامداً. . . وصرخ: إميلي. . .! عند الصباح دخل الحاكم إلى السجن وسأل الرجل عما كان من أمر السجين فأشار الرجل ونظر الحاكم. . . جثة على جثة. آثار العباسيين في بغداد تشتغل لجنة ألمانية مؤلفة من 150 شخصاً في بلدة سامراء من أعمال ولاية بغداد للتنقيب عن الآثار القديمة، بدأت بحفر الجامع الكبير المشهور بجامع الملوية فظهر أثر المحراب والأسطوانات والشاذروان. وكل هذه الأبنية بالجص، وهي من بنايات خلفاء بني العباس وقد مضى عليها نحو ألف سنة وهي ثابتة الأساس متقنة الصنع والهندسة، وبعد أن أخذ رسمها بالتصوير الشمس شرع العملة يحفرون من جهة نهر دجلة الحمامات والآبار وهي بمنية بالطين لا بالآجر ومبيضة بجص منقوش نقشاً هندسياً لطيفاً لا مثيل له في هذه الأيام.

العدد 16

العدد 16 - بتاريخ: 1 - 7 - 1911

تتويج ملك الإنكليز

تتويج ملك الإنكليز جرت حفلة تتويج جورج الخامس ملكاً على إنكلترا وإمبراطوراً على الهند في دير وستنمنستر حيث يُمسح ملوك بريطانيا العظمى كما كان ملوك فرنسا - في عهد الملكية فيها - يُمسحون في ريمس. والإنكليزي معروفون بشدة تمسكهم بتقاليدهم القديمة لاسيما في حفلاتهم الرسمية وما يتعلق بحكومتهم وحكامهم. فيوم التتويج يوم مشهود عندهم يبتدئ عند الصباح إذ يقبل الملك والملكة على الدير المذكور ويدخلان الكنيسة باحتفال عظيم ويجلس الملك على الكرسي الملكي القائم على منصة منصوبة في صحن الكنيسة. ويبتدئ التتويج بالاعتراف أي بتقديم خضوع الأعيان وبإعلان الشعب رضاه بالملك واستعداده لطاعته وخدمته. ثم يسأل رئيس أساقفة كانتربري الملك هل هو عاقد النية على أن يجري العدل والرحمة وأن يحكم طبق دستور البلاد وشرائعها فينهض الملك ويقسم على الكتاب المقدس أنه لفاعل. ثم يسير إلى عرش إدوارد الأول المنصوب بين المذبح والمنصة

ووراءه اللوردات حاملين السيوف. فيقف حوله أربعة من الأشراف وقد امسكوا ببساط مذهب فوق رأسه. ويكون على المذبح إلى جانب الحلى الملكية التي أحضرها اللوردات كوز ذهبي بشكل نسر باسط جناحيه وهو مملوء زيتاً. فيتقدم رئيس الأساقفة ويمسح بالزيت رأس الملك وجبهته وصدره ويديه، ويلبسه الحلة الملكية، ثم يأخذ السر تشريفاتي المهمازين ويركع أمام الملك ويمس بهما عقبيه. وبعد ذلك يجيء حامل سيف المملكة ويقدمه إلى السر تشريفاتي الذي يدفعه إلى رئيس الأساقفة وهذا يصلي عليه ثم يمنطق الملك بالسيف ويقول رئيس الأساقفة: بهذا السيف أجر عداً واقطع دابر الظلم، واحم كنيسة الله وساعد اليتامى والأرامل ورد الأشياء البالية وحافظ على الأشياء المردودة وأصلح كل خطأ وثبت كل صلاح. . . . فينهض الملك وينزع السيف ويضعه مسلولاً على المذبح ثم يعود إلى عرش إدوارد الأول حيث يقدم له رئيس الأساقفة الكرة الملكية، ويضع في بنصره خاتم الملك ويقدم له القفاز فيلبسه ويدفع له الصولجان قائلاً: اقبل الصولجان الملكي علامةً للقوة الملكية والعدل ويقدم له صولجاناً آخر عليه تمثال حمامة ويقول: تقلد عصا العدل والسلام ثم يأخذ رئيس الأساقفة التاج ويقول: اللهم يا تاج الأمناء، بارك وقدس عبدك هذا جورج مليكنا، وكما أنك كللت رأسه اليوم بتاج من الذهب النقي فاملأ قلبه بنعمة من عندك وكلل هامته بجميع الفضائل السامية. وبعد الصلاة يضع التاج على رأس الملك بكل احترام فينادي

الشعب بصوت واحد اللهم احفظ الملك ثم يضع الأشراف تيجانهم. الصغيرة على رؤوسهم وتضرب الطبول وتنفخ الأبواق فتطلق المدافع من برج لندرا.

ثم تقدم التوراة للملك وعند ذلك يحمله رؤساء الأساقفة والأساقفة ويضعونه على عرشه ويخضعون له ثم يقوم رئيس الأساقفة ويقبله في خده. ثم ينزع البرنس أوف وايلس تاجه عن رأسه ويركع عند قدمي الملك ويركع سائر الأمراء في اماكنهم بعد أن ينزعوا تيجانهم أيضاً ويلفظون يمين الطاعة فيقول البرنس أوف وايلس صورة العد وهم يرددونها بعده جملة فجملة. ويتم مسح الملكة وتتويجها على نسق ما تقدم. هذا ما جرى في حفلة تتويج الملك جورج الخامس في 22 من الشهر الفائت، وقد طالع القراء في الصحف اليومية ما جرى من الحفلات الشائقة في بلاد الإنكليز ومستعمراتهم الواسعة احتفالاً بتتويج مليكهم. وفي الشهر الذي يلي التتويج يعين الملك كبير بنيه برنساً لواليس أو ولياً للعهد وهو البرنس إدوارد الذي بلغ السابعة عشرة من عمره. أما الملك جورج فهو خامس ملوك إنكلترا بهذا الاسم رقي العرش البريطاني في 6 مايو من السنة الماضية، وكان مولده في 3 يونيو سنة 1865 وهو ابن الملك إدوارد السابع والملكة ألكسندرة كبرى بنات كريستيان السابع ملك الدانمارك. وهو منذ نعومة أظفاره كثير الميل إلى البحرية وقد انخرط في سلكها وتدرج في رتبها حتى بلغ رتبة أميرال. ولما توفي أخوه الأكبر البرس ده كلارنس أصبح هو ولي العهد سنة 1891. وفي 6 يوليو سنة 1893 تزوج بالأميرة فكتوريا ماري كبرى أولاد الدوق أوف تك وهو يكبرها بسنتين. وقد أطلقوا عليها منذ صغرها اسم

ماي وهي مشهورة بصلاحها وحبها للخير. وقد زارت مع زوجها أيام كان ولياً للعهد المستعمرات الإنكليزية. ثم قاما بزيارتهما الكبرى للهند سنة 1906 فدرسا أخلاق الشعوب العديدة الخاضعة لدولة الإنكليز.

في جنائن الغرب

ولهما خمسة أولاد أكبرهم في السابعة عشرة من عمره وأصغرهم في السادسة. هذا ما يسمح المقام بذكره عن ملك الإنكليز الجديد وزوجته. وهو يحكم مئات الملاين من البشر في البلاد المترامية الأطراف. فيمكنه أن يردد قول فيليب الرابع ملك إسبانيا لا تغيب الشمس عن ممالكي ويكاد يقول ما قاله الرشيد: يا سحابة السماء أمطري حيث شئت فإن خراج الأرض التي تمطرين عليها يعود إلي. . . فعسى أن يكون عهد ملكه عهد وئام وسلام فتنتشر روح السلم وتسود فكرة العدل والإنصاف. في جنائن الغرب وصف الشلال وطلوع الشمس قال رسكن يصف شلالاً: قف بي إلى هذا الشلال نراقب قوس الماس المنحدر من علٍ كالسيف الصقيل لا ثلمة فيه ولا وصمة، يتفوق تلك الصخور كقبة من البلور الصافي. وهو سريع السقوط مستمرة فلا تكاد تحسبه متحركاً لولا زبدٌ يلوح لك فيه كالشهب المتناثرة، أو كالجوهر على شفرة الحسام. وتأمل مسقطه من صدر النهر حيث ترى كأن صخراً ناصع البياض طيرته الريح شظايا فانتشر في الجو شعاعاً. بل تأمل زرقة المياه المشوبة ببياض الزبد وسنائه تقل هو الجو الصافي ملأته الشمس ضياءً وبهاء. وإليك كلمة لرسكن أيضاً في الجداول والمجاري الصغيرة: ولله أودية سويسرا بمجاريها الصغيرة وكأني بها قد اختارت منحدرات الجبال مصدراً ومنبعاً، حباً منها

للطفر والقفز من أعالي الصخور إلى أسافلها، تاركةً ماءها على رحمة الهواء يقذف به ذات اليمين وذات اليسار، وينثره بلوراً صافياً تكسبه أنوار الشمس لون النضار. وإذا انتهت إلى المروج الخضراء ضللت ذاتها، ورخمت نغماتها، بين أعشابها ونباتها، وظلت في ظلالها، خيالات لها، إلى أن تنفذ منها مترقرقة متدفقة، كأنها تذكر غايتها إذ تبصر بواديها، فتهب مسرعة إليها. وطلوع الشمس في بعض البلدان أجمل منه في غيرها، وأجمل ما يكون في الأماكن القريبة من خط الاستواء. وقد وصفه أحد الكتاب كما يلي: تأتي الساعة الخامسة من الصباح ولا يزال الظلام مخيماً بسدوله. وعندئذ تفيق بعض العصافير وتبدأ تحرك سكون الليل بتغاريدها وأناشيدها كأنها تبشر بقدوم مليكة النهار قبلما يبدو موكبها الوهاج في أفق الشروق. وما هو إلا القليل حتى تتكاثر الأصوات من كل فج وصوب، وأغلبها من حناجر الأطيار المبكرة، فتأخذ حجب الظلام بالارتفاع شيئاً فشيئاً. ولا يأزف النصف الثاني من الساعة الخامسة حتى يلوح الفجر، وتذر شوارقه، ويتدفق النور فيضاً إلى أن يفعم الأرض والفضاء. وهنالك تبرز الشمس بحلتها الذهبية، وترسل بأشعتها العسجدية إلى مواطن الحياة من الطبيعة تبشرها بعودة الحياة، فتزقزق العصافير، وتتثنى الأزهار، وتخرج النحلة من قفيرها، وتبتهج الفراشة في مطيرها، فتلك ساعة تنتظرها البراعم وأكمام الأزهار وأوراق الأشجار لتكسب فيها زهواً ونشاطاً ورونقاً وجمالاً. ثم أن تلك النسمات العليلة البليلة، تستمد من النور ما تبل به وتنقه من علتها فتمر بك بما يبرئك أنت لو كنت عليلاً. مناظر تخلب الألباب وتفتن الأبصار، يرسمها للصور، ويصفها الشاعر، آيات من الجمال بينات. (من كتاب مسرات الحياة الذي عربه الأديب وديع أفندي البستاني وباشرت طبعه مطبعة المعارف).

نظرة إشراف عام

نظرة إشراف عام على ديار نجد وكان أول أهل نجد ورؤسائهم: آل علي ثم انتقلت إلى طلاق فبندر فمحمد الرشيد فعبد العزيز ثم إلى ابنه متعب ثم إلى خال متعب سلطان ثم إلى سعود أخي سلطان ثم إلى سعود بن عبد العزيز خي متعب. ولهؤلاء في ذلك قصة تاريخية عجيبة طويلة لا يسع المقام ذكرها. ولما دالت إمارة آل السعود وافق آخرها نمو إمارة محمد الرشيد فانتقلت أكثر الكتب إلى حائل. وأنت تعلم أن لا صناعة ولا تجارة لأهل حائل إلا الغزو لا غير. ومع ذلك فتراهم قد سبقوا غيرهم في العلوم العصرية وذلك لاختلاف كبرائهم إلى الأستانة ومصر والحجاز أيام السلطان عبد الحميد المخلوع فأصبح البعض منهم يعرف اللسان التركي والفارسي. وترى في بلادهم اليوم الكتب العربية القديمة النادرة الثمينة التي لا ترى لها وجوداً في سائر البلاد العربية وأغلبها غير مطبوع. وتؤانس جماعة منهم تطالع الصحف السيارة والمجلات الموقوتة. وأهل هذه الديار متنورون أكثر من غيرهم من أهل تلك الأقطار في العلوم العصرية وأوسع اطلاعاً في الأمور السياسية. ولهم ميل شديد إلى الحكومة العثمانية، وهذا الميل أشد ظهوراً فيهم ممن سواهم. لكن الحكومة لا تزال في ريب من أمر العرب وإحجام عنهم. وعلى ما أرى: إنها تود أن تكون في

غنى عن نصرتهم. ولعلها تخاف من أنهم إذا تمدنوا قلبوا لها ظهر المجن وعادوا إلى مجدهم السابق. وهذا كله من التخيلات السياسية ومن الأوهام التي لم تدر في خلد العرب. ولما أتيت بغداد ورأيت الحالة الحاضرة أبديت ما أوجبته علي الوطنية العثمانية والعربية للطرفين المتقابلين المتصلين بجامعة الدين وشرحت ذلك بسلسلة مقالات بسطتها في جريدتي الرياض وبينت للعرب ما ينجم من الفوائد الجمة إذا انضموا إلى أبناء آل عثمان وصاروا يداً واحدة على الأعداء. ولقد أثر كلامي هذا في أبناء وطني تأثيراً عظيماً كان ذا نتيجة تذكر لكن ذهب هذا كله أدراج الرياح لما رأوا أن الدولة العثمانية لا تعيرهم أذناً مصغية ولا أحلاماً واعية. فلعل الزمان يحسن النيات في أبناء عثمان فيجني هؤلاء في بضع سنين ما لم يجنوه بحذرهم مدة سنوات متطاولة. هذا فضلاً عما شرحت للحكومة مما يجب أن تتخذه من الاحتياطات اللازمة لمنع دخول الأسلحة إلى بلاد العرب. وذكرت لها الوسائط الحسنى للبلوغ إلى تمدن صادق وأرسلته إلى أحد مبعوثي العراق. وبعد أن قرئ في المجلس حول إلى النظارة. ولا أدري بعد هذا ما جرى بع. ولعله ضاع أو احترق مع جملة الأوراق التي ذهبت في إحدى حرائق الأستانة في هذه الأيام الأخيرة. أما ميلهم إلى العلوم الأدبية كالشعر والنحو وعلوم الآلة والسياسة والاجتماع فمما تظهر منافعه عن قريب إذا ما تحسنت الأحوال وتوفرت وسائط النقل والانتقال بعد أمد غير بعيد بمنه تعالى وكرمه.

3 - القصيم - البحث في علوم وآداب أهالي القصيم يتناول البلدتين المذكورتين اللتين تتقوم منهما فأهل هذه البلاد ليسوا كأهل الديار الأخرى. فلقد دخلوا بتجارتهم البلاد الكثرة من الأصقاع المتمدنة كالهند ومصر والشام ولندن ومدن أمريكا. وتجد بعضهم قد توطن تلك الربوع كما احتل بلاد العراق كبيرها وصغيرها. ولقد تقدموا في التجارة أحسن من غيرهم بكثيرة. وكذلك قل في العلوم على مختلف أنواعها وتشعب أفنانها. كل ذلك في البلاد المختلفة المذكورة كما في ديار قطرهم الواسع. فإنك لا تسير إلى بلدٍ إلا وتجد فيه منهم نفراً يتعاطى الأمور التجارية غير مغفل العلوم المعروفة في تلك البلدة. ولهذا إذا تيسر لك فدخلت بلادهم ترى فيهم هذا يكلمك بالتركية، وذاك يطارحك الكلام بالفارسية، وتسمع واحداً يذاكرك بالهندية، ويقبل إليك آخر بالإيطالية، ويقترب منك صديق محب يخاطبك بالفرنسوية إلى غير هذه اللغات من أردوية وتامولية وإنكليزية. أما التاريخ فهم يعتنون به أشد الاعتناء. وكذلك يزاولون علوم الاجتماع والسياسة مزاولة تفوق معالجة سواهم لها. وهنا نختصر القول زائدين على ما تقدم ذكره عن الإمارتين الأوليين بخصوص العلوم والمعارف انه لا يوجد في تلك الربوع مدارس أو مكاتب على ما نشاهده في البلاد الأخرى المتمدنة من ابتدائية ورشدية وكلية وجامعة. أما مدارسهم فهي مدارس خاصة بهم تشمل جميع المطالب وتجمع في ردهاتها كل طالب على السواء. فالتلميذ يأخذ أي كتاب كان أو أي كتاب أراد قراءته ثم يحضر

المدرسة ويقرأه على المعلم الموجود فيها بدون أن ينتظم في سلك حلقة لتلقي العلم معاً من الأستاذ في وقت محدود كما هو الأمر الجاري في المكاتب العصرية المنتظمة. وبيوت أكثرهم ليست إلا مدارس وأندية علم، إذ ترى فيهم من ينضم إلى رفيق ثانٍ له او إلى ثالث أو أكثر حسبما يتفقون عليه فيجتمعون في بيت واحد منهم. أو أنهم يجتمعون في كل يوم في بيت غير البيت الأول بل في بيت الرفيق على التوالي فيتدارسون في الكتب التي وقعت بأيديهم وهكذا يفعلون حتى النهاية على ما كان جارياً في سالف الزمن في أنديتهم ومجالسهم ومجتمعاتهم. 6 - أخلاق أهلها - أخلاقهم وهي أخلاق العرب الأقدمين العزيزي النفس المتوقدي الذهن الأذكياء الأباة أخلاق لم تغيرها الحوادث والزمان فهم اليوم أهل كرم وشجاعة ووفاء وسماحة وحماسة وسيرتهم توافق قوانينهم وتنطبق عليها أتم الانطباق ولا تحيد عن الكتاب والسنة فهم يجلونها أعظم الإجلال ولا يتعبرون سواهما. نعم يوجد بين القبائل من يجري على قوانين وسنن وشرائع راجعة إليهم وخاصة بهم يقومون لها ويقعدون لكن إذا جاؤوا المدن رجعوا إلى الشرع الشريف في أمورهم وشؤونهم الاجتماعية. هذا فضلاً عن أن لهذه السنن من المزايا والمحاسن ما تفيد كل الإفادة تلك الأقوام في هاتيك الربوع ولولا ضيق المقام لأتينا على ذكر بعض منها إظهاراً لمنافعها ولما أودعتها من الحكمة البعيدة المرمى والمبنى والمعنى.

7 - تجارتهم - التجارة التي يتعاطاها أهل تلك الأرجاء هي الخيل والإبل وكلاهما من أحسن ما وجد من جنسيهما في الدنيا كلها جمعاء. ولعلنا نعقد يوماً فصلاً نذكر فيه ما يجب الوقوف عليه ف هذا البحث. والتمر وأنواعه كثيرة وأسماؤه في تلك الأسماء القديمة لم تتغير وهذا يفيدنا في تصحيح بعض الألفاظ الواردة في هذا المعنى. والسمن واسمه عندهم الدهن كما يسميه العراقيون. والصوف والوبر، ويذهبون بكل صنف من هذه الأصناف إلى حيث يكون رواجه. فيذهب بالخيل مثلاً إلى بلاد الهند. وأغلب أصائل هذه الأنجاء من نجد. وينقلون الإبل إلى مصر والشام. ويحملون التمر إلى الحجاز. ويبيعون الدهن أو السمن في البصرة والكويت والحجاز حسب الوقت الذي يوافق نقله أو يصادف تصريفه وإنفاقه في موطن دون الموطن الآخر الذي رخص فيه. وهذا هو سر أسفارهم المترامية وتغربهم عن أقطارهم العزيزة. ولهم في ذلك من الصبر والجلد ما لا تراه في أقوام آخرين. فإنك ترى الواحد منهم يقيم نائياً على مسقط رأسه ثلاثين حولاً مثلاً ولا يتأفف من حالته البتة. وهم أهل سعي وكد وجد لا تعيقهم الأخطار الشديدة ولا الأهوال الهائلة عن الوصول إلى ما به منفعتهم. أفبعد هذا تتعجب من كون كثيرين منهم وصلوا إلى لندن وأمريكا والديار النائية. فلقد يقضي واحدهم الأيام الطوال والأعوام الكثار بدون أن يلتفت إلى وطنه. 8 - زراعتهم - اغلب زراعتهم متوقفة على الحنطة والشعير والذرة (الأذرة أو الأدرة) والسمسم والدخن ويزرعون كل هذه الحبوب بقدر

حاجتهم إليها. وإذا حبست السماء ماءها عنهم اضطروا إلى جلب ما يحتاجون إليه من البلاد الأخرى كالكويت والبصرة والسماوة وغيرها. ولقد كانت الزراعة تتقدم عندهم تقدماً عظيماً لولا أمران أحدهما جور الحكام، والثاني قلة المياه. ولقد حاولوا مراراً استنباط المياه بالآلات المختلفة أو حفر الآبار الارتوازية فلم يتيسر لهم ذلك لصعوبة الطرق ووعورتها بحيث لا تستطيع العجلات السير فيها. وأما إذا قلت: فهناك جمال تضطلع بحملها. قلنا: تضطلع بحمل بعضها لا بكلها لأنه يوجد آلات ثقيلة غاية الثقل لا يحملها البعير الواحد بل ولا البعيران أو الثلاثة ومن ثم أصبح نقلها من البعيد التحقيق. ولولا ذلك لأصبحوا في غنى عن الديار الأخرى في كل أين وآن. بل لزادت حاصلاتهم على نفقتهم ولربحوا من التجارة بما فضل عندهم أموالاً طائلة تأتيهم من البلاد التي ينفقون اليوم فيها أموالهم للحصول على ما يحتاجون إليه. 9 - الصناعة عندهم - ليس لهم من الصنائع إلا ما لغيرهم من مجاوريهم أهل الكويت والبصرى كالنجارة والحدادة والسكافة والخياطة وما ضاهى هذه المهن. ومهارتهم في صناعة الأسلحة غريبة فإنهم وإن كانوا أخلاء من جميع الوسائل الميسرة لهذه الغاية فإنك تراهم يصلحون ما يقع من أنواع الخلل ببنادق ماوزر ومرتيني. واغرب من هذا أنهم يفرغون المدافع إفراغاً محكماً ويحسنون التصرف بالمدافع الجديدة الطراز حتى أنك تخالهم أنهم تلقوا علم المدافع عن أصحابه المهرة. وإذا وقع في هذه الآلات خلل أصلحوه على أقوم وجه. ومع كل هذه البراعة والتفنن لا تشاهد

في أيديهم أدوات تامة العدد كما ترى في البلاد الراقية في المدنية. وعندي انه لو وجد في حوزتهم آلات تساعدهم على تحقيق أمنيتهم لبرزوا في الصناعات على من سواهم ولأتوا بكل عجاب. وأوقفك الآن على اغرب من هذا كله: إنهم يتحررون المباحث العلمية الدقيقة ويتتبعون الاكتشافات الحديثة كالكهرباء والسلك الجوي وبعض الآلات البرقية وما ضاهى هذه الموضوعات الجديدة. وأعهد واحداً في القصيم يضيء محله بالنور الكهربائي الذي هو من صنع يديه وقد ركب الأجزاء التي يتولد منه بإعمال فكرته. وإذا كانوا لا يحققون دائماً ما يعقدون النية عليه فهو لأنهم في شغل شاغل عنه بما يقومون به من أمر المعيشة وتطلبها في الأقطار النائية. 10 - ديانتهم - بقي علينا إيراد أمر الديانة ولاعتقاد عندهم. فقد أسلفت وقلت إنهم يعتمدون على الكتاب (القرآن) والسنة (وهي الصحيح عن رسوم الله - صلى الله عليه وسلم -) ولدي بحث جليل في هذا الموضوع وهو لا يخلو من فائدة لمن يريد تتبع الحقائق على وجهها الصادق الصحيح واستقراء ثوابت الأمور. ولعلي أعود إلى هذا المجال في فرصة أخرى. 11 - هواء البلاد - لا تكاد تلفظ كلمة نجد إلا وتتصور هذه البلاد تحت عينيك ويهب عليك نسيمها ويتلاعب أمامك هواؤها الطيب الجاف لأن معنى نجد ما أشرف من الأرض وارتفع واستوى وصلب وغلظ. . . ولا يكون النجد إلا قفاً أو صلابة من الأرض في ارتفاع مثل

الجبل معترضاً بين يديك يرد طرفك عما وراءه. . . (عن التاج) - والهواء في منتهى الحرارة وقد تبلغ في الظل في بعض المواطن 52 درجة بالميزان المئوي. وعند الصباح يهب نسيم طيب لذيذ في الصيف وإذا تكبدت الشمس السماء انقطع الهواء في شهر تموز وآب وأيلول حتى يكاد الإنسان يموت اختناقاً إلا أنه لجفافه لا يؤثر كثيراً في الصحة. ويضطر من يسكن تلك الديار إلى اتخاذ المآكل الخفيفة الهضم والانقطاع عن المسكرات والامتناع عن الأطعمة المطبوخة باللحوم الثقيلة. 12 - تأثير الهواء في السكان - أعلم أن اغلب الأمراض تتولد هناك من الكبد لشدة الحر. ومن مؤثرات الحر على أهل البلاد أن أغلبهم ضعاف نحاف سمر الألوان طوال القامة إلا أنهم أقوياء يحتملون الجوع والعطش والحر إلى درجة لا تكاد تراها في سواهم. وهم عصبيو البنية ذوو عزم شديد ومضاء بعيد إذا قصدوا شيئاً لا يرجعون عنه ولو كلفهم كرب الموت وإراقة الدماء وهم من بين جميع العرب سريعو تلقن العلوم والمعارف بل هم يتلقفونها تلقفاً لسرعة تناولهم إياها. وكذا قل عن الصنائع والفنون على اختلاف أنواعها وضروبها. 13 - عدد السكان - ليس في بلد من بلاد العرب من يحصي عدد الأنفس. هذا فضلاً عن أن هذا العمل يعد عندهم مشؤوماً. إلا أن العارفين يقدرون أهل نجد بما ينيف على مليون نسمة. 14 - نظرة وداع لبلاد نجد - يتضح لك مما أسلفنا ذكره أن بلاد نجد من أحسن بلاد جزيرة العرب تراباً وهواء. ولهذا قال ياقوت في

معجمه: لم يذكر الشعراء موضعاً أكثر مما ذكروا نجداً وتشوقوا إليها من الأعراب المتضمرة. من ذلك قول أعرابي: حنيناً إلى أرض كأن ترابها ... إذا أمطرت عود ومسك وعنبر بلاد كأن الأقحوان بروضه ... ونور الأقاحي وَشْيُ بُرْدٍ مُحَبَّرُ أحن إلى أرض الحجاز وحاجتي ... خيام بنجد دونها الطرف يقصر وما نظري من نحو نجد بنافع ... أجل لا ولكني إلى ذاك أنظر أقي كل يوم نظرة ثم عبرة ... لعينيك مجرى ماؤها يتحدر متى يستريح القلب أما مجاوزٌ ... بحرب وأما نازح يتذكر وقال أعرابي آخر: فيا حبذا نجد وطيب ترابه ... إذا هضبته بالعشي هواضبه وريح صبا نجد إذا ما تنسمت ... ضحى أو سرت جنح الظلام جنائبه بأجرع ممراع كأن رياحه ... سحاب من الكافور والمسك شائبه وأشهد لا أنساه ما عشت ساعة ... وما انجاب ليل عن نهارٍ يعاقبه ولا زال هذا القلب مسكن لوعة ... بذكراه حتى يترك الماء شاربه (بغداد) ساتسنا الإسباذ والكهونية - كتب إلينا مراسلنا البغدادي يقول: جاء في مقدمة الأستاذ الشرتوني (الزهور ص 62) تحمله (تابوت العهد) الإسباذ والكهونية والصحيح تحمله الأصيار أو الأسيار وهي جمع صِيْر أو سِير وهو أسقف اليهود أو حاخامهم الكبير. والكهونية صحيحها الكوهنية وهو جمع كوهن وهو الكاهن بلسان اليهود وقد ذكر هذه الرواية ابن خلدون فيم واضع كثيرة وهو لا يستعمل لفظة كاهن العربية. وبنو خمسان (ص 63) صحيحها بنو حشمناي.

رسائل غرام

رسائل غرام بين نساء شهيرات ورجال عظام الرسالة الثانية من الأميرة أميليا إلى الجنرال فتزروي أرقت البارحة كثيراً فلم تغمض لي عين ولا استقر بي السرير. حاولت كثيراً أن أطبق أجفاني فكانت رسالتك الأخيرة تزيد في شجوني وتبعد عني النعاس. ولو أنك علمت ما سيكون من تأثيرها في ما خططت منها حرفاً واحداً. ليتك اليوم قريب مني. . . ليتك إلى جانبي فكنت ترى ما أبقاه لي حبك من حشاشة ذائبة وكبدٍ لا تلبث أن يقضي عليها اليأس. فإن كان فؤادك قد دبَّ إليه شيء من الفتور فلماذا تجعلني أعلل نفسي بأحلام

ذهبية ولماذا تخادعني بغرام أشبه بسحابة صيف تلوح قليلاً ثم تنقشع؟ ألم أفتح لك قلبي وأفرغ لك ما فيه من حب وآمال؟ فلماذا تحاول أن تستر عني مكنونات فؤادك وتسدل عليها حجاباً يحول بيني وبينك؟ أراني معذبة من أجلك يا شارل. فإن كان هذا العذاب جزاء حبي لك فانعم به من جزاء. إنني أستعذب كل عذاب من أجلك إلا فراقك. فإن كان قد قضي به علي فما أشقى القلب الرازح تحت ثقل الحب. . . ليس لي اليوم إلا تعزية واحدة هي التمتع بذكر ما فات. فأنا أنفق ساعات الفراغ في مراجعة رسائلك الماضية حتى لقد كاد بعضها يفنى من كثرة تلاوتي لها. ذلك لأن قلبي عطشان. . . عطشان إليك أيها المستريح من عناء الحب. . .! أتمثلك وق حجبت وجهك عني. أتصورك وقد طويت كشحك وسددت أذنيك فلم تعد تسمع نبضات هذا القلب ولا تبصر ما ألم به من النحول. أليس حراماً عليك أن تعتقل برباط الحب فؤاداً خلياً ثم تدير عنه وجهك وتقول عليه السلام؟ سامحك الله يا من لا أزال أذكره وأحبه!. أمامي صورتك التي أهديتها إلي. كلما نظرت إليها ثارت عواطفي في داخلي وفاضت نفسي إليك. عوّدتني أن ألقي بنفسي بين ذراعيك ففي أحضان من ألقي بها بعد اليوم؟ ليت الأبدية تتثاءب وتفتح فاها فكنت أثب إلى أحشائها وأتخلص من حياة كلها تعاسة وشقاء. حقاً ما أتفه الكائنات وأشد فراغها لولا الحب. لولاه لكانت ساعات الأبدية طويلة مملكة. أليس الحب تحية الملائكة لسكان السماء؟

أليست العين تستنير بأشعة الشمس والقلب يستنير بأشعة الحب ومصدر كليهما ابتسامة الآلهة؟ فإن كان يحتم على الإنسان عبادة الآلهة فلأنها مصدر الحب. في كلا الحب والعبادة تركع النفس أمام معبودٍ لا تدركه ولا تلم به. في كليهما تناجي النفس النفس وتهمس الروح إلى الروح وفي كليهما يكون السكون أبلغ من النطق. . .! لدي أخبار كثيرة كنت أود أن أكتب إليك عنها لولا أن قلبي رازح تحت عبء من الهموم. وما الذي يهمك اليوم من أخباري بعد أن طويت صفحة الماضي وتناسيت ما كان بيننا من عهود ووعود. أيكون حب الرجال أقصر من أيام البنفسج؟ أبمثل هذه السرعة تنطفئ تلك الشعلة الروحانية وتترك القلب في ظلام دامس؟ نزلت اليوم صباحاً إلى الحديقة فجلست تحت الشجرة التي تفيأناها معاً لآخر مرة. حدقت في الحجرة التي كنت جالساً عليها فثارت في عواطفي وأسرعت نبضات قلبي إذ تذكرت تلك الساعة السعيدة. هل تذكر أن الفصل كان ربيعاً والنسيم عليلاً وكل ما في الطبيعة يضحك ويبتسم؟ فما أعبد الفرق بين ذلك الربيع وهذا الخريف. وما أشد وطأة الخريف على القلب المنكسر. إنه يذكرني بخريف الحياة عندما تذبل زهرة الحب ويهدأ خفوق القلب وينقطع نشيد الملائكة - نشيد الحب الذي تهمس به الروح إلى الروح. لماذا أنت حزين منكسر القلب يا شارل؟ إن كان لأحدنا أن يحزن فلي أنا الحق الأسبق بذلك. وأما أنت فمم تشكو وما الذي يحزنك في

التعليم الإجباري

هذه الحياة؟ ألم يمنحك الله شباباً وجمالاً وعقلاً وكل ما يتمناه الإنسان في هذا العالم؟ أليس مجال المجد متسعاً أمامك وقلب كل امرأة فدية لك؟ فافرح إذاً لأن الحياة أقصر من أيام البنفسج. افرح لأن عبوستك تزيد في دجى هذا العالم وظلماته. افرح لأن أشعة الابتسام تبدد غيوم الحزن. افرح لأن العزاء الوحيد الباقي لي بعدك هو أن أراك سعيداً في هذه الحياة. سلام عليك من حشاشة ذائبة. سلام عليك من كبد مقروحة. سلام عليك من مقلة دامية. ربما كانت هذه آخر رسائلي إليك فقد أشار علي الأطباء بالابتعاد عن هذه المشاهد التي كيفما التفت تذكرني بك وبأيامنا الماضية. أما أنا فمقيمة على حبك. ثابتة في ولائك. مقسمة أن لا أنساك. . . سليم عبد الأحد التعليم الإجباري في مصر يسر الزهور أن يكون في عداد محرريها فئة من السيدات والأوانس تساعد في حملة الأقلام على نشر لواء النهضة الأدبية. وإلى هذه الفئة نضيف اليوم اسم حضرة الكاتبة الفاضلة كريمة سعادة اسكندر بك عمون المحامي الشهير صاحبة اليد الطولى في عالم الأدب كما سيرى القراء ذلك من الرسائل التي وعدتنا بنشرها في الزهور. وقد علمنا أن هذه الكاتبة الأديبة تشتغل بوضع في المرأة وواجباتها سنعود إليه في فرصة أخرى. وهذه الآن طليعة تلك الرسائل:

جعل أفاضل القطر المصري منذ سنوات عديدة أمر التعليم الإجباري حديث النفس في خلواتهم وموضوع البحث في مجالسهم علماً منهم بأن الترقي الصحيح لا يكون إلا إذا نال كل فرد من أفراد الأمة حظه من العلم فالحمد لله الذي أوحى إليهم بهذه النهضة العلمية المبشرة بانبلاج فجر النجاح والوئام. مصر بحاجة شديدة إلى ما يربط أبناء العناصر والأديان المختلفة فيها برباط متين، ويشغل همم أفرادها وأفكارها عما لا طائل تحته بما يفيدها ويرفه شأنها. فما هو هذا الشاغل وما هو ذلك الرباط المتين؟ هو العلم الذي يقيد أفراد الأمة بقيود الإخاء الأدبي ووحدة الطلب، ويحبب إليهم العدل ورعاية القوانين فيكفون عن المنازعات التي لا تجدي نفعاً، ويصبحون أهلاً للتمتع بالجلاء الذي طالما تاقوا إليه. وهو أيضاً الشاغل الذي يحبب إلى ذويه المال والتقدم فيطرحون عنهم الكسل ويسعون بجد مستزيدين من الثروة ما استطاعوا، آخذين عن الأمم الراقية كل ما من شأنه تحسين صنائعهم وزراعتهم فتزداد الأمة بأسرها بسطةً في عيشها ومنعة في كيانها. ومن اول نتائج تعميم التعليم أنه ينقص الجنايات نقصاً عظيماً على حد قول جول سيمون لا تفرغ السجون إلا إذا امتلأت المدارس ولا تمتلئ المدارس إلا إذا صار التعليم إجبارياً. والإحصاءات تؤيد ما نقول وتدل على أن متوسط عدد المجرمين ينقص بنسبة زيادة عدد المتعلمين. ففي إنكلترا مثلاً بلغ عدد تلاميذ المدارس الابتدائية 5. 000. 000

تلميذ بعد أن كان 1. 400. 000 وذلك من سنة 1870 التي صدر فيها دكريتو التعليم الإجباري إلى سنة 1894. فكان من نتائج هذه الزيادة نقص السجناء من 20800 إلى 13000 سجين ولو ازداد عدد هؤلاء بنسبة ازدياد عدد الأهالي لبلغ 28. 000 بدلاً من 13. 000 سجين ولأصبحت نفقات السجون 8. 000. 000 جنيه بدلاً من 4. 000. 000 جنيه. ومن الإحصاءات التالية نرى شدة تأثير التعليم الإجباري في إنجلترا وويلس من سنة 1870 إلى سنة 1899. سنةجناياتمتشردونجرائم الأحداثعدد الأهالي187019789106022168100018741622النقص كان تدريجياً2308800018791533700024700000188414276000263132511889094527830179189291510029055550189977068334231061000 والحكومة الإنكليزية تخصص من مجموع الضرائب 8 ملايين جنيه سنوياً لتنفق على الفقراء فلو ازداد عدد الفقراء بنسبة ازدياد عدد الأهالي لاضطرت إلى مضاعفة ذلك المبلغ أي إلى إنفاق 16 مليون جنيه. إن هذه النتائج تصدق على كل بلاد يكون فيها التعليم إجبارياً فلذلك نرى أعيان مصر يتوقون إليه وحكومتنا الحريصة على ترقي الأمة

راغبة فيه. فما هي إذاً الموانع التي صدتها عن نشره حتى الآن؟ هما اثنان. أولاص عدم وجود المال اللازم للقيام بنفقاته وثانياً احتياج الفلاح المصري إلى مساعدة اولاده له في زراعته. أما الأجوبة على الاعتراض الأول فهي أولاً أنه لا يتعين على مدارس التعليم الإجباري أن تتعدى حد الكتاتيب الصغرى ولا أن تعلم علوماً عالية. وإنما يكون التعليم الإجباري مقصوراً فيها على القراءة والكتابة ومبادئ الحساب وجغرافية مصر والقرآن الشريف. ولا ريب أن الفقهاء الذين يصلحون لتعليم هذه المبادئ كثيرون في البلاد المصرية، والرواتب التي يقنعون بها طفيفة جداً فلا تثقل كاهل الحكومة ولا تؤثر في ميزانيتها تأثيراً يذكر. ولقد فرضت الحكومة زيادة خمسة في المئة على أموال الأطيان الأميرية لتضاف إلى نفقات التعليم. فلو أبلغت هذه الزيادة إلى عشرة في المئة لقابلها أفاضل المصريين بارتياح كلي متى علموا أنها لازمة للتعليم الإجباري وأنها ستنفق كلها عليه. وفوق ذلك نعلم كلنا أن إيرادات الحكومة المصرية تفوق كل سنة نفقاتها بنحو 500. 000 جنيه فلماذا لا ينفق جزء من هذه الزيادة في سبيل التعليم الإجباري؟ ألا تفضل الحكومة أن تقول لنا عند نهاية كل عام أن زيادة إيراداتها عن نفقاتها كانت 100. 000 جنيه فقط ولكنها تنفق عن سعة في سبيل تعليم الشعب من أن تقول أن المتوفر نصف مليون جنيه ولكنها قابضة يدها عن بذل المال اللازم لنشر التعليم وتاركةً القوم يتمرغون في أوحال الجهل؟

في رياض الشعر

أما الجواب عن الاعتراض الثاني فهو أن أشد احتياج الفلاح لمساعدة أولاده له إنما يكون في زمن زرع القطن وخله وجمعه. وكل ذلك الزمن لا تزيد مدته عن الثلاثة الأشهر فما على الحكومة إلا أن تجعل تلك الأيام أيام الإجازات المدرسية فيربح فيها التلميذ عقله من عناء الدروس، ويروض عضلاته بالأشغال الزراعية. على أنه إذا كان لابد للفلاح من يد تعينه على عمله متى كان أولاده بعيدين عنه في المدارس فإن له من أيدي بناته تلك المعونة المطلوبة، إلى أن تسمح الأحوال بأن يشمل التعليم الإجباري صبيان مصر وبناتها. هند إسكندر عمون في رياض الشعر أمين بك ناصر الدين رئيس تحرير جريدة الصفاء اللبنانية شاعر مجيد وكاتب بليغ. شهير في سورية ومجهول في مصر فالزهور تفتخر بأن تضمه إلى عداد أنصارها الذين يتكاثرون يوماً فيوماً، وسيزداد القراء معرفة بأدبه الزاهر مما سنتابع نشره من شعره الرائق مشفوعاً برسمه ونبذة من ترجمة حياته وهو لا يزال في ربيعها: الحي يخاطب الجماد أو شاعر يناجي صورة أراك يا رسم لا تنفك مبتسماً ... أذاك شانك أم ذوق الذي رسما تستقبل الصبح جذلاناً بلا سبب ... ولا يسموك أن تستقبل الظلما سيان عندك يوم كله طرب ... وآخر بسمات الهم قد وسما ولا يروعك سيف الموت منصلتاً ... والخطب مندفعاً والدهر منقما

كفاك يا رسم فخراً أن مثلك لم ... ينقل لحاجته فوق الثرة قدما كفاك عزة نفس أن تدوم ولا ... تأتيك منة إنسان قد احتكما لا ينطوي لك قلب ما بقيت على ... حقد ولا يتعدى طبعك الكرما وأنت خير نديم للذين رأوا ... تجنب الناس أمراً يدفع السأما ترعى لراسمك العهد المتين ولا ... أرى من الناس إلا مخفراً ذمما والحي يسقم أحياناً وأنت على ... أتم عافية لا تعرف السقما ويدرك الهرم الإنسان بعد مدى ... وأنت غض شباب آمن هرما وتهزم الناس أرزاء تروعهم ... في حين يرجع عنك الرزء منهزما أراك تفصح عما فيك من طرب ... وأن عدمت لسناً ناطقاً وفما سلمت يا رسم من هم ومن كدر ... وما على الأرض حي منهما سلما يا ساهراً لم يذق ليلاً غرار كرى ... وراقداً لم يؤرق منذ ما رسما تضاحك الشمس منك الوجه مشرقة ... ويلثم البدر ثغراً منك قد بسما لك الطبيعة صفو العيش قد قسمت ... وضده وجزيل اليأس لي قسما كن موضعي ولا كن رسما فذلك لي ... خير وخذ فكرتي والطرس والقلما أمين ناصر الدين الحب المكتوم كان لأبيان فليكس أرفر الني نشرنا تعريبها في جنائن الغرب (ج 3 ص 139) أحسن وقع في نفوس الأدباء لما فيها من رقة الشعور. ولقد تبارى الكثيرون من شعرائنا في سبكها في شعر عربي، غير أنهم لم يراعوا الأمانة في تأدية معاني الشاعر الإفرنجي. وكان أكثر ما نظم انطباقاً على الأصل ما جاءنا من حضرة الشاعر المجيد صاحب التوقيع، قال:

يا غراماً في مهجتي أبدياً ... من لحاظ بلحظة دب فيا حادث في الهوى تكتم حتى ... كاد يخفى في النفس مني عليا لا دواء للداء مصدره الح ... ب الذي بات عن سواي خفيا سببته تلك التي ليس تدري ... أنه قد غدا هوى عذريا ويح قلبي أمر بالقرب منها ... لا أراها ترنو بلحظ إليا معها دائماً ووحدي دوماً ... دانياً دائماً ودوماً قصيا سوف أقضي الحياة لم أعط شيئاً ... كيف يعطى من ليس يطلب شيا وأراها وإن تكن ذات قلب ... وشعور رقا كطبع الحميا تتخطى الحياة ليست تبالي ... مات مضنى الغرام أو ظل حيا وحفيف الهوى يرافق منها ... خطوات تخطفت مقلتيا هكذا وهي في الأمانة ترعى ... لشروط الزواج عهداً وفيا تقرأ الشعر وهي ملء سطور الش ... عر وصفاً ولطعةً ومحيا ثم تغدو تساءل النفس عمن ... تركتني في الحب صبا بكيا * * * ويح حظي هي التي تيمتني ... بهواها وليس تعلم شيا رشيد نخلة مجد العرب كفاك يا طير شدواً هجت بي طربا ... أما تراني حزين القلب مكتئبا لو كنت مثلي مقصوص الجناح لما ... شدوت بل كنت تلقى الويل والحربا لم ينصف الدهر جيدينا فطوقني ... من الحديد وحلّى جيده ذهبا هب لي جناحيك مأجوراً أطر بهما ... ينفّس الجو عني هذه الكربا

أعرهما لي أطر في الجو مرتفعاً ... حتى أعانق في أبراجها الشهبا نفسي تتوق إلى العلياء مذ علمت ... أني امرؤ ورثت أخلاقه العربا إني لأعجب ممن يستخف بنا ... أن لا يرى خطة استخفافه عجبا سلوا القرون الخوالي عن مفاخرنا ... سلوا الرماح سلوا الهندية القضبا سلوا الزمان الذي كانت تتيه بنا ... فيه المعالي وكنا السادة النجبا وكان فارسنا إن جال جولته ... في نصرة المجد رد الجحفل اللجبا إن صاح رددت الآفاق صيحته ... واهتزت الأرض والأفلاك إن ضربا كتائب تترامى في حميتها ... إلى الردى لا ترى جبناً ولا هربا من كل لاحق روح راح يطلبها ... بسيفه غير ملحوق إذا طلبا كالسيف منصلتاً والليث مفترساً ... والسيل منحدراً والبحر مضطربا فجاءنا زمن صرنا به خدماً ... لغيرنا وغدت أرواحنا سلبا أرى الممالك داستنا بأرجلها ... كما ركبنا على أعناقها حقبا ما لي أرى الشرق لا تصفو موارده ... لأهله ويراها غيرنا ضربا لو أن للشرق روحاً أو له كبداً ... ترق بث لنا شكواه وانتحبا يا ويح للدهر يلهو بي ويلعب بي ... أبعد ما شاب يهوى اللهو واللعبا أنا امرؤ في صميم الذل مرتبتي ... من مصر لا نبطا قومي ولا جلبا يا أيها الموسرون اليوم يومكم ... شيدوا لنا من معالي جاهكم حسبا رقوا المعارف تدعوكم بلادكم ... لا تخذلوها فإن الحق قد وجبا كم من تعيس يسيل النحس من يده ... أمسى سعيداً وكم من غاصب غصبا حلفا محمد توفيق علي ضابط بالجيش

شبت وما شاب غرست هواك في قلبي ربيعاً ... فشبَّ وشبت في زمنٍ قريب فما أنا راجعٌ زمن التصابي ... ولا هو بالغٌ زمن المشيب عبد الحليم المصري البدر والليل لعلها آخر ما نظمه إمام العبد كان إمام قد أشفى، فدعا بدواة وقلم وكتب الأبيات التالية، وفي حروفها على الورق ما يشعر بارتجاف يده، ثم أوصى إحدى النسوة اللواتي كن يعطفن عليه في شدته بأن ترسل ما كتب إلى مجلة الزهور. فلما قضى لرحمة ربه، وقد ضعضع الأسى والبؤس من حوله، ذهب أمر الرسالة عن تلك المرأة الحزينة، حتى إذا جفت الدمعة إلا قليلاً وبردت الجمرات إلا بعضها بلغت الأبيات إلينا وروح إمام ترفرف بين كلماتها وسطورها. وهذه هي: تمنى أن يجازيني بوجدٍ ... فكان الوجد أسبق من مناه واحرمني لذيذ النوم لما ... جرى حكم الإله على هواه رآه البدر أحسن منه وجهاً ... فحدَّث نفسه لما رآه وألبسني عليه الحب ثوباً ... يريك الليل أطول من مداه عرفت الحظ من لوني وثوبي ... فأين يكون في الدنيا سناه؟ إمام العبد

في حدائق العرب

في حدائق العرب بمناسبة ما ذكرناه في أول هذا العدد عن تتويج ملوك الإنكليز أحببنا أن ننشر هذه الصفحات المطوية عن كيفية المبايعة عند العرب وعن الشارات الخاصة بالإمارة. البيعة البيعة هي في العهد على الطاعة، كأن المبايع يعاهد أميره على أنه يسلم إليه النظر في أمر نفسه وأمور المسلمين لا ينازعه في شيء من ذلك. ويطيعه في ما يكلفه به من الأمر المنشط والمكره. وكانوا إذا بايعوا الأمير وعقدوا عهده جعلوا أيديهم في يده تأكيداً للعهد، فأشبه ذلك فعل البائع والمشتري، فسمي بيعةً مصدر باع، وصارت البيعة مصافحة بالأيدي. هذا مدلولها في عرف اللغة ومدلول الشرع وهو المراد في الحديث في بيعة النبي صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة وعند الشجرة وحيثما ورد هذا اللفظ. ومنه بيعة الخلفاء، ومنه أيمان البيعة، كأن الخلفاء يستحلفون على العهد ويستوعبون الأيمان كلها لذلك، فسمي هذا الاستيعاب أيمان البيعة. وأما البيعة المشهورة لهذا العهد فهي تحية الملوك الكسروية من تقبيل الأرض أو اليد أو الرجل أو الذيل، أطلق عليها اسم البيعة التي هي العهد على الطاعة مجازاً لما كان هذا الخضوع في التحية من لوازم الطاعة وتوابعها وغلب فيه حتى صارت حقيقة عرفية واستغني بها عن مصافحة أيدي الناس التي هي الحقيقة في الأصل. شارات الملك إن للسلطان شارات وأحوالاً تقتضيها الأبهة والبذخ فيختص بها ويتميز بانتحالها عن الرعية والبطانة وسائر الرؤساء في دولته، والمشتهر منها: الآلة - من شارات الملك اتخاذ الآلة من نشر الألوية والرايات وقرع الطبول والنفخ في الأبواق والقرون.

السرير - أما السرير والمنبر والتخت والكرسي فهو أعوادٌ منصوبة أو آرائك منضدة لجلوس السلطان عليها مرتفعاً عن أهل مجلسه ولم يزل ذلك من سنن الملوك قبل الإسلام وفي دول العجم، وقد كانوا يجلسون على أسرة من الذهب. وكان لسليمان بن داود كرسي وسرير من عاج مغشى بالذهب. إلا أنه لا تأخذ به الدول إلا بعد الاستفحال والترف، أما في أول الدولة عند البداوة فلا يتشوفون إليه. وأول من اتخذه في الإسلام معاوية واستأذن الناس فيه وقال لهم: إني قد بدنت. فأذنوا له واتخذه. واتبعه الملوك الإسلاميون فيه وصار من منازع الأبهة. ولقد كان عمرو بن العاص بمصر يجلس في قصره على الأرض مع العرب ويأتيه المقوقس إلى قصره ومعه سرير من الذهب محمول على الأيدي لجلوسه شأن الملوك، فيجلس عليه، وهو أمامه، ولا يغيرون عليه وفاء له بما اعتقد معهم من الذمة وإطراحاً لأبهة الملك. ثم كان بعد ذلك لبني العباس وسائر ملوك الإسلام شرقاً وغرباً من الأسرة والمنابر والتخوت ما عفى عن الأكاسرة والقياصرة. السكة - وهي الختم على الدنانير والدراهم المتعامل بها بين الناس بطابع حديد ينقش فيه صور أو كلمات مقلوبة ويضرب بها على الدينار أو الدرهم فتخرج الرسوم عليها ظاهرة مستقيمة، بعد أن يعتبر عيار النقد من ذلك الجنس في خلوصه بالسبك مرة بعد أخرى. . . ولفظ السكة كان اسماً للطابع، وهي الحديدة المتخذة لذلك، ثم نقل إلى أثرها وهي النقوش الماثلة على الدنانير والدراهم، ثم نقل إلى القيام على ذلك والنظر في استيفاء حاجاته وشروطه وهي الوظيفة، فصار علماً عليها في عرف الدول، وهي وظيفة ضرورية للملك إذ بها يتميز الخالص من المغشوش بين الناس في النقود عند المعاملات، ويتقون في سلامتها الغش بختم السلطان عليها بتلك النقوش المعروفة. الخاتم - وهو من الخطط السلطانية والوظائف الملوكية، والختم على الرسائل

والصكوك معروف للملوك قبل الإسلام وبعده، وقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يكتب إلى قيصر، فقيل له أن العجم لا يقبلون كتاباً إلا أن يكون مختوماً، فاتخذ خاتماً من فضة ونقش فيه محمد رسول الله. قال البخاري جعل الثلاث كلمات في ثلاث أسر وختم به وقال لا ينقش أحد مثله. وقد تختم به أبو بكر وعمر وعثمان. الطراز - من أبهة الملك والسلطان ومذاهب الدول أن ترسم أسماؤهم أو علامات تختص بهم في طراز أثوابهم المعدة للباسهم من الحرير والديباج أو الأبريسم تعتبر كتابة خطها في نسج الثوب ألحاماً وسدى بخيط الذهب أو ما يخالف لون الثوب من الخيوط الملونة من غير الذهب على ما يحكم الصناع في تقدير ذلك ووضعه في صناعة نسجهم، فتصير الثياب الملوكية معلمة بذلك الطراز قصداً للتنويه بلابسها من السلطان فمن دونه، أو التنويه بمن يختصه السلطان بملبوسه إذا قصد تشريفه. . . وكان ملوك العجم من قبل الإسلام يجعلون ذلك الطراز بصور الملوك وأشكالهم أو أشكال وصور معينة لذلك. ثم اعتاض ملوك الإسلام عن ذلك بكتب أسمائهم مع كلمات أخرى تجري مجرى الفال أو السجلات. . . . وكان الدور المعدة لنسج أثوابهم في قصورهم تسمى دور الطراز. وكان القائم على النظر فيها يسمى صاحب الطراز. . . (باختصار عن ابن خلدون)

ألفرد ده موسه

ألفرد ده موسه أذكريني كلما الفجر بدا ... فاتحاً للشمس قصر الذهب وأذكريني كلما الليل مضى ... راكضاً بين جنود الشهب وإذا ما صدرك ارتج على ... نغم اللذات وقت الطرب أو دعاك الظل يا مي إلى ... لذة الأحلام عند المغرب فاسمعي من داخل الغاب صدى ... صارخ فيه يناديك أذكري أذكريني إن غدا صرف القدر ... فاصلاً ما بيننا للأبد يوم لا تبقي الليالي والعبر ... من رجاء لفؤادي الكمد وأذكري حباً به قلبي انفطر ... ووداعاً ذاب منه كبدي وإذا الحب على القلب انتصر ... غلب البعد وطول الأمد وأنا ما عشت يكفيني خبر ... منك والقلب يناديك أذكري أذكريني عندما ألقى المنونا ... ويضم الترب ذا القلب الكسير عندما تفتح للفجر الجفونا ... زهرة القفر على قبري الحير لن تري من بعدها ذاك الحزينا ... إنما نحوك روحي ستطير وبها أبقى على العهد أمينا ... جاعلاً حبك لي خير سمير واسمعي من جانب القبر أنينا ... هاتفاً في ظلمة الليل أذكري هذه أبيات عربها عن الإفرنسية حضرة الدكتور نقولا أفندي فياض، ولا شك في أن هذه القصيدة عصرية الفكر واللهجة لأنها نظمت سنة 1842 وقد وضع لها ألحاناً تناسب معانيها الشجية بعض الموسيقيين

وأجمل هذه الألحان وأحبها إلى عشاق البيانو والكمنجة - لأنها أكثر وقعاً في النفس - نعمة ابتكرها الموسيقي الإرنسي جورج روبيس. وناظم هذه الأبيات بالفرنسوية هو الذي يسميه الفرنساويون شاعر الشبيبة. هو ذاك الذي لا ينساه أبداً من قراه مرة، بل كلما قلب صفحات بعض الكتب الغزلية تعود إليه تلك المعاني البديعة، والتعبيرات المحزنة التي تصدع القلوب، فيكاد يرى ما بين يديه من القصائد، إذا ما قابل بين هذه وتلك، سبك أسجاع فارغة، وتلاحم اصطلاحات لغوية وكتابية ثقيلة، وثرثرة جالبة الصداع لفقدانها معاني العواطف، وعجزها عن إظهار آثار الآلام الروحانية. يلقب القارئ صفحات الكتاب فتحول بين نظره والمجلد صورة الشاعر الفتى: رقة في الجسم ورقة في الشعور، خيالات أحلام متتابعة تجول في مياه العينين الصافيتين، علامات الذكاء الوقاد مرسومة على الجبهة الجميلة تحت طيات الطرة الذهبية، وعلى الشفة تحوم شبه ابتسامة، مزيج هيام ومرارة. . . هو فتى العذابات والدموع الذي عندما تذكره يتبادر إلى ذهنك اسما بايرن الإنجليزي وادجر ألن بور الأمريكي. لأن في كتابات هؤلاء الثلاثة شيئاً من المشابهة والمقارنة، وكثير من شعب تخيلاتهم تتلامس في سماء الغزل، كما أنك تجد في حياة كل منهم ظروفاً ومميزات تجعله أشبه بالآخر برغم سكناهم بدلاً تختلف باللغة والتقاليد. قيثارة ساحرة أوتارها العواطف، وأغنيتها النوح، وقرار هذا النوح

قروح القلب، شاعر الشبيبة في كل آن ومكان ألفرد ده موسه من لا يعرفه ولو بالاسم على الأقل؟ ولد ألفرد ده موسه في باريس سنة 1810 وتلقن دروسه في مدرسة هنري الرابع حيث امتاز على سائر أترابه بحدة ذكائه وقوة شاعريته. وبعد خروجه من المدرسة اخذ يدرس الشريعة ثم الطب. لكن مشاكلات المهنة الأولى والمنافرات التي لابد منها فيها، وشناعة التشريح وكراهته في المهنة الثانية أحدثت نفوراً في روحه الشديدة التأثر فعدل عنهما، وصار يمضي أكثر أوقاته في جنائن باريس وضواحيها حيث يختلي بذاته ويطلق العنان لتأملاته ويهيم ساعات طويلة في عالم الخيالات والأحلام. وكان إذ ذاك فريق من الأدباء والشعراء الإفرنسيين قد ألفوا جمعية دعوها سناكل الغرض منها العمل على ترقية الشعر وتسهيل بعض الصعوبات التي تقيد فكر الناظم وتحدد حرية قلمه. وكان شاعر فرنسا الكبير فكتور هوغو رئيس تلك الجمعية. فدخلها موسه ولاقى فيها ما تتوق إليه نفسه من التحكك بمثل هذه النفوس السامية، والعقول الراقية، والقلوب الرقيقة. لاقى شعراء مثله، وذكاء مثل ذكائه. ومحاورات أدبية فنية مفيدة، وأصدقاء يفهمون طبيعته وأخلاقه ويقدرونها حق قدرها، بالنسبة لاشتباك مجانسات تخيلاتهم ومطالبهم. ولا شيء في الدنيا يشبه الروح الذكية أكثر من روح أخرى ذكية، والعكس بالعكس. دخل موسه في جمعية كان هو أصغر أعضائها سناً، إذ لم يكن له من العمر سوى ثماني عشرة سنة، فسعد حيناً. وكان الجميع يدعونه تحبباً

بنيامين أو الفتى الهائل ' فكتب قصائده الأولى متقلداً فيها تارة الشاعر الفرنسي اندره شنيه، وطوراً فكتور هوغو ذاته، وعرب في الوقت نفسه عن الإنجليزية كتاب تومس دوكنسي المعنون اعترافات أفيوني - ولما لم يكن والد الفتى الشاعر راضياً عن حياة ولده على هذه الكيفية التي لا فائدة منها - على زعمه -، أراد أن يضعه في وظيفة تضمن له سعادة مستقبله المادية، لكن ألفرد لم يرد تضحية حريته العزيزة، وإضعاف ذكائه الفريد، واستعداداته الأدبية في مثل هذه الأشغال الاعتيادية. فأبرز إلى عالم القراءة مجموعة أشعاره الأولى، وكان عمره نحو عشرين عاماً. فكان لظهور هذا الكتاب دوي عظيم بين ذوي الأقلام، وانتقدته الجرائد، وذمه الناقدون وسخط على مؤلفه أعضاء الجمعية لأنهم رأوا أن بنيامينهم شط عن الخطة المحدودة، غير مبالٍ بقوانين النظم عندهم، وهم لم يكونوا نفوا تماماً قواعد الشعر المدعو بالكلاسيك وكانت منظومات ده موسه تضرب كلها على نغمة جديدة لم يسبقها تمهيد في تاريخ الآداب الفرنساوية. وقد اتبع هذه الخطة شعراء فرنسا مدة حتى أتى ادمون روستان فكان آخر هذه الفئة، وزارع بذور الشعر الحالي الذي ينعتونه بالمائل إلى الزوال وذلك لأن شعراء العصر يتصرفون بالأفكار والتخيلات والأوزان والأسجاع بحرية لم يسمع بمثلها من ذي قبل. وترى كثيرين يتعجبون كيف ضمت الأكاديميا الفرنسوية إلى أعضائها

منذ شهرين تقريباً أحد هؤلاء الشعراء، وهو هنري ده رنييه. لم يبال ده موسه بالنقد والناقدين بل اكتفى برضى السيدات عن أشعاره، وإعجاب الشبيبة الفرنساوية بمنظوماته. فانفصل عن أعضاء جمعيته انفصالاً تاماً، ولم تضم سنة حتى نشر قصيدة أخرى اتبعها بمنظومات متعددة، لم يفهم قيمتها أبناء تلك الأيام إلا القليلون منهم. ولما كان في الثالثة والعشرين من عمره اجتمع بالكاتبة الشهيرة جورج ساند، وكانت هذه تكبره بخمس سنوات تقريباً، وقد مثلت هذه المراة النابغة دوراً مهماً مؤلماً في حياة الفرد ده موسه، وكان تأثير ذكرها في كتاباته عظيماً جداً حتى أنك تكاد لا تقرأ شيئاً مما كتبه بعد التقائه بها، إلا وترى فيه رمزاً يدل عليها. تحكك ذكاؤه بذكائها، وناهضت قواه الأدبية قواها، فأحدث هذا التحكك وهذه المناهضة، بين هذين النابغتين، شعلة محرقة، كما يحدث في تلامس الأسلاك الكهربائية. وكادت هذه الشعلة تذهب بحياة الشاعر فأدرك الخطر وابتعد عنها ابتعاداً كلياً (1835) لكن ذكرها تبعه كيفما توجه. فنظم كتابه إلى لامارتين ولياليه وهو يعينها دائماً، وهذه القصائد تعد من أبجع وأرق ما كتب بالفرنساوية في هذا الباب. وكانت أيام ألفرد ده موسه الأخيرة معذبة تعسة، حتى سئم الحياة وأضحى ينتظر الموت بفروغ صبر، وتراكمت الأمراض على جسمه فأعيته وسحقت، او وزادت في سحق فؤاده. وظل على هذه الحال حتى وفاه القدر في سنة 1859، فتوفي على أثر مرض في القلب، ولا عجب أن يموت

شاعر القلوب من علة من قلبه. وآخر كلمات لفظها تدل على كثرة أحزانه وكرهه الحياة إذ قال: سأنام عن قريب والحمد لله!. وكانت الكاديميا الفرنساوية انتخبته عضواً في سنة 1842 كما انه ظل سنين طويلة أمين خزانة الكتب في نظارة المعارف، ولا يخفى ما في هذين المنصبين من الشرف الذي يتمناه كثيرون لأنفسهم، لكن ألفرد ده موسه لم تكن تغره الظواهر الفارغة. وقد كتب ما عدا منظوماته البديعة - وكان معاصرون يتهمونه بنقلها من منظومات لورد بايرن الشاعر الإنكليزي - مجلدات نثرية متعددة، وروايات تشخيصية أجاد فيها. فادعوا أيضاً أنها مسروقة من كتابات أدجر ألن بو والشاعر والكاتب الأمريكي. وهذا شأن الحساد دائماً، فهم يتهمون الممتاز عنهم بما يتصورونه ضده. لا، ألفرد ده موسه لم ينقل عن احد، وأعظم فضيلة فيه كانت فضيلة الإخلاص. لكن حياة كل من هؤلاء الثلاثة كانت تعسة جداً، كأنه سبحانه وتعالى يبخل بالماديات على الذين أغناهم بالأدبيات، فإن معظم الرجال الكبار كانت حياتهم مفعمة بالأوجاع المتنوعة، مما لا تذوقه الأرواح الاعتيادية، والعقول الساذجة، ولا عجب في ذلك. هذه نظرة عامة في حياة ناظم أذكريني فأفتكر به أيها القارئ ولو برهة، وارث لحاله، وقل معي: سلام عليك أيها الراقد تحت الصفصافة! سلام ورحمة!. (مصر) مي الزهور: سنقول كلمة عن الأديبة التي أتحفتنا بهذه المقالة في باب ثمرات

الغناء العربي

المطابع من هذا العدد. وبهذه المناسبة ننشر للقراء أبياتاً نظمها الشاعر خليل أفندي مطران وكتبها على الصفحة الأولى من ديوان شعر لموسه أهداه إلى فتاة أديبة: عاش هذا الفتى محباً شقيا ... وقضى نحبه محباً شقيا وبكى دمع عينه في سطور ... جعلته على الندى مبكيا منشد للغرام لم يشد إلا ... كان إنشاده نواحاً شجيا شاعر كان عمره بيت تشبيبٍ ... وكان الأنين فيه الرويا فأقر إي شرح حاله وأعجبي من ... ذلك القلب كيف بات خليا إن في نظمه لحساً لطيفاً ... باقياً منه في السطور خفيا فاذرفي دمعةً عليه تعيدي ... ورق الطرس بالحياة نديا وتثيري من روحه نسماتٍ ... وتفيحي منها عبيراً ذكيا الغناء العربي في مصر عبده الحمولي - زرئ الغناء العربي في مصر في أوائل الشهر الماضي بالمرحوم الشيخ يوسف المنيلاوي أحد مشاهير المغنين الذين عاصروا عبده الحمولي وأخذوا عنه. كان الحمولي في مصر كما كان إبراهيم الموصلي في بغداد. كلاهما إمام المغنين في عصره. وكما التف حول الموصلي جماعة ممن عاصروه فأخذوا

عنه ثم تفننوا في الذي أخذوه وحسنوا فيه، هكذا الفت حول الحمولي كثيرون من المتأخرين فأخذوا عنه ثم تفننوا في الذي أخذوه أيضاً. وكان أشهر هؤلاء محمد أفندي سالم والشيخ يوسف المنيلاوي. يخرج المالكين من حشمة الم ... لك وينسى الوقود ذكر وقاره يسمع الليل منه في الفجر يا ل ... يل فيصغي مستمهلاً في فراه شوقي وكانت لعبده طريقة في غلناء ابتكرها لنفسه فأنزلته المنزلة الأولى

بين أرباب هذا الفن الجميل فاقتبس المنيلاوي ما حلا له منها وحسن فيه حتى لقد كان يسمعه الحمولي نفسه فيقول: أخذ عنا فسبقنا. والله لو أنصف العشاق أنفسهم ... أعطوك ما ادخروا منها وما صانوا وما أنت حين تغنيهم وتطربهم ... إلا نسيم الصبا والقوم أغصان فأجاد في تقليده إياه ولم يزل إلى يومنا هذا المغني الوحيد الذي يقلد عبده في الأغاني التي سمعها منه وهي مزيته الأولى.

آثر الناس عن عبده أنه ولد في طنطا، وكان له أخ أكبر منه فوقع شقاق بين أخيه وأبيه، ففر به أخوه من وجه والدهما هائماً به في الخلوات لا يجدان أحداً يأنسان به ويلجآن إليه، حتى دنا الغروب فسخر الله لهما رجلاً آواهما في ليلتهما ثم أقاما عنده أياماً. ومن غريب الاتفاق أن الرجل كان يشتغل بصناعة الغناء ويضرب الآلة المعروفة بالقانون، فلما سمع صوت عبده أعجبه فعاد به إلى طنطا واشتغل معه فيها مدة وجيزة. وقد بقي تأثير تلك الوحشة والانفراد مع التعب والجوع في تلك الليلة التي خرج فيها عبده من بين أبيه مرسوماً في نفسه فكنت تراه إلى آخر عمره ينقبض صدره، ويتقطب وجهه كلما دخل عليه أوان الغروب. ولما اشتهر صيته وتفرد في صناعه الغناء ألحقه المرحوم إسماعيل باشا الخديوي الأسبق بمعيته، وسافر معه إلى الأستانة مراراً فاقتبس شيئاً كثيراً من الغناء التركي وأدلخه في الغناء العربي وقد حسنه وتفنن فيه. وغنى وهو في عاصمة الترك السلطان عبد الحميد، واتصل بكبار أهل الدولة يومئذ فأوعزوا مقامه على شده أثرتهم بالعز لأنفسهم. وقصد إلى الأستانة مرة أخرى فلقي فيها ما أقصاه عنها كل حياته. وآثروا عنه كرم الأخلاق ورقة المعشر والمروءة وسلامة الطوية. حدثنا بعضهم قال: جمع عبده في منزله حلقة من الفضلاء فغناهم حتى الهزيع الثالث من الليل. وأنه لكذلك إذ أقبل عليه خادمه الخاص فأسر إليه أمراً فهب من موضعه معتذراً للقوم بما حضره. ومشى عابس الوجه مقطب الحاجبين. ثم كانت ساعة ورجع إلى مكانه فجس عوده وغنى

أصحابه صوتاً شجياً مؤثراً كان يشرق بدمعه في خلاله. ثم استمر في الغناء حتى كان الهزيع الرابع من الليل، فهم ضيوفه بالانصراف، فأقبل عليهم يحدثهم في أمره قال: إنكم شاركتموني في فرحي فهلا تشاركونني في حزني؟ وكان له ولد وحيد أتاه الخادم بنعيه وهو يغني فمضى إلى ذويه فبكاه معهم حيناً ثم عاد فغنى أصحابه فقد آثره عنه بعض المغنين وأودعه في آلة الغناء المعروفة فونوغراف وقد سمعناه فهو منتهى ما يكون من الرقة والتأثير. وآثروا عن مروءته وبذله للمعروف حوادث يعلمها الناس لا يجهلونها وجميعها يدل على أخلاقه الفاضلة رحمه الله. محمد عثمان - إذا ذكرت عبده الحمولي تبادر إلى ذهنك فوراً ذكر المرحوم محمد عثمان. فقد كان هذا الرجل إلى جانب عبده ما كان معبد إلى جانب إسحق بن إبراهيم الموصلي. غير أن عثمان ابتلي بداء عقيم ذهب بجمال صوته وطلاوته فانصرف إلى تأليف الألحان فكان بصيراً بأخذ النغم من مواضعها وبجمعها على نسق مستحب كلفاً بصناعته، جاداً في إتقانها إرادة أن يستعيض عن طلاوة الصوت بحسن الأسلوب ولطف السياق ولهذا كان لا يغني منفرداً إلا على أجنحة الآلات. فإذا لحن أغنية وأسمعها لأول مرة خرجت متقنة الوضع رائقة للسمع، ولكن يبدو عليها إثر إعنات الفكر ويشتم منها ريح الشمع المذاب في السهر على تخريج أجزائها، وتوجيه ضروبها والملائمة بين رناتها ومعانيها. وعلى الحقيقة

فإن عثمان كان في أخريات عمره واضع معظم الألحان فيأخذه عبده عنه، وهو ضريبه، ويكسوه من الحلي والحلل ما تشاء بديهته الخاصة به. الشيخ المسلوب - ومن ذكر محمد عثمان ذكر معه الشيح محمد عبد الرحيم الشهير بالمسلوب فقد كان هذا الرجل وما برح إلى يومنا هذا شيخ الملحنين. غير أن الكبر أقعده عن الإنشاد في السنين الأخيرة - وهو خير من أنشد الأذكار الصوفية في هذا العصر - وحالت الشيخوخة بينه وبين صناعته الجميلة فأقصى نفسه عن حلقات الغناء. ولكنه ما فتئ يجيد التلحين والوضع إذا سئل شيئاً منها.

إذا لقيت هذا الرجل الشيخ اليوم لقيت راوية للغناء العربي في هذا العصر. فإن حدثته حدثك من تاريخ الغناء في القرن الفائت ما لا تحتويه بطون الأوراق فهو تاريخ حي للغناء والمغنين. محمد سالم - وكما أقعدت الأيام الشيخ المسلوب أعجزت معه أيضاً زميله محمد سالم وهو أحد أربعة يحق لنا أن نسميهم بأئمة الغناء العربي في مصر في العهد الأخير. نريد بالثلاثة الآخرين عبده الحمولي ومحمد عثمان وسلامة حجازي.

كان محمد سالم إبان عهده بالفن من نظراء عبده في الإتقان وجودة الأداء. وقد اعترف له عبده نفسه بذلك إذ كان يقول عنه

أحسن الأصوات ف مصر صوتان: صوت سالم في الرجال، وصوت ألمز في النساء. المغنون والملحنون - من المغنين من اشتهر بالغناء وبالتلحين معاً، ومنهم من عرف بإحدى هاتين المزيتين فقط. فمن الفئة الأولى عبده الحمولي ومحمد عثمان، والشيخ سلامة حجازي. ومن الذين أخذوا بالتلحين وحده الشيخ عبد الرحيم المسلوب، وأبو خليل القباني الدمشقي، وإبراهيم أفندي القباني، وداود أفندي حسني، وأحمد أفندي غنيمة. أما الذين أخذوا وغنوا فكثيرون أشهرهم محمد أفندي سالم، والشيخ يوسف المنيلاوي، وعبد الحي أفندي حلمي، ومحمد أفندي السبع والشيخ سيد السفطي، وعلي أفندي عبد الباري، وكثيرون آخرون. النساء المغنيات - ولم يكن نصيب النساء من الإجادة في الغناء بأقل كثيراً من حظ الرجال منه فقد اشتهرت ألمز زوجة المرحوم عبده الحمولي بحسن الأداء ورخامة الصوت، وفهم أسرار الصناعة، وعرفت ليلى - وليلى أشهر من أن تعرف - بطلاوة الصوت وعذوبته والبراعة الفائقة في الأداء والمقدرة على الأخذ والتقليد. وهناك قيان زاولن هذه الصناعة واختلفت منزلتهن فيها باختلاف استعداد كل قينة منهن، وباختلاف الوسط الذي نشأت كل

واحدة فيه. على أن أشهرهن اليوم توحيدة والسويسية وبهية اللواتي يغنين عامة الناس في قهوات مصر. أشهر الأغاني - من الأغاني ما تداولها الناس وغنوها ناسين أسماء ملحنيها على حين أن الواجب يقضي بأن يعرف الملحن بالأغاني التي وضعها كما يعرف الشاعر بالقصائد التي نظمها. لهذا رأينا - ضناً بفضل أولئك الملحنين أن يذهب به النسيان - ذكر أشهر الأغاني مقرونة بأسماء الملحنين كما ترى. أشهر الألحان التي وضعها عبدو: أهين النفي وأتذلل إليكم. . . غرامك علمني النوح. . . كادني الهوى وصبحت عليل. . . قده المياس زود وجدي. . . جددي يا نفس حظك. . . متع حياتك بالأحباب. . . أشهر أغاني محمد عثمان: يا ما أنت وحشني. . قدك أمير الأغصان. . القلب سلم من زمان. . . عهد الأخوة نحفظه. . اليوم صفا داعي الطرب. . . أشهر أغاني المسلوب: ناحت فأجبتها. . . رايح فين يا مسليني. . في مجلس الأنس الهني. . . أشهر أغاني إبراهيم القباني: الكمال في الملاح صدف البلبل جاني وقال لي. . . تضحكني الحواسد في غرامي. . يعيش ويعشق قلبي. . أشهر أغاني داود حسني: يا طالع السعد افرح لي. . دع العذول. . سلمت روحك يا فؤادي. . أسير العشق. . عزيز حبك القلب في ودك

ثمرات المطابع

نتيجة عمومية - لولا أن أتاح الله للغناء العربي في العهد الأخير المرحومين أبا خليل القباني، وعبده الحمولي، لكانت صناعة هذا الفن الجميل قد اندثرت ولم يبق لها أثر. فإن القباني نقل إلى مصر ما أخذه بالسماع والتواتر عن الأغاني العربية القديمة أحياها، والحمولي أخذ تلك الطريقة وهذبها ثم تفنن فيها حتى اختص بها وأخذها عنه معاصروه فذهبوا فيها أيضاً مذاهب شتى. حبذا لو استطاعت الحكومة المصرية - وهيا لحكومة العربية الوحيدة التي تسعى أبداً إلى تخليط مجد العرب - أن تنشئ مدرسة لفن الموسيقى العربية فتحفظ هذا الفن من الضياع، وتعيد له مجده القديم. إن هذه لأمنية لنا على الحكومة لعلنا إن نعود إليها فنوفيها حقها من البحث. ثمرات المطابع تاريخ آداب اللغة العربية - واضع هذا السفر النفيس جرجي أفندي زيدان ليس بحاجة إلى التعريف. فهو من أشهر كتابنا وأكثرهم نشاطاً واجتهادا، ً وأجلهم خدماً للغة العرب وآدابها وتاريخ تمدن أممها. وإذا ما ذكر يوماً الكتاب الذين كانت لهم يد في النهضة الأدبية في هذا العصر جاء اسم زيدان في مقدمتهم. فإن مؤلفاته - بين تاريخ وروايات وآداب واجتماع - تعد بالعشرات. وهي - وإن اختلفت في القيمة

باختلاف موضوعها - وتشهد لصاحبها بسعة الاطلاع وحب البحث والتنقيب عن الحقائق وخصوصاً بالثبات على العمل، الأمر الذي لا يحق لكثيرين من كتاب الشرق أن يفتخروا به: ويسر الزهور التي وقفت نفسها على نشر آثار أدبائنا وتعريفهم إلى قرائها أن تعلن اليوم فضل هذا الرصيف الكريم وتزيين صفحاتها برسمه بمناسبة ظهور كتاب تاريخ آداب اللغة العربية. وهو كتاب يشتمل على تاريخ اللغة العربية وعلوها وما حوته من العلوم والآداب على اختلاف مواضيعها وتراجم العلماء والأدباء والشعراء. . . من أقدم أزمنة التاريخ إلى الآن وهذا الجزء الأول يحتوي على تاريخ آداب اللغة في عصر الجاهلية وعصر الراشدين والعصر الأموي. لا يخفى على أديب ما هو عليه هذا الموضوع من تشعب الأطراف ووعورة المسلك واضطرار من يعالجه إلى الوقوع في هفوات عديدة. ولم يفت هذا الأمر زيدان أفندي فإنه العالم الحقيق الذي يعرف أن ما لا نعلم هو أكثر مما نعلم، فأشار إلى ذلك في مقدمته بكل صراحة وحرية ضمير شانه في ما تقدم من مؤلفاته. فإذا كان في النظرة العامة التي وضعها عن حالة العرب وآدابهم ولغتهم ولهجاتهم في الجاهلية نقص، أو إذا كان في سرد أسماء الشعراء سهو أو إهمال، أو في الحكم على شعرهم ولغتهم ما هو موضوع المناقشة فلأن الموضوع غير واقع تحت الحصر، ولأن المستندات الواجب الاعتماد عليها مبعثرة في مئات من الكتب بين مطبوعة وخطية وهذه الكتب منثورة في مكاتب مختلفة بين عواصم الغرب والشرق فلا

يتسنى الوقوف عليها. ولذلك ترى أن تاريخ الآداب العربية الذي نحن الآن بصدده قد جمع بين دفتيه جل ما يمكن جمعه من المعلومات عن هذه الآداب. وهو من هذا القبيل أشبه بواضع أول معجم لمفردات اللغة فإنه أغفل بطبيعة الحال كلمات كثيرة جاء بعده من استدركها ودونها فكمل عمله. وفي رأينا إن أكبر مساعد على وضع تاريخ شامل واف لآداب لغتنا هو أولاً: انتقاء مختارات من أدباء العرب. فإن هذه الكتب على وفرتها - وأوسعها مجاني الأدب لا تفي بالمطلوب لاسيما من حيث التنسيق والتبويب - فالحاجة ماسة إلى تقسيم الكتاب حسب العصور وإيراد نبذة موجزة عن حياة كل كاتب أو شاعر مع أسماء مؤلفاته وإبداء رأي في كتاباته ثم ذكر المأثور من هذه الكتابات، على الطريقة التي سار عليها الإفرنج في تبويب مختاراتهم. والأكثر الثاني الذي يساعدنا على ضبط تاريخ آداب لغتنا هو الدروس الإرادية وذلك أن يعمد أدباؤنا المعروفون

إلى كاتب أو أكثر من كتاب العرب فيدرسونه درساً أدبياً وافياً من حيث ترجمته ونقد كتاباته وتأثير الوسط فيه إلخ فيضعون عنه لمحة تجمع زبدة الآراء وهكذا يتسنى من مجموع هذه الدروس إبداء أحكام صادقة وإيراد روايات راهنة عن كتابنا السالفين. وسنباشر ذلك في الزهور قريباً إن شاء الله. ويجدر بالجامعة المصرية وبغيرها من معاهدنا العلمية الشرقية أن تفرض على كل مرشح لنيل الشهادة النهائية وضع درس من هذه الدروس عن أحد شعراء العرب كما تفعل معاهد الغرب. هذه في رأينا أهم الوسائل التي توفر لدينا المعدات اللازمة لوضع تاريخ حقيقي لآداب لغة العرب. فإلى زيدان أفندي نزف أطيب التهاني بما خدم به هذا الموضوع الجليل منتظرين توفيقه إلى إظهار الجزء الثاني من كتابه وهو سيكون ولا ريب أوفى بحثاً وأتم بياناً لأنه يتناول عصراً كثرت آثاره وتوفرت المعلومات عنه. وعلى كل حال فإن الكتاب يعد صفحة جميلة في حياة مؤلفه المملوءة بالأعمال الأدبية. أزهار أحلام , - يسرنا أن نرى عدد الأوانس والسيدات اللواتي ينزلن إلى مضمار الكتابة يزداد يوماً فيوماً. فنحن اليوم نحتاج إلى صفحة كبيرة لتعداد أسماء الكواتب والشواعر عندنا. ويزيد سرورنا عندما نرى فتاتنا تحمل مع القلم العربي الريشة الإفرنجية، وتجاري الأجانب أنفسهم في لغتهم. عرف قراء العربية

الكاتبة الأديبة مي مما نشرته من الروايات الجميلة والمقالات الشائقة والأبحاث النفسانية الدقيقة في جريدة المحروسة الغراء وقد أتحفتنا بمقالة لطيفة عن ألفرد ده موسه نشرناها في غير هذا المكان من هذا الجزء. وأمامنا الآن كتاب شعر إفرنسي رقيق، في ذيله بضع صفحات نثرية جميلة، تأليف إيزيس كوبيا. وإيزيس ومي هما شخص واحد، والقلم الذي حبر المقالات والروايات العربية، والريشة التي حاكت برد هذه القصائد الفرنسوية، تحملهما يد واحدة ويملي عليهما فكر واحد. الكتاب الذي نحن بصدده الآن مجموعة أزهار عطرية نبتت في رياض الأحلام الجميلة، وهي مهداة إلى روح لامرتين شاعر القلوب الحزينة، وهذه الروح المتألمة ترف على كل صفحاته وتجعل الكاتبة تقول في قصيدة هل هي شاعرة؟ معناه: البكاء والرأفة والحب والألم هذه هي صفات الشاعر وقد ظهر من المواضيع التي طرقتها الكاتبة أنها لا تصف إلا ما ترى، ولا تعبر إلا عما تشعر به. فجاءت منظوماتها صورة حقيقية لما يشغل فكرها ويحرك قلبها، ولذلك أنت تشاركها عند تلاوة أشعارها في هذه العواطف مهما كان رأيك في القالب التي سبكتها فيه. فلا تتمالك من أن تصبو معها إلى مصر ونيلها وآثارها وسهولها، وتحن معها إلى لبنان وجماله وأوديته. وإذا كانت إيزيس كوبيا شاعرة في نظمها فقد وجدناها أشهر منها في تلك الصفحات النثرية التي ختمت بها أزهار أحلامها حيث لم تعد مقيدة بقيود القافية والوزن، وكثيراً ما تكون الأزهار المنثورة أجمل من الأزهار المضفورة على شكل مقرر. ولولا ضيق المقام

لأتينا على ترجمة بعض هذه الأفكار المدونة في هذه الصفحات. قالت إيزيس في مقدمة صغيرة استهلت بها مجموعتها: إذا كانت كتاباتنا صادقة، فلا أهمية لقيمتها من حيث الفن. فنحن تارة نتألم وتارة نفرح، ولكننا دائماً نتنهد. وإن التنهدات التي تملأ صدر الإنسانية متشابهة، وما الاختلاف إلا في توقيعها. . . فلا تحاولن يا من يطالع هذا الكتاب أن تنتقد أو تعلل، بل ابتسم، فإن ابتسامة التسامح هي أجمل زهور النفس. فلا تبخل علي بهذه الابتسامة التي التمسها. . . ونحن لم نبخل بهذه الابتسامة عند مطالعة هذا الكتاب، ولكنها كانت ابتسامة رضى عما فيه، وإعجاب بالقلم الذي كتبه. منتهى الإفادة - من الكتب التي لها مساس بالحياة العائلية، كتاب منتهى الإفادة في أسرار الجمال والصحة والسعادة لمؤلفه حضرة البارع الدكتور أمين أفندي ناصيف. تصفحناه فوجدناه سفراً جليلاً يبحث عن الطرق الصحية لتحسين الخلقة ولتلافي العاهات ولتقويم الأعضاء منذ الصغر وللتدابير التي يجب اتخاذها لتجنب كل ما يشوه الوجه. وقد ذكر المؤلف عدة وصفات لنعومة البشرة ولحفظ الأسنان ولصحة العينين واعتدال القامة وغير ذلك وختمه بمباحث طبية جاء فيها على خلاصة ما يقال في الأمراض الكثيرة الشيوع، وأسهل الطرق لعلاجها. والكتاب جدير بالمطالعة لما فيه من الفوائد الجمة.

تهنئة إخلاص - عرف قراء الزهور سليم أفندي عبد الأحد الكاتب المجيد الذي ينشر في هذه المجلة رسائل غرام بين نساء شهيرات ورجال عظام ونحن نقدمه اليوم إليهم شاعراً بارعاً في اللغتين العربية والإنكليزية. يدل على ذلك كراس صغير أهداه إلينا وفيه قصيدتان عربية وإنكليزية رفعها إلى جلالة الملك جورج الخامس بمناسبة تتويجه نقتطف من الأولى قوله في وصف الأسطول: عرش تؤيده السفائن دونها ... شم الجبال الراسيات وتعضد الشامخات السابحات تعج من ... أثقالها لجج المحيط وتزبد تخد البحار وفي حشاها زفرة ... تمتد في موج الخضم فتوقد وقوله: يا باسطاً ظل السلام وناشراً ... للعدل ألوية بفضلك تشهد فخر الملوك سيوفهم مسلولة ... وفخار سيفك أن سيفك مغمد مجد إذا قيس الخلود ففترة ... تفنى وعرشك في القلوب مؤبد أما القصيدة الثانية فقد نشرتها الصحف الإنكليزية في مصر وأثنت على ناظمها أجمل الثناء. صحيفة الوجدان - نشرت الزهور في سنتها الأولى شيئاً مختاراً من نظم الأديب رمزي أفندي نظيم. وقد أتحفنا حضرته اليوم بمجموعة ما نشره في جريدة العفاف الغراء في مواضيع مختلفة وهي تبشر شاعرها الشاب بمستقبل مجيد في هذا الفن. لغة العرب - هو عنوان مجلة أدبية تاريخية سيصدرها قريباً في

إلى قراء الزهور

بغداد حضرة العالم المدقق الأب انستاس ماري الكرملي المعروف لدى علماء الشرق والغرب بأبحاثه الجليلة. والغاية الأولى من إصدار هذه المجلة كشف النقاب عن أحوال العراق وجزيرة العرب وأحوال أهلها وعلومهم وآثارهم وآدابهم إلخ. وحضرته أقدر من طرق هذه المواضيع. فنرجو له نجاحاً وفلاحاً في هذه المهمة النبيلة، وسنعود إلى هذا الموضوع ببيان أوفى. لأن هذه المجلة ومديرها الفاضل جديران بالتفات الأدباء والمفاوضة مع مدير مجلة لغة العرب في بغداد. إلى قراء الزهور عطلة الصيف كتبنا في العدد الأول من هذه السنة الجملة الآتية: صدر في السنة الماضية اثنا عشر عدداً من الزهور في 560 صفحة. ولما كان العدد الكبير من المشتركين يغيرون محل إقامتهم في شهري الصيف حدث تبلبل في توزيع المجلة وفقد منها أعداد كثيرة. ولذلك رأينها أن نوقف إصدارها في شهري الصيف. وقد زدنا عدد صفحات كل عدد حتى تبقى مجموعة العشرة الأعداد 560 صفحة كمجموعة الاثني عشر عدداً. . . . . فعدد هذه الشهر والحالة هذه هو آخر عدد يصدر من الزهور قبل عطلة الصيفية وموعدنا القراء الكرام أول أكتوبر (تشرين الأول) المقبل.

العدد 17

العدد 17 - بتاريخ: 1 - 10 - 1911 العودة كان شهي يوليو وكان فصل الذهاب، فأخذت القطورات الحديدية والبواخر البحرية تقل الناس أفواجاً إلى مصايف مختلفة ألطف هواء واعدل مناخاً. فسكنت الحركة في العاصمة، وهدأ دولاب الأشغال، وأقفلت المعاهد العلمية. وجاء الآن شهر أكتوبر، وهو فصل العودة والإياب، فعاد التاجر إلى متجره، والمحرر إلى قلمه، والموظف إلى ديوانه، والمحامي إلى مكتبه، والطبيب إلى عيادته، والتلميذ إلى درسه بعد أن جمعوا في عطلة الصيف ذخراً من القوة والنشاط لمواصلة العمل في مراحل هذه الحياة. وقد عادت الزهور إلى قرائها وعاد قراؤها إليها، والشوق ملء جوانح الفريقين، بعد فراق شهرين. فهي ترحب اليوم بالجميع وتسأل للجميع كل صفاء وهناء. * * * نهنئ الجميع بسلامة العودة، ويلذ لنا اليوم أن نخصك بالتهنئة، أيها

التلميذ العزيز العائد إلى رياض المدرسة لتجني من زهر الآداب والعلوم عسلاً شهياً لك ولأهلك وبلادك. نخصك بالتهاني، وجميع القراء يشاركوننا في ذلك، لأن فيهم أباك وأمك، وأخاك وأختك. منذ شهرين ونيف جرت الامتحانات في المدارس، وأقامت معاهد العلم الحفلات الشائقة لمكافأة ذوي الجد والاجتهاد. فنشرت أسماؤهم علناً، ولم تضن الصحف اليومية بإفساح محل واسع بين أخبارها للثناء على المبرزين من الطلبة وإطراء ذكاء من حاز قصب السبق منهم في ميدان الدرس. فكم كان يخالج صدرك حينذاك من عواطف الفرح والحبور لقيامك بالمفترض عليك إن كنت من الفائزين. أو كم كان يتلاعب في رأسك من أفكار التأسف والندم على ما فات من فرض أهملته أو درس تهاونت فيه أو واجب تأخرت عن القيام بع إن كنت من الخاسرين. من يصف لنا ما دار في خلدك عند أو بتك إلى أهلك ظافراً غانماً أو خاسراً صفر اليدين؟ أو أي قلم يصور لنا ما كان في تقبيلك لأهلك وتقبيل أهلك لك من العواطف والمعاني؟ بهذه القبلة قلت لهم أنك فهمت ما يتكبدونه من الضحايا في سبيلك وسبيل تهذيبك إذا كان قد عدت ويداك مثقلتان بشهادات جدك، وإكليل الغار والظفر يعلو جبينك الوضاح المتلألئ بنور الغبطة والأمل. وكم كان إذ ذاك بقبلتهم لك من الفخر والابتهاج، لأنك شرفت اسمهم الذي ستعرف به في المجتمع الإنساني، فأنسيتهم عرق الجبين وكد اليمين والنفقات الباهظة.

بهذه القبلة عبرت لهم عن شديد أسفك على ما فات وعزمك الأكيد على الدرس والاجتهاد إذا كنت قد رجعت إليهم ولم تفلح وكم كان بقبلتهم له من اللوم والتأنيب على خمولك وأنت لم تكسب شيئاً في الجهاد الأول من هذه الحياة. . . . كل هذه الأفكار والعواطف خالجت صدرك وصدر ذويك، فشعرت بفرح أو حزن، وشهروا بذاك الفرح أو هذا الحزن. فعزمت على مواصلة السير في خطتك الحميدة كما في الماضي، أو على التعويض بالدرس والتكفير بالجد عن ذلك الماضي. مضى الآن أكثر من شهرين على تولد هذه العواطف في صدرك. وقد قضيت هذا الردح من الزمن بين القمم الخضرة والمناظر النضرة، إذا كان أهلك من ذوي اليسار، فتنقلت بين ربى لبنان أو سويسرا، وزرت آثار الحضارة الجليلة في عواصم أوروبا، فانفتحت نفسك لشعر الطبيعة وسجدت مخيلتك لذكاء الأمم الراقية، أو أنك بقيت في بلدك تطالع وتدرس حركة الزراعة والأسواق تحت إدارة أبيك أو ولي أمرك فطبع فيك حب العمل والسعي وراء الرزق. وعلى كل فقد قضيت هذه الأيام بين ذويك، فجددت نشاطك وقواك وادخرت في المعيشة العائلية حزماً جديداً وعزماً أكيداً. ما أعظم ما كان تأثيرك أيها التلميذ العزيز عندما نزعت ورقة التقويم اليومي فوجدت مسطراً على الورقة التي تليها بحرف ضخم أول أكتوبر وهو تاريخ العودة إلى المدرسة.

منذ شهرين استقبلك أهلك بقبلة اللقاء، واليوم يستودعونك الله بقبلة الوداع. وليست هذه القبلة بأقل من الأولى معنى ورمزاً. فتحوا ذراعيهم لضمك إلى صدرهم بعد عشرة أشهر قضيتها بين المحابر والأوراق، وهم يفتحونهما الآن لوداعك بعد شهرين قضيتهما بالقرب منهم. يودعونك ولسان حالهم يقول. سر يا ولدي بالله الله مسراك، واقض سنتك المدرسية جاداً منعكفاً على دروسك مطيعاً لرؤسائك محباً لرفقائك، فترد منهل المعارف وترتشف كأس العلوم وتعود إلينا أكمل عقلاً وأوسع فكراً وأغزر أدباً وأكثر علماً. ضع نصب عينيك مستقبلك فهو سيكون غداً ما تريده اليوم فتحصد آتياً ما تزرعه حاضراً. أنت عماد بيتك وعصا شيخوخة أهلك، أنت محط آمالنا ووارث شرفنا واسمنا وكل ما لنا. . . وعليك أن لا تنسى أنه لا منفذ للإنسان ولا معين في هذا الإعصار الهائل الذي ثارت رياحه وعصفت عواصفه على المجتمع الإنساني إلا الفضيلة والعلم فاجعل الكتاب أليفك والجد حليفك لتكون رجلاً نافعاً لبلادك وعضواً عاملاً على ترقية أبناء جنسك. هذا بعض ما تقوله لك ساعة الوداع قبلة أبيك الحنون يا منتهى أمله وقبلة امك المحبوبة يا نور عينها ولن نزيد عليها شيئاً لأن فيها أحسن فصاحة وأبلغ بيان بل نقول لك: لا تنس هذه النصائح التي أملاها عليك قلب أعز الناس إليك، بل اتخذها دليلاً ومرشداً لك فهي تشدد عزيمتك حين التهاون والخمول، وتجدد أملك ساعة اليأس والقنوط. . .

لم أجدها

لم أجدها فتشت عنها فلم أجدها، وهي موجودة. ولا أزال أنشدها، فهل أجد تلك الضالة المنشودة؟ بين رفيقات طفولتي، وعشيرات شقيقتي بحثت، فلم أجد ضالتي! جبت المدن والأقطار، وخبرت الناس ودرست الأميال والأخلاق وأنا أبحث عنها. طرقت الأندية والمجتمعات، وعاشرت المتمدنات المتعلمات باحثاً منقباً عمن أريد. فلم أجدها. قصدت القرى والجبال. فاختلطت بالقرويات الساذجات، ودرست معيشة الفلاحين في مزارعهم، فتوهمت أني وجدتها، وإذا من توهمت أنها هي، هي غير من أطلب، فرجعت ولم أجدها. درست تاريخ الأمم الغابرة والعصور السالفة، ونفضت غبار النسيان عن تلك الوجوه الماضية علّي أجد بينها تلك التي أرجو. فلم أجدها. لكل شاعر عروس شعر يتغزل بحسنها، ولكل كاتب خريدة رواية يشدو بذكرها. فتشت بين العرائس والخرائد. فلم أجدها. * * * أسأل: أين هي؟ فلا أعلم. . . ومن هي؟ فلا أدري. . . وكيف هي؟ فلا أعرف. . . لساني قاصر عن وصفها، وقلمي عاجز عن تصويرها. لا يعرفها غيري ليهديني إليها، أو يهديها إلي. لأني أنا أيضاً أجهلها وتكاد نفسي أيضاً تجهلها، فأفتش عنها ولا أجدها.

أغمض عيني عما أرى، وأصم أذني عما أسمع، فأضيع في عالم الخيال فيتراءى لناظري شخصها بني خيالات الأوهام، وينساب إلى مسمعي صوتها بين حفيف الأحلام. فأتوهم أني عرفتها أو عرفت بعض الشيء عنها. فإذا ما عدت إلى عالم الحقيقة أراني عاجزاً عن إعادة بعض ما رأيت وسمعت أو ما توهمت أني راءٍ وسامع. لم أجدها حتى الآن، ولكني لا أزال أفتش عنها، لأنها موجودة ولن أزال أنشدها حتى ألتقي بتلك الضالة المنشودة. * * * البلبل يجد الغصن الذي يغرد عليه في ليالي القمر، والفراشة تجد الزهرة التي تتغذى منها عند السحر، والزهرة تجد قطرة الندى التي تحييها، والغواص يجد الدرة التي يسعى إليها، والشاعر يجد القصيدة التي يحوم خاطره حواليها. . . فهل أجد من تكون غصن شبابي لأزهر، وزهرة ربيعي لأثمر، وندى أيامي لأحيا، ودرة عيشتي لأتحلى، وقصيدة أيامي لأتغنى. . .؟ فتشت عنها وإلى الآن لم أجدها. ولقد تكون فتشت عني فلم تجدني. ولعلها هناك وأنا أبحث هنا، وقد تكون هنا وأنا أفتش هناك فهل تلتقي نفسانا؟ ومتى تلتقيان. .؟ سأبحث عنها حتى أجدها، لأنها موجودة. ولن أزال أنشدها حتى التقي بها تلك الضالة المنشودة.

حالة العلم في نجد

حالة العلم في نجد قبل الوهابية وبعدها أرسل إلينا حضرة مراسلنا البغدادي الفاضل ساتسنا تابع البحث عن بلاد العرب الذي نشرنا منه قسماً في الزهور هذه السنة (ج 4 ص 176 وج 5 ص 233) وهو البحث الذي وضعه خصيصاً لقراء مجلتنا بمساعدة حضرة الألمعي سليمان أفندي الدخيل صاحب جريدة الرياض الزاهرة. وما جاء في المقالة بين قوسين هو لمراسلنا والباقي للصحافي البغدادي الأديب. رأيت من مقالتنا الأولى أن ديار نجد واقعة في إقليم تحيط به النفود إحاطة الهالة بالقمر، بحيث أن الطبيعة قد عزلتها عن سائر البلاد وجعلت العلوم والآداب لا تصل إليها إلا بعد تجشم المشاق التي لا تطاق. هذا فضلاً عن أن هناك سبباً آخر أوقف سير نجد في سبيل التقدم ومجاراة أهل سائر الأقطار في رقي سلم المعارف وهو أنها أصبحت منذ الإعصار المتوغلة في ظلمات القدم طريقاً للحاج ينتابه العرب منسلين إليه من كل حدب سحيق وشعب عميق. على أن الاختلاف إلى تلك الديار أصبح أعظم من سابق منذ استحكام قدم الإسلام في الأرض، فغدت نجد من الديار ولهذا ازدادت رغبة النجديين في الترحيب بالحاج واستقبالهم وحسن ضيافتهم، ولم تعد الحال تمكنهم من أن يتفرغوا لغير القرى وما ضارعه من الأمور التي تنشأ منه أو تستند إليه. ولهذا السبب لما ظهر الإسلام ودان أهل نجد به خفت أتعابهم

لقلة مؤونة ما يطلبه الإيمان منهم وعلى هذا المبدأ قلنا في مقالتنا الأولى: إن أهل نجد يعتمدون في ديانتهم واعتقادهم على الكتاب والسنة. وبودي أن أبسط الكلام في هذا الموضوع وأبينه بأجلى برهان حتى لا يبقى للمعترض أدنى حجة، ولكن ضيق الوقت لا يسمح لي بذلك وعليه فلا جناح علي إذا تابعت هذا البحث في مقالات متتالية. وعندي أن فوائدها لا تقل عن فائدتها إذا كانت مفرغة في حلقة مقالة واحدة. نجد في سالف العهد إذا هبطت ديار نجد وتجولت في أنحائها تجول مفكر متدبر تعثر فيها على آثار تدلك دلالة واضحة على أنها كانت في العهد القديم معهد حضارة ومنتجع علم مرتاد عمران راق وأن لم تكن على نحو غيرها التي كشف لنا تاريخها عن أحوالها وما كانت عليه من العروق في المدنية والشموخ في العز والأصالة في العلم والحضارة؛ ترى اليوم في المغاور والكهوف المنقورة في الأودية والجبال البعيدة عن السكنى ما يدهشك من الآثار؛ ترى رسوم كتابة ورقماً لا تشبه كتابتها الكتابة الإفرنجية ولا العربية بل هي كتابة خصوصية لعلها كلدانية قديمة أو نبطية أو مسند أو ما ضاهى هذه الكتابات القديمة؛ ترى عاديات وآثاراً وهياكل كالتي تشاهد مثلاً في سدوس قرب بلدة ملهم إذ هناك تمثال دفعت بدلاً عنه دولة أوروبية مبلغاً طائلاً من المال فأبى أصحابه بيعه؛ ترى أبنية فخمة ضخمة وآثاراً جليلة تشهد بأن بناتها كانوا أهل جد وجهد وجلد،

وأن لهم مهارة عجيبة بأعمال الهندسة والبناء لارتفاعها في الهواء وحسن نظام أجزائها، وتناسبها وبديع مجاورتها بعضها لبعض. نجد بعد الرسالة ومن بعد أن بعث الحكيم (- صلى الله عليه وسلم -) بالهدى والحق وانتشر الدين الإسلامية في هاتيك الربوع، عم بلاد نجد من جملة ما عم. فسار أهلها على هذه الطريقة المثلى، وبيد أن الحوادث التي طرأت على قادة الأمة من بعد أبي بكر وعمر رضه شغلتهم عن مشارفة تلك البلاد فأهملوها؛ هذا من جهة، ومن الجهة الأخرى أن الحروب والمنازعات والاختلافات شغلت أهالي نجد عن الإمعان في حقائق دينهم فمرت عليهم السنون الطويلة وهم يحبون في الإيمان والاعتقاد إلى أن وصل الحال بهم إلى درجة أصبحوا فيها وقد تعددت فيهم الأوهام والخرافات ولاعتقادات الباطلة بالشجر والمطر والبحر والنجم وعبادات القبور والعكوف عليها والاعتقاد بأهلها النفع والضرر إلى غير ذلك مما للعراق فيه اليوم النصيب الأوفر والحظ الأكبر رغماً عن انتشار العلم فيه. وبقي أهل نجد في هذه الحالة وليس لهم سوى الحرب والضرب ولاعتقاد الضار بالإنسان ديناً ودنيا وأخرى وليس لهم من الدين الحق إلا الاسم وذلك إلى زمن الشيخ محمد عبد الوهاب. نجد في عهد الشيخ محمد عبد الوهاب نشأ الشيخ محمد رحمه الله في بلدة العُيَيْنَة في حضن والده عبد الوهاب

بن سليمان فرباه أحسن تربية ولقنه العلم هو بنفسه، وكان والده حينئذ قاضياً في بلدة العيينة من قبل حاكمها الأمير عبد الله بن محمد بن حمد المعمر، ولما كان الشيخ محمد بن عبد الوهاب كثي المطالعة والتدبر والتفكر شديد الشوق إلى العلم وطلبه، حدثته نفسه بأن يسير في طلب العلم إلى بلاد أخرى فحج ثم سار إلى المدينة فاتصل بالشيخين: عبد الله بن إبراهيم مؤلف كتاب العذب الفائض في علم الفرائض، والشيخ محمد حياة السنوي المدني، فأقام عندهما مدة ثم رجع إلى نجد ومن هناك سار إلى البصرة فبغداد وهو في هذه الأثناء يتزود الكفاية من علم التوحيد والفقه وسائر العلوم. ثم حاول المسير إلى الشام فمصر ولكن صده عارض في الطريق فرجع أدراجه إلى بلاده حاملاً من زاد العلم ما لم يتسن لأحد غيره في وقته. ثم ذهب لرؤية والده وكان يومئذ في حرَيْملا وسبب تحول الوالد إلى هذه البلدة هو أنه في غياب الشيخ محمد توفى الله الأمير عبد الله وخلفه في الإمارة ابنه محمد فعزل والد الشيخ عبد الوهاب بن سليمان عن القضاء وأقام مكانه أحمد بن عبد الله بن عبد الوهاب ورحل عبد الوهاب القاضي إلى حريملا ولما ثبتت قدمه عند والده باشر الشيخ تزييف الخرافات والبدع والأضاليل وشمر عن ساعده لإبادة الأوهام المضرة بالدين وأخذ بنشر الاعتقاد الصحيح الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

هرب الشيخ محمد بن عبد الوهاب من بلدة حريملا كانت حريملا في عهد الشيخ بلدة لا ترجع إلى أمير ولا إلى إمارة بل كانت كرة تتقاذفها صوالجة قبيلتين وهما قبيلة العبيد وقبيلة أخرى، فاتفق يوماً أن الشيخ زجر بعض السفهاء من قبيلة العبيد عن ارتكاب بعض المخازي الدالة على سوء الأخلاق، فعمد هؤلاء إلى إهانته بل إلى قتله وأرادوا إتمام الأمر بالفعل فساروا إليه ليلاً وتسوروا الجدار وبينما هم في هذا العمل إذ صاح صائح في المحلة، فظن هؤلاء المفسدون أن الصياح عليهم فهربوا وكفاه الله شرهم. ولما أسفر الصباح رحل إلى بلدة العيينة وكان محمد الأمير قد توفاه الله وقبض على زمام الإمارة من بعده عثمان بن حمد بن معمر، فتلقاه الأمير عثمان بالتجلة والترحاب والإكرام التام، وهناك أخذ يبث حقائق التوحيد، والأمير عثمان يتعهده بحفظ حياته ونصره على أعدائه. حكاية الشجرة والقبة وقد طلب الشيخ إلى الأمير أن يقطع شجرة كانت تعبد في البلدة وأن يهدم قبة زيد بن الخطاب رضه فتمنع الأمير، وبعد ذلك ألح الشيخ عليه وأقنعه فأذن له في الآخر. ثم طلب إليه أن يسير هو أيضاً معه فسار الأمير مع الشيخ ومعهما ستمائة فارس ولما وصلوا إلى المحل المطلوب قطعت الشجرة وهدمت القبة، وكانت قرب بلدة الجبيلة. فكان ذلك العمل من أخطر الأعمال التي أتاها الشيخ.

أمير الإحساء ما فعل الشيخ هذا الفعل إلا واشتهر أمره ونبه ذكره، فبلغ خبره أمير الإحساء سليمان بن محمد، وكان ذا قوة وبأس شديد، فبعث إلى عثمان بن محمد بن معمر يتهدده بقطع رواتبه عنه والسير إليه إن لم يطرد الشيخ من بلاده. فأذن حينئذ الشيخ عثمان للشيح محمد بن عبد الوهاب أن يسافر إلى حيث يريد. الدرعية فاختار الشيخ الذهاب إلى بلدة الدرعية فسار وسير الشيخ عثمان معه جماعة تحافظ عليه من أعدائه حتى وصل إلى الدرعية، فحل ضيفاً عند عبد الله بن عبد الرحمن بن سويلم أحد أعيانها. ثم علم به بعض كبار الدرعية فزاروه، ولما اطلعوا على مبدأه استحسنوه وأحبوه. ثم أرادوا أن يسعوا عند أميرها محمد بن سعود لينزله ضيفاً عنده فتخوفوا. ففاوضوا بذلك أخاه ثنيان الأعمى وزوجته وأخاه شاري، فاتفق الجميع على تحقيق ما في الأمنية، فتم الأمر وذلك أن الأمير لما دخل قصره وقابل زوجته اجتمع به أخوه وعرضا عليه الأمر مع زوجة الأمير وأشاروا عليه بإكرامه واحترامه. فسار إليه برجله ثم أخذه من عند عبد الله السالف الذكر وجاء به إلى قصره فاحتفى به أحسن الاحتفاء وأعزه وقام مؤيداً لدعوته بكل قوته. فأخذ الناس يفدون إلى الدرعية أفواجاً أفواجاً فازدادت بذلك قوة الأمير بل تضاعفت وشرع يكاتب بلدان نجد وقراها ويدعوها

في جنائن الغرب

إلى طريق الحق، وما لبث أياماً قلائل إلا وخضعت له القبائل ودانت له أغلب البلدان. ومازالت الإمارة في امتداد واتساع حتى أصبحت دولة آل سعود في درجة لو وفق أمراؤها الذين تسلموا قيادة زمامها في آخر أيامها إلى ثروة ومد نظر في السياسة لغدت اليوم من أعظم الدول الإسلامية قوة وسطوة ورهبة ولامتدت أمرتهم إلى بلاد شاسعة، إلا أنه دهمها ما لم يدر في خلد أصحابها فإنها لما شددت في بعض أمورها كثر أعداؤها فاحتالوا على الفتك بها فأوقع بعض الأمراء ما يلقي النفور بين آل سعود وبين الحكومة العثمانية وللحال اتقدت تلك النار الحامية نار الحروب والمضاغنات والزحفات المتكررة فأضرت بالطرفين. ولابد من ذكر تلك الأسباب التي حملت القوم الواحد على القوم الآخر في فرصة أخرى والله ولي التوفيق. وهم نعم الرفيق. في جنائن الغرب حديث القلوب للكاتب الاجتماعي لامينه 1 أعيروا السمع وقولا لنا من أين يأتي ذاك الدوي المصم الغريب

الذي يسمع في الجوانب كافة؟ ضعوا الأيدي على الأرض وقولوا لنا لماذا هي تضطرب وقد اكتنفها الظلام. هناك شيء مجهول يتحرك في جوف المسكونة فهناك والحالة هذه عمل من أعمال القدرة. أفي الوجود خليقة لا تنتظر الساعة؟ أفي الأجسام قلب لا يخفق لها؟ ارتفع يا ابن الإنسان إلى الأعالي وقل لنا ماذا ترى؟ أرى في الأفق سحابة ممتقعة اللون يحيط بها شعاع أحمر كأنه لهيب. وأرى أمواج البحر تتلاطم، وقمم الرواسي تتزعزع، والروابي تتمايل، فتنهال على الوديان فتغير مجاري الأنهر. أرى الآن أن الثوابت كلها تتحرك، وأن الوجود يتخذ لنفسه شكلاً جديداً. - وماذا ترى أيضاً يا ابن الإنسان؟ أرى الغبار يتصاعد فينعقد سحباً في الفضاء البعيد، فتنتشر في الأرجاء وهي تختلط وتتصادم مارة فوق المدن فتبدو كالسهول. وأرى الشعوب تهب أفواجاً والملوك يضطربون فوق عروشهم. فهناك إذن حرب قائمة.

وأرى عرشاً بل عرشين قد تحطما وبددت الشعوب بقاياهما. وأرى شعباً ينازل شعباً آخر غاطساً في الحديد. ضربات الأول ساحقة ولكن هو ذا قد سقط والدماء تسيل من جسمه العاري فهو قد طعن طعنة قاتلة. بل إنه جرح ليس إلا، فإنه لا يزال يبدي حراكاً وقد أقبلت عليه عذراء طرحت عليه ثوباً أبيض وهي تبتسم له ابتسام الإشفاق ثم أخرجته من ساحة القتال وقد اصطبغت يداها بالدماء. وأرى شعباً آخر ينازل متواصلة مجدداً قواه التي يفقدها في الجهاد توصلاً إلى بغيته التي ينشدها. وأرى شعباً ثالثاُ قد وطأته أقدام ستة من الملوك قد شهروا خناجرهم وهم يغمدونها في نحره كلما أبدى الحراك. وأرى ساحة شاسعة قد أقيم فيها بنيان شاهق توارى بين الستائر السوداء. وأرى الشرق يضطرب ناظراً مذهولاً إلى انهيار آثاره الشاهقة وتحول معابده الصوانية إلى رماد، باحثاً في طيات الوجود عن عظمة زاهرة يستعيض بها عظمة زالت، ومجد جديد يقام على أطلال مجد قد اندثر. وأرى حسناء في الغرب حادة العينين عالية الجبين وضاحة الوجه ممسكة مرقماً لا تحركه أناملها مسطرة كلمة حتى تهتف لها الشعوب وتحييها الناشئات وتمجدها الأفئدة.

وأرى في الشمال رجالاً يكتنفهم برد أبدي فاستعانوا عليه بحرارة الإيمان. وأرى في الجنوب رؤوساً ذليلة تحت تأثير لعنة أجل ما هي، وهي رؤوس قد ثقلت بنير هائل أيضاً فطأطأها ذووها شديداً وأخذوا يجولون أرقاء، ولكن هو ذا روح قد حل في ربوعهم فأخذوا في تقويم هذه الرؤوس تدريجياً. - وما الذي تراه أيضاً يا ابن الإنسان؟ أرى النور والظلمة يتزاحمان ويتدافعان. وأرى الشر هارباً أمام الخير الذي أقبل محفوفاً بأعوانه واضعاً قدمه على العرش ليحكم وماداً يمناه إلى الصولجان ليثبت به البسيطة. 2 عدنا بالفكر إلى الزمن الغابر، وحلقنا في فضاء تلك القرون حيث كانت الأرض خصبة تدر الخيرات على بنيها وقد عاشوا سعداء فيها فكانوا كأخوة. فرأينا الثعبان قد أخذ يزحف بينهم موجهاً عينيه النافذتين إلى الكثيرين فاستهواهم فاضطربت منهم النفوس، ودنا بعضهم من بعض فهمس الثعبان في آذانهم بضع كلمات أصغوا إليها لاهثين ثم أنهم قالوا إننا ملوك. وللحال امتقعت الشمس واصطبغت الأرض بصبغة الحداد ثم سمعت ضوضاء شديدة عقبتها أنة طويلة تلتها رعدة استولت على النفوس. فقل إذن إن الساعة كانت كساعة الطوفان. وساد الرعب على

الأكواخ - حيث لم يكن هناك قصور - واستسلم القاطنون بها إلى مفزعات الأوهام والوساوس وتولتهم رجفة. واستل الذين قالوا إننا ملوك سيوفهم وهاجموا الأكواخ. فوقعت فظائع جمة داخل تلك الحصون القصبية وجرت الدموع ممزوجة بالدماء. وصاح الرجال وجلين لقد عاد القتل فانتشر. وكان هذا غاية دفاعهم فإن الخوف قد قتل فيهم النفوس وأوهن السواعد. وتخلوا عن أنفسهم يائسين فثقلت أيديهم بالأغلال التي جعلت منهم ومن نسائهم وبنيهم مجموعاً زج خليطاً في كهف أعده هم أولئك الذين قالوا أننا ملوك، فبات بنو الإنسان وهم كذلك كحيوانات في مربط. ومزقت العاصفة طيات السحب وبددتها وقصف الرعد شديداً وسمعنا صوتاً أشد يقول: لقد انتصر الثعبان ولكنه انتصار لا يطول. ولم يصل إلى آذاننا بعد ذلك سوى خليط أصوات مبهمة رامزة إلى الضحك والزفير والسب. ففهمنا أن الشر سائد فبكينا بكاء مراً تلاه انتعاش في النفس بدا لأمل تولد، ألا وهو أن ذاك الشر الواقع إنما هو مقدمة للخير المقبل. لاح لنا هذا كله كما وقع في حينه ولاح لنا ذاك الخير، فقل إذن أن الإنسانية ستتحرر فتنطلق من عقالها ويهوي أولئك الذين قالوا إننا ملوك إلى الكهف نفسه فيجدون الثعبان يتلظى.

3 أبناء أب واحد أنتم، وأم واحدة قد أرضعتكم فلماذا لا يحب بعضكم بعضاً كأخوة ولماذا تسعون إلى التنازع كأعداء. . .؟ ملعون الإنسان الذي لا يحب أخاه. وأكثر من ملعون هو إن جعل من نفسه عدواً لأخيه. ولذا لعن الملوك والأمراء والعظماء فإنهم لم يحبوا إخوتهم. وعاملوهم كما لو كانوا لهم أعداء. ليحب بعضكم بعضاً وأنتم لا تخشون الملوك والأمراء والعظماء. إنهم ليسوا بأقوى منكم غير متوحيدن في المحبة الأخوية. لا تقولوا إن ذاك من شعب ونحن من شعب آخر فإن الأرض وطن الجميع، فيجب أن يكون الجميع واحداً. تفضي إصابة العضو بأذى إلى تألم الجسم كله، وأنتم هذا الجسم، فتحاشوا وقوع الأذى بالعضو ولا تدعوه يسقط تحت نير، فإن في ذلك سقوط المجموع، ولا تكونوا كذاك القطيع الذي ينقض عليه الذئب فيفترس منه كبشاً حتى إذا عاوده الجوع عاود الافتراس. نعم لا تكونوا كذلك ميلاً منكم إلى الظن بأن افتراس الكبش الأول يعود عليكم بما كان له من النصيب في المرعى، فإنه لظن يؤدي بصاحبه إلى ان يكون الفريسة السائغة لذاك الوحش الذي يروي ظمأه بالدماء ويسد سبغه باللحم. 4 إن صادفتم رجلاً يقاد إلى الإعدام أو السجن، فلا تتسرعوا في

سياحة في إسبانيا

القول بأنه رجل شر يجب أن يبتر، إذ أنه يجوز أن يكون رجل خير قد رغب في خدمة الإنسان فعاقبه مضطهدو الإنسان بالقتل أو بالسجن. وإن رأيتم شعباً دفع مثقلاً بالحديد إلى قساوة جلاده فلا تقولوا بأنه شعب دموي عكر السلام وأثار الاضطرابات فإنه قد يكون صائراً إلى الفناء لخلاص البشرية. تعريب حنا صاده سياحة في إسبانيا عواصم البلاد ومتحفها ومعابدها وآثارها - المكتبة العمومية - سراي الملك والاصطبلات - زيارة الشاعر روستان في جبال كامبو - مصارعة الثيران - لعبة بلوت باسك وعدتكم ووعد الحر دين، أن أوافيكم ببعض الأخبار عن سياحتي في البلاد الإسبانية، وكنت أود كثيراً ان أقوم بالوعد أحسن قيام، لولا شواغل كثيرة تحول دون بلوغ المرام، وما أكثر شواغل الأيام! خصوصاً لمن كان معها في جهاد وخصام. . . ولكني بحمد الله قد فزت الآن بما أرجو بالرغم من العقبات التي حاول أن يضعها في سبيلي ذوو الغايات فأزالتها يد الحقيقة ومهدت لي السبيل. إذا اعتاد الفتى خوض المنايا ... فأسهل ما يمر به الوحول

أختلس هذه الفرصة من وقتي لأحرر لكم ما يجول بالخاطر مما شاهدته النواظر فعسى أن يكون به تفكهة لقراء الزهور وأني أعدكم بتفصيلات أهم وأخبار أتم، عند إنهاء سياحتي في هذه البلاد. إسبانيا بلاد جميلة تشبه كثيراً جبال لبنان بحسن مناظرها وعذوبة مائها وأخلاق رجالها وخلق وعادات نسائها. ولكنها أكثر منه عمراناً، وجبالها أقل منه وهاداً، وبعضها قاحل وأغلبها تكسوه الخضرة الجميلة والأشجار الباسقة وأكثرها من صنف الحور والسنديان والزيتون والصنوبر. وقد يستخرجون من هذا الشجر الأخير المادة الصمغية الموجودة فيه، ويبيعونها بأسعار غالية. أما في بلادنا فلا يستفيد الأهالي شيئاً تقريباً من شجر الصنوبر مع كثرة وجوده. برشلونة: مدينة جميلة جداً وفيها كثير من البنايات البديعة، وشوارعها في غاية الإتقان والانتظام، ومركزها الطبيعي أشبه شيء بمركز مدينة بيروت، تبتدي بناياتها من المرفأ وتنتهي بعلو متتابع إلى جبل عال يحيط بها عن قرب. وفي أعلى ذلك الجبل أقامت شركة إنكليزية بنايات بغاية الإتقان وفنادق وقهوات وتياترات وكنائس ومحلات ألعاب مختلفة وقد سموا تلك القمة إشارة إلى ذلك الجبل العالي الذي صعد إليه الشيطان وقال للسيد المسيح: انظر إلى هذه الممالك التي تحت سلطتي. . . إلخ حينما أراد استغواءه كما جاء في الإنجيل. وفي الحقيقة إن المنظر من ذلك العلو الشاهق من أبدع ما يمكن أن تتصوره الأفكار ومنه تشاهد شوارع البلدة في غاية التنسيق والإبداع تكتنفها الأشجار

من الجانبين بكمال الترتيب. وطريقة الوصول إلى ذلك الجبل بواسطة سكة حديد فينيكيلير كهربائي جليل الفائدة لأنه يسر بواسطة تكافؤ القوى، فعند صعود القطر يوجد قطر آخر ينزل والواحد متصل بالثاني بواسطة شريط واحد. وحين الوصول إلى منتصف الطريق يفترقان بواسطة شريط خصوصي وهكذا يأخذ كل منهما طريق الآخر، فيصل الصاعد والنازل في آن واحد والمسافة التي يقطعها ذلك الفينيكيلير هي 1180 متراً. وبرشلونة هذه بلدة تجارية كثيرة المصانع والمعامل وأهلها أكثر شدة وحماسة من أهالي العاصمة. ولذلك ترى عدد الثورويين في برشلونة أكثر بكثير منه في مدريد. ويوجد فيها كما في كل إسبانيا تقريباً عدد كبير من الكنائس الضخمة الكثيرة الإتقان الدالة على ما وصلت إليه عظمة الدين في الأيام السالفة في هذه البلاد. وأهم الكنائس التي شاهدتها هي في برشلونة وساجوسا (سرقسطة) وبرجس ودير الاسكوريال الشهير بضواحي مدريد الذي فيه بانتيون ملوك إسبانيا وعظماء رجالها وسوف يأتي الكلام عن ذلك. وأما عموم هذه الكنائس فهي أشبه بقلاع متينة ومعارض ومتاحف عظيمة لكثرة ما تحويه من التماثيل والصور البديعة وعواميد الذهب الضخمة والآنية الفاخرة والآثار التاريخية الجليلة. وأما الأندلس ففيها من الجوامع والآثار العربية العظيمة ما سوف نأتي على ذكره بعد. مدريد: عاصمة الإسبان مدينة جميلة أيضاً تمتاز خصوصاً بمعرض

التصوير العظيم الموجود فيها، ويحتوي على أبدع ما خطته ورسمته أيدي البارعين في هذا الفن الجميل. وأكبر البنايات التي شاهدتها بعد قصر جلالة الملك هي البنك الإسباني الملوكي والمتحف ودار الكتب الوطنية. وهما بناية واحدة وقد زرتها وسررت كثيراً بما شاهدته في الكتبخانة الوطنية من الكتب العربية القديمة. وأما مكتبة دير الاسكوريال فهي أهم من مكتبة مدريد وقد عثرت أثناء مطالعتي فيها على الأبيات الآتية التي انقلها لقراء الزهور من باب التفكهة: أحن إلى عتابك غير أني ... أجلك عن عتاب في كتاب ونحن إذا التقينا قبل موتٍ ... شفيت عليك قلبي بالعتاب وإن سبقت بنا أيدي المنايا ... فكم من عاتبٍ تحت التراب كتبت ولو قدرت هوىً وشوقاً ... إليك لكنت سطراً في الجواب غيره: يا رب إن لم يكن في وصله طمعٌ ... ولم يكن فرجٌ من طول جفوته فاشف السقام الذي في طرف مقلته ... واستر ملاحة خديه بلحيته غيره: أغار عليها من أبيها وأمها ... ومن كل من يرنو إليها ويبصر ومن حملها المرآة يوماً بكفها ... إذا نظرت فيها الذي أنا أنظر غيره: حملت مقلتاها مقلتي من الكرى ... فعيني لما ألقاه لم تعرف الغمضا سهرت وأجفاني صحاح فلم أنم ... ونامت ولم تسهر وأجفانها مرضى غيره: بديعة حسنٍ تخجل البدر بهجةٍ ... وتسبي قلوب العالمين بلحظها

تصاممت قصداً كي يطول حديثها ... فيطرب سمعي عند تكرار لفظها غيره: وظبية أسى الورى طرفها ... وحسنها قد حير الناظرين قد كتب الحسن على خدها ... إنا فتحنا لك فتحاً مبين تخاطب الناس على رفعةٍ ... كأنها موسى على طور سين يا قلب إن ملت إلى غيرها ... ما أنت إلا في ضلال مبين غيره: ثلاث هن في البطيخ فخرٌ ... وفي الإنسان منقصة وذله خشونة جلده والثقل فيه ... وصفرة لونه من غير عله وكثير من هذا القبيل مما لا محل لذكره الآن. وأما القصر الملوكي فهو أكثر جمالاً وعظمةً داخلاً وخارجاً من سراي عابدين بمصر. وقد زرت ذلك القصر الجميل بتصريح خصوصي في صحبة نجل الجنرال ميلانس دلبوش قائد فرقة الخيالة والصديق الحميم لجلالة الملك. وهو قائم على رأس رابية في الحد الغربي من المدينة. وعلى الجانب القبلي توجد الاصطبلات والعربخانات الملوكية، وقد زرتها أيضاً ودهشت كثيراً لما فيها من العظمة والغنى. فإن في الاصطبل الملكي 154 حصاناً من جياد الخيل بعضها للحفلات الرسمية وبعضها للأيام العادية والبعض الآخر للحاشية الخاصة، وقسمٌ كبير من الخيل مهدى إلى جلالة الملك من الجمهورية الفضية وملك إنكلترا وبعض الأمراء. وأما العربات فهي على جانب كبير من العظمة، أغلبها محلى بالذهب ومكسو بالحرير الغالي والبرونز الثمين، والعربات الليلية مصفحة داخلاً بالحديد

حذراً من طوارئ الفوضويين حتى أن الديناميت لا يكاد يؤثر فيها. وهناك عربات ملوكية من نحو أربعمئة سنة، وهي كأنها مصنوعة حديثاً لكثرة الاعتناء بها، وأجمل عربة هي عربة مصنوعة كلها من الأبنوس الجميل ومشهورة باسم عربة التي فقدت شعورها حزناً على زوجها ويقال إن حكومة إنجلترا دفعت لحكومة إسبانيا مئة مليون فرنك لتبيعها هذه العربة حرصاً على تاريخها وقدميتها فرفضت. وأما الرياش الجميلة المتنوعة الأشكال والألوان والعدد والأسلحة التابعة للاصطبل فحدث عنها ولا حرج فهي على جانب عظيم من الأهمية. وفي صدر السلم الأول من الاصطبل يوجد صورة كبيرة تمثل جلالة الملك راكباً على جواده، والقواد والأمراء يحيطون به وجواده مكسو بالشراريب العربية كأنه أمير من أمراء العرب الأقدمين. وفي آخر المدينة من الجهة القبلية أنشأت الحكومة حديثاً حديقة كبيرة مترامية الأطراف جميلة التنسيق شوارعها أشبه شيء بملتوياتها بشوارع التي حلت محل القصر العالي بمصر الآن وهو ما يسمونه وهذه الحديقة الغناء كثيرة المرتفعات والمنخفضات تكسوها الخضرة الجميلة وتعلوها الأشجار الباسقة وتتخللها جداول كثيرة من الماء في غاية التنسيق والإبداع. والمقاعد كثيرة لأنها محل نزهة مشهور يقصدها أغلب العائلات

وخصوصاً الأولاد. وعلى جانبي هذه الحديقة شارعان كبيران تسير فيهما المركبات والسيارات. وفي أغلب المواقف ترى تماثيل لطيفة لبعض مشاهير رجال الإسبان. وفي الآخر تقريباً قامت قبة جميلة الصنع تحيط بها من الجهات الأربع عواميد الرخام العظيمة، وفي أعلاها الكرة الأرضية وفوقها غادة حسناء حاملةً إكليلاً من الغار ولوحةً منقوشة مكتوباً عليها الوطن بأحرف ذهبية كبيرة. ويتراءى في هذه الحديقة الغناء وما هي عليه من الكبر مع كثرة منخفضاتها ومرتفعاتها وتكاثف أشجارها وكثرة جداولها واخضرار أرضها أنه في جبال كامبو اللطيفة الشهيرة في فرنسا وهي موطن الشاعر الشهير ادمون روستان. وقد زرته أخيراً في قصره الجميل فقابلني بمزيد الإكرام وأهدى إلي بعض مؤلفاته وكتب عليها تذكاراً جميلاً. وقصر ذلك الشاعر الطائر الصيت قائم على رأس جبل عالٍ تحيط به أشجار كثيفة في حديقة غناء بديعة الإتقان كثيرة الأزهار، وفي وسطها بحيرة كبيرة تحيط بها التماثيل الجميلة، وعلى الجانبين مساكن الطيور المختلفة الأجناس والطاووس بريشه الجميل يسرح بين تلك الأزاهر. ولا بدع إن خطت يد ذلك النابغة أبدع الأشعار وجادت قريحته بأحسن الأفكار لأن الجالس في مكتبة الفاخر يشاهد من جمال المناظر الطبيعية ما يعجز عن وصفه أبلغ الأقلام. ويظهر أن لمدام روستان فضلاً عظيماً في مساعدة زوجها في مؤلفاته الجميلة ولها أيضاً عدة مؤلفات شخصية تشهد لها بطول الباع وعظم

الاقتدار في النظم والكتابة. ويوجد تشابه كبير أيضاً بين أخلاق أهالي تلك الجبال المعروفة بجبال الباسك وأخلاق أهالي إسبانيا عموماً. فإن لكلا الشعبين ورعاً شديداً في الدين وشغفاً عظيماً بكل ما فيه إجهاد القوى البدنية وفنون الفروسية. وأعظم ما يشتهيه الرجل والمرأة والفتى والفتاة هو أن لا يفوتهم مشهد من مشاهد مصارعة الثيران التي يحتفل بها في كل مدن إسبانيا تقريباً وجبال الباسك أيضاً مرة أو مرتين في الأسبوع. ولهذه الحفلات بنايات خاصة من أفخم البنايات الموجودة في هذه البلاد. ففي سان سبستيان مثلاً بناية أنشئت حديثاً لمصارعة الثيران من أبدع البنايات وهي تفوق بكثير كل التياترات ومحلات اللهو الموجودة وتعد بعد الكازينو الكبير وقصر ميرامار الشهير أحسن بناية هناك. وقد حضرت تلك الحفلة مراراً ولا أبالغ إذا قلت أنه في كل مرة لم يكن هناك أقل من عشرة آلاف نفس أو أكثر بالرغم من علو أسعار الدخول التي تتفاوت بين 3 و25 فرنكاً للشخص الواحد ومئتي فرنك اللوجات، ما عدا الجند فإن له محلات مخصوصة بسعر فرنك ونصف فقط. وقد شاهدت بعيني في حفلة واحدة قتلة ستة من فحول الثيران بعد عراك عظيم ومحاولات مؤثرة مع المصارعين. وقد شقت بطون اثني عشر حصاناً بقرون الثيران، ووقعت أشلاؤها على الأرض وكان الفارس يضرب الثور برمحه ويغرسه في ظهره والدماء تسيل منه بكثرة، والصياح والابتهاج، والتصفيق من الرجال والنساء يتصاعد كل مرة كان الثور يرفع

بقرنه الحصان وفارسه فيقع الحصان صريعاً والفارس منجلاً على الأرض. وكذلك حينما يتمكن أحد المصارعين من أن يغرس في ظهر الثور أو في رأسه حربته فيجندله قتيلاً كان الشعب يحيي ذلك المصارع الشجاع بالتهليل ويرميه بالقبعات والمناديل. وهناك خدمة مخصوصون لإرجاع كل ذلك لأصحابه. وحينما كان الثور يهاجم المصارعين فيهربون ويقفزون من فوق أسوار الخشب كان الشعب يقابلهم بالصفير وأصوات الخزي والعار. ولقد سبق واعترض كثيرون على هذه الألعاب شفقة على الخيل كي لا يعرضوها للقتل بمثل تلك الطريقة الشنعاء، ولكن يظهر أنه لا بد من هذه التضحية لأن المصارعين لا يقدرون أن يكون نطح بقرنه الحصان مرتين أو ثلاث ورفعه بفارسه عن الأرض، فعند ذلك تخور عزيمته وتضعف قوى رأسه خصوصاً ويسهل على الفارس صرعه من غير خوف تقريباً. وأما لعبة البلوت باسك التي يعرفها المصريون فهي في إسبانيا وخصوصاً في برشلونة مثل بورصة الإسكندرية وبورصة مصر أيام عزها القديم. فإنهم يعتنون كثيراً بالمراهنات فيها وبطريقة رسمية كأنهم في بورصة تجارية قانونية ورسم الدخول إليها ثلاثة أو أربعة فرنكات. ومن غريب ما سمعته عن هذه البلاد هو أنه يوجد بعض أديرة للرهبان تتعهد بأن تضع تلميذاً في إحدى المدارس الداخلية أو شيخاً في أحد ملاجئ العجزة مقابل مليون ورقة من ورقات الترامواي المستعملة

أين أريد بيتي

أو خمسمائة ألف ورقة من ورقات الإعلانات المنتشرة وأربعمائة ألف عود كبريت من العيدان المستعملة وهلم جراً على حسب أهمية الأشياء التي يقدمونها لها. ولذلك ترى كثيراً من النساء والبنات والأولاد يجمعون مثل هذه الأشياء لتقديمها لتلك الأديرة طمعاً بعمل الإحسان أو للاسفتادة شخصياً. ولم أجد بلاداً في أوروبا يجلس بها القسوس في القهوات ويغازل الجند النساء مثل إسبانيا فإني في كل المحلات العمومية التي قصدتها كنت أجد عشرات من الجند برفقة حليلاتهم أو خليلاتهم يغازلنهن علناً بكل احتشام. مدريد 15 أغسطس 1911 نجيب زلزل أين أريد بيتي أريد بيتي هناك عند منحر الرابية، تحت الأشجار المخضلة، مثل عش العصفور المبني في وسط غيضة من الزعرور الملتف فلا أحوطه بالفنادق الكبيرة ولا بالبساتين الواسعة بل بالزهور، تلك العطية السماوية الجميلة تكون منشورة في كل جوانبه، والكرمة البتول تبسط عليه في الربيع ستاراً أخضر واسعاً لترد عنه حرارة الشمس. أما بيتي هذا فلا أريده يتراءى في مياه نهر كبير، بل يكفيني غدير صغير صاف ينساب فوق سرير لؤلؤ من الحصى، ويمر تحت نوافذي، فأقعد ساعات طويلة أسمع أنينه اللطيف وأصغي إلى الأصوات الخفيفة المسلية التي تصعد من المياه غير خائف أن تنقطع سلسلة تأملاتي أو أن

في رياض الشعر

ألهو بحركة غريبة. وأما أفقي فأرضاه عليقة تأتي الأولاد فتقطف ثمارها. فإذا كان بيتي كذلك فحدث ولا حرج عمن يقاسمني وحدتي من الطيور التي تلذ معاشرتها، فتأتي السنونو في الربيع فتسلم على بيتي وزقزقتها المفرحة وتطلب فيه منزلاً فتحل فيه على الرحب والسعة وكون أحسن جليس وخير أنيس، ثم يفد البلبل الغرد ويلتجي إلى غباضتي المنفردة في عشيات الصيف الجميلة ويقيم طويلاً مترنماً بنغماته الشجية الملائكية فلا أضيع منها نغمة واحدة. فهناك - إذا تم لي ذلك - في وسط تلك الوحدة اللذيذة التي يؤنسها حفيف الأشجار وتغريد الأطيار وخرير الأنهار، هناك هناك في وسط تلك الطبيعة الساكنة البعيدة عن شر الإنسان أقضي حياتي بهدوء مسامراً العصافير ومغازلاً جمال الطبيعة وممجداً الخالق العظيم ومنتظراً ملاك الموت. فيليب الجميل في رياض الشعر أبناء الحكماء أتقضي معي إن حان حيني تجاربي ... وما نلتها إلا بطول عناء ويحزنني أن لا أرى لي حيلة ... لإعطائها من يستحق عطائي إذا ورث المثرون أبناءهم غنى ... وجاهاً فما أشقى بني الحكماء حنفي ناصف

قومندان فسم أورطة السكة الحديدية في حلفا (السودان)

نبغ في الجيش المصري أدباء أعلام خدموا في آن واحد دولتي السيف والقلم فأعادوا لنا عهد الفرسان الشعراء نذكر منهم الآن حافظ إبراهيم ومحمد فاضل وعبد الحليم المصري وصاحب هذا الرسم. وقد عرفهم كلهم قراء الزهور مما نشروا في هذه المجلة. وسنعود إلى هذا الموضوع بالتفصيل في عدد آت. شيخ يعاقر الخمر لولا الهوى وبواعث الأشجان ... لجفوت بعد الشيب بنت الحان لكنني دنف الفؤاد معذبٌ ... بلحاظ ساقٍ فاتر الأجفان لولا المدام يكفه لأرقتها ... وسقيته من أدمعي وسقاني فلقد ضنيت من المدام وشربها ... وحكيت ناحل جسمها وحكاني في الكأس بعد الكأس ضاعت ليلتي ... والليل بعد الليل ضاع زماني ألقت علي الخمر في شرخ الصبا ... من شيبتي كفناً من الكتان كم تحسبون سني حياةٍ عشتها ... كم في فمي باق من الأسنان أنا ما بلغت الأربعين وإنما ... إدمانها لم يبق غير لساني أتلفت فيها ضيعتي وأضعت من ... زل أسرتي ورضيت سكنى الحان وصرفت أيامي على ندماتها ... والعمر خير ذخيرة الإنسان مقبورة في الدن نتن ريحها ... ممقوتة في العقل والأديان فترى الوقور إذا تناول كأسها ... متغني متمايل الأركان ويكاد يحسب أمه عرساً له ... ويرى الصلاح عبادة الأوثان إن قيل أرقصت الحزين مسرة ... فاسلم بعقلك ذاك من الجان أو قيل حمرة كأسها فلأنها ... ملئت دماً من مهجة السكران

وأقول والساقي يدور بكأسها ... كم يفتك الإنسان بالإنسان عجباً لبائعها بنفس مريدها ... ولمشتريها كيف يتفقان حلفا محمد توفيق علي ضابط بالجيش زهير وهند أو الغيرة تجدد الحب رآها بعد أن صدت وصدا ... وجدّت في مغاضبةٍ وجدّا فهمّ بأن يطارحها سلاماً ... ولكن الإباء له تصدّى وهمّت أن تناجيه ولكن ... أصابت من رصانتها مردّا تذكر ما مضى وتذكرته ... فلم يجدا من الصعداء بدّا وذكرى ما يسر تهيج عطفاً ... وذكرى ما يسوء تهيج صدّا وتبرم تلك عهد هوى قديم ... وتنقض هذه للحب عهدا فطوراً يرفعان الطرف حباً ... وطوراً يغضبان الطرف حقدا وحيناً يطلب القلبان قرباً ... وحيناً تبتغي النفسان بعدا * * * وحانت نظرة منه إليها ... فلم ير مثلها عيناً وخدا وخال الصبح ينسج من ضياء ... لها بأنامل النسمات بردا وخال الروض يلثمها غراماً ... ويترك في مكان اللثم وردا وظن فؤاده شطرين أضحى ... كلا الشطرين للحسناء نهدا وحانت نظرة منها إليه ... فلم تر مثله وجهاً وقدّا * * *

وحيّت غادة حضرت زهيراً ... وحيا هند ذو غيدٍ تبدّى فغارت هند ممن زاحمتها ... وغار زهير ممن ود هندا فقال هي الحبيبة لا سواها ... وقالت إنه بالروح يُفدى * * * وحين خلا المكان رأى زهير ... حبيبته تكاد تذوب وجدا ولم تمهله إن عطفت عليه ... تطوّق جيده الوضاح زندا فقبّل نحرها فاحمر حتى ... كأن من العقيق عليه عقدا وقالا ليس فوق الأرض حرٌّ ... إذا هو لم يكن للحب عبدا أمين ناصر الدين ملحق بالشوقيات أهدى إلينا شاعر من أصدقاء الزهور وعشراء شوي في عهد الصبا الأبيات الآتية وكان قد نظمها شاعر الأمير في مدح المغفور له توفيق باشا الخديوي السابق. ولم نعثر لها على أثر في الشوقيات بل وجدنا هنا أبياتاً من وزنها وقافيتها، أما الأبيات المفقودة فهي: مضنى وليس به حراك ... لكن يخف إذا رآك ويميل من طرب إذا ... ما ملت يا غصن الأراك إن الجمال كساك من ... ورق المحاسن ما كساك فنبت بين جوانحي ... والقلب من دمه سقاك ليت اعتدالك كان لي ... منه نصيب في هواك يا ليت شعري ما أما ... لك عن هواي وما ثناك ما همت في روض الحمى ... إلا وأسكرني شذاك

والقلب مخفوض الجنا ... ح يهيم فيه على جناك يا يوسفاً في الحسن عط ... فاً بالعزيز على فتاك يا أيها المولى العظي ... م حباك ربك ما حباك لك أرض مصر ونيلها ال ... وافي المشير إلى غناك يجري بأمرك مثلما ... تجري يداك لنا نداك ومنها: يا قصر رأس التين ما ... أحلى سناءك في سناك إنا رأينا للندى ... ظلاً يرف على ذراك لم يلتق البحران وال ... قمران إلا في حماك بدر الزمان وشمسه ... في الخدر تحجبها سماك ومنها: لما سعت لرحابك السا ... دات لاثمة ثراك رفع الحجاب فقمت في ... نا تستجيب لمن دعاك إن شئت منثوراً فمر ... أو شئت منظوماً فهاك قل يا فتى الشعراء قل ... لا فضت الأيام فاك النهود بين صاحب اليتيمة والعازار والمطران جاء في اليتيمة قوله: في صدرها حقان خلتهما ... كافورتين علاهما ند

مدارس البنات

وقال الشيخ إسكندر العازار: حقاق من العاج قد ركبت ... على صحن صدر من المرمر خشين السقوط فأثبتها ... بشبه مسامير من عنبر وقال خليل مطران في قصيدة له عن فتاة حاربت في صفوف الرجال مخفية أنوثتها تحت بزة الفرسان وبعد أن أبلت البلاء الحسن قبض الأعداء عليها وهم يحسبونها فتى عنيداً ولشد ما كانت دهشتهم حين خلعت بزتها وأبرزت نهديها وهما على ما يصفهما الشاعر بقوله: فأقصى الفتى عنه حراسه ... وشق عن الصدر ما يرتدي وأبرز نهدي فتاةٍ كعاب ... بطرف حيي ووجه ندي كحقي لجين بقفلي عقيق ... وكنزين في رصد مرصد فكبر مما رآه الأمير ... وهلل كل من الشهد وراعهم ذانك التوأمان ... وطوقاهما من دم الأكبد ووثبهما عندما أطلقا ... إلى خارج الدرع والمجد كوثب صغار المها الظامئات ... نفرن خفافاً إلى مورد مدارس البنات قد لفتت حالة فتيات مصر وما هن عليه بالنسبة إلى أخواتهن في البلاد الأوروبية انتباه المفكرين إلى ضرورة إنشاء المدارس لهن، وانتشرت جذوة هذه الفكرة بين طبقات الأمة، فبادر الجميع إلى تحقيقها، وأنشئ في وقت قصير بعض المدارس لهذه الغاية. ولذلك

أحببت أن أجيء بهذه الأسطر مبينة بها حالة مدارسنا الحاضرة ليعمل مؤسسو المدارس على ملاقاة هذا الخلل، فيفوز بالغاية التي يرمون إليها من وراء إنشاء هذه المعاهد. إن مدارس البنات في مصر ينقصها أشياء كثيرة، إن لم أقل إن ما ينقصها هو أهم ما وجدت لأجله. وذلك لأن المديرات سرن في تنظيم مدارسهن على طريقة لا تؤدي إلى الغاية المرموقة بل ربما كان القصد من إنشاء بعض مدارسنا الربح أو إنقاذ غاية أو لسبب آخر. وجدت المدارس لتربية الأخلاق، وتثقيف العقول منذ الصغر إذ يسهل في ذلك العهد تكييفها بالكيفية التي يريدها من يتولون أمرها. فلذلك ليس الحمل الملقى على عاتق مديرات المدارس ومعلماتها بالحمل الخفيف بل هو عبء ثقيل كما لا يخفى على بصير. تأتي الابنة للمدرسة تصحبها والدتها أو ولية أمرها، فتقابلها الرئيسة بوجهٍ باش مرحبة، مطنبة بوصف ما تبذله لتعليم تلميذاتها وتهذبهن، وهو وصف نظري جميل لو حققه العمل، تقول: مدرستي ليست كسائر المدارس، أنا أعلم تلميذاتي قبل كل شيء علم ترتيب المنزل والخياطة وباقي الأشغال اليدوية والقراءة والكتابة إلخ إلخ، وإن شاء الله في نهاية هذه السنة المدرسية سترين ابنتك قد اكتسبت الشيء الكثير وأمكنها في عطلة الصيف القادم أن تساعدك في تدبير أمور البيت. فتخرج الأم والأمل ملء صدرها وقد طربت لهذا الوصف، وتدخل الابنة إلى المدرسة فتقضي فيها سنتها، ومتى جاءت عطلة الصيف

ورجعت الابنة إلى منزل والديها، تكون قد نسيت ما اكتسبته من أمها أو إذا كان قد خصها الله بمواهب الذكاء النادر ترجع إلى البيت كما كانت. البروجرام الذي تلته الرئيسة جميل ولطيف وقد أفعم قلب الأم فرحاً. فما سبب عدم تقدم التلميذة؟ قد يجوز أن تكون السنة الأولى سنة إعدادية لا يعول عليها فعسى أن تجيء السنة الثانية بنتيجة أحسن. تجيء السنة الثانية كالأولى والثالثة كالثانية، وتخرج الفتاة من المدرسة وهي لم تستفد إلا الشيء القليل الذي لا يكاد يذكر. فأين هي من ذلك البروجرام البديع! هل كان يا ترى حبراً على ورق أو علالة تعلل بها الأمهات؟ لم ننكر أن البروجرام كان جميلاً ولكن لم توفر المدرسة أسباب تنفيذه بإيجاد المعلمات ذوات الكفاءة لأن هم الرئيسة الأول كان إيجاد معلمة براتب طفيف. فلذلك نستنكر إنشاء المدارس للربح لأن المتاجرة بمعاهد التربية حرام، والغبن واقع على الفتاة أم المستقبل، فتخرج من المدرسة حيث قضت السنين الطوال ترتقي من صف إلى صف وقد اكتفت من العلوم بالقشور، فتعرف من النحو والصرف صعوبتهما، ومن الفلك والكيمياء اسمهما، ومن الطبيعيات غرابتها وقس على ذلك، هذه حالة معظم فتياتنا المتعلمات، وإن كان هناك فئة منها تنبغ في الدرس وتشرف المدرسة التي ربتها، على أن القليل لا يقاس عليه. وهذه حالة أكثر مدارسنا وإن كان هناك مدارس قد بلغت من التقدم شأواً بعيداً كبعض مدارس الراهبات والإنكليز. هذه هي المسألة الخطيرة التي يجب على المفكرين وقادة الرأي العام

أحمد عرابي

أن يحلوها محل النظر، فيولوا مدارس البنات شطراً من الاهتمام الذي يوجهونه إلى مدارس البنين، فتسعد البلاد برجالها الصالحين ونسائها الفاضلات. (مصر) لويزا خوري أحمد عرابي

ثار عرابي ثورته سنة 1882. فكانت من أهم الحوادث شأناً في تاريخ مصر الحديث، بل من أعظمها تأثيراً في السياسة الأفريقية. وقد مر عليها ما يناهز الثلاثين سنة وهي لا تزال تبدي لنا نتائجها المختلفة. أما شهرتها في الشرق وخصوصاً في القطرين المصري والسوري فهي تفوق كل شهرة سواها، وقد اتخذها العامة للتأريخ فيقولون مات فلان أو ولد فلان أو حدث ذلك سنة عرابي. في 21 من سبتمبر الماضي غادر هذه الحياة موقد نار تلك الثورة الذي يرى القارئ رسمه في هذه الصحيفة، وكان قد غادر حياة السياسة منذ بضع عشرة سنة. . . ولد أحمد عرابي في قرية هرية رزنة في مديرية الشرقية حوالي سنة 1248 هجرية من أبوين عربيين ودرس القراءة والكتابة على المعلم ميخائيل غطاس صراف تلك الناحية مدة خمس سنوات، ثم دخل المدرسة العسكرية وطرد منها بعد سنتين فالتحق بالأزهر حيث قضى أربع سنوات. وكان سعيد باشا والي مصر يبحث عن أولاد الفلاحين ليعلمهم ويوليهم الوظائف فدخل عرابي العسكرية ثانية وأظهر من الصفات ما مكنه من الوصول إلى رتبة بكباشي في سنين قلائل. وكان في هذه الرتبة على أول عهد إسماعيل باشا ولكنه اختلف مع رئيسه خسرو باشا فحكم عليه بالتوقيف 8 أيام، فلم يمتثل لأن الضباط الوطنيين كانوا قد تشعبوا بالكره للجراكسة والترك بحجة أنه ما كان واحد منهم يرقى إلى أكثر من رتبة أميرلاي. فانضم عرابي إلى جمعية سرية ألفها علي الروبي لمعاكسة الجراكسة. ولما أرسل إسماعيل باشا

الحملة إلى الحبشة، عين عرابي مديراً للنقل في مصوّع. فنقص المال الذي بعهدته 400 جنيه فعد الضباط المصريون اتهامه وشاية من الجركس، فعزله إسماعيل باشا من الجيش. فانصرف إلى خدمة الجمعية السرية بين العساكر وفي الأزهر فخشي علي مبارك باشا العاقبة فأشار إلى إسماعيل باشا بأن يستميل عرابي ورفاقه باللين ففعل ورقى 70 ضابطاً إلى رتبة قائمقام ومنهم عرابي. ولما تولى توفيق باشا أنعم عليه برتبة أميرلاي. وبعد قليل اختصم مع ناظر الجهادية عثمان باشا رفقي على قانون القرعة بحجة أنه يحول دون تقدم الوطنيين وأخذ مع علي فهمي وعبد العال حلمي بالسعي ضد الجركس والترك حتى استمالوا إليهم الجيش. ولما وثقوا من ذلك قدموا عريضتهم المشهورة إلى رياض باشا رئيس النظار فطردهم. ثم ارتأى أن يحاكموا في قصير النيل فأبلغهم محمد سامي البارودي الخبر فاتفقوا مع الآلاي المعسكر بعابدي على أن يسرع لنجدتهم. أما دعوتهم إلى قصر النيل فكانت بحجة الاحتفال بعرس إحدى الأميرات وما كاد يصدر عليهم الحكم بالحبس حتى وصلا الآلاي وضرب أمام قصر النيل نفير الحريق فخرج عساكر قصير النيل لإطفاء الحريقة ودخل عساكر قشلان عابدين قصر النيل وخلصوا عرابي ورفيقيه وفر ناظر الجهادية. وعاد عرابي إلى عابدين فائزاً وطلب من الخديوي عزل ناظر الجهادية والعفو عنه وعن زميليه وتعيين محمود سامي البارودي ناظراً للجهادية، فأجاب مطالبهم. وكان ذلك فاتحة كل الشرور لأن الحزب تهور كثيراً

حتى أن عربة نقل داست عسكرياً في الإسكندرية فحملوا العسكرية إلى رأس التين وأخذوا يطالبون الخديوي بدمه فعزل الخديوي ناظر الجهادية وعين داود باشا لهذا المنصب، فأمر داود باشا بنقل آلاي القلعة وآلاي الإسكندرية، فزاد هياج العرابيين وأعدوا العرائض يطلبون فيها الإصلاح وقدموها للخديوي وهو مع القناصل في عابدين. فوعد بالنظر فيها. ثم زار ثكنات العساكر ولما وصل إلى ثكنة عرابي بالعباسية لم يجده فيها. وعاد إلى عابدين فإذا بعرابي قد صف الجيش في الساحة وهو مستل سيفه يهدد السراي، فأطل عليه الخديوي وطلب منه أن يتقدم فوصل إلى باب السراي على جواده وسيف مسلول والضباط محيطون به فأمره الخديوي بإغماد سيفه ففعل ونزل عن جواده فسأله الخديوي: لماذا تفعل ذلك؟ فأجابه: لأنال خمسة أمور، الأول إسقاط الوزارة والثاني تأليف مجلس نواب والثالث زيادة عدد الجيش والرابع إنفاذ قانون العسكرية الجديد والخامس عزل شيخ الأزهر. فطلب القناصل من الخديوي أن يعود إلى قصره وقال قنصل الإنكليز لعرابي إن إسقاط الوزارة من خصائص الخديوي، وزيادة الجيش لا تسمح بها الميزانية، وعزل شيخ الأزهر لا يمكن أن يكون بلا سبب، وإنفاذ قانون العسكرية ينظر فيه مجلس النظار، وتأليف مجلس النواب من خصائص الأمة لا الجيش. فرد عرابي أنه يطلب ذلك كله بالنيابة عن الأمة وهذا الجيش أولادها وأنه لا يبرح مكانه حتى ينال مطالبه. فقال له القنصل ماذا تفعل إذا لم تجب مطالبك. فقال: عندي مليون شاب وليس لأحد أن

يتداخل بشؤوننا الداخلية. فعاد القنصل وتقرر بعد ثلاث ساعات من التباحث إجابة المطالب تدريجاً إلا مجلس النواب فإنه يؤخذ رأي الباب العالي بشأنه، فأصر عرابي على إسقاط الوزارة فسقطت وألف شريف باشا وزارة جديدة، ونقل آلاي عرابي إلى رأس الوادي وآلاي عبد العالي إلى دمياط. ولما رأت الحكومة أن عرابي يبث روحه في الشرقية نقلته وكيلاً للجهادية فاشتغل حتى عزل الشيخ العباسي من مشيخة الأزهر وعين الشيخ الإمبابي بدلاً منه. ونفذت كل المطالب وتألف مجلس النواب. ولكن المراقبين على الميزانية وهما الفرنساوي والإنكليزي أبيا على مجلس النواب النظر في الميزانية، وسقطت الوزارة لهذا السبب، فألف محمود سامي الوزارة الجديدة واختار عرابي ناظراً للجهادية. فنفذ قانون الضمائم والمعاشات وعزل 600 ضابط شركسي وتركي، وأرسل الآخرين إلى السودان وسجن 40 ضابطاً كبيراً وفي مقدمتهم عثمان باشا رفقي بتهمة المؤامرة فحكم عليهم بالتجريد من رتبهم وبإبعادهم إلى السودان فأبى الخديوي التصديق على هذا الحكم. ثم تفاقم الأمر وعرضت رئاسة النظار على مصطفى فهمي باشا فأبى قبولها. وأرسلت إنكلترا وفرنسا مراكبهما الحربية. فطلب الأسطولان عزل الوزارة وإبعاد عرابي وعبد العال وعلي فهمي، فاحتجت الوزارة على ذلك، ثم سقطت في 26 مايو 1882 وقبل شريف باشا تأليف وزارة جديدة. وورد تلغراف من آلاي الإسكندرية بأنهم لا يقبلون ناظراً للجهادية غير عرابي فأبقي في وزارته ريثما يصل الوفد الذي أرسله السلطان.

وأرسل إلى القناصل يتعهد بحفظ الأمن بشرط إبعاد الأسطولين من المياه المصرية. وأخذ عرابي يسعى لخلع توفيق باشا وتولية حليم باشا وتحصين المرابط المصرية. ووصل الوفد المرسل من الأستانة فشجع عرابي. وفي 11 يونيو 1882 اختصم حمار ومالطي في الشارع الإبراهيمي بالإسكندرية فنجمت عن ذلك فتنة شديدة عقبتها مذبحة وتمارض قومندان الضابطة السيد قنديل وطلب المحافظ عمر باشا لطفي من أميرلاي الجند سليمان داود إرسال العساكر لإخماد الفتنة فأجاب أنه لا يفعل إلا إذا تلقى أمراً من عرابي. وبلغ عدد الجثث التي التقطت من شوارع الإسكندرية 600 جنيه وهاجر في ذلك الأسبوع نحو 200 ألف. وفي 13 يونيو سافر الخديوي إلى الإسكندرية، وأسقط وزارة شريف وألف وزارة راغب باشا، فظل عرابي فيها وطلبت هذه الوزارة العفو عن المجرمين، وأنعم السلطان على عرابي، فازدادت حماسة الحزب. وتخلل ذلك مساعي الدول لعقد مؤتمر في الأستانة فسوّف الباب العالي وماطل. أما عرابي فإنه تولى قيادة 9 آلاف جندي في الإسكندرية وأخذ بإقامة الحصون فاتخذت إنكلترا ذلك حجة وضربت الثغر فجأة فبدأ ضربها في الساعة 7 صباحاً وظل حتى الواحدة والنصف بعد الظهر (11 يوليو 1882) وتولى الرعاع أمر المدينة فأحرقوها وأحاط 400 جندي بسراي الخديوي بالرمل ليحرقوها، ولكن عرابي منعهم، ومكث أحد البكباشية مع 250 عسكرياً على ولاء الخديوي وأرسل الأميرال سيمور ثلاث سفن لحماية السراي وارتد عرابي وعساكره إلى كفر الدوار وأعلن راغب

أزهار وأشواك

باشا عصيانه وطلبه الخديوي إلى رأس التين فأجاب أنه لا يطيع إلا إذا سافر الأسطول الإنكليزي. وقرر أعيان القاهرة استمرار الحرب وصدر أمر الخديوي بعزل عرابي ولكن مجلس الأعيان في العاصمة قرر إبقاءه. وكان جيش عرابي بكفر الدوار مؤلفاً من 4 آلايات مشاة وآلاي فرسان وآلاي طوبجية وبطارية مدافع، وأرسلت إليه المديريات 25 ألفاً والعربان أفواجاً عديدة. وبعد ذلك أصدر الباب العالي منشوراً بعصيان عرابي. وفي 20 و21 و22 أغسطس هاجم الإنكليز كفر الدوار وأخذوا بإنزال عساكرهم بالسويس فذهب عرابي إلى الوادي وبدأ القتال في 23 أوغسطس وفي 12 سبتمبر هجم الإنكليز قبل الفجر على التل الكبير فانهزم العساكر وفر عرابي إلى مصر وتبعه الجيش الإنكليزي وفي 14 سبتمبر دخل الإنكليز القاهرة وفي 15 سلم لهم عرابي فسجنوه في العباسية ثم حوكم فحكم عليه بالإعدام واستبدل الحكم بالنفي فنفي إلى سيلان ثم صدر العفو عنه فعاد إلى مصر سنة 97 مع رفاقه وأجرت الحكومة عليه 60 جنيهاً في الشهر وسكن بجهة الناصرية حيث توفي. أزهار وأشواك فلسفة العيد كان في الشهر الماضي ختام صوم رمضان وحلول عيد الفطر المبارك فأقيمت الأفراح والزينات وأقفلت المصارف والدوائر والمحلات التجارية

فاشتركت الأمة بأسرها في هذا العيد لا فرق بين المسلم والنصراني ولا النزيل والوطني، فكان ذلك مما تسر له خواطر محبي السلام، لاسيما في هذه الأيام حيث كثرت مشاغبات دعاة التفريق والخصام. وكان منظر الأولاد، وقد اشتركوا في العيد، من أبهج المناظر لأن روح التحزبات والغايات لم تنفث سمها في صدورهم الطاهرة. فرددنا قول شوقي: فهذا بعلبته يزدهي ... وهذا بحلته يفخر وهذا كغصن الربى ينثني ... وهذا كريح الصبا يخطر إذا اجتمع الكل في بقعةٍ ... حسبتهم باقة تزهر أو افترقوا واحداً واحداً ... حسبتهم لؤلؤاً ينثر فلاسفة كلهم في اتفاق ... كما اتفق الآل والمعشر ولا لغة غير صوت شجي ... كروض بلابلة تصفر ولا يزدري بالفقير الغني ... ولا ينكر الأبيض الأسمر فيا ليت شعري أضل الصغار ... أم العقل ما عنهم يؤثر سؤال أقدمه للكبار ... لعل الكبار به أخبر لا والله لم يضل الصغار، فليقتد بهم الكبار. الجوق العربي مديره عبد الله عكاشة، وقد جمع وإخوته إلى رخامة الصوت حسن الاستعداد. وواضع رواياته إلياس فياض، الشاعر والكاتب المعروف بالرقة والطلاوة. ومسرح تمثله التياترو المصري، وقد أُلبس حلة جديدة من الرواء بإدارة صاحبه إسكندر فرح وأخيه توفيق وأعضاؤه أفراد

جوق الشيخ سلامة، وهو أحسن جوق عرفناه. ومتعهد ملابسه كيريني، متعهد ملابس الأوربرا الخديوية. فكل أسباب النجاح متوفرة، كما ترى، لهذا الجوق العربي الذي بدأ بإحياء لياليه في منتصف الشهر الماضي. . . . نحن لا نقول إن الجوق قد بلغ آخر مراحل الكمال، فهذا ما لا يراضه منا مديره الأديب. ولكننا نشهد أنه باذل همة تشكر في سبيل إرضاء الفن وحق القيام بشروطه ولا جدال في أنه قد خطا خطوة واسعة في ترقية التمثيل العربي. ولذلك نحن نصفق له كما صفق له الذين حضروا لياليه في مدن القطرين المصري والسوري. ضفرت باقة من أزهاري للقائمين بهذا المشروع. ولابد من تسديد بعض الأشواك إلى مرتادي مسارحنا العربية. يذهب الواحد منا إلى التياترو الإفرنجي، كالأوبرا او برنتانيسا مثلاً، فلا يجيز لنفسه الحضور بغير ملابسه الرسمية السوداء، فيجلس كما يشاء الأدب، ولا يدخن إلا في المجل المعد للتدخي. حتى ترى فيه الجنتلمن الكامل. وأما إذا رأيت هذا الشخص ذاته في تياترو الشيخ سلامة أو التيارو المصري، وهما لا يبعدان عن الأوبرا وبرنتانيا إلا بضع مئات من الخطوات، فإنك لا تكاد تعرفه، وقد جلس ومد رجليه على كرسي جاره، وأولع سيجارته، بالرغم من الحروف المرقومة على الجدران ممنوع التدخين أو اشتغل بقزقزة اللب بل تسمعه يقهقه ضحكاً في أشد المشاهد تأثيراً حتى يضايق الممثلين أيما مضايقة. . . فإلى متى نحن نحتقر أنفسنا؟ وما دمنا كذلك، فكيف نطلب من الأجانب أن يحترمونا. . .

كتشنر والفأر تهمني السياسة بقدر ما تهم أسعار البورصة فراشة الحقل، أو بقدر ما تهم أزهاري وأشواكي إمبراطور الصين. ولذلك لست بمحدّث

ثمرات المطابع

قرائي عن المعتمد الإنكليزي الجديد إلا على سبيل الفكاهة. . . روي، والله أعلم، أن لورد كتشنر أوف خرطوم، لما كان قائداً للحملة السودانية، دخل إلى مضربه في أحد الأيام وقد اشتد عليه التعب والحر، وأوصى الجندي السوداني القائم على خفارته أن لا يدع أحداً يصل إليه لأنه في حاجة إلى قليل من الراحة. انطرح القائد بملابسه على مضجعه العسكري ونام، وبينما هو كذلك إذا بطلقين ناريين قد دويا في جانبه، فأفاق مذعوراً وهرول إلى خارج الخيمة وهو يظن أن العدو قد هاجم المعسكر على حين غفلة. فرأى الخفير والبندقية في يده، والابتسامة على شفتيه، فسأله عما هناك فأجاب: الرصاصة الثانية كانت القاضية عليه. . . . هو فأركان يحاول الدخول إلى الخيمة فخفت أن يزعج مولاي في رقاده. مغزاه: سيرى العميد كثيرين من الزعماء يطلقون النار حوله - كالخفير - من أجل فأر، بغية راحته. حاصد ثمرات المطابع التشخيص الجراحي - لما تكلمنا عن رسالة الحمل خارج الرحم (زهور سنة أولى ص 549) التي وضعها حضرة العالم الدكتور محمد أفندي عبد الحميد طبيب مستشفى قليوب، أثينا على همة المؤلف لنشره مثل هذه الأبحاث العلمية في اللغة العربية ورجونا من حضرته متابعة طبع

مثل هذه الكتب المفيدة. ولم يمض على ذلك بضعة أشهر حتى تحف الدكتور عبد الحميد العالم الطبي بمؤلف نفيس هو الذي نحن الآن بصدده، وقد استخلصه من أربع مؤلفات إنكليزية تعد من خير ما كتب في هذا الموضوع فجاء كافياً وافياً، وتناول تشخيص الإصابات كافة وما يطرأ عليها من المضاعفات كإصابات الرأس والعمود الفقري والمسالك الهوائية والحنجرة والصدر والبطن والحوض والمفاصل وأعضاء التناسل إلخ مع أبحاث مستوفاة في كل أنواع الخلوع والكسور والأورام والقروح. ومن يتصفح هذا الكتاب الضخم يدرك ما بذله صاحبه من العناية والتدقيق وتكبده من النفقات ليقدم لقراء العربية هذا السفر الثمين الذي كانوا بحاجةٍ قصوى إليه. فإذا هم أقبلوا على اقتنائه فإنهم لاشك واجدون فيه من الفوائد والمنافع ما لا يعد ثمنه شيئاً بجانبه. فلا يسعنا إلا إسداء الشكر الحميم للدكتور عبد الحميد الذي عرف كيف يخدم أمته وبلاده الخدمة الحقيقية، وهذا ما سمعناه من الكثيرين. وقاية الشبان من المرض الإفرنجي والسيلان - وجاءنا كتاب طبي آخر ورد علينا من الديار الأمريكية لمؤلفه حضرة النطاسي الدكتور سعيد أفندي أبي جمره صاحب جريدة الأفكار البرازيلية، وقد بحث فيه بحثاً دقيقاً عن الأمراض الزهرية - المشتق اسمها من الزهرة آلهة الحب والجمال - وأورد تاريخها في العالم عموماً وفي الشرق خصوصاً ودخولها إلى بلادنا مع حملة بونابرت إلى القطر المصري

سنة 1789 وامتدادها إلى القطر السوري لكثرة المعاملات بين القطرين وتسميتها بالمرض أو الحب الإفرنجي لأن مصدرها الإفرنج. ثم وصف كل أنواع هذه الأمراض وصفاً طبياً مع طرق معالجتها والوقاية منها، وسهل فهم كل ذلك بالصور والرسوم فخدم بذلك الشبان خدمة كبيرة عساهم أن يجدوا فيه ما يكفيهم شر هذا المرض الفتاك. يا حسرتي عليك يا زعيتر - اشتهر شكري أفندي الخوري الكاتب الظريف بلطف أسلوبه وخفة روحه في الكتابة. وجريدته أبو الهول التي تصدر في البرازيل تشهد له بذلك وقد امتاز على زملائه بالتعويل على اللغة العامية لإفهام الشعب ما يريد من الحقائق الأدبية والعمرانية. وله في عالم التأليف كتب لطيفة من هذا القبيل أشهرها رحلة فنيانوس. وإذا كان كتابه الأخير الذي أهداه إلينا أخيراً ينقص عن أسلافه من حيث الطبعية في اللهجة والحديث فهو لا يقل عنها مطلقاً من حيث دقة الملاحظة وقوة الوصف وشدة الانتقاد. وقد ذكر لنا فيه حكاية زعيتر - وهو قروي لبناني يهاجر إلى أمريكا بلاد الذهب - وما يصادفه أثناء هذه الرحلة من الحوادث والأمور الغريبة. ولا يسعك إلا أن تقهقه ضحكاً عندما تطالع حكاية هذه النوادر وهي بسيطة بحد نفسها ولكن قلم شكري الخوري يلبسها حلة ترتاح إليها النفس. وهو يذكرنا من حيث دقة الملاحظة والنقد بقلم فارس الشدياق، وإن كان بين إنشاء الكاتبين بون عظيم. وهو يشبه

رواية الشهر

تيودور بوترل وفردريك مسترال من حيث وصف عادات البلاد والتغني بجمالها، والحث على الاحتفاظ بتقاليدها. غرازيالاّ - كتاب ثالث جاءنا من البرازيل في هذين الشهرين فلا يسعنا إلا الثناء على همة كتابنا الأدباء الذين هاجروا إلى أقصى الأمصار وباتوا ينشرون فيها لغتنا العربية. . . وغرازيالا هي الرواية الفلسفية الأخلاقية الغرامية التي ذاع صيتها في عالم الأدب الفرنسوي، ولا عجب فهي من أرق ما خطت يمين الشاعر الشعير لامارتين. وقد نقلها إلى العربية الأديب إسكندر أفندي كرباج. وكنا نود لو كان أكثر أمانة في الترجمة وأمتن سبكاً في التعبير لئلا يفقد شيء من جمال الأصل وطلاوته. على أن من مؤلفات لامارتين - كما في مؤلفات كل نوابغ الكتاب - صفحات قد يعجز عن تأديتها حقها من الترجمة أقدر المترجمين ولذلك نحن نقدر عمل مترجم غرازيالا حق قدره، فهو أجل وأشرف من ترجمة القصص التافهة. رواية الشهر أوله لهو وآخره قتل كان في فلورنسا تاجر واسع الثروة تزوج بإحدى مثريات المدينة ورزق منها ولداً ذكراً دعاه ألفرد. ولم تكد تقر بالمولود عينه حتى دعاه خالقه إليه فترك وحيده يتيماً بعد أن أوصى به أرملته وذويه.

ترعرع الولد وأخذ يخرج في البلدة ويلعب مع أقرانه وما عتم أن شعر بميل خصوص إلى صبية كانت تلعب معهم اسمها ماري، فكان يخرج الولدان من منزلهما في ساعة واحدة ليلتقيا في مكان متفق عليه من قبل. وهناك يصرفان الساعات الطوال منهمكين في ألعاب لا لذة فيها ولا سلوى إلا أنها تجمع الولدين المتحابين وهما شاعران بفرح لا يدركان له سبباً حتى إذا دنت الشمس من المغيب واضطرا إلى الافتراق أحس كل منهما بوحشة زائدة وبحزن ما كان يخففه غير أمل اللقاء في اليوم التالي. وقد كرت الأيام والأعوام والولدان يعيشان عيشة واحدة لا يلذ لهما شيء إذا افترقا ولا يحزنهما شيء إذا اجتمعا. . . ولما شبا عن الطوق فبرز نهدا الفتاة وانفتل ساعد الغلام تبدل ذلك الشعور الرقيق الكامن بحب ووجد وغرام. فأوجس أهلهم خيفة لاسيما أم الفتى، هي تحسب أن حب ابنها لتلك الفتاة يحمله على التهور والتفريط حتى وصل بها الخوف إلى أنها فاوضت عم الغلام بالأمر وقالت له: إذا دامت حال ألفرد وحال ماري على ما هي عليه فلا أعجب إذا أفقت يوماً وأنا جدة وهناك الفضيحة فأنى لنا تلافي الخطب قبل استفحاله؟. . . فأطرق العم يفكر كأن مسألة الغلام معضلة ولا كالمعضلات ولما أعياه التفكير ولم يوفق إلى حل للمشكلة أشار عل الأم بأن تعقد مجلساً عائلياً تطرح عليه المسألة فيتدبرها ويبت فيها رأياً يكون فيه خير الفتى وراحة الأم. . . عقد المجلس العائلي وشرحت له الأم أسباب قلقها وجزعها ولم يكن في المجلس غير شيوخ ماتت قلوبهم فباتوا يحسدون الشباب ويضيقون عليه الخناق كلما وجدوا إلى ذلك سبيلاً. وبعد البحث والتفكير والمداولة قر رأيهم على إبعاد الفتى آملين بذلك بلوغ المرام فيفعل البعاد ما لم تفعله النصائح فتتزوج الفتاة من جهة ويسلوها الفتى من جهة أخرى. . . . .

ثم كلف المجلس عم ألفرد بإبلاغه ذلك القرار بالطرق التي يراها مناسبة طبقاً لحاسات الفتى وأمياله. . . فجاء العمل صبيحة يوم إلى ابن أخيه فرآه غارقاً في بحر من الغرام كم تاهت فيه سفن وضلت مراكب فاقترب إليه وبادره بالسلام مبالغاً بالملاطفة والمؤانسة حتى هش له الفتى وما كان يبسم إلا لحبيبة قلبه. . . . ولما شعر العم باستعداد الفتى لسماع كلامه قال له بمزيد من الحنان: ها أنت قد أصبحت رجلاً بحمد الله وآن لك أن تسافر إلى بلاد أرقى ووسط أرفع فتتفقه بالأسفار ومخالطة الأقوام، ثم تعود إلينا وقد تحليت بالأدب والعلم والاطلاع فيكون لك بين قومك كلمة وشأن. . . ولن يطول زمن هجرتك أكثر من سنتين فقط، فما رأيك؟. . . . فابتسم الفتى ابتسامة دلت على انزعاج واضطراب وقال: ما فكرت قط يا عماه بهذه السفرة وها أنا بعد سماعي ترغيبك إياي فيها وتشويقي إلى اقتحامها كما كنت من ذي قبل: لا أحب السفر. فأنا هنا مرتاح إلى الطبيعة وما أنجبت، غير طامع بالمزيد فلا تكرهوني على ما لا ترغب فيه نفسي. . . . فعض العم على شفتيه وأخفى الكيد وأظهر الجلد وأخذ يسرد على ابن أخيه البراهين والحجج والأسباب التي تقضي عليه بالسفر حتى ضاقت بالفتى أنفاسه ورأى أنه لم يعد له بين ذويه مقام فطلب إلى عمه أن يمهله إلى الغد فيعطيه الجواب الأخير. خرج العم ونظر الفتى إلى واقع الحال فراعه. . . فكر بافتراقه عن معبودة قلبه فهاله فكره وتذكر ساعات لقياها حيث حديث الغرام أرق من النسيم وأشجى من نوح الحمام فهاجت أشواقه الذكرى فبكى ولسان حاله ينشد: لا مرحبا بغد ولا أهلاً به ... إن كان توديع الأحبة في غد ثم سار إلى حيث يلتقي عادةً بحبيبة قلبه فوجدها بانتظاره فراعه اصفرارها - وقد خبرها ذووه بعزمهم على تسفير ألفرد ورجوا إليها مساعدتهم حباً بخير الفتى، فوافقتهم مكرهة - وما وصل إليها حتى عرته هزة يعرفها من وقف تلك

المواقف فتقدم إليها واجلاً مضطرب الجوارح خفاق الفؤاد ومد إليها يداً مرتجفة باردة، فشدت عليها بيد مرتجفة باردة، وتناظر الحبيبان فتفاهما وعلما أن لابد من الفراق فتجسم بنظرهما كل ما في قلوب العاشقين من وجد وجزع وطوقا بعضهما بعضاً بدافع غير منظور وشهقا بالدمع، حتى إذا هدت حيلهما تلك الدقيقة بما فيها من هول الوداع ضم الفتى شفتيه إلى شفتي الفتاة وجمع كل ما في نفسه من هوى وطبعه على تينك الشفتين بطابع من نار فانتفضت الفتاة انتفاض من جرى في عروقه تيار كهربائي وتراجعت إلى الوراء مذعورة وتراجع مذعوراً وقد شعرا بخطورة الموقف فافترقا وقد مزق الوداع نسيج قلبيهما. أفاق ألفرد في اليوم التالي منهوك القوى شاحب اللون وأخذ يتأهب للسفر فدخلت عليه أمه وفهمت أن رأيه قد قر على مغادرة البلاد فسرت من جهة وحزنت على فراق وحيدها من جهة أخرى ثم جاء الأهل والإخوان فودعهم ألفرد وهو ينظر إليهم شارد اللحظات ويكلهم وعقله وقلبه حيث حلت حبيبته ماري، ثم سار ووجهته باريس عروس المدن. . . وصل مدينة النور وفي قلبه ظلام القبور ووحدة الأجداث وبات ليلته الأولى فيها كما يبيت الملسوع متقلباً على فراش الآلام والأوجاع. وقد حاول بعدها عبثاُ أن يسلي فؤاده فما كان يزداد إلا شوقاً وحنيناً إلى الوطن إلى تلك البقعة الصغيرة، حيث محبوبته. فإذا هب نسيم حمله إليها السلام وإذا رف طائر ناشده المروءة والدمع هتون أن يحمله إلى أرض ميعاده ولسان حاله ينشد: يا طير صوب بلادنا خدني معك ... جسمي أرق من النسيم شو بيمنعك قلي بيمنعني نحيبك والبكا ... خايف تبلل جانحي من مدمعك مضت السنتان - وهما مدة أسر الفتى - وقد كانت كل ساعة منهما دهر. فعاد ألفرد إلى فلورنسا وهو يتساءل: ترى ما حل بماري؟. . . حتى إذا وصلها وقلبه

خافق ونفسه جازعة علم أن حبيبته قد زفت إلى سواه فاسودت الدنيا بعينه ويئس من الحياة وعزم على الانتحار - وهو خاتمة الغرام - إلا أنه خطر على باله أن يرى حبيبته قبل الموت للمرة الأخيرة. انتظر ألفرد حتى أسدل الليل على المدينة سدوله وانسل تحت جنحه إلى منزل حبيبته وتوصل إلى غرفة نومها فاختبأ تحت السرير حتى خلت إليه فنزعت ثيابها ونامت وهي لا تشعر أن في الغرفة روحاً جاءت تودعها قبيل احتجابها في الأثير. . . نامت فحلمت كأنها بالقرب من حبيبها ألفرد فطاب لها الحلم فكشف در ثناياها ابتسام خفيف. . . وكان ألفرد قد انساب في تلك الأثناء إلى سريرها فشعرت بحر أنفاسه فأفاقت وهي تحسب نفسها حالمة فإذا بها تضاجع رجلاً ليس بزوجها فهمت بأن تصرخ فضغط الفتى على يدها متمتماً: لا لا تجزعي. . . أنا ألفرد. . . دهشت ماري وغسلها العرق البارد وهي لا تدري إذا كانت لا تزال حالمة حلمها اللطيف أو هي في الحقيقة تلمس حبيبها القديم. . . وما عتمت أن عادت إلى هداها فتحققت أن رفيق الصبا في جنبها فخافت كثيراً وقالت له: بالله عليه قم واذهب فزوجي في الغرفة معي وأنت تكاد تفضحني. . . فقال لها: لا تخافي. . . ما أتيت أفعل منكراً. أنت زففت إلى غيري فلتكن حياتك سعيدة، أما أنا فلم يبق لي مطمع في الحياة. . . دعيني أنام بقربك كما ينام الملك قرب الملك أو الأخ قرب الأخت فأحيا دقيقة وبعدها أموت غير آسف على الدنيا. . . فحنت عليه ورق له قلبها وقالت: لك ما طلبت. . . فنام الفتى بقربها وقد تجسمت له السعادة فغاب فيها. . . أما هي فقد استغربت من حبيبها هذا الهدوء وما عهدها بالحب يبقي على العقل فأخذت يده يدها فوجدتها مجلدة فحسبت أن الغرام جلدها. . فنادته همساً: ألفرد! ألفرد!. . . فخافت وخامرتها الشكوك. . . فحاولت إنهاض رأسه فوجدته بارداً فحركت جسمه فانقلب كالعود، ففهمت وبهتت

وقد صعقتها الحقيقة: إن ألفرد قد مات. . . سكبت دمعة محرقة وشعرت أن عروق قلبها قد تقطعت ثم أفاقت ونظرت إلى ما حوليها فراعها ذلك الموقف وما فيه من أسباب القيل والقال فاستجمعت رشدها وصممت على رأي وقامت إلى زوجها فنادته فأفاق فقصت عليه كل ما حدث كأنها تروي حادثة وقعت لسواهم بعيدة عنهم ثم قالت: حينئذ ما كان يجب على أهل البيت أن يفعلوا وأمامهم تلك الجثة؟ فقال: كان يجب عليهم أن يقوموا إلى الجثة وينقلوها بكل هدوء إلى بيتها ويتركوها على الباب فيظن القوم في الصباح أن فقيدهم مات قضاء وقدراً. . . فقالت: إذن قم وافعل ذلك بالجثة في سريري. . . فذعر الرجل ثم ثاب إلى رشده وقد تحقق أن امرأته صادقة في كل ما روت فقام إلى جثة ألفرد ونقلها بمساعدة امرأته حتى أوصلها إلى باب منزله فتركاها هنالك وعادا من حيث أتيا والحزن ملء قلب ماري. . . أصبح الصباح فوجد أهل ألفرد جثة الفتى على الباب فأعولوا وندبوا واستدعوا الطبيب فجاء وفحص الجثة فإذا الموت طبيعي فقرروا أنه كان قضاء وقدراً. واحتفلوا بتشييع الجنازة فقال الرجل الذي مات ألفرد في بيته لامرأته: قومي بنا إلى الكنيسة نرافق الجثة حتى لا يخالج الناس ريب. فقامت والحزن يقتلها وقد عاد إلى ذهنها ذكر أيامها الأولى فسارت خلف الجثة وعينها تسكب الدمع مدراراً حتى إذا وصلوا بها إلى الكنيسة وصولا عليها وهموا بحملها إلى مرقدها الأخير سمع القوم صرخة هي أشبه بتنهيد عميق تلاه هبوط جسم إلى صحن الكنيسة. . فتراكض الناس فإذا ماري جثة هامدة تحت تابوت ألفرد. . . . راع ذلك المنظر القوم المحتشد فأحنوا الرؤوس خشوعاً وسكتت القلوب اضطراباً واحتراماً وجعلوا الجثتين في تابوت واحد وواروهما في لحدٍ واحد كأنهم شعروا بأن ليس لهم أن يفرقوا جسمين اتحدت روحاهما بالموت. . . وهكذا اتحد هذان العاشقان في اللحد بعد أن افترقا على الأرض وقد فعل الموت ما لم يفعل الحب. . . (عن الإفرنسية) حسون

العدد 18

العدد 18 - بتاريخ: 1 - 11 - 1911 الأعلام العربية في اللغات الأجنبية بالنظر إلى انشغال العالم السياسي بحوادث طرابلس الغرب ومراكش كثر في جرائدنا ورود أسماء العلم عن تلك الأصقاع العربية. ولما كانت الجرائد تستقي معظم أخبارها من الصحف الإفرنجية رأينا أكثر هذه الأسماء مشوهاً في الترجمة تشويهاً يكاد ينزلها منزلة الأعجمي من الألفاظ. فأحببنا أن ننبه إلى هذا الخطأ طالبين إلى كل من يهمهم هذا الأمر أن يعملوا على ملاقاته: منذ أربع سنوات تقريباً أرسل الأستاذ نلينو إلى الجمعية الجغرافية الخديوية مقالاً بحث فيه عن أسماء العالم الإسلامي الجغرافية وما يطرأ عليها من الغلاط والتحوير في النقل من لغة إلى لغة. وليس الأستاذ نلينو بمجهول لدى المصريين، فإنه من علماء المشرقيات المعروفين، وبعد ما كان مدرس اللغة العربية في كلية بالرمة (جزيرة صقلية) اختارته الجامعة المصرية منذ سنتين ليدرس في القاهرة تاريخ العلوم عند قدماء

العرب. ولقد جاءت رسالته في الموضوع الذي ذكرناه طافحة بالملاحظات الجديرة بالاعتبار. * * * مهما كابر المكابرون لا ينكر أن الغربي الآن قد نال الأسبقية على الشرقي في ميدان الحضارة والعلوم. وقد أصبحنا في حاجةٍ إلى الرجوع إلى أبحاث علماء الغرب حتى في الأمور التي تتعلق بنا أشد العلاقة. فبتنا ندرس تاريخ أمتنا وجغرافية بلادنا في كتبهم ومؤلفاتهم. فأحدث ذلك عندنا تبلبلاً واضطراباً في ضبط الأعلام العربية وإرجاعها إلى أصلها. وهذا هو الأمر الذي قام الأستاذ نلّينو يدعو إلى تلافيه أعني آفة التحوير بل التشويه الذي يدخل على الأعلام الشرقية. فإن كتاب الإفرنج وعلماءهم قلما يحسنون نقل هذه الكلمات بلفظها الصحيح إلى لغاتهم. ولذلك، على ما نرى، سببان: الأول أن آذانهم لم تتعود سماع بعض مقاطع ومخارج لغاتنا فيسيئون كتابة ما يسمعون من أسماء الأعلام. والثاني - وربما كان هذا هو السبب الأساسي - إن اللغات الأجنبية تخلو من بعض حروف اللغات الشرقية ولاسيما الحروف الحلقية كالحاء والخاء والعين والقاف، فيستعيضون عنها بحروف تماثلها على قدر الإمكان، وكثيراً ما يخلط هؤلاء الكتاب بين التاء والطاء، والدال والضاد، والسين والصاد، والقاف والكاف إلخ وذلك للسبب نفسه، أي خلو لغاتهم من حروف فارقة بين هذه المخارج، فتجيء كتاباتهم أحياناً بعيدة عن أصلها، غريبة في وضعها، وكثيراً ما يلبسونها بالنقل حلة

جديدة، فيتعذر على قارئها أو مترجمها إعادتها إلى أصلها. من ذلك أنهم يكتبون صلاح الدين سلادن، وفخر الدين فهردان، وابن رشد أفرويس، وابن سينا افيسن، ووهران أران، وعين ماضي أين مدها، إلى غيرها ما هنالك من هذا القبيل مما يطول بنا إيراده. * * * يأخذ الغربيون قطننا وحريرنا فيصبغونه وينسجونه ويعيدونه إلينا، فهل نستغرب إذا أخذوا كلماتنا فنحتوها وصقلوها وأعادوها إلينا مصبوغة بصبغة لهجاتهم؟ على أن هؤلاء الكتبة لا يلامون في كل الأحوال على هذا التحريف لما قدمنا من الأسباب. ولكن اللوم علينا، نحن معشر الشرقيين، فإننا عندما نقرأ مثل هذه الأسماء الشرقية أو نضطر إلى نقلها إلى العربية نأخذها عن الإفرنجية ونكتبها بحروف تماثل حروف صورتها الغربية كأنها غريبة عنا. فتبقى في حلتها الأجنبية كأنها من الكلمات الموضوعة في أكاديمية اللغة في باريس أو لندره أو برلين. ولا نذكر من هذا القبيل على سبيل الفكاهة إلا ذاك الذي ترجم سلادن (صلاح الدين) بلفظة سلادينوس (؟) ألا رحم الله السلطان الأيوبي وكفاه شر المعربين. أما الآن - وقد أخذ علماء الغرب يقبلون أيما إقبال على درس العربية والفارسية والسريانية وسائر اللغات الشرقية من ميتة وحية - فإنهم تنبهوا للأمر، لأنه تعذر عليهم مراراً تطبيق أسماء الأعلام على أصلها عندما رأوها في ذلك الأصل بعدما ألفوا شكلها الأجنبي. فأخذوا

ينقبون ويبحثون ويطالعون في كتب قدماء العرب ليعيدوا إلى هذه الأسماء صورتها الحقيقية. هذا بعض ما خطر على البال عندما تصفحنا مقالة الأستاذ نلينو. وكان حضرته قد كتب قبل اليوم ما مفاده: طبع في بولاق سنة 1893 كتاب اسمه تاريخ العرب وآدابهم لجامعيه فانديك وفيليبيدس، صدره الكاتبان بمقدمة جغرافية عن جزيرة العرب ترى فيها أكثر الأسماء مشوهاً أي تشويه لنقلهما هذه الكلمات عن لغات أجنبية دون مراعاة أصلها فيجعلون مثلاً (ص 6) جزيرة خوريان كوريان، وبلد الكويت قويط، وجبل العارض الجبل العريض، والقصيم القسيم. . . . . هذا وقد توفق الأستاذ نلينو إلى تنقيح أسماء مختلفة فأعادها غىل أصلها وأكثرها من أسماء الأمكنة في مراكش والجزائر، وهي مغلوطة الكتابة حتى على الرسوم الجغرافية المعول عليا، وها نحن نورد أهمها للفائدة: تل أمرنا والصحيح تل العمارنة، قبيلة دوي منيه والصحيح ذوي منيع. وسهل تافراته والصحيح سهل تافراطا، وقد ورد ذكره في ابن خلدون وسائر مؤرخي بلاد المغرب. وقد ذكر العرب في كتبهم قبائل إيت سغروشن وأيت شخمان. فصارت في كتاباتنا الحديثة إيت شروشن وإيت سغمان. وقبيلة غياثة صارت رياطة. ونحن نعتقد أن سبب هذا التحوير الأخير أن بعض الإفرنسيين

كما هو معروف يلفظ الراء كالغين، كذلك قل عن وادي تدغه فقد حوروها فصارت وادي طدرة. أما وادي ذرا فصوابها وادي درعة ومدينة ششوان صوابها الشاون. ولا مجال الآن إيراد كل الأسماء الجغرافية التي اعادها الأستاذ نلينو إلى أصلها كما وردت في كتب العرب فلا تبقى تحت رحمة المترجمين يشوهونها عندما ينقلونها عن الإفرنج بعد ما يكون هؤلاء قد حرّفوها في نقلها إلى لغتهم. ولابد في هذا المقام من ذكر اسم عالم آخر هو من أبناء الشرق قد أدى مثل هذه الخدمة أعني به الأمير شكيب أرسلان اللبناني المعروف لدى قراء الزهور فإنه في رواية آخر بني سراج التي نقلها إلى العربية عن الكاتب الفرنسوي شاتوبريان بحث أدق بحث عن الأعلام الأندلسية الشائعة في إسبانيا حتى توفق إلى تطبيقها على أصلها. ولما عني الأمير بتأليف تاريخ الجزائر وحياة الأمير عبد القادر وكان جل اعتماده على كتب إفرنجية استعان بالسيد محمد مرتضى الحسني لضبط أسماء الأعلام. وقد أشار الأستاذ نلينو في مقالته إلى آراء الأمير الأرسلاني واعترف بدقتها. * * * أما وقد رأينا الآن الداء فما يكون الدواء؟. . . إن الحاجة تدعو إلى وضع معجم لأسماء الأعلام يكفينا شر آفة التشويه في النقل - ولكنا معرض لها - وأن يعول علماء المشرقيات على علامات خصوصية

يصطلحون عليها لكتابة ما ينقصهم من الحروف الشرقية. ونختم هذه الملاحظة الإجمالية بما أشار إليه الأستاذ نلينو عن ضبط تلك الأسماء قال: لا يتم ذلك إلا في بلاد الشرق، وأنا اعتقد أن نقطة الشرق المعينة للقيام بذلك هي مصر. ففي مصر تلك الجمعية الجغرافية التي خدمت العلم الخدم الجلي. . . وفي مصر نقطة تجلب إليها المسلمين من كل صقع، أعني بها الجامع الأزهر، وفيه الطلاب الذين يؤمونه من كل صوب فيمكن الاستعانة بهم على أخذ التعليمات اللازمة. وأخيراً نعرف في مصر جماعة من نخبة علماء المسلمين هم على تمام الاستعداد لتحقيق هذا المشروع إذ أنه في وسعهم، فضلاً عن معلوماتهم الشخصية، أن يستفتوا إخوانهم في سائر الأمصار الشرقية، الأمر الذي يتعذر على علماء أوروبا. وفي هذا العمل فائدة كبرى للغربيين، لأنه يضع حداً لهذا التشويه الذي جعل الدروس الشرقية وعرة المسالك، وللشرقيين لأنه يحفظ لهم إرثاُ لغوياً ثميناً باتت تتهدده أيدي النساخ والمترجمين. ولسنا نزيد شيئاً على هذه الأقوال المملوءة حكمة، بل نضم صوتنا إلى صوت هذا المستشرق طالبين من القادرين على ملاقاة هذا الخلل ألا يتأخروا عن ملاقاته. ولا يسعنا في الختام إلا تهنئة رئيس وأعضاء جمعيتنا الجغرافية الخديوية بما نالوه من التفات علماء أوروبا، وشكرهم على ما يبذلونه من الاجتهاد في سبيل تعزيز العلم في أصقاعنا.

في منازل الأموات

في منازل الأموات زيارة القبور وإكرام الموتى عادة شائعة عند أهل جميع المذاهب قديماً وحديثاً، ولا يخفى ما فيها من العبرة والذكرى والوفاء. وقد خصص المسيحيون اليوم الثاني من هذا الشهر للقيام بهذا الواجب (2 نوفمبر: تذكار الموتى). هناك في مثل هذا اليوم بين تلك المنازل المقفرة أقضي ساعة من الزمن في كل عام، وأقوم بواجب تفرضه علي المحبة ويقضي به تذكار المودة. ساعة أقضيها في بكاء ورثاء فتولد راحة في القلب وتسكيناً في الفؤاد، كأن الأحزان تذوب مع الدموع المتساقطة، والأشجان تتطاير وتضمحل مع الزفرات المتصاعدة. هناك في منازل الأموات بين القبور الساكنة وتحت أشجار السرو الباسقة وقفت وبكيت، واتعظت وتعزّيت. . . فيا طلاب العواطف الرقيقة ومحبي المواقف الرهيبة، اقصدوا المقابر في مثل هذا اليوم فتشعروا بأرق العواطف وتتمتعوا بأجل المواقف. . . .! ويا عشاق الفنون الجميلة، أيها الشعراء والمصورون أموا القبور فتلقوا غذاء لقريحتكم، اسقوا أقلامكم بالدموع التي تذرف هناك، فتسيل منها أرق القصائد وترسم أسمى المناظر وأبدع المشاهد. ويا أيها الأحياء زوروا منازل الأموات فتدركوا ماهية الحياة وجوهر الممات. . . * * *

وصلت إلى المقبرة فوجدت بابها مفتوحاً والناس يتقاطرون إليها أفواجاً، وهم متشحون بالسواد حاملون الزهر والأكاليل المضفورة، وقد استولى عليهم الانقباض ورفرف على رؤوسهم روح الخشوع. فدخلت مع الداخلين حاسر الرأس كابت الفؤاد. وما وطئت قدمي هذه الأرض المقدسة حتى اعترتني هزة واستولت علي قشعريرة وهتف صارخ في صدري: سلام على أهل القبور الدوارس، سلام على سكان الديار الموحشة والمنازل المقفرة، رحمة وسلام عليكم أيها الراقدون بسلام. . . .! وقفت منفرداً في إحدى زوايا المقبرة أدير الطرف حولي وأتأمل ما يكتنفني. . . . . هنا أم ثاكلة جاثية على ضريح وحيدها تذرف على بلاطه البارد عبراتها المحرقة وتسكب على الراقد طيه صيب صلاتها الحارة. وهناك يتيم جاث على قبر والدين اختفطهما ملاك الموت قبل الأوان. وهنا أخ يبكي على رمس أخيه، وهناك حبيب يصلي على جدث حبيبه. وقد امتدت فوق هاتيك القبور أغصان السرو ذات الخضرة القاتمة الدائمة، ناشرة على مراقد الموتى ظلها الرهيب، وحفيف الأوراق فيها أشبه بالندب والعويل. أخذت أطوف في أنحاء المقبرة، فرأيت قبوراً زينتها الأكاليل ونمت حولها زهور ورياحين زرعتها يد المحبة وسقتها دموع الوفاء فنبتت رمزاً عن الحب ودليلاً على الذكر وحفظ العهد. ورأيت غيرها عارية مهملة وعلى جوانبها قليل من العشب اليابس وليس من يضع عليها زهرة الذكر أو يذرف عليها دمعة الوداد، فقلت: أين الذين أحبوهم؟ تبرأ

منهم القريب، وانصرف عنهم الحبيب. . . . تابعت السير فإذا بأخشاب بالية وعظام نخرة فوقفت عندها بكل خشوع وإخبات، وتساءلت: لمن هي يا ترى؟ لو بعثرت للخلق أطباق الثرى ... هل يعرف المولى من العبد فسقياً لك يا موت، أنت تسوي بين الكبير والصغير، فهذه بقايا الرفيع والوضيع، ورفات الغني والفقير، فمن يقدر أن يجد بينها فرقاً. إلى هنا مصيرك يا ابن آدم مهما علوت وارتفعت. فجهلاً تتباهى وحمقاً تتفاخر وتعتز. إن الراقدين هنا كانوا مثلنا يعبرون نهر هذه الحياة فتردد شواطئ النهر صدى أصواتهم وأغانيهم، وها أن الموت قد أغلق أفواههم وأخمد أنفاسهم. . . تراءت لهم الدنيا بمجدها وزخرفها، ومدت إليهم كأس ملذاتها، فمدوا يدهم لارتشاف هذه الكأس، فانكسرت على أقدامهم. وتجلت لهم الحياة بمظهر الغادة الحسناء فنظروا إليها نظرة العاشق الميتم، فإذا بها قد انقلبت شمطاء شنعاء ثم اضمحلت كالدخان. وبينما أنا أسير بين القبور أستنطق مرمرها الناصع وأناجي الراقدين تحت حجارتها إذ خيل إلي أن هاتفاً يقول: كما أنتم كذا كنا ... كما صرنا تصيرونا وخلت أن شبحاً قد خرج من كل ضريح وهو يشير إلي بكفنه قائلاً: قف واعتبر يا من ترى ... قبري وما بي قد جرى بالأمس كنت نظيركم ... واليوم صرت كما ترى قل: ربنا ألف بنا ... وارحم عظاماً في الثرى

الشعر

فوقفت واعتبرت وترحمت. ثم خرجت من تلك المنازل مودعاً الراقدين فيها متسائلاً: هل تطول غيبتي عنهم، أم تكون عودتي إليهم قريبة لأودع حبيباً أو نسيباً أو لأرقد بينهم رقادي الأخير. . . .؟ الشعر قبل ان نعطي الكلام قياده، ونلقي على كاهل القلم زمانه، لا نرى بداً من أن نعرف ما هو المفهوم بالشعر عند أربابه وبماذا يختلف عن كل قول ليس بشعري. يطلقون لفظ الشعر إجمالاً على كل صناعة تقوم بإظهار الحسن البالغ ومن ثم فقد يكون لحذاق المصورين والموسيقيين وغيرهم نصيب في ذلك كما لصانع الشعر بالقول. أما على سبيل التخصيص، فالشعر حقيقة هو القول الذي يظهر الحسن البالغ بالأقاويل الشعرية وهي الأقاويل المخيلة فقط - أعني الغير موزونة - فالوزن واللحن. والمراد بالوزن العروض، وهو رصف اللفظ وسكبه في قالب القريض. ويراد باللحن الأنغام التي تحدث من الوزن عند نظم الكلام وسكبه في مهيع التفاعيل، فاللحن إذن داخل تحت حكم القول الموزون. إنما في بعض الأشعار يتولد اللحن بنوع خصوصي بواسطة تطابق ألفاظ وتجانس حركات، فتنبعث نغمات أكثر مما في سواها مثلما في نوع

الموشحات التي استنبطها أهل الأندلس وفي الأزجال (راجع تلخيص كتاب أرسطاطاليس في الشعر تأليف أبي الوليد بن رشد). وقد ينفرد على حدة كل من الأقاويل المخيلة والوزن واللحن فنرى المحاكاة المخيلة في الأوصاف ونرى الوزن في الرقص واللحن في الزمر وآلات الطرب كافة. والمفهوم عند الفريق العظيم من بني نحلتي إلم أقل السواد الأعظم، إن الشعر هو كل قوم منظوم ومقفى بدون اعتبار المعنى الشعري ركناً ضرورياً له. على أن في هذا الاعتقاد شططاً فاحشاً، ومن ذهب هذا المذهب قل عنه ولا حرج بأنه يقفه معنى الشعر ولو كان من الذين امتطوا متنه وتقلدوا أعنته. فقد يدعى شعراً - وهو ليس منه - بعض أقاويل منظومة إذ أنها لا تتضمن إلا الوزن فقط وقد قيل: الشعر ما اشتمل على المثل السائر والاستعارة الرائعة والتشبيه الواقع وما سوى ذلك فإن لقائله فضل الوزن. ومثيل ذلك كثير في كل اللغات كأقوال سقراط وانبادقليس في الطبيعيات وكل من استخدم الشعر في الرياضيات وعلم الهيئة والآداب. ولا مشاحة في أن الأقاويل المخيلة فقط كالأوصاف وغيرها أقرب إلى حقيقة الشعر وأحق بأن تدعى شعرية من منظومات هؤلاء الذين نظروا بها الآداب أو قواعد الإعراب ودونوا فوائد علمية أو فلسفية لأن كل هذا خارج عن حد الحسن البالغ اللهم إلا إذا التجئ إلى صورة الشعر الحقيقية وطلاوة طرازه فلم يفتهم ضرب التخييل ولا روح الشعر

كما فعل هوراس الروماني في الصناعة الشعرية وحذا حذوه بوالو الفرنساوي فإنه والحق يقال تلطف في تأدية القواعد وأودعها قالب القريض بصورة بديعة النزعة حتى جاء نظمه من باب الشعر. الشعر إذن وضع ليمثل كل حسن سيان أدبي أو مادي، وكان من شأنه أن ينفذ إلى النفس فيحرك أوتارها مثل ذلك في وصف الخيال والجمال والصفاء والسناء والمكرمات وكل شيء تنبسط له النفس وتجد إليه كما في وصف مشاهد الكون الجميلة من رياض باسمة وبدور ساطعة وبقاع شاسعة وبحار واسعة. وليس من خواص الشعر ولا من مواده سن الشرائع ونشر الحقائق وتدوين الوقائع والحوادث التاريخية. ولربما التجئ في الشعر إلى استعارة ما لا يدخل في صناعته متى كان ذلك على سبيل التشبيه على شريطة أن يكون التشبيه واقعاً ومألوفاً كقول الطغرائي في لاميته: لو أن في شرف المأوى بلوغ منى ... لم تبرح الشمس يوماً دارة الحمل فهذا القول وإن كان من قضايا علم الهيئة إلا أن فيه تشبيهاً يقرب المعنى ويكسبه طلاوة. وبعد ما تقدم يمكنا النظر في الشعر من الوجهة المعنوية والودهة اللفظية وهذا ما نراه في مقال آت. حلمي المصري

رسائل غرام

رسائل غرام بين نساء شهيرات ورجال عظام الرسالة الثالثة من كيلوباطرة إلى أنطونيوس تحية وسلام يحملها رسول كليوباطرة حاكمة النيل المبارك، وسليلة البطالسة العظام، إلى أنطونيوس الشريف، النسر الجاثم على ضفاف التيبر. مرت أربع سنوات على هجرك هذه البلاد التي دعاها آبائي في

القديم الأرض المظللة بأجنحة المجد والملائكة. قد عبثت بهبة الزهرة وهجرت هيكلها الذي فتحت لك فيه قلبي وخضدت شوكة كبريائي لأنني أحببتك غير حبي لسلفك القيصر وأردت أن أرى عرشك بقربي على ضفاف هذا النهر المقدس. أحللتني في قلبك إلى أن سحرتك عذارى فستا في شخص أوكتافيا الفاتنة فسدلت على الماضي حجاباً من النسيان وأغواك عرش روملس ففضلته على عرش أمجد في قلب امرأة طالما تمنى القياصرة والأكاسرة أن يركعوا عند موطئ قدميها. كلما قارب الإله را أن يحتجب وراء الأفق ويغطس خلف أمواج الأبدية حملته لك تحيات أزكى من الطيب الآتي من الجنوب، وأنقى من النسمات المنبعثة من الرياحين. ذلك لأن الشعلة المقدسة لا تزال متأججة في أحشائي ولا تطفئها إلا رفرفة الأجنحة - أجنحة ذلك النسر الذي ينتقل الآن بين عذارى فستا كما تنتقل الفراشة في الحقول. فلتنتشر تلك الفراشة أجنحتها الذهبية وتعبر أمواج الأبدية راجعة إلى حيث الأزهار والرياحين. ولقد كنت أظنك أيها القائد الشريف تكتفي بما قد نلته من جاه ومنعة، وتمسك عنان مطامعك عند الحد الذي بلغته من الشهرة والعظمة. فإنني أتمثل شبحك الهائل والمحبوب معاً - وقد ثبت قدمك الواحدة على ضفاف التيبر، والأخرى على ضفاف الفرات، فلم يبق أمامك مزيد للشهرة إلا في مخيلة الآلهة. لذلك أحبتك العذارى وصارت كل منهن تتغنى لك بنشيد ذلك الحكيم العبراني القائل أنا سمراء وجميلة يا بنات

الزهرة. لا تنظرن إلي لكوني سمراء لأن الشمس قد لوحتني. بنو أمي غضبوا علي فجعلوني ناطروة الكروم. كن معافى أيها الشريف أنطونيوس. ولتحرسك الآلهة من قي الأعداء. ولكن لا تنس وأنت مستو على منصة سلفيا إن في الأقاليم البعيدة عن حقول أريكية مليكة تضحي بتاجها في سبيل مسرتك ولا ينعم لها بال إلا إذا أشرقت عليها أشعة ابتسامتك. فتعال نتمتع بهذه الحياة في حمى أفروديتي. تعال نقم له معبداً في حقول الآلهة فنأكل ونشرب لن غداً نموت. لا تغرنك بسطة الملك وسعة الجاه فإن الحياة مستمدة من أشعة الزهرة لا من سهام مارس وكرسي رعمسيس ليس أقل مجداً من عرش روملس. تعال. تعال. لأن الحياة أقصر من أيام البنفسج، والأحلام التي أتعلل بها أبهج من أن يتمتع بها بنو البشر. قد أعددت لك فلكاً ينسيك قصور رومية وعطرته بأريج يزري برياحين مادي وفارس وجعلت لك فيه من العبيد والإماء ما سوف تحسدنا عليهم الآلهة. فهلم إلي يا ساحر رومية وصديق القصير. هلم واسمع أناشيد الحب التي تلهج بها شفتاي. إن كان التيبر قد سحرك فالنيل يفك عنك قيود ذلك السحر. أو كانت تلال البلاتين قد أغوتك فإن أهرام الفراعنة تكون موطناً لقديمك. والأرض المظللة بأجنحة المجد والملائكة ترحب بك أينما حللت وحيثما أتيت. إن رسولي الذي يحمل رسالتي هذه إليك يحمل أيضاً معه قارورة

الحاجة

طيب تقيك نبال الحاسدين وترشدم إلى حيث تقيم من هي مقيمة على عهود هواك. كن معافى. ولتحرسك الآلهة. من كيلوباطرة، وارثة النيل بقلم سليم عبد الأحد الحاجة (العفة ثوب تمزقه الحاجة) يا مثيرة الآمال ومنبهة الأفكار، وجالبة الشقاء والنار التي تذيب العزائم وتحرق القلوب وتذل العزيز وتدفع المضطر بيد القسوة والغلظة إلى هاوية الجرائم والآثام. أنت الوباء الذي يفتك بالشرف والشعور، أنت المجتثة لجذور الضمير من الصدور. أنت القادرة وحدك على إنزال الشهب من أفلاكها والملوك من عروشها وإبراز الحقائق من مكمنها واستخراج اللآلئ من أصدافها. كم ذات خدر طلعت عليها وهي في وحدتها تناجي ربها، وترجو منه إفراج كربتها، فانقضضت عليها انقضاض الباز على الورقاء، وأنشبت فيها مخالبك الحديدية حتى ضيقت عليها الأنفاس، وأريتها سبيل العيش أكثر سواداً من جناح الغراب وأضيق من سم الخياط. كم حليم أخذت عليه مسالك التسامح، وكم كريم بلعت ما كانت تجود به كفه، وكم أبي راض بيومه باسم لغده غير باك على أمسه تخللت منه بين تيار العقل والقلب، وزينت له طريق الشر وهي منضدة بالنضار والتبر. فأثرت فيه شجوناً لذاعة لحشاه لم يقدر على إخمادها حتى قضيت

حقائق

فيه مأربك وبلغت منه مرامك. بيدك الأثيمة - أيتها الحاجة - تبذل الأعراض، وتهتك الحرائر، وتنضب مياه الوجوه. وبيدك الأثيمة تفتح أبواب الشرور، وتشاد هياكل الرذيلة، وتحفر القبور لوأد العفاف والشرف والضمير. وأنفاسك المستعرة بنار الشهوة تمر على الجباه العالية والأنوف الشماء فتترك عليها أثراً من دخانها الأسود يجذبها للتمرغ في جحيم الرذائل. ليتك تخلعين عن منكبيك دثار الخفاء، وتظهرين أمام عين الرائي كما تظهر أفعالك الخبيثة، إذن لجردت من عزيمتي ماضياً أغمده في صدرك. إذن لأرحت العالم من شرك وبدلت هذا الناموس الفاسد الذي يسيرون عليه، وأطلقتهم من عقال الهم والشقاء، وأريتهم كيف يكون الهناء في العيش وأين يجدون السعادة التي ينشدونها. (مصر) محمد شريف وصفي حقائق رفع ستار ليل يونيو، فظهرت ألسنة النور المندلعة من فم الشمس. وكأنما هي ثكلت أولادها، فباتت تندبهم فأصبحت متلهبة الأنفاس محروقة الكبد تذيب دماغ الضب. استعاذ الناس بمن لو أراد لأثلج كبدها وقالوا: اللهم إنك خالق

الإنسان وعالم بمقدار ما وهبته من القوة، وما ابتليته به من الضعف، وهو مسير بمشيئتك إن تشأ فرجت عنه بنسيم بليل ينعش قواه، وإن تشأ جعلت له في دنياه درساً وعظة ففتحت عليه ثغرة من ثغرات جهنم. سمع الله نداءهم وحال بنيهم وبين ألسنة اللهيب ببساط من الغيوم بل قل ببساط من رحمته. احتكت فأرعدت، وما هو في الحقيقة إلا صوت من قبل الله لمن يذكر أو يخشى يقول: اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم بها ولا تكفرون. . ثم دمعت عيناها فبللت وجه الأرض وغسلت أوراق الشجر، فسكن الغبار وصحا الجو وظهرت الطبيعة بأجمل مظاهرها. نظرت بعد ذلك الطير وقد اجتمعت فوق الأغصان فأقامت الصلاة لله خاشعة مؤتمة بكبير لها وسمعت القمري إلى جانبها يذكر الله، كأنه المقرئ يرتل سورة الكهف يوم جمعة في مسجد، أو الأرغن يلحن الترنيمات الإلهية في كنيسة يوم أحد. نظرت الظباء وقد سرحت في مراعيها تحت ظل الأدغال بجانب الآساد والذائب كأنما هي بالبيت الحرام في شهر المحرم وسمعتها تهمس بذكر الله الذي بدلها عن الشر خيراً. نظرت نهر النيل وقد مخض مياهه فتلاطمت أمواجه وتداخل بعضها في بعض فظهر سطحه كقباب من الفضة متجاورة صفت صفاً صفاً وكأنما قد ركبت على زنبق فهي دائمة الحركة، وسمعت من حركتها الحمد لله والثناء عليه.

نظرت الأشجار فإذا بها تهتز يمنة ويسرة كأنها صفوف من أرباب الطرق والأشاير يذكرون الله قياماً وقعوداً نظرت ثنيات الهضاب والجبال تتثنى تحت رشاش دموع السحب فتحسبها المولوية ترقص على نغمات الناي. نظرت ما نظرت وسمعت ما سمعت، فقلت: تباركت يا ذا الجلال والإكرام فهذه الكائنات كلها تحمدل بآلائك وتثني على نعمائك. وبينا أنا أمتع نظري بهذه المرئيات إذا أوحت إلي الأمارة بالسوء أن أنظر إلى أكمل وأبدع هذه المخلوقات وهو الإنسان هل حمد الله وأثنى على نعمته التي انعم عليه بها؟ أجبت وقد تميزت من الغيظ: تباً لك من نفس سيئة الظن، أتحسبين إن الإنسان، وهو سلطان هذه الكائنات، لا يشكر فضلاً ولا يذكر جميلاً؟ قالت: ليس الخبر كالخبر وحبذا لو كذب حدسي وخاب ظني. قمت وأنا حانق على نفسي، ومررت في طريقي بحانات الخمر ومحال اللهو والقصف، فوجدتها غاصة بالناس على اختلاف طبقاتهم ونحلهم وبين أيديهم كؤوس أم الكبائر، يدور بها فتيان وفتيات، سمعت من فاجر القول وفاحش اللهجة ما أبدل سروري حزناً، سمعتهم يقولون ما أحلى السكر وما أجمل الخمر في هذا اليوم الصحو الذي لا يصلح معه إلا اللهو، ولا تظهر محاسنه غير الخلاعة، ولا ينعش الفؤاد فيه إلا ما حرم الله!!!

في جنائن الغرب

نظرت ذلك وسمعت وقارنته بما نظرت وسمعت من الطير والحيوان، بل من الأشجار والجبال، فوددت لو مسخ الله ابن آدم فصار حجراً ولو أنطق تلك الحيوانات ودبت الروح في تلك الجبال والأشجار، لكي يتبدل العالم الفاسد بآخر نقي الذيل نقي القلب لا فجور فيه ولا فحش، واستغفر الله وأتوب إليه وإليه المرجع والمآب. عطبرة (السودان) محمد فاضل في جنائن الغرب ضعة الإنسان خواطر لبسكال لا شيء يثبت للإنسان حقارة قدره كنظره في العلة الحقيقية لاضطرابه المستمر الذي يقضي به أمد الحياة. . .

طرحت النفس في الجسد لتحل به زمناً قصيراً. . . تعلم أن العيس في الدنيا هو مسلك يؤدي إلى سفر أبدي وأنها لا تملك من الوقت للتأهب له غير زمن وجيز مدة عيشها في هذا الوجود. وحاجاتها الطبيعية تسلبها النصيب الأوفر من هذا الوقت، فلا يبقى لديها سوى النزر القليل تصرفه طوع إرادتها. ولكن هذه البقية اليسيرة تزعجها وتهمها حتى أنها لا تفكر إلا في إضاعتها. لأن إكراه النفس على مؤانسة نفسها وسوامها الفكر في ماهيتها كربة هي لا تطيق الصبر عليها. ولذا كان همها الأول ان تتغافل عنها فتدع هذا الوقت القصير الثمين يمر بلا ترو لاهية بما يشغلها عن الفكر فيها. ضعة الإنسان رائد كل ملاهيه ذات الجلبة والضوضاء وكل ما يدعونه لهواً ولعباً فإنه في حقيقة أمره لا يريد به إلا أن يقطع الوقت دون أن يشعر به أو بالحري دون أن يشعر بنفسه فيقيها بإضاعته ذلك الشطر من حياتها الغم والكره لذاتها اللذين هما لا محالة عاقبة التأمل فيها. لا ترى النفس منها شيئاً يسرها، لا ترى إلا ما يحزنها كلما أمعنت النظر في ذاتها فهذا الذي يلجئها إلى المعاشرة ويكلفها بشغلها في الأمور الخارجية أن تبحث عما يفقدها ذكرى حالتها الحقيقية. فإن سرورها كله متوقف على

هذا النسيان وليس لمن أرادها شقية بائسة سوى أن يلزمها مشاهدة نفسها وملازمتها. * * * للطبيعة كمالات لتظهر للعالم أنها صورة الله. ولها نقائص لتريهم أنها صورته فقط. * * * أهون على المرء تكبد الموت دون الفكر فيه من الفكر في الموت دون تكبده. * * * إنما الإنسان في الدنيا قصبة واهنة، اوهن قصبة في الخليقة، لكنه قصبة مفكرة. ليس للكون أن يتحالف عليه ليسحقه فقليل من البخار، أو نقطة من الماء كافية لتقتله. على أنه وإن سحقه الكون بأسره فهو يظل أرفع مما يسحقه لأنه ليموت وهو عالم بموته والكون غير شاعر بغلبته عليه. * * * يعرف الرجل أنه شقي، فهو شقي لأنه يشعر بشقائه، لكنه كبير لأنه يعرف هذا الشقاء. قليل يسلينا لأن قليلاً يشجينا. * * * ازدراء لفلسفة عين الفلسفة. * * * بلغ الزهو من الإنسان أن يتمنى الشهرة في أقاصي الأرض حتى يلهج بذكره كل قاطن فيها بعده، وبلغ العجب منه أن يضطرب فرحاً بما

يلقاه من الإكرام والحظوة لدى خمسة أو ستة من أقرانه. * * * إننا لا نقنع بحياتنا الطبيعية التي وهبت لنا منذ نشأتنا، بل نطمع في أن نحيا في مخيلة الناس حياة وهمية، ولذا نكلف أنفسنا أن تمثل بينهم في مظهر غير مظهرها. * * * بلغ الجنون من الناس أن يروا العاقل بينهم مجنوناً. * * * شقاوة الإنسان برهان على جلاله، فهي شقاوة سيد كبير وملك مقدم. * * * إذا ترقب الإنسان فكره في جميع هواجسه، رآه أبداً دائم الشغل بماضيه ومستقبله. فيكاد الإنسان لا يفكر في حاضره إلا لينير به غلس مستقبله. فليس الحاضر غرضه وما ماضيه وحاضره سوى عدة مستقبله. . . المستقبل فقط مطمح أبصاره فهو في الحقيقة لا يعيش بل يؤمل أن يعيش. * * * من أراد أن يتحقق زهو الإنسان وبطله فعليه أن يتأمل أسباب حبه ونتائجه. أما أسبابه فغامضة مجهولة، وأما نتائجه فهائلة مروعة. هذا السبب المجهول، هذا ليسير الذي تتعذر معرفته يقلب الأرض بطناً لظهر، ويزعج الأمراء ويقلق الجيوش ويحرك الدنيا بأسرها. . . . * * *

لو كان أنف كليوباطرة أصغر حجماً لتغيرت حال البسيطة برمتها. * * * أوشك كرومول أن يخرب النصرانية، ويحط الأسرة المالكة إلى الحضيض، ويرفع عائلته إلى الأوج لولا حبة رمل صغيرة حلت من جسمه في مجرى البول. ولكن هذه الحبة الصغيرة التي لم يكن ليعتد بها أينما وجدت كفت وقد حلت في هذا المحل لتقتله وتحط عائلته وتعيد الملك إلى العرش. * * * وجهان متشابهان لا يضحك كل منهما على حدته يضحكان بتشابههما إذا شوهدا معاً. * * * نرى حادثاً يتكرر أمامنا على هيئة واحدة فنقضي من تواتره بوجوب حدوثه كما نعتقد أعقاب الصبح للدجى. على أنه كثيراً ما تكذبنا الطبيعة فإنه لا شيء يضبطها حتى ولا نواميسها. تعريب - هزيز مرزا

في حدائق العرب

في حدائق العرب الزوج والزوجة قال رجل للحسن: إن لي بنية فمن ترى أن أزوجها؟ - قال: زوجها ممن يتقي الله، فإن أحبها أكرمها، وإن أبغضها لم يظلمها. * * * وقيل أيضاً للحسن: فلان خطب إلينا فلانة، قال: أهو موسر من عقل ودين؟ - قال: نعم. - قال: فزوجوه. * * * قال الأصمعي: اخبرني رجل من بني العنبر عن رجل من أصحابه، وكان مقلاً، فخطب إليه مكثر من مال مقل من عقل. فشاور فيه رجلاً يقال له أبو يزيد، فقال: لا تفعل ولا تزوج إلا عاقلاً ديناً، فإنه إن لم يكرمها لم يظلمها. ثم شاور رجلاً آخر يقال له أبو العلاء، فقال له: زوجه فإن ماله لها، وحمقه على نفسه. فزوجه فرأى منه ما يكره في نفسه وابنته، فأنشد: ألهفي إذ عصيت أبا يزيد ... ولهفي إذ أطعت أبا العلاء وكانت هفوة من غير ريح ... وكانت زلقة من غير ماء * * * خطب عمرو بن حجر إلى عوف بن محلم الشيباني ابنته أم أياس. فقال: نعم أزوجكها على أن اسمي بنيها، وأزوج بناتها. فقال عمرو بن

حجر: أما بنونا فنسميهم بأسمائنا وأسماء آبائنا وعمومتنا، وأما بناتنا فنزوجهن أكفاءهن من لملوك، ولكني أصدقها عقاراص في كندة وأمنحها حاجات قومها فلا ترد لأحد منهم حاجة. فقبل ذلك منه أبوها وزوجه إياها، وخلت بها أمها فقالت: أي بنية، إنك فارقت بيتك الذي منه خرجت، وعشك الذي منه درجت، إلى رجل لم تعرفيه وقرين لم تألفيه فكوني له أمة يكن لك عبداً، واحفظي له خصالاً عشراً تكن لك ذخراً: أما الأولى والثانية، فالخشوع له بالقناعة، وحسن السمع له بالطاعة. وأما الثالثة والرابعة، فالتفقد لموضع عينه وأنفه، فلا تقع عينه منك على قبيح، ولا يشم منك إلا أطيب ريح. وأما الخامسة والسادسة، فالتفقد لوقت منامه وطعامه، فإن تواتر الجوع مَلَهبة، وتنغيص النوم مغضبة. وأما السابعة والثامنة، فالاحتراس بمال، والإرعاء على حشمه وعياله، وملاك الأمر في المال حسن التقدير، وفي العيال حسن التدبير. وأما التاسعة والعاشرة، فلا تعصين له أمراً، ولا فتشين له سراً، فإنك إن خالفت أمره أوغرت صدره، وإن أفشيت سره لم تأمني غدره. ثم إياك والفرح بين يديه إذا كان مهتماً، والكآبة بين يديه إذا كان فرحاً. فولدت له الحرث بن عمرو جد امرئ القيس. * * *

قال ابن عبد ربه: الهناء كله مقصور على الحليلة الصالحة والزوجة الموافقة. والبلاء كله موكول بالقرينة السوء التي لا تسكن النفس على عشرتها ولا تقر العين برؤيتها. * * * ذكروا أن هنداً ابنة عتبة بن ربيعة قالت لأبيها: يا أبنت إنك زوجتني من هذا الرجل ولم تؤامرني في نفسي. فعرض لي معه ما عرض فلا تزوجني من أحد حتى تعرض علي أمره وتبين لي خصاله. فخطبها سهيل بن عمروا وأبو سفيان بن حرب فدخل عليها أبوها وهو يقول: أتاك سهيل وابن حرب وفيهما ... رضاً لك يا هند الهنود ومقنع وما منهما إلا يعاش بفضله ... وما منهما إلا يضر وينفع وما منهما إلا كريم مرزأ ... وما منهما إلا أغر سميذع فدونك فاختاري فأنت بصيرة ... ولا تخدعي إن المخادع يخدع قالت: يا أبت والله ما أصنع بهذا شيئاً، ولكن فسر لي أمرهما وبين لي خصالهما حتى أختار لنفي أشدهما موافقة لي. فبدأ بذكر سهيل بن عمرو فقال: أما أحدهما ففي ثروة وسعة من العيش، أن تابعته تابعك وإن ملت عنه حط إليك تحكمين في أهله وماله. وأما الآخر فموسع عليه منظور إليه في الحسب والنسب والرأي الأريب مدره أرومته وعز عشيرته شديد الغيرة كبير الطهرة لا ينام على ضعة ولا يرفع عصاه عن أهله.

الحقائق عندهم

فقالت: يا أبنت الأو سيد مضياع للحرة فما عست أن تلين بعد آبائها وتضع تحت جناحه إذا تابعها بعلها فأشرت، وخانها أهلها فأمنت فساء عند ذلك حالها وقبح دلالها، فإن جاءت بولد أحمقت، وإن أنجبت فعن خطأ ما أنجبت فاطو ذكر هذا عني ولا تسمه علي بعد. وأما الآخر فبعل الفتاة الخريدة الحرة العفيفة، وإني للتي لا أريب له عشيرة فتعيره ولا تصيره بذعر فتضيره. وإن لأخلاق مثل هذا لموافقة، فزوجنيه - فزوجها من أبي سفيان فولدت له معاوية وقبله يزيد. وقد قال سهيل في ذلك شعراً. فبلغ أبا سفيان فقال: والله لو أعلم شيئاً يرضي سهيلاً سوى طلاق هند لفعلته. وتزوج سهيل بن عمرو بعد ذلك امرأة فولدت له ولداً. فبينا هو سائر معه إذ نظر رجلاً يركب ناقة ويقود شاة. فقال لأبيه: يا أبت هذه ابنة هذه (يريد الشاة ابنة الناقة) فقال أبوه: يرحم الله هنداً - يعني ما كان من فراستها فيه. الحقائق عندهم أوهام عندنا إن القلب الذي لا يشعر بتألم الغير، لقلب قُدَّ من جلمد الصخر، لا يرى السعادة قط، والإنسان الذي لا يتألم لتألم أخيه الإنسان، لهو في شعوره وأمياله أقرب إلى الجماد منه إلى الحيوان. روح الإنسان جزء من روح الله فكل من لا يعني بترقية هذا الجزء يصبح مسؤولاً أمام الله والإنسانية. . .

ليت شعري متى تقف أنانية الرجل وحيوانيته عند حد يسمح لهذا الجزء بالرقي إلى أسمى درجات الكمال الأدبي؟. . . متى تفيق هذه النفس المتخدرة أعصابها بملاذ المحسوسات الخارجية، المعرضة عن الإصغاء إلى نغماتها الداخلية، اللاهية بزخرف المرئيات التي تجعلها آلة في يد ما يحدثه محيطها من المؤثرات الخادعة؟. . . متى تحس هذه النفس الملتحفة بأسمال العار الثملة من سورات الرخاء؟ شعلة رفق وحنان تذكرها بأختها أليفة الهم والكرب، حليفة الجهاد والعمل، ربة الخلة والعيال، نزيلة الكوخ والغار فتأوي إلى مفاقرها، وتلوي إلى خفيف أثقال أبهظت كاهلها، وفتت في ساعدها، وخلفتها كالأرض البراح مضرعة مستضعفة في زوايا هذا الكيان. ثمانون قرناً مرت على هذا المجتمع، وويلات البشرية المتألمة لم تخفف بعد. آلامها التي كانت ترزح تحتها هي نفس الآلام التي لا تزال تئن منها، والقروح التي كانت بالأمس تأكل لحمها هي نفس القروح التي تنخر اليوم عظمها. جمود متسولٍ على الطبقة العليا من بني الإنسان، قاض على شعورها، حائل دون رقي روحها، ولولاها لما رأينا الشقوة تبلغ حدها من هذا الوجود المملوء أوزاراً وأتعاباً: هذا الوجود، الذي يمثل الحاكم الظالم والشعب الخائن، بعيد عن العمران مائل إلى الانتقاض.

لو علم الظالم أنه باستقلاله الرعية واستذلالها يزيد عذابه في محكمة الخلود، وأن لا مفر للخائن من عذاب الضمير وتعنيف الوجدان، إذا هو أفلت من يد القانون، لما ظلم الظالم ولما خان الخائن. ولو كنت ممن يعتقدون بمذهب البسيمسم القائل بتقلص الخير تقلصاً تدريجياً من هذا الكون الفاسد وسيادة الشر فيه لتمنيت مع هارتمان الألماني أن تثور شرارة كهربائية فتحرق البشر في أقل من لمح البصر. ولكني أدين بدين ليس في شيء من هذا المعتقد الوهم المناقض لقاعدة بقاء الأنسب، والعامل على تقويض هذا المجتمع وتشنيعه بلا إثم ولا حرج. أدين بدين الحب ... ركائبه فالحب ديني وإيماني تأملات يتمخض بها فكر الكاتب في الصين فتلد فتصادف قلوباً واعية وآذاناً صاغية لربما أجزلت ثوابه وأعلت جنابه. وحقائق لو قذفها يراع في بلادنا غتت بلادنا في الضحك منها وسخرت واستغربت وصعرت خدها وصخبت وجازته بالجبنة والغلظة، وما ذاك إلا لأن الرقي في الصين - وهي في أول عهدها بالدستور يتخفر للانزلاق من حجر أمه ولابد له من يوم يعض نواجذخ ويبلغ أشده وهو عندنا موثوق بخناقه، مخنوق بوثاق من لا مبدأ لهم ولا اخلاق. لو لم أدن بدين الحب ولو لم يتغلغل في فؤادي حبي لبلادي لحطمت هذه القصبة، مجلبة المتربة، وجلوت عن هذه البلاد مهد الخمول والشقاء، وصقر المصلحين الأدباء.

في رياض الشعر

ولو لم أعلم أن النفس لا تنتهج محجة الاهتداء، ولا تخف إلى معالجة دائها العياء إلا بالاستهداء إلى عيبها ونقائصها، وبالوقوف على ذاتها ومغامزها لصورت لبلادي الحسن قبيحاً والقبيح حسناً، وأتيتها من خلب القول ما أقعدها عن كبير الفعل، والسلام. بيت جالا (فلسطين) - إسكندر الخوري في رياض الشعر المحبة 1 لولا المحبة لم تكن من ألفةٍ ... في العالمين ولا عهود إخاء ولكان بذل النفس في نفع السوى ... وهماً برأس الغول والعنقاء فارع المحبة فالإله محبة ... في صنعه والذات والأسماء 2 أجهلت أن من الفضائل كلها ... غير المحبة لا يدوم ويخلد لولا المحبة كان سكان الثرى ... حطباً لها في كل أرض موقد إبراهيم الحوراني وقفة ولما استترنا بالظلام عن الورى ... ولم نستطع ستراً عن الدمع والعتب تنكرني عزمي وغابت فصاحتي ... فأنطقها صمتي وشجعها رعبي عبد الحليم المصري

بنتي ودواتي تطوف في البيت مثل ... العصفور تطلب حبا حتى التقت بإناء ... فيه الأرز تخبا تناولته وألقت ... به إلى الأرض غضبى وراعها ما أتته ... فأسرعت تتخبا حتى إذا صار امناً ... ذاك الذي كان رعبا وأيقنت أن من ما قد ... جنته لم يك ذنبا دبت إلى الحب دبا ... وأمعنت فيه نهبا * * * نزري الحبوب على الأر ... ض وهي تضحك عجبا فليس تقبل زجراً ... وليس تفهم عتبا وتملأ الأرض حباً ... وتملأ البيت حبا فقلت يكفيك زرعاً ... لا ترتجي فيه خصبا يا بنت قد ساء طفلٌ ... على العناء تربى فاستضحكت ... فرحاً إذ=ظنت أقول المربى * * * وكان عندي دواة ... كم فرّجت لي كربا وسوّدت لي حظاً ... وبيّضت لي قلبا توهمتها إناء الحل_وى ... فجاءته وثبا وهاجتمها تريد الحل ... وى غلاباً وغصبا أردّها لا تبالي ... أصدها هي تأبى

فكان موقفنا في ال ... خصام يشبه حربا تغلبت وهي طفل ... والطفل يأنف غلبا فكان حظ دواتي ... والحبر كسراً وصبا * * * وا رحمتا لدواتي ... وقد سباها الأحبا كانت لدى الغزو تسبي ... فصارت اليوم تُسبى طانيوس عبده إلى إسماعيل باشا صبري مما وجدناه في الأوراق الشعرية التي اهداها إلينا حضرة حنفي بك ناصف الأبيات التالية وقد نظمها منذ سنوات في تهنئة صديقه إسماعيل باشا صبري (وكيل الحقانية سابقاً) بوظيفة النائب العمومي: لم ينلها سواك من اهل مصر ... والمعالي بالخاطب الكفء تدوي طمحت أنفس إليها فصانت ... حسنها عنهمو صيانة بكر رادوها عن نفس فاستخفت ... بنهاهم وقابلتهم بهجر وابتغت كفأها فكنت رضاها ... فهي شمس جرت إلى مستقر ومنها: أمض فينا القانون لا فرق فيه ... بين زيد من الرعايا وعمرو وانصر الحق ما استطعت وأصلح ... أمره إن نصره خير نصر لا تكن ليناً فترمى بضعف ... لا ولا جافياً فترمى بكسر بين هذا وذاك نهج حميدٌ ... آمن من يجوزه كل شر حنفي ناصف

وصف القلم (بعثها الشاعر إلى صديق أهدى إليه قلماً محبراً) أهديتني قلماً كي أنشئ الكلما ... فبات شكرك عندي واجباً لزما لا غرو أن يهدي الأقلام ذو أدب ... من معشرٍ عشقوا القرطاس والقلما * * * أحسن به أهيفاً لدن القوام متى ... يسر على الطرس يجعل رأسه قدما يفتر حين يرى بيض الصحائف عن ... ثغر لطيف إخال الحبر فيه لمى كأن من سود أحداق الحسان له ... لوناً لذلك غير السحر ما رقما كأن (ريشته) الصفراء قد طليت ... بذوب شمس فباتت تكشف الظلما يكاد يغني عن التفكير صاحبه ... فيرقم الشعر جزل اللفظ منسجما يكاد يبتكر المعنى البديع له ... إن شاء منتثراً أو شاء منتظما وقت السلام يسيل الماء منه لمن ... يصدى ويرعف في وقت الخصام دما وتارةً تجتلى الأنوار منه إذا ... جد الحوار وطوراً يقذف الحمما وليس ينضب منه الحبر فهم كمن ... أهداه يأنف ألا يألف الكرما يهوى الطروس فلم يبرح يدغدغها ... حباً فتلثم منه جبهة وفما وحين يبكي تراها وهي ضاحكة ... مثل الرياض إذا دمع السحاب همى * * * نعم الهدية جاءتني مخبرة ... إن الهدايا (بمعناها) غلت قيما فاقبل ثنائي منظوماً على عجل ... إن الأمين إذا حق الثنا نظما أمين ناصر الدين

الزهور السياسية

الزهور السياسية لعبت الزهنور في التاريخ دوراً خطيراً، وكان لها في الأحزاب السياسية شأن كبير وكثيراً ما كانت - وفي رمز الحب والوداد - رمزاً للبغضاء والعدوان. كانت إنجلترا في القرن الخامس عشر مرسحاً للحروب الأهلية. وكانت فيها عائلتان تتنازعان الاستيلاء على العرش. هما عائلة يورك وعائلة لانكاستر. وقد جعلت الأولى شعارها وردة بيضاء والأخرى وردة حمراءن ورسمت كل منهما صورة الوردة على وساماتها وأسلحتها وأزرار ملابس جنودها. ودارت في ذاك الوقت حرب طاحنة عرفت بحرب الوردتين. وكان الناس في القرن الثامن عشر يعتنون اعتناءً كبيراً بالقرنفل الأبيض ويفضلونه على جميع الأزهار خصوصاً بعد قتل الملك لويس السادس عشر. ومعلوم لدى كل من له إلمام بالتاريخ أن الملكة ماري انطوانيت سجنت وكانت تنتظر المشنقة بين ساعة وأخرى، وفي خلال سجنها كان يحضر لها كل صباح شخص من الحزب الملكي لبث مجهولاً إلى اليوم زهرة القرنفل الأبيض فكانت الملكة تغرزها في منطقتها السوداء ومن ذلك الحين سمي القرنفل الأبيض زهرة الملكة وأخذت السيدات يغرزن الأزهار في مناطقهن بعد أن كن يحملنها على صدورهن. وفي عهد الإصلاح كان أنصار العرش والكنيسة يتزينون بالقرنفل

الأبيض، وكان الأحرار يتزينون بالورد الأحمر. فكانت هذه الزهور تدعو كل يوم إلى معارك دومية، فإن كل حامل قرنفلة بيضاء عندما كان يصادف شخصاً في عروة ردائه وردة حمراء كان يقابله بالشتم والإهانة، وقد قابل مرة في ليموج أحد أنصار العرش شقيقة الذي كان من الأحرار وفي عروة ردائه وردة حمراء ولم يكن الواحد منهما من قبل يعرف مبدأ الآخر فتبارزا وقتل أحد الشقيقين شقيقه بسبب حمله الوردة الحمراء. وعلى عهد شارل الخامس كانت الأفضلية بين الزهور في فرنسا لزهر الزنبق وهو زهرة ملوك فرنسا. غير أن نابليون بونابرت قال قد انتهى عهد الزنبق واستبدله بزهر البنفسج الزكي الرائحة. وأقرب زمن إلينا عهد الجنرال بولانجه فإن هذا القائد اتخذ شعاراً له زهر القرنفل الأحمر فكان يتزين به هو وجميع أنصاره. ثم أن غليوم جد إمبراطور ألمانيا الحالي اتخذ الريحان شعاراً له وأمر بجعله الزهر الوطني للإمبراطورية الألمانية. ويقولون إنه كان يجمع بنفسه باقات الريحان في الحقول والسهول وهو زاحف على باريس في حرب السبعين التي قامت بين فرنسا وبروسيا. ثم أن الريحان والورد يعتبران الآن في نظر العالم أنهما من اختصاص الأمة الفرنسية. ولما احتفلت هذه الأمة ببلوغ شاعرها المشهور فيكتور هوجو الثمانين من عمره أحاطت به الشبيبة الفرنسية وعلى صدر كل فتاة زهرة ريحان أو وردة وكذلك في عرى أردية الشبان.

السنوسيون

السنوسيون طرابلس الغرب التي استعرت نار القتال بسببها بين الدولة العثمانية وإيطاليا بلاد قاحلة وصحارى مترامية الأطراف متسعة الأكناف تبلغ مساحتها مليوناً و51 ألف كيلومتر مربع وعدد سكانها لا يزيد على المليون بكثير. وقد عرف القراء من الصحف اليومية معظم ما تهم معرفته بشأنها ولكننا أحببنا أن نذكر لهم شيئاً عن قبائل السنوسيين الضاربة في شمالي أفريقيا والتي كثر ذكرها في معرض العكلام عن تلك الحربن فنقول: إن قبائل السنوسيين من أشهر قبائل الغرب وأكثرها نزوعاً إلى القتال وأشدها شغفاً بخوض غمرات الحرب، وهي عزيزة الجانب نافذة الكلمة، تكاد بنظامها تحاكي إمارة من الإمارات، وبشجاعة أفرادها تفوق الرجال، وهي منتشرة في معظم تلك البقعة من أفريقيا، وقد لاقت منها فرنسا في الجزائر أهوالاً. ولا عجب إذا كانت قبائل السنوسيين ذات دربة في القتال وحنكة في الحرب فإن موقع البلاد الضاربة فيها على طريق الغزاة الفاتحين. فدعاها ذلك إلى المكافحة مدة عشرين قرناً ونيف. وإذا كانت قد هدأت وسكنت في النصف الثاني من القرن المنصرم فالسبب في ذلك راجع إلى شدة ما أصابها من جراء الحملة الفرنسوية الأولى سنة 1852 وخصوصاً الحملة الثانية سنة 1857. وتشهد بأهمية ذلك الموقع من الوجهة العسكرية الحركات الحربية المتعددة التي جرت في تلك الأنحاء. ففي هذه الأصقاع كان ممر الرومانيين والفندال والعرب، وفيها كان معترك المراودة والمهاودة والمراونة بعد الفتح

الإسلامي، كما أن سلاطين تلمسان وفاس قد تنازعوا السيادة هناك مدة ثلاثة قرون. وقام بعد ذلك مولاي إسماعيل معاصر لويس الرابع عشر ملك فرنسا واقفاً في وجه الأتراك الفاتحين في ذلك الموضع نفسه. وفي ذاك العهد كان السنوسيون منحازين إلى صاحب الجزائر. ولربما كان مولاي إسماعيل أول من تمكن من إخضاعهم بعد حملتين قويتين حملهما عليهم سنة 1679 و1680 فخرب دورهم واقتلع آثارهم وأنزل بهم الويلات حتى ساءت حالهم وتضعضعت أركانهم، ولم يسالمهم إلا بعد أن سلموا سلاحهم وخيولهم وبنى في جبالهم ثلاثة حصون منيعة. وأول مقابلة في ساحة القتال بين الفرنسويين والسنوسيين كانت سنة 1844 وكان عددهم الأكبر وبأسهم الأشد في جيش سيدي محمد الذي انتصر عليه المارشال بوجو في معركة إسلي. وقد كان هذا الانتصار عظيماً، لكن المعاهدة التي تلته جرت على الفرنسويين كل ما لاقوا بعد ذلك من الصعاب في تلك الأمصار، لنهم كانوا يجهلون تخطيط البلاد فقبلوا بتحديد التخوم الفاصلة كما عرضت عليهم فأصبح قسم من القبائل داخلاً في منطقة الحماية الفرنسوية وظل قسم كبير خارجاً عنها، فصعب على فرنسا توطيد سلطتها في مستعمراتها الأفريقية. على أن الجيوش الفرنسوية لم تتقيد في حملة 1852 بنص المعاهدة ولم تحترم تلك الحدود. فقد جاء في تاريخ الجزائر تأليف بليسيه ده رينو أن الجنرال ده مونتوبان لم يخش أن يجتاز التخوم الفاصلة، بل تعداها متتبعاً آثار السنوسيين، وقد فعل الجنرال ماك ماهون فعله من جهة

حدود تونس دون أن يقوم من يعترض. وذلك لأن أنظار الدول في ذاك العهد لم تكن متجهة إلى ذلك القسم من أفريقيا، ولم يحتج السلطان عبد الرحمن صاحب مراكش لأن فرنسا كانت قد هددته بالزحف على بلاده إذا صدر منه ما يقلقها. أما السنوسيون فدفعتهم جرأتهم إلى شن الغارة على القبائل الراضخة للفرنسويين، فجندت فرنسا 4. 500 مقابل بين مشاة وفرسان. وزحفت الحملة إلى جهة تخوم مراكش وكانت القبائل قد حشدت هنا جيشاً لا يقل عن 6. 000 محارب. ولكنه لم يهاجم الفرنسويين بل اكتفى بمناوشات صغيرة مدة من الزمن، ولما غولو على الهجوم أصابهم الفشل وعادوا خاسرين. هذا أهم ما كان في حملة سنة 1852. أما حملة 1859 فإنها كانت أكبر أهمية. وسببها أن رجلاً في بلاد الزاوية اسمه سيدي محمد بن عبد الله قام ونفخ في صدور السنوسيين روح الثورة والتمرد. فهجموا في شعر أغسطس من تلك السنة على سيدي ظاهر وكسروا الجنود الفرنسوية المرابطة هنالك وسلبوا القبائل الموالية لها. فلعبت برؤوسهم خمرة الانتصار وجمعوا جموعهم حتى بلغوا السبعة آلاف وهجموا على وادي التيولي فدحرتهم الجنود الفرنسوية فتقهقروا إلى ما وراء التخوم واشتدت الفوضى في البلاد فعزمت فرنسا على أن تضرب الضربة القاضية فأرسلت جيشاً يناهز العشرين ألف مقاتل بقيادة الجنرال ده مارتنبري فتحصنت القبائل في الجبال والمضايق. ولكن لما سدت في وجهها أبواب الفرج حضر الحاج ميمون أحد زعمائهم إلى

مضرب الجنرال ده مارتنبري طالباً الأمان والسلم وقدم الرهائن ورضي بدفع ضريبة مئة فرنك عن كل بندقية. هذا بعض ما جرى لفرنسا مع السنوسيين، وإيطاليا الآن في أول عهد مناوشاتها معهم، وهي لاشك لاقية من قوة بأسهم وشدة مراسهم ما يحملها الخسائر الباهظة بالمال والرجال. ونختم هذه اللمحة التاريخية الوجيزة بما كتبه عن السنوسيين أحد الصحافيين الإفرنج الذين زاروا طرابلس الغرب منذ مدة قريبة قال ما ملخصه: . . . . وبينما كنت سائراً في أحد الشوارع سمعت ضجة وأصواتاً تكاد تشق الفضاء وطبولاً تضرب ومزماراً يعزف ووقع حوافر جياد، فوقفت لأفتح طريقاً لجمهور كبير عن الأولاد والبرابرة والسودانيين، وما هي إلا برهة وجيزة حتى علمت أن هذه الحفلة أقيمت لشرذمة من فرسان السنوسيين قدموا إلى طرابلس. . . سار الفرسان أربعة أربعة بنظام مدهش وترتيب عجيب: وجوه سوداء ورؤوس تعلوها عمائم بيضاء وقد التحفوا باردية بيضاء أيضاً (برانس)، وبنادقهم مربوطة بسروج خيولهم والرماح على اكتافهم والسيوف متدلية إلى جانبهم. سار موكب هؤلاء الفرسان بترتيب عسكري جميل، وكانت ركاب الفارس ملتصقة بركاب الفارس المحاذي له، وخيلهم تسير بخطوات منسقة على نقرات الطبول ونغمات المزمار. وقد وقفت عند مرورهم جامداً لا أبدي حراكاً وقد دهشت لجمالهم الرائع وسوادهم اللامع وصحة أبدانهم وطول قاماتهم، وأيقنت أنه لو تم تنظيمهم على الطرق العسكرية الحديثة لحاربوا

الوصايا العشر

مملكة عظيمة وحدهم. وقد رأيت هؤلاء السنوسيين أيضاً في إحدى قهوات طرابلسن رأيتهم جلوساً وقد خيمت عليهم السكينة، فلا ضجة ولا هرج بل كانوا كأنهم خارجون للانتقام وعلامات الرزانة والرصانة بادية على وجوههم. وقد جلست إلى جانبهم أتأمل حالتهم، وما هي إلا هنيهة حتى رأيتهم وقفوا وبسرعة البرق امتطوا صهوات خيولهم ونظموا صفوفهم وساروا تكتنفهم الهيبة والوقار. . . . هذا بعض الشيء عن السنوسيين الذين تعتمد عليهم الدولة الآن في رد غارات الطليان عن طرابلس الغرب. الوصايا العشر للنساء المتزوجات وضع أحدهم الوصايا العشر الآتية وهو يعتقد أن فيها سعادة النساء المتزوجات. فلتجربها قارئاتنا الكريمات وليعرفنا مبلغ صحتها: 1 - تحاشي الخلاف الأول مع زوجك، ولكن إذا لم يكن بد من حدوثه فاعملي على الخروج منه منتصرة لأن انتصارك الأول يرفع قدرك في عين رجلك. 2 - لا تنسي أنك تزوجت رجلاً لا إلهاً، فتسامحي عن نقائصه.

3 - لا تجعلي طلب الدراهم همك الوحيد مع زوجك، بل اعملي على الاقتصاد مما يعطيك. 4 - إذا كنت تعتقدين أن زوجك بلا قلب فلا تعتقدي أنه بلا معدة. وإذا اعتنيت بمعدته فإنك تتوصلين بالطعام الجيد إلى اكتساب قلبه. 5 - سلمي له بالحق من حين إلى حين في الجدال، فهذا مما يسره ولا يضركز 6 - اقرأي الجرائد والمجلات ليس فقط لمعرفة أخبار المودة والحوادث المختلفة بل أيضاً لمتابعة الحركة الفكرية والأدبية، فيبتهج زوجك عندما يراك قادرة أن تحديثه بالعلوم والسياسة. 7 - لا تكوني فظة غليظة في جدالك مع زوجك ولا تكوني البادئة في الخلاف، واعتبريه عادة أرقى منك. 8 - سلمي من حين إلى حين بأنه أكثر منك إدراكاً للأمور وأقدر على حل المشاكل، ولا تعتقدي أنك معصومة عن الغلط. 9 - إذا كان زوجك ذكياً عالماً فكوني صديقته، وإلا فكوني صديقته ومستشارته. 10 - كوني كثيرة الاحترام لأهل زوجك وخصوصاً لأمه، ولا تنسي أنها أحبته واعتنت به قبلك بكثير. . . . نقدم هذه النصائح للقارئات علهن يجدن فيها السعادة والهناء. . . .

ثمرات المطابع

ثمرات المطابع طبيب مستشفى قليوب وصاحب كتاب التشخيص الجراحي, والحمل خارج الرحم, والعملية القيصرية, والعلاج بعد العمليات إلخ.

العلاج بعد العمليات - تكلمنا في الجزء الأخير من الزهور ص 328 عن كتاب التشخيص الجراحي الذي وضعه حضرة الدكتور محمد أفندي عبد الحميد، وأثنينا على همة هذا الطبيب البارع الدائب على إتحاف العالم العربي بأنفس الكتب العلمية الطبية. ولم يخطئ ظننا بصديقنا الدكتور عبد الحميد، فإنه ما كاد يفرغ من كتابه المتقدم ذكره حتى زف إلى القراء كتاباً آخر متمماً له لا يقل عنه نفعاً وفائدة، وعنوانه يكفي للدلالة على أهمية موضوعه. فهو يتناول طرق العلاج الواجب اتباعها بعد كل عملية من العمليات الجراحية المختلفة إتماماً للشفاء وتفادياً من المضاعفات التي تطرأ عادةً على المريض. وقد اعتمد في كتابه هذا على مؤلف شهير للعلامة لوكهارت ممري فجاء البحث كافياً وافياً من حيث الموضوع، طلياً واضحاً من حيث العبارة. أما الخدمة التي يقدمها الدكتور عبد الحميد فهي تعد من الأعمال التي يكفي ذكرها لإظهار فضل القائم بها. وإذا نحن عرفنا القراء اليوم بصورته المادية بعد أن عرفوا صورته الأدبية فلكي نذيع فضله وأدبه ونلفت كل قراء الزهور إلى كتبه النفيسة حيث يجدون الفوائد الكثيرة. تذكار المؤتمر القبطي - هو من الكتب التي جاءتنا في عظلمة الصيف فاضطررنا إلى إرجاء الكلام عنه لليوم وإن كان مضى على صدوره

بضعة أشهر. وهو كناية عن مجموعة رسائل مصورة بحث فيها واضعها حضرة الكاتب المعروف توفيق أفندي حبيب المحرر في جريدة الأخبار بحثاً مسهباً في تاريخ المسألة البطية والمؤتمر وما تلي وجرى فيه من الخطب والمناقشات. ولحضرة المؤلف معرفة واهتمام بشؤون طائفته وله في هذه المواضيع كتابات إصلاحية نافعةن وإن كان بعضها لا يخلو من التطرف شأن كل الذين يحاولون بث روح جديدة في الأجسام القديمة. فعسى أن تتحقق أماني النهضة التي يرجوها الكاتب الأديب. من أفواه الأسود - نالت رسائل الغرام التي ينشرها حضرة الناثر الشاعر سليم أفندي عبد الأحد في هذه المجلة تباعاً استحسان عموم القراء، وراق الجميع حسن أسلوبها الكتابي وطلاوة إنشائها. وقد أهدى إلينا اليوم رواية بالعنوان المتقدم ترجمها عن الإنجليزية وكان قد نشرها تباعاً في مجلة الشرق والغرب وهي كثيرة الوقائع متنوعة الحوادث رشيقة العبارة حسنة السبك مزينة برسوم جميلة وسيجد القراء فيها ما يلذهم. تاريخ حرب فرنسا وألمانيا - توجهت الأنظار في المدة الأخيرة إلى فرنسا وألمانيا بسبب اشتداد الأزمة المراكشية فكان ظهور هذا الكتاب في أوانه وهو من قلم جرجي أفندي يني الطرابلسي منشئ مجلة

المباحث وقد عني بإعادة طبعه بعد ما كان قد نشر فيم جلة الجنان يوسف أفندي توما البستاني وجبس 20 في المئة من ثمنه لإعانة الأسطول العثماني. أما الكتاب فهو يتناول حوادث تلك الحرب الشعواء التي اتقدت نيرانها في السنة السبعين بين دولتي فرنسا وبروسيا وكان من أمرها ما كان، وفيه رسوم أبطال تلك الوقائع الشهيرة. وكنا نتمنى زيادة اعتناء في ضبط أسماء الأعلام لاسيما وهي من الأسماء المشهورة، فكثيراً ما ترد في الصفحة الواحدة مكتوبة على شكلين أو مغلوطة في أكثر من حرف. وعلى كل فيسرنا زيادة انتشار الكتب المفيدة في لغتنا وهذا التاريخ منها. لغة العرب - لم يبق من حاجة إلى تعريف القراء بمراسلنا البغدادي العلامة المدقق فإن أبحاثه عن بلاد العرب كان لها أجمل وقع عند العلماءو كنا قد أشرنا في الجزء الخامس من هذه السنة إلى قرب إصداره مجلة في بغداد. وها قد انفذ هذا المشروع وجاءتنا الأعداد الأولى من لغة العرب محققة ما كان ينتظر من أدبه الرائع وعلمه الواسع. وبدل الاشتراك في البلاد العربية 9 فرنكات. والكاتبة تكون بعنوان دير الآباء الكرمليين في بغداد أو بعنوان الزهور بمصرز مجلة الآثار - مجلة أخرى أدبية علمية أصدرها كاتب مدقق معروف وهو عيسى أفندي إسكندر المعلوف صاحب الآثار الأدبية الكثيرة. وهي ستنال منزلة رفيعة في عالم الأدب بهمة منشئها وسعة إطلاعه ونشاطه في العمل. قيمة الاشتراك: ريال ونصف. وفي البلاد الأجنبية 10 فرنكات.

أزهار وأشواك

أزهار وأشواك مقاطعة الطليان لا حديث للقوم واهتما لهم إلا بأخبار الحرب الدائرة رحاها بين الدولتين العثمانية والإيطالية، والصحف السياسية تواصل القراء صباح مساء بأنباء آخر ساعة. وأصحاب الغيرة الوطنية يدعون ذوي المروءة إلى بذل الدرهم والتطوع للذود عن حياض الوطن ومقاطعة الطليان في صناعاتهم ومحصولاتهم، ولست أدعو أحداً من قرائي إلى أمرٍ أحجم عنه، فإني لا أخشى أن أقول أخشى على فخارتي أن تحطما ولكن هناك مقاطعة لغوية لا تجارية أحب أن أكون رافع لوائها. لم أعرف قطراً عربياً تفشت لغة الطليان في لغة قومه تفشيها في لغة وادي النيل، وإن كانت الألفاظ العربية المشتقة من الطليانية وأمها اللاتينية ليست بالشيء القليل، على أن شيوعها في مصر بلغ التطرف. فإذا جلست في قهوة تسمع المصري الصعيدي الذي يبيع الخبز ينادي عيش فينو وبائع الحلوى يجيبه طازة فريسكا وبائع العصفور التيان يصرخ بكافيكا إلى غير ذلك كالفراولة واللامبا والبنا وإذا انتبهت إلى حديث الشبان الذين على آخر مودة لا تسمع إلا: كنت في التيرو (يعني صيد الحمام) وذاهب إلى التياترو وأمثال ذلك. وإذا كنت في بيتك ساعة الظهيرة تسمع فجأة صوتاً يشق الفضاء روبافكيا يعني ملابس عتيقة للبيع. أما التجارة فتكاد لا تجد فيها مسمى غير إيطالي

الاسم كالمانيفستو والمايسترو والبلنشو والبروتستو وفرنكوبوردو إلخ. أنا لا أريد أن أكون لغوياً ثقيلاً متطرفاً ولكن كثرة الدخليل الإيطالي إلى لغتنا لمما يكاد يفسدها علينا. فهيا إلى المقاطعة! السلام التركي أريد هذه المرة أن يسر الوطنيون العثمانيون بأزهاري وأشواكي. فبعد أن دعوت إلى مقاطعة الطليان ها أنا داع إلى الاقتباس من الأتراك من حيث عادة السلام. . . . للتحية أنواع كضرب القدم بالقدم أو حس الأنف بالأنف أو غير ذلك من الاصطلاحات الغريبة ولكن الطريقة الأكثر شيوعاً هي المصافحة باليد، وهي وإن كانت تفضل سواها من أنواع التحيات التي أشرت إليها على أني أفضل عليها السلام التركي وهو وضع اليد على الصدر فالفم فالرأس، ولهذا التفضيل في نظري أسباب منها شعرية ومنها صحية ومنها عملية. من ذلك أنك إذا حييت صديقاً على هذه الطريقة فكأنك تقول له: إن ذكرك في قلبي وعلى لساني وفي فكري. وإذا سلمت بالسلام التركي تأمن على نفسك من عدوى أمراض كثيرة تنتقل باللمس ناهيك بما يصيبك من مصافحة بعض الأيدي من الاشمئزاز وخصوصاً في أيام الصيف. والأطباء يوافقوني على ذلك. والعامة تقول عن الرجل الطماع إذا صافحته فعد أصابعك فسلم دائماً سلاماً تركياً تأمن على أصابعك العشر. وإذا دخلت إلى مجتمع عام وحاولت أن تسلم بالطريقة المعتادة أعني بالمصافحة

فإنك تحدث تبلبلاً يزعجك ويزعج المجتمعين، وكثيراً ما لا تعرف بمن تبتدئ ولا بمن تنتهي. أما إذا سلمت كما أشير فإنك بإشارة لطيفة تحيي الجميع بكل سرعة وأدب دون أن تزعج أو تنزعج. وفي الختام أترك قلمي وأضع يدي على صدري ففمي فرأسي وأحييك أيها القراء العزيز تحية تركية استنابولية ولن أصافحك بعد اليوم. . . . في منزل سليم سركيس اجتمع في الأسبوع الماضي رهط من الأفاضل وفيهم الباشا والبك والشيخ والأديب والشاعر والطبيب والتاجر احتفاءً بالسيدة نجلا صباغ صديقة سليم سركيس وصاحبة الأيدي البيضاء على المشروعات الأدبية والاجتماعية في الديار الأمريكية. جمع سركيس نخبة من أصدقائه (من كل النمر) في هذه الحفلة الزاهرة ولكني لم أر بينهم محامياً واحداً فقلت في نفسي: يخاف صاحبنا أن يجتمع بمن قد يفوقه بحركة اللسان ولا يجمع السيفان في غمد معاً. . . أديرت كؤوس الشراب ومدت موائد الطعام وسرعان ما كانت تفرغ هذه وتلك وتذهب إلى حيث. . . وقد حفظت قائمة الأكل لقرائي ليشاركوني ولو بالفكر في هذه اللذة: شوربا، دندي، باميا. بوغاشة، حمام. كتفه. ورق عنب. كستلاتة، الجاويش، الأرز، عيش السرايا، فطير باللحمة. كشك الفقراء (كذب الاسم) الماظية وفواكه متنوعة. ولولا مهارة الطباخ. وابتهاج الآكلين وبشاشة صاحب الدعوة لصيب أكثر من واحد بتخمة. وكانت بعد ذلك بعض سويعات

قوة تركيا وإيطاليا

لطيفة انقضت بالهضم والمسامرة. وسركيس بملابسه البلدية كأم العروس ينتقل من حلقة إلى حلقة، ومدامته ترحب بالجميع بمنتهى الرقة والظرف، وولده أنور على ذراعي مرضعه ينظر مدهوشاً إلى أعمال أبيه. ومن محاسن هذه السهرة أن كل شاعر أو كاتب لم ير من المحتم الواجب أن ينغص عيش المتسامرين بقصيدة أو خطاب شأننا في كل اجتماعاتنا بل اكتفى القوم بأن طلبوا من خليل مطران أن يطربهم بشيء من النظم، فأسكرهم بالشعر بعد الخمر، وتلا قصيدة وصف بها حالته وحالة ابنة عمه المحتفل بها أيام كانا ولدين يلعبان على شاطئ النهر. ولو وفى صديقي خليل بوعده لكنت ناشرها اليوم للقراء. . . ثم وقفت السيدة نجلا وألقت كلمات هي الدر أو أغلى بلفظ مليح ونطق فصيح. فذكرت المهاجرين وتعلقهم بأبيهم الوطن وأمهم اللغة. وهكذا مضى هزيع من الليل والبشر مخيم على منزل نمرة 15 بشارع الفجالة بمصر. حاصد قوة تركيا وإيطاليا بمناسبة نشوب القتال بين الدولة العثمانية وإيطاليا ننشر لفائدة القراء الأرقام التالية وفيها مقابلة بين قوى الدولتين: القوى البحرية تركياإيطاليا مدرعات711 طرادات مدرعة0010 طرادات صغيرة26 نسافات 1023

اللورد أفبري

رعادات وحراقات 1574 غواصات007 وبين المدرعات العثمانية السبع مدرعتان فقط يصح الاعتماد عليهما، وهما اللتان ابتاعتهما الدولة من ألمانيا، وتقطع الواحدة منهما في الساعة 17 عقدة. أما الأسطول الإيطالي فيعد في المنزلة الرابعة بين أساطيل أوروبا. القوى البرية تركيا إيطاليا جنود في السلم380. 000384. 000 في وقت الحرب1. 000. 0003. 000. 000 مدافع 1. 600 1. 716 نفقات عسكرية4. 600. 000 جنيه 11. 000. 000 جنيه اللورد أفبري (هو كاتب وفيلسوف إنكليزي شهير وقد نقل حضرة الأديب وديع أفندي البستاني بعض مؤلفاته إلى اللغة العربية. ولما ذهب إلى لوندرا في هذا الصيف زاره في منزله وكتب عنه النبذة الآتية لتكون مقدمة لكتاب مسرات الحياة الذي سيظهر في هذا الشهر، وأرسلها إلينا فأحببنا أن ننشرها للقراء ليروا كيف يعمل ذوو الجد والنشاط على خدمة بلادهم وإخوانهم في الإنسانية): ولد اللورد أفبري في 30 أبريل (نيسان) 1834، فهو اليوم شيخ جليل، على أعتاب الثمانين، وفرد من أفراد العالم المعدودين، معروف لدى بضعة ملايين ممن طالعوا كتاباته، ولدى عشرات الملايين ممن انتفعوا بإصلاحاته. ففضله كبير عميم، وقدره رفيع عظيم. ولئن اعتبرنا صاحب المليون من الأصفر الرنان الذي يغلب أن يكون قد ابتز

أمواله ابتزازاً، وأتى كل فرية، واقترف كل إثم في سبيل جمعها وتوفيرها، فما قولنا في فردٍ أفاد الملايين من الناس، حتى أصحاب الملايين كما سترى؟ فهو رجل يعد برجال، وسيرته سيرة أبطال. وأنى لي في هذه العجالة أن أذكر جميع ما أعرفه عنه. مع أني لا أعرف إلا البعض من أعماله العظيمة، وآثاره الخالدة، وقد رأيت أن أكتفي بما يلي تأييداً لما سبق. ولعل قارئ هذه الأسطر من قراء معنى الحياة والسعادة والسلام اللذين نشرتهما الأول في أواسط 1909 (وقد نفذت طبعته الأولى والثانية صادرة عن قريب) والثاني في أواخر 1910 (وطبعته على وشك النفاد). وإنما أذكر ذلك دلالةً على أن مؤلفات اللورد أفبري قد انتشر انتشاراً سريعاً حتى بين قراء العربية، على قلة عددهم وحداثة عهدهم بالإقبال على هذا النوع من المؤلفات. ولكن أين انتشارها بين ظهرانينا من انتشارها في إنكلترا وسائر الأقطار العربية! وإني لا اعلم أأخجل أم أفتخر إذ أقول إن غيرنا من الشرقيين أسبق منا إلى نقل مثل هذه الكتب إلى لغاتهم، وأكثر إقبالاً عليها واستفادة منها، فقد أعيد طبع معنى الحياة خمس مرات في اليابان ونقل إلى كثير من اللغات الشرقية التي لا تقاس بشيء من أهمية لغتنا الشريفة المحبوبة. . . ولا غرو فإنما اللغة بأبنائها. ولقد كانت أجيالنا الأخيرة أجيال ظلم وظلام، وجعل واستبداد، وتأخر وانحطاط. . . والله يعلم من الملوم ومن المسؤول. أجل أين انتشار هذه الكتب بين أقوامنا من انتشارها بين سائر الأقوام! فقد بيع من مسرات الحياة هذا 250000 نسخة في إنكلترا وحدها، وطبع أكثر من 30 طبعة خارج البلاد الإنجليزية. وقد بيع من معنى الحياة 20000 نسخة إنكليزية، ونقل إلى كل من اللغات الأوروبية المعروفة كالفرنساوية والألمانية والتليانية إلخ وإلى أغلب لغات الدنيا

الحية والأقل شأناً كالبوهيمية واليونانية واليابانية والهندية (الهندوستاني) والروسية إلخ. وقد بيع للآن 70000 نسخة إنكليزية من كتابه محاسن الطبيعة وترجم إلى عدد كبير من اللغات كسابقيه. أما كتابه السعادة والسلام فقد ظهر في أواخر 1909 ولا أعلم عدد النسخ التي بيعت منه إلى الآن ولا عدد اللغات التي نقل إليها. ولاشك أن نصيبه من الرواج كنصيب أمثاله إن لم يكن أعظم، لأنه آخر تآليفه وأتمها في هذا الموضوع. فإذا أحصينا عدد النسخ التي نفدت من الأربعة المذكورة من مؤلفاته، وذكرنا أن له غيرها في هذا الموضوع ما لا يقل عنها شاناً ورواجاً، وعلمنا أن مصنفاته عشرون ونيف، وأن ما نقل منها إلى الإفرنسية (تلك اللغة الغنية) أكثر من 12 وإن الرجل لا يزال ينفح العالم بنفثات يراعه - أجل إذا اعتبرنا كل ذلك سهل علينا أن نتصور كيف يكون لكاتب واحد ملايين من القراء. وهل المخاطب الكريم واحد من أولئك الملايين، وما أنا إلا واحد من مئات المترجمين لهذا المؤلف العظيم. فهل تراني كنت مبالغاً في القول إنه رجل برجال. على أن اللورد أفبري ليس كتاباً فقط. فقد أفاد العالم أجمع وإنكلترا خصوصاً بخدماته الجلى العلمية والإدارية والسياسية والاجتماعية كما يتضح لك مما يلي نقلاً عن رسالة نشرتها شركة التراجم بلندرا سنة 1903: إن اللورد أفبري - من يعرفه جمهور العمال والمستخدمين في هذه البلاد ويذكرون جميله ويشكرون صنيعه، لأنه أول من منحهم العيد السنوي المعروف (ببنك هوليداي أي عيد المصارف البنوكة) وأول من سعى في أمر قفل محال العمل باكراً - هو رجل أتى في حياته من العمال العظيمة ما يكفي لإذاعة شهرة رجال. لأن نصيبه من خدمة العلم والآداب في القرن التاسع عشر كان نصيباً وافراً، ومصنفاته في التاريخ الطبيعي وسائر الفروع العلمية، فضلاً عن إصلاحاته المجلسية والاجتماعية، تبرهن لنا أنه

يمكن لرجل واحد أن يلعب في حياته عدة أدوار على مرسح هذا العالم، ويكون محرزاً الفخر الحقيقي لنفسه، وجالباً النفع العمومي على قومه وبني جنسه. ومن إصلاحاته الإدارية في عالم التجارة والماليات إحداثه الطريقة المعروفة بالتصفية المحلية. وحينما كان سكرتيراً لنقابة صيارفة لندرا (وهو مركز شغله مدة 25 علماً) تم له أيضاً أن يصلح طريقة التصفية العمومية. وإذا أردت أن تتصور أهمية هذين الإصلاحين فحسبك أن تعلم قيمة الأوراق المالية التي تمر في الإدارة التي كان هو الداعي إلى تأسيسها قلما تقل عن 100. 000. 000 جنيه إنكليزي في اليوم الواحد. ونذكر في هذا المقام أنه تخرج في كلية ايتون حيث أظهر ذكاء غريباً، وفاز بقصب السبق في جميع الفروع، ولكنه لم يدخل جامعة اوكسفورد أو كمبردج بل دخل مدرسة العالم الكبرى وابتدأ حياته العلمية في الرابعة عشرة من عمره. وكل ما أحرزه من العلم والمعرفة بعد ذلك إنما احرزه بفضل رغبته وصدق عزيمته. والحق يقال إنه لم يرث من أبيه الأموال الطائلة فقط، بل ورث معها الأميال العلمية التي اتبعها وكان خير خلف لخير سلف. فإن أباه كان راسخ القدم وطويل الباع في الفلكيات والرياضيات وله آثار تأليفية خالدة. ولعل نجله الصغير (وهو فتى دون العشرين من السن) يكون خير خلف له أيضاً، فإنني رأيت فيه على حداثته شاباً غزير المواهب واسع الإطلاع، وقد خرجت معه لفسحة في الأحراج والجنائن المغروسة حول القصر، فشهدت وسمعت منه ما أود لو سمح المجال بذكره مثالاً للتربية الإنكليزية. ولنعد بعد هذا الاستطراد إلى حيث وصلنا من ذكر الإصلاحات التي أحدثها مؤلف هذا الكتاب في التجاريات والماليات، فنرى أن فضله يشمل حتى أصحاب الملايين، ولكنه غير مقصور على هؤلاء الأفراد القلائل، فإنه يعم الملايين، بلا

مبالغة. واعتبر ذلك بما تم على يده من الإصلاحات التي جاءت عن طريق مجلس النواب وأصبحت شرائع آئلة إلى نفع كل فرد من ملايين الرعايا الإنكليز. فإن عدد اللوائح التي مرت تحت نظر المجلس النيابي وكان هو العضو الساعي والناجح في تنفيذها وجعلها نظامات وشرائع مقررة يبلغ 29 وهذا شأو لم يبلغه غيره من أعضاء المجالس النيابية. ومن تلك اللوائح التي أعدها وقدمها اللائحة التي قصد فيها تعديل النظام المختص بالمكاتب الحرة، وهو عمل آل ويؤول إلى زيادة انتشار العمل، ونعم المآل. ومنها أيضاً لائحة التحاويل التي أصبحت نظاماً جامعاً لجميع المواد القضائية المتعلقة بالأعمال المالية. ومنها لائحة ساعات العمل ولائحة القفل الباكر ولوائح أخرى عادت على العمال والمستخدمين بالنفع العميم. فمن وقف على مثل هذه من أعماله العظيمة فكيف يتردد في القول إنه: خدم البلاد وليس أشرف عنده ... من أن يسمى خادماً لبلاده وبلاده تحوي الملايين من النفوس، ولا غرو إذاً إن قلنا إن فضله عم عشرات الملايين. أما الرتب والألقاب التي نالها بفضل علمه وعمله، فلا أظن أنه تسنى لأحد غيره أن يفوز بمثلها عدداً وأهمية. ولنقل كلمة في هذا الصدد تنويهاً بشهرته التي أحرزها عن جدارة واستحقاق. حتى عام 1900 كان يعرف بالسير جون لبك، وحينئذ توج لورداً وصار يعرف باللورد أفبري. وعنده رتبة لجيون دونور من الحكومة الفرنساوية، ورتبة اوردر أوف مرت من الحكومة الألمانية، وهو اليوم عضو في اللجنة الملوكانية، ومن أكبر أفراد مجلس الأعيان الإنكليزي، وعضو شريف في أكبر جمعيات العالم العلمية والفنية. وقد تنقل في أدوار حياته الحافلة بالأعمال الخطيرة بين منصب كبير إلى أكبر ومركز سام إلى أسمى. فقد كان في 1888 نائب

رئيس للجنة الحسابات العمومية، وعضواً عاملاً في الهيئات الملوكانية التي تألفت لترقية العلوم، وتحسين أحوال المدارس العمومية، وإصلاح العملة الدولية، وكان أيضاً رئيس اللجنة التي وضعت نظام العملة الإنكليزية المستعملة اليوم. ومن جملة الجمعيات التي رأسها أيضاً الجمعية البريطانية وجمعية علم الحشرات والجمعية الأفريقية وجمعية الإحصاء وكان أيضاً نائب رئيس للجمعية العلمية الملوكانية، وأول رئيس لمعهد علم الاجتماع الدولي، ورئيس جمعية الآثار وما قبل التاريخ الدولية ورئيس جمعية المكاتب الدولية إلخ إلخ. ومع انه لم يدخل جامعة كما ذكر آنفاً، فإن الجامعات أقرت بقدره واعترفت بمقدرته العلمية الفائقة، فقد منحته جامعة لندن لقب نائب رئيس لها، وعنده درجة دكتور في الحقوق المدنية من أكسفورد، ودرجة دكتور في الحقوق من كامبردج، ودرجة دكتور في الطب من ورسبرج إلخ إلخ. أما أخلاقه فاقرأ كتبه وتفهم مبادئه تعرفها جميعاً، فإنه رجل يقول ما يعتقد، ويفعل ما يقول. وقد دعاني للغداء في قصره الصيفي (خارج لندرا) وجالسته وحادثته فلقيت منه شيخاً جليلاً وقوراً متواضعاً، وكان يلاطفني ويحدثني بطريقةٍ ذكرتني بقول نسيبي سليمان البستاني الذي يضارعه في كثير من الوجوه أن السنبلة الملأى هي التي تحني رأسها وهي رمز الرجل الكبير. . . أما السنبلة الفارغة فرأسها شامخ في الفضاء وهي رمز المتكبر المتكابر. . . وحبذا جعل ذكر الرجلين معاً مسك الختام، والسلام. وديع البستاني لندرا في 15 أكتوبر (تشرين الأول) 1911

العدد 19

العدد 19 - بتاريخ: 1 - 12 - 1911 المطر لا نغالي إذا قلنا إن مصر لا تعرف من فصول السنة إلا اثنين الصيف والربيع، ويكاد فصل الشتاء وما يتخلله من الزوابع والأمطار يكون فيها اسماً لغير مسمى. على أن شوكة القيظ قد انكسرت الآن وبتنا على باب ما يعد في معظم الأمصار في فصل الأمطار. أضف إلى ذلك أن توسيع نطاق الري وزيادة المغروسات واختراق الأسلاك البرقية لجونا لمما أحدث بعض التغيير في تقلبات الطقس عندنا، فصارت السحب تجود علينا بمزنها أكثر من ذي قبل، فرأينا سماءنا في شهر واحد ممطرة أكثر من ثلاث مرات. فأحببنا أن نقول كلمة في المطر وماهيته ومصدره ومظاهره المختلفة: الغيوم مصدر المدر - إن حرارة الشمس تعمل في البحار والبحيرات ومجاري المياه، فتحدث فيها ما نسميه بخاراً. تتبخر المياه فتتصاعد في الفضاء وتتركب منها تلك الغيوم التي نراها في كبد السماء.

ومرجع الغيوم إلى ثلاثة أنواع: منها ما هو معروف باسم سيرس وهو كناية عن قطع مستطيلة بيضاء تظهر في سماء زرقاء في أواخر الطقس الحسن. ويتفاوت علوها بين تسعة أو عشرة كيلومترات، وكثيراً ما تكون درجة حرارتها تحت الصفر، فتكون مركبة من إبر جليد سابحة في الفضاء. ومنها نوع معروف باسم كومولس وهو عبارة عن غيوم مستديرة الشكل كبيرة الحجم بيضاء اللون، كثيراً ما تغشي السماء دون أن يعقبها مطر. والنوع الثالث معروف باسم نمبس وهي غيوم قاتمة تحجب أشعة الشمس، وهي أقل ارتفاعاً من النوعين الأولين بحيث أنها تكون أحياناً على مقربة من سطح الأرض. أما الغيوم عموماً فهي مجموع نقيطات ميكروسكوبية يتلاعب بها مجرى الهواء فتتجمع معاً، ويزداد حجمها فتسقط على الأرض مطراً، ويكون سبب ذلك برودة تحدث بغتة في الهواء. وفي بعض الأحيان تتحول هذه النقط إلى إبر جمد يزيد ثقلها على الهواء فتقع وهي تذوب أثناء وقوعها. ويسهل على سكان الجبال أن يتحققوا هذا الحادث الطبيعي، لأنه عند سقوط المطر في الأودية يقع الثلج على قمم الأطواد. فمما تقدم يمكننا أن نقول إن المطر هو مبادلة الماء بين الأرض والهواء بواسطة الحرارة أولاً، والبرودة ثانياً. ولمجرى الهواء تأثير في المطر، فالهواء الماء على البحار يحمل المطر في غالب الأحيان لأنه يقذف بالغيوم المملوءة بخاراً. وقد فقه العامة والزراع ذلك فهم يقدرون وقوع المطر حسب هبوب الريح.

ميزان المطر - قياس كمية المطر الواقع أمر سهل لمبتغيه. وميزانه كناية عن إناء عمودي، في قسمه الأعلى قمع يستقبل المطر النازل، وكل مدة يقاس علو الماء في الإناء فتعرف كمية المطر. وفي بعض الموازين إبرة تدون على الورق الأرقام زيادة في الدقة والضبط. مياه المطر - وفي مياه المطر جراثيم ميكروبية خلا الأملاح المعدنية كالأمونياك والكلور والحامض النتريك، فليس هذا الماء إذن نقياً ظاهراً كما يعتقده الكثيرون. وأكثر الأمطار ميكروباً ما يقع في الأشهر الحارة. مقدار المطر - وليس الشتاء كما يعرف الجميع متساوي النسبة على سطح الأرض، فإن بعض الأصقاع يصيبه أكثر مما يصيب غيره. وأكثر البلاد مطراً البلاد المجاورة خط الاستواء. ففي أمريكا بلاد غوبان وفي أفريقيا سييرا ليونه وخليج جينه وشواطئ نهر النيجر، وفي آسيا وأوقيانيا جزائر جاوى وصومترة وبورنيو وملقة يصبها مطر أغزر من سائر الأقطار. ففي أنحاء سييرا ليونه مثلاً يبلغ علو المطر أربعة أمتار ونصف متر، وفي فيدجه ستة أمتار ونيفاً، ويتوصل في خليج نغال إلى اثني عشر متراً وما فوق. ومعدل المطر في سورية 92 سنتيمتراً، وهو في مصر دون ذلك بكثير. ويصيب الأنحاء الجبلية عموماً من المطر نصيب أوفر من سواها وللشجر والمزروعات تأثير عظيم في استجلاب ماء السماء كما تقدم. ويقال إن مدينة باييتا في البيرو من أقحط البلاد فقد تمر سبع

سنوات دون أن ينزل فيها نقطة ماء. أما مقدار ما يقع سنوياً من المطر على سطح الأرض فيبلغ 480. 000. 000 مليون متر مكعب. المطر الاصطناعي - لاحظ أصحاب التدقيق أن المواقع العظيمة قد عقبها غالباً مطر غير منتظر مثل مواقع هوهنلندن وايلو وواترلو (في حروب الإمبراطورية الفرنسوية) وماجنتا (في حرب إيطاليا) إلخ. وجرى مثل ذلك أيضاً عقب أكثر التمرينات الحربية المدفعية. ففي 25 سبتمبر كانت جيوش المتحالفين تقوم بمثل هذه المناورات قرب بيانست وكانت الغيوم متلبدة في كبد السماء، فعند إطلاق المدافع انهمر المطر بغتة وانقشعت الغيوم. فبعد هذه المشاهدات والملاحظات أخذ العلماء يتساءلون عما إذا لم يكن لاهتزاز الهواء - وإن بطريقة اصطناعية - تأثير في سقوط المطر. وكان الفلكي الأمريكي بويرس قد ذكر في كتابه الفلك والحرب إن المواقع التي جرت في حرب أمريكا قد عقب أكثرها نزول المطر فأخذت الهمة بالقائد ديرنفورث إلى اختبار ذلك بإطلاق المدافع على الغيوم. فالتأم مؤتمر علمي لهذه الغاية وجعل له مبلغاً قدره خمسون ألف فرنك. فأجرى القائد المذكور اختباراته في ولاية تكساس من أعمال الولايات المتحدة سنة 1891 فلم يتوصل إلى نتيجة مرضية. وقام بعد ذلك العالم بودوان مستنداً إلى هذا المبدأ إن الماء ثابت في الفضاء بقوة الكهرباء، وإنه إذا توصل إلى تفريغ المجموع

محاكم الأحداث

الكهربائي بواسطة طيارة مكهربة ينال المطلوب فنجحت اختباراته بعض النجاح ولكن طيارته المكهربة كانت تعود مراراً بصفقة خاسرة فلا تليها نقطة ماء. وأصاب مثل هذا النجاح الجزئي المهندس ألن في الهند لكن بطريقةٍ أخرى، فإنه كان يرسل في الفضاء أسهماً مملوءة من الأثير، فكانت عند انفجارها تحدث برودة في الهواء من شأنها أن تحول الغيوم إلى مياه تنهمر على الأرض. هذا معظم ما رأينا ذكره في هذا الصدد سائلين أن يكون مطر هذا العام مطر خير وإقبال على الفلاح العزيز عماد الثروة والفلاح فيتسنى لنا أن نقول عن بلادنا ما قاله الشاعر فرجيل عن بلاده بلاد غنية بالرجال والغلال. محاكم الأحداث لا يمضي يوم إلا ويأتينا غيره بأخبار وحوادث لم نسمعها من قبل. فمن يوم إلى يوم، ومن شهر إلى شهر، ومن سنة إلى سنة، تظهر اختراعات وإصلاحات لم نكن نحلم بها ولم تخطر لنا على بال. . . . ومن الإصلاحات الحديثة العهد نهضة إصلاح شؤون الأحداث كما يسمونها فقد سمعنا ولا نزال نسمع كل يوم بالنظامات الجديدة والشرائع الحديثة التي تسنها الحكومات الراقية حباً بتخفيض ويلات الأحداث ومصائبهم ولاسيما العاملين منهم بأشغال مختلفة

كالمعادن والمعامل وما شاكل. فقامت بإصلاحات نعجز عن تعدادها الآن لضيق المقام. ومما نظرت فيه الحكومات أخيراً هو محاكمة الأحداث غير البالغين. فقد كانوا فيما مضى يعاملون كالرجال تماماً، إذ كانوا يحاكمون بموجب قانون واحد يشمل الكل على السواء. فكنت ترى الأحداث مسوقين إلى السجن ليقضوا فيه أياماً وأسابيع وشهوراً كأكبر المجرمين. ولم يكن السجن نصيبهم فقط بل كانوا يساقون إلى النطع فيعدمون كالآخرين. والتاريخ بدلنا بأجلى بيان على الأيام التي كانت رؤوس المجرمين تطير فيها عن أجساهم لجرائم لا نعدها اليوم ذنوباً تستوجب عقوبة الإعدام. فكنت ترى في إنكلترا مثلاً في القرن الماضي رجالاً ونساءً صغاراً وكباراً معلقين على أخشاب إرهاباً للجانين وتسكيناً للحوادث والجرائم. ولا نحتاج للإسهاب في موضوع القصاص والعقاب فما غرضنا الآن شرح فلسفة العقاب والثواب، بل جل ما نقصده هو إظهار عدم موافقة الحكم على الصغير كالكبير بمقتضى شريعة واحدة أو قانون واحد. وإليك حادثة حقيقية حدثت في أوائل القرن الماضي في بلاد الإنكليز مأخوذة عن كتاب (حوادث المحاكم ومجرياتها في إنكلترا) فمن القوانين التي سنت عام 1830 قانون الإعدام لأي سرقة كانت خصوصاً سرقة المخازن، صغيراً كان السارق أو كبيراً. فالحادثة التي نحن بصددها تروي أن فتاة لا تتجاوز السابعة عشرة من عمرها قبض عليها في أحد مخازن الأقمشة الكتانية وهي تحاول السرقة وإذ كانت تخبئ القماش تحت ثوبها

لمحت صاحب المخزن فتركت القماش وهربت. فاتبعها الرجل بالبوليس فساقها إلى السجن تواً دون أن يسمع شكواها، وأحضرت أخيراً أمام المحكمة الجنائية فكان ما دافعت به عن نفسها قولها أنها ابنة رجل متوسط الحال وأنها كانت تعيش برخاء، ولم تعرف الشقاء ولا الجوع إلا بعد تغيب أبيها عنها لأنه كان قد مضى عليه مدة طويلة ولم يرجع إلى البيت. ولما لم يكن إلا والدها سنداً لها ولأخوتها الصغار عضهم الجوع وقرصهم البرد لطول غيبته عنهم. فأخذت هي تجول في أسواق المدينة علها تجد شيئاً تسد به رمق إخوتها ورمقها، فأعياها التعب والكلال ولم تر نفسها إلا داخل المخزن فدفعها ما كانت عليه من الجهد إلى أخذ بعض الأقمشة لتبيعها وتتقوت بثمنها. فحدث لها ما تقدم. ولما كان غرض المحكمة بتجريمها ومعاقبتها إرهاباً وعبرة، رأى القضاة أن يشددوا في القصاص فعلقوها على خشبة في ساحة المدينة كأكبر المجرمين. أهذا هو العدل وهل كان حكمهم عادلاً؟ إذا نظرنا إلى القانون المسنون في ذلك الحين نرى انه كان حقاً ولكن هل يعد القانون الذي يقضي قضاء كهذا قانوناً عادلاً؟ أو هل كان إعداد تلك الابنة إرهاباً للمجرمين والسارقين. كل العمر الحق بل قد جاء في الكتاب الذي أخذنا عنه هذه الحادثة أن تعدد السرقات لم ينقص بل ظل آخذاً بالازدياد. والعقاب لا نفع منه إلا إذا كان غرضه مساعدة الفرد الواحد وإصلاحه ففي إصلاح الفرد صلاح الأمة وفي تهذيب الشعب إصلاح الرؤساء والحكام.

كلنا يعلم أن بذور الشر والجريمة سهل زرعها في الصغير. ومتى شب عليها تمكنت منه فقادته إلى شر الهلاك وكانت عاقبة أمره الدمار. ومن النادر أن ترى مجرماً لم تتمكن فيه عاداته وأعماله منذ الصغر. فإذا لم ينقد الفتى في ما بين الرابعة عشرة والعشرين من عمره إلى الشرور والجرائم لا خوف عليه من التهور فيها بعد ذلك. فالعمر المذكور هو الذي تنمو فيه أخلاق الفتى والفتاة، وتتكون فيهما العواطف والانفعالات فيكونان شديدي التأثر من الانفعالات الداخلية والمؤثرات الخارجية على السواء. فإن كانت هذه الانفعالات والمؤثرات رديئة فاسدة تمكنت في الولد فيشب عليها ويصبح شريراً فاسداً، والعكس بالعكس. وهذا معنى قولهم العلم في الصغر كالنقش في الحجر. ثلاثة عوامل تؤثر في الولد في صغره فتقوده إما إلى النعيم وإما إلى الجحيم: أولها أوهمها في غرس المبادئ وإنمائها هو البيت وأعني به كل ما هو داخل البيت وخارجه من العوامل والفواعل التي تؤثر في الولد في حداثته كتصرف الأب والأم والأخوة والأخوات وطرق المعاملة بينهم إلى غير مما لا نحتاج لذكره الآن. والعامل الثاني هو المدرسة فكل ما يجري بالمدرسة من تصرف المعلمين ومعاملتهم لتلاميذهم وسلوك التلاميذ مع بعضهم البعض وسياسة المدرسة نفسها كل هذه أو بعضها معاً تؤثر في الولد أشد التأثير فلهذا يختار في المدارس الراقية أفضل المعلمين صفات وآداباً وعلماً وتسن القوانين والنظامات التي تؤول إلى خير الولد علماً وأدباً.

والعامل الثالث هو الدين ويراد به مجموع التعاليم والفوائد الدينية التي يأخذها الإنسان لنفسه دستوراً فيعيش سالكاً بموجبه. فالدين من أشد المؤثرات على الأفعال وهو الضابط لكثير من الشرور والقبائح والمانع لضروب من المفسدات والجرائم. فإن عجز البيت عن إتمام واجباته فقد أعظم العوامل في تربية الولد فتقع إذ ذاك المسؤولية على أولياء الأمور وقد يعجز هؤلاء في أغلب الأحيان عن القيام بأعباء ما يلقى إليهم من إتمام واجبات آباء أهملوا شأن أولادهم. وقد رأينا أن الحكومة في الماضي كانت تعامل أولاداً كهؤلاء معاملة البالغين تماماً متغاضية عن البون الشاسع بين الفريقين. ولكنها قد أفاقت من غفلتها وسرى إليها حب السعي والإقدام والقيام بالواجب فسعت في هذه الأيام لتخفيف ويلات الأحداث غير البالغين فأصدرت لذلك في أكثر الممالك المتمدنة القوانين والنظامات بمنع تشغيل الحدث كالرجل لاسيما في المعامل والمعادن. فقامت عليها قيامة أصحاب المعامل والمعادن فأصلتهم حرباً عواناً دارت عليهم بها الدائرة. ولما رأت أن هذا لا يعد إصلاحاً تاماً عاودت الكرة فكانت هذه أشد من الأولى لأنها عرفت أصل الفساد ومنبع الشرور فأعدت لذلك سبيلاً إذ أنشأت محاكم خصوصية للنظر في شؤون الأحداث وطرق إصلاحهم فكان ذلك من أجل ما فعلته لإصلاح الأحداث. هذه هي المحاكم التي نحن بصددها الآن وسنأتي على تفصيلها وبيان أحوالها في العدد الثاني إن شاء الله. توفيق جريديني

رسائل غرام

رسائل غرام بين نساء شهيرات ورجال عظام الرسالة الرابعة من مدام ركاميه إلى السير رالف انزورث (في القرن الثامن عشر ولدت فرنسا للعالم نبوليون ابن المريخ ومدام ركاميه ابنة الزهرة. فأخضع الأول العالم بسيفه وأخضعته الثانية بجمالها. واشتد النضال بين الاثنين. فبينما كان العالم يركع عند قدمي باريس كانت باريس تركع عند قدمي مدام ركاميه. وأراد ذلك الجبار أن يتزوجها فرفضته لأن مفتاح قلبها كان بيد شاب من أشراف الإنكليز. ولم يكن نبوليون الرجل الوحيد الذي رفضته. فقد ذكر التاريخ من الذين تزاحموا عليها عدداً غير قليل منهم البرنس أوغسطوس البروسياني والدوق ولنتون الإنكليزي وغرندوق آخر عظيم وجمهور من الحكام والأشراف والعظماء ورجال السيف والقلم. فكانت ترفض الجميع على حد سواء لأنها وهبت قلبها للشاب المذكور وقد كان سابقاً رئيس جمعية تألفت يومئذ من أشراف الإنكليز لإنقاذ الأشراف الفرنسويين من مخالب الثورة الفرنسوية. ولكن موانع حالت دون اقترانها بحبيبها فاقترنت بغيره مكرهة. وكان زواجها هذا ارتباطاً اسمياً فقط. ثم مات حبيبها بعيداً عنها ومات بعده زوجها أيضاً. وقيل أن نبوليون سبب موت زوجها انتقاماً منها. على أن باريس كانت تفديها من غضب نبوليون ولهذا لم يستطع أن ينالها بأذى. وبعد سنين قليلة نشأت مودة عظيمة بينها وبين شاتوبريان الكاتب الإفرنسي الشهير فزعم الناس أنها ستقترن به ولكن قلبها كان لا يزال متعلقاً بذكرى حبيبها القديم. وقد بقيت أربعاً وثلاثين سنة وعالم الجمال خاضع لسلطتها. وفي أثناء مرضها كتبت الرسالة الآتية إلا السر انزورث ولكنها لم تستطع إكمالها فختمتها صديقتها مدام ستايل الكاتبة الإفرنسية

الشهيرة وكانت من أعز صاحباتها. ولمدام ركاميه صورة شهيرة في أحد متاحف باريس الكبرى) ملاكي الحارس: جلست الآن إلى نافذتي أراقب الأفق وأنظر إلى الغيوم القطنية تنعكس عنها أشعة الشمس الحمراء. وقد هاج مرآها في نفسي عواطف وتذكارات رجعت بي إلى أيامنا السالفة فأخذت القلم لأكتب إليك هذه السطور مع أن الطبيب قد نهاني عن الكتابة والمطالعة وأمرني بالتزام الراحة والسكون. ولكنني أشعر بشوق إلى مخاطبتك ولو عن بعد وأريد أن أبث إليك ما أبقته الأيام من آثار ذلك الحب القديم. لست أعلم أين أنت يا رالف فقد طال عهد فراقتنا حتى صرت أرى أيامنا الماضية أشبه بغمامة صيف لاحت قليلاً ثم تلاشت في الفضاء. يقولون لي إنك الآن في الهند حيث تتمتع بهواء أجف من هوائنا فإن الفصل عندنا الخريف ومرأى الأغصان المجردة يثير في النفس لواعج محزنة. ولو كنت هنا لأحزنك مشهد الأشجار العارية والحقول المقفرة فإن زقزقة العصفورة قد انقطعت وهديل الحمام قد بطل ولم يبق إلا خرير الماء يملأ الوادي كأنه أنة عاشق منكسر القلب. وقد أذكرتني هذه الشمس الزائلة وقفتنا الأخيرة عند الغروب يوم أتيت لتعيد إلي رسائلي وتأخذ رسائلك لأن أهلك وقفوا يومئذ بيننا وحالوا دون تحقيق أحلامنا السعيدة. في ذمة الله تلك الأيام الماضية! في ذمة الله أحلام غرام لم يبق

منها إلا ذكرى تتضاءل بمرور الأيام. أيعود الماضي فيبعث لنا من أكفانه أماني دفناها فيه؟ أيعود فيحيي لنا آمالاً كانت تظللنا بأجنحتها الذهبية؟ هوذا الآن قد انطوت تلك الأجنحة واستراح الرقباء الذين لم يكونوا يغمضون عنا أجفانهم حتى بلغوا من أمانيهم أن فرقوا بيننا فلا يعلم أحدنا بمقر الآخر. بل إن مقرك في فؤادي يا رالف. وإنما فقدت فؤادي ففقدتك معه. وقد كنت أظللك بأجنحة الحب وأرسل عليك أشعة الحب وأسمعك أناشيد الحب فلم يبق اليوم من تلك الأجنحة إلا سحابة زائلة ومن تلك الأشعة إلا نور ضئيل ومن تلك الأناشيد إلا خفوق قلب منكسر. قضيت أشهر الصيف متقلبة على سرير المرض. وأنا الآن في طور النقه. يقولون لي إنني كنت أردد اسمك في ساعات غيبوبتي وأذكر أيامنا الماضية. أما أنا فلا أتذكر من ذلك سوى أنني كنت كلما سمعت صوتاً بباب غرفتي ألتفت لأرى هل أنت الداخل أم غيرك. كنت في أثناء مرضي أتعزى بفكر غريب. كنت أعلل نفسي بالموت وأتمنى أن أنتقل إلى عالم الأرواح لكي تحلق روحي في فضاء الأبدية فترفرف حولك وترقبك من علوها الشاهق. ولكن فكراً آخر كان يروعني فقد كنت أخشى أن يزيد موتي في حزنك فلا تعود ترى لذة في الحياة. ولكن من يعلم؟ لعل حبي لك غير حبك لي يا رالف. أنا أعلم أنك تفضلني في كل شيء. فأنت أشرف مني أصلاً وأغنى ثروة وأجمل طلعة وأوسع جاهاً وأكثر ذكاء. أنت تفوقني في كل شيء. ولكن

هنالك شيئاً واحداً أفوقك فيه وهو الحب. حبي لك مستمد من حب الملائكة فهو أنقى من ندى الصباح وأرق من خطرات النسيم وأرسخ من راسيات الجبال وأطول من مدى الخلود وأبعد من حدود الأبدية. حبي لك يريني للحياة معنى جديداً فيصورها ربيعاً مستمراً. ولكنه يخيفني من الخلود لأن الخلود قصير المدى في نظر العاشقين. أجل يا رالف. كثيراً ما تمر بي دقائق تزيد في شقائي فاندم لأنني رضيت بالبعد عنك وأتمنى لو أبيت مفارقتك على رغم معارضة أهلك. ولكنني أعود فأتعزى بهذا الفكر وهو أنني فعلت ذلك لكي أكفيك مؤونة الخلاف مع أهلك لأنني أكره أن أكون السبب في ذلك. أنا أميل اليوم إلى الوحدة وأجد فيها تسلية كبيرة لأنني أستطيع بها أن أتفرغ للتفكر فيك. هل تذكر كم كنت محبة للهو والمرح؟ وأما اليوم فإنني أحب العزلة لأنني أجد في هدوء الطبيعة عظة أبلغ من النطق، وأسمع من خلال سكوتها أناشيد هلاس ذات القيثارة الذهبية فأتصورني مترامية بين ذراعيك أحدق النظر فيك وأسر إليك نغمات الغرام. لعلي أطلت هذه الرسالة عليك. ولكن قلبي مفعم بتذكارات تهيج في نفسي لواعج حزن وسرور وأنا أريد أن أبثك ما أستطيع من مكنونات الفؤاد إذ من يدري هل أعود فأجد فرصة كهذه لمناجاتك أيها الحبيب؟ ولكن الظلام قد أحدق فسأبقي هذه الرسالة إلى الغد. إلى الغد. . . . . . . . .

الحرب اليونانية العثمانية

(بعد أسبوع) مولاي. . . طلبت إلي جان أن أكمل هذه الرسالة وأبعث بها إليك فقد علمت عنوانك ولاشك أنك تود الوقوف على خبر منها. مسكينة جان! إنها تحبك حتى الموت وتزدري العالم كله من أجلك. مضى عليها يومان وهي في غيبوبة لا تشعر معها بشيء وتراني جالسة إلى سريرها أذرف العبرات ولكنني أتجلد قدامها وأتعلل بالآمال. قلت لها أول البارحة إن الطبيب شديد الأمل بشفائك فابتسمت ابتسامة ازدراء وأدارت رأسها على وسادتها كأنها تقول: أنا أخبر بنفسي من الطبيب حقاً لو تراها اليوم لأدهشك كم قد غيرها الزمان. ليتك تحضر وتشاهدها فلعل رؤيتك تعيد إليها شيئاً من الحياة. . . (بقلم سليم عبد الأحد) مدام ستايل الحرب اليونانية العثمانية موقعة دوموكوس يوم 17 مايو (أيار) سنة 1897 عند الساعة الرابعة من صبيحة هذا النهار نبه البوق الجنود العثمانيين، فهبوا من رقادهم، وعكفوا على الصلاة، فكان لهم لغط في غدر ذلك الوادي

الفسيح. ثم مالوا إلى القهوة فكانوا يشربونها، وهم يسرجون خيولهم ويتحدثون، فتبدل لغطهم حينئذ بضوضاء شديدة كان يخالطها ضجيج الفرح لشعورهم بأنهم كانوا يتأهبون في تلك الساعة للحرب والكفاح. أما أنا فسقت جوادي أريد اللحاق بفرقتي نشأت باشا وخيري باشا، لأني كنت قد عقدت النية على أن لا أصف إلا ما أراه بعيني، ولا أكتب إلا عن يقين. وكانت إلى جانبنا الأيمن طريق دوموكوس التي كنت مزمعاً أن أسلكها مجتازاً في ختامها تلة غير مرتفعة لا يكترث لها. على أنه كان أمامنا في منحدر ذلك التل ممر وعر، ناشز الصخور، كثير الثلوم كأن الفتى ... إذا زل يهوي على مبرد وكان هذا الممر الضيق ينتهي من الجانب الآخر بفرسالا وهو أقرب الطرق إلى ذلك السهل، ولكنه ليس بالسبيل الوحيد إليه لأن

هنالك طريقاً أخرى كان يمكننا أن نسلكها عن جانبنا الشمالي الأقصى وهي ممتدة من فاليستينون على مقربة من الشاطئ البحري إلى خالميروس من حيث تسهل مهاجمة دوموكوس ولكن من ورائها لا من أمامها مواجهة. وكانت خطة الجيش العثماني أن يسر نشأت باشا والحاج خيري باشا بكتيبتيهما الأولى والثانية في الطريق الأولى الوعرة فيهاجمان دوموكوس من الأمام، وأن يمشي ممدوح باشا وحقي باشا بفرقتيهما الثالثة والرابعة متتبعين الطريق الأخرى فيهاجمانها من الوراء بحيث يطوق العثمانيون دوموكوس ويلتفون حولها. أما أنا فاتبعت الفصيلتين الهاجمتين من الأمام! وصعدنا إلى التل واجتزناه مسرعين حتى إذا دخلنا في الممر الضيق أبصرنا مسيل ماء ينحدر على الصخور الناتئة إلى وادٍ، بينا هو يتسع أمامنا إذا به يضيق كثيراً من الجنوب وقد اخضر زرعه وارتفعت فيه سنابل الشعير ارتفاعاً كثيراً عن الأرض كانت تظهر لنا في وسطه ومن خلاله قبالة أطرافه العالية، قرى كبيرة تحيط بها تلك السهول الخضراء فتبين لنا كالجزر في البحر. ومشى جنود خيري ونشأت في وسط تلك الزروع فاستولوا على أقرب القرى بدون أن يتكبدوا خسارة ما. وكان رجال المدفعية يطلقون القنابل من خلال سنابل الشعير العالية فلم نكن نستطيع أن نعلم قوة تأثيرها في العدو إلا ساعة كانت تشب النار في مراميها ويصعد اللهيب إلى العلاء ويبين لنا دخان القرى المحترقة كعمود منتصب في الفضاء. أما اليونانيون فأخذوا يطلقون علينا مدافعهم ولكننا

كنا نرى فرسانهم يحثون خيولهم هاربين مسرعين. ولم يكن يعبأ العثمانيون بنيران العدو بل كانوا يتقدمون إلى الأمام وهم لا يطلقون بنادقهم لأن قنابل مدافعهم كانت تكفل لهم وحدها هزيمة اليونان. وكان هؤلاء قد تكاثر عددهم وتألبت جموعهم حينئذ، غير أن المدافع العثمانية أمطرتهم ناراً حامية فرأينا إحدى كتائبهم قد نكصت على أعقابها وارتدت إلى الوراء تريد الالتجاء إلى دوموكوس. فكان ذلك بدء انهزامهم لأننا ما لبثنا أن رأينا فرقهم تتشتت عن شمالنا، وتحرق القرى والدساكر في طريقها وهي فارة لا تلوي على شيء. وتصاعد لهيب النار حينئذ إلى عنان الجو، وتلبد الدخان في الفضاء فذعرت الطير في أوكارها، وروعت اللقالق في أعشاشها فكنا نراها هاربة خائفة تمر فوق رؤوسنا مرور السهام أطلقت عن القوس. وكان العثمانيون يتقدمون بسرعة إلى مواقف العد حتى أصبحنا نرى الجيشين مرأى العين. وحينئذ انصلت الفرقتان العثمانيتان فمشت فرقة نشأت باشا بقدم ثابتة في وسط السهل إلى شبه تلة صخرية عالية، وسارت فرقة الحاج خيري باشا إلى الشمال. وكان اليونانيون قد تحصنوا خلف قمم من التراب أقاموها للاحتماء بها فأخذوا يطلقون نيرانهم من ورائها. ووقعت في تلك الساعة قنبلة على قيد خطوتين منا ولكنها لم تنفجر ولم تزحزح الكولونل بوي دلاتور رئيس البعثة السويسرية الحربية الذي كان واقفاً إلى جانبي فالتفت إلي وتبسم ابتساماً معنوياً، ثم تناول علبة طون من جرابه وأشار إلي فتقدمت منه واقتسمناها

معاً. وهي منة له علي لن أنساها أبد الدهر. ثم صعدنا إلى التلة الصغيرة فأشرفنا منها على العسكريين وقد التقيا وجهاً لوجه. ولم تكن إلا دقائق قليلة حتى شبت بينهما نيران معركة طاحنة. وكنا نسمع في الوقت نفسه دوي البارود، ونرى تفجر القنابل من الجانب الآخر حيث كان قد سار خيري باشا برجاله. ولما طال أمد المعركة وقد صمت آذاننا، وغشا الدخان عيوننا أبصرنا فريقاً من المشاة العثمانيين هاجماً على قلب العسكر اليوناني وقد أخذ اليونانيون يصوبون رصاصهم عليه وهو سائر غير مكترث. فما هي إلا هنيهة حتى تزحزح اليونان عن مراكزهم وارتدوا إلى الوراء. وكانت طلقات البنادق المتواصلة حينئذ أشبه بقرقعة الآلة الكاتبة تكتب عليها يد خفيفة رشيقة. وحدقنا بأبصارنا إلى جهة اليونانيين فرأينا إحدى الفرق قد غادرت مركزها في القلب حيث هجم العثمانيون وولت الأدبار منهزمة إلى جهة دوموكوس. ولكن ضابطاً يونانياً خف إليها فردها إلى مواقفها. أما فرقة الحاج خيري باشا فإننا لم نرها ولم نعرف أخبارها إلا حين صرنا نرى اليونانيين يفرون من قدامها إلى الجانب الأيسر المحاذي للتل الذي كنا واقفين عليه. فتحققنا حينئذ أن النصر تم أو كاد يتم للعثمانيين. وفي تلك الساعة وصلت إلى ساحة القتال فرقتان لإنجاد العثمانيين أرسلهما أدهم باشا فانضمتا إلى خيري باشا وعززتا موقفه. وأبصرت أدهم باشا حينئذ راكباً جواداً صغيراً هزيلاً وهو رجل

ذكي الفؤاد رزين بارد الطبع، وقد تقدم منه أحد الضباط طالباً إليه أن يصدر أوامره بالهجوم على الأعداء ولكنه لم يجاوبه بل تبسم ثم التفت إلى ضابطين واقفين حذاءه فأسر إليهما كلمتين فهمنا بعدئذ معناهما إذ أبصرنا فرقتي ممدوح باشا وحقي باشا قد ظهرتا للعيان وأتمتا حركة الالتفاف حول دوموكوس. وأصبح اليونانيون حينئذ تحت رحمة العثمانيين إذ طوقتهم هؤلاء من الجهات الأربع. فلما تبينا هذه الحقيقة تقدم الملحق العسكري الألماني من أدهم باشا وقال له: إنك تستطيع يا حضرة القائد أن توجد في هذا المكان معركة سيدان أخرى فإن اليونانيين كما ترى قد أخذوا في الشبكة ولن يستطيعوا الانفلات منها فسكت أدهم باشا ولم يكترث لما قيل له. فقلت في نفسي حينئذ أن هذه الحرب إنما تجمع بين السياسة والحرب معاً. فالعثمانيون كما يخيل إلي لا يريدون التمادي في القساوة والضغط على اليونانيين لكيلا يثور عليهم الرأي العام في أوروبا وإلا لكانوا قادرين أن يفعلوا أضعاف أضعاف ما فعلوه. * * * ولما أصبح الصباح التالي كان العثمانيون قد بلغوا منتهى آمالهم. وقد أشرفت طلائعهم على لاميا بلاد اليونان الحقيقية، ووطنهم الأصلي القديم. وكان الألبانيون أولئك الشجعان الصناديد لا يزالون يطلقون بنادقهم على العدو الذي كان قد ربط في رؤوس بنادقه المناديل البيضاء كأنما كان يريد أن يقول: رحماكم فإن الصلح قد تم.

هكذا انقضت هذه المعركة، بل هكذا انقضت هذه الحرب التي لم تكن إلا أشبه شيء بمأساة تمثيلية مثلت سهول فرسالا آخر فصولها المحزنة. بيار ميل مكاتب جريدة الديبا الحربي وبعد هذه التفاصيل المنقولة عن شاهد عياني نروي الأبيات الآتية لشوقي بك من قصيدته العصماء التي وصف فيها تلك الحرب أبلغ وصف، قال في الهزيمة: ونادى منادٍ للهزيمة في الملا ... وإن منادي الترك يدنو ويقرب فأعرض عن قواده الجند شارداً ... وعلمه قواده كيف يهرب وطار الأهالي نافرين إلى الفلا ... مئين وآلافاً تهيم وتسرب نجوا بالنفوس الذاهلات وما نجوا ... بغير يد صفر وأخرى تقلب يسير على أشلاء والده الفتى ... وينسى هناك المرضع الأم والأدب وتمضي السرايا واطئات بخيلها ... أرامل تبكي أو ثواكل تندب فمن راجل تهوي السنون برجله ... ومن فارس تمشي النساء ويركب يكادون من ذعر تفر ديارهم ... وتنجو الرواسي لو حواهن مشعب يكاد الثرى من تحتهم يلج الثرى ... ويقضهم بعض الأرض ويقضب تكاد تمس الأرض مساً نعالهم ... ولو وجدوا سبلاً إلى الجو نكبوا هزيمة من لا هازم يستحثه ... ولا طار يدعو لذاك ويوجب

الأستاذ مرغليوث

الأستاذ مرغليوث الأستاذ مرغليوث إنكليزي ناطق بالضاد. . . فإنه مستشرق تضلع من العربية وملك عنانها. ولا بدع فإنه وقف عليها ذكاء خارقاً وعزيمة ماضية. فهو اليوم ملم بعلومها وآدابها إلماماً قلما تسنى لغيره من المستشرقين. وهو يقيم في أكسفورد مدينة العلم وهي على نحو 60 ميلاً من لندرا، سكانها طلبة، ومخازنها مكاتب، وشوارعها حدائق. أهم مبانيها وأقدمها ثلاثة وعشرون هي صروح العلم منذ القرن الرابع عشر، إذ هي

المباني المتفرقة هنا وهناك التي تتألف منها جامعة أكسفورد الشهيرة. وأستاذنا أستاذ العربية في هذه الجامعة. زرته في بيته وخاطبته بالإنكليزية فرد علي بالعربية، وهو يتكلمها بكل طلاقة ويجيد الأسلوب العامي (الشامي والمصري) لأنه زار القطرين غير مرة ومكث فيهما مدة طويل. وهو معروف لدى جمهور من أدباء القطرين وعلمائهما وله منهم صفوة أخوان يجلهم ويجلونه. وهو رجل على علو قدره وسمو مكانته في عالم الأدب متواضع لين الجانب، يمدحه عارفوه، وتعظمه أفعاله. وقد ذكره لي زميله أرنولد وقال: إنه فرد نادر الذكاء فقد كان يفوز بقصب السبق على أقرانه مدة تلمذته بطولها، وإنه لذو مقدرة غريبة في درس اللغات وإتقانها. فلتفتخر العربية بأن مثل ذكائه ومقدرته موقوفان عليها دون سائر اللغات الشرقية. أما ما يجيئه الآن من خدمة هذه اللغة المظلومة فهو طبع كتاب معجم الأدباء لياقوت الرومي. فإن لديه النسخة الخطية الوحيدة من هذا الكتاب. وقد أراني الجزء الذي تم طبعه فرأيته حافلاً بالشروح والتفاسير التي تشهد له بسعة الإطلاع وطول الباع في علوم اللغة وآدابها. وقد ظهر له مؤخراً كتاب جليل في الإسلام كنت قد طالعته قبل التشرف بمقابلته، فحدثتني نفسي بنقله إلى العربية لما وجدت في فصوله من الإحصاءات والحقائق التاريخية والأبحاث الفلسفية والسياسية مما يهم

الإطلاع عليه كل متصدر للبحث والكتابة في الشؤون العربية والإسلامية على الإطلاق. وهو سفر مختصر بحث فيه عن ماضي الإسلام وحاضره من أوجه الدين والأمة والدولة جميعاً بحثاً دقيقاً متحاشياً فيه ذكر كل ما يحرج الإحساسات، ومقتصراً على إيراد الحقائق وإرداف النتائج بأسبابها. وقد طلبت إليه أن يتحف الزهور برسمه الكري وبنفثة من يراعه العربي، فتفضل بقبول متمناي وبعث إلي إلى لندن بالرسم وقد وقع اسمع عليه بيده، وبالجملة التالية وقد كتبها بقلمه البليغ. وديع البستاني مذهب المستشرقين ذكر صاحب الفخري في أخبار أمير المؤمنين عبد الملك أن مذهب المستعربين اخترع في عصره وهو يريد بهم رجالاً من الجانب اتخذوا اللغة العربية لغة وتزيوا بآداب العرب. قياساً على تلك الكلمة وضع في أيامنا اسم المستشرقين تسمية لمن ينتمي إلى علوم الشرق من أهل الغرب لا كالذين يشير إليهم المتنبي بقوله: وقد يتزيا بالهوى غير أهله ... ويستصحب الإنسان من لا يلائمه فإن فيهم أناساً لا يطعن في أهليتهم، وإنما تركوا جادة طريقة أصحابهم لأسباب نريد أن نبينها لمن ذهبت عنه أو خفيت عليه. فأول داعية دعت قوماً من علماء الإفرنج إلى اكتساب العلوم الشرقية هي الديانة. فإن التوراة أساس أسس عليه الدين المسيحي ولغتها الأصلية عبرانية تختص باليهود الذين مع حفظهم لكتابهم المقدس وتعبدهم بفروضه

لم يهتدوا إلى تبويب وتدوين قواعدها وقوانينها إلا بعد توطئة نوابغ نحويي الإسلام للطريق. وبعد ما ألف سيبويه كتابه وجمع أبو عبيد غريبه ورتب الراغب مفرداته حملت بعض أساتذة اليهود الغيرة على الاقتداء بهم. وقد سهل ذلك عليهم ما بين اللغتين من التقارب والتشابه فلما استهل عند الإفرنج قمر المعارف صار لاهوتيوهم يأخذون من علماء اليهود تفسير التوراة. وبتقفية الآثار تدرجوا إلى الموارد العربية فأصبح كل من يرغب في الوقوف على حقائق معاني التوراة طالباً للعربية لا يستغني عن طرف منها. فالسبب الأصلي في تأسيس أستاذيات اللغة العربية عند الإفرنج هو ديني صرف أضيف إليه ما كان اشتهر من حذق أطباء العرب وحكمائهم ومنجميهم وأنه لم يزل عندهم متون أئمة اليونان القدماء وشروحها وكان طلبة الطب عندنا قبل 250 سنة يضطرون إلى حضور دروس مدرس العربية. ثم عندما بلغت حرية الأفكار ما بلغت وأنتجت علوم جديدة تنقر عن الإنسان من حيث هو إنسان وتبحث عن مصادر السياسات والأديان وتاريخ الممالك والبلدان واختلاف الأنواع باختلاف الزمان والمكان لم يخف على المتبحرين في هذه العلوم اتساع الممالك الإسلامية وعظم ما تشتمل عليه من الموارد اللازمة لأشغالهم من آثار متواثرة وعوائد غير محل بها ومذاهب متشعبة وطرائق متفاوتة فازدادوا رغبة في الحصول على الآلات التي تمكنهم من الاكتشاف عن خفايا التاريخ وهؤلاء لابد لهم من الاستشراق. - مرغليوث

في حدائق العرب

في حدائق العرب الحرب الحرب رحى ثفالها الصبر، وقطبها المكر، ومدارها الاجتهاد، ونفاقها الأناة، وزمامها الحذر. ولكل شيء من هذه ثمرة: فثمرة الصبر التأييد، وثمرة المكر الظفر، وثمرة الاجتهاد التوفيق، وثمرة الأناة اليمن، وثمرة الحذر السلامة. ولكل مقام مقال، ولكل زمان رجال، والحرب بين الناس سجال، والرأي فيها أبلغ من القتال. قال عمر بن الخطاب لعمرو بن معدي كرب: صف لنا الحرب قال: مرة المذاق إذا كشفت عن ساق، من صبر فيها عرف، ومن نكل عنها تلف، ثم أنشأ يقول: الحرب أول ما تكون فتية ... تسعى بزينتها لكل جهول حتى إذا حميت وشب ضرامها ... عادت عجوزاً غير ذات حليل شمطاء جزت رأسها وتنكرت ... مكروهة للشم والتقبيل وقال عنترة الفوارس: أول الحرب شكوى، وأوسطها نجوى، وآخرها بلوى. وقال نصر بن سيار، صاحب خراسان، يصف مبتدأ الحرب: أرى خلل الرماد وميض نار ... ويوشك أن يكون لها ضرام فإن النار بالعودين تذكى ... وإن الحرب أولها كلام والعرب تقول: الحرب غشوم، لأنها تنال غير الجاني ومن أقوالهم: الشجاعة وقاية، والجبن مقتلة.

وقال هشام بن عبد الملك لأخيه مسلمة: هل دخلك ذعر قط لحرب أو عدو؟ - قال: ما سلمت من ذعر نبهني إلى حيلة، ولم يغشني ذعر سلبني رأيي. - قال هشام: هذه والله البسالة. وكان يزيد بن المهلب يتمثل كثيراً في الحرب بقول حصين بن الحمام: تأخرت استبقي الحياة فلم أجد ... لنفسي حياة مثل أن أتقدما وقال المهلب لبيته: عليكم بالمكيدة في الحرب، فإنها أبلغ من النجدة. وسئل أهل التمرين بالحرب: أي المكايد فيها أحزم؟ - قال: إذكاء العيون، وإفشاء الغلبة، واستطلاع الأخبار، وإظهار السرور، وأمانة الفرق، والاحتراس من المكايد الباطنة من غير استقصار لمستنصح ولا استناد لمستفش، وإشغال الناس عما هم فيه من الحرب بغيره. وكان قتيبة بن مسلم يقول لأصحابه: إذا غزوتم فأطيلوا الأظفار وقصوا الشعر، والحظوا الناس شزراً وكلموهم رمزاً واطعنوهم وخزاً. وكان أبو مسلم يقول لوقاده: أشعروا قلوبكم الجرأة، فإنها من أسباب الظفر. وأكثروا ذكر الضغائن فإنها تعبث على الإقدام، والزموا الطاعة فإنها حصن المحارب. وكانوا يتمادحون بالموت قطعاً، ويتهاجون بالموت على الفراش، ويقولون فيه: مات فلان حتف أنفه. ولما بلغ عبد الله بن الزبير مقتل أخيه قال: إن يقتل فقد قتل أبوه وأخوه وعمه، إنا والله لا نموت حتفاً ولكن قطعاً بأطراف الرماح وموتاً تحت ظلال السيوف، ومن ذلك قول السموأل: وما مات منا سيد حتف أنفه.

في رياض الشعر

في رياض الشعر أمين بك ناصر الدين رئيس تحرير جريدة الصفاء صاحب هذا الرسم هو صاحب تلك القصائد الجميلة التي نشرتها الزهور في بعض أعدادها السابقة، والتي ما برحت تنشر منها إلى اليوم ما توقفت إليه. وهو الشاعر الذي قلنا عنه يوم نقلنا لقرائنا قصيدته شاعر يناجي صورة إنه معروف في سورية ولبنان ومجهول في مصر،

ووعدنا حينئذ بتمثيل رسمه على إحدى صفحات الزهور لنجمع بين صورتيه المعنوية والشخصية. ولقد سرنا أن فريقاً كبيراً من الأدباء أعجب بشعر هذا الشاعر المجيد، وهو ما توقعناه من قبل، فكتب إلينا يسألنا عنه، ويلح علينا بنشر ترجمته إلى جانب رسمه، فخاطبناه في ذلك فبعث إلينا حضرته بالكلمة التالية فلم نر خيراً من نشرها كما هي. قال: طلبت إلي كلمة تعرفني إلى القراء. فإن أردت تلك الكلمة عن منتماي فهو إلى الشيخ بدر الدين الذي كانت بينه وبين الأمراء المعنيين صلة قربة. وهذا الجد الأعلى رزقه الله عده أبناء منهم ناصر الدين الذي نسبت إليه أسرتنا. كان بدر الدين يقطن عين داره وتوفاه الله فيها وبها قبره إلى الآن. ثم طرأت بعد موته حوادث صدعت شمل أبنائه فانتحى كل منهم ناحية. وكان إن اتخذ ناصر الدين كفر متى وطناً له. وإن أردتها عن مولدي فقد كان في شهر محرم الحرام من سنة 1297 هجرية. فعمري الآن اثنتان وثلاثون سنة. وأشهر حوادث حداثتي أني كنت أقول أبياتاً من الشعر قبل أن تعلمت القراءة والخط فكان والدي يكتبها لي، ويصحح لغتها دون وزنها. ومرة بعثت إلى المرحوم الخليل خليل اليازجي، وكان مصطافاً في عبيه، ببيتين من شعري الصبياني فسر بهما كثيراً وأجابني عليهما بهذه الأبيات: أنت الصغير الكبير النفس منتسباً ... بها لأسلافك الشم العرانين

هلال سعد نرجي منه بدر سناً ... يلوح في أفق باليمن مقرون غالبت فن القريض المستطاب وقد ... غلبته بانتصار منك ميمون منه لك الأمن والنصر المبين ولا ... بدع فأنت أمين ناصر الدين ولم تزل الرقعة المكتوبة فيها هذه الأبيات محفوظة عندي وهي بخط الناظم رحمه الله. وبعد أن تعلمت القراءة والخط درست مبادئ النحو والصرف والبيان والبديع والعروض على بعض الأساتذة ثم عكفت على المطالعة، واستظهرت من أقوال البلغاء، وخصوصاً الشعراء منهم ما يصح أن أقول إنه كثير. وفي سنة 1899 ميلادية أعدت نشر جريدة الصفاء وذلك أول عهدي بالصحافة فحررت فيها نحو أربعة أعوام مع تدريس اللغة العربية في مدرسة عبيه الداودية. ثم أسس والدي مدرسة المعارف في عام 1905 فتسلمت إدارتها مع تدريس العربية فيها ولم أكن أنفك عن المطالعة. وفي سنة 1908 أعدت نشر جريدة الصفاء ولا أزال أكتب فيها إلى الآن. * * * هذه كلمة الشاعر عن نفسه. أما كلمتنا عنه فقد أغنانا عن قولها ما نشرناه لحضرته من القصائد الرائقة في ما مر، ونحن على يقين أن قراء الزهور قد قدروها قدرها، وأنزلوها المنزلة التي تستحقها بين جيد الشعر وأطايبه. وإن في النفثة التي نحن ناشروها له اليوم ما يصح أن يكون دليلاً ساطعاً على فضله وأدبه:

صدى اليأس آثر الدهر أن أعيش كئيباً ... بين قومي وفي بلادي غريبا تنتحي قلبي الهموم دراكاً ... وإلي الخطوب تزجي الخطوبا حسب الدهر أنني من جماد ... فرماني بالنائبات ضروبا غير أن الازدراء ما أفقدتني ... جلداً راسخاً وعوداً صليبا * * * ضاع رأيي في من رأى حين أمست ... ألسن الناس لا تطيع القلوبا تارةً أحسب الحبيب بغيضاً ... وزماناً أرى البغيض حبيبا كم رأيت ابتسامة فوق ثغرٍ ... ثم عادت من بعد ذاك قطوبا ولكم بت راضياً عن أناس ... حين أصبحت غادروني غضوبا ولكم قد وثقت بالبعض لكن ... قد أبى الخبر أن أكون مصيبا ينتحيني الأنام من غير داع ... ومتى أدع لا ألاق مجيبا يحسبون الجميل أسوأ صنعٍ ... والسجايا المكملات عيوبا * * * ود غيري دوام عصر شبابٍ ... بينما جئت استحث المشيبا حبذا الشيب في دجى الشعر صبحاً ... منبئاً أن للحياة غروبا لا تظنن أن في العيش طيباً ... ضل من ظن في الخبائث طيبا وكفى بالشقاء طلق لسان ... عن خطوب الحياة قام خطيبا * * * أرقب النجم في الدياجي وما من=وله بت للنجوم رقيبا غير أني أرى لهن خفوقاً ... كفؤاد يحيي الظلام طروبا ويزيد النسيم قلبي حراً ... مثل نار بالريح زادت لهيبا

وإذا ما رأيت إشراق شمسٍ ... قلت يا ليته يعود مغيبا إن ستر الظلام يحجب عني ... كل شيء أريده محجوبا * * * يا هزار الأراك إنك أوفى ... في الملذات من سواك نصيبا أنت تشدو على الغصون سروراً ... وأنا أجعل القريض نحيبا أنت تبغي البقاء في ظل دوحٍ ... وأنا أبتغي الفناء القريبا لك في الطير أوفياء وأني ... لم أجد في الأنام إلا مريبا يا هزار الأراك لو كنت مثلي ... لاستحال الصداح منك نعيبا ليس من طبعي الكآبة لكن ... آثر الدهر أن أعيش كئيبا أمين ناصر الدين حقائق سألتك يا رب بالأنبياء ... وبالمصطفين وبالأتقياء وبالمنزلات وبالمعجزات ... وبالأرض والبحر ثم السماء تمن علي بصبر جميل ... إذا المرء ضاق عليه الفضاء فكم قد صبرت على ما ألاقي ... فلم يجدني الصبر غير العناء تمنيت لو لم تلدني الولود ... جزاها المهيمن خير الجزاء تمنيت لو ثكلتني رضيعاً ... فلم أتغذ بهذا الهواء أرى نفساً كان خيراً لها ال ... قتل تعلو علواً رفيع البناء وأخرى لها شيم المرسلين ... تضام وقد نال منها العياء أرى جاهلاً يتخطى الرقاب ... أرى عالماً نال منه الشقاء أرى الصدق في النزع والصادقين ... تولى عذابهمو الأدعياء

أرى الناس بعضاً لبعض عدواً ... نسوا أنهم خلقوا للفناء تراه تظن الصديق الحميم ... وإن رحت فهو شديد العداء وتلقاه يقسم بابن البتول ... ونسل الذبيح وحق الولاء بأن عرى الود حبل متين ... غدائره من خيوط الإخاء أدر شطر وجهك عنه قليلاً ... يقطع حبال الأخا والرجاء تباركت يا رب هذي الذئاب ... أضر على الناس من وطأة الداء عقارب تلدغ من يلتقيها ... أفاع تعض فكيف الشفاء إذا كان يرضيك هذا فزدنا ... وإلا فعجل بمنح الدواء فإني وحقك أقسم صدقاً ... بأن الفساد سرى في الدماء وإنا نرى اللؤم رأي العيان ... ونلمس بالكف جسم الرياء عطبره (السودان) محمد فاضل الشرق والغرب أيه يا برق العدى كن خلباً ... أوشك المشرق يحكي المغربا غلبته في قواه خدعة ... فاحذروا كيد قوي غلبا يتسامى للعلا لا راهباً ... فإذا صادف موتاً ركبا حولوا أن تحجب الشمس به ... ليتهم ما حاولوا أن تحجبا كلما مدوا إليها طنبا ... قربوا للنار ذاك الطنبا رب شعب أيقظته رقة ... فرأى الراحة كانت تعبا در در الجهل والنوم معاً ... أعقبا بعدهما ما أعقبا رب طير أسقطته ذروة ... فسما عنها فكانت سببا يا نفوساً في ربى النيل رأت ... عزها في عز هاتيك الربى

رائحات كل يوم برضى ... غاديات كل يوم بنبا كلما طار صدى ما بينها ... أهب الناس إليه موكبا يا أوليها ذلل الله لكم ... من أساليب المنى ما صعبا كلأ الله رجالاً كلأوا ... أرضهم حتى قضوا ما وجبا سطروا ما أضمروا في صفحة ... أعجبوا فيها فكانت أعجبا حاول الجبار أن يقرأها ... فرأى في كل حرف عقربا فبكى كالطفل عيناً وفماً ... وطواها فضحكنا عجبا ويك يا غرب اتق الشرق فلم ... تحتمل غيظ حليم غضبا قوة كالنار لو جاوزها ... نفس المطفئ زادت لهبا أو كأمواه ترامت من عل ... كلما صودرن زادت صببا لا وأيم الله ما كانت وهت ... رب ذي بأس تواهى رغبا كم قلوب يتمارضن هوى ... لتى من قد سلا ممن صبا ضيعة كانت فولت فانثنت ... كم ضياع رد لما سلبا في يمين الشرق تجري زبدا ... ويمين الغرب تجري ذهبا فاتحات الخير باسم الله ما ... شاء لا يسأل عما وهبا أخلق الناس بنعمى ربه ... مخلص لله فيما طلبا * * * يا رجالاً لفتوا الدهر لهم ... فمتى أملوا عليه كتبا رب قول في دم المرء جرى ... وحسام في يد المرء نبا لا سقى الغيث ثرى مصر إذا ... هو لم ينبت رجالاً نجبا أنفساً طابوا وقروا أعينا ... وعلا زادوا وطالوا حسبا عبد الحليم المصري

أين فؤاده أهذا الذي جنب الحشا اسمه القلب ... أم القلب حيث الصب مهجته تصبو؟ وذاك الذي سماه أهل الهوى جوى ... أهذا الذي لا تستقر به جنب؟ وتلك السيوف الناقمات على الحشا ... أم المقبلة النجلاء أرهفها الهدب؟ إذا سئل الإنسان أين فؤاده ... فأي جواب للذي ما له قلب؟ رشيد نخلة الفل زانت الرأس بفل ... هو بالرأس تحلى ما رأت قبلك عيني ... وردة تحمل فلا خليل مطران أصابح العاج ليس أبيانو الذي باتت تكهربه ... يداك أطوع من قلبي وأفكاري لمسته فتمشى السحر بي فكما ... تهتز أوتاره تهتز أوتاري أصابع العاج هذي تلعبين بها ... أم تلعبين بأسماعٍ وأبصار الدكتور نقولا فياض دمعتان متشابهتان رأيت كتابها فقرأت فيه ... شكايات ألذ من الثناء فقلت فؤادها يحكي فؤادي ... لذاك بكاؤها يحي بكائي ولي الدين يكن

حلب الشهباء

حلب الشهباء موقعها - قدمها - أصل اسمها ما نحن من يصف قدرها الخطير ومحلها الأثير أو يطنب في بسيطها المشهور وما تجده النفس فيه من الانبساط والسرور ولا من يتغزل بظلها الضافي ومائها الصافي وسعدها الوافي وانوارها المشرقة وأزهارها المونقة وأشجارها المثمرة المورقة. ولا من يقف على أطلالها فيندب كبار رجالها ويبكي منازلها وديارها وينعي سكانها وعمارها. ولا بالنتيجة من يجدها من (الشام) الواسطة من العقد والقلب من الصدر والإنسان من العين. إلى ما أشبه هذه من ألفاظ مبتذلة وفواصل باردة وقفت عندها البدائه فلاكتها الألسن وتداولتها الأقلام دهراً طويلاً فما زادت هذه المدينة تعريفاً ولا أجدت في حقيقة حالها شيئاً مذكوراً. وإنما نضرب عن ذلك كله لقلة فائدته إلى أن حلب مدينة عهيدة دالت بها الأحوال والدول بين العزة والذل والقوة والضعف والرفعة والانحطاط شأن سائر بدلا الله العديدة فكان لها في غالب الأحيان من الأسباب والوسائل ما تدرجت معه في مراقي العمران والحضارة وأصابت

من زمن بعيد من الخطورة والأهمية ما جعلها من أمهات البلاد السورية على ما هو مقرر بالإجماع. وجل ما نذكره في هذه النبذة موقعها وقدمها وشعوبها ومشاهيرها ومرافقها وما يتصل بها من أحوالها مستندين فيها إلى أوثق المصادر وأثبت الآثار فعسى أن تصادف قبولاً عند القراء الكرام. إن حلب واقعة في جوف بعيد الأكناف والأطراف في جهة سورية الشمالية وتبعد عن البحر المتوسط 70 ميلاً أو 150 كيلومتراً وهي في درجة 25 َ 11 36 ْ من العرض و 9 َ 37 ْ من الطول الشرقي على ما قاله فانديك في مرآته الوضية. تتوسد جوفها المطمئن إلى رياض وبساتين نضرة وسهول واسعة خصيبة يكتنفها ربى وتلال مجدبة قاحلة كما هو الغالب في جبال سورية ويجري إلى جانبها نهر قويق الذي دعاه كزينوفون (خالسن) ويعزى الآن إلى قويق آغا الذي أصلحه وكان يلقبه أهل الخلاعة (بأبي الحسن). ولا تبدو حلب للمسافر إلا عن كثب فيراها متراصة مركومة بعضها فوق بعض. وأول ما يشاهده منها قلعتها المشهورة ومناور جوامعها ومآذن مساجدها وقباب كنائسها العظيمة ومنازلها الكبيرة وبين شبهة أبنيتها وخضرة بساتينها وحمرة رباها مشاهد رائعة ومناظر فاتنة تدهش الأبصار وتأخذ بمجامع القلوب. وكانت المدينة محاطة بالأسوار فلا يؤذن في البناء خارجاً عنها حتى ضاقت على أهلها في أواخر القرن الثالث عشر فشرعوا يشيدون من

حولها حارات بانقوسا والأكراد والهزازة والجديدة والمشارقة والكلاسة وما أشبه. وفي أواخر العصر الماضي اخذوا يبنون أيضاً أحياء الجميلية والعزيزية والتلل والسليمانية والنيال والحميدية وما يتصل بها حتى كاد البنيان الحديث يعادل القديم. وأما حاراتها القديمة فحسنة على الجملة وأسواقها مرصوفة وأزقتها ضيقة وبيوتها مبنية من الحجر الأبيض وتشابه دور دمشق وأما أحياؤها الحديثة فبالغة حد الإتقان وأبنيتها متقنة الهندسة وشوارعها مرصوفة الجوانب على طرز المدن المستحدثة وأطول طرقها وأوسعها طريق الخندق الذي مده رئيف باشا من دار الحكومة إلى محلة الجميلية. وشرب أهلها من آبار نابعة ومن صهاريج تجتمع فيها مياه الأمطار ومن قناتها التي تجري إليها من جيلان على مسافة ثلاث ساعات شمالاً وتتفرع في القني إلى الدور والمساجد والخانات والحمامات والقساطل ويقال إن هيلانة أم قسطنطين الكبير هي التي جرتها إلى الكنيسة العظمى فعرفت بها ولا ريب في أن ماء حلب عذب فرات. وشتاؤها معتدل تشتد نوافحه في شهري كانون الأول والثاني وتكثر فيهما الأمطار والثلوج وأما صيفها فليست وغرته بمفرطة ولو تصاعد فيها إلى ال 40 درجة من المقياس المئوي وذلك لنشف هوائها وهبوب الريح الغربية عليها في حمارة قيظها فتلطف أوارها وترطب هواءها في معظم ساعات النهار. ولهذا ترى حلب طيبة السكنى معتدلة الجو تصح به الأجسام.

ولكن لابد لأهلها دائماً وللغرباء نادراً من ظهور بثرة أو خراجة تسمى حبة حلب أو حبة السنة لا تبرأ قبل سنة من ظهورها وليس لها علاج خصوصي يعول عليه في معالجتها. وقيل إن سببها من الماء وقيل بل إنه من المناخ أو الهوام لأنها لا تظهر إلا في المحال المكشوفة من البدن كالوجه واليدين والرجلين وهي توجد أيضاً في عين تاب وعلى شطوط الفرات إلى بغداد. وهي المدينة السورية الوحيدة التي حافظت على مزاياها الشرقية البحتة من حيث البناء والعيش وعادات السكان وجودة الطباع إلى أشباهها مما فقد من غالب البلاد السورية فلا عجب إن راقت هذه المدينة في أعين السياح لأنها تذكرهم في القرن العشرين بمزايا المدن الكبرى التي عمرها العرب. قال كتبة العرب: إن اسم حلب عربي لاشك فيه وهو لقب لتل القلة. فكان إبراهيم (عم) إذا أشمل من الأرض المقدسة ينتهي إلى هذا التل. . . فكان يأمر الرعاة بحلب ما معهم طرفي النهار. . . يتصدق به على الضعفاء والمساكين فينادي الضعفاء: (إبراهيم حلب إبراهيم حلب) فيبادرون إليه. وغلبت هذه اللفظة لطول الزمان على التل كما غلب غيرها من الأسماء على ما هو مسمى به فصار علماً بالغلبة. وأول من تنبه لهذا الوهم ياقوت الحموي فقال: وهذا فيه نظر

لأن إبراهيم (عم) وأهل الشام في أيامه لم يكونوا عرباً. إنما العربية في ولد ابنه إسماعيل (عم) وقحطان. . . فإن كان لهذه اللفظة أعني حلب أصل في العبرانية أو السريانية جاز ذلك لأن كثيراً من كلامهم يشبه كلام العرب لا يفارقه إلا بعجمة يسيرة كقولهم: (كهنم في جهنم). والصواب أنها (حلبون) بتر العرب علامة الأعراب من ىخرها فصارت (حلب) كما فعلوا بإنجيل من أونجيليون وبطريق من بطريقيوس وبطرك من بطريركا أو فطريركيس وما أشبه. قال السيد يوسف داود إنها سريانية معنى (الخصوبة أو الصفوة) وأثبت الأب انستاس الكرملي أنها سامية الأصل بمقتضى الاشتقاق اللغوي ومعناها (المدينة الخصبة الأرض المكتنزة التراب الدسمته العلكته) وصار الأديب يوسف إليان سركيس إلى أن أصل اسمها آرامي ومعناه (اللبن أو البياض) وعندي أنه لا ينجلي أصل اسمها ومعناه إلا بعد الكشف عن كتابات الحيثيين وآثارهم. وحلب قديمة العهد رقاها مؤرخو العرب إلى زمن ارتحال إبراهيم من أرد وحران إلى أرض كنعان على ما يظهر من الرواية السابق ذكرها وذهب كثير من المؤرخين إلى انها حلبون التي ذكرها حزقيال وكالبون الذي ذكرها استرابون وبتولماي. وقال بعض أهل التحقيق والسياحة بل هذه حلبون إحدى قرى دمشق المشهورة بخمرها وزعم

ابن العربي أن بانيها بتحوس ملك آشور ووهم قوم أن بانيها نمرود أول ملوك بابل وكل هذا يقتضي له من إعمال النظر وما لا يسعه صدر هذه المقالة. وما لا شبهة فيه إن حلب كانت مدينة عامرة في المئة الرابعة عشرة قبل الميلاد كما يظهر من كتابة مصرية ترتقي إلى عهد رعمسيس الثاني من الدولة التاسعة عشرة وصف فيها عامل مصري رحلته إلى شمالي سورية وذكر في أثنائها (خلبو) أي حلب مرات. وقد نظر هذه الرحلة شباس العالم معلقاً عليها بعض الشروح. ولا يمتري أحد الآن فيما يرجحه الأكثرون من أن بناة حلب هم الحثيون الشماليون وقد كانوا شعباً قوياً نشيطاً نزلوا على سورية الشمالية فعمروها وتغلغلوا في أطرافها في هد فتوحات ملوك مصر الفراعنة التي توالت على سورية من القرن السابع عشر إلى الرابع عشر قبل المسيح وما تركه هؤلاء الحثيون من الكتابات والآثار والرسوم في نواحي حلب وحمص وحماه أسطع دليل على ذلك الترجيح. ولما غشى رعمسيس الثاني سورية بجحافله الجرارة لقتال موتنار ملك الحثيين بسبب نقضه شروط المحالفة التي عقدها مع سلفه ساتي الأول كان ملك خلبو (حلب) إلى جانب موتنار وتحت قيادته ثمانية عشر ألف جندي فجرت واقعة هائلة على أسوار قادس دارت فيها الدوائر على الحثيين فتفرقت صفوفهم طرائق وهرب موتنار وغرق ملك حلب في جملة من غرقوا في نهر العاصي وفي صورة هذه الواقعة المنقوشة على هيكل الأقصر

المعلوم والمجهول

يرى ملك حلب مستخرجاً من النهر ومعلقاً برجليه يتدفق من فيه ما كان يظن أنه ابتلعه من الماء. القس جرجس منش المعلوم والمجهول صدر منذ عامين الجزء الأول من هذا الكتاب لمؤلفه الكاتب والشاعر الشهير ولي الدين بك يكن، فكان له رواج كبير بين القراء. ثم فرغ حضرته الآن من وضع الجزء الثاني من هذا المؤلف وهو صادر بعد بضعة أيام من مطبعة المعارف. وتيسر لنا أن نطالعه فنقدم لقراء الزهور شيئاً منه قبل سواهم فاقتطفنا منه وداع المؤلف للأستانة وذكر سفره منها يوم نفي إلى سيواس: يممت فروق مدعواً ونزحت عنها مجفواً. فلا الدعوة أبطرتني ولا الجفوة كفرتني. ومازلت من لدن وطئت مهادها وعللت أنهارها وشممت طيبها ورعيت كواكبها صادق الود. مخلصاً في السر والجهر. وما فروق إلا وطن ميلادي استهلت فيها حياتي ونما في أرضها عودي. بذلت لها روحي ولا أمن بها ومنحتها آمالي ولا أدل بها. وكانت شقوة فغلبت على أمري، ونزعت عنها نزوع الصب عن موطن صبابته. . . على ظهر قصر سابح. في لجج البسفور. بي شطي أوروبا وآسيا. من الوطن المحبب إلى غاية مجهولة. فراق أهل وولد. من غير توديع ولا تسليم. كل ذلك تحت ليل كأنه ظل الشقاء وسماء كخاطر الواله. في حيث تتراءى تفاريق نور على البيوت كبسمات أرواح المظلومين من وراء حجب الوجود. لقد كنت شاعراً في ظلمك يا عبد الحميد. . .

وإذا نحن نسير بين منظرين ما تفتحت الأعين على أحسن منهما. شطي آسيا وأوروبا. يتناغيان بالمصابيح. عاشقان عليهما الأقدار بالتلاقي. مرننا بهما أم مرّا بنا. لا أعلم. صحائف أجاد الحسن فيها منمقة. نشرت فانطوت. زلت عنها الأبصار وضاقت عنها الفهوم. فرائيها متخيل وعارفها متوهم. ما شك ناظر إلى السماء وإليها أن تلك كواكب سقطت عليها. عهدي بها في حاليتها. بينا هي عرين إذا بها كناس. يخالط فيها كل زئير ليث عندليب. تتجاور بها مسارح آرام ومصارع كرام. تسقى من ماء معين ومن دم مهراق. تطالعها وجوه ضاحكة وأخرى مجهشة. تقسمتها مواسم الصبا فهي تارة مشتى وآونة مصيف وحيناً مربع. جنة يحرسها حارس جهنم. فتنتني يوم لقائها وتوشك أن تفضحني يوم فراقها. فروق يا ظلوم. خذي روحي فما هبطت علي إلا فيك واسترجعي من أنحاء الفضاء متفرقات أنفاسي. أنت أولى بحسراتي منه. استبقي لي خاطراً أحييك به وشعراً أنوح به عند فراقك يا نعيمي الماضي وشقائي الحاضر. ألا يضطرب ماء هذا الخليج مجاراة لجوانحي. وددت لو أن ارتطم عبابه وترامت أمواجه وأغرقتنا قبل أن نجتاز ربوعك. كان بك مهدي. وأريد أن يكون بك لحدي. هنيئاً يومئذ لحوتك ونونك ما أبقت الأيام من لحم على وضم. ولتتصرف رياحك بأخريات أنفاسي ولترن في أرجائك نوحاتي. الوداع الوداع يا فروق. وسلام الله عليك وعلى بنيك كلهم. هذا طريد جديد. مظلوم يلحق بمظلومين. يخرجونني منك ليلاً لأراك في ثوب حدادك.

أزهار وأشواك

أمن أجلي كل هذا. كلا. بل حدادك على أختك الغزالة. أنا أضيع فيك من دمعة على خد مهجور. أنا أهون على الدهر من ذرة من ذراتك ضلت بين ثنيات الأثير. . . ولي الدين يكن أزهار وأشواك إقرار ومتاب هذا هو عنوان القصيدة التي أشرت إليها في العدد الماضي أثناء ما رويته عن الحفلة الجميلة التي أقيمت في منزل صديقي سليم سركيس إكراماً لصديقته السيدة نجلا صباغ. فزت بها لأتحف قرائي بعذوبة نظمها وأطربهم ببديع معانيها، وقد شاء خليل مطران منضد دررها أن يخصني بها وهي خير ما أقدمه لقراء الزهور في هذا الشهر. قال خليل متذكراً وما أجمل تذكاراته: هل تذكرين ونحن طفلان ... عهداً بزحلة ذكره غنم إذ يلتقي في الكرم ظلان ... يتضاحكان وتأنس الكرم؟ هل تذكرين بلاءنا الحسنا ... حين اقتطاف أطايب العنب نعطي ابتساماتٍ بها ثمنا ... وبنا كنشوتها من الطرب؟ عنب زحلة يساوي كثيراً على أن الشاعر لم يدفع به ثمناً بخساً هل تذكرين غداة نخطر عن ... ملكين حفّا بالمسرات بين السماوات النواضر من ... عليا ودنيا والثريات؟

والنهر. . . هل هو لا يزال كما ... كنا لذاك العهد نألفه يسقي الغياض زلاله الشيما ... ويزيد بهجتها تعطفه ينصب مصطخباً على الصخر ... ويسير معتدلاً ومنعرجا يطغي حيال السد أو يجري ... متضايقاً آناً ومنفرجا متخللاً خضر البساتين ... متهللاً لتحية الشجر متضاحكاص ضحك المجانين ... لملاعب النسمات والزهر واهاً لذاك النهر خلّف لي ... عطشاً مذيباً بعد مصدره يا طالما أوردته أملي ... وسقيت وهمي من تصوره بورك في هذا النهر الذي ينفخ هذه الروح في وارد مياهه العذبة ولا عجب فهو البردوني الشهير تمتد أيام الفراق وبي ... ظمائي لذاك المنهل الشافي وبمسمعي لهديره اللجب=وبناظري لجماله الصافي تلك المعاهد بدلت خطلا ... بمعاهد مدنية الزين كانت غواني فاغتدت بحلى ... القت عليها شبهة الزمن الدهر أغلب وهو غيرها ... وكذاك كانت شيمة الدهر لو أدرك الجنات صيرها ... من حسن فطرتها إلى نكر ما أنس لا أنس العقيق وقد ... جزناه بعد السيل نفترج كان الربيع وكان يوم أحد ... ومسيرنا متمعج زلج ونبيهة الكبرى ترافقنا ... مجهودة ضجت من التعب ولها صويحبة توافقنا ... حسناء كل الحسن في أدب

ضحاكة كالنور في الزهر ... رقاصة كالغصن في الوادي كرارة كنسيمة السحر ... ثرثارة كالطائرة الشادي لا أعرف شدواً أحسن من شدو خليل حينما تضرب الذكرى على أوتار قلبه صنعت بقلبي صنعها فإذا ... هو ينكر القربى ويجحدها ترك الهوى الأهلي واتخذا ... تلك الغريبة عنه يعبدها وكذاك قلب الطفل يلتفت ... إن يلف حباً غير ما ألفا كالطائر البيتي ينفلت ... تبعاً لسانحة بها شغفا حسن تملكني فأدبني ... ما شاء في قولي وفي فعلي وبمثل لمح الطرف أكسبني ... خلقاً وعلمني على جهلي أكرم بالجمال إذا كان يكسب مثل هذا الأدب أوحى إلي دَداً أجربه ... في آية فطنة وَدَدِ فجمعت صلصالاً أركبه ... وصنعت تمثالاً لها بيدي قلم خليل في الوصف يفوق قلم أبرع المصورين فلا بدع إذا جاء هذا التمثال الرامز إلى الحب آية في الجمال. صورت شبه الفرخ في وكر ... من غير سبق لي بتصوير فأتى على ما شاءه فكري ... ورضيت عن خلقي وتقديري ما كان ذاك الفرخ معجزة ... فتانة الإتقان والحسن كلا ولم أجعله معجزة ... لكفاءة الحذاق في الفن فلرب عين فيه لم تكن ... في الحق غير مظنة العين ومظلة للزغب لم تبن ... حتى ولا ريش الجناحين

ولعل ذاك العش لم تفر ... فيه شروط الوضع والنقش لكن على حلم من النظر ... تستام فيه معالم العش رسم على تلك العيوب بدا ... لحبيبتي من أعجب العجب فتناولته برقةٍ وغدا ... بين الصواحب أنفس اللعب أمحيري الأحلام بالهرم ... وبناة بابل فتنة الحقب ومهندسي اليونان من قدم ... والفرس والرومان والعرب ومشيدي بغداد والجسر ... وممصري الأمصار للبدو ومزخرفي الحمراء والقصر ... حيث انتهى بهم مدى الغزو أي رافئيل المبدع الصورا ... أي ميكلنج الناقش الباني أي كل فانٍ تاركٍ أثراً ... من طابع التخليد في فان لا تستعز بكم روائعكم ... ممدوحة في الشرق والغرب أترون كم صغرت صنائعكم ... في جنب ما صنعت يدا حبي بدليل أن حبيبتي فرحت ... بهديتي وقضت لها عجباً ومضت تداعبها وما اقترحت ... شيئاً يتم لها بها إربا يوم تقضّى والفراق تلا ... سرعان ما وافى وما انصرما بهوى تولد فيه واكتهلا ... في ساعتيه وشاخ وانعدما ولى وأبقى في دجى الماضي ... شفقاً بعيداً واضح الأثر كم اجتليه وراء أنقاض ... وأقول يا أسفي على سحر هذه حكاية حالة عبرت ... واستغرقت في لجة المحن ما زلت أنقذ كل ما ذكرت ... قطعاً طفت منها على الزمن

فإذا صفاء النفس عاودني ... وأقرني فوق التباريح دال الهوى الأهلي من حزني ... وبقيتما ريحانتي روحي لا مجال اليوم للأشواك مع هذه الزهرة الزهراء، فإلى العدد القادم. حاصد سمو الأمير ضياء الدين افندي أكبر أنجال جلالة السلطان وقد قدم إلى القطر المصري لتحية جلالة ملك وملكة الأنكليز في سفرهما إلى الهند

رواية الشهر

رواية الشهر القطار الضائع في اليوم الثالث من شهر يونيو (حزيران) سنة 1890، وقف رجل في محطة سكة حديد لندن والنواحي الغربية الوسطى في ليفربول، وطلب أن يرى مستر جايمس بلاند ناظر تلك المحطة. وكان هذا الرجل كهلاً أسمر اللون، قصير القامة، محدودب الظهر، كأن في عموده الفقري تقوساً أصلياً. وكان يرافقه رجل مهيب تدل ملامحه على أنه إسباني الجنس، أو أمريكي من اهالي أمريكا الجنوبية. وهو متأبط محفظة صغيرة من الجلد الأسود مشدودة إلى يده اليسرى بسيرٍ قد انطبقت عليه قبضته بحرصٍ شديد. ولما مثل الأقوس بحضرة مستر بلاند تسمى قائلاً: أنا لويس كاراتال. وقد وصلت الساعة آتياً من أحد ثغور أمريكا الوسطى، وقاصداً إلى باريس حيث تستدعيني أشغال عظيمة الأهمية جداً. ولقد ساءني كثيراً أنني لم أدرك قطا الإكسبريس الذي سافر منذ هنيهةٍ إلى لندن. وليس في طاقتي أن أتربص ريثما يسافر القطار الآخر لأن كل ساعة أقضيها بعيداً عن باريس تكون بمثابة قضاءٍ مبرم على أعمال وآمالي. لهذا أود السفر في قطارٍ خاص بي وحدي غير مكترث للمال الذي يجب علي بذله في هذا السبيل. فأمر مستر بلاند بأن تعد قاطرة خصوصية، وبأن تربط بها عربة للفحم، وعربتان، إحداهما تحتوي على قس معد للجلوس فيه، وقسم يعرف بغرفة التدخين والأخرى لا معنى لها سوى تخفيف ارتجاج العربة الأولى. فدخل لويس كاراتال ورفيقه الذي لم يعرف أحد اسمه إلى الأولى وبقيت الثانية خالية خاوية. ولم يكد يعود مستر بلاند إلى مكتبه حتى وقف بين يديه رجل يدعى مستر

هوراس مور وطلب منه بإلحاح ما طلبه وفاز به من قبل مسيو لويس كاراتال ورفيقه. قال أن مرضاً فجائياً أصاب زوجته في لندن، وأنه يخشى عليها كثيراً. فسفره لازم لازب لأن أموراً عائلية متوقفة على أن يدرك زوجته قبل وفاتها فإن هي ماتت قبل أن يراها جرت معها إلى القبر مستقبل عائلةٍ بأسرها. فقال مستر بلاند إن القانون يحظر عليه أن يسير قطاري خصوصين على خطٍّ واحد في زمان واحد. على أنه لا يرى مانعاً من السعي مع مسيو كاراتال فلعله يسمح بأن يشرك آخر معه في قطاره الخاص. وفيل لمسيو كاراتال في ذلك فأبى كل الإباء. وحاول بعضهم أن يقنعه ولكنه أصر على الرفض متشبثاً بكونه قد دفع أجرة القطار وحده فهو والحالة هذه الآمر الناهي. فأسقط في يد مستر هوراس مور حين غلب جفاء الأمريكي الأقوس على لينه وإلحاحه، فاضطر إلى انتظار القطار العادي الذي كان مزمعاً أن يسافر في مساء ذلك النهار. ومشى القطار الخاص المقل لويس كاراتال ورفيقه في الساعة الرابعة والنصف تماماً. وكان الخط الحديدي ببن ليفربول ومنشستر خالياً، فلم يكن من الواجب أن يقف في محطةٍ ما قبل بلوغه إلى منشستر إذ يصلها حوالي الساعة السادسة. ثم كانت الساعة السادسة وربعاً ولم يبلغ القطار محطة منشستر. وأبرقت هذه المحطة في ذلك إلى أختها في ليفربول فقلقت هذه، وساورتها المخاوف، وأبرقت في دورها إلى محطة سنت هيلنس الواقعة على نحو ثلثي الخط الحديدي بين ليفربول ومنشستر وسألتها عن ذلك القطار فورد منها الجواب التالي: مر القطار المخصوص في الساعة 4 والدقيقة 52 دوسر سنت هيلنس وكان ورود هذا النبأ على ليفربول في الساعة 6 والدقيقة 40. وفي الساعة 6 والدقيقة 50 وصل نبأ برقي آخر من منشستر يقول: لا عين ولا أثر للقطار المخصوص. ثم انقضت عشر دقائق أخرى فوردت البرقية التالية: تحققوا جيداً من الموعد الذي مشى فيه القطار المخصوص، فإن قطار سنت هيلنس المحلي الذي كان يجب أن يصل بعده قد دخل محطتنا بدون أن يرى له أثراً أو شبه أثر. منشستر

فقامت محطة ليفربول وقعدت لهذا النبأ، ولكنها اطمأنت قليلاً إذ عرفت أن قطار سنت هيلنس لم ير أثراً للقطار المخصوص. فانتفى بذلك كل خوف داخلها من حدوث أمر ذي بال للقاطرة، وترجح عندها أن إحدى المحطات حجزت القطار المخصوص ريثما يمر القطار العادي. على أنها رأت أن تتيقن الأمر فأبرقت في ذلك إلى جميع المحطات بين ليفربول ومنشستر فوردت عليها الأجوبة التالية: مر القطار المخصوص في الساعة 5 - محطة كولنس كرين مر القطار المخصوص في الساعة 5 والدقيقة 6 - محطة إرلستون مر القطار المخصوص في الساعة 5 والدقيق 10 - محطة بنيوتون مر القطار المخصوص في الساعة 5 والدقيقة 20 - محطة كنيون تجنكشون لم يمر القطار المخصوص قط من هنا - محطة بارتون موس فالتفت حينئذ مستر بلاند إلى مدير الخطوط الحديدية لفتة دهش وانذهال وقال: مر علي حتى اليوم زهاء ثلاثين سنة في خدمة مصلحة السكة الحديدية ولكنني لم أتذكر أبداً انه مر بي مثل هذا الحادث الغريب من قبل! فقال المدير: حقاً إن هذا لمن الغرائب التي تحير العقول، وإني لأعتقد أن هناك مصاباً أصاب هذا القطار بين محطتي كنيون تجنكشون وبارتون موس. - وفي رأيي إن القطار قد حاد عن الخط فشرد فتدهور في وادٍ ما. - إذا ما كان ذلك كذلك فيكف مر قطار الساعة الرابعة والدقيقة الخمسين على الخط بدون أن يرى له أثراً أو يعثر على شبه أثر؟ - لست أدري شيئاً يا مستر هود، ولكن الواجب يقضي علينا بأن نأمر بفحص الخط بين كنيون تجنكشون وبارتون موس. ثم ما لبث أن ورد على ليفربول النبأ التالي من محطة منشستر: ما برحنا جاهلين كل شيء بشأن القطار المخصوص. أما الخط بين كنيون تجنكشون، وبارتون موس، فسليم كالعادة وليس فيه أثر لحادث ما. وعلى أثر هذا النبأ وردت البرقية التالية من ناظر محطة كنيون تجنكشون:

كل الآثار تدل على مرور القطار المخصوص من هنا، ولكن من اليقين عندنا أنه لم يصل إلى بارتون موس. فحصت بنفسي الخط الحديدي فوجدته سليماً كالعادة وليس فيه أثر لحادث ما. ونزل هذا النبآن نزول الصاعقة على مستر بلاند فأخذ ينتف شعره، ويحرق أسنانه من القطر والتأثر الشديدين، وهو يقول: إن أكاد أجن يا مستر هود. أمن الممكن أن يتحول قطار حديدي إلى بخار يتطاير ثم يتلاشى في الفضاء؟ وفيما كان مستر بلاند ورفيقه مستر هود تتنازعهما الريب والشكوك، وتساورهما الأوهام والمخاوف إذ ورد عليهما من محطة كنيون تجنكشون هذا النبأ: وجدنا الساعة جثة المسكين جون سلندر المهندس الميكانيكي للقطار المخصوص مطروحة في منحدر مثلَّم على ميلين ونصف ميل من المحطة. واتفق يومئذ أن صحف إنكلترا لم تهتم لهذا الحادث الغريب لأنها كانت مشغولة عنه بحادثة أخرى أعظم أهمية، وأشد تأثيراً في النفوس. ذلك أنها كانت مشاركة باريس في اضطرابها لفضيحة سياسية كبرى كانت تتهدد الحكومة الفرنساوية، وفريقاً من عظماء القوم في ذلك العهد. فلما ذكرت حادثة القطار المخصوص لم تنظر إليها إلا نظرها إلى الحوادث الجنائية التي لا يعلق عليها شأن ما. أما مستر بلاند فاستصحب المفتش كولنس مدير بوليس السكة الحديدية، وقصد إلى كنيون تجنكشون للبحث والتدقيق في أمر القطار الضائع. وكانت على جانبي الخط الحديدي بين تلك المحطة ومحطة بارتون موس، مناجم فحم عظيمة، ومعامل حديدية كبرى، مربوطة بخطوط حديدية مفردة تصل بينها وبين الخط العام المزدوج. على أن بعض تلك المناجم كان قد أهمله أصحابه بعد أن استثمروه واستنفدوا فحمه، فتركوه أشبه شيء بهوّات عظيمة فاغرة أفواهها، ومظلمة كأن لا قرار لها. وخيل إلى مدير البوليس لأول وهلة أن القطار المخصوص شرد إلى أحد تلك الخطوط الصغيرة التي لم تحول إبرتها عند نقطة الاتصال بالخط العام. ولكنه عاد فتذكر أن القطار الذي تلا في سيره القطار المخصوص مر من هنالك ولم

يشرد. فقال في نفسه إنه لا يبعد أن يكون هناك يد أثيمة جرت القطار المخصوص إلى كمين من اللصوص كان يتربص له في إحدى الغابات المجاورة. وشد ما كان انذهال مستر بلاند ورفيقه حين رأيا أن معظم الخطوط الصغيرة كان غير متصل بالخط العام لن أصحاب المناجم المهملة كانوا قد اقتلعوا بضعة أمتار من الحديد عند نقطة الاتصال لعدم حاجتهم بها، ودفعاً لما قد ينجم عنها من المصاعب للقطر السائرة إذا أهملتها أيدي العملة. ومع ذلك فلم تفتر عزيمة هذين الرجلين عن التدقيق والتفتيش بل ماشياً جميع الخطوط إلى غاياتها، ولكنهما لم يقفا على أثرٍ للقطار الذي كانا يفتشان عنه، ولا تبينا شبهة ما. وكان أشد ما لاقياه من الذهول حين وقفا في المكان الذي وجدت فيه جثة المهندس سلندر على قيد أمتار قليلة من الخط العام إلى جانب أحد الخطوط الصغيرة المقتلع حديدها قديماً عند نقطة اتصالها بالخط الكبير. وقد حيرهما أمرها فلم يفهما سبب وجودها هنالك على حين كان تهشمها دليل حدوث الوفاة فور السقوط من القطار أثناء سيره السريع. وعادت الصحف إلى هذه الحادثة فذكرتها بعد أيام متهمة مستر كولنس بالعجز والتقصير. وحملت عليه حملةً اضطرته إلى اعتزال وظيفته حاقداً جازعاً. وفي اليوم الخامس من شهر يوليو (تموز) سنة 1890 نشرت الصحف الرسالة التالية وقد كتبها مك فرسن الذي كان يقود القطار المخصوص وأرسلها إلى زوجته من نيويورك فدفعتها زوجته إلى الجرائد فنشرتها هذه وهي: زوجتي المحبوبة تذكرتك في غربتي وتذكرت شقيقتي العزيزة لويزا فهاجت الذكرى أشواقي إليكما. وتفكرت ملياً في حالنا الحاضرة فوجدت أن المروءة تقضي علي بألا أترككما وحيدتين في لندن لا تجدان نصيراً ولا تلقيان سلوى. فلهذا أنا باعث إليك أيتها الحبيبة بمبلغ عشرين جنيهاً تبذلينها نفقة لكما في سفركما إلى هذه البلاد. فتعالي إذن تواً إلى نيويورك واقصدي إلى بيت جونستون فيها حيث تجدين أني قد تركت لك الإشارات اللازمة لمعرفة المكان الذي سنتلاقى فيه. أما حالي فهي

قلقة جداً في الأثناء الحاضرة ولكن قلها يجب أن لا يكون عقبة في سبيل اجتماعنا. السلام عليك وعلى الحبيبة لويزا من زوجك جايمس مك فرسن ثم سافرت هاتان المرأتان إلى نيويورك تحت مراقبة البوليس السري. وأقامتا برهةً في بيت جونستون ولكن على غير جدوى فعادتا إلى لندن خائبتين. ومرت الأيام على هذه الحوادث فنسيها الناس، وأهملتها الجرائد فكأنها لم تكن. * * * في سنة 1908 أي بعد انقضاء زهاء ثماني عشرة سنة على ضياع القطار المخصوص بين ليفربول ومنشستر، نشرت جرائد مرسيليا في صباح أحد الأيام الرواية التالية، وهي خلاصة ما اعترف به رجل يدعى هربرت دي لرناك الجاني المحكوم عليه بالإعدام عقباً لقتله تاجراً يسمى بونفالو. قال: متى قرأ اعترافي هذا فريق من كبار القوم، وعظماء السياسة في باريس، فليعلموا أني انتظر في سجني على مثل جمر الغضا تدخلهم في أمري وتوسطهم في سبيل العفو عني. وإلا فإن حديثي الخالي من الأسماء اليوم، يتحول غداً إلى إفشاء أسرار هائلة قد طوتها الأيام منذ سنة 1890، فإن العالم ما برح يجهل حتى الساعة حقيقة حكاية القطار المخصوص الذي حمل لويس كاراتال ورفيقه من ليفربول في اليوم الثالث من شهر يونيو (حزيران) سنة 1890 ثم تبخر بين محطتي كنيون تجنكشون وبارتون موس فتلاشى في الهواء. فحديثي اليوم حديث بطل تلك الرواية الذي كان يعمل بأمرة أولئك الرجال العظام الذين وعدت بكتم أسمائهم طمعاً بان يستصدروا العفو عني ويخرجوني من هذا السجن الذي دفعت كرهاً إليه. في سنة 1890 قامت باريس وقعدت لتلك الفضيحة السياسية المالية الهائلة التي كادت تميت موتاً أديباً لا حياة بعده عدداً كبيراً من ساسة فرنسا وعظماء رجالها. إن أولئك القوم كانوا أشبه بشيء بهذه القطع الخشبية المهندمة الواقفة عالية الرأس في اللعبة المعروفة بعلبة الكيل وكان المرحوم لويس كاراتال أشبه شيء أيضاً بتلك

الكتلة الخشبية الثقيلة التي يدحرجها اللاعبون بقوة نحو تلك الأخشاب. . . لطمة إثر لطمة، وصدمة تلو صدمة! وإذا بتلك القطع الواقفة قد وقعت جميعها إلى الأرض، الواحدة تلو الأخرى في مثل طرفة عين. ذا عرفت هذا عرفت أي خطر كان يتهدد أولئك الرجال في قدوم كاراتال إلى باريس وهو المعتمد السياسي الخبير والمثري العظيم. وعليه فقد تألفت في باريس في ذلك العهد، لجنة عهد إليها القيام بكل عمل للفتك بهذا الرجل قبل وصوله إلى العاصمة الفرنساوية، وكان يعوز هذه اللجنة رجل داهية يكون يداً لها فاختارتني لذلك، وأمدتني بالمال والنفوذ. وكان أول أعمالي أني بعثت إلى أمريكا رجلاً من أتباعي كنت أعتمد عليه كثيراً واثق بإخلاصه، وأمرته بان يتبع كاراتال كظله، ويوقفني على حركاته وسكناته. ولكن رسولي بلغ إلى أمريكا فور سفر كاراتال منها، ولولا ذلك ما وصل عدونا إلى ليفربول ولا رست سفينته قط إلا في مقر الحيتان! ولم يكن شخص كاراتال وحده جل قصدنا بل كان من أقصى أمانينا أيضاً إخفاء اوراقه وإتلافها والقضاء على رفيقه قضاءً مبرماً. وأقمت في ليفربول أنتظر وصول السفينة وقد أعددت عدتي. ورسمت الخطة التي أزمعت أن أعمل بحسبها. واشتريت فئة من نبهاء الإنكليز لمساعدتي على إتمام قصدي. فما وقفت السفينة في الميناء حتى كنا على تمام الأهبة والاستعداد. ولما نزل كاراتال إلى البر كان معه رجل أمريكي كبير الجثة، مهيب الطلعة، في عينه شرر يتقد دائماً اتقاد الكهرباء. وقد عرفناه بما سمعناه عنه من قبل. وكان اسمه غوميز وهو شجاع باسل يحب سيده ويتفانى في خدمته. ومما يجمل بي أن أتباهى به الآن أني عرفت أنه كان لابد لكاراتال أن يسافر تواً إلى لندن ليتمكن من الوصول إلى باريس في وقت سريع. فلم أشك قط أنه سيستأجر قطاراً مخصوصاً يحمله ورفيقه إلى العاصمة إذ يكون قطار الإكسبريس قد سافر قبل أن يدركه في محطة ليفربول. وكنت قد علمت أن السائق الذي سيعهد إليه بقيادة ذلك القطار يرجح أن يكون المسمى مك فرسن فاشتريت هذا الرجل في عداد الذين

اشتريتهم. ثم كان ما توقعته. فإن كاراتال جاء مستر بلاند وطلب منه بإلحاح قطاراً مخصوصاً دفع أجرته فوراً واستقل به. حينئذ تقدم أحد أتباعي ووقف بحرة مستر بلاند متسمياً باسم هوراس مور، وطلب بدعوى اختلقها ما طلبه مسيو لويس كاراتال ونحن عالمون أن القانون يحظر تسيير قطارين مخصوصين في وقت واحد إلى وجهة واحدة. ولكننا طمعنا بأن كاراتال يسمح بأن يشاركه في قطاره سواه. غير أن هذا الرجل كان خائفاً وجلاً فأبى وأصر على إبائه رغم إلحاح هورسا مور الظاهري. أما أنا فكنت واقفاً على تلة مشرفة على منجم الذين كانوا معي، وحولنا الطريق إلى هذا الخط الصغير بحيث مر القطار المخصوص شارداً عن طريقه إلى طريق المنجم بل إلى طريق الهاوية اللاقرار لها. وكان رفيقنا سميث الوقاد في قطار كاراتال، قد اخذ على نفسه تنويم مستر سلندر المهندس لكيلا يشعر هذا بتحول القطار عن خطه في المكان المختار. ولكنه قام بمهمته بطريقة فظة كان من جرائها أن سلندر وقع من القطار ومات. على أن قتل المهندس على تلك الصورة كان في عملنا المرسوم أشبه شيء ببقعة سوداء في رسم جميل! ولما أشرف القطار على الهاوية من أعلى التل خفف مك فرسن سيره حتى تمكن سميث من القفز إلى الأرض ثم عاد فأدار اللولب فجأة وقفز هو أيضاً قبل أن يفوته الوقت. ومشى القطار وحده بسرعة فائقة. وكنت أراقب من موقفي كل ذلك فرأيت كاراتال قد أوجس خيفة من تمهل القطار وسرعته الفجائية فأطال من النافذة وأبصر الخطر المحدق به، ثم رآنا واقفين ننظر إليه، فاستجار بنا، وأشار لنا مستغيثاً. واطل غوميز من النافذة نفسها وهو يصرخ ويستغيث أيضاً ولكن على غير جدوى. كنت أرى ذلك المشهد المخيف وأنا طلق المحيا، باسم الثغر لأني كنت أشعر في نفسي بأني أتيت حينئذ عملاً متقناً كل الإتقان، وقمت بمهمتي أحسن قيام. ولقد خامرتني حينئذ فكرة التباهي والزهو ففتلت شاربي كبراً وإعجاباً وقلت لمن كان

حولي: إن لجنة باريس عرفت من اختارت لهذا العمل العظيم. وشعرت كأن قلبي قدَّ من فولاذ لنني لم أتأثر قط، ولم أكترث لذينك الرجلين البريئين. وكأنما قنط غوميز من النجاة فأشار لنا بيده، ورمى محفظة الجلد السوداء فالتقطتها وأنا لا أعلم قصده من وضعها بين أيدينا. وسمعنا بعد هنيهة قرقعة عظيمة منها أن القطار المخصوص قد وقع في الهوة. وحدث على أثر سقوطه انفجار هائل سمع له دوي شديد وتكاثف الدخان في الجو، فقلنا إن ذلك إنما كان من انفجار مرجل القطار. . . ثم ساد على تلك النواحي سكون عميق!!! حينئذ تحولنا إلى محو كل أثر يدل على ارتكاب هذه الجريمة. فاقتلعنا الخطوط الحديدية التي كنا قد وصلنا بها خط المنجم بالخط العام، وأعدناها بذلك إلى ما كانت عليه من قبل ثم تفرقنا فذهب كل منا في سبيله. أما محفظة الجلد فقد احتفظت بها لنفسي لأن الحكمة تقضي بأن لا يجرد المرء نفسه من السلاح لاسيما متى كان كثير الصلات بمثل أولئك الرجال العظام الذين أريد منهم اليوم أن يستصدروا العفو عني. وإنهم فاعلون ذلك ولا ريب، لأنهم يعلمون أن أوراق المرحوم لويس كاراتال هي في محفظة الجلد السوداء. حاشية: راجعت ما كتبته الساعة فوجدت أني نسيت أن أقول كلمة عن مك فرسن الذي كتب إلى زوجته يستقدمها إليه في نيويورك. لقد كان من شأن تلك الرسالة أن توقع ذلك الغبي في شبكة البوليس. فكان من المحتم علينا والحالة هذه، أن نفصل بين هذا الرجل وامرأته ففعلنا. واني أشير على هذه المرأة أن تتزوج إذا شاءت فقد أزلنا من طريق زواجها كل عقبة. كاتبه هربت دي لرناك المقيم في سجن مرسيليا

العدد 20

العدد 20 - بتاريخ: 1 - 1 - 1912 حول السنة الجديدة في أول الشهر الجاري ابتدأت السنة الثانية عشرة بعد التسعمئة والألف للميلاد، وقبل ذلك التاريخ بتسعة أيام كان مطلع السنة الثلاثين بعد الثلاثمئة والألف للهجرة: مرحلة جديدة من مراحل أيامنا تأهبنا لاجتيازها، وحلقة جديدة من حلقات العمر هممنا بإضافتها إلى سلسلة الحياة. فإذا كانت توافق السنة العشرين أو الأربعين أو الستين من عمرنا فهي توافق سنة 7111 للخليفة أو 5972 للحساب الإسرائيلي و3927 لإبراهيم الخليل و2665 لتأسيس رومة و1628 للحساب القبطي. وللسنة حسابات مختلفة ذكرناها في مثل هذا العدد من العام الماضي (ص 466) على أنها في كل هذه الحسابات مقسومة إلى اثني عشر شهراً: وأسماء الأشهر تختلف باختلاف الحساب: فهي في الحسابين الغربي والشرقي: يناير (كانون الثاني)، وفبراير (شباط)، ومارس (آذار)، وأبريل (نيسان)، ومايو (أيار)، ويونيو (حزيران)، ويوليو (تموز)،

وأغسطس (آب)، وسبتمبر (أيلول)، وأكتوبر (تشرين الأول)، ونوفمبر (تشرين الثاني)، وديسمبر (كانون الأول). وفي السنة الهجرية: محرم، وصفر، وربيع الأول، وربيع الآخر، وجمادى الأولى، وجمادى الآخرة، ورجب، وشعبان، ورمضان، وشوال، وذو القعدة، وذو الحجة. وفي السنة القبطية: توت، وبابه، وهاتور، وكيهك، وطوبه، وامشيرن وبرمهات، وبردوده، وبشنس، وبونه، وابيب، ومسري، والنسي. وفي السنة الإسرائيلية: تشري، وحشوان، وكسليفن وطيبت، وشباط، وآذار، ونيسان، وأيار، وسبوان، وتموز، وآب وأيلول. ومدات الأشهر تتراوح في كل الحسابات بين 29 و31 يوماً. ولما كنا في مطلع العام الماضي قد ذكرنا كل ما تجدر معرفته عن السنة وحساباتها وتقسيماتها فلم نر حاجة إلى إعادة ذلك، بل اكتفينا في مناسبة العام الجديد بذكر شيء عن اليوم النجمي واليوم الشمس لأنه قاعدة الحساب السنوي وقد اعتمدنا فيما يأتي على تقويم البشير المعروف بدقته وضبطه: للنجوم الثابتة في الرقيع حركة ظاهرة منتظمة لا تخفى على المراقب. فإذا رصدت نجماً من النجوم يمر في وقت معين على هاجرة مدينة ما وأعدت المراقبة في الليلة التالية وفي الثالثة إلخ ترى أن النجم الذي راقبته يعود إلى الهاجرة في الوقت نفسه في مدات متساوية تماماً. فتلك المدات

هي عبارة عن دوران الأرض على محورها دورات تامة. فمدة رجوع النجم إلى الهاجرة يسميها الفلكيون اليوم لتنجمي وهو غاية في الدقة والضبط حتى أنه لا يختلف يوم نجمي عن آخر ولا جزءً واحداً من مائة جزء من الثانية بعد مرور ألفي سنة. ومع ذلك لم يتخذ الناس اليوم النجمي قاعدة لحسابهم لصعوبة مراقبة النجوم فيرجعون في أشغالهم إلى حساب اليوم الشمسي لسهولة مراقبته ومعرفته. واليوم الشمسي هو أطول من اليوم النجمي. لأنك إذا رصدت الشمس تأكدت أنها لا تعود إلى الهاجرة في نفس المدة التي يعود النجم إليها بل تتأخر قليلاً. لأن الأرض في مدة دورانها على محورها تنتقل كل يوم قليلاً في فلكها حول الشمس فبعد أن تدور دورة واحدة على محورها كل يوم يبقى عليها أن تدور مقدار ما تقدمت في فلكها حتى تلحق الشمس الهاجرة ويقتضي ذلك أربع دقائق. فيكون اليوم الشمس أطول من النجمي بنحو أربع دقائق. ثم أنه ليس لليوم الشمسي طول مقرر ثابت. فالأيام الشمسية غير متساوية فتكون أحياناً أقصر وأحياناً أطول، أي أن زمن دوران الأرض من ظهر إلى ظهر أو من غياب إلى غياب يتغير فيكون أحياناً أكثر من 24 ساعة وأحياناً أقل. وأطول ما يكون اليوم الشمسي نحو 23 كانون الأول (ديسمبر) وأقصر ما يكون نحو 16 أيلول (سبتمبر). وسبب هذا الاختلاف هو أن الأرض تسير حول الشمس بسرعة غير متساوية وفي

فلك إهليلجي أي في دائرة البروج المائلة على دائرة الاعتدال. فهذان الأمران يسببان اختلافاً في طول اليوم الشمسي. فلاستدراك الخلل الناتج عن اختلاف طول اليوم الشمسي افترض العلماء شمساً وهمية تسير بسرعة متساوية في خط الاعتدال بينما الشمس الحقيقي تسير (بحركتها الظاهرة) في دائرة البروج المائلة على خط الاعتدال وبسرعة غير متساوية. ويسمون يوماً شمسياً أوسط مدة دوران الشمس الوهمية من الهاجرة إلى أن ترجع إليها فعندما تمر الشمس الحقيقية على خط الهاجرة يكون الظهر الحقيقي. فليس اليوم الشمسي المتوسط إلا معدل الأيام الشمسية في مدار السنة. والفرق بين الظهر الحقيقي والظهر المتوسط يسمونه مساواة أو معادلة الوقت لمعرفة الظهر الأوسط. وتكون المعادلة ناقصة إذا مرت الشمس الحقيقية على الهاجرة قبل الشمس الوهمية وتكون المعادلة زائدة إذا مرت بعدها. ويتفق الظهر الحقيقي والأوسط أربع مرات في السنة نحو 15 نيسان (أبريل) و15 حزيران (يونيو) وأول أيلول (سبتمبر) و25 كانون الأول (ديسمبر). والظهر الأوسط يسبق الظهر الحقيقي من 24 كانون الأول إلى 15 نيسان ومن 14 حزيران إلى أول أيلول. أما في سائر أوقات السنة فالظهر الوسط يتأخر عن الظهر الحقيقي. وقد يبلغ الفرق بين الظهر الأوسط والظهر الحقيقي نحو ربع ساعة لكنه لا يبلغ أبداً 17 دقيقة ويكون معظم الفرق نحو اليوم الرابع من تشرين الثاني (نوفمبر) والثاني عشر من شباط (فبراير).

البرد والصحة

والساعات إنما تسير بموجب الوقت الأوسط وتدل عليه لا على الوقت الحقيقي. فإذا كانت ساعتك مضبوطة ودلت على الظهر فليس من الضرورة أن تكون الشمس في الهاجرة وأن يكون إذ ذاك الظهر الحقيقي بل قد يتقدم الظهر الأوسط على الحقيقي وقد يتأخر عنه، مثلاً في أول كانون الثاني إذ تكون الشمس الحقيقية في الهاجرة أي وقت الظهر الحقيقي تدل الساعات المضبوطة على الساعة 12 والدقيقة 3 والثانية 10 فيكون الظهر الأوسط قد مضى منذ 3 دقائق و10 ثانيات. وفي أول تشرين الثاني وقت الظهر الحقيقي تدل الساعات المضبوطة على الساعة 11 والدقيقة 43 والثانية 39 فيبقى للظهر الأوسط 16 دقيقة و21 ثانية. ثم اعلم أن الزمن المتوسط يتغير بالانتقال من بلد إلى آخر فزمن القاهرة المتوسط مثلاً لا يطابق زمن باريس المتوسط أو غيرها من المدن. البرد والصحة ذكرنا في الجزء الماضي من الزهور نبذة عن المطر وماهيته ومصدره ومظاهره المختلفة، ونرى الآن أن نذكر شيئاً عن البرد وتأثيره في الصحة لأننا دخلنا في فصل الشتاء، فنقول: إذا نظرنا إلى الإنسان من حيث تركيبه الطبيعي نجد أن الحر يؤثر فيه أكثر من البرد. فإنه يحتمل بصعوبة وبضنك شديد درجة الحرارة إذا بلغت الأربعين (في ميزان سنتغراد)، مع أنها درجة تقارب

درجة حرارة الجسم في حالته الطبيعية وهي 37 ْ، فيكون الفرق ثلاث درجات فقط. على أن الإنسان يحتمل البرد بسهولة حتى الدرجة 10 ْ و15 ْ تحت الصفر مع أن الفرق بينها وبين حرارة جسمه تكون 47 ْ أو 52 ْ درجة. ومن ذلك البيان يظهر بأجلى برهان انه أقدر على احتمال البرد من احتماله الحر. نعم قد تسلم الحياة في بعض الأنحاء حيث تبلغ الحرارة 50 أو 53 درجة كما في السنغال أو غيرها من الأصقاع الأفريقية. لكن الاستيطان في مثل هذه الأماكن يصعب جداً على أهالي البلاد المعتدلة، وإذا ولد لهم أولاد تراهم مهازيل الجسم نحفاء البنية. وبعكس ذلك نرى الجسم يتعود شيئاً فشيئاً احتمال البرد ولو شديداً، وقد قران أن الذي قصدوا القطب الشمالي قد وصلوا إلى أصقاع لا يقل بردها عن 40 أو 45 تحت الصفر. غير أن هذه الأرقام مما لا يسوغ تعميمه على كل الأحوال. فهناك مسألة العمر وطريقة المعيشة وغير ذلك من الأمور والبواعث يكون لها أكبر تأثير في احتمال البرد. فالرجل الهرم، وقد قل غذاؤه، يحتاج إلى الحرارة أكثر من سواه. أما الولد فهو أسرع تأثراً من البرد، على أن أنسجته تحتمل فقد الحرارة إلى درجة مدهشة فتقوى على احتمال ما لو أصاب الشاب لفتك به. ويمكن القول بالإجمال أن فصل الشتاء هو أفضل فصول السنة لصحة السواد الأعظم من الناس لولا تسرب إلى أحوال معيشتنا من

العادة المضرة كالمبالغة في تدفئة المنازل والإقبال على الأشربة الكحولية فإنه عندما كان الناس يصطلون على نار الحطب - وهي طريقة الفلاحين حتى الآن - لم تكن حرارة المسكن تزيد على الدرجة 15. أما اليوم فمع ما توفر لدينا من الاختراعات العصرية كاستعمال الكهربائية وغيرها لتوليد الحرارة واتقاء البرد، فقد تبلغ حرارة الغرفة 35 درجة أو أكثر. ولا يخفى ما يعقب ذلك من الضرر العظيم عند الانتقال إلى الهواء الطلق، فيكون تأثير البرد شديداً ومضراً بالصحة لأنه يجب السير بالتدرج في ذلك كما غيره من الأمور. وقد بين ذلك أحد العلماء باختبار أجراه من هذا القبيل، فأخذ أسماكاً ووضعها في ماء درجة حرارته 28، ثم نقلها بغتة إلى ماء درجته 12، فماتت الأسماء للحال. وإذا كان الإنسان يبالغ في اتخاذ الأردية وتوفير الملابس لوقاية جسمه من البرد، فإنه يجعل نفسه عرضة للسعال والنزلات الصدرية وغير ذلك من الأمراض عند أقل إهمال يبدر منه من هذا القبيل فتكون العاقبة غير محمودة. وعليه فمن أفيد الأمور أن تدع نافذة غرفتك مفتوحة عندما لا تكون الحرارة دون الدرجة العاشرة. وهي طريقة ظهرت الآن فوائدها ومنافعها، وإذا اعتادها الإنسان كان له فيها أحسن واقٍ لما يتأتى عن ذلك من تجديد الهواء وتصلب الجسم. وفي كل الأحوال لا يجب أن تتجاوز حرارة غرفتك الدرجة 20 أو 25. أما شاربو الكحول فإن البرد يؤثر فيهم أكثر مما في سواهم. لأن

وصف غرق

الأشربة الكحولية إذا كانت تولد بعض الحرارة في جسم متناولها، فهي لا تلبث أن تحدث رد فعل فتنخفض حرارة الجسم درجة أو درجتين عما كانت عليه قبل تناول المشروب. وقد لوحظ ذلك خصوصاً في بلاد روسيا حيث يكثر الفعلة أيام الشتاء من تناول المشروبات. فإن كثيرين منهم يموتون بدراً حين خروجهم من حانات الشرب. هذه ملاحظات إجمالية يجدر التذكير بها في هذه الأيام. وصف غرق وهو فصل من رواية يترجمها بعضهم وينشئها السيد مصطفى لطفي أفندي المنفلوطي الكاتب المشهور. من سوزان إلى ماجدولين كنا على وشك أن نزورك يا ماجدولين أنا وأبوي فحدث حادث حال بيننا وبين ذلك. فقد دعانا أحد الأصدقاء منذ أيام إلى زيارته في

بلدته، وهي على بعد ثلاثة فراسخ منا ولا تبعد عنك إلا قليلاً، فذهبنا إليه صبيحة يوم وقضينا فيم نزله برهة، حتى إذا زلقت الشمس عن كبد السماء خرج القوم إلى الخلاء للتنزه في غاباته ومزدرعاته. وأنت تعليم فيما تعلمين من أمري أنني فتاة لا أحب الغابات والمزدرعات، ولا الأدغال والأجمات، ولا أطرب لخرير الماء ودوي الريح وهزيم الرعد، ولا اغتبط بحرارة الشمس ووعث الطريق وخشونة الأرض واقتحام الصخور والتعثر بين أغوار الفلوات وأنجادها، ولا أستطيع أن أجد في نفسي تلك اللذة التي يجدها الشعراء المتخيلون في جمال الطبيعة وروائها، ومحاسن الأحراش وبهجتها. ولكنني لم أر بداً من الكون معهم والإصحاب لهم فمشيت صامتة ومشوا يتحدثون بجمال الحياة القروية وعيش العزلة بين سكون الطبيعة وهدوءها وجمال الكائنات وجلالها. والله يعلم أن أحداً منهم لا يعلم من نفسه أنه صادق فيما يقول أو من يتمنى لنفسه ذلك الشقاء الذي يحسد عليه الأشقياء. فكان مثلهم في ذلك كمثل أولئك الكاتبين الذين يكتبون الفصول الطوال في مدح الفلاح والتنويه بذكره والثناء على يده البيضاء في خدمة المجتمع الإنساني، حتى إذا مر ذلك المسكين بأحدهم وأراد أن يمد يده لمصافحته تراجع وكفكف يده ضناً بها أن تلوثها بأقذارها تلك اليد السوداء. ومازلنا كذلك حتى بلغنا شاطئ النهر فراعنا أنا رأينا هنالك جمعاً عظيماً من الناس يتدفع فوق الشاطئ الآخر تدفع الموج المتراكب ويشير إلى الماء بأصابعه وينادي: الغريق الغريق! والنجدة النجدة!

فالتفتنا حيث أشاروا فإذا رجل بين معترك الأمواج يصارع الموت والموت يصرعه، ويغالب القضاء والقضاء يغلبه. يبدو تارة فيمد يده للناس فلا يجد يداً تمتد إليه، ويختفي أخرى حتى تنبسط فوق صفحة النهر فنحسبه من الهالكين. ومازال يطفو ويرسب، ويثب ويقع، حتى كلَّ ساعداه وابيضت عيناه واستحال أديمه، ولم يبق بين أعيننا منه إلا رأس تضطرب ويد تختلج فبكى الباكون، وأعول المعولون، وتواثبت الأحشاء، وتزايلت الأعضاء، ومشى اليأس في الرجاء مشي الظلال في الأضواء، ونظر الناس بعضهم إلى بعض كأنما يتساءلون عن رجل رحيم، أو شهم كريم. وأنهم لكذلك وقد زاغت أبصارهم إلى رؤوسهم، وتمشت قلوبهم من صدروهم. وإذا رجل يدفع الجمع بمنكبيه ويمر بين الناس مر السهم إلى الرمية، حتى اندفع إلى النهر وسبح إلى المكان الذي هبط فيه الغريق وراءه، وما هي إلا نظرة والتفاتة أن انفرج الماء عنهما فإذا هما صاعدان يمسك كل منهما بذراع صاحبه، فكبر الناس إعجاباً بهمة الرجل الكريم، وفرحاً بنجاة الغريق المسكين. ولكنا ما كدنا نستفيق من هذا المنظر المحزن حتى راعنا منظر آخر أجل منه وقعاً وأعظم هولاً، فقد رأينا الغريق كأنما جن جنونه فظن أن مخلصه يريد به شراً وأنه ما أمسك بذراعه إلا وهو يريد أن يهوي به إلى قعر الماء فيعيده سيرته الأولى. فضربه بجمع يده في صدره ضربة قاتلة ثم أنشب أظافره في عنقه ولفه بساقيه لفة خلنا أن عظامه

تئن لها أنيناً فاستيأس الرجل وعلم أنه لابد هالك وأن مقص الفناء قد كاد يأتي على آخر خيط من خيوط أجله، فرفع يديه إلى السماء وهتف باسم أحسب أنه يشبه اسمك يا ماجدولين. ثم ما لبث أن هوى الماء بهما وجرى مجراه فوقهما، فخفقت القلوب وجفت الصدور وخفتت الأصوات وتعلقت الأنفاس وشخصت الأبصار وامتدت العناق ومرت على ذلك ساعة لا تضطرب فيها موجة ولا تهب نسمة، فنظرت إلى أبي حائرة وقلت: أيتعذب الغرقى كثيراً في مصارعة الموت؟ قال: نعم يا بنية، ولقد يبلع الأمر بأحدهم أن يدور بيده في قاع البحر عله يجد الصخرة يضرب بها رأسه ضربة قاضية يستريح بها من الآلام والأوجاع. . . فركعت فوق الرمل ومددت إلى السماء يدي وقلت: اللهم إنك أعدل من أن تجازي الإحسان بالسوء أو الخير بالشر فلقد أبلى هذا الرجل في سبيلك بلاً حسناً وبذل في مرضاتك ما ضن به الناس جميعاً، وها قد ضاقت عليه المذاهب وتقطعت به السبل وأعوزه المعين والنصير فامدد إليه يدك البيضاء التي طالما أنرت بها ظلمات البائسين، وأنر له ظلمته التي يعالجها، إنك أرحم الراحمين وأعدل الحاكمين. ثم استغرقت في صلاتي فلم أعد أشعر بشيء مما حولي حتى سمعت ضجة على الشاطئ فاستفقت فإذ النهر يتثاءب عن الرجل وإذا الرجل صاعد وحده إلى سطح الماء فتنفس طويلاً فصاح به الناس: انج بنفسك فقد أبليت. . . فهبط مرة أخرى وعاد بالغريق يجره وراءه ومازال

بينهما

يسبح به حتى أبلغه الشاطئ فسقطا جميعاً فتولى الناس أمرهما حتى أفاقا فمشى الغريق إلى صاحبه يتمسح به ويتوجع له كأنما يشكر له يده عنده ويعتذر له عن ذنبه إليه، ثم انفض الجميع وبقي الرجل وحده فلبس ثيابه ومشى يتحامل على نفسه إلى شجرات كن على الشاطئ، فأخذ يقتطف بعض زهورها ويضعها في منطقته كأنما يريد أن يجعلها لتلك الحادثة تذكاراً فتركناه على حاله وعدنا إلى المنزل صامتين وقد فاتنا ما كنا عزمنا عليه من زيارتك في قريتك. لا أستطيع أن أكتب إليك اليوم يا ماجدولين شيئاً غير هذا فلقد أصبحت لا أذكر تلك الحادثة إلا واجد لذكراها من الأثر في نفسي ما يخيل لي أنها حاضرة بين يدي وربما كتبت إليك فيما بعد والسلام - سوزان مصطفى لطفي المنفلوطي بينهما قالت لقد أشمت بي عذلي ... إذ بحث بالسر لهم معلنا أهكذا يحكم شرع الهوى ... أن تطلع الأعدا على سرنا؟ قلت أنا؟ قالت نعم أنت هو ... قلت أنا؟ قالت وإلا أنا؟ قلت نعم! أنت التي صيرت ... جفونها جسمي حليف الضنى قالت فلم طرفك فهو الذي ... جنى على قلبك ما قد جنى قلت لقد كان الذي كان من ... طرفي فكوني مثل من أحسنا قالت وما الإحسان؟ قلت اللقا ... قالت لقانا؟ عز أن يمكنا قلت فمنيني بتقبيلة ... قالت أمنيك بطول العنا قلت أموت حسرةً أو جوى ... قالت فمت ذاك لقلبي منى من يعشق الأعين محكولةً ... بالسحر لا يأمن أن يفتنا

ذكرى بعلبك

ذكرى بعلبك معبد للأسرار قام ولكن ... صنعه كان أعظم الأسرار خليل مطران يقول الغد في نفسه: لو علم هذا الجامع أنه يجمع للوارث، وهذا الباني إنه يبني للخراب، وهذا الوالد إنه يلد للموت لما جمع الجامع ولا بنى الباني ولا ولد الوالد المنفلوطي تحرك القطار صباحاً في محطة بيروت وهو يهدر ويشخر ويزمجر غضباً، وقد فاض بركان غيظه فأخذ يقذف دخاناً قاتماً أثقل الهواء حتى ترامت أطرافه على أطراف الأمواج فأزعجت زرقتها. وما برح صراخه الهائل كأنه زئير ألف أسد معاً يتردد في جوانب الفضاء البعيد، حتى

خيل إلي أن صدى تموجات هذا الزئير المرعب لمن لمس رؤوس أعمدة بعلبك متمتماً: ها أني سبقت زائريك العتيدين لأقول لك أني لو تجاسرت لاحتقرتك أيتها الأعمدة، لكن سخطي عظيم عندي مرآي هؤلاء الناس الذين يستعملونني، أنا آية اختراعات السنين الحاضرة وأنفع آلة تجارية، للوصول إليك، أنت يا رمال الأيام ويتيمة الليالي الغوالي! بيد أن القطار ما لبث أن أسرع في سيره متلوياً بين الشجيرات الخضراء، وهدأ سخطه تحت قبلات النسيم الآتي من أعالي الجبال، فتدرج صاعداً على أكتاف لبنان، وظل يترك محطة ويمر بأخرى حتى وقف في محطة صوفر، وهي أعلى نقطة فوق وادي حمانا الذي قال فيع لامرتين أنه أجمل أودية العالم القديم، فرأيت التلال فيه تتطوى، كأنها لأقمشة حريرية، لمداعبة أطراف الجبال المجاورة، فتنبسط هذه تحتها سطوح مستديرة الشكل تكسوها أشجار الصنوبر وتتخللها القرى البيضاء المساكن، والقرميد الأحمر يكلل كل بيت من بيوتها كأنه هالة قرمزية. وهناك على الشاطئ ترى آكاماً صغيرة رابضة كأسود تحرس الأمواج، والبحر الفسيح يبسط أمامها رزقه مرتفعاً في أطراف الأفق حيث يمتزج أثيره بأثير الجو متلاثمين وراء آفاق بيروت القائمة في المياه العثمانية مليكة عليها، كأنها قيثارة الجمال تضرب الأمواج على أوتارها أعاني الأرواح، وأناشيد البحار، وتهاليل العناصر وتعاظيمها. ثم أخذ القطار في النزول حتى بلغ سهول بعلبك الغائبة حدودها وراء آفاق بعيدة لا يدركها النظر. سهول هي أشبه بوادٍ متسع ينحصر

بين سلسلتي لبنان وأنتي لبنان القائمتين على جانبيها، كأنها أسوار الدهر تحدق بمروج الحياة. وبعد أن تواصل السير في السهول نحو ثلاث ساعات، تراءى لنا عن بعد، في عصر النهار، شبح (مدينة باعال) محاطاً بنطاق لطيف من الأشجار المغذية والحور الرجراج. وفوق المدينة وجنائنها ترى أعمدة هيكل الشمس ترتفع بقدها الأهيف العظيم. أجل! إن هيكل الشمس هذا الذي كان أعجب عجائب الدنيا ببنائه ولا يزال اليوم أعجبها بأخربته، لا يبقى منه سوى ستة أعمدة قائمة في المروج البعيدة، وكأني بطيفها ينادي المسافر قائلاً: تعال وانظر إلي، يا أيها المار، فهل من حزن أشد من حزني؟ أثر عظيم من عظمة باهرة تظهر حوله اكبر الأشجار أعشاباً، بل شبح الأعصر الغابرة يحاول تخليد ذكر الأصنام المعبودة. . . وثلوج لبنان تطل من أعالي فم الميزاب وظهر القضيب مستفهمة عن سر هدم الهياكل. منذ ألوف من الأعوام ترسو هذه الثلوج في مكانها. فالشمس تشرق وتغيب، والصيف يأتي والشتاء يذهب، وينقضي الخريف ويحل الربيع وقلعة بعلبك تظل شاخصة في عظمتها المحطمة، وثلوج لبنان الطاهرة تحدق بها وتود أن تفهم أي خطب جرى، لكنها لا تفهم!. . . * * * تجسم حزني وجثا على أعتاب القلعة باكياً. ولست أدري أتراه

بكى هناك لوعة على أعجوبة الدهور البالية، أو هو منظر الدرجات التي وضعتها يد الألماني هنالك حديثاً غشى بصره وأسال دموعه. عند مدخل هذا الهيكل الذي لم يكتشف علماء الآثار له من مثيل، هذا الهيكل الذي ألقت أساساته المخيفة في طبقات الأرض شعوب شرقية تلاشت وتركت لنا في ذكرها شيئاً من روحها الكبيرة ومطالبها السامية، أتى الأجنبي ووضع درجات أجنبية موصلة إلى معابد آلهة الشرق القديم. عند هذا المشهد شعرت بغصة أضاقت صدري كأن هذه الحجارة بجملتها ثقلت على فؤادي، لأنها دليل تداخل الغربي في قديمنا وجديدنا، وعنوان طمعه في الاستيلاء على بلادنا وجبالها وآثارها. وكان الأولى بالألماني أن يتركنا نبكي بسلام تراب هياكلنا الغالي دون أن تأتي يده الضخمة عاملة في ترميم مداخل المعابد، مدنسة ما قدسته دهور البلايا وعززته بلايا الدهور! دخلت أمشي الهوينا بين كوم الأبنية وبقايا الخرب وحولي الأعمدة المطروحة على الحضيض، كأنها جبابرة وعمالقة، يلامس بعضها بعضاً، ورؤوس الأسود المهشمة تتعانق عناقاً أبدياً. وآثار شعب سابق تختلط بآثار شعب لاحق. وتراب يتراكم فوق الأفاريز المرضضة والنقوش المحفرة. مشيت في عالم من العجائب الفنية وأنا لا أدري كيف قدر الإنسان على إيجاد هذه الجمالات، وأتعجب كيف سطا الزمان عليها فهدمها وجعلها أشبه شيء بغابة هاجمتها العواصف فكسرت منها الأشجار واقتلعت منها الأصول وغادرتها تاركة بعض أغصانها ملقاة على حضيض الهوان.

أين من هذه العظمة قصور عصرنا! فإنها تخال ألغاباً صبيانية شيدت في أوقات فراغ ولهو، فيها الحصا تقوم مقام الحجارة، والأشبار فيها توازي الأميال. لقد تألبت أعظم شعوب الأرض على هذا الحصن الحصين مهاجمة جدران مجده. فالعرب والرومان ثم العرب ثانية قد خربوا بعض هياكله الفسيحة، وشيد المسيحيون كنيسة على قوائم معابد الأصنام، ثم أصبحت الكنيسة والمعابد حصناً حتى أتت الزلازل مدهورة جدرانه، محطمة عظمته بعد أن هشمتها وأهانتها في وقوفها وارتفاعها يد الإنسان! لكن آثار المجد لا تزال كامنة في أخربة بعلبك. والروح العصرية تقف مترددة بين السخرية والاحترام عندما ترى أن هذه الهياكل شيدت من أجل آلهة خيالية تضحكنا الآن أسماؤها. وتهبط على القلب تأثيرها متعددة متضادة من خوف وإعجاب وحزن وشفقة وغضب لكن هذه تتلاشى بكليتها وتقوم مقامها عاطفة واحدة تستغرق سائر العواطف، وتضم في قوتها قوى النفس جمعاء، وهي الشعور بعمق السر العظيم، سر الأكوان غير المتناهي. وهناك على ارتفاع هيكل الشمس تقف ستة أعمدة حاملة إفريزاً كأنه تاج مكسر، ورؤوسها تنحني على وهدة الذل المطروح في أعماق عزها المفتت، وانحناء هذه الأعمدة هو بكاء وتأبين، بل هو التأبين الوحيد الذي يليق بقلعة بعلبك. على أن ثلوج لبنان تنظر من أعاليها إلى حزن الجماد الدهري وتود

أن تفهم، لكنها لا تفهم. . . * * * ألا كسروا باليأس الأقلام وأزيلوا المداد عن الطروس، والجموا الشفاه المتمتمة، وشدوا وثاق الأيدي المتحركة للدلالة والكتابة! عند هذا الخراب الهائل والتهدم الموجع تفوح رائحة الأكفان، وتتطاير عطور القبور، ويعبق فضاء المخيلة من غيوم البخور المحرق على هذه التي دكتها الدهور! كسروا الأقلام ومزوقوا الطروس! إن هذا الموقف لا يجوز فيه التأبين إلا بحزن الجماد ولوعة النفوس. أتأبين الأرواح لازلت للأفئدة مفطراً، ما دامت عبر الزمان تطرح بالجبابرة على حضيض الهوان! أدموع القلوب لازلت محرقة كشعلات النيران مادامت تبتر سلسلة الحياة، وتعتل حركة القلوب! أآثار الحياة لازلت غالية كزهور الآمال وسواد العيون، مادامت الآمال تذوي بالمتأمل، ومادام سواد الموت يبيض سواد العيون!. أأعمدة بعلبك لازلت محطمة، صامتة، محزنة مادامت بقايا المنى راقدة في زوايا المهج، وخيالات الآلام والأوجاع هاجعة في طيات الصدور! إذا كان الدهر يهزأ بهذه الجدران الدهرية، فماذا أنتم من الدهر منتظرون؟ إذا كانت خيالات أقدام الزمان تمر على هذه القوات المشيدة والعظائم المؤيدة فتسحقها سحق الصخر للتراب فماذا تعني بعد ذاك حركة قصبتكم المضحكة، ونقش أوراقكم البالية؟ أين من الأمكنة موضعها،

رسائل غرام

وإلى أين في الفضاء مصيرها؟ ضموا إلى شفاهكم الأقلام وإلى قلوبكم الطروس! دعوها تنطق يأساً باسم قلعة بعلبك، ثم حطموها وإن كانت غالية، ومزقوها وإن كانت شطراً من الأرواح! الزمان يتابع سيره ويل التربة تدوسها قدمه! هناك تتراكم الزلازل وتفيض البحار، هناك يشعر الإنسان بأنه عبد لحظات الأقدار، وأن عينيه لا ترفان من الكون غير سواد الليل واسوداد النهار. . . مي رسائل غرام بين نساء شهيرات ورجال عظام الرسالة الخامسة من دورثي أوسبرن إلى السر وليم تمبل (السر وليم تمبل من أشهر رجال السياسة الإنجليز نبغ في أواخر القرن السابع عشر وتقلب في عدة مناصب سامية. وكان في صباه قد علق بحب فتاة تدعى دورثي أوسبرن وهي من أسرة شريفة. وبعد أن قاسى الحبيبان الشدائد من أهلها تزوجا واعتزل السر وليم إلى موضع يعرف بحدائق شين ومور بضواحي لندن حيث قضى بقية حياته مع زوجته. وقد طبعت رسائلهما منذ ثماني سنوات في إنكلترا فكان لها وقع عظيم. والرسالة الآتية مأخوذة منها). في رسالتك الأخيرة عبارة أضحكتني وأدهشتني معاً. قلت إنك لم تكتب إلي في الأسبوع الفائت لأنه لم يكن لديك أخبار تستحق الاهتمام.

فهل فاتك أن الخبر الوحيد الذي يهمني هو أن تقول لي أنك لا تزال تحبني؟ أليس مثل هذا القول أطرب الأقوال إليك وأوقعها في مسامعك؟ وما الذي يهمنا من سقوط العروش واندثار الممالك ما دمنا ثملين بخمرة الحب متمتعين بأحلام الغرام؟ تسألني هل أحب السكنى في الشرق. وقد قلت لك مراراً أن العالم كله أضيق من أن يسعني إذا لم يكن لي موضع في قلبك. فطالما أنا مقيمة فيه فلا يهمني أين أسند رأسي، سواءٌ في صحارى أفريقيا أو مجاهل سيبيريا أو أحراج الهند. وما دمنا معاً فالعالم كله فردوس زاهر وأيام الحياة كلها ربيع مستمر. لعلك نسيت وقفتنا الأخيرة في مثل هذا اليوم من السنة الماضية وكنت قد علمت يومئذ بان أهلك يمانعون في قراننا فقلت لك أن حبنا إما أن يكون عقاباً على سيئة اقترفناها أو جزاءً لحسنة أتيناها. أما سيئاتي فكثيرة وأما الحسنات فلا أعرف لنفسي واحدة منها. تلومني لأنني لا أنفك ملازمة لغرفتي. أو ليست سعادتي العظمى أن أعتزل عن الجميع وأخلو بنفسي لكي أتمتع بمناجاتك ولو عن بعد وأعلل نفسي بأحلام الغرام. وإذا كانت هذه سعادتي فلماذا تحاول أن تنزعها مني وتطلب إلي أن أفعل ما يشغلني عن مناجاتك أيها الحبيب؟ إنني أتمنى أن أراك سعيداً يا وليم سواء قدر لي أن أكون زوجتك أو لم يقدر. لأن سعادتي مستمدة منك كما يستمد القمر نوره من نور الشمس. فإذا كنت أنت سعيداً كنت أنا أيضاً سعيدة. لذلك أنا

أحبك أيها الملاك الحارس. أحبك أيها المعبود الكريم. بل إن حبي لك هو العبادة بعينها لأنني لا أشعر بفرح إلا وأنت ينبوعه ولا أعرف سعادة إلا وأنت مصدرها. وكلما تمثلت نفسي منحنية على صدرك أنتفض كأن مجرى كهربائياً يتخلل أحشائي فتسرع نبضات قلبي وأكاد أركع أمام خيالك كما يركع العابد أمام معبوده. ولا أخال السماء حسبها لي ذلة أن أركع أمام أحد ملائكتها. وما كان الله ليخلقك كاملاً لولا أنه غفور يتجاوز عن فتاة مثلي تنساه قليلاً لكي تعبدك. لست أخشى العثرات التي في سبيلنا يا وليم مادام قلبك مخلصاً لي ولا أعلم قوة بشرية تستطيع التفريق بيننا إذا كنا مخلصين في الحب. أما أنا فإنني أشعر بعزم يثبت أمام الأنواء، ولا تؤثر فيه العواصف وكلما نظرت إلى صورتك أشعر بقوة كالقوة التي يستمدها البوذي من صمنه المقدس. هو ذا الأيام طويلة مملة. وكلما غابت الشمس أتنفس الصعداء وأقول ها قد انطوت صفحة أخرى من سفر هذا الفراق فلننتظر ما يأتي به الغد. ولكن الغد ممل طويل كاليوم والحياة كلها فراغ لا يملأه إلا انت. وجمال الطبيعة إنما يزيد في ثورة عواطفي لأنني أشتاق أن أراك يا وليم. أشتاق أن أراك لنتمتع كلانا بربيع الحياة. أشتاق أن أراك لأرى ماذا فعل الزمان بفؤادي الذي ائتمنتك عليه. فإن كان الله قد قدر لنا العذاب في الحب فما أعذبه في النفس وما أحلاه في الفؤاد - الفؤاد الرازح تحت ثقل الهموم.

يقولون إن الزمان هو الطبيب الشافي من داء الحب. ولقد مر على حبنا ثلاثة أعوام نما في خلالها وتأصل. وأهلك يزعمون أن طول الفراق ينسيك غرامك القديم. ولقد فاتهم أن من الحب ما يزيده الفراق قوة، وأن الزمان أن ألقى بيننا حجاباً فإلى أجل محدود لا يتجاوز القبر. وأما بعد القبر. رحم الله أيامنا في رشموند كم دفنا فيها أماني غرام! إذا أفسح الله في أجلي فسأحج إلى تلك الصفصافة التي كنا نجلس تحتها عند الإمساء. ترى إلى أين تمتد بنا فسحة الفراق؟ أإلى القبر؟ لا بأس - بشرط أن تفتح الأبدية أحضانها وتضمنا معاً. هناك حيث ينقطع كل صوت وتبطل كل حركة. هناك حيث لا تسمع إلا حفيف الأجنحة وهمس الملائكة هناك حيث لا سعادة إلا سعادة الحب ولا نشيد إلا نشيد الحب ولا خلود إلا لمن يعرف الحب. هب أنهم منعوني عن أن أكون زوجة لك في هذه الحياة. فهل ينالنا أذاهم وراء القبر وهل تنتقل المظالم التي تجري تحت الشمس إلى ظلمة الأبدية فتزيد في كثافتها وتقضي على آمالنا؟ كلا يا وليم إن الآلهة أرحم من أن تقسى إلى هذا الحد. فإذا أخفقت آمالنا في هذه الحياة فأمامنا مجال الأبدية اللانهائية لها حيث نخلع أثوابنا الفانية ونحلق في فضائها الرحيب فنشاهد من علونا الشاهق ما يجري على هذه الأرض من الشرور الفظيعة. وأي شر أفظع من أن يقف الإنسان بين نفسين متحابين ليس لهما ذنب سوى أن الله أوجد في قلبيهما ميلاً متبادلاً وهو

غرائب امريكا

ما يسمونه الحب. أود كثيراً أن أطيل رسائلي إليك. لو استطعت لجعلت اليوم خمساً وعشرين ساعة وأنفقته في مناجاتك عن بعد. كما أنا أغار من رسائلي لأنها تستطيع الوصول إليك وأما أنا فكالطير المقصوص الجناح. حبيبتك حتى الموت دورثي بقلم سليم عبد الأحد غرائب امريكا أمدنية أم ماذا؟ لقينا في هذه الأيام أديباً من أدباء الشرق أقام سنوات طويلة في البلاد الأمريكية يخدم فيها الصحافة العربية، فرغبنا إليه في أن يحدث قراء الزهور عن مدنية العالم الجديد فكتب إلينا الفصل التالي ولعله يتابع هذا البحث في أعداد قادمة: تشرف على بلد عظيم فلا تقع عيناك إلا على قصور شائقة وصروح فخمة ورؤوس أشجار في غابات ورياض فتخاله، وأنت بعيد عنه، الفردوس المفقود. فإذا نزلته وأمعنت في أنحائه مطوفاً في زواياه تجلت لك الحقيقة وعرفت أن ما يتراءى لك عن بعد لأشبه شيء بالملابس الجديدة تستر داميات القروح. كذلك أمريكا، والولايات المتحدة أعظمها شأناً وأعرقها مدنية وفي ما أسطره الآن عن تلك الجنة الموهومة تقرير عن حالتيها المدنية

والاجتماعية، أدفعه إلى قراء هذه المجلة بسيط العبارة خالياً من كل ما ينمق به الكتاب مقالاتهم من زخرفة في الكلام وإبداع في الأفكار ملتزماً فيه شروط التقرير فلا ينتظرن القارئ مني سوى ذلك في مثل هذا البيان. قد يكون غيري سبقني إلى طرق هذا الباب إلا أنني على يقين أنه اقتصر في البحث على أحسن الوجهين لأحد أمرين: إما ليقال انه عاشر علية القوم ووقف على مدينتهم ورقيهم، فيلصق بذهن القارئ أن الكاتب أصبح أرقى منه قبلاً وربما كان أرقى من القارئ أيضاً وهذا أجل عنه الأديب؛ وأما ليك يوقف قومه على مبلغ الفرق بينهم وبين من هم أرسخ منهم قدماً في المدنية مؤملاً أن وراء ما يسطره لهم مدرجة إلى إصلاح الحال. وهذا ما ينزع إليه بعض الكتاب. أما كاتب هذه السطور فلم ير لسوء حظه ما يدعى مدنية حقيقية في تلك الأصقاع القصية وكل ما رآه طلاء خارجي ناصع ينطوي تحته ما ينطوي تحت طلاء القبور. * * * إذا كان المقصود من المدنية وفرة المتمثلات والملاهي وكثرة المراقص والملاعب وتسهيل أسباب المعيشة وتكثير موارد الارتزاق لمريدي العمل ونهضة في العقول والهمم وغزارة في العلم، كانت الولايات المتحدة أعظم الأمم شأناً وأعلاها منزلة في معارج المدنية. أما وقد شاء واضعو مفردات اللغات أن يكون بين ما يضعونه كلمات مثل الخلاعة واللهو والقصف

والزهو والمفسدة ثم التجارة والصناعة والزراعة والمعارف والفنون وما شاكلها، كان لكلمة المدنية أو التمدن معنى محصور لا يتجاوز مفهومه دائرة الأخلاق وآداب الاجتماع، وكانت الولايات المتحدة بهذا المعنى أحط من أكثر بلدان العالم ومساوية للبعض الآخر الأقل. وإذا شاء أحد أن يرد قائلاً إن المتمثلات وما يجانسها لمن مظاهر المدنية وأدلة الرقي قلنا نعم ولكن إذا روعيت فيها شروط وضعها لا حسب مصيرها. أما وهي في هذه الحالة فهي هاوية تسترها أزهار وتغشاها رياحين. ما أنا معترض على المتمثلات بعينها وأخص منها الشرقية التي لا تزال الحشمة تلازمها فلا تضيع الفائدة المقصودة من التمثيل، وإنما أشجب تلك المتمثلات الأمريكية وما تدرجت إليه مما يستظهر به الضعف الإنساني على إرادة صاحبه. وكلكم يعلم أن إرادة المرء موكولة إلى ما يحيط بها من العوامل الخارجية فهي كقطعة من الحديد تدور بها قطع من المغناطيس فتنجذب إلى أقواها فعلاً عليهاً. ومن الغريب المدهش أن كل ما يجري فيها متسامح به ولو بدت منه أقل حركة وأنزه إشارة في المجتمع لاستوجب فاعلها الرجم. وهذا أشبه شيء ببعض الحكومات التي تمنع الميسر في بلادها من وجه وتجيزه وتحلله من وجوه، كأن المقام والاسم إذا اختلفا تختلف بهما الحقيقة والجوهر. من مذلات الفتاة الأمريكية بين بنات جنسها، ومن دواعي حزنها العميق أن لا تكون حبيبة إلى كل القلوب. تبيح لها الحقوق الشرعية

والشرائع البيتية أن تستهوي كل من راق منظره في عينها وكثيراً ما تجتمع لديها عشرات القلوب فتتناوب الاجتماع مع أصحابها تؤنس منهم قوماً وتوحش آخرين وهي مادامت عزبة غير مسؤولة عما تفعله. وقلما تلقى فتاة لم تتجاوز المدى في الهوى وما ذلك عندهم بالأمر المكروه بل إن التي لا تتبع هذا الصراط السوي كانت من الضالات المغضوب عليهن اللواتي لا نصيب لهن من الحياة على أحدث الأزياء. وتظل ملكة القلوب على هذا النمط إلى أن تتزوج بمن يحلو لها من عشاقها الكثيرين وللاستحلاء أمور جمة لا أظنها تخفى على قارئ. وإذا تزوجت هذه الفتاة تابت إلى ربها، مبقية لنفسها حقوق الأمانة وعدمها وفقاً لمراعاة زوجها هذه الحقوق فإذا خان خانت. وتلك حقوقها كما هي حقوقه أيضاً. ويقيم أحدهما رقيباً على الآخر فإما أن يزل أحدهما وهذا لا يحصى. وقلما يمر نهار واحد في نيويورك مثلاً ولا يسمع فيه أهلوها بعشر حوادث طلاق على الأقل وتلك جرائدها تنبئك اليقين. قد تشعر إحدى العائلتين بما يختلج في صدر ابنها أو ابنتها فتحاول الحؤول دون الزواج، ولكنه حؤول لا يثمر غير هرب الحبيبين فلا تمر عليهما ساعات إلا وقد نزلا بلداً آخر يجريان فيه عقد الزواج المدني والكنسي وما شرطه إلا رضى متبادل بينهما من غير ما نظر إلى رضى أهليهما. ولا يخالن القارئ إن العائلات والأسر الوجيهة الشريفة والموسرة أرفع من أن يحدث فيها مثل هذه الأمور وإنما هي أقرب لتغذية هذه

الجرثومة مما دونها بل ربما هربت الفتاة الغنية صاحبة الملايين مع الحوذي أو الطاهي أو من كان في منزلتهما، وذلك كثير الحدوث. * * * ومن غرائب تلك البلاد اختطاف الأحداث فإنه لا يمر أسبوع إلا وتفقد إحدى العائلات طفلها أسابيع وشهوراً، وربما عاماً أو عامين غير عارفة له مقراً ولا سامعة عنه خبراً إلا من مختطفيه المجهولي الإقامة والأسماء في رسائل الوعيد والتهديد بإعدام الطفل إذا لم يؤدوا الفدية ومقدارها كذا ألوف ترسل بالطريقة الفلانية إلى المحل الفلاني. تأخذ الرعدة من قلوب الأهلين فيتذرعون بكل وسيلة ويلتجئون إلى الحكومة لمعرفة مقر الطفل متنازلين عن مطالبة المختطف، قانعين برد الطفل المفقود. ولكن أين يد الحكومة لتصل إلى ما يراد؟ وأين قوتها لتقتص من الأثيم وهو كل يوم في وادٍ؟ وأين سلطانها لتهتدي إلى مقر الطفل، والطفل كل يوم في أيدٍ جديدة يتنقل من بيت إلى آخر ومن بلاد إلى بلاد. إلا أنه مما يشكر المختطفون لأجله هو كثرة اعتنائهم بهؤلاء الأحداث فيوفرون لهم أسباب الراحة والعيشة الرضية والانشراح فلا يبخلون عليهم بشيء. وبينهم عدد كبير من النساء المنخرطات في سلكهم لاصطياد الأطفال تارة وللاعتناء بهم طوراً. وأخيراً يوم لا يتوفق الأهل إلى إيجاد طفلهم لا يرون وسيلة أصوب من التسليم بمطالب المختطفين فيدفعون الجزية صاغرين. ومن غرائب

أمور هذه الفئة أن الفدية تدفع ودافعوها لا يعرفون مستلميها ولا مرقهم ولا يرون لهم وجهاً. وكثيراً ما ضجت الجرائد لاستئصال هذه الآفة إلا أنها كالنافخ في البوق بين الأموات. . . هذا قليل من كثير مما يجري في بلاد تكاد البلاد الأخرى تتخذها منزل آلهة التمدن الحديث. وإذا قيل أين حكومتها وأين بوليسها وأين ما يقال عن عدلها وقسطها؟ قلت حكومتها موجودة، وبوليسها موجود، ولكنها الوحيدة بين الحكومات في العالم التي اتخذت مبدأها الوحيد توفير ثروة البلاد وجعل شعبها وأممها وبلاد أغنى شعوب أمم وبلاد العالم على الإطلاق، وإلى غير هذه الوجهة لا تنظر، منصرفة أكثر الانصراف عن بقية الوجوه الأخرى. وإذا كان جمع المال غاية المرء عميت عيناه وبصيرته عن سائر الغايات. وعندهم أيضاً ما يعرف بتجارة الرقيق الأبيض وهي تجارة ذات شركات في كثير من البلاد الأمريكية تستجلب من البلاد الأوروبية كل رشيقة القد أسيلة الخد تبيعها من تجار الحسن وتبالغ في طلب الثمن المختلف لا باختلاف درجات الجمال فقط بل باختلاف الجنسية فلكل جنس عندهم ثمن معروف. والإفرنسية أغلى الفتيات ثمناً وأرفعهن مقاماً وأكثرهن رواجاً. وقد اهتمت الحكومة الأمريكية في العامين الماضيين اهتماماً مشكوراً لاصطلام هذه الآفة إلا أنها لم تؤت نجاحاً يذكر. ولا يزال مؤلفو هذه الشركات يتابعون هذه التجارة الرابحة والمدنية الحقيقة تنظر كل ذلك وتلطم خديها بيديها. - العامري

في رياض الشعر

في رياض الشعر دعاء الحبيب ناظم هذه الأبيات عبد الحميد بك الرافعي الفاروقي شاعر من شعراء العصر المعدودين وقد توقفنا إلى الحصول على شيء من شعره سننشره للقراء تباعاً: سلوها لماذا غير السقم حالها ... ترى شغفت حباً وإلا فما لها تبدل ذاك الورد بالورس وانطفى ... سناها ورقت فهي تحكي خيالها أظن هوى الغزلان قد هد حيلها ... فإني رأيت الريم يوماً حيالها تناجيه سراً وهي في زي واله ... فخلت أخاها كان أو كان خالها فيا حب غلغل في صميم فؤادها ... ويا رب لا تعطف عليها غزالها ولكن أرحها بعض حين فإنني ... شمت بها والقلب يأبى زوالها ومن حب لم يبغض ولو حب هاجراً ... فقد رق قلبي مذ رأيت هزالها عسى أنها من بعد أن ذاقت الهوى ... تنوح على من كان يهوى جمالها وتذكر إذ كانت وللحسن عزة ... ترى مهج العشاق صرعى قبالها فتبكي زماناً فيه أبكت بصدها ... عيوناً تولاها الأسى فأسالها ولعت بها حيناً من الدهر لم أفز ... بساعة لطف كنت أرجو نوالها ولو عطفت يوماً علي بزورة ... لقبلت حتى بالعيون نعالها وكم غربة قاسيت من أجل حبها ... أجوب الفيافي سهلها وجبالها ولولا الهوى ما هام في الكون واحد ... ولا فارقت أسد العرين دحالها وقلت لقلبي وهو يذكر عهدها ... رويدك هذي بغية لن تنالها تركت هواها واشتغلت بغيرها ... ومن قطعت حبلي قطعت حبالها

تعوضت عنها حب ظبي مهفهف ... له قامة تهوى الغصون اعتدالها إذا أبصرت عين الغزالة حسنه ... نغطت بيمناها وعضت شمالها أنست به حيناً إلى أن سلوتها ... فكان هدى نفسي وكانت ضلالها الابتسام عاشقان التقيا فابتسما ... وأذاعا للورى ما انكتما فتلا الناس على وجهيهما ... ما احتوى القلبان من سرهما ظهرت أسطره واضحة ... حين لم يسمك بنان قلما وأتى الشاعر والشاعر لو ... راقه منظر شيء نظما وابتسام الحب حلو فانثنى ... واصفاً إياه وصفاً محكما * * * هو في القلب سرور عكست ... فوقه العين شعاعاً فنما وعليها وعلى الثغر بدا ... معرباً من شغف ما أعجما بل هو المرآة تبدو للفتى ... في محيا من كسته السقما فإذا ما وجهه قابلها ... عاد منها بضياء مفعما هو نور ساطع لكنه ... بين قلبي عاشقين انقسما فإذا ما العين بالعين التقت ... حاول الجزآن أن يلتئما وإذا الوجهان ضاءا فرحاً ... تم للجزئين أن ينتظما هو في قلب المعنى ماسة ... رخص الدر لديها قيما ولها أسنى شعاع كلما ... جذبته نظرة زان الفما ينجلي مزدهراً حتى إذا ... غضت الأبصار عنه أظلما كشعاع البدر إن حدقت ال ... عين بالجفون التحما

وإذا العين انقضى تحديقها ... أبصرت ذاك الشعاع انفصما هو برق لامع إن ملأت ... كهرباء الحب قلباً يتما زهرة تبدو على الثغر ولم ... تك ضمن القلب إلا برعما هو قلب المغرم الصب على ... شفتيه بالهوى قد رسما وضمير الغادة الحسناء في ... وجهها ساعة تلقى المغرما بل هو الحب الذي قد ضمه ... كل قلب بالغرام اضطرما فتراه العين في العين إذا ... عاشقان التقيا فابتسما أمين ناصر الدين راحة القبر إن سئمت الحياة فارجع إلى الأر ... ض تنم آمناً من الأوصاب تلك أم أحنى عليك من الأ ... م التي خلفتك للأتعاب لا تخف فالممات ليس بماحٍ ... منك إلا ما تشتكي من عذاب كل ميت باقٍ وإن خالف ال ... عنوان ما نص في غضون الكتاب وحياة المرء اضطراب فإن ما ... ت فقد عاد سالماً للتراب إسماعيل صبري الساعة الدقاقة ومحصيةٍ أعمارنا كلما انقضت ... لنا ساعة دقت لها جرس الحزن فيا بنت هذا الدهر سرت مسيره ... فهل أنت دون الناس منه على أمنِ؟ إبراهيم يازجي القلوب اليائسة سلا قلبي وقد تسلو ... قلوب ملؤها ياس

فلا خدٌّ ولا قدٌّ ... ولا وردٌ ولا آسُ تظن هواك يخدعني ... وبعض الظن وسواس وأبكي فيك آمالي ... فيبكي الطاس والكاس ولي الدين يكن رائعة المشيب ورائعةٍ لما ألمت بمفرقي ... تلقيتها خوف الفضيحة بالقطف فقالت على ضعفي قويت وإنني ... طليعة جيشٍ سوف يأتيك من خلفي حافظ عبد المالك البلبل المغرد تذكار ليلة صدّاح يا مؤنس هذا الأراك * مالي أراك * تشدو فسبحان الذي قد براك * * * تستقبل الفجر بصوتٍ رخيم ... يحيي الرميم وتلثم الزهر بثغر بسيم ... لثم النسيم وتنشد الغصن الرشيق القويم ... فيستهيم أما ومن جوهر بالسحر فاك * حين اصطفاك * لم يسف هذا الروض لولا صفاك * * * صفق كما شئت بهذا الجناح ... فلا جناح وشم خد الزهرات الصباح ... فهو مباح وحيّ بالإنشاد ثغر الأقاح ... خدن الصباح فالروض لم يختر مليكاً سواك * فانشر لواك * فكلنا مجاهد في هواك * * *

رصاص دم دم

مر هذه الأطيار أن تنشدا ... فتنشدا مر هذه الأقمار أن تسجدا ... فتسجدا مر هذه الأعمار أن تخلدا ... فتخلدا وبعد فافعل ما تشاء في فتاك * فشفتاك * حسبي فماذا تبتغي مقلتاك * * * ما أجمل الوردة بين الكمام ... ذات ابتسام كأن على مبسمها العذب حام ... رمز الغرام يا مبسماً يفتن لب الأنام ... بلا كلام أنجمة لامعةٌ أم سناك * أرى هناك * طوبى لثغرٍ طاهرٍ قد جناك * * * روح فتى الشعر الأديب الأريب ... هذا النسيب أودعته بعض مزايا الحبيب ... لكي بطيب عساه من ذات العفاف العجيب ... له نصيب صدّاح أن تقبله فانشد أخاك * نلت مناك * روحي فداها وحياتي فداك بشارة الخوري صاحب جريدة البرق رصاص دم دم هو هذا الرصاص العريض ذو الحدين يغرز في الجسم فيلتوي فيشبه ذنب العقرب المعكوف، أو يلتف التفاف علامة الاستفهام في لغات الإفرنج، التواء يشرط ما حوليه حتى لا ينفع معه مشرط الطبيب، والتفاف يمزق ما على جانبيه حتى لا تفيد فيه إبرة الجراح. يصيب فيجرح، ويجرح

فيدمي، ويدمي فيقتل. فالموت لا محالة عقبى المصاب به ولكنه موت بأشد ألم، وأفظع عذاب سمي دمُ دُم فكان الاسم دليلاً على مسماه. أو ليس في اشتباك هاتين اللفظتين معنى من الهول والرعب؟ دم دم اسم لبلد في الهند على بضعة أميال من كلكوتا. قاتل أهله الإنجليز في حروب هؤلاء مع الهنود فقاتلهم الإنكليز بهذا النوع من الرصاص. الإنكليز كانوا أول من استعمله وأهالي دم دم أول من اعترض عليه. حتى إذا بلغت شكوى الدم دميين إلى مسامع الأوروبيين، وعرف أبناء المدنية الحديثة ما يأتيه فريق من إخوانهم من ضروب القساوة في الحرب، عنيت ما كان يفعله الإنجليز في قتال الهنود، قام رسل الإنسانية بينهم فأيدوا شكوى أهالي الهند. وخافت الدول أن يعم استعمال هذا الرصاص في الحرب - وهي لا تأمن شرها في أوروبا - فاتفقت على منعه إشفاقاً على أبنائها. غير أن هذا المنع إنما تناول الحروب التي قد تنتشب بين أبناء المدنية، ولم يشمل الحروب التي قد يشبها هؤلاء على الأقوام الذين أخرجهم حكم تلك المدنية من عداد بني الإنسان. كأن الأوروبي ذو لحم ودم وروح وكأن زنجي أفريقيا أو هندي جزر أوقيانيا وحش ضار تستحل حياته كما يستحل قتل الأفاعي والنمرة والذئاب. ذلك هو بعض رفق الإنسان بالإنسان وعطف البشر على البشر. ولما كثر ترديد الألسنة للفظة دم دم في خلال المفاوضات التي دارت بشأن ذلك الرصاص، ولاكتها ألسنة القوم في ذلك العهد فكان يقال مثلاً: الرصاص الذي أطلقه الإنكليز في دم دم

أو رصاص دُم دُم على سبيل التخفيف، عم هذا التكريب كما عم قولهم بنادق مارتين وبنادق موزر حتى أصبحت الإضافة علماً مركباً. ثم حذف المضاف لدلالة المضاف إليه عليه فقيل دم دم والمقصود به الرصاص الذي كان يطلقه الإنكليز في دم دم في الهند كما قيل مارتين وموزر في تعريف البنادق التي هي من طراز مارتين وموزر مخترعي هذين النوعين من السلاح. هذا هو رصاص دم دم. وكذلك كان أصل التسمية فيه. فإذا كان الإيطاليون يستعملونه اليوم في طرابلس الغرب كما يقول ويؤكد الطرابلسيون، أو كان الطرابلسيون يطلقون منه على الإيطاليين كما يزعم ويدعي هؤلاء، فالدول التي حظرت استعماله واجب عليها التداخل اليوم لتأييد ذلك الحظر، وإلا جاز لأية دولة أن تستعمله في حربها مع أية دولة أخرى ولم يجز لهذه الشكوى والاعتراض. * * * عجبت لهذا العالم المتمدن! يقول بالحرب ويجيزها. وبعد لها عدتها من رجال ومال وسلاح، ثم يعود فيرى رصاص دم دم مثلاً فيروعه خطره وتهوله فظاعته، فيمنعه بدعوى الشفقة على الإنسانية، والرفق بها. لماذا تراه لا يشفق عليها من الحروب على إطلاقها؟ أرصاص دم دم يقتل قتلا، ومدافع مكسيم تدغدغ دغدغة؟ أرصاص دم دم يصيب فيميت، ومقذوفات كروب، وسنت اتيان، وسميث، ومارتين، وموزر، وشاسبو، وغرا وهلم جراتخمش تخميشاً؟؟

الحرب مناجزة عدو لعدو. فما بالك تدفعني إليها بطعمك وعنفوانك، ثم تحظر علي قتلك وإراقة دمك؟ إذا خفت الموت فلا تطلبه تحت ظلال الأسنة، وخفق البيارق، ودخان البارود. وإن لم تخفه فمت بالرصاص أو بالحديد أو بالنار. تعددت الأسباب والموت واحد! تناجزني في ساحة الوغى ثم تدعي الشفقة علي فتقول لي: أنا لا أقتلك برصاص دم دم، ولكن بشظية من شظايا مدافع مكسيم. ويل أمها شفقة! ولأغرب وأنكى أنك وأنت أنت هو نوبل صاحب معامل الديناميت والمقذوفات النارية الفتاكة، تضع جوائز للسلم تعرف باسمك ويكافأ بها كل عام أكثر الناس سعياً في سبيل نشر السلام العام. إما هذه وإما تلك. وهل من الممكن الجمع بين النار والماء؟ بالأمس تلاقى البوير والإنكليز في حرب سجال قتل فيها الابن الوحيد للورد روبرتس قائد الجيوش الإنكليزية يومئذ. فبعث القائدان البويريان بوثا ودويت برسالة إلى زميلهما البريطاني يعزيانه فيها عن مقتل وحيده. يا ويحها تعزية خففت حزن ذلك الأب الشفوق، وبردت في صدره جمرات الأسى!! مغالطات ومساخر حكمها حكم الجزار يذكر الله ويذبح!!! بمثل هذا يهزأ العالم بعضه ببعض، ويسخر الناس فريق من فريق. إنهم يهزأون ويسخرون ثم يسمون ذلك الهزؤ وتلك السخرية واجبات ومجاملات!!

محاكم الأحداث

الشرع الذي خولك الحق بمحاربتي وقتلي، خولني الحق الصراح بقتالك وإراقة دمك. والقانون الذي أباح لك أن تجتاح بلادي، أباح لي أن أدافع عن نفسي ووطني بكل أنواع الدفاع. الشر بالشر والبادئ أظلم. اقتلني إذا استطعت ولا تهزأ بي، كما أقتلك إذا قدرت ولا أسخر منك. سواءٌ علي وسواء عليك رصاص دم دم أو مدافع كروب ومكسيم!! ولكن حبذا قول ولي الدين يكن: لا أحب الوغى ولا أنا منه ... كل ما يقتل النفوس حرام محاكم الأحداث محاكم الأحداث التي نحن بصددها غايتها العظمى إصلاح الأحداث بأية طريقة كانت. فلا يوجد لديها نظامات مسنونة تجري عليها في معاملة هؤلاء الأحداث فهي تعامل كل ولد بحسب مقتضى حاله وظروفه. تبحث لتمنع وقوع الذنب أو الجرم قبل ارتكابه وغرضها الإصلاح والمساعدة. مساعدة الذين يريدون أن يساعدوا أنفسهم دون أن يتسنى لهم ذلك. فتسهل لهم السبل وتوردهم أقرب موارد الإصلاح وهم لو تركوا وشأنهم لأصبحوا أشقياء قتلة مجرمين فهي تشعر بعظم مسؤوليتها وتعلم أن الولد يشب على ما يربى عليه. فتبدأ من البدء وتزيل الموانع والعقبات القائمة في سبيل ترقيه. وترده عن الطريق التي قد تؤدي به إلى الهلاك والشقاء، فتغرس في نفسه حب الفضائل والصفات الشريفة في زمنٍ تتأثر عواطفه

فيه أشد التأثر للمؤثرات الخارجية والانفعالات الداخلية. تهتم بالأحداث والصغار على اختلاف طبقاتهم ونحلهم ومشاربهم وأعمارهم. فتدرس الواحد منهم درساً مدققاً إذ تبحث عن أحواله وطرق معيشته وعائلته (إن كان له عائلة) ومحيطه وكل ما يتعلق به. ولا تقضي أمراً قبل تأكدها من صحة ما رأته وسمعته عن ذاك الحدث. كل هذا قد يظهر للقارئ سهل المتناول. لكنه ليس كذلك حقيقة. فأسباب البلاء متعددة جداً لا تتوفر معرفتها حالاً في كل حين. وأهم جرائم الأحداث الكذب والغش والسرقة واللعن والحلف والكلام القبيح الفاسد وارتكاب المنكر وما أشبه. والأسباب الداعية لهذه المساوئ كثيرة متنوعة يصعب إحصاؤها وعدها. تنشأ من عدم وجود من فيهم الكفاءة لتربية الصغار تربية حسنة. وما جر عليهم هذه الويلات إلا جهل والديهم أو عدم اكتراثهم لأولادهم. أو أن الأحوال قضت بتفريق الأب والأم كالطلاق والسكر والجهل والسياسة الخرقاء (كما سنرى). كل هذه قد تتحد معاً أو بعضها معاً فيترك الأولاد وشأنهم لا وازع أو مرشد يهديهم الصراط المستقيم فيضلون ويهيمون ويصبحون ضربة على الإنسانية وعيالاً على المحسنين. ولنبحث الآن في الأسباب والعلل التي تؤدي بالأحداث إلى سوء العاقبة وشر المصير. وتوصلاً لهذه الغاية قد اعتمدت الإحصاءات المأخوذة عن مائة قضية من قضايا الأحداث ممن أحضروا أمام محكمة واحدة من محاكم الأحداث في ولاية شيكاغو من ولاية أمريكا المتحدة.

فكانت كما يأتي: 48 منهم أحد والديهم غائب أو متوفي 31 منهم أمهاتهم يشتغلن ليعلن اولادهن 3 منهم عدد عائلاتهم فوق العشرة أشخاص 36 منهم بحالة الفقر المدقع 33 منهم أحوال بيوتهم سيئة ورديئة 36 منهم محيطهم غير صالح لسكناهم 1 منهم لا بيت ولا مأوى له وهذه الأسباب المذكورة ينتج بعضها عن بعض. فيتسبب عن موت الأب فرضاً فقر مدقع تلتزم الأم معه أن تشتغل لتعول بنيها القاصرين فتهمل أمر أولادها وتربيهم فتسيء أحوالهم. يتجلى للناظر حالاً أن أكثر هذه السباب عدداً هو غياب أحد الوالدين أو موته. فالوالدان هما ركنا العائلة التي تقوم بهما. فإن فقد أحدهما أصبحت العائلة واهية القوى. فيخسر الأولاد فنجد ما يأتي: 20 منهم أمهاتهم بدون عمل 34 منهم أمهاتهم يعملن أعمالاً طفيفة قليلة الأجرة 16 منهم أمهاتهم يشتغلن طول النهار خارج البيت بالغسل والكنس والمسح إلخ 10 منهم أمهاتهم يشتغلن طول النهار في البيت بأشغال متنوعة

4 منهم أمهاتهم يشتغلن طول النهار خارج البيت أعمالاً غير المذكورة آنفاً 6 منهم أمهاتهم ساكنات بعيداً عنهم 10 منهم بدون أمهات كلنا يعلم أهمية مركز الأم في البيت من حيث تربية الصغار وتنشئتهم على الطرق المثلى فيشبون رجالاً يعتمد عليهم. ولكن متى تركت الأم أمر صغارها أو اضطرت إلى ذلك لا يقدر الأب أن يقوم بوظيفتها حق القيام. فيخسر الأولاد عناية الأم وحنوها وإرشادها. فيشبون وهم خلو من صفات الرجولية الحقة. هذا من جهة تأثير الأم على الأولاد أما تأثير الأب عليهم ففي الجدول الآتي أرقام تدل عليه: 37 منهم آباؤهم يعملون دول النهار بالمعان والمعامل وما شاكل 31 منهم آباؤهم يحترفون حرفة حقيرة 17 منهم آباؤهم لهم أشغال تشغلهم طول النهار 6 منهم آباؤهم يعملون أعمالاً شتى 19 منهم آباؤهم عجّز لا يستطيعون عملاً ما 10 منهم آباؤهم لا عمل لهم فمن مقارنة أرقام هذه الجداول ترى نسبة عدد الأحداث المجرمين إلى الأحوال التي وجدوا فيها. وهناك أمور كثيرة تختص بهذه المحاكم سنعود إليها في العدد القادم. توفيق جريديني

أزهار وأشواك

أزهار وأشواك كل عام وأنتم بخير بهذه العبارة، أو بعبارة أخرى تشبهها معنى وإن خالفتها مبنى، يتقابل الأصدقاء والأقارب في هذه الشهر شهر المواسم والأعياد من رأس السنة الهجرية فعيد الميلاد فرأس السنة الغربية فالشرقية. وبكلمات التبريك وتمنيات الهناء والتوفيق تصافح كل من تجمعك به صلة رحم أو رابطة صداقة أو علاقة عمل. . . تبريكات وتمنيات كثيراً ما لا تشترك القلوب مع الشفاه في التلفظ بها؛ على انها من المصطلحات التي جرى عليها بنو الإنسان في معيشتهم الاجتماعية. ومهما يكن قد أفقدها الابتذال من رونقها الأصلي ومعناها الوضعي، فإنها لا تزال تدل على عاطفة جميلة، وهي تناسي الضغائن والأحقاد التي تولدها المنازعات اليومية بين الناس فيم عترك تنازع البقاء. وكلما زاد هذا التنازع شدة، زاد شعور بني البشر بالحاجة إلى أيام تتبدد فيها من جوهم غيوم المشاحنات وتشرق شمس البشر والسلام. . . أقف عند هذا الحد لأني لا أريد أن أعكر على قرائي صفاءهم بمطرة من الفلسفة الاجتماعية. ولكني أقول لهم من صميم الفؤاد لا من الشفاه فقط: كل عام وأنتم بخير شاكراً الذين أرسلوا تهانيهم إلى صديقهم حاصد على حسن التفاتهم، سائلاً للجميع خير ما يسأل في هذه الأعياد للأصدقاء المخلصين، وكلنا في حاجةٍ إلى أشياء

كثيرة، لأن العام المنصرم قد حرمنا من كثير مما كنا نتمناه، حتى بات كل من تلقاه يشكو عامه. . . طوينا صفحة السنة الماضية وعرفنا رصيد حسناتها وسيئاتها. أما نعم ونقم السنة الجديدة فلا تزال في عالم الغيب. وأعلم ما في اليوم والأمس قبله ... ولكنني عن علم ما في غد عمي جلاد مصر بانقضاء السنة انقضت حياة رجل ولا كالرجال، وانصرم حبل أيام من صرّم الكثير من الآجل، بشد الحبال. . . مات العشماوي الجلاد باشمحرك الآلة الشانقة أو محتكر صنف الإعدام رسمياً في وادي النيل. توفي فتنفس المجرمون الصعداء، وهبت أشباح الذين شيعهم إلى عالم الفناء ترحب بقدومه. . . حمل على الآلة الحدباء إلى القبر، بعد أن ظل السنين الطوال يحمل آلة الإعدام من بلد إلى بلد، حيث يدعوه حكم القضاء، فكان: يمشي وعزرائيل من خلفه ... مشمر الأردان للقبض وقد اختلف الرواة في وصف أخلاقه، فمنهم من يمثل العشماوي قاسياً فظاً غليظاً ينفذ مأموريته دون أن تمس قلبه عاطفة شفقة، ومنهم من يقول غير ذلك. أما أنا فلم أتشرف - والحمد لله - بمعرفته ولا حاولت أن أصير من زبائنه، حتى أكون راوية صدق. . . كانت الحكومة تنقد العشماوي راتباً شهرياً مقرراً، قدره أربعة جنيهات، وكان يتقاضى عن كل مشنوق يشرفه بوضع الكرافاته في عنقه خمسة جنيهات أخرى.

فإذا عرفت أنه قضى 15 سنة في هذه المهنة وأنه شنق 576 مجرماً تعرف أن المبلغ الذي حصله من شد الحبال حول الأعناق لا ينقص عن 3. 600 جنيه أي بمعدل 20 جنيهاً في الشهر. . . تجارة رابحة والله، ولكني أفضل على ذلك الذهب الوهاج المكتسب من شق المهج بضعة دراهم اكسبها من شق القصبة بعد جهاد النفس. حاصد

من كل حديقة زهرة

من كل حديقة زهرة * يؤخذ من التقرير الذي وضعه مسيو ديشانيل عن المدارس الفرنسوية في الشرق أن عدد تلاميذ هذه المدارس في السنة المدرسية المنصرمة 1910 - 1911 قد بلغ 74. 000 في تركيا، و21. 500 في مصر، و2. 910 في اليونان، و325 في كريد، و667 في قبرص، و2. 000 في بلغاريا، و200 في رومانيا، و2. 800 في إيران فيكون المجموع فوق 1040400 تلميذ. وبلغ عدد الذين تلقوا العلوم العالية 752، والصناعة والتجارة 1. 695 والعلوم الثانوية 9. 943، والعلوم الأولية 81. 485. * أراد أحد العلماء أن يعرف مقدار الميكروبات التي نتجرعها مع الهواء الذي نستنشقه، فأخذ في آلة خصوصية عشرة ليترات من الهواء في الشارع أثناء زوبعة فوجد فيها 20. 000 ميكروب من انواع مختلفة، وعليه ففي كل ليتر من الهواء الذي نستنشقه 20. 000 ميكروب. * بدأ مسيو أوبلي مدير سكة حديد بغداد بالأعمال الفني للخط الحديدي في الموصل وحواليها. والمتنظر أن يتم الخط بين الموصل وبغداد وبين الموصل وحلب في مدة سنتين أو أقل. وسئل مسيو أوبلي عن درجة سرعة القطار على الخط المذكور فقال إنه سيقطع 30 كيلومتراً في الساعة. ولما كانت المسافة بين الموصل وبغداد 100 كيلومتر، فسوف لا يستغرق السفر أكثر من ثلاث ساعات، وكذلك المسافة تقريباً بين الموصل وحلب. وعليه فسيتوسع نطاق التجارة والزراعة في تلك

الأصقاع وتستثمر المعادن المدفونة في أرضها ويعود إليها شيء من رخائها السالف. * كل قذيفة تقذفها المدافع التي تبلغ فوهتها 14 بوصة تقتضي نفقة 300 فرنك وتقذف هذه المدافع قذيفتين أو ثلاثاً في الدقيقة وعليه إذا اشتبك أسطولان في معركة مدة خمس ساعات فإنهما ينفقان مبلغ 150 مليون فرنك ثمن قذائف. * تشتغل معامل إنكلترا البحرية بصنع مدفع عظيم من طراز جديد قياسه 406 ميليمترات وهو يقذف القنابل إلى مسافة 26 كيلومتراً وزنة القنبلة 1080 كيلو تحتوي 63 كيلو من المواد القابلة الانفجار وفيها قوة كافية لخرق أضخم المدرعات المصفحة. على أن معامل بحرية الولايات المتحدة تشتغل الآن بصنع مدفع من هذا النوع يفوق الأول في ثقل مقذوفاته وقوتها. * كتب مستر ابورت في مجلة الطبيعة الإنكليزية فصلاً عما يمكننا أن نسميه ميزانية الرجال والنساء في العالم، أي عدد الجنسين والنسبة بينهما. وأول ما لاحظه هذا الكاتب يتعلق بالوفيات في الأولاد، فإنها في البنين أكثر منها في البنات قبل تجاوز السنة الخامسة. ثم تنعكس هذه النسبة منذ السنة الخامسة حتى الخامسة عشرة إذ تزيد الوفيات بين البنات. ولكنها تعود فتنقص بعد هذه السن فتصبح بين الذكور أكثر منها بني الإناث. ويتفاوت عدد مواليد البنين والبنات بالنسبة إلى عمر

ثمرات المطابع

الأم بحسب ما يبينه الجدول التالي: سن الأمهاتعدد البنينعدد البناتحتى 196591000كم 20 إلى 248951000من 25 إلى 2911051000من 30 إلى 3411111000بعد 3411651000والذي ينتج هن هذا البيان أنه كلما تقدمت الأم في السن زاد عدد مواليدها الذكور. ثمرات المطابع مسرات الحياة - أمعن النظر في الرسم الممثل أمامك. فهذا الرأس الأصلع الذي ابيض جانباه، وهذه الجبهة النافرة البارزة فوق ذينك الحاجبين الكثيفين الفضيين اللذين يكادان يغطيان تينك العينين البراقتين، وهذان الشاربان المختلطة أطرافهما بتلك اللحية البيضاء المستديرة حتى تختفي بينهما الابتسامة اللطيفة المرسومة على الشفتين، هذا الرسم الذي يمثل العمل والذكاء والوقار هو رسم لورد أفبري الشيخ الذي يتمشى اليوم في الثمانين من العمر، والعالم الفاضل المعروف بفيلسوف الحياة اليومية وصاحب سلسلة الكتب الذهبية التي نقلت إلى معظم لغات العالم، والتي كادت تخلو اللغة العربية من محاسنها لولا أن أقدم على تعريب بعضها حضرة الكاتب الأديب الفاضل وديع أفندي البستاني، فإنه ترجم

منها كتابي معنى الحياة والسعادة والسلام ونشر اليوم الكتاب الثالث مسرات الحياة الذي يحتوي على مباحث خير ما يقال فيها إنها نتيجة درس واختبار لورد أفبري للحياة الاجتماعية. ولقد قرأناه فرأيناه مساوياً لأخويه السابقين فائدة ونفعاً ولكنه يفضلهما بالعناية التي اختصه بها المترجم حتى جاء عربياً صحيحاً سليماً على الغالب من كل ما يشين الترجمة. فنحن نشكر لوديع أفندي اعتناءه ونحث على مطالعة هذه

الكتب التي يعربها من حين إلى آخر فهي خير من أكثر ما يترجمه كتابنا في هذه الأيام. وقد تولى طبع ونشر هذه الكتب حضرة نجيب أفندي متري صاحب مطبعة المعارف ومكتبتها. وهي مأثرة له نضيفها إلى مآثره العديدة في خدمة العلم والأدب بما تنشره مطبعته من المؤلفات النفيسة. كتاب البنين - وهو كتاب كان لظهوره في فرنسا منذ بضع سنين تأثير كبير، فإن واضعه رجل قد خبر الشؤون الاجتماعية وحركة الأفكار العصرية فكان له في أمته التي ترأس مجلس نوابها شأن يذكر بالثناء، وليس اسمه بالمجهول لدى أبناء الشرق، عنينا به مسيو بول دومر الخطيب البليغ والكاتب المفكر. أما كتابه هذا فقد تناول جميع المسائل التي يهم الفتيان الاطلاع عليها والبحث فيه ابعد خروجهم من المدرسة. فكتب وأجاد في الإرادة والواجب والإقدام والعدل والإخاء والحرية والتسامح والمحبة والزواج والديمقراطية والدستور والمساواة والوطنية والتعليم والتعاون والأمة والحرب إلى غير ذلك من الأبحاث التي تشغل خاطر المفكرين. وأراد المؤلف أن يدرس هذه المسائل الخطيرة درساً خاصاً بالناشئة التي أدركت أول مراحل الرجولة، فجاء كتابه من خير ما كتب في هذا الموضوع الجليل ولما كانت أممنا الشرقية في مطلع نهضة فكرية من هذا القبيل كان مثل هذا الكتاب من أحسن ما يقدم لها ويهدى إليها هذا ما رآه حضرة الكاتب الأديب عبد الغني أفندي

العريسي أحد صاحبي جريدة المفيد البيروتية. فحدت به الهمة إلى ترجمة كتاب البنين ليقدمه إلى إخوانه شبان الأمة العربية وهو معروف بغيرته عليها وسعيه الدائم إلى ترقية شؤونها. فكان في عمله هذا أحسن خدمة لأبناء جلدته نقابلها بالشكر والثناء. والكتاب متوج باسم رجل من أفاضل الأمة العربية وهو عزتلو السري رفيق بك العظم الذي صدّر الكتاب بمقدمة ضافية عن التربية الأخلاقية.

تقويم البشر لسنة 1912 - هو أتقن تقويم سنوي يصدر في اللغة العربية يجمع في مئتي صفحة أهم ما يجب معرفته عن تاريخ السنين والأشهر والأيام والأعياد المختلفة وقاعدة القمر والشمس وأسماء الرؤساء والروحيين والمدنيين وجداول العملة وبدلا الدولة العثمانية مع تعليمات كثيرة جغرافية وتاريخية وفلكية وصحية مع ملحق يتضمن فوائد بيتية متعددة ونبذ أدبية وفكاهية متنوعة جمعت بين اللذة والفائدة وقد عني بجمعه وترتيبه هذه السنة أيضاً حضرة العالم الفاضل الأب لويس معلوف مدير جريدة البشير فاستحق كل شكر وثناء. المعارف - سلسلة كتب عظيمة الفائدة جمة النفع يسعى في نشرها أديبان من أدباء بيروت وهما الأفنديان عبد الوهاب ومحمد التنير يقصدان بها نشر العلوم الطبيعية، وما تتناوله من الفروع، بين الناشئة العربية. وقد صدر الكتاب الأول منها وهو يبحث في علم الفلك بأسلوب واضح جلي يقرب هذا العلم من إدراك القارئ، ويساعد على تفهم قواعده ما فيه من الرسوم العديدة. وقد عول منشئا هذا الكتاب على أشهر مؤلفي الغرب في هذا الباب واعتمدا على الكتب العربية القديمة لوضع الاصطلاحات العلمية. ونحن نرى بمزيد السرور إقبال كتابنا على التأليف في هكذا مواضيع مفيدة. جمعية العروة الوثقى - جاءنا التقرير السنوي لهذه الجمعية الخيرية التي اشتهرت مبراتها في وادي النيل وهو يتناول السنة الدراسية 1909 -

1910 ويؤخذ منه أن عدد مدارس الجمعية 17 فيهم 2267 تلميذاً و624 تلميذة منهم ما يزيد عن الخمسين من المئة يدرسون مجاناً، وإذا عرفت أن عدد المدارس في عهد الجمعية (سنة 1895) لم يكن سوى اثنتين فيهما 150 تلميذاً وتلميذة عرفت الشأو البعيد الذي أدركته بفضل أعضائها الكرام ومعاونة ذوي البر والإحسان. وفي التقرير بيان ضاف عن سائر أعمال الجمعية وحساباتها مما يدل على الخطة المثلى التي تسلكها. جزى الله القائمين بالأعمال الخيرية أحسن جزاء. الاستقلال الفكري - هو نص خطبة فلسفية عمرانية ألقاها في جمعية الترقي القبطية في أسيوط حضرة وليم أفندي بقطر وقد بحث فيها عن الاستقلال الفكري وتدرجه حتى يومنا معززاً أقواله بالشواهد التاريخية والبراهين العقلية، مفنداً مزاعم من يتورطون في تفهم الحرية على غير معناها الحقيقي، محذراً من الحرية التي لا ينيرها التهذيب. مفكرة المعارف - اشتهرت مطبعة المعارف بالاعتناء الكثير بكل ما يطبع فيها حتى أصبح الإتقان صفة خاصة بها. ولقد اعتاد حضرة صاحبها الفاضل نجيب أفندي متري أن يصدر في مطلع كل سنة يومية صغيرة ترف بمفكرة المعارف، وأصدرها في هذه المرة ممتازة بالاعتناء والإتقان فنلفت الأنظار إليها وإلى النتيجة (روزنامة) الجميلة التي تضاهيها محاسن وتدقيقاً وكلتاهما تطلب من المطبعة المشار إليها وثمن المفكرة 4 قروش صاغ والنتيجة 10 قروش صاغ.

رواية الشهر

رواية الشهر ليلة عيد الميلاد كان ذلك في عشية ليلة عيد الميلاد من سنة 1811 وكان نابليون الأول يشتغل في غرفته الخصوصية بقصر التويلري. وكانت القاعة الواسعة تكاد تكون مظلمة لولا أشعة أنوار ضئيلة متكسرة على الذهب الغالي تشع على الرسم الكبير المعلق على الحائط أو منعكسة على رأسي الأسدين الذهبيين الموضوعين على مسند المقعد أو متموجة على الجواهر المتهدلة على أستار النوافذ فكان ضوء الشمع ينعكس على الكتب العريض المكتظ بالرسوم الجغرافية والكتب الضخمة المجلدة بالجدل الأخضر الموسومة بحرف النون وتاج الإمبراطورية. وكان الأطلس الجغرافي مفتوحاً عن خريطة آسيا الكبرى ويد الإمبراطور الناعمة اللطيفة تبحث بسبابتها هناك فيما وراء العجم عن طريق تؤدي إلى الهند. نعم إلى الهند! بطريق البر؟ وماذا عليه إذا كانت بوارجه قد تدمرت وأساطيله تشتت فلم يبق لهذا المحارب العظيم إلا طريق البر الوعرة يسلكها تحت أشجار الغابات القديمة تصحبه نسوره القشاعم المتوهج ذهب أثوابها بين أمواج الحديد والفولاذ، ووهج السيوف ورهج الدروع، فيضرب الدولة الإنكليزية في خزائنها الغنية، وهي مستعمراتها الواسعة، فتدور عليها الدوائر وتطوح بها الطوائح. أجل لقد نال نابليون عظمة قيصر ومجد شارلمان ولم يبق إلا ملك الإسكندر وليس نابليون ممن يجهلون المشرق فقد ترك في مصر آثاراً لا تفنى وقد رأته ضفاف نهر النيل العظيم قائداً صغيراً راكباً هجينه يقود شرذمة من الخيول الشواذب. وستراه ضفاف نهر الكنج إمبراطوراً كبيراً مدثراً بدثاره الرمادي. أفلا يلزم حينئذ لركوبه الفيل الضخم الذي ركبه بوروس لمحاربة الإسكندر ذي القرنين. بلى إن نابليون يعرف كيف تغزى الأمم وتستعبد الشعوب فتمشي بين جنوده

هناك جنود وجوهها كلون الحديد وعمائمها من نسج الحرير ويرى بين قواد جيشه أمراء الهند تسحب المطارف الفضفاضة المثقلة بالدر الثمين والجواهر الغالية، فيقف أمام الأصنام الهائلة العاقدة زنودها فوق رؤوسها ويسألها عما خبأه له الغيب، فتجيبه عما سأل في الزمن الغابر أبا الهول أيام وقف أمامه في مصر مفكراً متكئاً على سيفه المحدب وأبو الهول لم يجبه ببنت شفة إمبراطور المغرب! سلطان المشرق! إنه لا يريد أن ينحت على رخام قبره غير هذين اللقبين غير أن هناك عقبة كؤوداً وهي روسيا العظيمة ولكنه إذا لم يتوفق إلى مصادقة الإسكندر فإنه يقهره ويكسر شوكته. ثم انبرت يد نابليون البيضاء تنبش الكتب الضخمة والتقاويم العديدة باحثة عن عدد الجيش اللجب الذي يلتف حول قيصر الروس بوجه التقريب. نعم نعم إنه سيدحر ذلك الجبار الغاشم ويجره مع من يجر من أتباعه وحلفائه ووراءهم الفرسان المتوحشة تؤم المشرق لتغزوه. إمبراطور المغرب! سلطان المشرق! ما كان تحقيق هذا المشروع ليصعب على ذكائه ودهائه. وإذا توطدت قدمه في تلك البلاد واستتب الأمر طبق رغباته فلن ينقسم ملكه من بعده فيفرق على كبار القواد، كما انقسم ملك إسكندر المقدوني. لأنه قد ولد لنابليون منذ عشرين آذار ولد هو وارث مجده وسلطانه. فتبسم ثغر الإمبراطور بسمة واضحة حين افتكر بالطفل النائم بجواره في ذلك القصر الهامد. ثم رفع رأسه بغتة بحرة فجائية وأنصت. . . إن الغرفة مقفلة وأستار النوافذ الغليظة مرخية فمن أين جاء هذا الزنين الغريب العميق كأن النحل الذهبي المعلق على الديباج قد دبت فيه الحياة فطار وأخذ بالزمزمة. ثم ازداد الإمبراطور إصغاء فتبين له في ثنايا تلك الضجة انه يسمع قرع أجراس. آه. نعم. عيد الميلاد. . . . صلاة نصف الليل.

وكانت أجراس كنائس باريس تقرع مبشرة بتذكار ولادة الطفل يسوع. تلك الأجراس التي أعلى مكانها بونابرت ورد لها بقايا جلالها وإكرامها أيام كان قنصلاً يحب السلام عامداً على مصالحة فرنسا مع إخوانها المبغضين. كم مرة قرعت تلك الأجراس احتفالاً بنصراته وغزواته وليس العهد ببعيد وقد كانت جميعها تدق منذ أيام قلائل احتفاء بولادة ابنه ملك روما. في ذلك اليوم التاريخي الذي أرسلت به السماء ولداً للإمبراطور كأنها تعترف بملكه الشرعي وتعده ببقاء ذلك الملك. على أنها في هذا المساء تتهلل كما تهللت يوم أوسترليتز أو فاجرام وتقرع عند منتصف ذلك الليل البارد احتفالاً بتذكار ولادة الطفل الوضيع بابن النجار الذي ولد على مهد القش في مغارة ببيت لحم. وكأن تحت أستار ذلك الليل أصواتاً عجيبة تصرخ في لانهاية ذلك الفضاء الواسع المزدان بالنجوم الفضية: المجد لله في العلا وعلى الأرض السلام. فأصغى الإمبراطور إلى قرع الأجراس ثم استسلم إلى عالم الخيال فقادة فكره إلى زمن طفوليته وتذكر قداس نصف الليل في كنيسة خاله زعيم الكهنة في جزيرة اجاسيو ورجوعه مع عائلته العديدة إلى البيت القديم حيث الفقر المحتمل ببعض الكبرياء وتذكر أمه مترئسة وليمة العيد تفرق عليهم الأثمار المشوية. أما ابنه وهو سليل إمبراطور فرنسا وأرشيدوقة النمسا فلم يعرف ولا يعرف ولن يعرف مثال ذلك الفقر المدقع بل سيكون مالكاً رقاب الأمم وسابحاً ذيل التيه والفخر على المعمورة جمعاء. وكانت الأجراس تقرع دائماً في ذلك الليل المثلج لأجل عيد الميلاد. . . إن الجندي المقطب الجبين العابس الوجه اللابس قبعة من القش على باب قصر التويلري يخال غضبان وهو ماشٍ يوسع الخطى لتدفئة مناكبه الباردة. إنه ليفتكر في مثل ذلك الوقت ببضع كلمات ابتهالية يتمتمها أو بأنشودة صغيرة حفظها قديماً في قريته وهو جالس على ركب أمه يرتلها وتتبسم شفتاه تحت شاربه الكثيف

عند افتكاره بالطفل يسوع في مغارته. أما الإمبراطور فلم يسمع نداء تلك الأجراس الطاهرة ولم يفتكر إلا بولي عهده وقد خامره وجد مبرح لمشاهدته فاستوى واقفاً وصفق بيديه فانفتح للحال باب منزوٍ وراء حاشية الستر وظهر رستم ذلك المملوك الأمين الذي استصحبه من أرض مصر فأشار إليه إشارة فطن لها رستم فحمل الشمعدان ومشى أمام سيده في دهاليز القصر المقفرة تواً إلى غرفة الملك الصغير حيث دخل الإمبراطور وصرف المرضع والنساء النائمات حول مخدع الطفل ووقف نابليون أمام سرير مولوده العظيم. وكان ملك روما مستغرقاً في نومه الطاهر غارقاً في بياض فراشه الوثير مزنراً بزنار الليجيون دونور وقد أرخى يده الحريرية اللطيفة على حافة الفراش وأطبق جفنيه الناعسين الغائرين في أم رأسه الصغير. فكان زنار الليجيون دونور الشديد الحمرة الذي يعترض وسط الفراش غامراً تلك الطهارة والرقة رقة وطهارة الطفل النائم كأنه رمز عن الدماء التي سيجريها أبوه أملاً بعقد تيجان الممالك كافة على هذا الرأس الضعيف ووضع صوالجة تلك الممالك في هذه اليد النحيفة اللطيفة. فنظر نابليون إلى ابنه نظراً طويلاً وقد أفعم فؤاده كبرياء مما لم يحدث عن كبرياء عظيم قبله وهو يقول في نفسه إن كبار هذه المملكة وعظماءها وقواد جيوشها أولئك الأبطال الذين تفوق شجاعتهم شجاعة أبطال إلياذة هوميروس وكل الحكام والنظار المرصعة صدورهم بالأوسمة والنياشين الجوهرية. كلهم يطأطئون هاماتهم سرير هذا الطفل الصغير مرتجفين تهيباً وخشوعاً. ثم استسلم لأفكاره فخيل إليه أنه يسمع في قرع أجراس العيد وقع سنابك خيله وأقدام رجله وقعقعة اللجم وصليل السيوف ودوي المدافع وإن هذه الضجة ضجة المعمعة تحت العجاج الثائر وشرار النار المتطاير. أو أنها جيوشه زاحفة على روسيا والهند. . . فثمل من خمرة افتكاره وعقد نيته عقداً باتاً على شن الغارة على روسيا والهند مقسماً انه سينصب لابنه عرشاً يشرف على أقاليم البسيطة من أقصاها إلى أدناها.

كيف لا وقد أهدى إليه وهو طفل رضيع مدينة بطرس الرسول فهو لاشك حين يشب سيهدي إليه كثيراً من المدن المقدسة. أمير مكة! أمير باريس! إنها لألقاب تليق بملك روما آه. لماذا لم تلد نساء فرنسا أكثر مما هن والدات. بل لماذا لا يحتشد تحت أمره المليون والمليونان من الرجال الأبطال ليغزو بهم ممالك المعمورة قاطبة ويهبها لهذا الطفل النائم. وقد صمت أذنه في استسلامه إلى عالم الخيال فلم يسمع قرع الأجراس الطاهرة ولم يفتكر ولو قليلاً بالمالك على السماوات الناظر إلى ممالك الأرض نظره إلى وكور النمل. . . بل لم ير بعين خياله عسكره المجر مشتتاً تشتيتاً على ضفاف نهر البرزينا مدحوراً مقهوراً والثلج له قبور ومدافن. . . بل لم ير ألويته الخفاقة تحطمها القذائف الإنكليزية في واقعة واترلو. . . بل لم ير ذلك الصخر القاحل وسط الأوقيانوس العظيم وهو له بالانتظار. . . بل لم ير في متنزه شنبرون تحت سماء الخريف ابنه شاباً شاحب الوجه هزيل الجسم مرتدياً ثوب ضابط نمساوي يمشي الهوينا كئيباً حزيناً ينفث نفثة المصدور بين أوراق الأشجار الذابلة المتساقطة. . . وبينما كان الإمبراطور مستسلماً لأفكاره الفظيعة ناظراً بعين مخيلته إلى ملك ابنه وذرية ابنه ممتداً من مشارق الأرض إلى مغاربها زاعماً أنه سيصبح هو نابليون من عظماء القرون الخالية أو من أبطال الحكايات الخرافية كأنه المريخ أو ملك من ملوك الشمس تحف به الأجرام الاثنا عشر وتتدفق من وجنته الأنوار والأضواء. . . كانت أجراس عيد الميلاد تدق دقات الفرح والنصر متهللة بتذكار ولادة الكفل الصغير في مغارة بيت لحم الذي ملك على العالم بأسره فعلاً ولكنه لم يملكه بشن الغارات وإهراق الدماء بل بكلمة السلام والمحبة وسيبقى ملكه على الأرواح إلى جيل الأجيال. فرنسوا كوبه تعريف خليل شيبوب

العدد 21

العدد 21 - بتاريخ: 1 - 2 - 1912 حلم ويقظة أمس واليوم ريع العالم المالي في هذه الربوع من كثرة التفاليس في المدة الأخيرة، واشتد العسر على الأهالي، وأصبحت الصحف تروعنا كل يوم بسقوط محلات تجارية كنا نتوهمها قائمة على أمتن الأسس، فإذا هي غير قادرة على الثبوت أمام آخر عاصفة هبت من عواصف الأزمة المالية. إذا صح أن يقال إن التاريخ يعيد نفسه فليس من بلادٍ تنطبق عليها هذه الحقيقة المبنية على الاستقراء أكثر من القطر المصري. فإنك إذا تصفحت تاريخ مصر منذ عهد الفراعنة والبطالسة حتى يومنا هذا، تكاد تجده إعادة دائمة ومراجعة مستمرة. الأسماء تتغير، والأشخاص تتبدل، لكنهم دائماً يمثلون الحوادث نفسها، فيلعب كل منهم دوراً واحداً في مظهر واحد. هناك بعض

تفاصيل خارجية وأحوال عرضية تختلف، لكن الجوهر واحد يكاد لا يمسه تغيير ولا يطرأ عليه تبديل. ترى مصر تارة خصبة غنية، وطوراً قاحطة فقيرة. تجدها آناً أهراء العالم يقصدها الأجنبي من كل صوب وحدب. وتلفيها آونة خالية خاوية تضيق بمن أظلته سماؤها ورواه ماؤها. فهي الماء القراح يتلون بلون الوعاء الذي يكون فيه، إن صافياً فصافٍ، وإن كدراً فكدر. وهو على تينك الحالتين هو، لم يفقد شيئاً من عذوبته ولذته ونفعه، يروي من قصده، ويبرد غليل من ورده. والسبب في تغيير ظاهره إنما ههو راجع إلى أمور عرضية لا تؤثر في الجوهر. وهذه التقلبات الطارئة على مصر من رخاء وشدة، وغنى واحتياج، أكبر دليل وأصدق برهان على جودة هذه الربوع وكرمها، إذن حسن تدبير شؤونها، وصلحت إدارة أحوالها. رقيت مصر في السنين الخالية إلى أوج الغنى: اتسعت ثروتها كل اتساع، وراجت أشغالها أي رواج، حتى جارت في هذا الميدان أغنى بلاد الله قاطبة. وقد استمرت الحالة على هذا المنوال حتى ولدت المضاربات ذلك الإعصار الهائل الذي صير العمار دماراً، والنضار رماداً. * * * جاء في الفصل الحادي والأربعين من سفر التكوين: قال فرعون ليوسف: رأيت كأني واقف على شاطئ نهر، وكأن قد صعد منه سبع بقرات سمان الأبدان حسان الصور فرتعت في المرج. وإذا سبع بقرات

أخر قد صعدن وراءها عجافاً قباح الهيئات جداً دقاق الأبدان لن أر مثلها في أرض مصر في القبح. فأكلت البقرات العجاف القباح السبع البقرات الأول السمان. . ثم رأيت في حلمي كأن سبع سنابل قد نبتت في ساق واحدة ممتلئة حساناً، وكأن سبع سنابل جافة دقاقاً قد لفحتها الريح الشرقية نبتت وراءها فابتلعت السنابل الدقاق السنابل الحسان. فقال يوسف لفرعون: إن الله مكاشف فرعون بما هو صانعه. سيأتيكم سبع سنين فيها شبع عظيم في جميع أرض مصر، ويأتيكم بعدها سبع سني جوع فينسى جميع الشبع الذي كان في أرض مصر ويتلف الجوع الأرض، ولا يتبين أثر ذلك الشبع في الأرض من قبل الجوع الآتي عقبه لأنه شديد جداً. . . فليجمع كل طعام سني الخير الآتية وليخزن برها تحت يد فرعون طعاماً، فيكون الطعام ذخيرة لسبع سني الجوع فلا ينقرض أهل الأرض بالمجاعة. . . . ألا يخيل إلى القارئ عند تلاوة هذه الصفحة من تاريخ مصر القديم أنه يطالع تاريخها في هذه المدة. رأت مصر سني الشبع العظيم في جميع أرضها، ثم زحفت عليها سنو الجوع فأنستها رخاء وغناها. قام من أنذرها بمجيء العسر بعد اليسر، وإدبار الأيام بعد الإقبال، لكن صوت المرشد لم يقع في آذان مصغية، بل كان بعض القوم من اكبر العاملين على جر سني الجوع، بل هم الذين غلوا البقرات الحسان وكبلوها ووضعوها بين فكي البقرات القباح لتفتك بها. هم جعلوا مخدراً قوياً في الكأس التي رشفتها البلاد فزادوا في سكرتها، ولما أفاقت من سباتها العميق كانت

محادثة شبح

يقظتها هائلة مروعة. وكان هذا البعض أول من ذهب ضحية هذا الحلم فعسى أن تكون هذه آخر صاعقة تنقض على البلاد فيعقبها شروق الشمس وتعود مصر إلى الرخاء والصفاء. محادثة شبح عن أصل الحروف الهجائية كنت أكتب منذ زمانٍ طويل في سكون الليل وكان المنور (غطاء القنديل) يرسل على المنضدة ضوء القنديل ويبقي الظلام منتشراً على الكتب الموضوعة على طبقات تعلو الواحدة منها الأخرى في جهات الغرفة الأربع. وكانت النار الموشكة أن تنطفئ تبدو خلال الرماد كأنها شذرات من الياقوت. وكان دخان التبغ المهيج يمتزج بهواء الغرفة ويزيده تكثفاً وأمام لفافة من التبغ في قدح على كومة من الرماد يرتفع دخانها اللطيف الأزرق ارتفاعاً عمودياً. وكان شكل الظلمة في تلك الغرفة سرياً لأن الجالس فيها يشعر شعوراً مبهماً بروح تلك الكتب الملقاة في موضعها وقد سكن قلمي بين أناملي كأن النعاس قد عبث بأعطافه فجعلت أعمل الروية في أمور قديمة العهد وإذا بشخص غريب برز من دخان لفافتي كما يبرز من دخان العشب السحري. وكان شعره متجعداً، وعيناه

نحلاوين براقتين وأنفه أقنى، وشفتاه غليظيين، ولحيته سوداء متجعدة على الزي الآشوري، ولونه نحاسياً فاتحاً، وقد طبعت على محياه علائم الدهاء والميل مع الهوى ميلاً عنيفاً، ودل شكل جسمه الربعة القامة ولباسه الفاخر على أنه من أولئك الآسيويين الذين كان الإغريقيون يطلقون عليهم اسم بربر. وكان لابساً على رأسه قبعة زرقاء مصنوعة على شكل سمكة ترصعها النجوم، ومرتدياً ثوباً أرجوانياً موشىً بصور الحيوانات وحاملاً بإحدى يديه مجذافاً وبالأخرى أدراجاً. فلم اضطرب عند رؤيته لاعتقادي أن ظهور الأشباح العديدة في المكاتب أمر طبيعي. ألا تظهر أشباح الموتى في العلامات التي تحفظ ذكرها؟ ودعوت الغريب إلى القعود فنبذ دعوتي وقال: أرجو منك أن تدعني وشأني ولا تعتبرني حاضراً في هذا المكان فلقد أتيتك لأنظر ما تكتبه على هذا الورق العاطل لني أسر بذلك واعلم أن الأفكار التي تعبر عنها عليه لا تهمني البتة وإنما يهمني جداً منظر الحروف التي ترقمها عليه فأنا أعرفها وإن يكن قد درج على استعمالها ثمانية وعشرون قرناً وطرأ عليها تغيير ذو بال. وأنا اعرف هذه الباء التي كانت في أيامي تدعى بيت ومعناها بيت أو منزل وهذه اللام التي كنا نسميها لامد لمشابهة شكلها لشكل الجمة. وهذه الجيم مشتقة من الحرف الذي كان يقال له جمل في حروفنا الهجائية ومعناه عنق البعير. وهذه الألف مشتقة من الفنا وهي على شكل رأس الثور. وأما الدال التي أشاهدها أمامي فإنها على مثال دالث المأخوذة عنها تمثل تماماً

شكل مدخل مثلث الزوايا لخيمة مضروبة في رمال الصحراء إن أنت لم تجعل محيط تلك العلامة الدالة على عيشة البدو القديمة مستديراً برسمك خطاً منحنيا. ً لقد غيرتم الدالث وسائر حروفي الهجائية ولكنني لا أنحي عليكم باللائمة على ذلك لأنكم لم تفعلوه إلا حباً بالإيجاز والإسراع لاعتباركم قيمة الوقت فليس الوقت سوى التبر والعاج وريش النعام. إن الحياة قصيرة ولذلك يقضى على المرء أن يزاول التجارة ويركب مركب الأسفار دون أن يضيع دقيقة واحدة ليتسنى له أن يصيب الثروة ويصل إلى حد الشيخوخة وهو رائع في بحبوحة الهناء ونائل نصيبه من الاحترام. فقال له: يا سيدي يبين لي عند رؤيتي إياك وسماعي كلامك أنك من أولئك الفينيقيين القدماء. فاكتفى بأن يجاوبني قائلاً: أنا قدموس أوشبح قدموس. فقلت له: بناءً عليه إنك لست موجوداً وجوداً حقيقياً فأنت اختلاقي ورمزي وإن تصديق كل ما قاله الإغريقيون عنك يعد من رابع المستحيلات فهم يروون أنك بطشت على عدوة ينبوع آريس بتنين كان يقذف النيران من شدقيه، وأنك قلعت أسنان ذلك الوحش وغرستها في الأرض فتحولت بشراً. إن هذه الرواية من باب الأساطير وأنت يا سيدي شخص مختلق. من المحتمل أن أكون قد صرت كما تقول مع تعاقب الأجيال وأن يكون أولئك الأولاد الكبار الذين تسميهم إغريقيين قد قرنوا بذكري روايات ملفقة. إني أظن ذلك الأمر ولكنني لا أكترث له ولا اهتم بما

اعتقد بي الناس بعد موتي. فمخاوفي وآمالي لم تكن لتمتد إلى ما وراء هذه الحياة التي يتنعم بها الناس على الأرض والتي افهمها الآن دون سواها، ولا أسمي حياة الطواف كشبح في غبار المكاتب، والظهور بشكلٍ مبهم للمسيو أرنست رينان أو للمسيو فيليب برجه فحالة الشبحية هذه تزيد كآبتي لأني قضيت في الدنيا حياة سداها النشاط ولحمتها تتميم الواجبات ولم أكن ألهو بغرس أسنان الأفاعي في الحقول البيوسيانية اللهم ما لم تكن تلك الأسنان عبارة عن البغض والحسد اللذين غرسهما غناي وقوتي في نفس رعاة سيترون. وقد أنفقت أيامي في الأسفار ومخرت في جميع اللجج وانتجعت جميع الأمصار وأنا راكب متن سفينتي السوداء الموضوع على جؤجؤها مسخ أحمر هائل يحرس كنوزي ويرصد الكبيرات السبع المجولات في الفضاء بزورقهن اللامع ويهديني بتلك النجمة الثابتة التي كان الإغريقيون يسمونها الفينيقية إكراماً لي. وقد انطلقت للإتيان بالذهب من الكلشيد والفولاذ من الشاليب واللآلئ من أوفير والفضة من طارطس وأخذت من البيتيك الحديد والرصاص وسلفور الزئبق والعسل والشمع والزفت واجتزت حدود الدنيا وتوغلت في غمام المحيط حتى انتهيت إلى جزيرة البريطانيين القاتم وعدت منها شيخاً بيض الدهر لمته ومعي مقادير وفيرة من القصدير الذي ابتاعه مني المصريون واليونانيون والإيطاليون بمبالغ من النضار توازي زنته زنتها. وكان البحر المتوسط في ذلك الحين يعتبر بحيرة لي فشيدت على سواحله المهجورة مئات من المحلات التجارية. ولم تكن طيبة تلك المدينة المشهورة سوى

منيع أخزن فيه ما كان لدي من الذهب وقد لقيت في بلاد اليونان قوماً متسكعين في دياجي الهمجية، مسلحين بقرون الوعل والحجارة المحددة فأعطيتهم النحاس وكان أنهم عرفوا بفضلي جميع الفنون. وكان يظهر في عينيه وفي كلامه قسوة جارحة فأجبته بكلام خالٍ من الحب: إنك كنت تاجراً موصوفاً بالنشاط والذكاء ولكنك لم تكن تحجم عن إتيان المنكر وكنت تتصرف عند سنوح الفرصة تصرف قرصان حقيقي. وحين كنت تنزل إلى البر في ساحل من سواحل اليونان أو في جزيرة من الجزائر كنت تعمد إلى بسط أدوات الزينة والمنسوجات الثمينة على اليابسة، وحين كانت فتيات تلك الأنحاء ينجذبن انجذاباً لا يقوين على دفعه ويأتين وحدهن بغير معرفة والديهن لرؤية تلك السلع كأن بحارتك يخطفون أولئك العذارى اللواتي كن على غير جدوى يطبقن الفضاء بأصوات الاستغاثة ويولون منتحبات ويلقونهن مكتوفات مذعورات في قعر سفائنك وآكلين حراستهن إلى ذلك المسخ الأحمر. ألم تسب أنت وذووك إيو الصبية ابنة إيناخوس الملك لتبيعوها في مصر؟ - من المحتمل أن يكون هذا الأمر قد جرى فإن إيناخوس الملك هذا كان زعيم قبيل صغيرة من البربر وكانت ابنته ببيضاء البشرة ذات لطف ورواء ولا يخفى أن العلاقات بين القوم الهائمين على وجوههم في مجال الهمجية، والقوم المستنيرين بمشكاة التمدن هي هي عينها في كل زمان.

- حسناً قلت ولكن الفينيقيين ذويك قد ارتكبوا في العالم سرقات لم يسمع بمثلها فإنهم لم يحجموا عن سرق الدياميس ونهب المدافن المصرية ليزينوا جبانات جبيل بما يعثرون عليه فيها. - بعيشك يا سيد قل لي أمثلك يعنف إنساناً أكل الدهر عليه وشرب كان صوفوكل يسميه قدموس العتيق؟ لقد نسيت أني أكبر منك بثمانية وعشرين قرناً قبل أن يمضي علينا أكثر من خمس دقائق ونحن نتحث في غرفتك. فاعلم يا سيدي العزيز أني رجل كنعاني عتيق فلا ينبغي لك أن تشدد علي النكير من جراء بعض صناديق من الموميات وبعض فتيات همجيات مسبيات من مصر أو من بلاد اليونان وقد كان الأشبه بك أن تعجب بقوة ذكائي ومحاسن صناعتي. لقد حدثتك عن سفائني وأستطيع أن أريك قوافلي شاخصة إلى اليمن للإتيان بالبخور والمر وإلى حاران للمجيء بالحجارة الكريمة والبهارات وإلى الحبشة لجلب العاج والأبنوس، ولم تقف همتي عند هذا الحد من المتاجرة والمقايضة بل كنت صاحب معامل معروفاً بالحنكة في زمن كان في أثنائه العالم المحدث بي غارقاً في لجة الهمجية. وكنت بصفة كوني من علماء المعادن والصباغين والزجاجين والصاغة أستعين بما أوتيته من الدهاء على مزاولة فنون النار هذه الغريبة إلى حد يجعل المرء يخالها سحرية. انظر إلى الكؤوس التي نقشتها وتعجب مما للجوهري الكنعاني العتيق من الذوق السلم. ولم تكن خبرتي في المسائل الزراعية مما يستهان بي فإني صيرت تلك الأرض الضيقة المحصورة بين لبنان والبحر جنة خضراء ولا تزال آثار الأحواض

التي بنيتها فيها قائمة حتى يومنا هذا. وقد قال أحد علمائكم: إن الكنعاني دون سواه يقدر أن يبني معاصر خالدة أعرف قدموس العتيق حق المعرفة وأعلم أني انتقلت بشعوب الحبر المتوسط من العصر الحجري إلى العصر النحاسي وقد علمت الإغريقيين مبادئ جميع الفنون واعطيتهم بدلاً من الحنطة والخمرة وجلود الحيوانات التي جاؤوني بها كؤوساً يتعانق عليها الحمام ودمى من الخزف ومنذ ذلك الحين نشطوا إلى نسخها وترتيبها على ذوقهم. وفي آخر الأمر أعطيتهم حروفاً هجائية لم يقدروا بدونها أن يحددوا ويحصروا أفكارهم التي تخلب لبك. هذا ما فعله قدموس العتيق وهو لم يفعله حباً بالجنس البشري أو رغبة في مجد زائل بل حباً بالكسب والاستفادة الحقيقية الممكن لمسهما باليد. وقد فعله أملاً بحشد الثروة وطمعاً بشرب الخمر في شيخوخته في كؤوس من الذهب على مائدة من الفضة بين غانيات بيض الوجوه يرقصن رقصاً يثير الشهوات من مرابضها ويعزفن على القيثارة عزفاً يرنح المعاطف لأن قدموس العتيق لا يؤمن بالصلاح ولا بالفضيلة وهو يدري أن البشر أشرار وأن الآلهة وهم أقوى من البشر شر منهم. وهو يخافهم ويبذل المجهود لتسكين غضبهم بالقرابين الدموية ولا يحبهم أبداً لن الأنانية متسلطة عليه كل التسلط. وها أنذا أصف لك ذاتي على ما أنا عليه في واقع الحال وأعتقد أني لو لم أجر وراء ملاذ الحواس القوية ما كنت قد سعيت لجمع المال واخترعت الفنون التي لا تزالون تتنعمون بها في هذا العصر. وحيث لم يكن لك يا سيدي العزيز عقل كافٍ تستطيع به أن تصير تاجراً وحيث

أنك قد اخترت مزاولة الكتابة سالكاً فيها مسلك الإغريقيين وجب عليك أن تحترمني احترامك للآلهة لأن لي الفضل عليك بالحروف الهجائية التي تستعين بها على الكتابة، فأنا مخترعها ولا يخفى عليك أني لم ابتدعها إلا لترويج تجارتي دون أن يبدر إلى وهمي ما سيكون لتلك الحروف من الشأن في العالم الأدبي. وكان يعوزني لوضع تلك العلامات أسلوب بسيط وقريب المتناول وودت من صميم الفؤاد لو كنت أستطيع اقتباسه من جيراني الذين تعودت أن آخذ عنهم كل ما لائمني لأن مسألة الأصول لم تكن عندي أمراً يعتد به. فإن لغتي هي لغة الساميين ونحتي تارة بابلي وتارة مصري ولو كان ثمة خط جميل لكنت اكتفيت مؤونة الاختراع في هذا الموضوع ولكن لم يكن يسد مسد حاجاتي الخط الهيروغليفي المستعمل عند الشعوب التي تسمونها الآن خطية ولا تعرفونها من التعقيد وكانت كتابتها بطيئة جداً وهما من الخطوط التي يفضل نقشها على جدران الهياكل والرموس على رقمها على أدراج التاجر. فالخط المصري وإن يكن مختصراً ومنحنياً قد بقي له من مثاله الأصلي شيء من الثقل والارتباك والتردد لأن الأسلوب بجملته كان فاسداً وبقيت الهيروغليفية المختزلة هيروغليفية أي مبهمة إبهاماً هائلاً. وأنت تدري كيف كان المصريون يخلطون في الهيروغليفية المطولة والهيروغليفية المختصرة وبين العلامات المعبرة عن الأفكار والعلامات المعبرة عن الأصوات وأنا بفضل دهائي اخترت اثنتين وعشرين علامة من تلك العلامات

الكثيرة العدد وصنعت منها حروفي الهجائية الاثنين والعشرين وهي حروف أي علامات يقابل كل منها صوتاً مفرداً وتنشأ عن مجموعها الداني المنال واسطة لرسم جميع الأصوات رسماً مدققاً. لم يكن عملي هذا معدوداً من باب البراعة والتفنن. - أجل إن عملك كان ولا مراء معدوداً من باب البراعة والتفنن أكثر مما تتوهمه فيقضى علينا والحالة هذه أن نقدم لك هدية كبيرة القيمة لأنه بغير الحروف الهجائية لا يوجد علامات مضبوطة تعبر عن الكلام ول إنشاء ولا تعبير عن أفكار دقيقة ولا تجريد ولا فلسفة سامية المعاني. فالتصور بأن باسكال كتب سفره المعنون باسم بروفنسيال بحروف مسمارية لا يقل استهجاناً عن التصور بأن تمثال زوس الأولمبي نحتته فقمة. فالحروف الهجائية الفينيقية التي اخترعت لأجل مسك الدفاتر في التجارة أصبحت في المعمورة كلها أداة للفكرة تامة لا يستغنى عنها وإن تاريخ ما طرأ عليها من التغيير مرتبط ارتباطاً متيناً بتاريخ العقل البشري وتقدمه وإن اختراعك وإن لم يكن كاملاً يعتبر آية في الجمال وعظيم القيمة فأنت لم تخطر على بالك الحروف الصوتية التي اخترعها الإغريقيون البارعون المتفننون الذين قسم لهم هذا العالم أن يبلغوا بكل شيء إلى درجة الكمال. - إني اقتبست عادة سيئة وهي أن أخلط الحروف الصوتية بالحروف الساكنة. ألم تلاحظ هذا المساء أن قدموس العتيق يتكلم قليلاً من حلقه؟ - إني أصفح له عن هذا الأمر وأغضي الطرف أيضاً عن سبيه إيو

العذراء لأن إيناخوس والدها كان زعيماً للبربر حاملاً صولجاناً من قرن الوعل نحتته مدية من الصوان وأتغافل عن عليمه البيوسيانيين المساكين الفضلاء الرقص الخلاعي الذي كانت الباكانات يزاولنه وأتجاوز عن كل هفوة ارتكبها لأنه جاد على اليونان والعامل طراً بأثمن تعويذة أعني بها الحروف الهجائية الفينيقية الاثنين والعشرين وقد اشتقت من هذه الحروف الاثنين والعشرين جميع الحروف الهجائية في الدنيا ولا يجري في وهم الناس فكر على سطح البسيطة إلا وتحدده وتحفظه. فمن حروفك الهجائية يا قدموس الفاضل انبثق الخطان الإغريقي والإيطالي اللذان خرجت منهما جميع الخطوط الأوروباوية. ومن حروفك الهجائية أيضاً نشأت جميع الخطوط السامية من الأرمنية والعبرانية إلى السريانية والعربية وإن الحروف الهجائية الفينيقية نفسها أم للحروف الحميرية والحبشية وسائر الحروف الهجائية في آسيا الوسطى كالزند والبهلفي والحروف الهجائية الهندية المشتقة منها اللغة الدفاناغارية وجميع الحروف الهجائية في آسيا الجنوبية. فسقياً له من غنى طائل ورعياً له من نجاح عام فلا يوجد الآن في جميع أصقاع المعمورة خط واحد غير مشتق من الخط القدموسي. وكل من يكتب كلمة واحدة في هذه الدنيا يعترف بفضل التجار الكنعانيين الأقدمين. وهذا الفكر يجعلني أسدي لك أوفر الشكر والاحترام يا حضرة السيد قدموس ولا أدري كيف أقدر هذه النعمة حق قدرها بقضائك ساعة من هذا الليل في غرفتي يا بعل قدموس يا مخترع الحروف الهجائية.

شيء عن الفن

- يا سيدي العزيز اعتدل في إظهار حماستك واعلم أني مبتهج كل الابتهاج باختراعي هذا الطفيف. فليس في زيارتي لك ما يجعلك تفتخر متباهياً لأني صرت أتبرم تبرماً يحبب إلي الموت منذ الحين الذي أصبحت فيه شبحاً وهمياً ولم أعد أبيع قصديراً ولا تبراً ولا عاجاً واضطررت على هذه الأرض التي يطأ فيها المسيو ستانلي عن بعد مواطئ قدمي إلى التحدث من حين إلى آخر مع بعض العلماء أو الفضوليين الذين يهمهم أمري. والآن يخيل إلي أني سامع صياح الديك فأودعك وأنصح لك بأن تسعى لحشد الثروة لأن الخير الوحيد في هذا العالم ملاكه الغنى والقوة. قال هذا الكلام وتوارى عن نظري وكانت ناري قد خمدت وبدأت أشعر ببرودة الليل وصداع أليم. إلياس الحويك شيء عن الفن لقد عرف الإنسان الفنون قبل أن عرف العلوم، لأن مخيلته اشتغلت قبل تنبه أفكاره. المخيلة ضيف تائه على الأرض وهي أقوى القوى الأدبية حركتها لا تبطل أبداً في الحياة، بل هي كالقلب تشتغل دائماً وعمله مستمر متواصل في النوم وفي اليقظة. فيها تحفظ تذكارات الماضي وآثار ما تنقله إليها الحواس من مناظر وأصوات وأنغام وروائح وتأثيرات، ومن مزيج هذه التذكارات والآثار تتكون أصول الفنون، فيأتي التصور والابتكار عاملاً في توسيعها، وزيادة فروعها وإتقان كمالاتها.

إذا أنت عدت بأفكارك إلى تاريخ الأعصر الغابرة تجد للفن المكان الأول في عظمتها، ولا ترى للعلوم إلا زاوية حقيرة في أسفار المنشئين وتواريخ المفكرين. أما الكليات الغربية التي تأسست في القرن الحادي عشر فلم تكن تشغل الطلاب إلا بالشعر القديم والأحاديث الحربية وتواريخ الآداب المختصة بأشهر شعوب العالم. فقد كان التلاميذ يدرسون اللغات اللاتينية، واليونانية، والعبرانية، وربما العربية والآشورية أيضاً، أو غيرها من لغات الشرق القديم، بدلاً من الطبيعيات والكيمياء والهندسة. ولم يدرسوا من تآليف الأقدمين إلا أشعارهم وتواريخهم وفلسفتهم، ضاربين صفحاً عما كتبه بعضهم في الرياضيات. على أن العلوم أخذت في الانتشار رويداً رويداً منذ القرن الخامس عشر. فتعددت الاكتشافات، وزادت الأرباح، وتكاثرت المداخيل الآلية فانصرف الفكر البشري إلى العلم التجاري، وأمسى الفن شهيداً تقام له هياكل العبادة في أرواح الأفراد المفكرين من البشر. فالقرن العشرون الذي ندعوه عصر المدنية والنور ليس إلا عصراً ميكانيكياً تجارياً!. . . قال رسكن الناقد الفني الكبير: كل شعب يرتقي عنده الفن إلى ما يقارب درجة الكمال تسقط مملكته وتتلاشى عظمته. لست أدري إذا رأيت في حياتك صورة رسكن، أيها القارئ اللبيب. أما أنا فقد رأيتها! وكثيراً ما أنظر إليها فأحاول نتف شعر لحيته عندما أذكر جملته هذه.

إني أجهل أي عاطفة دفعته إلى كتابة هذه الخاطرة القاسية، ولست أدري كيف يفسرها لو كان حياً. ترى كيف يمكننا أن نقدر قدر المصريين لو لم تكن لدينا بقايا هياكلهم وتماثيلهم ونقوشهم، ونبوغ اليونان أن لم يكن بآدابهم وفنونهم، وعظمة الرومان إن لم يكن بفلسفتهم وشعرهم؟؟ وإذا قابلت الشعوب الآتية بين هذه البدائع الفنية القديمة وبين آثار أجيالنا الحاضرة، كبرج إيفل مثلاً. . . ألا تظن أنهم سيحكمون بأننا، نحن أبناء الحاضر، سليلة ابن نوح الملعون من أبيه خلقنا كي نكون عبيد أبناء عمينا المباركين، أبنار القرون المنصرمة؟ يقول بول بورجه أحد أعضاء الأكادميا الفرنساوية اثنان يفهمان الجمال الفني: العالم الراقي والفلاح الساذج. وبين هاتين الطبقتين، طبقة البشر العادية وهي كثيرة العدد، ضيقة الفكر، قاصرة المدارك، باردة الروح. ثم يأتي رسكن ذو اللحية المنتفة قائلاً: إن الفضيلتين اللازمتين لمحب الفن هما الحنان والصدق. وكلاهما محق، بل أن كلام الواحد منهما يفسر فكر الآخر. يعني رسكن أن كل مصور، أو شاعر، أو موسيقي، أو نقاش يجب أن يكون سريع التأثر، رقيق العواطف، دقيق الملاحظة، صادق القلب أهلاً لأن يكون ترجمان الروح، وناقل بدائع الأحلام من عالم الأوهام إلى عالم الوجود والإفادة. وهو يشترط في الشاعر والمصور الحنان قبل الصدق لأن الحنان عاطفة طبيعية ثمينة، وأما الصدق فهو

عادة جميلة يكتسبها الإنسان بالتربية الحسنة، والدرس، ومعاشرة الصالحين، ومناجاة الطبيعة. فلا تجد هاتين الفضيلتين بقوتهما العظيمة إلا في فؤاد العالم المفكر وفي فؤاد الفلاح الساذج، والاثنان أخوان! أجل! لقد احتضنت روح الإنسان الفنون الجميلة منذ فجر المدينة، لكن ذاك الارتعاش الطاهر لم يعد مالكاً على قلوبنا. لقد تلاشت أفكار آبائنا العظيمة وتحولت قوتهم في الأبناء إلى اقتدار على اختراع الآلات المتنوعة، والجهازات الغريبة. وفي هذه وفي تلك من الاختلال بقدر ما في أجسام البشر من الاختلاط والتناقض. وأما الغرض من كل هذه الاختراعات المذهلة فهو ينقسم إلى قسمين: الأول خدمة احتياجات الإنسان الجسدية، والثاني، قتله بسرعة وسهولة. . .! ولكن العلوم الراقية المجردة عن أطماع التجارة والأرباح، كالتي انعكف على إتقانها غليلوس ونيوتن وبسكال فنحن نضعها في صف المعارف الثانوية. . . لأن حب المضاربة والمكسب يصرعنا كما تصرعنا بهرجة الاكتشاف والاختراع. ألا تظن أن ذلك المفكر العظيم نيوتن الذي استنتج من كيفية سقوط التفاحة قاعدة الناموس الأبدي الذي يدير حركة العوالم الهائلة - ألا تظنه ناشئاً من نبت أفضل وأجمل من نبت تكوّن فيه فكر مخترعي الأجراس الكهربائية، والعجلات والفونوغرافات؟ ألا تظن أن هذه الاختراعات الدقيقة، الجميلة في ذاتها، تبرهن على دناءة الفكر العصري، وسقوط النفس البشرية من أوج الجمال إلى هوة التجارة، حيث تتطلب

في جنائن الغرب

معاملة الأسواق غشاً وخداعاً وسرقة وخبثاً وكذباً؟ لست أدري أمخطئة أنا أم محقة؟ لكن هذه الاكتشافات التي تهم الجمهور معرفتها، لا أظنها تؤثر في أرواح الأفراد كما تعمل فيها صور الفكر القديم وظواهره الفنية. إن هؤلاء الأفراد يؤثرون على بلادة الترفه الميكانيكي شرف العمل الروحي. فهم يظلون مدى حياتهم عبيداً لأحلام الجمال اللطيفة، وذوي الأمزجة السريعة التأثر حيث تختلط الحدة بالدعة، والضحك بالغضب، والسكوت بالسرور، والتأملات بالخيالات الجميلة. مي في جنائن الغرب حلابة جميلة هي فتاة الريف البعيدة عن عالم الجمال الاصطناعي، نظرة من عينيها البراقتين تغير وجه الناظر إليها، هي تعرف أن نظرة الجميل خطيب صامت ينطق بمدح الفضيلة إلا أنها لا تبالي به، فضائلها تؤثر السكينة على الضوضاء، كأنها تجهل ما هي عليه من الجمال، وما أودع فيها الرحمن من كمال. بطانة ثوبها - أي جسمها - أجمل كثيراً من ظاهرها. لأنها وإن كانت لا تلبس البز والأرجوان فهي مزدانة بالطهر والعفاف - أنعم به من حلة جميلة حاكتها يد الصانع العظيم لا يد الإنسان اللئيم.

هي لا تفسد جمالها ولا تبلي ثوب صحتها بالنوم الكثير. لأنها تلقنت عن أمها الطبيعة أن عدم الاعتدال في النوم هو صدأ النفس، والنفس إذا علق بها الصدأ أفناها كما يفني الحديد. فلذا هي تبكر في الصباح بكور الطائر ولا تأوي إلى سريرها إلا إذا حان وقت النوم. اللبن الذي تحلبه بخفة ورشاقة يزداد بياضاً ليضاهي ثوب عفافها، ويزداد نقاوة ليضارع نقاوة قلبها مقر الإخلاص ومسكن الحب وقدس أقداس الجمال. سنابل الحنطة الذهبية تخر ساجدة وتقبل قدميها عندما تقطفها كأنها تسلم نفسها طوعاً واختياراً لليد التي قلعتها من تربة الأرض التي كانت تغذيها. أنفاسها مسك وما أدراك ما المسك. نضبت يداها من ماء الشباب لكثرة العمل المطلوب منها ولكن قلبها قد أذابته نيران الشفقة على الإنسانية المتخبطة في حمأة البؤس، وتقرحت أجفانها من كثرة بكائها على الموت الأدبي المتسلط على بني الإنسان الذين أفسدت عواطفهم المطامع الكاذبة والشهوات الشريرة. قلب فتاة الريف كالزهرة النقية التي فتحت أكمامها وسقط ندى الربيع على أوراقها، فراحت تميل مع النسيم. تزاول أعمالها بهمة دونها الهمم، ومع ذلك تراها آمنة مطمئنة، كأن الطهارة والإخلاص والحب ثلاثة أقاليم جمعت في واحد. قلبها أنقى من الثلج في بياضه ويسمو إلى المجد عن السفاسف. وهنا مصدر تأثيرها. . . نظرة منها كافية لتذيب أفئدة الأسود الضارية وتسكن الوحوش الكاسرة حين غضبها وتوقف

الأجرام السماوية في حركتها ودورانها. ومتى أقدم الشتاء بلياليه الطويلة وبرده القارص جلست تدير دولاب غزلها ونطق لسانها بكل لحن شجي يزيل عن النفس الحزينة ما ترزح تحته من شقاء وبؤس. كل ما تمتد إليه يدها من العمل تعمله وهي قريرة العين، مسرورة الخاطر. هي لا تعمل لا خيراً لأنها جبلت على حب عمل الخير والمعروف. وهي تعرف أن العمل الشريف هو المهذب الحقيقي لبني الإنسان، وإن الكسل يتلف الإنسان نفساً وجسداً فتعلم يقيناً أن تسعة أعشار رذائل العالم ومصائبه ناجمة عن كل عمل يأتيه الإنسان ويتأفف منه الشرف. في آخر السنة تفيض يداها بما ملكت من كدها واجتهادها على المحتاجين. وفي ملابسها لا تختار إلا ثياب الحشمة والأدب. إذا اعتراها داء كان طبيبها هواء حديقتها البليل ودواءها من جني النحلة الحكيمة. هي لا تخشى نازلة تداهمها إذا خرجت دون رفيق لأنها لا تقصد أذية أحد بل تريد أن ترد الشر خيراً الصاع صاعين. والحق هي ليس منفردة إنما تصحبها حاشية كبيرة من ترانيم مطربة وأناشيد منعشة. هذه هي حياتها. ولا أمنية لها إلا أن تموت في زمن الربيع فتوضع الأزهار والرياحين فوق نعشها. (عن السر توماس أوفبري) ببادى غالى - الخرجوم

رسائل غرام

رسائل غرام بين نساء شهريات ورجال عظام الرسالة السادسة من الأميرة إميليا غوستاف إلى الأمير هنري أولدنزال (كان الأمير رودلف غوستاف ملك إحدى المقاطعات الألمانية قد تزوج في أثناء إحدى سياحاته بفرنسا فتاة فرنسوية وضيعة الأصل وكتم زواجه عن الناس ثم هجر زوجته وعاد إلى ألمانيا. وبعد زمن بلغه أن امرأته قد رزقت منه ابنة هي طريدة شريدة في أزقة باريس. فعاد إلى فرنسا وأخذ يبحث عنها إلى أن وجدها بعد عناء كبير ورجع بها إلى ألمانيا. وكان كل من يرها يقف حائراً مبهوتاً لجمالها الساحر فلم يمر على قدومها بضعة أيام حتى كان جمالها الرائع حديث القوم وموضوع تغزل الشعراء. ولم تكن محاسن آدابها تقل عن محاسن جمالها فقد كانت على جانب عظيم من الشمم وعزة النفس. واتفق أنها رأت ابن عمها البرنس هنري أولدنزال فأحبته وأحبها حباً مبرحاً. ولكن تاريخها الماضي كان في نظرها لطخة سوداء فلم تشأ أن تصم بها حياة ابن عمها. ففضلت الترهب حباً به. وهكذا فعلت على رغم إلحاح أهلها وجميع أهل البلاط. وماتت في دير جيرولستين شبعانة من متاعب الحياة وآلام التذكارات. وقد كتبت الرسالة الآتية إلى حبيبها عند أوائل دخولها إلى ذلك الدير). أيها الحبيب أمامي رسالتك الأخيرة، كلما قرأتها شعرت بشوق إليك وحنين إلى مخاطبتك. أراك رازحاً تحت ثقل من اليأس فيزيد بي حزني وأتمنى لو أننا لم ير بعضنا بعضاً قط، إذ لولا الحب ما كنت حزيناً منكسر القلب.

ولو لم تعرفني ما شغلت بي عن العالم أجمع. فإن كان ذنبي إليك أنني أذكيت في قلبك جذوة الحب فإني مستعدة أن أطفئ تلك الجذوة وأكفر عن ذلك الذنب بأن أضع حداً لنبضات قلبي المثقل بأعباء الهموم وإلا فلماذا أنت حزين يا هنري؟ ولماذا يجعلك حبي شقياً عوضاً عن أن يمتعك بالسعادة والحبور؟ هل يسوءك أنني دخلت الدير وأنت تعلم لأجل من دخلته؟ أليس ذلك أسطع برهان على أن حبي لك صحيح ثابت ليس له بداءة ولا نهاية؟ فإن كنت تحبني كما احبك فلا تكتب إلي بلهجة اليائس، بل كن فرحاً مسروراً لأنني أحب أن أراك كذلك أيها الحبيب وينقبض صدري كلما تمثلتك حزيناً مثقلاً بالهموم. دخلت الدير يا هنري لأنني أجد فيه راحة وسلاماً وأستطيع أن أخلو بنفسي فأناجيك ولو عن بعد، وأضيف إلى عهودي السابقة عهداً جديداً لا تفصم عراه حتى تنطوي صفحة الخلود. فإذا لم يقدر لي أن أراك في هذه الحياة، فإن موعدنا الضفة الأخرى من نهر الأبدية، حيث نحلق كلانا في ذلك الفضاء الرحيب متنقلين بين الكواكب، كما تنتقل الفراشة بين الحقول. لماذا تلومني على دخولي الدير يا هنري؟ أليس الدير أول محطة على الطريق إلى السماء حيث نجتمع كلانا بعد أن نخلع هذا الثوب الهيولي؟ فلماذا يسوءك هذا الأمر وأنت عالم بما ينطوي عليه من راحة وعزاء؟ هي أيام تنقضي يا هنري. فإما أن يشفيك الزمان من غرام الشباب، أو أن يزيدنا الفراق ثباتاً في الحب. وسواء قدر لنا اللقاء في هذه الحياة،

أو لم يقدر، فإنني مقيمة على عهودي لك لا أميل عنك قيد شعرة ولا أنساك طرفة عين. . . اكفني عذاب الذاكرة يا هنري. إن السرور الذي تجده في تذكرك أيامنا السالفة ينقلب عندي إلى آلام مبرحة، فأخلو بنفسي وعيناني مغرورقتان بالدموع إذ تتمثل لي أيامنا السعيدة ونحن لاهيان عن كل شيء ما سوى الحب. سقياً لمواقف العهد القديم! ليتني أستطيع أن أنساها، لأنني كلما تذكرتها تقوم في نفسي ثورة عواطف تضيع بين الشجن والسرور. فلقد كانت تلك الأيام أشبه بحلم هنيء أعقبته يقظة محزنة. لذلك أحاول أن أتناساها فلا أستطيع، لأن رسمك لا يبرح من فكري وصوتك الرخيم يرن دائماً في أذني. حقاً إنني مدينة لك بأيامي السعيدة يا هنري. ولو كنت الآن واقفاً أمامي، لألقيت نفسي بين ذراعيك وأسمعتك خفوق هذا الفؤاد الذي تنطق كل نبضة من نبضاته بما يكنه لك من الحب الخالد. ربما تحزنك رسالتي هذه يا هنري. ولكن فؤادي مفعم بهموم تضيع معها الابتسامة التي كنت تعهدها في شفتي. كيفما التفت أرى مظاهر الطبيعة تذكرني بك، لأن حبي لك يمثلك حاضراً في كل مكان وزمان. وهذا دليل آخ على أن حبنا الطاهر يزيد كلما طال بنا الفراق، ولا تؤثر فيه الأيام. ولقد كنت أستكثر على البشر روميو وجولييت، وأتصور حبهما من أساطير الأولين إلى أن أحببتك، فعلمت أن في العالم

روميو آخر وجولييت أخرى، وإن الحب قد يبلغ من النفس إلى درجة يحملها على ارتكاب كل جريمة، وجرائم المحبين حسنات عند الملائكة! إن الراهبات هنا يسمينني الزنبقة، لأن كل فتاة تعطى عند دخولها هذا الدير اسماً جديداً للدلالة على انقطاعها عن العالم وابتدائها بحياة جديدة. فهل يعجبك اسمي الجديد يا هنري؟ وهل أنت واثق أنه سواء تغير اسمي، أو بقي كما هو، فإن حبي لك ثابت لا يتغير. في هذا الدير زنابق كثيرة مثلي داميات القلوب. لعلهن يجدن في الانقطاع عن العالم بلسماً يشفي جروحهن التي لا تقبل الاندمال. أما أنا فلم أجد بعد هذا البلسم. والصلاة والحيدة التي أركع كل يوم لأرفعها إلى الله هي أن تعيش سعيداً في هذه الحياة. لو خيرت أن اجلس على العرش طول العمر أو أكون زوجتك يوماً واحداً ثم أموت لنبذت العرش ولم أحفل به، لن سعادة يوم واحد معك أفضل عندي من أبهة الملك. ولو كان في كرهك إياي سعادة لك لكنت أنا أيضاً أتمتع بذلك الكره لأن سروري لا يتم إلا بسرورك أيها الحبيب. إلى الملتقى يا هنري. بودي لو ينفسح لي أن أطيل حديثي معك ولكن. . . إميليا بقلم سليم عبد الأحد

الشعر

الشعر (2) الوجه اللفظي والوجه المعنوي إن حقيقة الشعر لا تتوقف على الوجه اللفظي الذي مراده الوزن، فإن للوجه المعنوي فعلاً كبيراً في ماهية الشعر لا بل هو الروح، وقد قال أرسو وهو أول من كتب في فلسفة الشعر: إن حقيقة الأشياء هي التي تميز القول العشري عن ماهية غيره وتجعل الشاعر شاعراً وليس هيئة الشعر. وأنت إذا قرأت تليماك أو تصفحت الشهداء يخيل إليك تارة أنك تسرح في رياض زاهية زاهرة، وتمرح في مروج باهية باهرة، وطوراً تنظر قصوراً شاهقة، وتشعر كأنك على ظهر سفن تنساب بك في الدأماء، وأحياناً تحلق فوق ذيل الهواء، وتشاهد السحب الزهراء مبعثرة في بساط الزرقاء، وغير ذلك بحيث تثور في باطنك لواعج الأشجان في مآزق الكروب وأمام أوصاف الحزن. أو تجيش بك

بواعث الإعجاب والاستحسان تجاه مناظر الكون، بيد أنك في كل ذلك تكون منيطاً طرقك بصفحات الكتاب. وكأني بك تقول وإذا كان ذلك كذلك فما بقي وراء الشعور وماذا يفيد إذن الوجه المعنوي في الشعر؟ قلت إن أرباب هذه الصناعة أجمعوا على أن هذه المحاكاة المخيلة لا تعد شعراً بأي وجه من الوجه وليس في هذا القول اثنان. فللقريض في الأقاويل الشعرية مزية كبرى. فهو أحق بأن تفرغ فيه المعاني الشعرية السامية والعواطف الرقيقة. وإذا تتبعت ذلك استقراء تدركه من تلقاء نفسك، فإنك إذا أطلقت للقلم العنان في مجال وصف، وأرسلت فيه الكلام إرسالاً يأتي عليك وقت تتقد فيه العواطف اتقاداً وتمتلئ النفس حماساً، وتشعر بضيق نطاق العبارة المرسلة فتهجم عفواً على العبارة المتوازنة المسجعة وهي ضرب من الشعر. ثم أن القريض من شانه أن يحرك أوتار النفس ويبث فيها ثورة وانفعالاً بمعنى أنه يولد فيها العواطف وينمي فيها روح الجمام والنشاط ويرغبها ويطربها ولقد صدق من قال: إن الشعر أشبه بزمام مجمل يمتلك من النفس ويديرها كيفما شاء. ومما لا ريب فيه أن للقريض نصيباً وافراً في اللذة التي تخالج أفئدتنا والسهولة التي تخدر أعصابنا عند تلاوة الشعر أو سماعه. فلولاه لتعذر على أي كان أن يأتي على آخر قصيدة مؤلفة من مئة أو من مئتي بيت فأكثر نظراً لذبول زهرة العواطف وإخماد انفعالات النفس الحماسية التي يستحيل أن تظل مضطرمة. كذلك إن المعاني إذا طالت متتابعة لابد

أن تهي وتتخللها ركاكة ولكن القريض يوجد اللذة مستمرة رغماً عن طول القصيدة وما ينتج من الملل والسأم. غير ذلك فالقريض كسمير للشاعر أو هو كعروس الشعر. يرزقه إلهاماً ويفتح عليه مغلق الكلام ويفجر له عيون المعاني. ولقد يقر بذلك كل من اعتاد ركوب بحر الشعر. وعلى ما يحكى أن المتنبي كان دأبه إذا عمد إلى الصناعة أن يتغنى ويصنع، حتى إذا ما توقف رجع إلى الإنشاد من أول القصيدة إلى حيثما توقف، وبذلك يأتي عليها بكرة. وعلى هذا المذهب حذاق الشعراء لما فيه من قرب المدرك. هذا هو فعل الوزن في الأقاويل الشعرية. ثم أن هناك فرقاً آخر يبعد القولين - الشعر والنثر - بعد الخافقين. فإن للشعر خواصاً وأساليب انفرد بها ولا تصلح أن تكون لغيره، وهي كثيرة يضيق نطاق هذا العجالة عن حصرها. فمن ذلك أن الشاعر كثيراً ما يكتفي بالحذف والزيادة ويشير إلى معانٍ بطريق التلميح والإيجاز. يذكرني طلوع الشمس صخراً ... وأذكره لكل غروب شمس فهاتان الصورتان=طلوع الشمس وغروبها - تؤديان حسناً المعنى الذي أشارت إليه الخنساء. فطلوع الشمس كناية عن جمال أخيها ويحتمل أن الغروب يذكرها انزواءه. وقيل أن المشهد الأول كناية عن الغارة والغروب عن الضيفان. وهذا وماثله يدخل في صناعة الشعر. ثم أن الشاعر يكثر من تقديم

القيود على المقيدات والصفات على الموصوفات وإعادة الضمير إلى ما يريد تجاهله أو التعريض به. ويسهل على الشاعر أيضاً أن يفصهم عرى الروابط اللغوية والوصل والمتعلقات بقدر ما تسوغ له الجوازات الشعرية وليس في النثر شيء من ذلك فإنه إذا نحي فيه منحى الشعر ساق ذلك إلى الالتباس والاستغراق. ومعلوم أن المعنى في الشعر أقرب إلى الفهم مما في النثر. خذ مثلاً مرثية المتنبي في أم سيف الدولة واقرأ الصدر من كل بيت فتدرك عفواً المعنى الذي تضمنه العجز. ناهيك أن الشعر كلف بالتشابيه الرائعة والمجازات البديعة والكنايات المستملحة والمبالغات الظرية، فإذا نما فيها وأنمى أطرب الألباب وبلغ مبلغاً عظيماً من الألذاذ والإعجاب بخلاف النثر فإنه إذا تعددت فيه الصور المخيلة والتشبيهات والمجازات ظهرت به الكلفة واستولى على القارئ سأم أو مجه الذوق كارهاً. ولئلا يقال إننا نرسل الكلام اعتباطاً، دونك قطعة من مقالتي الغربة والغربية للإمام شهاب الدين الخفاجي: لما هزتني أريحية الشباب، إلى اقتعاد سنام الأرض على غارب الاغتراب، وقد أجدبت الأرض من كل ماجد، يجتني جنى المجد ويجني له ثمار المحامد، وتعطلت من كريم تلتف عليه المحافل، وتسير في ظلال أعلامه الجحافل. . . اقسمت ببيت سالت ببطحائه أعناق المطايا، وثمل ركبانه بكأس السرى في الغدايا والعشايا. آه. . في ذلك كفاية ليشعر ذو الذوق السليم ببدء سآمة، مع أن لهذا

في رياض الشعر

الكلام منزلة علياء من البلاغة، فالمعاني سامية، والإنشاء من النمط العالي، والتخييل في منتهى الكمال وإنما ليس هذا اللباس كساءه فكان أولى بأمثال هذه الأقوال أن تفرغ في مهيع القريض وتنسج على منواله. حلمي المصري في رياض الشعر إلى سابا باش كتب سعادة إسماعيل صبري باشا وكيل نظارة الحقانية السابق إلى سعادة السر يوسف سابا باشا ناظ المالية يعزيه على فقد نجله فريد وقد قصف الموت غصنه الرطب في خلال الشهر الفائت: سابا اتق الله وخل الأسى ... لجاهلٍ يعذر في جهله لا تكترث بالزرء وانهض به ... فالرأي كل الرأي في حمله مثلك من يلجأ إن راعه ... يوم بمكروه إلى عقله قضى فريد وهو غض الصبى ... وخلف الحسرة في أهله وقابلته في الجنان العلى ... ملائك لله في شكله واهاً له من غصن ما نما ... حتى ذوى واجتث من أصله سابا أبك لكن كالحكيم الذي ... يخاف أن يطعن في نبله واصبر فكم من جزع آكل ... من صحة المرء ومن فضله فالليث لا تنسيه أحزانه ... مقامه أن ضيم في شبله - إسماعيل صبري

قطرة دم لقي خليل أفندي مطران منذ أيام سيدة في إصبعها خاتم فصه من الياقوت فقال لصاحب كان معه: حذار لقلبك من لحظها ... فما فيه من رحمة للمحب ألم تر في يدها خاتماً ... به قطرة الدم في شكل قلب؟ خليل مطران عطفاً على الفقراء ابني القصور بني الأطالس والغنى ... عطفاً على فقراء هذي الدار هم في الكهوف على الحضيض وأنتم ... بين الرياض وباذخ الأسوار هم للأنين على الشقاء وأنتم ... لرنين حلي أو رنين سوار هم يشربون من الدموع وأنتم ... بين الكؤوس ورنة الأوتار هم ينزعون إلى الرغيف وأنتم ... تتناولون الخبز بالقنطار هم بين أشواك الحياة وانتم ... فوق الصدور منابت الأزهار أنتم بأثواب الحرير وهم كما ... ولدوا وإن سعدوا ففي أطمار هم في الجحيم وأنتم في جنة ... أنتم على بردى وهم في النار فتفقدوا يا قوم إخواناً لكم ... هؤلاء أيضاً من صنيع الباري شبلي ملاط أنا والبدر أنا كالبدر عاشق وكلانا ... ساهر الجفن خاشع الطرف صابر نقتل الليل صامتين لئلا ... يعلم الليل ما تجن الضمائر

ونذيب الأنفاس في الصدر كيلا ... تكشف السر نار تلك المجامر يا سميري في وحدتي لا تدعني ... في سكون الظلام وحدي حائر وحشة الليل والفؤاد فهل لي ... يا شريك الأسى سواك مسامر تتجلى يا بدر فيك معان ... من حبيبي إذ كان مثلك زاهر قد تشابهتما جمالاً ولطفاً ... وكمالاً في الخلق للب ساحر وتخالفتما مقاماً ووقعاً ... أنت في العين وهو في القلب حاضر وليم غرزوزي النحو في الشعر سألتني عن التنازع يوماً ... غادة بالجمال تسبي وتصبي قلت إن كان للتنازع معنى ... فهو ما بين ناظريك وقلبي أمين ناصر الدين خلقت جميلاً خلقت جميلاً ولم تعطف ... وفيك الحنان ولم ترأف وتقتلني سهام اللحاظ ... وتوهم أنك لم تعرف فإن كان طبعك هذا الدلال ... فالله للمغرم المدنف وإن كان ذنبي لديك الهوى ... فعذري في حسنك اليوسفي قوامك يوصف بالاعتدال ... فما بال قلبك لم ينصف ولي من عيوني عيون تسيل ... ولكن ناري لا تنطفي فلا تحسب الدمع لي عادة ... فدمعي لغيرك لم يذرف إبراهيم العرب

عهد الطفولة طوت عهود الصبى يد القصر ... وشوبت صفوهن بالكدر طفولتي أين أنت من زمن ... وأين ليل الغرام من سمر طفولتي ردك الزمان وكم ... أعطى ورد الزمان من أثر طفولتي هل إذا ذكرتك بالدم ... ع تفيد الدموع في الذكر يرحم الله منك ماضية ... من الليالي مضت مع السير زمان كانت (فلانة) معنا ... درة تجتلى من الدرر زمان كان الهوى لعهدك بي ... رضيع ثدي الآصال والبكر نامياً مثلنا ومفتقداً ... منتظر الظل مرتجى الثمر وارداً صادراً هناك ولم ... نعلم بذاك الورود والصدر ونحن قلبان خافقان على الأر ... ض خفوق الحيا على الشجر وحولنا صبية مجمعة ... كأنهم باقة من الزهر * * * أين نداء البنات (يا ولد) ... يمزجن جد المقال بالهذر وهن مثل القطا إذا انتثرت ... يلقطن حب القلوب في السحر تمشي التي لا اسمها بمنكشف ... عندي ولا حبها بمستتر مشي غزال النقا إذا طرحت ... عليه إحدى حبائل النظر خضباء من دمعها على زمن ... كنا به درتين في نر تكاد في العين من ملاحتها ... تنزل في العين منزل الحور وأنزل الله في امرئ عزلا ... أنزل فيها جوامع السور فقل لمن ينكرون قدرته ... لتلك إحدى عجائب القدر

وقل لمن يعبدونها سفهاً ... لهذه صورة من الصور وقل لمن يدّعى الغرام بهم ... خذ بجميع الغرام أو فذر وقل لمن يعذل المحب أفق ... لهذه عبرة لمعتبر * * * آه من الحب لا رماك به الل ... هـ فإن المحب في سقر فاختبر أمره على حذر ... منه فليس العيان كالخبر #يا ويلتاه عليك يا كبدي ... من حاكم جائر ومقتدر لقد جهلنا الغرام في الصغر ... وهل عرفنا الغرام في الكبر أخاطر في الرؤوس منبعث ... شعاعه في النفوس بالشرر وهاجس جاعل مطاوعه ... بين الورى سخرة من السخر وحاجة كل أمرها عجب ... منوطة بالبكاء والسهر طلاسم تلك لست أعرف من ... يحلها غير فاطر البشر عبد الحليم المصري البنفسجة لما أرادت ربة الأزهار أن ... تأتي الطبيعة بالأرق الألطف خلقت بنفسجة الحقول وأصبحت ... منفتونة بجمالها المستطرف حتى إذا غادرت على حسناتها ... وغدت تود بأنها لم تقطف قالت لها ماذا أزيدك يا ابنتي ... حتى تصيري آية اللطف الخفي قالت إذا شئت المزيد فغطني ... يا أم بالوراق حتى اختفي طانيوس عبده

سادوم وعامورة

سادوم وعامورة ايه أهل سادوم وعامورة، اسروا وجوهكم عن مرأى ضياء الآلهة وضعوا أصابعكم في أذنيكم لئلا تسمعوا توبيخ الرب، بلغ سيل آثامكن الربى، فها وجه السماء يكفهر. فعن قريب ستمطركم ناراً وكبريتاً، وتحول قصوركم الشامخة التي تنبعث منها روائح الفساد والخطيئة إلى مستنقعات آسنة، وبحيرات مالحة. قصة تاريخية قرأناها منذ نعومة أظفارها ثم تركناها في إحدى زوايا ذاكرتنا غير عالمين أن ما يسطره المؤرخون عن حوادث الأقدمين إنما هو عبرة للمتأخرين. من هم أهل سادوم وعامورة؟ هم أبناء هذا الجيل، ومعاصرو القرن العشرين الذي نصفه بالمدنية تمويهاً وتفاخراً. فلا تغرنك الاختراعات والاكتشافات، وما أتينا من باهر الحكمة في سن النظامات، وضبط قواعد اللغات، وبقطر بطن الأرض وانتزاع أحشائها، واختراق كبد السماء بمراكبنا الهوائية غير ذلك من مستنبطات هذا العصر. فما هذه إلا زخارف نزين بها جدران تلك القبور المكلسة كي تلهي الناظر وتشغل الخاطر. . . فنحن نحن المتمدنين الذي امتلكوا ناصية الهواء والماء وكادت الطبيعة بأسرها تكون رهن أمرهم نحن أهل سادوم وعامورة. ولا يخدعنك من باريس لطافتها ورقتها، ولا من لندن فخامتها وعظمتها، ففيهما

تتمثل اليوم فظائه تينك المدينتين بالأمس. . . يخون الصديق صديقه، ويتعمد الأخ قتل أخيه. ويشاحن الزوج زوجته. ويعق الأبناء آباهم، فلا حب ولا مقة، ولا عهد ولا ثقة. أسرت الشهوات القلوب، وغلت الأهواء الأفئدة بأصفاد فولاذية فاختفت الرحمة وأسلم الحنان الروح. بهر البواصر بهاء الفضة، وخلب القلوب لمعان الذهب. فخر الناس ساجدين وأوقدوا شموع عواطفهم على مذبح الجشع الأشعبي. فما بالكم يا أهل سادوم وعامورة مسترسلين في الغرور ومنغمسين في الشرور، كأن لا صجعة في القبور، ولا حشر ولا نشور، أنسيتم باريكم أم تناسيتموه فدستم وصاياه المقدسة، أني وجدانكم يناقشكم الحساب وينخسكم بمهماز تأنيبه؟ أراكم به لا تشعرون. ولكن صوت الضمير يرن في أعماق صدوركم فترتعد النفس جزعاً وتضطرب هلعاً، فهنالك الجحيم وهنالك جهنم منك وفيكم. تعال معي أيها القارئ نمتط مناط التصور، ونمر على بني البشر لنشاهد بعض أعمالهم. . . أترى ذلك الإنسان الذي يشبه قول عنتر: بنواظر زرق ووجه أسود ... وأظافر يشبهن حد المنجل ماسكاً بعنق رجل آخر وهو يقوده إلى دار القضاء ليفي الفلس الأخير، انظر هناك شخصين في مقتبل العمر متشابهي الملامح وأظنهما شقيقين. ولكن تفرس ففي يد الأكبر مدية يتعمد بها طعن أخيه. هناك رجلان يتخاصمان على بعض دريهمات لم يتفقا عليها، وهنا كهل جالس مع بغي ينظر إليها نظرة الظفر بعد أن قتل مزاحمه المضرج أمامه بدمائه.

محاكم الأحداث

هيا إلى تلك البقعة السوداء تر جماعة كالأبالسة شكلاً يتآمرون على السرقة والفتك. هناك في تلك البناية الباسقة المتلألئة بالأنوار جماعة من الشبان يتناولون بأقداح بلورية سائلاً يقتل الشعور، ويميت الفضيلة. هذا ربح مال رفيقه حراماً بالميسر، وهذا خسر ما تملكه يده فانتحر. وهناك وراء البحار دخان متصاعد في الفضاء ورعود قاصفة وبروع لامعة وأشلاء متطايرة هناك نار الحرب شبها الطمع فذهبت بالأرواح والأموال ولم تبق ولم تذر. . . يا أهل سادوم وعامورة! إن السماء أزمعت أن تصب عليكم جام غضبها، فاقلعوا عن هذا الغرور فليس من إبراهيم يشفع بكم إلى الله. أو هل بينكم عشرة أبرار تتذرعون بهم لديه فتنجوا من عذاب اليم؟ أين نجد هؤلاء الصالحين؟ لا أدري، فتش معي أيها القارئ، فقد أعياني البحث والتنقيب، ولم أظفر بضالتي المنشودة. حمص بدري فركوح محاكم الأحداث يقف الإنسان لدى هذه المصاعب والأسباب مدهوشاً بائساً لا يدري طريقاً للعمل. لكن صاحب الإقدام والسعي لا يخيب له أمل. فيحسم الداء قبل أن يبتلى به ويدفع الأمر قبل وقوعه وذو العدة لا تعييه الحيلة التي يرجو بها المخرج من هذه المصاعب بالوسائط والذرائع التي يتوفق إلى إيجادها.

ولبيان خطورة الأمر وحرج الموقف زر السجون على اختلاف طبقاتها تر ما لم تكن تتصوره من الشرور والآثام. تر الشرط متجسداً بأجساد بشرية تعمل على خراب الإنسانية ودمارها. ت رجالاً ونساء وأولاداً أنمة قتلة أشراراً لا ناموس لهم ولا ضمير يردعهم عن شرورهم ومعاصيهم يصرفون معظم أوقاتهم بالأحاديث القبيحة الفاسدة. تصوراتهم رديئة كأخلاقهم وأعمالهم وكلامهم لا تقدر الأذن على سماعه فماذا يحل بحدث صغير يزج بمكان كهذا؟ أنلومه بعد ذاك ونعاقبه العقاب تلو العقاب لأعمال كنا نحن السبب بغرسها في نفسه. ونقول بعد هذا كله ما غرضنا إلا إصلاحه وإرجاعه إلى سبيل الرشاد. أفهكذا يكون الإصلاح وهل يتم تقويم المعوج بطرق كهذه. إن هي إلا طرق يشتم منها آثار الهمجية والظلم. آثار الأعصر الماضية المظلمة. فقد أصبحنا وعصرنا اليوم يختلف تمام الاختلاف عما سبقه من العصور الخوالي فما بالنا نستعمل ما كانوا يستعملونه في تلك الأيام؟ هل قعد الدهر بالإنسان فتقدم في كل أمر وشان إلا في مسألة القضاء والأحكام إذ ما فتق له عقله استعمال الوسائط والأسباب لتخفيف مصائب الإنسانية الصغيرة المظلومة. اجل. فقد كان الناس فيما مضى لا يهتمون للجاني وإصلاحه بل كان جل مقصدهم إصلاح ما أضر به وأفسده فيصرفون قواهم وأوقاتهم لإرجاع مسروق واسترداد مسلوب. أما الآن فصرنا ننظر إلى المذنب الجاني نظر الطبيب إلى المريض لنرد إليه ما فقده من الحرية الشخصية لإساءته

استعمالها وقصدنا الوحيد إصلاحه وإرشاده. هذا إذ كان رجلاً مدركاً كبيراً فكيف إذا كان ولداً عاجزاً صغيراً. ولشرح كيفية معاملة الحدث في محاكم الأحداث قد أخذت دليلنا محكمة واحدة من هذه المحاكم وهي محكمة أنفر من ولاية شيكاغو إحدى الولايات المتحدة الأمريكية وذلك لأنها كانت أول ما نشأ من نوعها في تلك الولايات ولأن كل ما قرأته وحصلت عليه من الكتابات في هذا الموضوع عائد بالفضل إلى مؤسساها الفاضل إذ تكرم علي ببعض نسخ من مؤلفات له وضعها في هذا الموضوع نفسه. ومحكمة انفر هذه مشهورة في تلك البلاد لشهرة مؤسسها فإنه كان منذ أول نشأته ميالاً إلى السياسة فصار متشرعاً ثم قاضياً إلى أن أحرز رئاسة محكمة ولاية شيكاغو وذلك سنة 1899 لأنه يمتاز بكفاءته وشدة ميله إلى الاستقلال الفكري والإداري. وأخيراً اهتم بأمر إصلاح شؤون الأحداث ومحاكمتهم إذ انتبه إلى حالتهم الرديئة ومعاملتهم السيئة، وبعد جهاد عنيف تمكن من إنشاء محكمة مختصة بهم للنظر في شؤونهم وأحوالهم فاستقال من منصبه العالي وأخذ على نفسه إدارتا وتنظيمها إلى أن تم له ذلك فنشأ لنجاحها عدد كبير مثلها في أغلب الولايات الأمريكية. وإليك بيان مجرياتها باختصار: يحضر المتهم إلى المحكمة فلا يرى هيئة المحكمة على كراسيها وراء المنابر بل عند دخوله يستقبله القاضي بوجه ضحوك ويجلس بجانبه ويأخذ بمحادثته كأنه ولد مثله إلى أن تتمكن بينهما عرى الألفة والمودة. فيثق

الولد به ويعتمده. فيفهمه القاضي أن هذه المحكمة ليست كغيرها من نوعها تهويلاً وتعذيباً فجل مرادها مساعدته لإصلاح نفسه بنفسه، ومتى وثق الولد بالقاضي ائتمنه وأطلعه على كل ما يريد الاطلاع عليه فيشرع بتشجيعه وإنهاض غيرته فيستفز حميته بالكلام المؤثر اللطيف. يلقي عليه النصائح المتعددة ويخبره جلياً بالأضرار الناتجة عن قبح أعماله وسوء تصرفه وكم يعاني غيره من جراء أعمال يحسبها هو طفيفة لا تأثير لها ولا ضرر. فيشرح له واجباته نحو نفسه أولاً ثم واجباته نحو حكومته وبدلته ومحيطه وكيف أنه بسلوكه وتصرفه يقدر هو نفسه أن يؤثر في محيطه فبلدته فحكومته بكونه عضواً حياً عاملاً على نجاحها ورقيها. ثم يريد تدريجاً وجوب إطاعة الأوامر والنظامات ويبين له كيفية التصرف والسلوك الحسن وبالإجمال فإن القاضي بكلامه وأفعاله وأمثاله ينفث فيه روحاً جديدة كانت كامنة فيه فتهيج معها عواطفه فيرى قبح أعماله السابقة وأفعاله الماضية فيندم على ذلك أشد الندم ويشعر من جهة أخرى بواجباته ومسؤوليته ويعلم أن مقابل هذه المسؤولية والواجبات حقوقاً كان قد خسرها بإهماله تلك. فيعد القاضي وعداً صادقاً مخلصاً بتغيير سلوكه ومنهاج حياته. فيطلق القاضي سراحه بعد أن يثق بكلامه تمام الوثوق. فيخرج الولد شاعراً بروح شريفة تجددت فيه ونفس نشيطة تحثه على إتمام واجبات طالما أهملها سابقاً. هذا هو سر المحكمة وقوامها الوحيد فإنه لا شيء يؤثر في نفس الولد ككلام اللطف المنبعث من صدر شفوق ونفس حساسة تود خيره

ونجاحه ومتى شعر الولد بذنبه وأقر به هانت طريقة إصلاحه وإرجاعه عن ضلاله. ولكن كثيرين لا يتمكنون من تغيير سلوكهم لأول مرة وما ذلك إلا لشدة تأثير المحيط عليهم أو لتمكن عاداتهم وأخلاقهم منهم فيصعب نزعها حالاً. فتنقلهم المحكمة إلى محيط يشجعون به على عمل الحسن والمعروف فينسون أعمالهم السابقة ولا يرجعون إليها. وإن عاد احدهم إلى سابق أعماله يعيد عليه القاضي الكرة فيسمعه النصائح والمواعظ ويورده طريق السير والعمل ثانية فيتغير بمداومة النصح والإرشاد وقد يحدث له ما يميله عنها فلا تؤثر فيه. فترسله إذ ذاك المحكمة إلى إحدى مدارس الحكومة الصناعية التي لها علاقة بها فيدرب هناك على نظامات وتعاليم تؤديه طريق الصواب والصراط المستقيم. هذا وقد يبقى الواحد مع كل هذه الوسائط ميالاً إلى الشر لا يحيد عنه فيعسر طريق إصلاحه وهذا نادر شاذ ولا يقاس على الشواذ. توفيق جريديني قالن ابن المقفع: ليس من خلة هي للغني مدح إلا هي للفقير عيب: فإن كان شجاعاً، سمي أهوج؛ وإن كان جوّاداً، سمي مفسداً، وإن كان حليماً، سمي ضعيفاً؛ وإن كان وقوراً، سمي بليداً، وإن كان لسناً، سمي مهذاراً؛ وإن كان صموتاً، سمي عيياً.

ثمرات المطابع

ثمرات المطابع المعلوم والمجهول أصدر ولي الدين بك يكن الجزء الثاني من كتابه المعلوم والمجهول في نحو 160 صفحة مطبوعة طبعاً جميلاً في مطبعة المعارف المشهورة ومزينة بصور بعض الذين ورد ذكرهم في الكتاب، وبرسوم الأماكن التي عرفها المؤلف إبان وجوده في المنفى. ولو كان ولي الدين يكن من الأدباء الذين لا يكترث لهم، أو لو كان كتابه هذا من الكتب التي تهمل في زاويات المكاتب، لزدنا على ما قلناه الآن كلمة الثناء ثم وقفنا عند هذا الحد. ولكن الزهور لا تنظر إلى ما يهدى إليها من المبوعات نظرة التقريظ المبتذل فقط، ولا تكتفي بذكرها لمجرد الإعلان عنها ولاسيما متى كان الكتاب كتاب المعلوم والمجهول، والكتاب ولي الدين يكن. طالعنا هذا الكتاب بما يستحقه من الإمعان والتدقيق فرأينا فيه أنموذجاً من السياسة العثمانية تجاه الأفراد العثمانيين في خلال ثلاثة وثلاثين عاماً من سلطنة السلطان عبد الحميد الثاني. بل هو تاريخ في شخص وليا لدين بك يكن لحياة الأحرار الذين اضطهدهم العهد العثماني الماضي. وفي رأينا لو أن كل واحد من أولئك الذين تمكن منهم عبد الحميد وحكومته، قرأ هذا الكتاب، لتوسم أنه يقرأ فيه تاريخ حياته الخاصة فما

يختلف عليه سوى الأسماء والتواريخ. أما الوقائع والظروف فمتشابهة متماثلة، وأما الفظائع والمظالم فهي هي. فإذا كان ولي الدين قد كتب في المعلوم والمجهول تاريخ اضطهاد ونفيه فإنما وصف في شخصه شقاء

إخوانه الذين ابتلوا بمثل بلواه، وقاسوا من الشدائد ما قاساه. ولولا أنه قد رأى هذا الرأي من قبل ما أقدم على كتابة المعلوم والمجهول فإن في أخلاقه من الدعة والتواضع ما يربأ به عن نشر هذا التاريخ لمجرد التباهي اليوم بما لقيه بالأمس، والافتخار بما نزل به من مظالم العهد الحميدي ولعله أشار إلى ذلك حيث قال: لا أبالي الثناء ولا أبالي الهجاء، وإنما أبالي أن يصدق فيّ أحدهما الجزء الثاني من المعلوم والمجهول، كالجزء الأول منه وكلاهما كالصحائف السود صورة مجسمة لنفس ولي الدين. إنني لا أعرف كاتباً أو شاعراً عربياً في يومنا الحاضر أقدر من صاحب المعلوم والمجهول على تصوير العواطف وتمثيل الشعور. اقرأ له أية قصيدة شئت وأي مقال أردت فإنك تحس أن نفسه تسيل مع ألفاظه وقلبه يتمشى بين كلماته وسطوره. هذه الجمل القصيرة المقطعة التي لا تربطها الواوات والفاآت، ولا تتخللها عنجهية بعض الكتاب وتقعره وتصنعه في الإنشاء، وتثاؤبه في كل جملة من جمله حتى ليتثاءب معها القارئ وتجيش لها النفس، هذه الجمل المنتقاة ألفاظها، والسليم تركيبها، تؤثر في النفوس تأثير السلافة في الرؤوس. ولقد يقول قائل إن ولي الدين في شعره أسمى منه في نثره، فأرده حينئذ إلى المعلوم والمجهول فأريه ذلك الشاعر الرقيق الحساس، ناثراً ملء قلمه الفصاحة والبيان، وملء تعابيره البلاغة والإيجاز السليم، وملء وصفه للأشياء وللحوادث سلامة الذوق، ونزاهة الفن حتى لكأنه يكتب

بريشة رافائيل فيصور العواطف تصويراً، ورسم المعاني رسماُ، وما الكاتب القدير إلا من استرق إليه النفوس، وملك قيادها فتلاعب بها ما شاء وما شاء له التفنن والإبداع، فصير قارئه أسيره وطوع إرادته يضحك لضحكه، ويغضب لغضبه. كذلك رأيت ولي الدين. فهو يرضيك ساعة الرضى ويستبكيك حين يبكي حتى تكاد تلمس دموعه لمس اليد، وتحس بناره تتأجج من خلال ألفاظه وهي تأكلها أكلاً. ولقد وقفت أنظر إليه وأتأمله في وداعه للأستانة يوم اكره على مغادرتها في الليل أسيراً منفياً، تاركاً أهله وولده، غير عالم إلى أين مصيره، وسمعته يتحسر على فروق ويتأوه على البوسفور، فخلت أني أسمع أنينه بأذني، وأرى شقاءه بعيني، وألمس جراحه بيدي. ورأيته وهو يكتب نثراً كأنه ينظم شعراً، بل رأيت في تفجعه الشعر الحقيقي مجرداً عن الوزن، طليقاً من القافية، فقلت في نفسي إنما هذا أرمياء آخر يبكي على أورشليم جديدة. فإلى الأدباء كتاب المعلوم والمجهول فهو من خير ما تحتويه المكاتب، ومن أنفس ما يخلد فيها من نفائس المطبوعات في هذه الأيام. وجزى الله كاتبه خير الجزاء وعفا عنه. نعمان خوري قنصل فرنسا هو اسم رجل عرفه وعرف مآثره الطيبة أبناء الشرق والغرب فقد ولد في بكاسين من أعمال لبنان ودرس اللغات العربية والتركية والفرنسوية والإنكليزية في بيروت فنبغ فيها ولم يلبث أن سافر إلى عاصمة الفرنسيس

حيث ساعد في تحرير مجلة سياسية كان يديرها السياسي الكبير مسيو ليون غامبتا فتمكن من إظهار صفاته الممتازة فعينه الحكومة الفرنسوية موظفاً في البلاد التونسية فكان ذلك بداية عهده في السلك السياسي. وظل صاعداً في معارج الترقي حتى عين سنة 1894 ترجماناً وقنشلياراً لقنصلية فرنسا في القاهرة ورقي بعد سنتين إلى درجة فيس قنصل وبعد أن عهدت إليه حكومته بمهمة خصوصية في بلاد الحبشة سمي قنصلاً في سيواس فعدن فجدة فحرر (في الحبشة) فالصويرة (مغادور). وفي سنة 1910 رأت الحكومة الفرنسوية أن ترقيه إلى رتبة قنصل من الدرجة الأولى. وكان في جميع هذه الوظائف التي تقلدها موضوع ثقة حكومته وإعجاب رؤسائها. وفي 15 أغسطس سنة 191 عاجلته المنية في ميدان عمله فراح شهيد الواجب. وقد رأى حضرة المسيو جان ريفول أن ينشر مآثار هذا الفقيد الكريم فطبع ترجمة حياته المملوءة بالأعمال المجيدة. وكأنه أبى أن يكيل له المدح جزافاً فشفع هذه الترجمة بخطابات التعيين التي كان يتلقاها الفقيد في وظائفه من أساطين السياسة - كفليكس فور وهانوتو ودلكاسه - وبمكاتيب وتلغرافات التعازي التي وردت بعد وفاته. يلي ذلك تآبين رجال السياسة له وخصوصاً تأبين مسيو بيشون وزير خارجية فرنسا الأسبق، وأقوال

أزهار وأشواك

أمهات الجرائد الفرنسوية. وكلها تشهد للفقيد بحرية الفكر وأصالة الرأي وطيب السريرة والثبات في العمل. طالعنا كل ذلك في كتاب مسيو ريفول فرأينا كيف يقدر الرجالُ الرجال، وكيف يكون الناس بالأعمال. فنشكر الكاتب على كتابه ونكرر تعزية آل الفقيد ولاسيما حضرة شقيقه مسيو نجيب خوري الموظف بالحكومة التونسية وابن عمه سليم أفندي الخوري الموظف في نظارة الداخلية المصرية. وننشر رسماً للفقيد أخذناه عن مجلة الالوستراسيون وهو يمثله بملابس المكتب. أزهار وأشواك باب للرزق أصبح غلاء المعيشة فاحشاً وصارت أبواب الرزق أضيق من سم الإبرة. والناس عاملون جادون لاستنباط حيلة أو لإيجاد وسيلة تفتح بوجههم باب الفرج وهم لا يجدون. مرة واحدة في حياتي أريد أن أكون اقتصادياً لعلي أصيب بعض النجاح فينجح معي من يقبل على مشترى أسهم مشروعي. ولا تزيدني التفاليس المالية الكثيرة في هذه الأيام إلا إقداماً. وإليك هذا المشروع الغريب الذي تنازل لي عن امتيازه أحد الأمريكان: نهتم بتربية القطط فنجمع منها مليوناً. وكل قطة تلد في السنة 12 وجلد القطعة البيضاء يساوي 5 بنسات وجلد السوداء 3 شلنات فيمكنا أن نقدر ثمناً متوسطاً لكل جلد شلناً و3 بنسات. وهكذا يتوفر

لدينا في السنة 12 مليون جلد يبلغ معدل الدخل من بيعها ألفي جنيه إنجليزي في اليوم. هذا من حيث الإيراد أما من حيث النفقات فإن العامل الذي يتقاضى أجرة يومية 8 شلنات يقدر أن يسلخ 50 قطة في اليوم. وهذا المشروع يحتاج إلى ألف عامل فيكون صافي الإيراد اليومي بعد دفع أجرة العمال ألف جنيه. بقيت مسألة تغذية هذه الحيوانات. وسنحلها بتربية الجرذان قرب القطط. ومن المعروف أن الجرذان تتناسل أربع مرات أكثر من القطط، فيكون عندنا أربعة جرذان لكل قطة وفي ذلك كفاية. أما الجرذان فنغذيها من جثث القطط بعد سلخها. وهكذا تأكل الجرذان القطط وتأكل القطط الجرذان ونأكل نحن الجلود - أعني الأرباح الناتجة من بيعها - وقدرها ألف جنيه في اليوم. فما قول أصحاب الرأسمال في هذا المشروع؟ هم يضحكون مني ومن مشروعي وأنا أضحك معهم. ولكن قد مرت أيام على القطر المصري كان يكفي فيها أن تتصور المخيلة مثل هذه الألاعيب المالية لتتسرب الأموال الطائلة إلى جيوب مخترعيها. وما العهد ببعيد. وما تفاليس اليوم إلا معلولات تلك العلل. . قلب من ذهب أهدى صديقي حسون الذي يعرفه قراء الزهور قلباً من ذهب إلى إحدى السيدات، وأرفق القلب بأبيات جميلة أطلعني عليها. هديته الذهبية كانت للسيدة؛ أما هديته الشعرية فإنها لها وللقراء، وهي:

جرائد جديدة

يا ليت قلبي معدن مثل الذي ... أهديته لا يعرف الخفقانا لصبرت فيك وأنت أظلم ظالم ... وحملت منك الهجر والسلوانا لكن قلبي شبه أوتارٍ إذا ... ضربت شكت نغماتها الأشجانا أو ما رأيت نحولها كنحولنا ... شبح يؤثره الأثير كلانا أن تضربي وتر الفؤاد فحاذري ... بالضرب من أن تقطعي الشريانا أو كان لا يرضيك إلا دامياً ... ليت الذي ما بيننا ما كانا حاصد جرائد جديدة الجديد - جريدة أصدرها في سان باولو من أعمال البرازيل نجيب أفندي نسيم طراد الكاتب المشهور وفارس أفندي نجم. إن لها من اقتدار صاحبيها الفاضلين ما يكفل لها النجاح. البرهان - جريدة ينشئها في طرابلس الشام حضرة الكاتب المعروف الشيخ عبد القادر المغربي فنتمنى لها الانتشار الذي تستحقه. البيرق - جريدة أسبوعية أنشأها في الحدث (لبنان) حضرة نجيب أفندي شديد عقل وسعيد أفندي فاضل عقل من أفاضل الأدباء المعروفين في سورية فنرجو لها النجاح. المراقب - دخلت جريدة المراقب الغراء التي ينشئها في بيروت حضرة الكاتب الفاضل جرجي أفندي عطية في سنتها الرابعة مطردة خطته الجميلة. جبل عامل - جريدة أسبوعية يصدرها في صيدا (سورية) حضرة الكاتب لمعي أحمد أفندي عارف الزين صاحب مجلة العرفان الزاهرة فنؤمل لها مزيد الانتشار.

ختام السنة الثانية

ختام السنة الثانية تختتم الزهور بهذا الجزء سنتها الثانية شاكرةً للقراء إقبالهم عليها ولأدباء اللغة العربية تعضيدهم لها بنفثات أقلامهم، حتى لقد جاءت مجموعتها الثانية، كمجموعتها الأولى، معرضاً لخير ما جادت به قرائح المشاهير من كتاب العصر، فقد بلغ عدد الذين راسلوها في هذه السنة وحدها سبعين كاتباً وشاعراً. على أننا نرغب إلى قرائنا في أن يوافونا بما يرونه من عوامل التحسين، فالزهور إنما هي لهم ومنهم.

العدد 22

العدد 22 - بتاريخ: 1 - 3 - 1912 السنة الثالثة تدخل الزهور مع هذا الجزء في سنتها الثالثة وهي عاملة على إتحاف قرائها بكل ما لذَّ وطاب من ثمرات القرائح الناضجة والعقول المفكرة. فالأجزاء التي ظهرت منها إلى اليوم تؤلف سلسلة مقالات شائقة وعقداً من القصائد الغراء لأشهر حمَلة الأقلام في مصر وسوريا والعراق. وإذا نحن فاخرنا بذلك فإنما نحن نفاخر بمآثر كتاب العربية وشعرائها في هذا الجيل. على انهُ ليسرنا أن يرى أبناء لغتنا أن الزهور كانت في خلال عامين ماضيين من جملة البواعث على تأييد النهضة الأدبية الحديثة التي تزداد اتساعاً يوماً فيوماً بفضل عوامل النشر الجديدة. ولقد عقدنا العزم على متابعة السير إلى الأمام ونحن على رجاء إن نتمكن من توفير أسباب التحسين في عملنا جهد المستطاع.

ترجمة الشيخ محمد بن عبد الوهاب

ترجمة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رأس الوهابية تقدم الكلام في هذه المجلة (2: 287) عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رأس الوهابية بمنزلة كونه منهض دين الإسلام في النجديين عند انحطاطه فيهم , والآن نذكر ترجمته لكونه عالماً ناشراً الآداب في بلاده , نلخصها عن عدة كتب مخطوطة , منها: كتاب عنوان المجد. في بيان أحوال بغداد والبصرة ونجد , للسيد إبراهيم فصيح الحيدري , وكتاب روضة الأفكار والإفهام , لمرتاد حال الإمام , وتعداد غزوات ذوي الإسلام , للشيخ حسين بن غناَّم الإحسائيّ , فنقول: 1 - الشيخ محمد من بيت علم - كان أبوه الشيخ عبد الوهاب عالماً فقيهاً على مذهب الإمام احمد بن حنبل؛ وكان قاضياً في بلدة العُيينة , ثم في مدينة حريملة (تصغير حرملة) , وذلك في منبلج القرن الثاني عشر من التاريخ الهجري , وكان له معرفة تامة بالحديث والفقه والتفسير وغيرها , وله أسئلة وأجوبة في هذه الأبحاث. وكان والد الشيخ عبد الوهاب الشيخ سليمان عالماً فقيهاً أعلم علماء نجد في عصره , وله اليد الطولي في العلم , وانتهت إليه رئاسته في نجد. صنَّف ودرَّس وأفتى. إلا أن الشيخ عبد الوهاب , وجده الشيخ سليمان , بل كان شديد التعصب , كثير الاعتراض على العلماء , ويجوّز قتال من خالفهُ , بل يعتقد كفره , ويسمي قتال المسلمين المخالفين لآرائه

جهاداً في سبيل الله ويجعل أموالهم كغنائم أهل دار الحرب , ويمنع من قصد زيارة صاحب الدعوة والاستغاثة والاستشفاع بهِ إلى الله تعالى , إلى غير دلك مما يطول شرحه. 2 - سعيه في ترقية العلم في بلاده - سعى الشيخ غاية السعي في تعليم الناس العلم وحثهم على الطاعة , وأمرهم بتعليم أصول الإسلام وشرائطه , وأحكام الصلاة وأركانها وواجباتها وسنتها وسائر أحكام الدين , وأمر جميع أهل البلاد بالمذاكرة في المساجد كل يوم بعد صلاة الصبح وبين العشائين في معرفة الله تعالى , فلم يبقَ أحد من عوام أهل نجد جاهلاً بإحكام الدين , بل أتقنها جميعهم , بعد أن كان أغلبهم جاهلاً لها إلا الخواص منهم وقد أخذ عنه عدة مشايخ منهم: أبوه الشيخ عبد الوهاب , والشيخ محمد بن حياة السندي المدني , والشيخ عبد الله بن سيف وغيرهم وقد قدم الشيخ محمد إلى بغداد وأخذ العلم عن السيد صبغة الله الحيدري وعن غيره. 3 - أولاده وأحفاده - ولد للشيخ محمد أربعة أولاد وكلهم تلقوا العلم عن والدهم , وأسماؤهم: الشيخ حسين , والشيخ عبد الله , والشيخ علي , والشيخ إبراهيم. فأما الشيخ حسين فهو خليفته من بعده والقاضي في بلد الدرعية. ولحسين المذكور عدة أولاد علماء وهم: علي وحمد وحسن وعبد الرحمن وعبد الملك. وأما الشيخ علي ابن الشيخ محمد فكان عالماً في الأصول والفروع والحديث والفقه والتفسير , وكان قاضياً في حوطة بني تميم , ثم ولي

القضاء في الرياض في أيام فيصل بن تركي وأما الشيخ عبد الله ابن الشيخ محمد فكان عالماً جليلاً وله مصنفات عديدة. وهو الخليفة بعد أخيهِ الحسين. ولي قضاء الدرعية في زمن سعود وابنهِ عبد الله وأما الشيخ إبراهيم ابن الشيخ محمد فكان عالماً أيضاً , لكنه لم يولَّ القضاء وحسن بن حسين كان فقيهاً , وولي القضاء في الرياض في عهد تركي وعبد الرحمن بن حسن كان من العارفين للفقه أتم المعرفة وكان قد أصاب سهماً حسناً من التفسير والنحو وغير ذلك. وُلّي القضاء في ناحية الخرج في أيام تركي وفيصل وأما حمد وعبد الملك فكانا من طلبة العلم وأهل الذكاء والمعرفة وممن أخذ العلم عن الشيخ محمد عبدُ الرحمن بن حسن ابن الشيخ محمد (وهو ابن ابنهِ) , وقد وُلي القضاء في الدرعية في عهد سعود الأمير المشهور. 4 - كلمة عامة في صفاته - كان الشيخ محمد نع وفرة علمه من دهاه العرب أيضاً. والذي ميزه عمن سواه تشديده في بعض الأصول والإحكام ومخالفته للإمام احمد بن حنبل وما عليه جمهور الحنابلة في كثير من المسائل. 5 - وفاته ورثاؤه - توفي الشيخ المذكور وله من العمر اثنتان وتسعون سنة. ورثاه كثير من شعراء نجد وغيرها. وممن رثاه الشيخ حسين بن غنام بالقصيدة الآتية , وفيها ما يدلك على كيفية النظم وأسلوبه

في تلك الديار في منبلج صبح القرن الثالث عشر للهجرة. وفي القصيدة بعض أغلاط لعلها من الناسخ ونحن نذكرها على علاتها: إلى الله في كشف الشدائد نفزع ... وليس إلى غير المهيمن مفزع لقد كسفت شمس المعارف والهدى ... فسالت دماء في الخدود وأدمع إمام أصيب الناس طرأ بفقده ... وطاف بهم خطب من البين موجع واظلم أرجاء البلاد لموته ... وحل بهم كرب من الحزن مفظع شهاب هوى من أفقه وسمائه ... ونجم ثوى في الترب واراه بلقع وكوكب سعد مستنير سناؤه ... وبدر له في منزل اليمن مطلع وصبح تبدى للأنام ضياؤه ... فداجي الدياجي بعده متقشع لقد غاض بحر العلم والفهم والندى ... وقد كان فيه للبرية مرتع فقوم جلا عنهم صدا الدين فاهتدوا ... فإسماعهم للحق تصغي وتسمع وقوم ذوو فقر وجهد وفاقة ... حووا واقتنوا ما فيه للعيش مطمع لقد رفع المولى به رتبة الهدى ... بوقت به يعلى الضلال ويرفع أيان له من لمعة الحق لمحة ... أزيل بها عند حجاب وبرقع سقاه نمير الفهم مولاه فارتوى ... وعام بتيار المعارف يقطع فأحيا به التوحيد بعد اندراسه ... وأقوى به من مظلم الشرك مهيع فأنوار صبح الحق بادٍ سناؤه ... ومصباحه عالٍ ورياه ضيًّع سما ذروة المجد التي ما ارتقى لها ... سواه ولا حاذى فناها سميذع وشمر في منهاج سنة أحمد ... يشيد ويحيى ما تعفى ويرقع وينفى الأعادي عن حمى وسوحه ... ويدفع أرباب الضلال ويدفع يناظر بالآيات والسنة التي ... أمرنا إليها في التنازع نرجع فأضحت به السمحاء (كذا) يفتر ثغرها ... وأمسى محياها يضيء ويلمع وعاد به نهج الغواية طامساً ... وقد كان مسلوكا به الناس تربع وجرت به نجد ذيول افتخارها ... وحق لها بالا لمعي ترفع

فآثاره فيها سوام سوافر ... وأنواره فيها تضيء وتسطع لقد وجد الإسلام يوم فراقه ... مصاباً خشينا بعده يتصدع وطاشت أولو الأحلام والفضل والنهى ... وكادت له الأرواح تترى وتتبع وطارت قلوب المسلمين بيومه ... وظنوا به أن القيامة تقرع فضجوا جميعاً بالبكاء تأسفاً ... وكادت قلوب بعده تتفجع وفاضت عيون واستهلت مدامع ... يخالطها مزج من الدم همع (كذا) بكته ذوو الحاجات يوم فراقه ... وأهل الهدى والحق والدين أجمع فمالي أرى الأبصار قلص دمعها ... وليست على فقداه تهمي وتدمع ومالي أرى الألباب تبدي قساوه ... وليس على ذكراه يوماً توجع لقد سخنت عين تضن بمائها ... عليه وكبد قد أبت لا تقطع يحق لأرواح المحبين أن ترى ... مقوضة لما خُلت منه أربع وتتلو سريراً فوقه قمر الهدى ... وشمس المعالي والعلوم تشيع فما بالها قرت بأشباح أصلها ... ولم تك في يوم المعالي تودع فيا لك من قبر حوى الزهد والتقى ... وحل به طود من العلم مترع لئن كان في الدنيا له القبر موضع ... فيوم الجزا يرجى له الخلد موضع سقى قبره من هاطل العفو ديمة ... وبأكره سحب من البر همع وأسكنه بحبوحة العفو والرضي ... ولا زال بالرضوان فيها يمتع 6 - تآليفه - للشيخ محمد تآليف كثيرة فيها المطوَّل والمختصر , فيها الكتاب والرسالة. فمن تصانيفه: 1ً كتاب التوحيد وقد شرحهُ جماعة من العلماء بعده 2ً كتاب فسَّر فيهِ آيات من القرآن واستنبط منها أحكاماً كثيرة , حتى انهُ ذكر في قصة موسى والخضر أكثر من مئة مسئلة. 3ً كتاب كشف الشبهات في بيان التوحيد وما يخالفهُ والرد على المشركين. 4ً كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. 5ً رسالة

في تفسير شهادة أن لا اله إلاَّ الله. 6ً كتاب في تفسير الفاتحة. 7ً رسالة في معرفة ربهُ ودينه ونبيهُ. 8ً رسالة في بيان التوجه في الصلاة. 9ً رسالة في معنى الكلمة الطيبة. 10ً رسالة في التقليد وانهُ جائز لا واجب. 11ً كتاب مفيد المستفيد. 12ً كتاب أصول الإيمان. 13ً كتاب الكبائر. 14ً كتاب آداب المشي إلى الصلاة وهو مختصر الإقناع. 15ً كتاب مختصر الشرح الكبير. 16ً كتاب مختصر الإنصاف. 17ً كتاب مختصر سيرة ابن هشام. 18ً مختصر الهدى النبوي , للإمام ابن القسيم. 19ً مختصر الفتاوى المصرية , لشيخ الإسلام ابن تيمية. 20ً نبذة في معرفة الدين الذي معرفتُه والعمل بهِ سبب لدخول الجنة وإضاعته والجهل بهِ سبب لدخول النار. 21ً المسائل التي خالف فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهل الجاهلية. وهي تزيد على مائة مسئلة وقد طبعت في الهند وقد شرحها الشيخ العلاَّمة السيد محمود شكري أفندي الآلوسي. وهناك غير هذه المؤلفات والرسائل ما يطول شرحهُ وسرده. وكلها عن المواضيع الدينية. وإنشاؤه سلس لا كلفة فيهِ ولا تعقد. إلاَّ أن النساخ قد حرفوا وصحفوا ألفاظاً يعرفها من له الاطلاع في العربية. - هذا ما أردنا أن نبينهُ بوجه الاختصار لكي يقف القارئ بعد ذلك على ما يكتب في هذا الصدد والسلام (بغداد) سانسنا

الخواتم

الخواتم نشرنا في الزهور (2: 245) مقالة عن التعليم الإجباري في مصر لحضرة الكاتبة الفاضلة السيدة هند كريمة سعادة اسكندر عمون بك المحامي المشهور. ووعدنا حينئذ بإتحاف القراء بشيء جديد من تفئات قلمتها. وانه ليسرنا أن يكون من جملة محسنات الزهور في سنتها الحاضرة سلسلة مقالات ستكتبها حضرتها في موضوع لم تطرقه مجلاتنا من قبل على ما تعلم , وهو تاريخ الحلي النسائية وعادات التحلي بها عند جميع الشعوب ولا ريب عندنا في أن هذا البحث سيروق قراءنا كثيراً - وقارئاتنا على الأخص - لاسيما وان حضرة الكاتبة قد أحاطت بالموضوع من جميع أطرافه ووفته حقه من التحري والتنقيب. وقد اختارت أن تفتح هذا الباب بمقالة عم الخواتم وهي أكثر الحلي شيوعاً: الخاتَم والخاتِم نوع من أنواع الحليّ الشرقية الأصل , اشتق العرب اسمهُ من ختَمَ , لأنه كان يُستعمل للختم , وكان العرب في جاهليتهم يتختمون لمجرَّد التحلّي , ويصوغون خواتمهم من الذهب والفضة والشبه وغير ذلك من المعادن ويرصّعها امرارءهم بالحجارة الكريمة. وفي الحديث التختم بالياقوت ينفي الفقر أي انهُ إذا ذهب مال الرجل , باع خاتمه فوجد فيهِ الغنى. وقال ابن الأثير: انهُ قد ينفي الفقر لخاصة فيهِ. وقد نهى النبيّ عن التختم بالذهب. وفي الحديث انهُ نهى عن ليس الخاتم مطلقاً إلاَّ لذي سلطان يحتاجه ليختم بهِ الكتب , وكره له أن يلبسهُ للزّينة المحصنة أو لغير حاجة. وفي الحديث أيضاً انهُ جاءَه رجل عليهِ خاتم شبَهَ فقال: ما لي أجد منك ريح الأصنام؟ - لأنها كانت تتخذ من الشَبه. وقال في خاتم الحديد: ما لي أرى عليك حلية أهل النار؟ - لأنهُ كان من زي الكافرين

أصحاب النار. وروي عن عمر بن عبد العزيز انهُ أتاه أن ابنهُ اشترى فَص خاتم بألف دينار , فكتب إليه: عزمت عليك إلاَّ ما بعت خاتمك بألف دينار وجعلتها في بطن جائع , واستعمل خاتماً من ورق وانقش عليهِ رحم الله امرءاً عرف نفسه ومما قاله ابن خلدون أنَّ الخاتم من الخطوط السلطانية والوظائف الملكية والختم على الرسائل والصكوك معروف للملوك قبل الإسلام وبعده. وقد ثبت في الصحيحين أن النبيَّ أراد أن يكتب إلى كسرى فقيل له أن العجم لا يقبلون كتاباً إلاَّ أن يكون مختوماً. فاتخذ خاتماً من فضة ونقش فيهِ محمد رسول الله. قال البخاري: جعل الثلاث كلمات في ثلاثة اسطر , وختم بهِ وقال لا ينقش أحد مثله. قال وتختم بهِ أبو بكر وعُمر وعثمان. ثمَّ سقط من يد عثمان في بئر أريس , فاغتم عثمان وتطيرَّ منهُ وصنع آخر مثله. واقتدى الخلفاء في صدر الإسلام بالنبي فنقشوا على خواتمهم الحكم والآيات بعد إن كانوا لا ينقشون عليها سوى الأسماء فنقش أبو بكر على خاتمهِ نعم القادر الله وعمر كفى بالموت واعظاً يا عمر وعثمان الملك لله وفي الجدول التالي ما نقشهُ بعض الخلفاء على خواتمهم: الخلفاء: ما نقش على خواتمهم الوليد بن عبد الملك: يا وليد انك ميت ومحاسَب سليمان بن عبد الملك: آمنت بالله مخلصاً عمر بن عبد العزيز: الوفاء عزيز يزيد بن عبد الملك: فنيَ الشباب يا يزيد الوليد بن اليزيد: يا وليد احذر الموت يزيد بن الوليد: يا يزيد قم بالحق

إبراهيم بن الوليد: توكلت على الحيّ القيّوم مروان بن محمد: اذكر الموت يا غافل أبو العباس السفّاح: الله ثقة عبد الله المنصور عبد الله: وبهِ يؤمن المهدي: العزة لله الهادي: بالله أثق هارون الرشيد: كن من الله على حذر الأمين: حسبي الله المأمون عبد الله: يؤمن بالله مخلصاً المعتصم بن هارون الرشيد: الحمد لله الذي ليس كمثله شيء الواثق بالله: الله ثقة الواثق المتوكل على الله: على الله توكلت المنتصر بالله: على الله توكلت المستعين بالله: استعنت بالله المعتز بالله: استعنت بالله المهتدي بالله: هداني الله المعتمد على الله: اعتمادي على الله وهو حسبي المعتضد على الله: أحمد يؤمن بالله الواحد المكتفي بالله: المكتفي بالله المقتدر بالله: العظمة لله القاهر بالله: القاهر بالله الراضي بالله: الراضي بالله

المتقي لله إبراهيم بن المقتدر: بالله يثق المستكفي بالله: المستكفي بالله أمير المؤمنين المطيع لله: المطيع لله الطائع لله: الطائع لله القادر بالله: القادر بالله القائم بأمر الله: العزة لله وحد المقتدي بأمر الله: من توكل عليهِ كفاء المستظهر بالله: ثقتي بالله وحده المسترشد بالله: من توكل عليهِ كفاه الراشد بالله: من آمن بالانتقال عمل للمآل المقتدي بأمر الله: كن مِن الله على حذر تسلم المستنجد بالله: من أحبَّ نفسه عمل لها المستضيء بنور الله: من فكر في المآل عمل للانتقال الناصر لدين الله: رجائي من الله عفوه الظاهر بأمر الله: راقب العواقب المستنصر بالله: العفو بك أولى وكان الخلفاء من الصحابة يتختمون في اليد اليمنى , فجعل ذلك معاوية بن أبي سفيان في اليسرى؛ واخذ الأموية في ذلك , إلى أن نقله السفاح العباسي إلى اليمنى , فبقي إلى أيام الرشيد فأعاده إلى اليسرى , واخذ الناس في ذلك وفي كيفية نقش الخاتم والختم بهِ وجوه كثيرة: فمنهُ خاتم السلطان أو الخليفة أي علامتهُ. قال الرشيد ليحيى بن خالد لما أراد أن يستوزر جعفراً ويستبدل بهِ من الفضل أخيهِ: إني أردت أن أحوّل الخاتم من يميني إلى يساري فكنى له بالخاتم

عن الوزارة لمّا كانت على الرسائل والصكوك من وظائف الوزارة لعهدهم ثمَّ صاروا في دول المغرب يعدونهُ من علامات الملك وشاراتهِ فيستجيدون صوغهُ من الذهب , ويرصعونهُ بالفصوص من الياقوت والفيروزج والزمرد , ويلبسهُ السلطان شارة في عرفهم , كما كانت البردة والقضيب في الدولة العباسية , والمظلة في الدولة العُبيدية ويرون أن الخواتم أربعة: الياقوت لإرواء العطش , والفيروزج للمال , والعقيق للسنَّة , والحديد الصيني للحرز , وقيل للخوف. ومن كلام المتأخرين: من تختم بالعقيق وقرأ لعمر بن العلاء ,، وتفقه للشافعي , وحفظ قصيدة ابن زريق فقد استكمل ظرفه. أما أقدم خاتم عربي فقد وجده الباحثون في ضواحي دمشق , وعلى فصّه كتابة حميرّية , ولا يبعد أن يكون من عهد الغساسنة الأول الخواتم عند المصريين - الخواتم في مصر قديمة العهد جداً , وأجملها ما عثر عليهِ في قبور الدولة الثامنة عشرة , والدولة التاسعة عشرة , والدولة العشرين. وكانت خواتم الملوك والأمراء من الذهب الخالص , وعليها في غالب الأحيان اسم صاحبها وألقابها محفورة بحروف هيروغليفية على فص مستطيل الشكل. وكانت خواتم العامة مصنوعة من مواد أقل قيمة من الذهب , كالفضة والشَبَه والزجاج والخزف المطلي بطبقة من الزجاج الملون بأكسيدات النحاس ألواناً زاهية من الأصفر والأزرق. وكان على هذه الخواتم الخزفية كتابات هيروغليفية مطبوعة عليها قبل طبخها بالنار. وقد وجد في تلك القبور أيضاً خواتم مصنوعة من العاج والكهرباء والحجارة الصلدة , كالجزع والعقيق. وكان بعض الخواتم في زمن السلالة الثامنة عشرة مرصعاً بفصوص من الجُعَل الجعران مركبة في حلقات من الذهب تدخل في ثقوبها فيتسنى لحاملها أن يديرها كيف يشاء وقد اتخذ المصريون الخاتم عندهم رمزاً للسلطان من قديم الزمان , كما يظهر ذلك

من قصة يوسف الصديق. فان فرعون ألبسهُ خاتمهُ لما قلدهُ خطة الوزارة. وكان تزوير الختم عندهم جريمة من الجرائم الكبيرة التي تتنصل النفس منها يوم المعاد. ومن الغريب أن اسم الخاتم بالمصرية مثل اسمهُ بالعربية وفي المتحف المصري خواتم كثيرة منها خاتم من ذهب على فصهِ صورة طائر من الطيور التي كان يقدّسها المصريون. وقد وجد هذا الخاتم في ناووس من الرصاص وعليهِ من النقوش ما يدل على انهُ صنع في زمن البطالة يوم امتزجت العقائد المصرية بالعقائد اليونانية وقد آثر الرأي أيضاً العلامة سايس. والغريب من أمر هذه الخواتم إن فتحاتها إهليليجية لا توافق استدارة الإصبع الخواتم عند البابليين - لم يكن الخاتم معروفاً على ما يظهر عند قدماء البابليين؛ فكانوا يتختمون باسطوانات من البلّور , أو غيره من الحجارة الصلدة في كلٍّ منها ثقب نافذ من الطرف الواحد إلى الطرف الآخر كانوا يدخلون فيه سلكاً ويلبسون الاسطوانة في المعصم كالسوار. وقد أشار الكتاب المقدس في سفر نشيد الأناشيد إلى ذلك بما نصَّهُ: اجعلني كخاتم على قلبك , كخاتم على ذراعك الخواتم عند الفينيقيين والأشوريّين - كان الفينيقيون والأشوريّون كالمصريين ينقشون على خواتمهم صور أشخاص وحيوانات ورموز أخرى. ومهروا في ذلك حتى لم بفقهم المتأخرون وكثيراً ما كان الخاتم عند الفينيقيين مرصعاً بجعل على أحد جانبيهِ اسم صاحبه وقد ركّب الجعل على محورٍ بهِ من جانبٍ إلى آخر الخواتم عند العبرانيين - كان خاتم عند العبرانيين ضرباً من كماليات الملبس وقد جاء في أخبارهم أن طوبال قايين كان أول من صاغها فاستعملها العبرانيون

رمزاً إلى المقام والسلطان. وفي التوراة أن أحشو يرش ملك فارس أعطى خاتمهُ هامان الاجاجي لما فوّض إليه قتل اليهود , ثمَّ استرده منهُ وأعطاه مردخاي اليهودي. أما الإسرائيليات فكنَّ يلبسنَ خواتم كبيرة الفصوص للتحلي فقط. وقد رمز البعض من اليهود بالفتخة إلى دوام رباط الزيجة , ولعلهم اقتبسوا ذلك من قدماء المصريين لأن الدائرة عند هؤلاء رمز الدوام الخواتم عند اليونانيين والرومانيين - لم يكن الخاتم معروفاً عند قدماء اليونانيين - لم يكن الخاتم معروفاً عند قدماء اليونانيين قبل زمن هوميروس. وكان أول عهدهم بهِ في القرن السادس فبل المسيح. ثم شاع استعماله عند نسائهم ورجالهم , فكان يتحلى بهِ عظماؤهم كأرشوطاليس وذيموسطنيس. وكانت أنواعهُ كثيرة أثمنها ما صنع من الذهب ورصّع بالحجارة الكريمة كالجزع والعقيق واليشب والجمشت ولا يزال كثيراً منها محفوظاً في دور العديات إلى يومنا أما الرومانيون فلم يتختموا لمجرد الزينة كاليونانيين , بل كان الخاتم عندهم رمزاً إلى طبقة معلومة من الشعب , أو إلى منصب من المناصب. فكان خاتم الحديد رمز العبودية؛ وخاتم الذهب رمز الشرف وعلو المرتبة. وكانت لهم في ذلك شرائع وقوانين لا يتعدونها فلا يتختم العبد بخاتم السيد , ولا الأمير بخاتم العبد وقد كان أول استعمال الرومانيين للخواتم أن الحكومة كانت تمنحها للشيوخ الذين ترسلهم سفراء إلى الحكومات الأجنبية. ولما منحت هؤلاء حقّ التختم بتلك الخواتم في الاجتماعات الرسمية بعد استقالتهم من مناصبهم , أخذ غيرهم من الأشراف في أوائل القرن الخامس يقتدي بهم. وما كان الأشراف عندئذ إلاّ نفراً قليلاً

من بيت تولى أحد أبنائهِ كرسيّ القضاء العاجية. وفي أوائل المئة السادسة أجازت الحكومة حمله لأعضاء مجلس الشيوخ , سواء كانوا من الأشراف أو من عامة الناس. ولم يمضِ على ذلك زمن بعيد حتى أنعمت بهِ على بعض الفرسان من أنسبائهم , وأكثرهم من الكتائب الست الأولى. ثم أذنت فيهِ شيئاً فشيئاً لفرسان الكتائب الأخرى. ثم لغيرهم من الفرسان على أن التختم لم يكن عندئذٍ إجبارياً. والأدلة على ذلك كثيرة منها امتناع ماريوس عن استبدال خاتمه الحديدي بخاتم من ذهب , إلى أن عُيّن للمرة الثانية والياً على رومه. وفي أواخر العهد الجمهوري خوَّلت الحكومة قوَّادها وولاتها حق الأنعام بالخاتم على من يشاؤون , فكانوا في أول الأمر يكافئون بهِ الأبطال والعظماء الذين يظهرون بسالة عظيمة , أو يأتون خدمة جليلة , ولكنهم مالبثوا أن تطوَّحوا , ولكنهم ما لبثوا أن تطوَّحوا في السلطة المعطاة لهم , ورأت الجمهورية أن تضع حداً لهذا الإفراط فسنت لذلك قوانين جديدة لم تأت بفائدة تذكر. ثم قامت الإمبراطورية فأعارت الأمر اهتماماً كبيراً؛ ولجأت إلى كل الوسائط لإصلاحه , لكنها لم تفلح. ومازال التختم ينتشر في البلاد إلى أن أمسى حقاً شرعياً لكل الفرسان الذين يمتلكون أربعمائة ألف سترس. وكان ذلك بأمر أغسطُس قيصر. ثم بعد سنوات قليلة أراد الأغنياء المحرَّرون , وأصلهم من سفلة الشعب , أن يضيفوا الرتب والألقاب. إلى الثروة والسعة , وأخزوا يسعون للحصول على بعضها كالتختم. فهاج الأشراف لهذه المطامع وخشي الإمبراطور طيباريوس أن تحتدم نار العداء بين طبقات الشعب , فعجل

لتلافي الأمر , واقتدى بهِ ودوميتانوس وتريانوس. ولكنهم كانوا أول من خرق حرمة القوانين التي وضعوها لهذه الغاية فأنعموا بالخواتم على غير مستحقيها حباً منهم بالحصول على فوائد شخصية , أو رغبة في تنفيذ أغراض سياسية. وفي أوائل المائة الثانية بعد المسيح ألغى الإمبراطور ادريانوس كل القوانين التي وضعها سلفاؤه للتختم , وأجازه قانونياً للعبد المحرَّر , ثم جعله من شروط التحرير. وفي زمن سبتيموس سيفيروس واورليانوس , أصبح حمل الخاتم حقاً لكل عسكري , فقيراً كان أو غنياً , فصار الخاتم الذهبي بطبيعة الحال رمز الحرية فقط , كما صار الخاتم الحديدي رمز العبودية وما كان تاريخ الواحد سوى عكس تاريخ الآخر. ويقال أن الرومانيين اقتبسوا لبس الخواتم من الصابييّن الذين كانوا يقيمون في الشمال الشرقي من رومة. وكانوا يحملون لمجرد التحلي خواتم مصنوعة من الفضة والعاج والكهرباء. ويتضح من تواريخ هوراس كونتليانس ويوفنال أن استعمال هذه الحلي لم يكن جائزاً إلا لمن جازلهم حمل الخواتم الذهبية. وقد غالى الرومان في أثمانها حتى بلغ ثمن الواحد من بعضها ستين ألف دينار وأسرفوا في حملها حتى كان بعضهم يلبس خاتماً أو أكثر في كل إصبع وكانوا في أول الأمر لا يتختمون إلا في البنصر ثم أجازوا التختم في السبَّابة ففي الخنصر ففي الإصبعين الباقيتين. ومن الخواتم عندهم ما كان يحمل في الأعراس رمزاً إلى عقد الزيجة ويلبسونهُ في السبابة الخواتم الدينية - كان الأساقفة في صدر النصرانية يحملون الخواتم كسائر الناس , وينقشون عليها الرموز والآيات كالصليب والسمكة والمرساة والحمامة والسفينة وغير ذلك. وكان بعضهم يحفر فيها اسم المسيح وصوَر الرُّسل وعبارات دينية مثل عش بالله وما شاكل. أما الخاتم الأسقفي فهو الذي كان يعطى المطرانَ عند سيامنهِ إشارة إلى اتحاده بالكنيسة. في اليد اليسرى لكيلا يتبادر للأذهان أن الأساقفة إنما كانوا يفعلون ذلك تصديقاً لزعم الوثنيين أنَّ شرياناً يمتد من بنصر اليد

اليسر توَّا إلى القلب. وأوجب حمله في اليمنى لأنها اليد التي تمنح البركة. وكان الخاتم الأسقفي من الذهب الخالص وله فص من الجمشت أو الياقوت الأزرق أو الأحمر أو الزمرّد غير محلّى بالنقوش. ثمَّ أجيز استعماله لرؤساء الديور على الإطلاق. أما الخاتم الكردينالي فكان فصّه من الياقوت الأزرق ومحفوراً عليه اسم البابا وشعاره. وكان البابا يحمل خاتماً عليهِ صورة القديس بطرس وهو جالسٌ في قلوب وطاوح شبكته في البحر. وحول هذا النقش اسم البابا والى جانبه رقم روماني يشير إلى منزلتهِ العددَّية بعد سلفائهِ الذين سبقوا فتسموا بنفس الاسم. فكان خلفاء بطرس الرسول يستعملونه لختم منشوراتهم بالشمع الأحمر. ثم اتخذوه بعد ذلك لدمغ لفافة الرقّ أو لختم عَصبتِه. ولما كانت هذه الطوابع تتكسر عند فتح

المنشور صعبً وجود أثر سليم منها الخواتم السحريّة - ما من امة في الأرض إلاَّ وقد اعتقدت في جاهليتها بخواتم الجنّ والسَحَرة. ومن أشهر هذه الخواتم , خاتم سليمان الحكيم , وخاتم علاء الدين المشهور في إحدى روايات ألف ليلة وليلة وخاتم الراعي جيجس خاتم سليمان - كان سليمان إذا تمعن في فص خاتمهِ رأى كل ما شاء رؤيته , وإذا لمسهُ ازداد حكمةً فوق حكمة وقوة فوق قوة. زعموا انهُ دخل يستحمَُ مرةَ وقد ترك خاتمهُ في حجرة محاذية , ثمَّ تفقده فلم يجده. وكان أحد خدمه قد سرقهُ وطرحهُ في البحر. فاغتَّم سليمان لذلك كثيراً , وبلغ اليأس منهُ أشدَّه , حتى لقد كره الملك. على انهُ ما لبث أن وجد ذلك الخاتم في جوف سمكة قدَّمت له مع طعامِه , فعادت إليهِ حكمته التي طبقّت شهرتها الخافقين. ولقد شاعت هذه الرواية شيوعاً عظيماً في العصور الوسطى , واعتقد صحتها أهل الشرق والغرب الذين كانوا يميلون إلى المستغربات , ويؤمنون بالسحر والجنَ , وينسبون إلى نوابغ الرجال , كهوميروس وفرجيل وسليمان , قوة السحر ومعرفة الغيب. ومن المرجّح أن حكاية خاتم سليمان حديثة العهد فلا ترى لها ذكراً عند قدماء السلف ممن ذكروا سليمان في تأليفهم أو تناقلوا أحاديث الجن وعجائبه خاتم علاء الدين - أعطاه إياه الساحر الإفريقي الذي ادخله مغارة المصباح العجيب. والغريب من أمر هذا الخاتم انهُ كان إذا لُمس خرج مارد وانتصب وقال: لبّيك عبدك بين يديك وكان هذا المارد يأتي بالآيات والمعجزات كسائر الجن فلا يسأله صاحب الختم أمراً إلاّ استطاعهُ خاتم جيجس - نقل شيشرون عن أفلاطون أن السموات تصببت يوماً

أنهراً وبحاراً , وأن الأرض زلزلت زلزالها , فانشقت بمن عليها , وزلّت بجيجيس القدم فسقط في الهاوية , فوجد جواداً من النحاس الأصفر فيه جثة أحد الجبابرة متختماً بخاتم كبير الفص مستديرة فأخذه ولما تختم بهِ اختفى عن العيان وهنالك أيضاً خواتم أخرى من شأنها أن تقطع بحاملها مسافات كبيرة في وقت قصير أو تحوله إلى حيوان أعجم. وتقسم الخواتم السحرية إلى قسمين عامين: الخواتم التي تمنح صاحبها قوّى غير مألوفة , والخواتم التي تقيده بقيود العبودية؛ وفي ذلك وجه للشبه بين معنى الخواتم السحرية والخواتم التاريخية. ألم يقلد فرعون خاتمه يوسف لما استوزره؟ ألم يلبس يوبيتير أسيره برومتيه خاتماً ليذكره بهِ كيف قيده وخذله على جبال القوقاس؟ وفي الخواتم السحرية أقوال وخرافات أخرى لا موضع الإيجاز الخواتم المجوَّفة - الخواتم المسمومة ذات الفصوص المجوَّفة قديمة العهد جدًّا. فمنها الخاتم الذي مصَّ هنيبال السمَّ منهُ بعد فشله في يوم زاما وخاتم ذيموستينس وحكايته معروفة. وقد ذكر يلينيوس الروماني أنهُ لما سرق قراسوس الكنز الذي كان تحت عرش يوبيتير في الكابيتول , خاف الحارس شرَّ العاقبة , فمصَّ سماً كان في خاتمهِ ومات لساعتهِ. وكان القتل بالخواتم المسمومة شائعاً في الأعصر الوسطى , فكان للخاتم منها فصٌّ فيه إبرة مجوفة تتحرك بزنبلك وهي متصلة بنقرة وراء الفصّ مملوءة سُماً. فإذا أراد حامله قتل عدوّ له خدش يده بالإبرة عند التسليم فتسرَّب إليها السمَُ. وفي رواية انهُ لما تعذَّر علّى الزّباء النجاة من عمرو بن عدي مصَّت السمَّ من خاتمها وهي تقول: بيدي لا بيد عمرو خواتم الزواج - لا يُعرف أول من اتخذ الخواتم رمزاً إلى عقد الزيجة. ولكن من المؤكد أن العبرانيين استعملوها لذلك قبل النصرانية بزمن طويل. وكان الجرمانيون والفرنساويون في العصور الوسطى يتغالون في ثمن خاتم الزواج. ثم تغيرت الحال فاقتصروا على فتخة من الذهب. ولكن بقي في ثمن خاتم الزواج. ثم تغيرت الحال فاقتصروا على فتخة من الذهب. ولكن بقي التأنق عندهم وعند غيرهم من الأمم في خاتم الخطبة إلى يومنا هذا. وفي المتحف البريطاني خواتم قديمة من خواتم

الزواج بعضها ذهب وبعضها فضة أو حديد أو شبهَ أو رصاص أو نحاس أو صُفر أو عاج أو عظم. وعلى واحد من هذه الخواتم المصنوعة من عظم صورةُ قلب إنسان , وهو من آثار سكان في سويسرا , وعلى آخر رسم يدين متصافحتين وهو مصري الأصل , وعلى آخر من الحديد رسم يد قابضة على قلب وأصله روماني وفي القرن الرابع عشر للميلاد أشار أحد الايطاليين باختبار فصوص خواتم الزيجة على حسب الشهر الذي ولدت فيه العروس. فلشهر كانون الثاني الحجر البجادي فيزيد تعلق أصدقائها بها , ولشباط الجمشت فيقوي فيها الإخلاص ويقيها من السموم ومن النميمة , ولآذار الياقوت فيعطيها الحكمة والطاقة على احتمال أتعاب بيتها , ولنيسان اللازورد فيطهر قلبها , ولأيار الزمرد فيسعدها , ولحزيران اليشم فيحفظ صحتها ويقيها الجن والغيلان , ولتموز الألماس فيقيها غيرة زوجها , ولآب العقيق فيسعد أولادها , ولأيلول اللؤلؤ فيمنع الخصام من بيتها , ولتشرين الأول الزمرد المائي فيقوّي الحب , ولتشرين الثاني الياقوت الأصفر فيجعلها مطيعة لزوجها , ولكانون الأول الفيروز فإنه حرز العفة. وشاعت هذه الخرافة في أوروبا وعمل الناس بهاز فكان الزوج في فرنسا يهدي إلى عروسه اثني عشر خاتماً لكي تنختم بخاتم منها كل شهر. ولا يزال الجرمانيوم يرصعون خاتم الخطبة بالفيروز وعندهم

إن المحبة تثبت مادام لونه ثابتاً. ومن عادات الانكليز أن يتبادلوا إهداء الخواتم في الأعراس. فادوردِ كلي أهدي إلى إحدى خادماته يوم زواجها خواتم قيمتها أربعة آلاف ليرة انكليزية. والأوربيون جميعهم يعتبرون خواتم الزيجة شديد الاعتبار. ومنهم من لا يحسبها ثابتة ما لم يكن فيها خاتم ذهب , كالارلنديين مثلاً , فالفقراء منهم يستأجرون خاتماً من أحد الصاغة لهذه الغاية. وعند بعضهم أن انكسار خاتم يدل على قرب أحد الزوجين واختلف الناس في الإصبع التي يلبس فيها خاتم الزيجة والشائع اليوم حمله في بنصر اليد اليمنى قبل الزواج , وفي بنصر اليسرى بعده. ويقال أن سبب ذلك وجود وريد في هذه الإصبع يحمل الدم إلى القلب رأساً. وورد في كتاب الطقوس الدينية الرومانية أن الكاهن الإلهي. ثمَّ يرجعه إلى الزوج مشيراً بذلك إلى أنَّ الله قد ختم بهذا الحب على قلبهِ فلا ينفتح لحبٍ آخر , فيصبح بين يدي الزوج رمز المحبة المتبادلة , وضمانةً لارتباط قلبه بقلب عروسهِ , ثمَّ يخرجه الزوج من إصبعهِ ويضعهُ في البنصر اليسرى من يد زوجتهِ. ثمَّ توسع بعضهم في معنى خاتم الزواج فرمز بهِ إلى دوام الصداقة , أو إلى دوام السلطان , أو إلى دوام العهود , وما شاكل ذلك. فكان ولا يزال بعض الانكليز يتبادلون الخواتم عندما يحلفون يمين الصداقة. وكان دوج البندقية في بحر الادرياتيك يوم خميس الصعود خاتماً ويقول: أيتها البحار إننا نتخذك زوجةً لنا إشارةً إلى تسلطنا عليك فالخاتم الذي اختلفت أشكاله , وتنوعت رموزه , وتعددت معانيه بحسب اختلاف الشعوب والأزمنة , وتنوّع العادات وتعدّد الأغراضٍ , لا يزال إلى يومنا أوفر الحلي حظاً , وأكثرها نفعاً؛ يتختم بهِ الغنيُّ والفقير معاً وإنما الفرق أن الأول يتخذه من الذهب محلَّىً بالجواهر , والثاني يكتفي بأن يلبسه من نحاس أصفر هند اسكندر عمون

رسائل غرام

رسائل غرام بين نساء شهيرات ورجال عظام كان القراء في السنة الماضية ولع كبير بهذه الرسائل اللطيفة التي ينشرها في الزهور حضرة الكاتب المجيد سليم أفندي عبد الأحد. وقد نقل بعض الصحف والمجلات شيئاً منها مع إطراء صاحبها على ديباجتها. وسيوالي حضرته في هذه السنة أيضاً إتحاف قرائنا بما يختاره من هذه الرسائل اللطيفة من الشاعر سونبرن إلى سيبيل اشتن (علق الشاعر سونبرن بحب فتاة قروية تسمى سيبيل اشتن , قيل إنها كانت ذات جمال يندر مثله بين النساء. وكانت في أول الأمر تبغض سونبرن بغضة

شديدة ولا تطيق مرآه. ولكن مرور الأيام حول بغضتها إلى حب مبرح أسقمها وكاد يودي بحياتها. وكان أهل سونبرن يمانعون في قرانه بها , لأنها كانت من أصل وضيع , فسمعوا جهدهم وأبعدوها عنه. ولكن الحبيبين طلا يتراسلان نحواً من أربعة أعوام , ويتعللان باللقاء. ثم انقطعا عن التراسل لسبب غير معروف. ولعل الزمان شفاهما من داء الحب، أو لعلهما يئسا من اللقاء. ولا يعلم ماذا وقع لسيبيل فيما بعد. قيل إنها ماتت في أثناء سياحة قامت بها أملاً بأن تنسى الماضي. وقيل إنها تزوجت أحد قواد الجيش , فلم تقم معه طويلاً حتى أتت , والله أعلم) . . . لا تعلمين كم أترقب ورود بفروغ صبر. كلما قرب ميعاده , يخفق فؤاد خشية أن لا يكون حاملاً إليَّ كلمة منك تعزيني في هذه الأيام المظلمة. لماذا أنت بعيدة يا سيبيل؟ ولماذا تفصل بيننا فراسخ هذا عددها؟ إن كان الله يحاول أن يفرق بيننا , فقد أساء إلينا بأن جمع بيننا قبلاً. وإن كانت الأقدار تداعبنا , فالقلوب أرقُّ من أن تحتمل مداعبات الزمِان سيبيل يا معبودتي. أراكِ من خلال رسالتك الأخيرة حزينة كئيبة النفس. لعلي أسأت إليكِ بكلمة فرطت مني؟ فهل لكِ أن تضميها إلى سيأتي العديدة التي قد سامحني عنها قلبك الطاهر؟ كلما قابلتُ نفسي بك , أراني مجموعة سيآت , لا تشفع بها إلاَّ حسنة واحدة , وهي أنني أحبك حباً يجعلني انظر إليك كما ينظر العابد إلى معبودة , بل أن حبي لكِ أسمى من العبادة يا سيبيل , لأن العبادة تخرج من الشفتين , وأما الحب فهو صادر عن القلب غداً تنطوي صفحة أخرى من صفحات العمر؛ غداً يتم لي خمسة

وعشرون ربيعا من حياة لولاك لكانت خمسة وعشرين شتاء مظلما. ولكنني منذ أحببتك, صرت أرى للحياة معنى جديدا. ولئن كان أهلي يعدون على هذا الحب هفوة من هفوات الشباب, فسلام الله على هفوات كلها حسنات, وحبذا غرور أنت مبعثه أيتها الساحرة المعبودة! خمسة وعشرون ربيعا يا " سيبيل "؛ بل ثلاثة وعشرون شتاء وربيعان. فلقد مر على حبنا عامان, كنا في خلالهما عائشين في أحلام هنيئة. ولسوف يأتي يوم يرى فيه العلم أن حبنا الذي يزعمونه هفوة من هفوات الشباب, إنما هو السبيل الوحيد إلى السعادة الخالدة. وما أطمع المحبين بتلك السعادة فإنهم يرون الخلود قصير المدى لا يكفيهم للتمتع بأحلام الغرام. هل تذكرين أيامنا في " وندرمير " بقرب تلك البحيرة الهادئة؟ سلام الله على تلك الأيام يا سيبيل. إن من التذكارات ما ينبض لها الفؤاد طربا, ويطفر لها الدمع سرورا. لقد كانت إقامتنا بقرب تلك البحيرة أشبه بحلم في إشراق النهار, ما لبثنا أن استيقظنا منه, فصاح بنا داعي الفراق. إذا افسح الله في أيامنا , فسنحج إلى " وندرمير " ونجلس على شواطئها الهادئة, لأنه إذا كان للبوذي نهره, وللمسلم مكتَّهُ ولليهودي أورشليمه, فلماذا لا تكون تلك البحيرة كعبتنا المقدسة نزورها من آن ألى آن, وننم عندها فروض الغرام؟ دعيت البارحة للذهاب إلى ... فأبيت محتجا بأعذار باطلة. ولكن أختي علمت السبب, وأدركت أن رؤية ذلك الغدير وحدها كافية أن

تعيد إليَّ التذكارات الماضية, وتثير في نفسي عواطف كان أولى بها أن تظل دفينة في الفؤاد. مسكينة أختي! ... هي تظن أن الغدير وحده يذكرني بك في هذه الحياة, وفاتها أن خيالك ماليء كل فكري, وأنني أتمثلك حاضرة في كل مكان؛ فلا تشرق الشمس إلا واتذكر محياك الجميل, ولا تزقق الطيور, إلا وأخالني منصتا إلى صوتك الرخيم, ولا أشاهد الأزهار, إلا واتصورني أنشق عبيرك الفياح. نعم انك تتمثلين لي بسائر مشاهد الطبيعة, لأن رسمك ماليء فكري, وشبحك ماليء الفضاء. عفوا يا سيبيل, إن كان حبي ينشيء لك آلاما, فإنني أسعى منذ الأن لإطفاء جذوته المحرقة, وإن كنت ترين السعادة لا تتفق مع حبك لي, فلماذا لا تنزعينه من قلبك وتستريحين من آلامه, وأمامك مجال الشباب الواسع كلما قطعت منه مرحلة نسيت مواقف العهد القديم. لا تظني أنني أشقى إذا رأيتك سعيدة مع غيري يا سيبيل. أليست سعادتي مستمدة منك؟ فكيف أشقى متى رأيتك تبتسمين إبتسامة السرور؟ وكيف أحزن إذا رأيتك متمتعة بأحلام لا يجوز لغيرك أن يتمتع بها في هذا العالم؟ وإن كان يعوزك موتي لإكمال سعادتك, فهذه روحي بين يديك. ضعي لها حدا, فأموت شبعانا سعادة عند موطئ قدميك ولكن ... حسن أن يحب الإنسان, وأحسن من ذلك أن يكون محبوبا ما أقصر الأيام التي نعمنا بها يا سيبيل! وما أطول فسحة هذا

الفراق. . .! تلك أيام مرَّت بنا مرّ السحاب , وهذه أيام تمشي متثاقلة بنا إلى القبر , غير عابئة بما تطيل من آلام وعذابات؛ فلا تنطوي منها دقيقة , إلاَّ وتنطوي معها أنفاس. وإلا بدية محبة لذاتها تضم إلى سفرها من أعمارنا أيام السعادة , وتبقي لنا أيام الشقاء. ولولا شعاع أملِ ضئيل يحترق حجب الظلام , لكانت الحياة أعظم نقمة ينتقم بها الله من خليقة يديه لا يا سيبيل. بل الحياة كلها سعادة وهناء , لأنك أنتِ فيها. ولولاكِ لكان العالم في نظري فراغاً , وكل ما فيه ألغازاً وأوهاماً. وكثير ما أتساءَل: ترى لماذا لا يكون العالم كله سعيداً لوجودك فيه.؟ ثم أثوب إلى نفسي وأقول: بل يجب أن تكوني لي وحدي لا للعالم أجمع. لأننا إذا كنا كلانا سعيدين , فما الذي يهمنا سعد العالم أو شقيَ؛ عُمّر الكون أو خرب , ثبتت الكائنات أو زلزلت لماذا تطلبين إليّ يا سيبيل أن أحرق رسائلك؟ إنجيل الغرام المنزل تجُعل آياته أكلا للنار؟ استغفر الله أيتها القاسية. إن رسائلك تبقى إلى الأبد في مأمن من عيون الرقباء؛ فليهدأ روعكِ وليطمئن بالك. واسلمي لمن لا ينساك مدى العمر بقلم سليم عبد الأحد سونبرق

في رياض الشعر

في رياض الشعر في عزّ مُلك الصّبي نشرنا في الجزء الأخير من سنة الزهور الثانية أبياتاً لسعادة إسماعيل باشا صبري يعزّي بها سعادة السير يوسف سابا باشا ناظر المالية المصرية عن فقده ولده فريداً وهو في ربيع الحياة. وننشر اليوم أبياتاً في المعنى لحضرة خليل أفندي مطران الشاعر الشهير: ما في الأسى من تفتّت الكبدِ ... مثلُ أسى والد على ولدِ كم بطلٍ وهو ذو صيَدٍ ... فردَّه الثكل غير ذي صيدِ أهونُ من رزئه عليهِ أذّى ... كفاح جيش أو ملتقي أسدِ سابا لك الله وهو ألطف من ... يأسو جريحاً وأنت ذو رشدِ إن قلوباً محيطة بك من ... كرامة ساهمتك في الكمدِ لهفي على ذلك الحبيب ذوي ... منهصرَ الغصن لم ينل بيدِ ماد نسيم به فمات وفي ... معطفهِ رقة من الميَدِ مات كنُضر الفروع يلزمها ... بعد الردى حسنها إلى أمدِ في جاه أوراقه وبين حلي ... أزهاره من مبشر وندي في عزّ ملك الصبي وحاشية ... من غر آماله بِلا عددِ في منتهى مجده وصولتهِ ... إذ يقتل السعد لاهياً ويدي ويصدم المكر غير ملتفتٍ ... ويقحم الدهر غير مرتعدِ ويتركِ اللوم حائراً وجلاً ... منعقداً في لسان منتقدِ يا راحلاً في الغداة عن نعم ... تترى وعن بسطة وعن رغد

وتلوكاً رسمَه لفاقده ... مصوراً بالجراح في الخلدِ لا أنكرت روحك التي أمنت ... ما فارقت من مخاوف الجسدِ وبينما كان الشاعر ينظم هذه الأبيات الرقيقة إذا استوقفت قلمهُ ألحان محزنة تصدح بها موسيقى كانت سائرة في الطريق , فإذا هو بجنازة تسير خلف طبل من عمره. فأثر هذا الموكب الكثيب السائر على نغمات الموسيقى المفجعة في نفس الشاعر وهو لا يعرف ذلك الفتى المتوفى فقال: وهذا يأخذ حصتهُ في الطريق , وكتب فيهِ الأبيات التالية: مشهدٌ سُيّر في طبل وبوقِ ... عظةٌ جُنَّت فغنَّت في الطريقِ عِظة الموت وما عهدي بها ... أن تزفَّ النعش في تدليل سوقِ لا ولا عهدي بها خاطبةً ... عن ثغور من نحاسٍ وحلوقِ ويح تلك القطع الصفراء في ... صوتها حسُّ جراحٍ وحروقِ من ترى علمها ما مزجت ... من وجيفٍ وعويل ونعيقِ ألقت الفجعة فاستولت على ... كل سمعٍ وأجفّت كل ريقِ تلك شكوَى عن فؤاد ثاكل ... صاخب الآلام رنّان الخفوقِ يا أباً يبكي ابنهُ ملتمساً ... ذلك التنبه للحس الصعيقِ واضحٌ عذرك مهما تفتنن ... للعدوّ الصلب والخدن الرفيقِ آه من نار الجوى فهي التي ... تفجر البركان من قلب رقيقِ آه من صدع النوى فهو الذي ... يرسل الأحزان كالسيل الدفوقِ أن تذيبوا هكذا أكبادنا ... يا بنينا فالردى أقسى العقوقِ خليل مطران

لؤلؤ الدمع لا تذكريني فإنَّ الذكر يُرجع لي ... عاداتِ وجديّ في أياميَ الأولِ وعالجيني بيأسٍ منكِ ينفعني ... البرءُ باليأس يُنسي السُقمَ بالأملِ طاب التجافي فلا تأساكِ قسمتهُ ... إذا مللتِ فما يُشكيكِ من مللي لسائم الود أمَّا يَنصرم بدلٌ ... منهُ وليسَ لراعي الودّ من بدلِ دعي لياليَّ. أوطاني تطالبني ... بها فلا تشغلي نفسي بلا شغلِ وكفكفي الدمعَ. هذا الدمع يفتنني ... أشجى الشكايات عندي أدمعُ المقلِ هي اللآلئ تطفو في المحاجر لا ... تختار للسبحِ إلا موضعَ الكحلِ لو لم أكن شاعراً أصبحت حاسدها ... فلؤلؤ الدمع منهُ لؤلؤ الغزلِ ولي الدين يكن الخال قلتُ لخالِ بين حاجبيها ... أنت الذي تلعبُ بالسيفينِ فقال لا لكنني عنبرةٌ ... تمدُّ من دخانها قوسينِ أصونُ بالبخورِ حسن وجهها ... خوفاً عليهِ من سهام العينِ عبد الحميد الرافعي نفس الكريم مهلاً أبا الفضلِ لا تجزع فقد وُجدت ... مكدراتُ الليالي للأساطين

ولا تقل عقَّني دهري فما خُلقت ... نفسُ الكريمِ لغير الصبرِ واللين فإن تجد في وداد الناس شائبة ... أو في حديثهم سمَّ الثعابين فقل سلاماً ولا تبذل لهم عَشَاً ... نصحاً فما النصحُ من عُوفِ المجانين أتبره (السودان) محمد فاضل ذات البرقع الأحمر مّرت بنا في طريق نسألها ... جاءت من الأرض أم جاءت من الأفقِ كأنها وقناع الوجه يحجبها ... شمسٌ تدلُّ عليها حمرةُ الشفقِ أمين البستاني كيف كنا ولقد كنا وما كنا سوى ... مثلما يستجمع العينين خَد أو جناحي طائر روَّعه ... شرك الصياد يوماً فشرد البرق بشارة عبد الله الخوري كان معي كان معي ثم دعاه الهوى ... فمرَّ بالحيّ ولم يرجعِ فهل إذا ناديته باسمه ... يُفيق من سكرتهِ أو يعي فأنت يا عصفورة المنحني ... بالله غني طرباً واسجعي وأنتِ يا نسمة وادي الغضى ... مّري بريّاك على مضجعي وأنتِ يا عين إذا لم تفي ... بذمة الدمع فلا تهجعي محمد سامي البارودي

تربية الطفل

تربية الطفل عرف قرّاء الزهور حضرة النطاسي الفاضل الدكتور محمد أفندي عبد الحميد مما نشرناه مراراً عن مؤلفاتهِ المفيدة في الطب. وقد تفضل حضرته فوعد هذه المجلة بكتابة فصول طبية تهذيبية سننشرها على التمادي. وقد قصر مباحثه في هذه السنة على موضوع العناية بالأطفال وهو موضوع لا تخفى فائدته على أحد صحة الأم أثناء الحمل على الأم أن تعتني اعتناء شديداً بصحتها أثناء الحمل. عليها أن تلاحظ أن الأمعاء تنطلق يومياً وأن تعمل حماماً دافئاً مرة كل يوم , أو ثلاث مرات في الأسبوع على الأقل. ويجب أن يكون غذاؤها كافياً ومغذياً دون أن تتخم معدتها بالأكل فوق الشبع. وعليها أن تمتنع عن المشروبات الروحية. ويجمل بها أن، تستريح ساعةً على الأقل في كل مساء ولابد لها من أن تتأنى في كل أعمالها , فلا تُسرع فيها , ولا تجهد نفسها. ويحسن أن لا تذهب إلى الأماكن التي يكثر فيها الازدحام كالتياترات والمجتمعات العمومية. أمّا من الوجهة الأدبية فيجب أن تكون هادئة الخاطر مطمئنة الضمير , فتتحاشى كل ما يثير العواطف ويؤثر في الفؤاد.، بالإجمال يجب أن تكون معيشتها صحية ساكنة التحضير للطفل يمكن الحامل أن تشغل نفسها في أواخر أيام الحمل أي , قبل الوضع

بشهرين أو أكثر , بتحضير ملابس الطفل ومهده. ويستحسن تحضير هذه المعدات في الشهر السابع لاحتمال حصول الولادة قبل ميعادها المعروف. وعلى كل حال يلزم أن تكون هذه الأشياء جاهزة تماماً قبل ميعاد الولادة المنتظر بأسبوعين وإليك قائمة بالملابس اللازمة عادةً للطفل: 4 لفافات قياس الواحدة 5 25 قيراطاً - 6 صدريات من الصوف الصوف الرفيع مفتوحة من الأمام وذات أكمام طويلة - 4 دست (دزينات) فوَط أو مناشف - 6 مربعات فلانلا لتغطية الفوط - للرأس - 1 شال رفيع - 1 عباءَة وطاقية للرأس - جاكتتان صغيرتان من الصوف مهد الطفل لا يستحسن استعمال الأراجيح لنوم الأطفال. وخير المهود ما كان متيناً ومصنوعاً من المعدن كالحديد أو النحاس , ومرتفعاً عن الأرض بقدر قدمين ونصف وبفضل أن يكون المهد خالياً من الزركشة لسهولة تنظيفهِ ولحاجة الطفل إلى الهواء. وكل ما يلزم له كلّة (ناموسية من الشاش) ويجب أن يحتوي المهد على الأشياء الآتية: حصيرة للمهد - قطعة من الماكنتوش (المشمع) لوضعها في وسط المهد - ملاءَة سفلى - غطاء للوسادة - بطانيتان

رقيقتان. ويجب استبدال الملاءَة السفلى بغيرها إذا ترطبت من البول أو البراز وصول الجنين يربط الحبل السري ثم يقطع بعد نزول الجنين. فإذا حدث التنفس بعد الولادة مباشرة , فيكون الطفل قد ابتدأ حياته الخارجية. وعلى المرضع أن تلفه بفلانلا دافئة , وتصنعه في مكان دافئ حيث يبقى إلى أن تستعد لعمل حمام له ويجب تفقد الحبل السري والفم والعينين من وقت إلى آخر المولود الجديد يصرخ الطفل عند ولادته مباشرة. ويلزم أن نعتبر صراخه هذا علامة صحية عادية. ويزن الطفل السليم الاعتيادي نحو سبعة أرطال مصرية ويبلغ طوله نحو العشرين قيراطاً وتكاد توازي حافات الأظافر أطراف الأصابع. ويوجد عادة بعض الشعر على الرأس ويكون جلده بلون أحمر مغطى بمادة شحميه يحسن إزاحتها بقدر الإمكان بلطف بقطعة قديمة من القماش قبل الاستحمام وليس الطفل في هذا الوقت بكامل العقل ليتدّبر حياتهُ فهي تتعلق بأمه أو مرضعه. فيجب عليها أن تفحصه حتى تتأكد من عدم وجود أي تشوه خلقي كالشفة الأرنبية (الفلح) والشق الحنكي , وعقدة اللسان , وضخامة الرأس أو أي شيء آخر في الجسم أو الأطراف. وعليها أن تلاحظ

إذا كان من الجفون إفراز بعد فتحها وإن تتعهد التبرز والتبويل في وقتها غسيل الطفل من البديهي أنه يجب عند تحميم الطفل إقفال باب الغرفة والنوافذ والتحقق من عدم وجود أي تيار هوائي. ثمًّ يملأ الحوض (أو الطشت) المعدّ لغسيل الطفل بالماء لارتفاع 6 قراريط. ويجب أن تكون حرارة الماء معتدلة لا تتجاوز درجة 100 (بمقياس فار نهيت) وإذا لم يكن هناك ترمومتر - مقياس الحرارة_فيكفي أن توضع اليد في الماء حتى إذا تحملت الحرارة بسهولة أمكن استعمال الماء. وعلى المرضع أن تلبس فوطة من الماكنتوش ثم تلبس بعدها فوطة أخرى من القماش. ولتنتبه إلى وضع كل ما ستحتاج إليه أثناء الغسيل في قربها لئلا تضطر إلى ترك الطفل في الماء لإحضار ما يلزم. وبعد ذلك تجلس على كرسي منخفض وتضع فوطة ناعمة على حجرها تجعل عليها الطفل موجهة وجهه إلى أعل وتضع فوطة دافئة أخرى على جسم الطفل ورجليه وتتقدم إلى غسل الطفل. ولهذا الغرض تغسل وجه الطفل أولاً وتنشفه بسرعة ثم تغسل بعد ذلك جسمه ورجليه بقطعة من القماش بالصابون وبعد إتمام هذا العمل تغمس الطفل في الماء الذي في الحوض حتى عنقه ويسند بوضع اليد اليسرى تحت العنق وذراع الطفل اليسرى وباليد اليمنى تغسل المرضع الرأس بالماء والصابون. ولا يلزم عادة غسيل الرأس لمدة أيام بعد المرة الأولى ولا يحسن

شيء عن الفن

أن تستعمل أي زيت لاذابة المادة الشحمية التي على جسم الطفل لأنها إذا لم تذب في الغسيل في المرة الأولى فهي لا شك ذائبة في المرة الثانية ولابد من الاعتناء في غسيل الثنايا الجلدية لاسيما التي حول العنق. ويبقى الطفل دقيقتين أو ثلاثاً في الماء قبل إخراجه ولذلك تسند المرضع الطفل بوضع يدها اليسرى تحت العنق وتمسك باليد اليسرى رجليه وبعد إخراجه من الماء تضعه على الفوطة التي على ركبتها جاعلة وجهه إلى أسفل وتنشف بفوطة أخرى دافئة بكل سرعة وبكل لطف ورفق العنق والظهر ذلك على ظهره بكل اعتناء وترفع الفوطة المبلولة التي على ركبتها وتنشفه من الأمام ويلزم تجفيف الجلد في كل أجزائه لاسيما حول العنق والأذن والإبط والأربية ويذر على هذه الجهة أيضاً قليل من المسحوق ماعدا الوجه ثم توضع عليه الملابس الدكتور محمد عبد الحميد طبيب مستشفى قليوب شيء عن الفن نشرنا في الجزء الفائت من الزهور (518: 2) مقالة عن الفن بقلم حضرة الكاتبة الأديبة الفاضلة الآنسة مي فلما اطلعت عليها حضرة الفاضلة السيدة لبيبة هاشم تفضلت بالردّ الآتي: رأى القارئ الكريم من مقالة الآنسة مي (شيء عن الفن) حسن نصورّ هذه الكاتبة وسمو نفسها إلى أوج الجمال الفني. فهي تنظر من

سماء تخيلاتها الذهبية إلى عالم الاختراعات العصرية والاكتشافات العلمية نظرة ازدراء واحتقار لأنها لا تجد فيها ما يؤثر في روحها الشريفة ولا ترى في نتائجها المادية ما ينطبق على تصوراتها الشعرية البديعة. ولاغرو فالآنسة مي من الفتيات اللواتي قلما يسمح الدهر بأمثالهنَّ أدباً وذكاء مع سعة اطلاع وحرية فكر. ولما كانت هذه منزلة صفاتها من الاحترام وكان أمر البحث في الفنون من المواضيع الجديرة بالاهتمام رأيت أن أعلق عليهِ كلمة أستأذن حضرتها بإيرادها تمحيصاً للحقيقة التي هي غرض كل عاقل أديب ذكرت الكاتبة مالا جدل فيهِ من امتياز أهل العصور القديمة بالفنون الجميلة والآثار البديعة التي لا يرجى وجود نظير لها في العصر الحاضر ولا المستقبل. على أن ذلك لا يؤخذ حجة على دناءة الفكر العصري وتقصيره عن سلفه وإنما هو دليل على أن ارتقاء الأقدمين كان محصوراً في بعض نوابغ انصرفت قرائحهم إلى بعض الصنائع كالرسم والنقش والنظم وما شاكل ذلك من الفنون الجميلة. وهذا بالحقيقة لا يعد ارتقاءً لبعده عن الفوائد العمومية المطلوبة في ترقية الاجتماع. وما دام الإنسان منصرفاً إلى هذه الوجهة الفنية مكتفياً بها عن سائر العلوم فمن المقرر أنهُ يظل مقصراً في معارفهِ وشرائعهِ وآدابهِ وسائر نظاماتهِ. وعلى ذلك بني رُسكن فلسفته ورأى المتأخرون رأيهُ فشرعوا بتعرف أسرار الطبيعة وروابطها وأحكامه واستخدموا ما فيها من القوى الكامنة لفائدتهم فقاموا البحار بقوة البخار واستخدموا الكهرباء في دفع الأمراض وتقصير

الشاسع من المسافات. وعلى الجملة فقد أتوا بأعمال عظيمة واختراعات مدهشة تدل على أن النبت الذي تكونت فيهِ أفكارهم ليس أقل فضلاً وجمالاً من نبت الذي تكونت فيه فكر الفيلسوف الرياضي اسحق نيوتن. فإن هذا استنتج قاعدة الناموس الطبيعي اتفاقاً من وقوع تفاحة إلى الأرض ثم وقف عند هذا الحد. أما علماء الطبيعة فبنوا على هذا الناموس سائر العلوم الطبيعية التي بين أيدينا الآن واتصلوا بواسطتها إلى اختراع الآلات المتنوعة والجهازات الغربية التي تزعم حضرة الكاتبة أنها دليل سقوط النفس البشرية من أوج الجمال إلى هوة التجارة ط ولعمري كيف نفضل بناء الأهرام ونحت المسلات على تلغراف ماركوني وأشعة رنتجن في حين أن ذاك على عدم فائدتهِ ينطق بما كانت عليهِ الشعوب الغابرة من الذل والضغط واستعباد الكبير للصغير. أما التلغراف اللاسلكي فإن أهميتهُ وفائدته توازيان قوة الذكاء التي بذلت في سبيل إتمامهِ وهي لا يمكن أن تقل قيمة عن قوة ذكاء أصحاب الفنون الغابرين. ولا يعقل أن مجرد حب الكسب هو الذي دفع ماركوني لعمل اختراعهِ وإنما هي دواع كثيرة تجاذبتهُ بين النفع العام والرغبة في الشهرة والتلذذ بإتمام عمل عظيم وهي نفس الأسباب التي دفعت برافائيل المصور إلى قمة الكمال الفني وإني أرى رأي الآنسة مي من حيث جمال الفنون وإجلال قدر أصحابها ولكني لا أرى فضلاً للمشتغلين فيها يميزهم عن غيرهم من المخترعين والعلماء العصريين إذ أن فضل المرء يكون على قدر عظمة أعماله وإتقانها

لا فرق بين أن يكون ذلك العمل تمثالاً متقن الحفر أو قصيدة بديعة النظم أو حذاء محكم الصنع مادام كل من هذه الأعمال يقتضي لإتمامه قوة عقل وإذا قسنا أعمال المتأخرين بآثار الأقدمين لا يسعنا إلا المساواة بينها فيما تحتاج إليهِ من المقدرة العقلية لإتمامها وذلك يدل على أن مدارك النوابغ متساوية قوة في جميع العصور وإنما هي تتحول أحياناً إلى ما يوافق روح العصر ويقوم باحتياجات الاجتماع. وإذا كان فضل الأعمال على قدر الفائدة الناجمة عنها كان في علوم العصريين وأعمالهم ما يزيد منزلتهم العقلية رفعة عن منزلة أسلافهم المتفننين بلا ريب إن العقل البشري كحجر الرحى يدور دائماً على نفسه طالباً ما يعمله فإذا لم يكن له من العلوم ما يصقله ويوسع نطاقه ويديره على محور الأعمال المفيدة والاكتشافات المهمة التي تشترك منفعتها بينهُ وبين أبناء جنسهِ ظل بليداً وحيداً بأفكاره يعمل لخدمة نفسه وسرورها فينصرف إلى بهرجة الفنون الجميلة ويلجأ لنظم القوافي في ظلال البنايات الضخمة صارفاً في سبيلها الوقت والتعب جزافاً في حين أنهُ متى تحول فكره إلى العلم اندفع بكليته إلى خدمته والاستفادة منه صارفاً همهُ إلى كل ما يجديهِ فائدة محسوسة من بحثهِ وجهاده. وفي هذه الحال فهو يأبى طبعاً أن يسير على خطة أجداده من تعشق الفنون وضياع العمر في سبيل إتقانها ويكفي لإثبات فضل المحدثين ما بلغ إليهِ عصرهم من الارتقاء المدهش في الزمن الأخير. فإنهُ ما أشرق فجر العلوم حتى استنار جو العقول والإفهام فتحولت الأبصار عن شفق الفنون السابح في ظلمات الخيال إلى

في جنائن الغرب

شمس الحقائق المتلألة في أفق العمل والنشاط فشمروا عن ساعد الجد وقطعوا مسافات شاسعة في النصف الثاني من القرن الأخير لم يكن يصدقها العقل لولا ما نراه من النتائج العظمى المترتبة على جهادهم الغريب أما وهم قد بلغوا هذا الشأو من الكمال بجدهم ونشاطهم فهل يجوز بشرع ربة اللطف أن تصوّب فيهم نظر الاتهام والاحتقار بينما هم ينتظرون من يدها الجميلة أكاليل الغار؟ لبيبة هاشم في جنائن الغرب نشرنا في أجزاء الزهور الماضية تحت هذا العنوان شيئاً كثيراً من خير ما ي} خذ من آداب الغربيين , لأن نقل أفكارهم وأساليبهم في التأليف لما يعود على لغتنا بالفائدة الكبرى. وسنظل فاتحي هذا الباب لنشر ما نختاره أو يختاره قراؤنا الكرام من غرر كتابات حملة الأقلام عند الأفرنج. لبيه هاشم الفرَس عنوان قصيدة فرنسوية مشهورة لناظمها أوغست بربيه (1805 - 1882). وكلها تورية عن قبض نابوليون على زمام الأحكام واضطراره فرنسا إلى شن الغارة على أوربا جمعاء مدة سنين طويلة , كما سيرى القارئ. وبمناسبة مرور مئة عام على الحملة التي سار بها هذا الرجل الكبير على بلاد قياصرة الروس فإننا سننشر في العدد القادم رأي الفيلسوف تولستوى في نابليون مترجماً بقلم أحد أدباء كتابنا. وإليك الآن ترجمة القصيدة الفرنسوية المذكورة: أيها القرسي! ما كان أجمل فرنسا تحت أشعة شمس مسيدور

العظيمة! كانت كالفرَس الجموع الشامس الذي لم يروّضه حديد اللجام , ولم يكبح جماحه عسجد الزمام كان متين الكفل , آبداً , مضرّج الحجول بدماء الملوك , كان أبياً عتياً , يقرع بساقيه المجدولتين أرضاً قديمة عرفت الحرية لأول مرة لم تكن مرّت عليه قط يدّ بشرٍ لتسومه الضيم والإهانة , ولم تكن خواصره الضامرة قد اطمأنت يوماً إلى سرج الأجنبي كان لماَّع الوبر , برَّاق العين , مرتجّ الأرداف ينتصب على رجليه فيرتجف العالم رهبة من دوي صهيله وحينئذ برزت إلى العالم. ولما رأيتَ هيأته وخواصره اللينة أيها الفارس الكمي قبضت على ناصيته وامتطيت صهوته ولما كان هذا الفرَس ولوعاً بخوض الحروب , شغوباً برائحة البارود وقرع الطبول , جعلتَ له الأرض مضماراً , والمعامع تسليةً وحينئذ لم يبقَ له من الراحة حظ , ولا من النوم نصيب , بل هناك جريٌ مستديم , وعَدْوٌ مستمر , فيطأ دائماً أبداً أشلاء الرجال كما يطأ الثرى , وهو مضرجٌ بالدماء حتى لبانهِ خمسة عشر عاماً ظلت سنابكه القاسية في جريه السريع تطحن الأمم , وهو مطلوق العنان مصعّد الأنفاس يرو ويغدو على صدور الشعوب

ثمرات المطابع

ثمَّ أعياه العدو دون بلوغ الغايةِ , وأنهكه الكرُّ دون طيّ الشقة , وملّ من عرك العالم بأسره وإثارة أبناء البشر كما تثير الريح الغبار فوقف , وقد خارت قواه وكاد يكبو لكل خطوة , وقف يسترحم فارسه القرسي. . ولكنك أيها الظالم لم تعره إلاّ أُذُناً صماّء بل زدتَ ضغط ساقيك على خاصرتيه. وقلّبتَ شكيمته في زَبَدِ فكيهِ لتُخمد شكواه , فحطمت نواجذه قهراً نهض الفرس من عثرته ولكنه خارت قواه في إحدى المعامع وعجز عن قرض لجامه فسقط صريعاً على فراش من الرصاص وقد قصف أضلاعك في تلك الكبوة عزيز مرزا ثمرات المطابع رباعيات عمر الخيام - عمر الخيام شاعر يمثل روح عصره ككل الشعراء وقد بات ما نظمه ألغازا ً لأبناء القرون الحاضرة لأنهم حاولوا فهمها على غير الغرض الذي وضعت له والعارفون به في الشرق نادرون وهم في الغرب كثار يكادون لا يعدون نقلت رباعياته إلى معظم اللغات الأوربية ودوّن الناقدون عنها فصولاً وألفوا كتباً وقام له اختصاصيون وقفوا أعمارهم على البحث في رباعياته وأغراضها وأصبح لأصحابها كل رأي فيه عصبية معروفة. فمعظم كتاب

الألمان يعتقدونه شاعراً صوفياً وكتاب الفرنسيس يرون فيه رجلاً يهوى الخمر والنساء كما يبدو من ظاهر أشعاره. أما الانجليز والأميركان فلا رأي خاص لهم فيه بل كل أقوالهم عنه تقليدية مأخوذة عن غيرهم من الأمم وإذا كان فتس جيرولد وقد نقل رباعيات الخيام إلى لغة الانجليز شعراً بشعر وأذاع صيته في تلك البلاد وحبب لبني السكسون شاعر الفرس العظيم فليس معناه أن الانجليز هم الذين عرّفوه إلى العالم على أن أبناء اللغة العربية لا يعرفون من عمر الخيام إلا ما نقله إليهم الغرب من تأليفه ورباعياته. ولولا ما بذله الفرنج من المجهود في سبيل أحياء هذا الشاعر ما وصل إلينا خبر من أخباره حتى أن أديبات الفرس التي نحن أحق الناس بمعرفتها وتقديرها قدرها لقرب اللغة الفارسية من اللغة العربية غابت عنا محاسنها ولا نجد منا من اطلع عليها بحيث يستطيع نقلها إلى العربية ولاشك أن نقل آداب لغة إلى لغة أخرى يستلزم مواهب وصفات شتى منها الاقتدار الطبيعي في الناقل وتضلع حقيقي في اللغتين يمكنه من فهم أسرار اللغات وإدراك روحها إدراكاً تاماًّ. ومنها صفات أخرى كسبية أوجدتها فيه ظروف الزمان والمكان بحيث تسهل عليه ترجمة العواطف والإحساسات على اختلافها وتباينها ترجمة صحيحة فإذا لاحظنا كل هذه الاعتبارات ولاحظنا أيضاً أن رباعيات بن الخيام هي من أسمى ما جادت به قرائح البشر على عالم الأدب اعتقدنا أن ناقل هذه الرباعيات إلى العربية وهو وديع أفندي البستاني قد قام بعمل جليل وقدَّم للعربية وأبنائها خدمة لا تنسى. وسنبقي الكلام على مكان

الترجمة في الأدب العربي إلى ما بعد الكلام على شعر الخيام نفسه إن شعر الخيام من قبيل الشعر الليريقي أو الشعر الغنائي الذي يصور عواطف النفس ويرسم أميال الفؤاد. ورباعياته من هذا النوع أيضاً غير أن عددها لا يحويه الحصر إذ أن كثيراً من الرباعيات منسوب إليهِ فلا يمكننا والحالة هذه أن نقيدها بقيد ونضعها تحت قاعدة معينة. على أن الرباعيات التي استخرجها فتس جيرولد مما نسب إلى عمر الخيام , إن صدقاً وإن كذباً , وأضاف إلى روحها الفارسية تلك الروح القلبية لا يمكننا أن نجزم بأنها رباعيات الخيام نفسها لأن فتس جيرولد كان خياماً غربياً أي أنه لما كانت أمياله كلها مشابهة لأميال عمر الخيام الفارسي , وكانت حياته شبيهة بحياة ذلك الشاعر , وكان من جهة أخرى واسع الإطلاع على أدبيات الفرس , أثرت على قلمه كل هذه المؤثرات فأخرج رباعياته خليطاً من روح الخيام ومن روح حافظ الشيرازي ومواهب السعدي بيد أننا إذا رجعنا إلى رباعيات الخيام التي ترجمها فتس جيرولد وغضضنا النظر عن بقية ما ترجمه المترجمون الآخرون من ألمان وفرنسيس يمكننا - وإن كان في ذلك شيء من الصعوبة - أن نقسمها إلى أقسام شتى كالحنين إلى الماضي واليأس من المستقبل والحث على انتهاز الفرص وتتطلب الملاذ لساعتها أني وجدت , والسخرية من الحياة , والحيرة في الوجود , والزهد الناشئ عن العجز , وامتداح الخمر , والهزؤ بالأديان , وذكرى الحبيب. وبالجملة فشعر الرباعيات كما قدمنا من نوع الشعر الليريقي الذي يعبر عما يجول في النفس لساعته بدون تقييد

هذا ما تيسر من القول عن الخيام بمنتهى الإيجاز. أما رأينا في تعريب وديع أفندي البستاني فيحتوي بعض ملاحظات قليلة نرجو الصفح عنها من صديقنا المحبب الذي لا نشك في أن له من اسمه نصيباً وافراً إذ أن نقد الشيء فرع من تقديره وإبداء الملاحظات على أمر من الأمور معنى من احترامه. فأول ما نقوله عن هذه الترجمة أن المعرب خرج بالرباعيات عن شكلها الطبيعي فجعلها سباعيات والسباعيات ضرب الشعر العربي كما أن الرباعيات ضرب من ضروب الشعر العربي كما أن الرباعيات ضرب من ضروب الشعر الفارسي وقد أدى هذا بصديقنا الوديع البستاني إلى أن يقول في سبعة أسطر ما قاله الخيام في أربعة. ثم أنه قسم الرباعيات إلى نشيدين مقلداً في ذلك الطريقة اليونانية وبين الطريقتين الفرسية والإغريقي من التنافر ما بينهما لأن اليونان كانوا يقسمون قصائدهم الكبرى إلى أناشيد وكل نشيد يبين حالة من أحوال النفس أو فصلاً من فصول القصة المروية كما هي الحال في الياذة هوميروس. ولكن شعر الخيام أن هو إلا صرخات نفس متألمة حائرة لا نشيداً تمجد فيه الحروب ولا الحياة ولا القوة. هذا من جهة الشكل أما من جهة الصياغة فإن فيها مآخذ شتى اضطر إليها وديع بعامل التعريب الحرفي كقوله: واضطراراً قد جئت هذي الديارا - وسأضطر للرحيل اضطرارا - واختياري أن استطعت اختيارا على أن له حسنات كثيرة وله أعذار أكثر فإنه شاب لم يتألم وناقل عن لغة لم تكتب الرباعيات بها وكفاه فخراً أنهُ قام نحو الشعر الفارسي بما لم يقم بهِ فحول كتاب العربية من قبله وحبذا قوله في أول النشيد الثاني

أقبل الفجر بهجة يتلالى - فأدِرها تزري الصباح جمالا - واعتزل حلبة الفخار اعتزالا - والأمانيَّ خلّ والآمالا - وتأمل فروع هند الطوالا - واسمع العود واطّرح عنك هما - واصف واهنأ بالكأس عيشاً وبالا محمد لطفي جمعه المحامي كتاب في التربية - لا تزال إدارة الجامعة المصرية دائبةً على توفير أسباب التعليم والتهذيب للناشئة الوطنية. وقد عهدت إلى نخبة من أفاضل العلماء وأعلام الأدباء من وطنيين وأجانب بإلقاء محاضراتٍ في مواضيع مختلفة من آدابٍ وعلوم وفنون واقتصاد إلى غير ذلك من فروع المعارف الحديثة. وقد سرّنا أنها وجهت عناية خاصة إلى تهذيب الفتاة فأناطت ببعض السيدات إلقاء محاضرات في مواضيع نسائية لا غنى للمرأة الشرقية عنها حتى تجاري أختها الغربية في مضمار الترقي. وقد تولت إلقاء هذه المحاضرات في العام الماضي سيدةُ من فضليات سيداتنا وكاتبة من أشهر كاتباتنا , عنينا السيدة لبيبة هاشم صاحبة ومحررة مجلة فتاة الشرق المعروفة. وقد جعلت موضوع محاضراتها التربية وهو الأمر الذي نحن في حاجة ماسة إليه. فتناولته من جميع أطرافه فتكلمت عن التربية الوالدية من حيث اعتناء الوالدين بالأولاد , وعن التربية البدنية من حيث غذاء الأطفال ونظافتهم وملبوسهم وترويضهم؛ وعن التربية

الأدبية من حيث تقويم الأخلاق وإرهاف القوى العقلية الخ وخصت بكلامها الفتاة من حيث تعليمها تدبير المنزل وأدب المعاشرة وإعدادها لتكون أماًّ صالحة - وقد كنا إبان إلقاء هذه المحاضرات نتمنى أن يكثر عدد السيدات اللواتي يقبلن على سماع هذه المواضيع. ولكن السيدة لبيبة قد عممت فائدة هذه المحاضرات بجمعها وطبعها حدة فبات بوسع الجميع اقتناؤها ومطالعتها. فنشكر لصاحبة فتاة الشرق هذه الخدمة الجديدة التي أضافتها لإلى مآثرها الجليلة في سبيل الأدب الإنسانيَّة والتمدّن - قال اُبن المقفَّع: من حاول الأمور احتاج

فيها إلى ستّ: العلم، والتوفيق , والفرصة , والأعوان ,، الأدب , والاجتهاد. وهنَّ أزواج: فالرأي والأدب زوج. لا يكمل الرأي بغير الأدب , ولا يكمل الأدب إلاّ بالرأي؛ والأعوان والفرصة زوج. لا ينفع الأعوان إلاّ عند الفرصة , ولا تتم الفرصة إلاّ بحضور الأعوان؛ والتوفيق والاجتهاد زوج. فالاجتهاد سبب التوفيق , وبالتوفيق ينجح الاجتهاد هذه الستُّ قد اجتمعت لحضرة الوجيه الفاضل عزتلو جرجس بك انطون أحد أفاضل موظفي الحكومة المصرية فاخرج للناس كتاب الإنسانية والتمدن وفيه الأدلة الناصعة على العلم والأدب والاجتهاد عنينا الصفات التي كانت أعواناً لحضرته فلزمتهُ في المباحث التي تحدَّاها في هذا المؤلف المفيد. أما الفرصة فلعلهُ كان يسترقها من أوقات فراغهِ وساعات استراحتهِ من عناء الأعمال والواجبات الرسمية. وفي ذلك أبلغ برهان على الفضل. وكأنَّ جرجس بك لم يكتفِ بالفائدة التي أرادها للناس من كتابة الإنسانية والتمدن فزاد عليها فائدةَ لا تقل قيمةً عن تلك , فوقف ثمن الكتاب على الأعمال الخيرية وإعانة البائسين. فكان في هذا العمل المجيد تطبيق محكم لاسم الكتاب ومباحثهِ على المغزى الذي رمى إليه واستفادة القراء منه. وأنَّ خير الأقوال ما اقترن بالأفعال. جزى الله حضرة المؤلف الأديب بما يجزي به العاقل الفاضل تاريخ آداب العرب - قام في مصر في السنوات العشر الأخيرة شاعر بليغ أجاد في أكثر المواضيع التي طرقها وكان لهُ المقام الرفيع بين شعراء العصر , فأخذ ينشر عاماً بعد عام ما يجتمع لديه من منظومة , وكان

الناس يقبلون على تلك المجموعات ويثنون على صاحبها الثناء الطيب. ثمَّ سككت ذلك الشاعر منذ أكثر من سنتين فلم نسمع له صوتاً , ولا قرأنا له شعراً إلاّ في ما ندر. وطال هذا السكوت حتى كان الشهر الماضي فإذا نحن وبين أيدينا الجزء الأوَّل من كتاب ٍ جليل الفائدة , عظيم النفع فقلنا لقد صدقت الحكمة القائلة: إذا كان الكلام من فضَّة فالسكوت من ذهب ذلك الشاعر هو أبو السامي مصطفى صادق الرافعي , وهذا الكتاب هو تاريخ آداب العرب قال المؤلف في الكلام على نمط الكتاب وأبوابه: وقد جعلنا أبوابه اثني عشر باباً تنطوي على جملة المأثور , ويدور عليها التاريخ كما تدور السنة على عدة الشهور وهذه سياقتها بعد فصلين من التمهيد في تاريخ الأدب، وأصل العرب: الباب الأوَّل: في تاريخ اللغة ونشأتها وتفرعها وما يتصل بذلك الباب الثاني: في تاريخ الرواية ومشاهير الرواة الباب الثالث: في منزلة القرآن الكريم من اللغة وإعجازه وتاريخه , وفي البلاغة النبويَّة ونسق الإعجاز فيها الباب الرابع: في تاريخ الخطابة والأمثال جاهليةً وإسلاماً الباب الخامس: في تاريخ الشعر العربي ومذاهبه والفنون المستحدثة منهُ الباب السادس: في حقائق القصائد المعلقات ودرس شعرائها الباب السابع: في أطوار الأدب العربي وتقلّب العصور بهِ وتاريخ أدب الأندلس إلى سقوطها ومصرع العربية فيها

الباب الثامن: في تاريخ الكتابة وفنونها وأساليبها ورؤساء الكتاب الباب التاسع: في حركة العقل العربي وتاريخ العلوم وأصناف الآداب جاهليةً وإسلاماً الباب العاشر: في التأليف وتاريخه عند العرب ونوادر الكتب العربية الباب الحادي عشر: في الصناعات اللفظية التي أولع بها المتأخرون الباب الثاني عشر: في الطبقات وشيء من الموازنات فأنت ترى أن الرافعي قد ألمَّ بتاريخ الأدب من جميع أطرافه وتناول البحث فيهِ من كل جهاته. فكتابهُ , وهو الكتاب الثاني المطوَّل الذي ظهر إلى اليوم في هذا الموضوع , مشبع الأدباء ووافٍ بالغرض المقصود منه ولقد كتب إلينا أحد أفاضل الأدباء يسألنا نفسح لهُ في الزهور مجالا لنقد هذا الجزء الأوَّل على أن يكون انتقاده مظهراً لحسنات الكتاب وسيئاته معاً , إذا كان هنالك سيئات. فرغبنا إليهِ في ذلك ولعله يمكننا من نشر مقالهِ في الجزء التالي من هذه المجلة. لذلك نحن نكتفي الآن بكلمة الثناء نوجهها إلى أبي السامي الفاضل ونتمنى أن ينشط كبار الكتاب والشعراء إلى مثل عمله المجيد حتى يكون فضلهم للناس أظهر , وشكرهم علينا أحقّ الأدب الصغير - لعبد الله بن المقفع فضل عظيم لا ينكرهُ أديب من أدباء العربية فهو أستاذ الكتاب والمنشئين في سلامة تعابيره , وجمال

أزهار وأشواك

أسلوبه حتى لقد أطلق علماء الأدب على إنشائهِ صفة السهل الممتنع , وما برح كتابه كليلة ودمنة إلى يومنا هذا رفيق المتأدبين. وأخرج اليوم سعادة الأستاذ العالم أحمد زكي باشا كاتب مجلس النظار كتاباً آخر لذلك المنشئ النابغة هو الأدب الصغير فعرفت فضله نظارة المعارف العمومية فقررتهُ لمدارسها الابتدائية ونعم ما فعلت. أما الكتاب فيكفي في تقريظه أن يكون كاتبه عبد الله بن المقفع , وناشره والواقف على طبعه أحمد زكي أزهار وأشواك عمر النساء عمر النساء الحسابية العسرة الحل , فقد تبوح المرأة بكل شيء إلا بعمرها الحقيقي. وقد جرت لي حكاية من هذا القبيل لا أتمالك عن سردها ولو جرَّت علي سخط بعض القارئات: كنتُ منذ أيام في أحد مجالس السمر , وكان فيمن حضر أربع سيدات يتفاوتن في السن تفاوتاً كبيراً , فأولادهن في الثمانين من العمر , والثانية في الستين , والثالثة في الأربعين؛ وكان مع هذه ابنةُ أخت لها في ربيعها الحادي والعشرين. جلستُ إلى الفتاة أجاذبها أطراف الحديث , وإذا بها تقول لي: ما قولك بخالتي؟ فهي تحاول , وقد جاوزت حدّ الأربعين , أن تجلس على عرش الجمال. فقلت: عبثاً تحاول , فقد تربعتِ على هذا العرش دون سواك ثمَّ دنوت من الخالة أحدثها , فابتدرتني بالسؤال: إلاّ بربك قلْ

لي ما رأيك في هذه السيدة التي أربى عمرها على الستين وهي لا تزال تقضي كلّ يوم ساعةً من الزمن أمام مرآتها؟ فقلت: تضيع الوقت سدًى , فأنَّي للمرآة توليها ما أولئك الطبيعة من الرونق؟ وبعد برهةٍ كنتُ إلى جانب ابنة الستين فسرعان ما قالت لي: انظر إلى هذه العجوز الدردبيس فهي تحاول بطلاء وجهها أ، تمحو آثار الثمانين عاماً التي تثقل كاهلها فأجبت هذا خَرَف الشيوخة قلتُ هذا وبقيتُ مدةً أُفكّر. ثمَّ عزمت على إعادة طوافي مبتدئاً هذه المرة من الكبرى إلى الصغرى: فجلستُ بقرب الثمانين سنة وقلت لها: إن هيأتك يا سيدتي أشبه شيء بهيأة السيدة التي كنتُ أحدثها الآن , فكأنكما أُختان ولدتا في سنة واحدة فتبسمت وقالت: أنت مصيب فقد ولدنا في عام واحد تركتها وعدتُ إلى الستين سنة فقلت: تراهنت واحد أصحابي على أنكِ وهذه السيدة (وأشرت إلى ابنة الأربعين) قد ولدتما في شهر واحد في سنة واحدة فأمالت رأسها إمالة الإثبات الشديد وقالت وأظن في أسبوع واحد انتقلتُ بعدئذٍ إلى جنب ابنة شقيقتكِ , فإن الناظر إليكما يظنكما تؤأمين فأجابت لا هي بالحقيقة ابنة أختي , لكنَّ أمها أختي كانت تكبرني بخمسة وعشرين عاماً , وقد أخبرتني أني ولدتُ وابنتها هذه في عام واحد. . . تقول ابنة الثمانين أنها ولدت في سنة ولادة ابنة الستين , وهذه ولدت في السنة التي ولدت فيها ابنة الأربعين. وهذه ولدت وابنة العشرين في عام واحد. فتكون العجوز

الثمانينية - على هذا الزعم - من سنّ الفتاة ابنة العشرين. . .؟ آه من عمر النساء. . .! تمثال مويّار لا يزال الإنسان يغالب عناصر الطبيعة , فيتغلب عليها؛ ويسترق أسرارها ونواميسها , فيستخدم قواها لزيادة قوته , أو لتوفير أسباب رفاهيته. فتوحاتٌ وانتصاراتٌ أحرزها وهي أبهى وأشرف من انتصاراته في ميادين القتال. وآخر فتح ثمَّ له من هذا القبيل , تذليله الهواء , واتخاذه إياه مطية سهلة المقاد. فصار يسافر هواءَ كما كان يسافر برًّا أو بحراً , فدانت له الطبيعة بأسرها. على أن هذا الفتح لم يتم له دون تضحية العدد الكبير من الأبطال. نخص منهم اليوم بالذكر المهندس الفرنسوي مويار الذي رفعت له شركة مصر الجديدة تمثالاً في أرضها , وجمعت الوجهاء والأدباء حوله في الشهر الغابر ليحتفلوا بذكره. هكذا يكرم الغربيون نوابغهم. . وقد أراد علاَّمتنا زكي باشا أن يكون لنوابغ الشرق نصيبهم من هذا الإكرام , فأبان في خطبةٍ ملؤُها التنقيب والبحث أن اثنين من العرب - وهما الجوهري وعباس بن فرناس - قد حاولا الطيران قبل سواهما. وقد اعترفت بذلك لجنة الاحتفال , فنقشت الأبيات الآتية على قاعدة التمثال وهي لحافظ إبراهيم: إن يركبِ الغربُ متن الريح مبتدعاً ... ما قصّرتْ عن مداه حيلةُ الناسِ فأن للشرق فضلَ السبق نعرفه ... للجوهريِّ وعباس بن فرناس قد مهدّا سُبُلاً للناس تسلكها ... إلى السماء بفضل العلم وإلباسِ

خصت مصر مويار دون سواه من أبطال الطيران لترفع له تمثالاً تحت سمائها , لأن مويّار الأفرنسي المولد , عاش ومات في مصر. وفي مصر كان يشتغل لتحقيق مسألة الطيران , فوضع قواعد هذا الفن كما هي معروفة اليوم؛ ولكنّ ضيق ذات يده حال دون إبراز فكرته إلى حيز العمل , فعاش فقيراً ومات فقيراً. وقام علماء آخرون فعملوا بالمبادئ الميكانيكية التي وضعها , فتمكنوا من امتلاك ناصية الهواء ومجاراة الطير في مضمار السماء. مات مويار فقيراً كما عاش ولكنه أغنى أبناء جنسه باختراعه العجيب؛ فكان شأنه شأن معظم كبار المخترعين والمكتشفين كغاليله وكولمبس , فهم لا يحيون ولا يمجَّدون إلاَّ بعد موتهم. . . خمسة عشر عاماً مرّت على وفاة هذا المخترع. فأدرك العالم سموَّ مداركه؛ وقام اليوم يجود بتماثيل البرونز والرخام , على من حُرم في حياته ما يسدُّ به الرمق. فما أعجب مغالطات بني البشر. ويا ما أحدّ سهام اللوم التي صوّبها إليهم حكيمنا شبلي شميل إذ قال: مُيّار أنك قد قضيت ككل منٍ ... نفع البرية وهو قد نال الضررْ قد عشتَ بين الناس أوحد بائساً ... والعقل مقتدر وفي الأيدي قِصرْ هم ضيَّقوا الدنيا عليكِ وأنت في ... فتح السماء لهم تحلّق في الفكرْ ضنّوا عليك وأنت حيٌّ بينهم ... وتسابقوا للميت في نثر الدررْ جهلوك حتى أوقعوا بك ريبةً ... وتفاخروا بك بعد موتك عن أشرْ لو أنهم نفعوك يوم خدمتهم ... لوفوك حقاً غير حق منتظرْ أو أنهم فهموك يوم هديتهم ... عزَّاك علمك أنهم حقاً بشرْ يستمسك الإنسان بالبالي فإن ... عنه تزحزحه تجده قد نفرْ

لمن هذا الشعر

ما فضلك المعني وهو به الغنى ... بل جهلهم يعنون في هذا الأثرْ سهم نافذ. . . .! ولكن الخلف الذي يعوّض عن السلف بإعلان فضل من غمط فضله يستحقُّ قسطه من الثناء حاصد لمن هذا الشعر وقعنا على الأبيات التالية وهي لشاعر كبير من شعراء اليوم الذين عرفهم قراء الزهور فإذا بها تنم كثيراً عن شاعرها. فرأينا أن ننشرها غفلاً من التوقيع تاركين لفراسة القراء أن يعرفوا اسم الشاعر. ومن عرفه وكتب إلينا اسمه في خلال شهر بعد صدور هذا الجزء جعلنا لهُ جائزة كتاباً أدبياً من أفضل الكتب التي ظهرتِ حديثاً وعليه توقيع الشاعر بخط يده نظرت إليها نظرة فتأثرت ... وبأن على الخدين من نظرتي أثَرْ ولما تراءى الوجد بيني وبينها ... مددت له ستراً من الرأي فاستترْ وقد كدت أنسى كبرتي فاد كرتها ... وراجعت نفسي أن يراجعها الصغرِْ تضن بها النعمى وتبذلها المنى ... وتنأى بها السلوى وتدنو بها الفكرْ فيجذبني وجدي وتدفعني النهى ... وينهضني شوقي ويقعدني الكبر أرى في ديارات الأحبة أوجهاً ... فأطلب إغضاَء فيسبقني النظر يلمُّ بها يشتار منها محاسناً ... كذا النحل يشتار العسول من الزهر وكم ليَ في الألحاظ سرًّا مكتماً ... ينمُّ عليه اثنان شعريَ والحوَر مضى زمن اللهو الذي لست ساخطاً ... على ما مضى منهُ وذا زمن العبر فأسكتني ما أسكت الورق في الدجا ... وأنطقني ما أنطق الورق في السحر كلانا له أن ردد النوحَ سامعُ ... فتسمعني كتبي ويسمعها الشجر تمنت قلوب أن أكون دخلتها ... ولاغرو لكن آفة الِرد في الصدَرْ

العدد 23

العدد 23 - بتاريخ: 1 - 4 - 1912 الكهانة إذا كان سعادة اسكندر عمون بك من مشاهير رجال القانون فهو أيضاً من كبار الكتاب العارفين آداب اللغة كل المعرفة. وإذا كان اشتغالهُ بالقضاء فالمحاماة قد صرفهُ عن معالجة المواضيع الكتابية , فإن له في عهده الأول آثاراً أدبية تدل على تمكنهِ من صناعتي النظم والنثر. ولقد ظفرنا ببعض تلك الآثار وسننشرها بادئين بالفصل التالي وقد كتبهُ حضرته منذ نحوٍ من خمس وعشرين سنة وهو مقتبس من مواد كثيرة كان سعادته قد اعتنى بجمعها وإعدادها لوضع كتابٍ مطوَّل في تاريخ العرب قبل الإسلام: الكَهانة في اللغة القضاءُ بالغيب. والكاهن هو الذي يتعاطى الخبر عن الكائنات في مستقبل الزمان , ويدّعي معرفة الأسرار. وقد اختلف العلماءُ في وجه سبب الكهانة؛ فمنهم من قال أن نفس الإنسان إذا صفت وتغلَّبت على الجسم , اطلعت على أسرار الطبيعة. ولذلك كان أكثر الكهّان معتلّي الأجسام , بتغلب النفس فيهم على المادة , كما اتصل بنا عن شقٍّ وسطيحٍ وعمرانَ وغيرهم من الكهان المشهورين.

ومنهم من قال: أنَّ وجه سبب الكهانة من الوحي الفلكيّ؛ ولعلّ ذلك خاص بالمنجمين دون غيرهم من الكهان. ومنهم من قال: إن للكاهنِ تابعاً من الجنّ , ورئياًّ يلقي إليهِ الأخبار. وهو القول المشهور عندهم , المعتمد في الإسلام. وقد جاءَ في صحيح البخاري عن النبي: أن الملائكة تتحدث في العِنان (أي الغمام) بالأمر يكون في الأرض فتسمع الشياطين الكلمة فتقرّها في أُذن الكاهن , كما تقرّ القارورة , فيزيدون معها مائة كذبة. وقال الله في كتابه: {يوحي بعضه إلى بعض زخرف القول غروراً}. وقال: {وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم}. وقال الأزهري: كانت الكهانة في العرب قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فلما بُعث نبياًّ وحرست السماء بالشهب , ومنُعت الجن والشياطين من استراق السمع وإلقائه إلى الكهان , بطل علم الكهانة. وقال الله في كتابه: {وأنّا لمسنا السماءَ فوجدناها ملئت حرساً شديداً وشهباً وكان للكهانة في الجاهلية شأن عظيم لشدة اعتقاد القوم بها. فكان الواحد منهم إذا ضلَّت له ضالة , أو سرق له شيءً , أو همَّ بأمرٍ ذي بال أو أُصيب أحد من أهله بمرض , يذهب إلى الكاهن فيستطلع منهُ ما يحبُّ الوقوف عليهِ من مكان الضالة , أو محل السرقة , أو مال الأمر , أو داء المريض. وكانوا يقصدون الكهان بنوع أخصّ لأجل تفسير الأحلام المؤثرة , لأنهم كانوا يعتقدون أنها نبأ روحاني عما سيقع لهم من الأمور الخطيرة في مستقبل الزمان. وكانوا يحترمون أقوال الكهان فيما يسألونهم عنه , فلا يخالفون لهم رأياً. وكان الكهان يتوخون السجع

في كلامهم , لأنهُ أوقع في النفوس , فيستصغون إلى أقوالهم الإسماع , ويستميلون بها القلوب. . . أقول: وربما كان الغرض الأول من التزام السجع ترك الكلام مبهماً غامضاً , لأنَّ المتكلم إذا التزم في كلامه قافيةً , سواء كان الكلام نظماً أو نثراً , يباح له من الإبهام في أقواله مالا يباح لغيره. وكل متكهن محتاج إلى ذلك الإبهام وقد اشتهر في الجاهلية عدد من الكهان , أكثرهم في بلاد اليمن. فكان العرب يقصدونهم من أطراف البلاد لاستطلاع الغيب منهم في الأمور العظام , غير معتمدين في ذلك على الكهان الذين بين ظهرانيهم. ثمَّ إذا صدَّقت الحوادث شيئاً من ظنونهم , وصحَّ شيءٌ من أقوالهم , تناقلتِ الألسنةُ الخبر , وزادت عليهِ الرواة من الحكايات المختلفة أضعاف أضعاف الحقيقة , فتزداد بذلك شهرتهم. وربما نسبوا إليهم أموراً في أزمنة لم يكونوا موجودين فيها , كما نسبوا إلى سطيح الكاهن أنهُ أنذر باستيلاء الحبشة على اليمن قبل الاستيلاء بسبعين سنة. ثم أوَّل رؤيا الموبذان بعد مولد النبي. ولذلك اقتضى الأمر أن يجعلوا عمره نحواً من ثلاثمائة سنة. وقد عنَّ لقوم أن يجعلوا مولدهُ قبل ظريفة الخبر كاهنة عمرو مزيقياء , لكي تنفل هذه الكاهنة في فيهِ , فينتقل إليهِ علمها ولذلك اضطروا أن يمدوا عمره إلى ستة قرون أو أكثر وسطيح هذا أشهر كهان الجاهلية. ثم يليه شقّ وكانا متعاصرين. وممن اشتهر قبلهما ظريفة الخبر كاهنة عمرو مزيقياء ملك اليمن الذي تفرقت الازد في عهده بسبب سيل العرم؛ وعمران الكاهن أخو

عمرو المذكور؛ وعمران هو أوَّل من رأى في كهانته أن قومه سوف يمزَّقون كل ممزّق , ويباعد بين أسفارهم. ثم رأت ظريفة في كهانتها نبأ السيل , فأنذرت عمرواً. ومن الكهان الذين اشتهروا في آخر زمن الجاهلية سملقة وزوبعة وحارثة بنت جهينة وكاهنة باهلة وسديف بن هرماس , وغيرهم ممن يضيق بنا المقام عن ذكر أخبارهم ولنذكر هنا شيئاً من أخبار سطيح الكاهن على سبيل الأنموذج والمثال , لاسيما وأنهُ كان عند القوم بمنزلةٍ صيرّتْهُ أمام الكهانة , فأصبحت أخباره جزءًا من تاريخ الكهانة نفسها قالوا: هو ربيع بن ربيعة بن مسعود بن مازن بن ذئب بن عدي بن مازن بن غسان , وسمي سطيحاً لعجزه عن القعود والقيام , فكان أبداً منبسطاً منسطحأ على الأرض؛ ولما كان ذلك الرجل عجيباً عندهم في كهانتهِ , اقتضى الأمر أن يكون كل شيءٍ متعلق به عجيباً أيضاً. فكما أنهم زعموا أن شقاً كان نصف إنسان , له يد واحدة ورجل واحدة وعين واحدة؛ كذلك زعموا انهُ لم يكن في جسم سطيح عظم سوى الجمجمة؛ ولذلك كان يدرج سائر جسده كما يدرج الثوب. وقالوا أن الجمجمة نفسها كان يلين عظمها إذا لمست باليد وأنهُ كان إذا غضب اشتدت أوصاله فينتصب قاعداً ويبقى كذلك إلى أن تسكن سورة غضبه. وذد ذكرنا أقوالهم في طول عمره. وقد زعموا انهُ خرج مع من خرج من اليمن في أيام سيل العرم ومات في أيام كسرى أن شروان وأول ما تكهن بهِ سطيح انهُ كان نائماً مع أهلهِ في ليلة سها كية

مظلمة , فإذا هو قد زعق من بينهم ورنَّ وتأوَّه وقال: والضياء والشفق , والظلام والغسق , ليطرقنَّكم ما طرق. قالوا: ما طرق يا سطيح. قال: ما طرق إلاَّ الأجلح , حين سرى الليل إليهم الأفلح , وولاهم فيهِ دح. قالوا: وما علامة ذلك يا سطيح. قال: أمر بسد النقرة ذوجية في الوجرة وحرَّة في ليلة قرَّة. فلم يكترثوا لقوله , وتعاصفت مدود من أودية هنالك , فجاءَتهم في ليلة قرَّة كما ذكر , فساقت الأنعام والمواشي وكادت تذهب بعامتهم ومن أشهر ما يروى عن سطيح تأويله رؤيا ربيعة بن نصر ملك اليمن إذ أنذر باستيلاء الحبشة على بلاده. وذلك أن ربيعة رأى رؤيا هالته , فلم يدع كاهناً ولا ساحراً ولا عائقاً ولا منجماً من أهل ملكه إلاّ استدعاه إليه , فلما اجتمعوا في داره قال لهم أني قد رأيت رؤيا هالتني وفظعت بها , فأخبروني بها وبتأويلها. فقالوا قصَّها علينا نخبرك بتأويلها. قال إني إن أخبرتكم بها لم اطمئنَّ إلى خبركم عن تأويلها أنه لا يعرف تأويلها إلاّ من عرفها قبل أن أخبره بها. فقال له رجل منهم إن كان الملك يريد هذا فليبعث إلى سطيح وشق إذ ليس أحد أعلم منهما , فهما يخبرانه بما سأل عنه. فبعث الملك إليهما. فقدم عليه سطيح قبل شق فقال له: إني قد رأيت رؤيا هالتني وفظعت بها فأخبرني بها فإنك إن أصبتها أصبت تأويلها. قال: أفعلُ. حُمَمَه , خرجت من ظلمه , فوقعت بأرض تَهِمهَ فأكلت منها كل ذات جمجمة. فقال له الملك: ما أخطأت منها شيئاً يا سطيح , فما عندك في تأويلها؟ فقال: أحلف بما بين الحرتين من حنَش ,

لينزلنَّ أرضكم الحبش , وليمكنَّ ما بين أبين إلى جرش. فقال له الملك وأبيك يا سطيح , إن هذا لنا لغائظ موجع فمتى هو كائن أفي زماني أم بعده؟ قال: لا بل بعده بحين , أكثر من ملكهم أم ينقطع؟ قال: بل ينقطع لبضع وسبعين من السنين , ثم يقتلون ويخرجون منها هاربين. قال: ومن يلي ذلك من قتلهم وإخراجهم؟ قال: يليه أرِم ذي يزن , يخرج عليهم من عدن , فلا يترك منهم أحداً باليمن. قال: أفيدوم ذلك من سلطانه أو ينقطع , قال: بل ينقطع , قال ومن يقطعه؟ قال: نبي زكي يأتيه الوحي , من قبل العلي. قال: وممن يكون هذا النبي؟ قال: رجل من ولد غالب بن مالك بن فهر بن النضر , يكون الملك في قومه إلى آخر الدهر. قال وهل للدهر من آخر؟ قال نعم يوم يجمع فيه المحسنون ويشقى فيه المسيئون. قال أحق ما تخبرني؟ قال نعم والشفق والغسق والفلق إذا اتسق إن ما أنبأتك به لحق. ثم قدم عليه شق فقال له كقوله لسطيح وكتم ما قال سطيح لينظر أيتفقان أم يختلفان قال نعم رأيت حممه فخرجت من ظلمه فوقعت بين روضة وأكمه فأكلت منها كل ذات نسمة. فلما قال له ذلك عرف أنهما قد اتفقنا وإن قولهما واحد إلاَّ أن سطيحاً قال بين روضة وأكمه فأكلت منها كل ذات نسمة. فقال له الملك ما أخطأت يا شق منها شيئاً فما عندك في تأويلها؟ قال أحلف بما بين الحرتين من إنسان لينزلنَّ أرضكم السودان , وليغلبن على كل طفلة البنان وليملكن

ما بين أبين إلى نجران. فقال له الملك وأبيك يا شق إن هذا لنا لغائظ موجع فمتى هو كائن أفي زماني أم بعده؟ قال لا بل بعده بزمان ثم يستنفذكم منهم عظيم ذو شأن ويذيقهم أشدّ الهوان قال ومن هذا العظيم الشأن قال غلام ليس بدني ولا مدَن يخرج من بيت ذي يزن قال أفيدوم سلطانه أم ينقطع قال بل ينقطع برسول مرسل يأتي بالحق بين أهل الدين والفضل , يكون الملك في قومه إلى يوم الفصل. قال وما يوم الفصل؟ قال يوم تجزى فيه الولات تدعى فيه من السماء بدعوات يسمع منها الأحياء والأموات ويجمع فيه الناس ليوم الميقات؛ يكون فيه لمن اتقى الفوز والخيرات. قال أحق ما تقول؟ قال أي ورب السماء والأرض وما بينهما من رفع وخفض أن ما أنبأتك لحق ما فيه أمض وروى الأزهري بإسناده عن مخزوم بن هانئ المخزومي عن أبيهِ قال: لما كانت الليلة التي ولد فيها سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليهِ وسلم ارتجس ديوان كسرى وسقطت منهُ أربع عشرة شرفة وخمدت نار فارس ولم تخمد قبل ذلك مائة عام , وغاضت بحيرة ساوة ورأى الموبذان إبلاً صعاباً تقود خيلاً عراباً قد قطعت دجلة وانتشرت في بلادها فلما أصبح كسرى أفزعهُ ما رأى فلبس تاجه وأخبر مرازبته بما رأى , فورد عليهِ كتاب بخمود النار. فقال الموبذان وأنا رأيت في هذه الليلة وقصَّ عليهِ رؤياه في الإبل. فقال له وأي شيء يكون هذا؟ قال حادث من ناحية العرب فبعث كسرى إلى النعمان بن المنذر أن ابعث إليَّ برجل عالم ليخبرني عما أسأله. فوجه إليهِ بعبد المسيح بن عمرو بن نُفيلة الغساني , فأخبرهُ بما

رأى فقال: علمُ هذا عند خالي سطيح قال: فأتهِ وسلهُ وأتني بجوابهِ. فقدم على سطيح وقد أشفى على الموت فأنشأ يقول: أصمَّ أم يسمع غطريف اليمن ... أم فادَ فازلمَّ بهِ شأو العنن؟ يا فاصل الخطّة أعيت مَن ومَنْ ... أتاك شيخ الحيّ من آل سنَنْ رسول قَيل العُجم يسري للوسَن ... وأُمه من آل ذئب بن حجَنْ أبيض فضفاضُ الرداء والبَدَن ... تجوب بي الأرضَ علنداةٌ شزَن ترفعني وجناً وتهوي بي وجَنْ ... حتى أتى عاري الجآ جي والقطَنْ لا يرهب الرعد ولا ريب الزمن ... تلفُّهُ في الريح بوغاءُ الدمَنْ كأنما حُثجثَ من حضني ثكَنْ قال: فلما سمع سطيح شعره رفع رأسه فقال: عبد المسيح على جمل مُسيح إلى سطيح وقد أوفى على الضريح بعثك ملك بني ساسان لارتجاس الأيوان , وخمود النيران ورؤيا الموبذان. رأى إبلاً صعاباً تقود خيلاً عراباً يا عبد المسيح إذا كثرت التلاوة وبٌعث صاحب الهراوة وغاضت بحيرة ساوة , وملكات على عدد الشرفات , وكل ما هو آتٍ آت. ثم قبض سطيح مكانه. فكان ذلك آخر ما تكهَّن بهِ ونهض عبد المسيح إلى راحلتهِ وهو يقول: شمِّر فإنك ما عُمّرت شمّيرُ ... لا يفزعنّك تفريقٌ وتغييرُ إن يمس ملك بني ساسان أفرطهم ... فإن ذا الدهر أطوارٌ دهاريرُ فربما ربما أضحوا بمنزلةٍ ... تخاف صولهم أسدٌ مهاصيرُ منهم أخو الصرح بهرام وأخواتهم ... وهرمزانٌ وسابورٌ وسابورُ

نابوليون الأول وحرب روسيا

والناس أولاد علاّتٍ فمن علموا ... أن قد أقلَّ فمهجورٌ ومحقورُ وهم بنو الأم لما أن رأوا نشباً ... فذاك بالغيب محفوظٌ ومنصورُ والخير والشرّ مقرونان في قرَنِ ... فالخير متّبعٌ بالغيب والشرّ محذورُ فلما قدم على كسرى أخبره بقول سطيح فقال كسرى: إلى أن يملك منا أربعة عشر ملكاً تكون أمور. فملك منهم عشرة في أربع سنين وملك الباقون إلى زمن عثمان. وكان من أمر انقلاب دولتهم ما كان اسكندر عمون نابوليون الأول وحرب روسيا وضع الكونت لأون تولستوي , الكاتب الروسي المشهور , كتاباً تحت عنوان نابوليون وحرب روسيا وصف فيهِ فظائع تللك الحرب الهائلة بأسلوبٍ انتقادي خطَّأَ فيهِ مزاعم معظم المؤرخين الفرنسيس والروس الذين أسهبوا في الكلام على تلك الحرب , وسفَّه آراءَهم من مثل إيجاد مؤرخي الفرنسيس أعذاراً لعاهلهم تنصّلهُ من تبعة تلك الحملة التي هلكت فيها مئات الألوف من البشر , وانتفقت في سبيلها القناطير المقنطرة من المال , ومثل ادعاء مؤرخي الروس أن قيصرهم وقادة جيوشهِ تمكنوا بدهائهم من إلقاء الفرنسيس في تلك الورطة التي فغرت فاها وابتلعتهم. ولما كان تولستوي ينظر إلى نابليون بغير المقلة التي ينظر بها إليهِ السواد الأعظم من بني الطينة , أحببنا أن ننقل لقراء الزهور الكرام الفصل الأخير من الكتاب المذكور وننشره لهم على علاتهِ , فاسحين على صفحات هذه المجلة مجالاً لأقلامهم

لعلهم يتحفوننا بما يعنُّ لهم من الملاحظات في الموضوع الذي نحن في صدد الكلام عنهُ قال تولستوي: نابوليون واسكندر الأول إذا جارينا المؤرخين في أن الرجال العظام يسيرون بالإنسانية إلى غايات معلومة , وأن الموازنة الأوروباوية , وانتشار الأفكار الثورية , وعمران البلدان وغير ذلك من الأغراض تتعلق بعظة الدولتين الروسية والفرنساوية , تعذَّر علينا والحالة هذه أن نفسِّر معاني الحوادث التاريخية دون أن نجعل للصدفة والدهاء شأناً فيها ولو كانت الغاية من الحروب الأوروباوية التي شبت نيرانها في مفتتح هذا القرن (التاسع عشر) إعلاء شأن الدولة الروسية لكان من الممكن إدراك تلك الغاية بغير الحروب التي سبقتها وبغير تلك الغزوة ولو كانت عظمة فرنسا هي الضالة المنشودة لكان من المستطاع أصابتها بغير الثورة والإمبراطورية ولو كان الغرض الذي يرمون إليهِ نشر الأفكار الثورية لكانت الكتب أسهل منالا له من الجنود ولو كان رفع منار العمران هو الحاجة التي يطلبونها , لسهل عليهم قضاؤها بذرائع أنجع من إهلاك عباد الله ونهب أشيائهم ولماذا جرت الحوادث في هذا المجرى , ولم تجرِ في غيره؟ إن التاريخ يجيب أن الصدفة أوجدت الحالة , فاستفاد منها الدهاء ولكن ما هي الصدفة وما هو معنى لفظة دهادء؟

إن كلمت صدفة ودهاء لا تعبّران عن شيء موجودٍ في الحقيقة. وهذا هو السبب الذي يجعل تحديدهما متعذّراً فهما لا تدلاَّ على طريقة واحدة يستعان بها على إدراك حقائق الأمور. إني أجهل مثلاً سبب هذا الحادث , ويجري في وهمي أني أعجز عن فهمهِ , ومن جراء ذلك لا أعالج الوقوف على كنههِ , فأقول أن الصدفة هي التي أوجدتهُ إني أرى قوةً تنتج عملاً لا ينطبق على صفات البشر المألوفة , وحين تصعب عليَّ معرفة سبب تلك القوة , أقول إن هذا ضرب من ضروب الدهاء إن الخروف الذي يضعهُ الراعي كل مساءٍ في حظيرة خصوصية , ويقدم له طعاماً زائداً , يفوق من جراء ذلك رفاقهُ في السمن , ويبين لأولئك الرفاق أنَّ في أمرهِ شيئاً من الدهاء , على أن الحقيقة هي أن ذلك الخروف , بدلاً له فيها العلف. وحين يسمن ذلك الخروف , ينحر ويباع للجزار , فيؤثر ذلك الأمر في باقي الغنم , ويبين لها أنهُ نتيجة من نتائج الدهاء المقرون بسلسلة من سلاسل الصدف الغريبة ولو لم تعد الغنم تعتقد أن كل ما يجري يرمي بهِ إلى غايات تتعلق بها دون سواها , ولو زعمت الحوادث الطارئة تجري إلى غايات تجهل حقيقتها , لتجلت لها للحال وحدهٌ في العمل , وتعاقب منطقي في كل ما يطرأ على الخروف الذي يُسمّن إن الغنم وإن لم تكن تدرك الغاية من تسمينهِ , تدرك أنهُ لم يحدث

شيء من الذي حدث للخروف من باب البداهة, ولا تحتاج إلى تفسير معناه إلى الالتجاء إلى الصدفة أو إلى الدهاء. أنّا لا نكتشف في حياة الأشخاص المذكورين في التاريخ تعاقبا منطيقيا للحوادث التي تقتضيها الضرورة إلا حين نعرض عن معرفة غاية الأشياء الأخيرة باعترافنا إن فهمنا يقصر عن الوصول إليها. فحينئذ يتجلى لنا سبب التفاوت بين أعمالهم ومقدرة الأشخاص العاديين ولا نعود محتاجين البتة إلى الأعتقاد بكلمتي صدفة ودهاء. وبناء عليه نقول انه يكفينا أن نعتقد أنا نجهل الغرض من حركات الشعب الأوروباوي وأنا لا نعلم إلا الحوادث الناشئة عن المجاوز التي جرت في فرنسا وبروسيا والنمسا وروسيا وأن الداعي لتلك الحوادث هو زحف الشعوب الغربية على الشعوب الشرقية وبالعكس أي زحف الشعوب الشرقية على الشعوب الغربية. وحسبنا الأعتقاد بهذه الأمور حتى لا نعود ند شيئا من الدهاء والشذوذ في صفات نابليون وإسكندر الأول ولا نعود نعتبر ذينك العاهلين إلاّ رجلين مثل سائر الجال ولا نعود فقط محتاجين إلى أن نفسر بالصدفة معنى الحوادث الصغيرة التي صيرت ذينك الرجلين في الحالة التي كانا عليها بل يتضح لنا بجلاء أن تلك الحوادث الصغيرة لم يكن بد منها. وحين نهمل أمر المسير إلى الغاية النهائية ندري أنه كما يتعذر وجود أزهار وبذور لنبات من النباتات غير الأزهار والبذور التي له, يتعذر وجود شخصين من الأشخاص الذين ينوه عنهم التاريخ يستطيعان على مثال الأسكندر الأول ونابليون من مفتتح حياتهما إلى مختتمها أن ينهضا كل

النهوض بأعباء المهمة الملقاة إليهما إن السبب الأصلي للحوادث الأوروباوية في فاتحة هذا العصر منشأة الحركات الحربية التي أجرتها في بدء الأمر الشعوب المحتشدة للزحف من الغرب على الشرق وفيما بعد من الشرق على الغرب كان بدء هذه الحركة في الغرب وكانت الأمور الآتية تدعو الشعوب الغربية إلى الإغارة على الديار الروسية والتوغل فيها حتى موسكو: 1ً - إن تلك الشعوب كانت متكاتفةً تكاتفاً حربياًّ يمكنها من تلقّي صدمة مجموع الشعوب الحربية الشرقية 2ً - إنها نبذت كل تقاليدها وعاداتها 3ً - إنها كانت تأتمر لإجراء تلك الحركة الحربية بأمر رجلٍ تمكن من تزكية نفسهِ ساحتها باستعاذتهِ بالكذب والنهب والقتل لإدراك غايتهِ. إن الثورة الأصلية الصغيرة المنتمية إلى الثورة الفرنساوية الكبرى تبددت من جراء صغرها. وتغيرت التقاليد والعادات فتألفت شيئاً فشيئاً جماعة جديدة ونشأت معها تقاليد وعادات جديدة وفي ذلك الوسط نهض للاضطلاع بمهمتهِ الرجل ساقتهُ الأقدار يوماً من الأيام إلى ترأُس الحركة وحمل أعباء مسئولية الحوادث التي توالت. إن ذلك الرجل الذي لم تكن لهُ مبادئ ولا عادات ولا تقاليد ولا اسم والذي لم يكن فرنساوياً هادنتهُ الأحداث مهادنةً غريبة وعرَضية فنال ما وصلت إليهِ يدهُ في أول الأمر وتدخل مع جميع الأحزاب التي كانت تلقي الشقاق في فرنسا دون أن يعتصم بحبل واحدٍ منها وكان من أمرهِ أنهم رفعوهُ إلى أعلى درجة

إن جهل المحيطين بهِ وضعف خصومهِ وعدم الاعتداد بهم وإخلاصه في الكذب وضيق دائرة عقلهِ الذي تكتنفهُ الدعوى دفعت ذلك الرجل إلى تولي زعامة الجيش إن حسن لانتظام في جيش الحملة الإيطالية وما أبداهُ العدو من الرغبة عن القتال وثقة ذلك الرجل بنفسه وجرأته الوهمية كانت مرقاة إلى مجدهِ العسكري. وقد رافقتهُ في كل شيء صدف سعيدة على زعم البعض وكان أولياء الأمور في فرنسا ينظرون إليهِ شزراً إلاَّ أن تلك المعاملة كانت مساعدةً لهُ على نيل رغائبه إن المساعي التي بذلها لتغير الخطة التي توخي إنتاجها أحبط الواحد منها بعد الآخر , فالدولة الروسية أبت أن تدخلهُ في خدمتها والدولة العثمانية نبذت ما كان يعرضه عليها من الخدمة وفي حرب إيطاليا كان غير مرةٍ الخطر أدنى إليهِ من قاب قوسين بيد أن أحوالاً غير منتظرة كانت تخرجه من تلك الورطة الوبيلة إن الجنود الروسية التي كانت قادرة على تقويض أركان مجدهِ بجميع أنواع التدابير السياسية لم تطأ أوربا بأقدامها مدة بقائه فيها ولدن رجوعه من إيطاليا وجد الحكومة الفرنساوية في حالة من الانحلال تقضي على الأشخاص المتآلفة منهم بأن يتواروا أو يهلكوا. فكأنَّ الخروج من تلك الحالة المصحوبة بالخطر على نابليون قد عرض من غير سعيٍ ولا تمهيد وكان ذلك الأمر عبارة عن حملتهِ إلى أفريقيا وهي حملة لا محل لها من الإعراب تدلُّ على الحماقة

وعادت الصدفة إلى خدمته بنوع عجيب فإن مالطة المعتبرة منيعةً جدًّا استسلمت إليهِ بغير حربٍ وإن عزائم نابليون التي تخلو من التغرير بالنفس كللها النجاح وترك أسطول العدو أي أسطول الانكليز جيشاً برمتهِ يمرُّ في عرض البحر على أنهُ بعد قليل من الحين لم يعد يأذن لمركب وإن زورقاً أن يمرّ على متن اللجة وفي أفريقيا ساق كثيراً من الفظائع إلى قوم عزَّل على التقريب وكان الرجال الذين أتوا تلك المنكرات وخصوصاً زعيمهم يزعمون أن ما أجروهُ عظيم وجميل وأنهم يجنون من أدواحهِ ثمار المجد وأن مآثرهم الخطيرة تحكي مآثر قيصر والاسكندر المقدوني وأن تصورته الوهمية بالمجد والسؤدد التي لم يكن من شأنها فقط الأحجام عن اقتراف الجرائم بل الافتخار بها والنسبة إليها معنى يفوق الطبيعة والتي ستكون هادياً لهذا الرجل ولجميع مريديهِ وأشياعهِ أطلقت حريتها للاستعداد في أفريقيا وأفضى كل ما عالجه إلى الفوز فأن الطاعون تجاوزهُ ولم يُعتبر قتلهُ الأسرى جناية تلصق به وإن انطلاقه ُالمعجل الوهمي الخالي من السبب والدالّ على النذالة لتركهِ وراءَهُ رفاقهُ في حال الضيق عدَّهُ لهُ بعضهم فضيلةً وقد مكَّنهُ الأسطول الانكليزي مرة ثانية من النجاة فحينئذ انبهر من تلك الجرائم التي فتحت في وجهه باب السعادة

وانتهى إلى باريس دون أن يكون له غاية مقررة. فالحكومة الجمهورية التي كانت منذ سنة من الزمان تقدر أن تهلكهُ كانت في حالة من الانحلال أوصلتها إلى شفير الدمار وكان حضور ذلك الرجل الذي لم يكن ينتمي لحزب من الأحزاب مدرجة لارتقائهِ إلى مكانة عالية. ولم يكن قد رسم له أدنى خطة بل كان يخاف كل شيء إلاَّ أن الأحزاب اعتقدت أن فيهِ نجاتها ولذلك التمست مساعدتهُ فهو وحده بما كان يجول في خاطره من أوهام المجد والعظمة وما كان يساورهُ من تلك الأحلام في ايطاليا وفي مصر وما كان فيهِ من الإعجاب بنفسهِ والجرأة على ارتكاب الجرائم والإخلاص في الكذب يستطيع أن يحقق تلك الحوادث الموشكة أن تتمّ وكان هو الشخص اللازم للحلول في المركز الذي كان يتوقعهُ وقد اشترك بغير إرادتهِ ومع فقدان الخطة الواجب الجري عليها ومع ما كان هو عليهِ من التردد ومع كان يأتيه من الهفوات في تدبير مكيدة يراد بها القبض على أزمة السلطة فكان الفوز موالياً لهُ فدفعوهُ إلى وسط جلسة كان الدير كتوار قد عقدها فذُعر وصمم على الهرب لتوهمهِ أنهُ قد هوى إلى وهدة العطب فأدَّعى انحراف الصحة وفاه بكلمات خالية من المعنى كادت تكون القاضية عليهِ ولكن الأشخاص الذين كانت حينئذ حكومة فرنسا مؤلفة منهم وكانوا قبل ذلك الحين كبار النفوس وأرجحي الحصاة شعروا في تلك الساعة بأن دورهم قد انقضى وكانوا أشد اضطراباُ من نابليون نفسهِ ففاهوا

بخلاف ما كان يجب عليهم التفوه به للمحافظة على السلطة وخذل المختلس إن الصدفة أو بالحري ملايين من الصدف ساقت إليهِ السلطة وأن جميع الناس قد اتفقوا على تثبيت تلك السلطة كأنهم قد تداولوا في ذلك الأمر. إن الصدفة أوجدت ضعف أخلاق أعضاء الدير كتوار الذي حملهم على الخضوع لنابليون إن الصدفة منحت بولس الأول تلك الأخلاق وجعلتهُ يعترف بسلطة نابوليون إن الصدفة كادت لهُ تلك المكيدة التي ثبتت صرح سلطتهِ بدلاً من أن تنقض دعائمها إن الصدفة أسلمته البرنس دنفين ومكنتهُ من الفتك بهِ بنوع لم يكن منتظراً وقد برهن هذا العمل أكثر من سواهُ للملإِ طرَّا أن لنابوليون الحق بإجرائهِ لأن القوة بجانبهِ إن الصدفة جعلتهُ يستنفد الميسور لتأليف حملة على انكلترا وهو مشروع يؤول إلى هلكتهِ ويتعذر وضعهُ موضع الإجراء بيد أنهُ وقع على غير انتظار على ماك والجيش النمساوي الذي استسلم من غير ما حرب ولا قتال إن الصدفة والدهاء جعلاهُ ينتصر في أوسترليتز وقد اعترفت بالصدفة جميع الأمم وأوربا بأسرها ما عدا انكلترا التي لم تشترك في الحوادث الموشكة أن تجري مع ما كانت جرائم نابوليون تثيرهُ في أفئدتها من النفور والفظاعة بسلطتهِ واللقب الذي انتحلهُ لنفسهِ وأوهام المجد والعظمة

التي كان جميع الناس يجدونها جميلة ومعقولة وكانت قوات الغرب التي كان يبين أنها تتهيأ لإجراء حركة في المستقبل تعظم وتتثبت أركانها بعد أن كانت قد رمت بأنظارها غير مرة إلى الشرق في السنوات 1805 و1806 و1807 و1809 وسنة 1811 اتحدت العصابة التي تألفت في فرنسا مع شعوب الوسط وأنشأت مجموعاً هائلاً وكان مع تعظم ذلك المجموع يتعاظم تبرئة ذلك المترأس عليهِ من تبعة المسئولية وكان أن ذلك الرجل في خلال السنوات الست التي جرى فيها الاستعداد للحركة العظيمة تولى العلاقات مع جميع عهال أوربا وملوكها وأمرائها. وإن الاقيال الذين فقدوا تيجانهم لم تكن أوهامهم المعقولة مما تقاوم بهِ الأوهام غير المعقولة التي ابتدعها نابوليون لنيل العظمة والمجد. وقد بادر الواحد منهم بعد الآخر ليبينوا لهُ أنهم ممن لا يُعتدُّ بهم وأرسل ملك بروسيا زوجتهُ الملكة إلى ذلك الرجل العظيم طمعاً بنيل الحظوة لديهِ واعتبر عاهل النمسا إن ذلك الرجل يوليه نعمةً كبرى باقترانهِ بابنتهِ وجعل البابا حارس القداسة في البشر الدين قاعدةً لتمثال مجد ذلك الرجل العظيم الياس طنوس الحوّيك

في رياض الشعر

في رياض الشعر لو يُفيد اللهف لما نكبت الأستانة في العام الماضي بحريقها تألفت في مصر لجنة لجمع الإعانات للمنكوبين , وأنفذت ولي الدين بك يكن إلى حضرة السريّ الأمثل الخواجة حبيب لطف الله. فوفد بينهما معرفة من قبل. حدثنا ولي الدين قال: تلقَّائي ذلك الشيخ الجليل على الرحب والسعة وأدناني منهُ. ثم أعلمتهُ بحاجتي فانبسط لها نفسه وجاد بخمسين جنيهاً مرتاحاً إلى تلك الغاية النبيلة فأبقت هذه المقابلة أثراً طيباً في نفس الشاعر حتى إذا فجع الخواجة لطف الله بزوجتهِ في الشهر الماضي , رثاها بالأبيات الآتية وإنما يذكر الإنسان بحسناته: بكتكِ عيونُ العلى ... وناح عليكِ الشرَفْ لحى الله هذا الرَّدى ... فأيَّ الشموس كسفْ أيعلم ماذا جنى ... أيعرفُ ماذا اقترفْ؟ ألا تلفتْ مهجةٌ ... حمتْ مُهجاً من تَلفْ ألا جلَّ فيها الأسى ... ألا عمَّ فيها الأسفْ بكى الناس جوداً مضى ... وكان يحاكي السَّرَفْ تُكتّمهُ جُهدّها ... ويعرفهُ من عَرَفْ بهِ كَلفتْ دهرَها ... فزادَ ونعم الكلفْ تواضعُ في عزِّها ... وأرابُها في صَلفْ وما حلَّ لطف الإل ... هـ ذا القلب إلاَّ لَطَفْ فكمْ لبكيٍّ رثى ... وكم لأسيٍّ عطفْ لقد شِرُفِتْ بالسَّلَفْ ... وقد شرُفَتْ بالخلَفْ

وما ترفتْ نعمةً ... وإن نشأتْ في الرَفْ أُفيضَ عليها الثنا ... ففاض إلى أن وكَفْ ولو أنها كفكفتْ ... ثناء الورى ما استكفْ تخالَفَ في غيرها ... ولكنَّ فيها ائتلفْ فصار لها كالحلي ... وباتَ لها كالتُّحَفْ وما الوصفُ مدحاً إذا ... جرى الصدقُ فيما وَصَفْ أيا دُرَّة المجد قد ... رجعتِ لجوف الصدَفْ فلهفاً لفقدك لو ... يُفيدُ عليكِ اللهفْ ولي الدين يكن إلى شاعر الأمير هذه هي القصيدة التي وعدنا بنشرها وبها يقرظ شاعرها المجيد قصيدة شوقي بك التي يقول في مطلعها: العام أقبل قم نحيِّ هلالا ... كالتج في هام الوجود جلالا ويرى القراءَ في ختامها أن شاعر الفيحاء قد شاء مساجلة شاعر النيل فإذا رأى أميرُ الشعراء أن يفعل فمن حسن حظ الأدب وقراء الزهور: حلًّق فكري في سماءِ الخيالْ ... وساحَ في سُوح المعاني وجالْ وغاصَ والوجدُ له سائقٌ ... في أبحرِ الشعرِ لمجني اللآلْ فلم يجدْ أبدعَ من دُرَّة ... قد صاغها شوقي بنعتِ الهلالْ غارت لها الشمسُ وخافتْ بأن ... تُعلي على الأيام فضل الليالْ يا شمس فاستجدي الهلال الضيا ... فإِنما حالُكِ للعكس حالْ ألبسهُ أحمد في وصفهِ ... نوراً على نورٍ ففاق المثالْ

لا تَنكروا من أحمدٍ مُعجزاً ... إِن قيل سحرٌ فهو سحرٌ حلالْ سطورُ حسنٍ مشرقاتِ السنا ... كأنها بعضُ ليالي الوصالْ وتارة تحكي عيونَ المها ... سواحرَ الدلِّ مواضي النصالْ آياتها بيّنةٌ للنهى ... وقدرُها أرفع من أن يطالْ هيهاتِ ما الإتيانُ من مثلها ... بسورةٍ إلاّ ورا الاحتمالْ تظهرُ من أحرُفِها هيبةٌ ... تشخّصُ الضرغامَ وسطَ الِحال فلو تحدَّي في البرايا بها ... داست على هام النهى بالنعالْ هذا هو الشعرُ الذي تعتلي ... بمثل شأواهُ معالي المقالْ في كل شطرٍ منهُ ثغرٌ غدا ... يفترُّ عن نظمِ اللآلئ الغوالْ وكلُّ بيت حلَّه يعربٌ ... مطنَباً فوق الدراري العوالْ فصاحةُ البدو على لفظهِ ... تسيل كالماءِ النمير الزلالْ أما مغازيهِ فكم سلسلتْ ... بلاغةً فيها يهيمُ الخيالْ سهلٌ على الأفهام لكنهُ ... ممتنع أن يُنتحى بالنضالْ فيهِ مع الرَّقةِ روحٌ وما ال ... أرواح بالتقليدِ مما ينالْ يُعجزُ من جاراه مهما ارتقى ... فضلاً كمن حاولَ نيلَ المحالْ وجاذب الحسنِ لعمري لهُ ... معنىً يراهُ الذوقُ فوق الجمالْ فيا أمير الشعر مهلاً فقد ... سلبتَ والله شعورَ الرجالْ كم لك من عذراءِ فكرٍ زهتْ ... كالروض وافي الزهر ضافي الظلالْ فتنتَ أهل الشام في حسنها ... وفخرُ وادي النيل فيها استطالْ رقَّت فكانت كنسيم الصبا ... إذا تلوناها على الغصن مالْ إيجازُها رحبُ المعاني على ... زهوٍ كغمز اللحظِ من ذي الدلالْ

وجوهرُ الأطناب منها جلا ... عقود أجياد بها النور قالْ إذا العقول العشر أبصرتها ... أصبحنَ من دهش بها في عقالْ والملك الضلّيل لو رامها ... مُعارضاً لم يجنِ إلاّ الضلالْ خفَّت على السمعِ وكم ضَّمنت ... معنىً بهِ استزرت رسوخ الجبالْ لهُ على الألباب مع لطفهِ ... كالراح سلطانٌ عظيمُ الجلالْ يخالهُ الطبعُ على أنسهِ ... ليثاً تبدَّي من كناسِ الغزالْ لذا تراني مضمراً رهبةً ... ورغبتي تدفعني للسؤالْ أودُّ أن تجريَ ما بيننا ... رسائلُ الشعر بملء السجالْ وإن يكن ثمَّة فرقٌ فقد ... تُشبَّهُ البيض ببيض الرآلْ وقصديَ الفخرُ فما أدَّعي ... أنيَ من فرسان هذا المجالْ بل اجتلي نهجَ ابتداعٍ بهِ ... ملائكُ الشعر عليكم عيالْ انير فكري باحتكاك الضيا ... ما يُظهرُ الافرندَ غيرُ الصقالْ فإِن أجبتم فهو لطفٌ وما ... للُّطفِ عن أهليهِ قطُّ انفصالْ وما عليكم حطةٌ إنما ... تواضعُ العالين عين الكمالْ عبد الحميد الرافعي رُسُل الثغور وما شُربنا الدخان عيبٌ وإنما ... قصدنا بهِ مَعنى قفوا وتأملوا أدرّناهُ فيما بيننا فَلعلَّنا ... إلى ثعرِ مَن نهوى بهِ نتوصلُ نجيب زلزل

رسائل غرام

رسائل غرام بين نساء شهيرات ورجال عظام الرسالة الثامنة من توماس هود إلى روح مس كليمانسي (توماس هود شاعر من أبلغ شعراء الانكليز عاش في النصف الأول من المئة التاسعة عشرة. توفيت أنه وتركته طفلاً لعناية رابّته فنشأ رقيق الإحساس شديد التأثر حتى بلغت به رقة الشعر حد الجنون. وكان يهوى فتاة جميلة تدعى مس كليمانسي عاهدها على الاقتران ولكن فرط الديون التي كان يُطالب بها ألجأته إلى الفرار من انكلترا فلم يرجع إليها إلاَّ بسبب موت حبيبته. وقد كتب إليها الرسالة الآتية على أثر موتها ونظم فيها قصيدة هي أرق ما تصوره شاعر في هذا الموضوع) أيتها الروح الطاهرة: لستُ أعلمُ أين أنتِ الآن , وأين مقرُّكِ من عالم الأبدية. لعلك ترفرفين بأجنحتكِ الذهبية في هذا الفضاء اللانهاية له , وتتنقلين بين كواكبه السابحة , كما تتنقلُ الفراشة في الحقول. وسواء كنتِ مستقرةً في رحبتهِ أو محلّقةً في فراغهِ , فلا شك أنك ترين عالمنا هذا أقلّ مما يرى النسرُ النملة من علوهِ الشاهق؛ وتتذكرين أيامكِ القليلة على هذه الأرض السابحة معكِ في فراغ غير مدركِ الحدود فإن كنتِ , وأنتِ خالعة ثوب الهولى , قد نسيتِ أيام كنا نجلس معاً على شاطئ تلك البحيرة الهادئة , فأنا لا أنسى تلك الأيام السعيدة ,

بل أذكر كيف كنا نحبسُ شفاهنا عن النطق لتتكلم القلوب , ونحدق بأبصارنا في الأفق لنتفرّغ أكثر للتأمل في الحب. ولقد أذكرتني بكِ اليوم مفكراتي التي ولعت بتدوينها منذ حداثتي , وقد كان بودي لو بقيت ذكرى الماضي دفينةً في الفؤاد لأن في عودتها إلى البال فتحاً لجروحٍ لا تقبل الاندمال أيتها الروح الطاهرة. سلام الله عليكِ , كلما خفق جناحاكِ وخفق معهما فؤادي لذا كراكِ! سلام الله عليكِ , كلما برزت الشمس من وراء الأفق تنثر التبر من أشعتها الذهبية! إنْ كنتِ قد سلوتني , فإن بين جنبيّ قلباً لا ينبض إلا لذكراكِ , ولا يخفق إلاّ لخفوق جناحيكِ. وإن كان عالم الأرواح قد أنساكِ عالم الهيولى , فلا كانت الأبدية ولا عالمها! لأنَّ ساعةً واحدة بقربك أشهى من الخلود في فردوس لا تكوني في ذلك العالم الخالد , كما كنتِ في هذا العالم الفاني؟ بل انعمي بالاً , ولتقرَّ عيناكِ بما أنتِ فيهِ من نعيم وهناءٍ! فحسبي سعادة أن تتمتعي بما تشتهين. وثقي أن قلبي الذي يودُّ لو ترفرفين فيهِ بجناحيكِ لهو فارغ إلا من رسمك؛ وقد دُفن الحبُّ في كل زاويةٍ من زواياه فهو مثقلٌ بيأس تنوءُ بثقلهِ راسيات الجبال ايهِ أيتها الروح الطاهرة! ما الذي ترينه في ذلك العالم الواسع من أسرار الحياة؟ وما الذي شغلك عن ذكرى حبنا القديم , وذد كنتِ , وأنتِ على هذه الأرض , تصفينه بالخلود , وتقولين أنهُ مستمدٌّ من عالم

الأرواح , إذ لا بد لهُ ولا نهاية. فإذا صدق قولهم أنَّ الأرواح تحلق في الفضاء , فلماذا لا ترفرفين حولي بجناحيكِ , وتسمعني ذلك الصوت الرخيم الذي عوّدتني سماعهُ وأنتِ بعد على هذه الأرض؟ سقياً لمواقف ذلك الغرام , أيتها الروح الطاهرة. قد كنتِ في الحياة خافقةَ الفؤاد , وأنتِ الآن خافقة الجناحين. وأما أنا , قلا أزال كما كنت ثابتاً على الولاء , مقيماً على العهود , وإن كان لي بعد أُمنية في هذه الحياة فهي أن أُمتَّع بنظرة منكِ في عالم الأبدية , وأظللكِ بجناحيَّ في فردوس البقاء كثيراً ما أقصدُ إلى مثواكِ وأتفرَّس في تلك الحفرة التي يرقد فيها هيكلك الجثماني رقدته الدائمة. فتضيق الدنيا في عينيَّ وتتمثل لي رحبة الفضاء الذي تحلّقين فيهِ أضيق من سُمّ الخياط. ولكم وقفتُ برمسكِ خاشعَ الطرف , حاسرَ الرأس , وعواطفي ثائرة في داخلي , فأرى الحياة حلماً , والعالم كله مجموعة شقاء. وأنَّي للحلم أن يستمرَّ نعيمهُ , إذا انتقلت النفسُ إلى يقظة رائعة؟ القبر! هناك , حيث ينقطع كلُّ صوت , وتبطل كلُّ حركة؛ هناك , حيث تنحلّ الهيولى وتنتهي الحياة , هناك , حيث يضيع كلُّ عزاء , وتقلُّ كل مواساة ما أتفه الحياة بدونكِ يا كليمانسي كل يوم منها أبديةٌ مملَّة؛ والنفسُ لا عزاءَ لها سوى الغد؛ ولكنَّ الغد غامضٌ كأسرارِ الأبدية , فإذا لاح فجره بكيتُ على أمسهِ

شيء عن الفن

نعم , هي أيامٌ تنقضي يا كليمانسي وما بقي منها أقلُّ مما عبر. ولا بدَّ أن يأتي ذلك الغد الذي تنطوي فيهِ آخر صفحةٍ من العمر , فيتثاءَب القبرُ وأصغي إلى حفيف أجنحتكِ , والنفس تائقةٌ إلى النجاة من أغلال المادة لتحلِّق معكِ في فراغٍ لانهاية له. فمتى يبزغ ذلك الفجر المجيد؟ إنَّ أحلامنا لم تتحققْ في هذه الحياة , فهل تتحقق في العالم الآخر؟ أم تكون الأبدية أقسى من عالم الفناء , فيمتدُّ بنا الفراق , وينقطع كل أملٍ من اللقاء هو ذا أنا أنتظر ذلك الغد فسلام الله إلى حين اللقاء. . . بقلم سليم عبد الأحد توماس هود شيء عن الفن كتبتُ في مجلة الزهور مقالً تحت هذا العنوان , فتفضلت السيدة لبيبة هاشم بالردّ عليَّ مبديةً رأياً غير رأيي. فلم يذهلني ذلك لعلمي أن قيمة الفنون الجميلة في نظر السيدة لبيبة توازي قيمة خرافات العجائز وقصص الغول وعنقاء بنت الريم في نظر الفيلسوف الباحث , فضلاً عن أن حضرتها تسيء الظن في الجماعة الفّنيين وربما تحسبهم أعضاء عليلة في جسم المجموع الإنساني. فلذا أظنها مستحسنة في سرّها أن يمرَّ الطبيب آلته الكهربائية على جسم كل واحدٍ من أفراد هذه الزمرة الخبيثة: زمرة الموسيقيين والمصوّرين والنقاشين والشعراء , لعلهم يعودون

من مسارح أحلامهم البليدة إلى عالم المحسوس!!! لكنَّ شيئاً آخر أذهلني في مقالها , وهو اتّهامي باحتقار العلوم. سامحها الله؛ نعم قد اتهمتني! لقد نسبت إليَّ أقوالاً لم أرِذ قولها , وصوَّرتني صور جميلة قبيحة (لكنها قبيحة أكثر منها جميلة) في وقت واحد , إذ جعلتني فتاة تنظر من سماء أحلامها الذهبية إلى عالم الاختراعات العصرية والاكتشافات العلمية نظرة الاحتقار والازدراء. فتاة غريبة الأطوار , كدت لا أعرف نفسي في هذه الصورة , ولكني لم ألبث أن فكّرتُ في أن الصديقة الفاضلة تقصد مداعبتي. ولعمري أني أُحبُّ مداعبة يدها اللطيفة وإن ظلمت وجارت يتنازع السيادة في عالم الأفكار عنصران: العنصر الروحي والعنصر المادّيّ. فالمادّيون يقولون إن الغنى هو السعادة وأن أهمَّ واجبات الإنسان هو السعي وراء الثروة للتوصل إلى السعادة عن طريق التجارة. والروحيون يعتقدون أنَّ الإنسان خلق لغاية أسمى من الغنى , وأن سعادته الحقيقية لا توجد في التجارة ولا تتأتَّي من الأرباح الناتجة عنها , فيذهبون بتأملاتهم على ما وراءِ المحسوس معسعسين آثار هذه السعادة التي تذوب لإلى لقياها الأرواح , باحثين عن الجمال المطلق المقرون بالكمال المطلق , وهذا هو المحور الذي تتيهُ حولهُ الأنفس الملتهبة بنيران حبّ الجمال وحبّ الحقيقة. فهذه الفئة (وهي من أعلى طبقات البشر أدبياًّ) لا تجد حظوى

في عيني صاحبة فتاة الشرق الفاضلة. وهي تقول في كل فردٍ من أفرادها أنه يظلُّ مقصراً في معارفهِ وشرائعهِ وآدابهِ وسائر نظاماتهِ (وا أسفاه عليه!!!) , وأنه يظلُّ بليداً وحيداً بأفكاره يعمل لخدمة نفسه وسرورها فينصرف إلى بهرجة الفنون الجميلة ويلجأ لنظم القوافي في ظلال البنايات الضخمة صارفاً في سبيلها الوقت والتعب جزافاً (يا للخسارة!!!) يعلم الله أني لا أريد الدفاع عن الفنّ ومحبيه لأنه من المستحيل أن يُقنع أحد الطرفين خصمه , ولو كان محقاً , ولعلمي أن الحرّية الأدبية مزيةٌ غالية , وأنَّ لكل إنسان حريته في اعتقاداته وآرائه. لكني أودُّ أن أستفهم حضرة الكاتبة لماذا يا ترى يظلُّ محبُّ الفن مقصراً في معارفه وشرائعه وآدابه , كما تزعم حضرتها؟ ألأِنهُ لا يدرس المكانيك , وهل كل الناس يدرسون هذا الفرع من العلوم؟ إن لكل مخلوق خطة يسير فيها فهو لا يتقن من العلوم إلاّ الفرع الذي يستخدمه لقضاءِ حاجته والسير في خطته ومع ذلك فإننا نرى معارف محبي الفن تزيد على معارف غيرهم لأنهم يميلون طبعاً إلى البحث في كلّ مهمّ مفيد , وإلى استكشاف كل جديد ولماذا يظلُّ الغنيُّ مقصراً في آدابه؟ إن من أحبَّ شيئاً برهن على أن في روحه جوهراً يشابه جوهر الشيء المحبوب , ومن أحب الفنّ فقد أحب الجمال والكمال , لأن الفنّ صورتهما. ففي روح الشاعر إذاً شغفٌ بالجمال وميلٌ إلى الكمال , فهو والحالة هذه أقرب الناس إلى

ما هو حسن , والأدب أحسن حسنات الاجتماع. يقول صديقنا روسكن: إن روح الشرير لا تقدر أن تفهم الجمال والكمال , بل إن الأرواح الجميلة الطاهرة الشريفة تقدرهما حق القدر لأنها من أمثالها. وأودّ أن أضيفَ إلى هذا خلاصة ما قرّره علماء الفلسفة الاجتماعية وهو أن العلم شيءٌ والأخلاق شيٌ آخر. فإن لم تصدقني السيدة لبيبة فعليها بكُتب هربرت سبنر وكتب غيره من المفكّرين أمثاله الذين يقولون أنَّ مفعول العلم والدرس يتجسم في القوى العقلية , وقد يؤثر أحياناً في الأخلاق لكنه لا يؤثر دائماً أما قول صاحبة فتاة الشرق إن الشاعر يظلُّ بليداً , فهذه مسألة فيها نظر بل نظران وأكثر. فعليها ببدائع شوقي وبتأملات الخليل فإن هذه وتلك تظهر شيئاً من العظمة والجمال وغيرها من الصفات الباهرة التي تميز روح الشاعر. أما وحدة الفنيّ وميله إلى العزلة فإن الفيلسوف العصري ماترلنك ينبئها عني أن الأرواح الاعتيادية ل تفهم أسرار العزلة وفوائد مناجاة النفس , مع أن الانفراد أحياناً رياضة ضرورية للقلب والعقل. وإن الروح التي لا تشعر بالاحتياج إلى الانفراد هي روح فاسدة ثم يهتف هذا الفيلسوف نفسه قائلاً مع كارلايل الكاتب الانكليزي: يا محبي العزلة والصمت , أنتم ملح العالم , فإن لم تكونوا فيه , فسد! ثم فلتذكر حضرتها أنَّ حبَّ الذات هو محرّكُ أعمال كل واحدٍ من البشر , سواء كان شاعراً يقرض الشعر أو فلاّحاً يحرث الأرض , لكن هذه العاطفة الغريزية تظهر في كل إنسان مظهراً مختلفاً متغيراً بتفاوت الأطباع

والأميال والمدارك. وقصارى الكلام أني أؤكد للسيدة لبيبة أنَّ حبَّ الفن منحة الهية تخلق مع الإنسان وتنو فيه على التمادي كلما تقدم في السن؛ هي صفة جميلة غريزية لا اكتسابية كالعلوم واللغات والصنائع. هي نفخة من روح الله الأبدية السرمدية. وليس القصد من الفنون البهرجة , كما تظنُّ حضرتها , وإنما القصد منها تلطيف الشعائر , وإعلاء الفكر وتجريده عن الدنايا , ولمس الروح بيد الجمال ودفعها إلى ما هو عظيم شريف. القصد منها تهذيب الأميال وإفهام الإنسان أنَّ القوى الإلهية الراقدة في طيات نفسه تفرض عليه واجباتٍ؛ حبها شرف , والعمل بها مجدٌ. لا يضاهي. القصد منها تنوير الإفهام وتنبيه العواطف الكريمة في قلبه , كالشجاعة والمروءة والصدق والحزم والرحمة. ولئن عجبت من قول رسكن كل شعب يرتقي عنده الفنُّ وتمجيدهِ وتعظيمهِ , وإظهار الخطة التي يجب على كل فنيّ انباعها. ليس لرُسكن فلسفة , إن لم تكن فلسفة الانتقاد الفني , وأراهُ أعظم ناقدٍ فنّي في انكلترا بل أوربا بأسرها إذا وضعنا معهُ فاين الفرنساوي الكبير. وقد ظهر رُسكن في النصف الأخير من القرن التاسع عشر وتوفي منذ سنوات قليلة تقول حضرة الكاتبة أيضاً أن لا فرق عندها بين حذاءٍ حسن الصنعة وقصيدة بديعة النظم ما دام يجب لإتقان كل عمل قوة عقل. وا لوعتاه على درر الأفكار تنزَّل فتلامس الأحذية! فحضرتها والحالة هذه لا ترى فرقاً بينها وبين الخياطة التي تزين الثوب بالزركشة

والدنتلا معاذ الله أن أقول أنا بهذا القول! الجسد عزيز بلا شك والاهتمام بهِ واجبٌ على كلّ عاقل؛ على أنَّ أهمية الروح تفوق أهميته بمراحل , فضلاً عن الدماغ ينفق من قواه في عمل عقلي في ساعة واحدة أكثر مما ينفق للعمل الجسدي في ساعات طويلة نعم إن العمل جميل , وهو شريف في ذاته مهما كان حقيراً في أعين الناس , غير أنَّ هذا لا ينفي أن لكل شيء درجات: يوجد الحسن والأحسن منهُ , والعظيم والأعظم منهُ , والغني والأكثر غنى , والفاضل والأفضل منهُ , وهلمَّ جرًّا لقد انتقدت حضرة الكاتبة الفاضلة تفضيلي آثار الفن القديمة , وتساءَلت كيف أؤثرُ بناءَ الأهرام ونحت المسلات على أشعة ونتجن والتلغراف اللاسلكي في حين أن تلك الآثار تنطق بما كانت عليه الشعوب الغابرة من الذلّ واستعباد القوي للضعيف. هذا موضوع يطلب البحث لنعلم هل كان الذل أشد وطأةً في الماضي على العباد منهُ اليوم. أما أنا فلا أرى الإنسانية قد تمتعت بالحرية التامة بل أراها قد استبدلت قيودها القديمة بقيود جديدة. على أن هذا بحث طويل يضيق عنهُ نطاق هذه العجالة. وأجيب السيدة على سؤالها , بأني لا أرى نسبة بين المقابلتين لأني لم أتناول المقابلة إلاّ من الجهة الفنية , فلا تجوز النسبة إلا بين كل سبيه ومشابه له , فإن وُجدتْ نسبة بين هياكل أثينا وبرج إيفل , فإن هذه النسبة تتلاشى عندما نقابل تلك الهياكل بالتلغراف اللاسلكي.

ولو انتبهت حضرتها إلى هذه النقطة لا نصفتني في هذا المعنى. أما الاكتشافات العلمية فمن منا لا يقدرها حق قدرها؟ إن علماءَ الاكتشاف هم أبطال عصورنا الذين يجب أن تكتب أسماؤهم بدماء القلوب وأن تجثو الأفكار لدى ذكرهم المجيد. إني أعبد هؤلاء الأبطال وأميل بكليتي إلى العلوم التي تسير بالإنسانية إلى التقدم والارتقاء , ولم أعنِ في مقالتي السابقة إلا العلوم التجارية المحصنة التي يتمسك بها البشر طعماً بالأرباح الناتجة عنها. حسن أن يجتهد الإنسان في جميع الثرورة لأن أهمية الدرهم تزداد يوماً فيوماً , ولكنني لا أظنُّ أنَّ الارتقاء الصحيح قائم بالثروة وحدها , وأعتقد مع رسكن أن هناك تربية هي ارتقاء في نفسها وإن لم يكن صاحبها مثرياً هذا اعتقادي يا سيدتي. فاعذري تطوحي واصفحي عن هفوات قلمي. إن لكل امرئٍ أخلاقاً وأميالاً , فأنصح لكل واحدٍ أن يعمل بها , بعد استشارة ضميره. أقول للرياضي: اشتغل بأرقامك , وللطبيب اشف مرضاك , وللتاجر اضحك من زبائنك لئلا يضحكوا منك وللشاعر احلم أحلامك وأنشد أناشيدك فليعمل كل إنسان على اكتساب سعادته كما يفهمها هو , لا كما يفهمها الآخرون , ما دامت السعادة غاية الخلائق القصوى وكعبة آمال الكون مي

نوابغ مصر الأحياء

نوابغ مصر الأحياء اقتراح الزهور على قرَّائها قام في مصر في نهضتها الأخيرة رجال برهنوا على أن الشرقيّ إذا أعدَّتهُ التربية , وتوفر له العلم , لا يقلُّ نبوغاً عن الغربي. وإذا كانت مصر فقدت في السنوات الأخيرة عدداً من هؤلاء النوابغ لم يفسح لهم في الأجل فكان موتهم خسارة جلَّي , على حين أن الحجة إليهم وإلى أمثالهم شديدة , فإن فيها اليوم عدداً أيضاً ممن تصحُّ تسميتهم بالنوابغ إذا حُفظت النسبة بين النبوغ وبين النهضة الحاضرة التي تعدُّ طفلة بالنسبة إلى نهضة الغربيين في هذا العصر فالزهور تقترح على كل واحدٍ من قراَّئها أن يختار عشرة رجال في مصر يراهم أنهم أشهر النوابغ اليوم. وأن يبعث إليها بأسمائهم مجرَّدة عن الأسباب التي بني عليها اختياره إذ يكفي أن يسرد تلك الأسماء سرداً ولا يُعنت نفسه بالشروح والتعليقات وذكر المِهَن أو الفنون التي كان النبوغ فيها. وإنما تجب مراعاة أساسي هو: أن يكون العشرة المختارون من الأحياء والزهور تجمع هذه الأسماء ثم تنشرها في الجزء القادم وإلى جانب كل اسم منها عدد الذين أجمعوا على اعتباره نابغة. وتنشر بعدئذ صور أولئك العشرة النوابغ المختارين فاسحةً لكل نابغة منهم صفحةً من صفحاتها يكتب فيها للقراء ما يحلوله. إن عشر صفحاتٍ يكتبها عشرة نوابغ. تحتوي ولا ريب عشرات كثيرة من الدور الغالية.

حادث في الصحافة

حادث في الصحافة بعد ثلاث وعشرين سنة المؤيد صدر الأمر العالي الخديوي في أوائل الشهر الماضي بإسناد منصب نقابة الأشراف ومشيخة الطرق الصوفية إلى فضيلة السيد عبد الحميد أفندي البكري , وبتولية سعادة الشيخ علي يوسف مدير سياسة جريدة المؤيد مشيخة السادة الوفائية لمصاهرتهِ بيت السادات المشهور وفي 16 منهُ جرى الاحتفال بالسيّدين في سراي عابدين العامرة , في قاعة الاستقبال الكبرى للتشريفات الرسمية , فجلس الجناب الخديوي وإلى يمينه فضيلة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر ففضيلة السيد عبد الحميد البكري فسعادة شيخ السادات الوفائية. وجلس على الجانبين بقية كبار العلماء من أعضاء مجلس إدارة الأزهر ومشايخ الأروقة ومشايخ المذاهب ورجال القضاء الشرعي وعقب أن استقرَّ المجلس بالجمع , قُدِّمت القهوة لحضرة المتشرفين بالحضرة السنية؛ ثم قال الجناب العالي: إنني مسرورٌ اليوم كثيراً إذ أرى هذا الاحتفال يجمع كبار العلماءِ حولي؛ وأحوال المعاهد الدينية على ما نرجو لها من انتظام السير وتمام الهدوّ والسير في طريق التقدم والارتقاء. ولذلك يسرّني أن أعرب لجميع رؤساء المعاهد الدينية عن الشكر والامتنان. ومما يزيد سروري

أنني احتفل اليوم بهذين الرئيسين الدينيين اللذين عُهِدت إليهما المحافظة على مجد بيتين من أعظم بيوت المجد والشرف وقد سبق لي أن استقبلتُ عقبَ وجودي في هذا المركز حضرة السيد توفيق أفندي البكري , وأنا اليوم أستقبل حضرة السيد عبد الحميد البكري خلفاً له , وأستقبل معهُ حضرة السيد علي يوسف شيخاً للسادة الوفائية؛ وأراهما خيرَ أهل لما عهدتُ إليهما. وبمعونتكم إن شاء الله يقومان بوظيفتهما خير قيام

ثم أمر سر تشريفاتي خديوي فألبسهما خلعتين سنيتين مصنوعتين من الجوخ الأخضر ومبطنتين بالفرو النفيس , وكانت عمامتا السادة البكرية والسادة الوفائية قد احضرتا في الجلسة , فأمر الجناب العالي سعادة السر تشريفاتي خديوي بإلباسهما إياهما وبعد انتهاء الحفلة الرسمية في سراي عابدين قصد فضيلة السيد عبد الحميد البكري سراي السادة البكرية في الخرنفش؛ وقصد سعادة السيد علي يوسف في جمع من رجال الطريقة الوفائية وقد لبسوا الأخضر وتعمموا بالعمائم الكبيرة زاوية الرباط في جهة الخرنفش أيضاً وهي الزاوية القديمة التي كان يتعبَّد فيها سيدي علي وفا الأستاذ الأكبر الأشهر للطريقة الوفائية مدة حياتهِ , وكان يعيش في أواخر القرن الثامن للهجرة وهناك دخل شيخ السادات الوفائية الجديد كعادة كل شيخ يتولى مشيخة هذه الطريقة , فتوضأ وصلَّى ركعتين في القبلة. ثم قرأ جماعة الطريقة حزب السادة الوفائية وكَّروا شعارها وهي كلمة يا مولاي , يا واحد! يا مولاي , يا دائم! يا علي يا حكيم! وفي الساعة الأولى بعد الظهر عاد هذا الجمع إلى بيت السادة الوفائية في درب الجماميز؛ حيث جلس شيخ السادة برهة من الزمن على سجادة السادة الوفائية؛ وهي أقدم سجادة توجد في مصر إذ كان يصلي عليها سيدي محمد وفا الأكبر , والد سيدي علي وفا , الذي ولد في أوائل القرن الثامن للهجرة لوالده السيد علي وفا الذي ولد في أوائل القرن الثامن للهجرة لوالده السيد النجم الأنور الذي كان أستاذ سيدي ابن عطاء الله السكندري

هذا ولما كان خروج السيد علي يوسف من الصحافة , بعد أن خدمها في المؤيد زهاءَ ثلاثة وعشرين عاماً , حادثاً ذا شأنٍ في عالم الأدب رأت الزهور أن تجمع لقرَّائها زبدة أقوال بعض الكتاب والصحافيين في زميلهم السابق؛ من حيث هو كاتب صحافيٌ فقط , وهذا ما تيسر لنا جمعهُ الشيخ علي يوسف سهلُ التأليف , شديد المضاء. هو في بيانهِ أقربُ إلى العامة منهُ إلى الخاصة. إذا غالبَ غالبَ بصوتهِ دون روحهِ؛ صحافيٌّ محنّك وليست الكتابة من عملهِ كأنما يراعُهُ سوطُهُ ... يضربُ أن جدَّ ولا يكتبُ لا تَدَعُ العجمةُ أسلوبهُ ... فليس في أسلوبهِ مُعرَبُ ولي الدين يكن لو كان غيرَ سياسيٍّ بطبيعتهِ , لما كان من الكتاب أبو السامي الرافعي أنظر إليهِ بعين الصحافي , فأراهُ عظيمَ البراعة , في تقليب اليراعة , وشديد الحصافة , في ميدان الصحافة؛ ولو وجد قلمهُ من عواطفهِ دعامة , لرفعهُ بيننا إلى مقام الزعامة؛ ولقد زاد فضلهُ أنه من الطبقة العصامية , وجهّال اللغات الأجنبية يوسف البستاني سيف لا يزال في غمده صدِئاً حتى يجلوَه القراع مصطفى لطفي المنفلوطي كان للإنشاء في مصر ديوان أنت رئيسه , والكتاب جميعاً عمَّاله مصطفى لطفي المنفلوطي أيضاً

تربية الطفل

له أسلوب جمع بين المتانة والطلاوة ولاسيما في الإيلام والهجاء , وقلم يطلوعهُ في الشيء ونقيضهِ على السواء. ولكنَّ علمهُ قليل فما هو من الكتَّاب الذين يبقى أثر مقالاتهم إلى حين اسكندر شاهين يكتب بقلم ذي أنبوبتين: أفرغ في هذه أرياً ودرياقاً , وأفعم هذه سُماً زعافاً وكلما دافَ من هذه على تلك وصلَ إلى أبعد غاية من قوة التأثير وسلامة التعبير. كتابتهُ صورة من دهائهِ وما سَلِمَ من عاب وإن كان من أقدر الكتاب إبراهيم الدباغ صاحبة مجلة الإنسانية تربية الطفل لباس الطفل يغيّر على الحبل السري الذي ينفصل بين اليوم الخامس والعاشر , بإحدى القطع المربعة الأربع السالفة الذكر. تقطع القطعة المربعة من أحد الجانبين ومن منصفها إلى مركزها , ثم توضع القطعة بحيث يكون هذا الشرم إلى أعلى , والحبل السري في أسفل الشرم المذكور؛ ثم يثني الجزءُ الأيمن على الحبل السري وأخيراً الجزء الأيسر , ثم تقلب القطعة بما فيها من الحبل السري إلى أعلى. ومن اللازم أن يكون الحبل جافاًّ وأن يبقى كذلك , وذلك بذرّ قليل من المسحوق عليه. وعلينا أن نلاحظ الحبل السري لحدوث نزف منهُ أحياناً. وبعد انفصال الحبل السري يوضع على السرة قطعة من القطن , وتحفظ في مكانها باللفافة ويجب أن

تكون اللفافة بحيث تكون السرة في منتصفها , وتلفّ جيداً من أسفل , ونلفّ لفاًّ بسيطاً من أعلى حتى لا يحدث أي ضغط على المعدة والرئتين. ثم توضع بعد ذلك الصدرية التي من الصوف وتربط من الإمام , ثم تثني لفافة لتكون بشكل مثلث فوق الصدرية , وتحكم على الطفل فوق الصدرية بالطريقة الآتية: توضع اللفّة التي بشكل المثلث بحيث تكون أطرافها العليا تحت إبط الطفل بقليل حتى لا تمتنع حركة الذراعين؛ ثم يدخل الطرف الأسفل من اللفة بين ساقيّ الطفل ويضمُّ الطرفان الآخران على جسمه الواحد فوق الآخر. ويلفُّ الطفلُ بعد ذلك بلفّةٍ مربعة أخرى , ويوضع على قدميه الحذاء المصنوع من الصوف , ثم يوضع الشال فوق رأسهِ ويشترط في ملابس الطفل أن تقيَهُ البرد , لأنهُ يتأثر بسرعةٍ لصغر سنّة؛ وإن تترك للطفل الحرّية التامة حتى يستطيع أن يحرّك أعضاءَهُ بكل سهولة , لأن ذلك يساعد على نمو الجسم نموًّا كاملاً؛ وإن تكون جافة نظيفة وتستبدل بغيرها متى ترطبت من البول أو البراز. وعلينا أن نلاحظ أثناء إلباسها للطفل أن تكون خالية من التجعدات لأنها تؤلمه الاعتناء بالأذن والأنف والعيون والفم وبعد إلباس الطفل يجب على المرضع أن تنظف الأذن والأنف والعيون بقطع من القماش مبللة بالماء الدافئ وتنشفها بقطعة من الفلانلا الجافة أو بفوطة ناعمة. ويلزم التأكد من عدم وجود إفراز في العينين ,

لأنهُ إذا وجد يحسن غسلها بمحلول البوريك , ومعالجتها بأي علاج حسب أمر الطبيب. وينظف الفم بإدخال السبابة ملفوفة عليها قطعة من القماش بعد أن تُغمس في الماء الدافئ ويحسن مسح اللثة واللسان وسقف الفم بقطع من القماش المبللة بجلسرين البورق متى يحسن عمل حمَّام للطفل يرى البعض تحميم الطفل مرتين في اليوم , ويقتصر البعض على حمام واحد في الصباح مع تغيير الملابس وملاحظة السرَّة وإحكام رباطها. ومن المهم عند تنظيف شعر الطفل (بالفرشة) أن يكون ذلك بلطف لوجود مساحة صغيرة في الرأس لم يلتئم فيها العظم تسمى باليافوخ ولا يتم التئام العظم إلا بعد 18 - 24 شهراً والضغط على اليافوخ قد يحدث أعراضاً خطرة لوجود المخّ تحته مباشرة الطفل في المهد من المستحسن أن لا ينام الطفل مع أُمه في فراشها مطلقاً لما يحدث أحياناً من الخطر بنوم الأم عليه. وأفضل مكان لنوم الطفل هو المهد ويؤخذ الطفل من المهد آناً بعد آخر لإرضاعهِ. ويحسن إرضاعهِ على أثر إخراجه من الحمام ثم يصبح ميالاً إلى النوم فيجب أن يكون المهد مُعدًّا لاستقبالهِ وإذا كان الجوُّ بارداً يمكن تدفئة المهد بوضع زجاج مملوء بالماء الساخن. ولا يحسن هزُّ الطفل في مهدهِ خشية أن يتعود ذلك. وكل ما يحتاج إليهِ هو السكون والهواء المطلق دون وجود مجرى هوائي الدكتور محمد عبد الحميد

لمن هذا الشعر

لمن هذا الشعر نشرنا في الجزء الفائت أبياتاً أخفينا اسم ناظمها , تاركين لفراسة القراء أن يعرفوه؛ فوردت علينا أجوبة كثيرة من أنحاء مختلفة. فإذا بمعظم الكاتبين قد نسب تلك الأبيات إلى سعادة إسماعيل صبري باشا , وقد بلغ عدد هؤلاء 53 , وعزاها بعضهم - وعددهم27 - إلى خليل أفندي مطران. وزعم 16 أنها لسعادة شوقي بك. وتوزع بعض الأجوبة على حافظ أفندي إبراهيم وأبي السامي الرافعي وأمين بك ناصر الدين محرّر الصفا وعبد الحليم أفندي المصري. وقال مكاتب من السودان أنها للدكتور شدودي. واعتقد بديع أفندي الحوراني أنها لوالده الأستاذ إبراهيم الحوراني أما الأبيات فهي من نظم ولي الدين بك يكن وأما الذين أصابوا في نسبتها إليهِ فهم حضرة: عبد المعطي بك حسين عمدة الصوالح - والسيدة لبيبة عقيلة أيوب أفندي نقاش - وأندراوس أفندي حنا - واسكندر أفندي سعيد البستاني - والخواجات حنا ويوسف شيخاني - وعبد الله أفندي نادر - وأمين أفندي حمدي. وقد أرسلت إدارة مجلة الزهور جائزة لهم كتاب المعلوم والمجهول لوليّ الدين بك يكن وعليهِ توقيعه بخط يده هذا وإننا نقتطف من بعض الأجوبة التي وردت علينا الشذرات الآتية: كتب أبو اسحق الصّبي في مساجلة أستاذه الشريف الرضي قصيدته النونية الساكنة فأجابهُ الشريف بقصيدة أخرى من نفس البحر غير أنهُ أطلق الرويّ زاعماً أن هذا الرويّ الساكن مما ينافي العذوبة ويكدُّ اللسان ويضطرب في اسلتهِ. وهو رأي العرب الذين تظهر فطرتهم اللغوية في ألسنتهم لأنهم إنما يريدون الوجوه اللفظية التي نشأت بها اللغة حسناء رائعة ونمت بها هيفاء بارعة فما كان من ذلك في الشعراء فهو أثر وراثي يجري هذا المجرى

ولما قرأتُ الأبيات التي نشرتها الزهور عجبت من أول بيت لهذا التقييد الذي أراه في الرويّ. ثم مررت في هزّها حتى أتيت عليها. فإذا صقال مطبوع , وإذا فكر دقيق وبصيرة نفاذة وفطنة شفافة. فراجعت رأيي متَّهماً ثم رجّعت النظر كرتين فصحَّ عندي أن تقييد الروي انطلاقٌ في حرية الشاعر وأنهُ من أفراد شعراء المعاني الذين ينبع الشعر في قلوبهم قبل أن يفيض على ألسنتهم ولا أعرف ذلك لأحد كما أعرفهُ للرجل الكبير الذي يكاد يكون قلباً كلّه وهو إسماعيل باشا صبري أبو السامي الرافعي الأبيات لولي الدين بك يكن. فإن أخطأ ظني فما ذلك إلاَّ لأن الشعر الحقيقي روح واحدة تتجلّى بمظاهر متعددة حسب ما توجيه قرائح الشعراء وكثيراً ما تتشابه هذه المظاهر فتعسر معرفة اسم الناظم مهما كان لأسلوبه في النظم من المميزات اسكندر سعيد البستاني هذه الأبيات تشابه في روحها الأبيات المنشورة تحت عنوان لؤلؤ الدمع في الجزء نفسه ولاسيما في قول الشاعر وقد كدت أنسى كبرتي فاد كرتها فإنهُ ينطبق على ما ورد في مطلع لؤلؤ الدمع لولي الدين بك يكن لا تذكريني فإنَّ الذكر يرجع لي ... عادات وجدي في أياميَ الأول حنا ويوسف شيخاني هذه الأبيات ليست لشوقي لأنَّ شعره يعلو ويخفض كموج البحر؛ وليست لحافظ لأنهُ يعتني بالديباجة أكثر من اعتنائهِ بالمعاني؛ وليست لخليل لأنَّ ألفاظهُ أقلّ من معانيه؛ وليست لوليّ الدين لأنهُ على فصاحته يعوزه بعض الجزالة , وليست لإلياس فيّاض لانصرافه عن الشعر إلى سواه في الأيام الحاضرة. على أنهُ لو كان البارودي لا يزال حيَّا لنسبتها إليه لما فيها من رصانة القول وجزالة المعنى وحسن السبك. فهي في رأيي والحالة هذه لسعادة إسماعيل باشا صبري يوسف الخوري كرم

أرى في هذه الأبيات أفكار ومعاني إسماعيل باشا صبري , وفي أسلوبها وديباجتها لهجة وليّ الدين بك يكن لمع لمع هذه الأبيات هي للشاعر الذي نشرت له الزهور في مجلدها الأول شكوى المنفي صفحة 140 يا ليل الصب صفحة 327 , ونفس مكرمة صفحة428. وفي مجلدها الثاني ما كان صفحة190 والقلوب البائسة صفحة974. وفي مجلدها الثالث لؤلؤ الدمع صفحة 31 فهي لوليّ الدين بك يكن لبيبة نقاش هي للشاعر الذي سٌمعت أنّاتهُ على ضفاف البسفور , ودوت صيحاتهُ في أرجاء يلديز. الشاعر الكاتب المجرّج عن كل تعصب إن دينيًّا أو جنسيًّا. هي لوليد الأستانة ومنفي سيواس ونزيل مصر اليوم صاحب المعلوم والمجهول عرفتهُ وأنا أطمع بأن أرى توقيعهُ على الجائزة فاحتفظ بخط الرجل الحرّ الذي علَّم الأحرار كيف يكون على الحرية. هي لولي الدين بك يكن؟ عبد الله نادر قرأت كثيراً لولي الدين بك يكن وتشبعت من روحهِ فلم أشكَّ في أن الأبيات لهُ أمين حمدي وقد ورد علينا جواب مطوَّل من حضرة الكاتب المجيد الشيخ إبراهيم الدباغ صاحب مجلة الإنسانية فيهِ نقدٌ لهذه الأبيات وددنا أن ننشره لما فيهِ من الفائدة لولا أن منعنا ضيق المقام. على أن حضرتهُ أخطأ في نسبتها هذا وأننا نشكر المكاتبين الأدباء الذين تفضلوا بالرد على اقتراحنا , ونُلفت نظر القراء جميعهم إلى اقتراح الزهور المنشور في هذا الجزء صفحة 89 بعنوان نوابغ مصر الأحياء

ثمرات المطابع

ثمرات المطابع كتاب خالد - قرأت كتاب خالد من الفاتحة إلى الخاتمة. وكنت قد رأيتُ مؤلفه مرة في بيروت منذ ثلاث سنين في صيدلية صديقي الفاضل مراد أفندي بارودي. فلما قرأت في الكتاب وصف خالد نفسه أنهُ (حليق الشاربين , مسترسل شعر الرأس تمثلت أمام مخيلتي صورة المؤلف جليةً واضحة. والكتاب كغيره من نتائج الأفكار يجمع بين الحَسن وغير الحسن وذلك شأن كل مؤلَّفٍ على الإطلاق وقد أدهشني في هذا الكتاب ما يلوح للقارئ لأول وهلة من سعة اطلاع مؤلفه وتعمقهِ في معرفة اللغة الانكليزية وسهولة إنشائهِ وغزارة مادته. إلاَّ أنهُ قد تكلف استعمال الألفاظ الانكليزية النادرة فكأنهُ أراد أن يظهر مقدرته اللغوية ونبوغه في إدراك أسرار تلك اللغة الأجنبية والكتاب مقصود بهِ سرد سيرة خالد وما لقي في مسقط رأسه وفي بلاد الغربة من تقلبات الأيام فهو مكتوب للعامة وكان يستحب أن تكون ألفاظه سلسة كمعانيهِ لا أن يكون معجم كلمات غريبة. وقد حمل المؤلف في كتابهِ حملة شديدة على الجزويت والأتراك ولا يعنّ لنا هنا أن نخطّيءَ أو نصوّب عمله بالنسبة إلى هذين العنصرين ولكننا نقول إذا كان التقريع لا يجلب فائدة فما هو إلاَّ نفثة مصدور أو ثورة غيظ لا تروي غليلا ولا تشفي عليلاً. وأجدر بأرباب الأقلام أن يكونوا أوسع صدراً وأكثر حلماً فلا يدفعهم الغضب إلى شطة الأقلام أن يكونوا أوسع صدراً وأكثر حلماً فلا يدفعهم الغضب إلى شطة قلم تنكأ

جرحاً قديماً لا يرجى شفاؤه ولكنها تزيده ألماً ومن أحسن ما ورد في الكتاب وصف الأماكن التي زارها المؤلف ووصف معيشة القرويين في سذاجتها الطبيعية حتى إنكَ إذا قرأتَ وصف الجبال والأودية وبزوغ الشمس ومغيبها , وظلال الصخور وأغصان الأشجار وخضرة الوادي وخرير الماء وهبوب النسيم وتغريد الأطيار وشذا الأزهار , تظن أنك انتقلتَ بالفكر إلى المكان الذي يصفهُ وكأنك تشاهده بعينك. وهي لا شك مقدرة للكاتب يحمد عليها وفي الكتاب مباحث فلسفية دقيقة تدلّ على ذكاء خارق وذهن متوقد , وسعة اطلاع , وإلمام بأكثر الفنون القديمة والعصرية , حتى لترى المعاني تسطع متقطعةً كوميض البروق فتبهر البصر بشدة لمعانها ثم تضمحلّ بسرعة فيعقبها ظلام دامس. بل هي شرر النار المتطاير من حديد محمي إلى البياض تحت مطرقة الحدَّاد. تراه ينبعث في كل مكان ثمَّ يختفي بمثل السرعة التي ظهر بها. ذلك أنهُ لا يرمي إلى غاية واحدة بل ينتشر في كل جهة ثم يندثر فلا تدري ما العلاقة التي كانت بين مصدره ومرجعه ولا مشاحة في أن المؤلف شاعر أكثر مما هو كاتب. وقد بلغ بهِ الخيال إلى الحلم فيرى أنا المستقبل سينشئ دولة عربيةً في سوريا تجعلها بهجة الدنيا. وهو حلمٌ لذيذ نتمنى أن يصير حقيقةً ولكن بينهُ وبينها مراحل حتى الآن لا يبلغها إلاَّ الوهم. ومن المؤكد أن المؤلف قد استفاد كثيراً من الغربيين أدباً وعلماً وفلسفةً ولكن الفطرة الشرقية لم تزل شديدة فيهِ وهي التي تجعل الأمل يقوم عندنا موضع العمل. وهذا ما جعل

الشرقيّ غارقاً في سبات منامهِ لاهياً وأحلامهِ هذه خلاصة ما تأثر به ذهني من مطالعة كتاب خالد بسطتهُ كما أرسلتهُ وما خشيت أن يسوء موقع بعض الحقائق التي فيهِ من ذلك الفكر المتقد وذلك العلم الجامع نجيب مختارات المنفلوطي - رأى السيد مصطفى لطفي المنفلوطي , صاحب النظرات حاجة طلاَّب الأدب إلى كتابٍ يجمع لهم من جيّد منظوم العرب ومنثورها , في حاضرها وماضيها , وفي كل فنّ وغرض من فنونها وأغراضها , ما يستعينون باستظهاره أو ترديد النظر فيهِ , على تهذيب بيانهم وتقويم لسانهم. . . فهزَّ دوحة الأدب العربي هزَّةً , تناثرت فيها هذه الثمرات الناضجة التي سمَّاها مختارات المنفلوطي. بين يدينا الآن الجزء الأول من هذه المختارات وهو يشتمل على بابي الفصاحة والبيان , والأدب والحكمة , مأخوذة فصولها عن مئة شاعرٍ وكاتبٍ تقريباً بين القديم وحديث؛ وستليهِ أجزاء أخرى تتضمن سائر أبواب الكتابة وقد برهن السيد المنفلوطي في انتقاءِ هذه المختارات عن دوقٍ سليم وإطلاع واسع , الأمر الذي لم نعجب له , لأن صاحب النظرات من كتَّابنا المعدودين ومن ذوي الخبرة التامة بالأدب والأدباء. وقد أحسن بوجهٍ عام في وصف كل كاتب من الكتاب الواردة أسماؤهم في كتابهِ , غير أننا كنا نودّ أن نرى زيادة تفصيل في هذهِ التراجم كأن يذكر لنا دائماً سنة ولادة المترجَم كما ذكر غالباً سنة وفاته ,

أو على الأقل القرن الذي عاش فيهِ , ملحقاً ذلك بأسماء أشهر مؤلفاتهِ , لكي يطلبها من يرغب في زيادة الإطلاع , أو على الأقل ليكتفي بمعرفة أسمائها. وكان يُستحبُّ أيضاً مراعاة تاريخ الكتَّاب في إيراد كتاباتهم , فلا نقرأ شيئاً للمتنبي المتوفي سنة 358هـ وبعهدَه أبياتاً لبشار بن برد الذي توفي قبله بنحو من مئتي سنة , ثم ننتقل دفعةً واحدة إلى أحد شعرائنا المعاصرين. فهذه الأمور لا تخفي أهميتها في تنسيق المختارات وترتيبها , وقد راعاها الإفرنج قبلنا في مختاراتهم , فكانت نتيجتها تفوّق ناشئتهم في حفظ تاريخ آدابهم الأمر الذي يكاد يجهله حتى المتأدبون منا. على أن مختارات المنفلوطي تُعَدُّ من خير ما لدينا من هذا القبيل الدولة والجماعة - عنوان لكتيّب يقع في 65 صفحة وضعهُ بالتركية أحمد شعيب بك , ونقله إلى العربية محبُّ الدين أفندي الخطيب أحد محرري جريدة المؤيد , وصدَّره رفيق بك العظم بمقدمةٍ عن علم الجماعة في الشرق. الواضع من مشاهير الكتاب الأتراك , والمترجم من حملة القلم البارعين. أما رفيق بك فمنزلتهُ الأدبية معروفة لدى الجميع. إن كتاباً هذا شأنه لخليق بكل أديب أن يطالعهُ بإمعان ولاسيما أنهُ يحتوي بحثاً مفيداً قلّما عالجتهُ الأقلام العربية إلاَّ في العهد الأخير. فلمحبّ الدين الخطيب الثناءُ الوافر

مصر وسوريا

مصر وسوريا لما نُكِبت بيروت نكبتها الأخيرة في 24 فبراير - شباط , هزَّت الأريحية والمروءة دولة الأمير النبيل محمد علي باشا , شقيق الجناب العالي الخديوي , ونخبةً من سراة مهر وكرمائها , فتألفت لجنة رئيسها دولة الأمير , وقوامها أصحاب السعادة والوجاهة: محمد شواربي باشا , ومحمود رياض باشا , وعزيز عزت باشا , وإسماعيل باشا صبري , وخليل باشا مدكور , وإسماعيل باشا أباظة , وحسين باشا واصف , وعبد الرحمن باشا صبري , وخليل باشا خياط , ونجيب باشا شكور , وسليم بك أيوب ثابت , ورفيق بك العظم , وحبيب أفندي لطف الله , فاحتفلوا بإحياء ليلة خيرية في تياتر والأوّبرا الخديوية مساء الثلاثاء في 19مارس الماضي , لإعانة المنكوبين في تلك الحادثة الأليمة , فضمت الليلة أوجهَ وجهاءِ المصريين والسوريين يتقدمهم صاحبا الدولة الأميران محمد علي باشا , وحسين باشا كامل (عم سمو الجناب العالي) وصاحب العطوفة محمد سعيد باشا رئيس مجلس النظار وأصحاب السعادة النظار الكرام. فرأى الحاضرون في تلك الحفلة الأنيقة أحسن ما يُرى , وسمعوا خير ما يٌسمع ولما كانت الزهور منذ نشأتها إلى يومها الحاضر , عاملةً أبداً على إحكام الروابط الأدبية بين القطرين الشقيقين - مصر وسوريا - وقد طالما كتبت واستكتبت في هذا الموضوع المقالات والقصائد التي كانت صحف هذين البلدين تردّد صداها , وتعزّز مبدأها , رأت من الواجب عليها أن يكون لها يدٌ في تلك الحفلة التي أقامها أبناء أحد القطرين لإعانة أبناء القطر الآخر في بلواه. فتقدمت إلى اللجنة بلسان سعادة السري الأمثل سليم بك أيوب ثابت , فأُذن لها وحدها في نشر ما أعدّ لتلك الليلة فجمعتهُ في كرّاس خاص , صدّرتهُ برسم دولة الأمير الرئيس , وقدمت منهُ عدداُ كبيراً إلى اللجنة , ليلة الاحتفال , ليُضاف ثمنهُ إلى مبرات المتبرعين. وقد ارتأت الزهور ألاَّ تحرم قراءَها من تلك النفئات الشائقة , فأودعتها في هذا الجزء ليبقى لديهم أثراً لروح التآخي والتضامن , ذلك المبدأ الشريف الذي بسطهُ حضرة سليم بك ثابت الخطيب المشهور في ختام تلك الحفلة في خطبة بليغة ألقيت ارتجالاً فلم نتمكن من إثباتها.

جريح بيروت

جريح بيروت وهي أبيات تمثل حالة جريح من جرحى حادثة بيروت الأخير وضعها لهذه الليلة سعادة إسماعيل باشا صبري وحافظ أفندي إبراهيم الممثلون: الجريح البيروتي: جورج أفندي أبيض ليلى زوجته: الست إبريز ستاني العربي: فؤاد أفندي سليم الطبيب المصري: عبد الرحمن أفندي رشدي الجريح: ليلاي ما أنا حيٌّ ... يُرجى ولا أنا ميتُ لم أقضِ حق بلادي ... وها أنا قد قضيتُ شفيتُ نفسي لو أني ... لما رُميتُ رَميتُ بيروت لو أن خصماً ... مشى إليَّ مشيتُ أو داس أرضكِ باغِ ... لدسته وبغيتُ أو حلَّ فيكِ عدوٌّ ... منازلٌ ما اتقيت لكن رماكِ جبانٌ ... لو بان لي لا شتفيتُ ليلايَ لا تحسبيني ... على الحياة بكيتُ ولا تظني شكاتي ... من مصرعي إن شكوتُ ولا يخيفنكِ ذكرى ... بيروت إني سلوتُ بيروت مهد غرامي ... فيها وفيكِ صبوتُ جررت ذيل شبابي ... لهواً وفيها جريتُ فيها عرفتكِ طفلاً ... ومن هواكِ انتشيتُ

ومن عيون رباها ... وعذب فيكِ ارتويتُ فيها لليلى كناسٌ ... ولي من العزّ بيتُ فيها بني لي مجداً ... أوائلي وبنيتُ ليلى سراج حياتي ... خبا فما فيهِ زيتُ قد أطفأتهُ كراتٌ ... ما من لظاهنَّ فوتُ رمى بهنَّ بغاةٌ ... أصبنني فثويتُ ليلى: لو تٌفتدي بحياتي ... من الردى لفديتُ ولو وقاك وفيٌّ ... بمهجتي لوقيتُ إن عشتَ أو متَّ أني ... كما نويتَ نويتُ الجريح: ليلاي عيشي وقرّي ... إذا الحمامُ دعاني ليلايَ ساعات عمري ... معدودة بالثواني فكفكفي من دموع ... تفري حشاشة فإن ومهّدي ليَ قبراً ... على ذرى لبنان ثم اكتبي فوق لوح ... لكل قاصٍ ودان هنا الذي مات غدرا ... هنا فتى الفتيان رمَتهُ أيدي جناةٍ ... من جيرة النيران قرصان بحر تولوا ... من حومة الميدان لم يخرجوا قيد شبر ... عن مسبح الحيتان ولم يطيقوا ثباتاً ... في أوجه الفرسان فشمَّروا لانتقام ... من غافل في أمان وسوَّدوا وجه روما ... بالكيد للجيرانِ

تبًّا لهم من بغاثٍ ... فرَّوا من العقبانِ لو أنهم نازلونا ... في الشام يوم طعانِ رأوا طرابلس تبدو ... لهم بكلِّ مكانِ يا ليتني لم أُعاجَلْ ... بالموتِ قبل الأوانِ حتى أرَى الشرق يسمو ... رغم اعتداء الزمانِ ويستردُّ جلالاً ... لهُ ورفعة شانِ وليعلم الغرب أنَّا ... كأمّة اليابانِ لا نرتضي العيش يجري ... في ذلة أو هوانِ أراهم أنزلونا ... منازل الحيوان وأخرجونا جميعاً ... عن رتبة الإنسان وسوف تقضي عليهم ... طبائع العمرانِ فيصبح الشرق غرباً ... ويستوي الخافقان لا هُمَّ جدّدْ قوانا ... لخدمة الأوطانِ فنحن في كل صقعٍ ... نشكو بكل لسانِ يا قوم إنجيل عيسى ... وأمة القرآنِ لا تقتلوا الدهر حقداً ... فالملك للديَّانِ ليلى: إني أرى من بعيد ... جماعةً مقبلينا لعلَّ فيهم نصيراً ... لعلَّ فيهم معينا هوّن عليك تملسكْ (يدخل الطبيب المصري ورجاله مع رجل عربي) الطبيب: = إني سمعت أنينا أظن هذا جريحاً ... يشكو الأسى أو طعينا بالله ماذا دهاهُ ... يا هذهِ خبّرينا

ليلى: لقد دهتهُ المنايا ... من غارة الخائنينا صبُّوا عليهِ الرزايا ... لم يتقوا الله فينا فخفّفوا من أذاه ... أن كنتم فاعلينا الطبيب: لا تيأسي - وتجلّدْ ... أراك شهماً ركينا أبشر فإنك ناجٍ ... واصبر مع الصابرينا (ثم يفحصه ويلتفت إلى أخوانه ويقول) أوَّاه أني أراهُ ... للموت أمسى رهينا جراحه بالغات ... تعيي الطبيب الفطينا وعن قريبٍ سيقضي ... غضَّ الشباب حزينا العربي: أفٍّ لقوم جياعٍ ... قد أزعجوا العالمينا قِراهمُ أينَ حلُّوا ... ضربٌ يقدُّ المتونا عقّوا المرؤة هدّوا ... مفاخر الأولينا عاثوا فساداً وفرّوا ... يستعجلون السفينا وألبسوا الغرب خزياً ... في قرنهِ العشرينا وألجموا كلَّ داعٍ ... وأحرجوا المصلحينا فيا أوربّة مهلاً ... أين الذي تدَّعينا ماذا تريدين منا ... والداء أمسى دفينا أين الحضارة؟ إنّا ... بعيشنا قد رضينا لم نؤذِ في الدهر جاراً ... ولم نخاتل خدينا مسرّة الشام إنّا ... إخوانكم ما حيينا ثقوا فإنا وثقنا ... بكم وجئنا قطينا إنا نرى فيك عيسى ... يدعو إلى الخير فينا

قصيدة شاعر الأمير

قرَّبت بين قلوب ... قد أوشكت أن تبينا فأنت فخر النصارى ... وصاحب المسلمينا الجريح: رأيت يأس طبيبي ... وهمسهُ في فوآدي لا تندبيني فإني ... أقضي وتحيا بلادي العربي: أستودع الله شهماً ... ندباً طويل النجادِ أستودع الله روحاً ... كانت رجاءِ البلادِ فيا شهيداً رمتهُ ... غدراً كرات الأعادي نم هانئاً مطمئناً ... فلم تنم أحقادي فسوف يرضيك ثأرٌ ... يذيب قلب الجمادِ قصيدة شاعر الأمير يا ربِّ أمرُك في الممالك نافذٌ ... والحكم حكمك في الدَّمِ المسفوكِ إن شئت أهرقهُ وإن شئتَ احمِهِ ... هو لم يكن لسواك بالمملوكِ وأحكم بعدلك إن عدلك لم يكن ... بالممترَي فيهِ ولا المشكوكِ ألأجلِ آجالٍ دنت وتهيأت ... قدَّرتَ ضرب الشاطئِ المتروكِ ما كان يَحميه ولا يُحمى بهِ ... فُلكانِ أنعم من بواخر كوكِ هذي بجانبها السيرِ غريقة ... تهوي وتلك بركنها المدكوكِ بيروت مُات الأسدُ حتف أنوفهم ... لم يشهروا سيفاً ولم يحموكِ سبعون ليثاً أحرقوا أو أغرقوا ... يا ليتهم قُتلوا على طبروكِ كل يصيدُ الليث وهو مقيّدٌ ... ويعزُّ صيد الضيغم المفكوكِ يا مَضرِب الخِيم المنيفة لِلقرى ... ما أنصف العُجْم الأولى ضربوكِ ما كنت يوماً للقنابل موضعاً ... ولو أنها من عسجدٍ مسبوكِ

خطبة سعادة الأستاذ أحمد زكي باشا

بيروت يا راحَ النزيل وأنسهُ ... يمضي الزمانُ عليَّ لا أسلوكِ الحسن لفظٌ في المدائن كلّها ... ووجدته لفظاً ومعنىً فيكِ نادمت يوماً في ظلالِك فتيةً ... وسموا الملائكَ في جلالِ ملوكِ يُنسون (حَسَّاناً) عِصابة (جلّق) ... حتى يكادَ بجلّقٍ يفديكِ تاللهِ ما أحدثتِ شرًّا أو أذى ... حتى تُراعى أو يُراعَ بنوكِ أنت التي يحمي ويمنع عرضها ... سيف الشريفِ وخنجرُ الصعلوك إن يجهلوكِ فإن أمّكِ (سوريا) ... والأبلقَ الفردَ الأشمَّ أبوكِ والسابقينَ إلى المفاخر والعُلي ... بَلهَ المكارمَ والندَّى أهلوكِ سالت دماءٌ فيكِ حولَ مساجدٍ ... وكسائس ومدارسٍ وبُنوكِ كنا نؤملُ أن يُمدَّ بقاؤها ... حتى تبلَّ صدى القنا المشبوكِ لكِ في رُبى النيل المبارك جيرةٌ ... لو يقدرون بدمعهم غسلوُكِ يكفيكِ بُرَءا للجراح ومرهماً ... أنَّ الأمير محمداً يأسوكِ لو يستطيع كرامُ مصرَ كرامةً ... لمحمدٍ بقلوبهم ضمدوكِ هو في أبتناء المجد صورة جدّهِ ... أذكرتِ إبراهيم في ناديكِ؟ شوقي خطبة سعادة الأستاذ أحمد زكي باشا إن الله يأمر بالعدل والإحسان يا سيدي الأمير النبيل , يا زهرة الربيع في روضة النبيل , يا حفيد محمد علي الكبير , وشريكة في اسمه الجليل وفعله الجميل! حيَّاك الله وبيَّاك! فأنت القدوةُ الصالحة للأكابر في حبّ قومك , وأنت

أنت المتفاني في خدمة العرب بما يفيض من قلبك على قلمك! نراك تتطوّف الشرق في أقصاه , وتزور الغرب حتى منتهاه , ووطنك لا يزال نُصب عينيك لا تنساه. تجوب الآفاق كما تتنقَّل الشمس في البروج , وشعاعك الروحاني متصل على الدوام بهذه الربوع , بل بما بين الجنوب من القلوب. تلك آثار يراعك ونفثات صدرك , نراها متمثلة في مثاني السطور , وفي تضاعيف الطروس التي أملاها وجدانك على بنانك. فجاءت أسفار أسفارك خير آية شاهدة بأنك إذا ابتعدتَ عن مصر , فلا تزال نفسك تناجيك بمصر , ولا تزال روحك تحنّ إلى ساكني مصر. تلك عواطف سامية يمنحها الله من يشاء! ويمنعها عمن يشاء. عواطف شريفة تتجّلى بأظهر معانيها حين حلولك في روضة المقياس , بعاصمة أخيك العباس , وهل يخفي القمر عن أبصار الناس؟ فلا غرو يا مولاي أن جاءَت هذه الغرّاء غُرَّةً في جبين الليالي , فأنت بدرها الذي تسجد له الأهرام والبرابي. لأنك أحييتَ فيها آية من آي الفرقان , آية عائدة بالخير الحقيقي على المستحقين من بني الإنسان: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان} أيها السادة الكرام! شكر الله صنيعكم , ووفّقكم لخير أمنكم! فبمثلكم ترفع مصر رأسها بين الأمم , وفي اجتماعكم هذا معنى شريفٌ لمن ينشدُ الوطنية الصادقة , ولمن يريد أن يتعرّف ما هو التضامن الإنساني على وجهه الصحيح. هذه مصر , وهذه الشام! صنوان , بل توأمان متلازمان , جمعتهما أواصر السُّلالة والقرابة والجِوار , ومزجت بينهما لُحمة اللغة والأدب , وربطتها ببعضهما الآمال والآلام. ارجعوا إلى التاريخ , في القديم وفي الحديث , ولا يُنبّئكم مثل خبير. فطالما

كان القطران تحت صولجان واحد , وطالما كانت الأمتان كجسم علا رأسه في العلا إلى السماء , ووضع إحدى قدميه على قارَّة أفريقية , وأقرّ الأخرى على قارة آسية! تعاونت الشقيقتان , في الشدة والرخاء , ورفعتا معاً منار العرفان , فاستضاءت بهِ جميع الأرجاء. نعم إن كرسيّ الملك كان في أغلب الأحيان في طيبة ومنف على عهد الفراعنة في الجاهلية الأولى , ولكنهُ كان أيضاً في دمشق الفيحاء حينما بدا فجر الإسلام , ثم انتقل إلى فسطاط ابن العاص فقطائع ابن طولون فقاهرة المعز لدين الله فهل من عجيب أن يلتحم القطران ببعضهما التحاماً تاماً في الحسّ والمعنى؟ هكذا بقيت الحال في أيام الفتح العثماني الذي شمل الأختين معاً إلى اليوم وإلى الأبد الآباد , حتى ظهر أبو الرجال , وسيد الأقيال , وأمير الأبطال , أعني بهِ محمد علي الكبير والجد الأعلى لمولانا العباس وهنا أقف موقف الإجلال والإكرام , وأنحني باحترام أمام ذكرى ذلك الهمام المقدام , وأستمطر شآبيب الرحمة والرضوان , على ضريح ذلك الذي استنقذ مصر من مخالب الفوضى وعوامل الخراب , ثم أحياها ووضع لها قواعد العمران. وسعى حتى جمع بين الشقيقتين تحت الراية العثمانية مستعيناً بإبراهيم نجله الكبير , ذلك البطل المغوار , المستوي فوق صهوة الجواد , أمام رّدّهة هذه الدار. وهاهو لا يزال بإصبعه على الدوام. . . . إلى نحو الشام! دلالةَ على تمام الارتباط والاتحاد في ظلال الهلال. جاءت قناة السويس على عهد سعيد وتلاقى فيها البحران , في يوم ولا كمثله يومٌ من أيام إسماعيل. فكان اتصال الأحمر بالأبيض انفصالاً بين بَرَدَى وبين النيل , وانفصمت تلك العروة الصغرى , فيما بين الغوطة والدلتا. غير أن ذلك التفريق كان التحقيق أكبر عامل في جمع القلوب وفي ازدياد الحنين. فمصر لا تزال ترمق الشام بعيون وامقة , وقلوب خافقة؛ وأبناءُ الشام ينظرون

إلى مصر. . . وكأنها لهم أرض الميعاد. فهم إليها يحُجُّون وبها يعتمرون , وفيها يعمّرون ويعمرُون. وها هي جاليتُهم قد استوطنت وادي النيل , لما تلقاه من الحفاوة التي امتاز بها المصري الكريم , منذ الزمان القديم. وكيف لا نقابلهم بهذا الارتياح , وقد جمعتنا بهم تلك العلائق , ونحن مجبولون على إكرام كل وافد من الخلائق , ولو كان بعيد الديار , وربما كان ممن يٌنكر المعروف ويغمط الفضل ويقابل الإحسان بالكفران؟ لا جَرَمَ أن في فيضان القلوب , وفي فيضان الجيوب. لذلك اشتهر بنو مصر الخصيبة بالإسراع في مدّ يد المعونة إلى كل منكوب , ولو كان ممن لا رابطة له بهم. فإنهم مشغوفون بالإحسان - لمجرد الإحسان - إلى الإنسان , مهما كان. فهذا لسان الحال لا ينطق عن الهوى , وهو شاهدُ عدلٍ على أن مصر تتألّم لكلّ من يصيبه الأذى أو يحلُّ به الردى. فإذا ما فوجئَ الإنسان - كائناً ما كان - بقارعة من قوارع الدهر , سارع أهل مصر إلى بذل المعونة بقلوب رحيبة رحيمة , وأيْدٍ مبسوطة كريمة. وكلما دعا الداعي لعملٍ من أعمال البِرّ , كان لصوته في هذا الوادي أقوى صدى , وتسابقت عشائرنا لتلبية النداء بالندَى ولا أذهبُ بكم بعيداً في إثبات هذه القضية البديهية. غير أنني لا أجد مندوحةً عن ذكر مثالين , قريبٌ عهدها , وقد جئنا في هذه الليلة لنعزّزهما بثالث , ومعاذ الله أن يكون هو الأخير! أن أعتقد اعتقاداً جازماً أن الكثيرين من السادة السامعين وأكثر منهم ممن ليسوا في زمرة الحاضرين , قد تسابقوا منذ عامين لإغاثة المنكوبين في باريس , عندما طغَى نهر السَّيْن فجعل ذلك الفردوس الأرضي كبحيرة تتلاطم فيها الأمواج. وما ذلك إلاَّ لأن المصريين قد علَّمهم طغيان النيل في بعض الأحايين بما يتبعهُ من الكوارث والنكبات.

كذلك هم أعرف الناس بغوائل النارِ. ولذا تنافسوا في تلبية الداعي الذي دعاهم لنجدة المنكوبين من أهل صقلية وقَلَوْرِية (كلابريا) من أعمال إيطاليا , وذلك على إثر ما دهاهم من نوازل وثوران البركان , منذ ثلاثة أعوام من الزمان. وقد بلغت قيمة ما جاد بهِ الخيّرون من أهل مصر عشراتٍ من ألوف الجنيهات , كان لها الأثر الطيّب في تخفيف المصائب عن بني الإنسان في تلكم الديار. ولقد اعترفت حكومة إيطاليا بهذه الأريحية , فشكرت مصر وأهدتها نَوْطاً من الذهب , هو الآن محفوظ بدار الكتب الخديوية. هذان مثالان بأن أهل مصر هم ممن يُدرك معنى التضامن الإنساني , وإن كان بعض الذين لا خَلاق لهم يُنكرون عليهم هذه الخليقة الكريمة. لا يفقَهُ المصريون معنى التضامن الإنساني , وهو متأصل في أخلاقهم منذ ثلاثة عشر قرناً؟ نعم , فهذه النظرية الجليلة يظنها قصار النظر من آيات العصر الحاضر , ومن بدائع الحضارة الغربية. وليت شعري! ماذا يقول المفتون بأوْرُوبَّة وتعاليمها إذا ما هداه الله إلى ما بين وتحت عينيهِ من آداب الإسلام ومبادئه في العمران؟ لا جَرَمَ أنهُ يرى في نظامهِ الاجتماعيّ البديع كثيراً من الحكم الباهرة ومن قواعد الأخلاق الجميلة. ولكنهُ قد حيل بينهُ وبين مآثر الأسلاف بحجابٍ , يا له من حجاب! ففي هذه الليلة الباهية , يجدر بأبناء العرب الكرام , أنْ يتدبّروا قول النبي عليه الصلاة والسلام , في الحثّ على بثّ التضامن بين المؤمنين بوجه عام. ودونكم أيها السادة نصّ حديثه المشهور: (مَثَلُ المؤمنين في توّادهم وتراحُمهم كمثَلِ الجسد , إذ اشتكى عُضو منهُ تداعى له سائره بالحمى والسهر) أو كما قال: (هذا هو التضامن!) وقد عرفه الشرقيون منذ أجيال طوال.

هذا هو التضامن الذي جرينا عليهِ مهتدين بسنَّة السلف الصالح! هذا هو التضامن الذي جمعنا من كل فج عميق , في هذا الاحتفال الجميل البهيج!! أيها السادة الكرام يحلو لي ولكم في هذا الحفل المقام ترديد قوله تعالى: {مَثَلُ الذين يُنفقون أموالهم في سبيل الله كَمَثَل حَبَّة أنبتتْ سبعَ سنابِلَ في كلّ سُنبلةٍ مائة حبة. والله يضاعف لمن يشاء. والله واسعٌ عليم} لهذه الحكمة البالغة قد تواصَيْنا بالحقّ وتواصَيْنا بالصبر , وعقدْنا الخناصر لمساعدة المنكوبين من إخواننا في الشام. ولسنا في حاجةٍ لتزكية عملنا وتبري سعينا بالأسباب التي قد يتشبَّثُ بها الإنسان في إغاثة الإنسان. وذلك لأنَّ اتحادنا مع المنكوبين في الأصلِ والسُلالة وارتباطنا وإياهم بتلك العلائق الكثيرة الثمينة , يجعلان من أقدس واجباتنا أن نبدأ بالإِسعاف لفروع دَوْحتنا وأفراد أُسرَتنا. والأقربون أولى بالمعروف نعم , فقد تعوّدنا من دهرنا على الإحسان بوجه الإطلاق , وإن كانتْ مَناحينا قد اختلفت فيهِ على ضروبٍ شتى. فمنا من يجنحُ إليه في المعاملات , وفريقٌ يستهدف إليه في المجلات , وآخرون يبتغون وجه الله. ولكلّ وِجهْةٌ هو مولّيها! فكيف لا نتسابق إلى سبيل الخير , عندما يكون أخونا في حاجة ماسّة إلى نفخة من نفخات البرّ؟ ليس المنكوب في بيروت بغريب عنا , فإنَّ الدَّمَ الذي يجري في عروقه هو الذي نستمدّ نحن منه الحياة. وكلانا من طينة واحدة , ومن مشرب واحد , وأجسامنا تنتعش بروح واحدة! هذا إلى ما أوصانا الله تعالى به من الإحسان إلى ذي القرُبى والجار الجُنُب والصاحب بالجَنْب وتلك الصفات الثلاثة قد توفّرت كلها في أبناءِ الشام , بالنسبة إلى إخوانهم المصريين فلا عَجَب إذا كنا نشاطرهم الأتراح , كما نحن نشاركهم في الأفراح. سُنةٌ قضى

بها التضامن الإنساني , بل هي فريضة أوجبتها قوانين الاجتماع ونواميس العمران. والجار أولى بالشفعة , والأخ أحقُّ بالشفعة! أئذا كنا نشترك من صميم الفؤاد في تخفيف الكوارث التي حلّت بالأقوام البعيدين , في الأقطار النائية , أفيكون من شيِمَنِا أن لا نبالي بما ألمَّ بإخواننا في الشام , أولئك الذين كانوا آمنين مطمئنين , في مدينة هادئة ساكنة , وكانت قرائن الأحوال جميعها تدلّ على أنهُ {لا خوف عليهم ولا هم يحزنون}؟ لغيرنا أن يحدّث نفسه بالرحمة في السرّ والنجوى. وأما نحن فقد صفحت قلوبنا بالتألم والشكوى. فلا مندوحة لنا عن المجاهرة بما تكنُّهُ جوانحنا لإخواننا من حسن الانعطاف , الذي يميله التضامن عل كل من أوتيَ مثقال ذرّةٍ من الإنصاف. فإن القلوب إذا تواثبت في الصدور , بعثت النفوس إلى الجود بالموجود , وحركت الأيدي إلى إخراج المكنوز في الجيوب والبيوت , لتخفيف المصاب الذي دَهِمَ المساكين من أهل بيروت. {إن الله يحب العدل والإحسان} سادتي! لعلي أكون لسانكم الناطق , وترجمانكم الصادق , إذا قلت إنكم تتحدّثون الآن بشكر الأمير الجليل الذي دفعتهُ عواطفه البارّة بالإنسانية لجعل هذه الليلة الشريفة تحت رعايته العالية. أفليس هو الذي أوجد لجمعنا المحتشد الآن فرصةً جميلة للإعراب عنا في نفوسنا من معاني المرؤة العربية , ومن العطف على قوم هم لدينا من أعزّ الناس؟ فشكراً لك يا أخا العباس: مولاي! إن الذين تبارَوْا في إجابة دعوتك , واجتمعوا في هذه الساعة حول طلعتك , يتقدمون إلى ساحتك , وقلوبهم على أكفّهم , وأيديهم في الجيوب , ليبرهنوا على

تحية الشام لمصر

عظيم إخلاصهم وجليل احترامهم لشخصك المحبوب. ولا تسلْ عما سيكون في بيوت بيروت؟ هنالك آياتُ الحمد والمدح يرتّلها المغاثون في الغداة والآصال , تعرّج بها طائفةٌ من الملائكة المقرّبين , وترفعها إلى أعلى علّيّين , فيتقبلَّها ذو الجلال والإكرام , الذي وفقك لأعمال الخير وير الأعمال , بتصدُّرك في هذا الاحتفال. احتفالٌ فيه {لِلذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ولَدَارُ الآخرة خيرٌ ولَنِعْمَ دار المتقين}. {فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً}. {إن الله مع الذين اتقَوْا والذين محسنون} أحمد زكي تحية الشام لمصر إلى مصرٍ أزفُّ عن الشامِ ... تحيات لكرام إلى الكرامِ تحيات يفضّ الحمد منها ... فمَ النسمات عن عبق الخزامِ نُدبت لها وجرَّ أني اعتدادي ... بأقدار الدعاة على القيامِ إذا ما كان معروف وشكر ... مبادلة التصافي والوئامِ فحباً أيها الوطنان إني ... وسيط العقد في هذا النظامِ وسيط العقد. . . لا عن زهو نفس ... أقلّ الرأي يُلزمني مقامي ولكن عن ولاءِ بي أكيدٍ ... وعن رعيٍ وثيق للذمام أعرني ثغرَ بيروت ابتساماً ... أصغ فرض الجميل من ابتسام ويا بحراً هناك أعرْ ثنائي ... نفيس الدرّ ينظم في الكلام ويا غابات لبنان المفدّى ... من الدوح المجدّد والقُدام أراكِ على الكنانة عاطفات ... وقد ذكرت أميلكِ من غرام؟ أمدّيني بأرواحٍ زواكٍ ... لأقرئها الزكيّ من السلام

بلادي لا يزال هواكِ مني ... كما كان الهوى قبل الفطام أقبّل منك حيث رمى الأعادي ... رغاماً طاهراً دون الرغام وأفدي كل جلمود فتيتٍ ... وهي بقنابل القوم اللثام فكيف الشبلُ مختبطاً صريعاً ... على الغبراء مهشوم العظام وكيف الطفل لم يُقتل لذنب ... وذات الخدر لم تُهتك لذام لعمر المنصفين أبعد هذا ... يلام المستشيط على الملام لحى الله المطامع حيث حلّت ... فتلك أشد آفات السلام تشوب الماء وهو أغرُّ صافٍ ... وتمشي في المشارب بالسقام أيُقتل آمن ويقال رفّهْ ... عليك فما حِمامك بالحمام ستسعد بالذي يشقيك حالاً ... وتنعم بعد خسف بالحمام فأما أن تعيش وأنت حرٌّ ... فذاك من التغالي في المرام وأما أن تساهم في المعالي ... فطائشة بمرماك المرامي مضى عهد يجار الجار فيه ... ويؤخذ للحلال من الحرام وهذا العهد ميدان التباري ... بلا حدّ إلى كسب الحطام مباح ما تشاء فخذه إمّا ... بحق الرأي أو حقّ الحسام ولا تكرثْك نوحات الثكالى ... ولا شكوى ضميرك في الظلام أساتذةَ المطامع ما ذكرتم ... هو الناموس يقدم وهو نام فلا يضعفْ ضعيفٌ ... لناب الليث يصلح في الطعام فهمنا مأخذ الجاني علينا ... وأعذار السواسية العظام وأن بديل عصر كان فيه ... عجاف القوم ملكاً للضخام زمان ساد شعب فيه شعباً ... وأنزله بمنزلة السوام

فقوم من ملوك كيف كانت ... مراتبهم وقوم من طغام وبين العنصرين خلافُ نوع ... على كون الجميع من الأنام أقول وقد أفاق الشرق ذعراً ... من الحال الشبيهة بالمنام على صخب الرواعد في حماه ... ورقص الموت بين طليً وهام أقول بصوتهِ لحماة دارٍ ... رماها من بغاةِ الغربِ رام أباةَ الضيم من عرب وتركٍ ... نسورَ الشم آسادَ الموامي قرومَ العصرِ فرساناً ورجْلاً ... نجومَ الكرِّ من خلف اللثام بنا مرضُ النعيم فنسّمونا ... وغَى يشفي من الصفوِ العُقام بنا بردُ المكوث فأدفئونا ... بحمّى الوثبِ حيث الخطب حام لقد جئتم ببرهانٍ عظيم ... على أنّا نعودُ إلى التمام وأنا إن جهلنا أو غلطنا ... أنفنا أن نعاتب باحتكام وأنا حيث فاتحنا كذوبٌ ... بميعاد فطنّا للختام فإن زينت لنا الأقوال عفنا ... تعاطيَها كما كرة المدام على هذا الرجاء ونحنُ فيهِ ... نسير موفّقين إلى الأمام مثولي رافعاً إجلالَ قومي ... إلى عباس الملك الهمام إلى ملك التضامن والتآخي ... عميد الشرقِ من بعد الإمام وجهري جُهد ما تسعُ المعاني ... بمدح شققهِ السمِ المقام متمّ إمارة الأصلِ المعلّي ... بفضلٍ باذخٍ كالأصلِ سام وأدعو أن يُعزَّ اللهُ مصراً ... ويوليَها السعودَ على الدوام خليل مطران

العدد 24

العدد 24 - بتاريخ: 1 - 5 - 1912 كسوف الشمس كسفت الشمس في السابع عشر من الشهر الفائت حوالي الساعة الثانية وربع بعد الظهر , فرأينا أن نذكر للقرَاء شيئاً عن هذا الحادث الطبيعي: يعرف كلُّ من له إلمام بالنظام الفلكي أن القمر يدورُ حولَ الأرض , وهو والأرض يدوران حول الشمس. وعليهِ فلا بدَّ من أن يكون القمر تارةً بين الشمس والأرض , فلا نرى منهُ إلاَّ القسم المظلم إذ أن القسم المنير يكون محاذياً للشمس , وهذا هو المحاق؛ وتارةً تكون الأرض بينهُ وبين الشمس فيمكننا أن نرى حينئذٍ القسم المنير , وذلك بعد خمسة عشر يوماً , وهذا هو البدر؛ وطوراً يكون والأرض متحاذيين على مسافةٍ واحدة من الشمس , وذلك هو التربيع. وبين المحاق والتربيع يكون التثليث وبين التربيع والبدر يكون التسديس. ولما كان القمر كالأرض غير مضيء بنفسه بل يستمدُّ كلاهما النور من الشمس , كان لا بدَّ من أن يكون وراءَ القمر ووراء الأرض في الفضاء ظلٌّ , وكل من يكون في هذا الظلّ لا يرى الشمس , فتظهر الشمس

مكسوفة , عندما تدخل الأرض في مخروط ظلّ القمر , ويظهر القمر مخسوفاً عندما يكون في ظلّ الأرض لأنها تحول دون وصول نور الشمس إليهِ ويسهل عليك أن تتمثل ذلك إذا افترضت القنديل بمثابة الشمس , وجعلت يدك بمثابة القمر ورأسك الأرض فعندما تمرُّ يدك أمام المصباح يحتجب ضؤُه قليلاً عن ناظريك حتى يختفي تماماً , ثمَّ يعود فيظهر ثانية هكذا يكون كسوف الشمس ميعاد الكسوف وأنواعه - عرفه الأقدمون باسم ساروس وهو كناية عن 18 سنة و11 يوماً , يحدث فيها 41 كسوفاً و29 خسوفاً تتعاقب في المدة نفسها كما دلّلت مراقبتهم للسماء. أما اليوم فإن لدى العلماء جداول فلكية وضعوها بعد الاختبار الطويل والكسوف إما جزئي , وإما كليّ أو تام , وإما دائري على شكل حلقة وذلك عندما تصير الشمس شبه دائرة قاتمة اللون حولها هالة منيرة. وفي الكسوف التام يكون المنظر ذا عظمةٍ مروّعة تلقي الرعب في النفوس , فتسودّ الشمس , ويخيم الظلام وتظهر النجوم في السماء ويستولي على الحيوانت نفسها رعب ذكره جميع الفلكيين الذين وصفوا هذا المشهد , فرأوا المواشي واجفةً تنقطع عن المرعى , والطيور تلجأ إلى وكناتها والكلاب مرتعشة تشُغل عن متابعة أصحابها. ولو أردنا ذكر كلّ ما كتبه علماء الفلك في هذا الباب لأستغرق الموضوع صفحات عديدة. درس الشمس أثناء كسوفها - تروي هذه المغالطة عن فونتينل لا شيء أكثر ظلاماً في طبيعته من الشمس , فلا يتسنى لنا درسها إلاّ

أثناء كسوفها وواقع الحال يؤيد هذا القول , فإن الكسوف قد أفادنا عن الشمس أكثر من جميع المظاهر الجوّية. وإذا كان وجيزاً , يكفي لأخذ الرسوم ودرس أطوار الشمس وبقَعِها. فإن التقارير عن هذه الحوادث قد أفادت العلم فائدة عظمى ومهّدت السبيل لاستخراج النتائج المهمة من هذا القبيل اعتقادات الشعوب - قال فونتنيل نرى لدى كسوف الشمس من الخزعبلات والخرافات ما يقضي بسنّ قانونٍ يمنع العلماء من الإشارة إلى هذا الحادث قبل أوانهِ. . . وكان القدماءُ ينسبون الكسوف إلى غضب الآلهة , أو إلى حنق الشمس التي تحجب طلعتها النيرة دون فظائع البشر. وقد عزا ذلك قومٌ إلى يدٍ قوية تسدلُ ستاراً على منبع الأنوار , وآخرون إلى ضلال الأرض عن مركزها , وتوهم البعض أن الحادث الطبيعي ليس إلاَّ مفعول أعمال السحرة التي تطفئ النور. وهذا هو سبب ما كان يقدم عليهِ - حتى في أيامنا - من صراخٍ وهتاف وضرب على صفائح نحاسية زعماً منهم أنهم يبطلون بهذه الطريقة مفعول السحر أو يخيفون التنّين الذي يبتلع الكواكب. ونجد أن هذا الاعتقاد كان سائداً بين معظم الشعوب , كالهنود والصينيين واليونان والرومان والعرب وسكان أميركا. وقد رأينا مما تقدم أن هذا التنين المخيف ليس إلاَّ القمر الذي يقف بيننا وبين أختهِ الشمس فيحجب عنا نورها زعمُ هيرودوتوس 484 - 425 ق م - إنَّ كتابات هذا المؤرخ

الشهير تدلُّ على أن أوهام الشعب كانت ساطية على أفكره من هذا القبيل. فهو يذكر حدوث الكسوف أربع مراتٍ في كتابهِ , والألفاظ والعبارات التي يستعملها لوصف هذا الحادث تدلُّ على جهله حتى كلمة بمعنى كسوف فهو تارة يقول أظلمت السماء بغتة وتارة صار النهارُ ليلاً والنور ظلاماً ومرةً واحدة يفصلّ ذلك إذ يقول تركت الشمس مكانها في السماء واختفت عن الأبصار ولم يكن إذ ذاك لا غيم ولا سحاب , وكان الجوُّ صافياً زَعْمُ اليونان - وكان من عادات بلاد مكيدونيا على عهد سقراط (486 - 400 ق م) أن تّوصد أبواب المنازل وتُحلَق شعور الأولاد حزناً وحداداً. ويروى عن الاسكندر الكبير أنه عندما كُسفت الشمس قبيل موقعة أربيل قرّب القرابيين وذبح الذبائح استرضاءً للشمس والقمر ودفعاً لغضب الآلهة وتمويهاً على الشعب زعم الرومان - في سنة 178 ق م أثناء الحرب التي دارت رحاها بين برسه وبولس اميليوس حدث كسوفٌ ألقى الهلع في قلوب المتحاربين ولكنهُ لحسن طالع الرومان كان بين قوّادهم فلكي مشهور اسمه سلبيسيوس جالُّوس وكان قد أنبأهم عن هذا المظهر الجويّ قبل أوانه فأصاب أعداءَهم الفشل وأصابوا الظفر. ويروي المؤرخ ديون كاسيوس أن الإمبراطْور أقلوديوس لما علم أن يوم تذكار تبوّئهِ السدة الإمبراطورية يوافق يوم كسوفٍ خاف أن يتشاءم الشعب ويتطير منهُ فأمر بنشر الخبر في كل المملكة مع شرح أسبابه الطبيعية وذلك تلافياً لوقعهِ السيء زَعمْ الهنود والصينيين - حدث سنة 1877 كسوف في مدينة

لاوس من أعمال الهند الصينية , فأحدث قلقاً عظيماً بين السكان. فكنت تراهم سائرين في الشوارع والأزقّة ينشدون الأهازيج الحربية , ويطلقون العيارات النارية نحو السماء لتهويل التنين. وفي الصين تجري احتفالات ولما كان الصينيون يعتقدون أن ملكهم ابن السماء ومملكتهم المملكة السماوية أصبحوا يتوهمون أن كلَّ خللٍ يطرأ على نظام السماء ناجمٌ عن خللٍ في نظام بلادهم , وعليهِ فهم يقيمون الاحتفالات ويقربون القرابين عند حدوث مثل هذه الأمور الكسوف في التاريخ - إن النظر في بعض الحوادث التاريخية التي كان للكسوف دورٌ عظيم فيها يبيّن لنا ما وراء العلم من الفوائد , وإلى أي حدٍّ تبلغ الخرافات بالشعب متى سطا عليهِ الجهل أقدم كسوفٍ يرويه لنا المؤرخون مدوَّنٌ في تاريخ الصينيين على عهد الملك شو ويرتئي العلماء أنهُ حدث في الثالث عشر من أكتوبر (ت1) سنة 2128 قبل الميلاد وأشهرُ كسوفٍ ذكره التاريخ القديم هو كسوف سنة 585 ق م وهو جديرٌ بالذكر لسببين: الأول لأن العالمِ تالس كان قد تنبأ عنهُ , وهو أول فلكيٍّ عند الأقدمين قد شرح هذا الحادث وأدرك أسبابه؛ والثاني لأنهُ بواسطة هذا الكسوف قد توصل العلماءُ إلى تقرير بعض حوادث مهمة. وقد رواه المؤرخ هيرودوتس في معرض كلامهِ عن الحرب المنتشبة بين الفرس وأهل ليديا حيث قال ما ترجمتهُ:

كانت رحى الحرب دائرة بين الأمتين منذ سنوات , ففي إحدى المواقع صار النهار ليلاً والنور ظلاماً , فدُعر المتحاربون لهذا المشهد , وكفوا عن القتال وعقدوا الصلح وكان المؤرخون مختلفين على السنة التي جرت فيها هذه الحرب , فمنهم من جعلها في سنة610 , ومنهم في سنة 593. غير أن الأبحاث الفلكية دلت أخيراً على هذا الكسوف كان حدوثهُ تماماً في 28 مايو (أيار) سنة 585 , وهكذا ساعد علم الفلك علم التاريخ على حبلّ هذا المشكل وغيره وقد حّث كسنوفون عن كسوفٍ آخر في كتابه آناباس لما روى وصول اليونان إلى ضفاف دجلة , قال ما ملخصه: وكان هناك مدينة قديمة مهجورة تحدق بها أسوار منيعة يبلغ علوّها مئة قدم , وهي مبنية بالأجرّ الأحمر , وكان الفُرسَ قد حاصروها دون جدوى لمناعتها , حتى ساعدتهم الأقدار على فتحها؛ وذلك أنه في أحد الأيام احتجبت الشمس عن العيان فهلع السكان وخلّوا المدينة بين أيدي العدو وقد حقق العلماء أن هذا الكسوف حدث في 19 كايو 557 وفي 3 أغسطس سنة 431 حدث كسوف تام رواه بلو ترخوس في كتابه حياة بريكلس , قال وكان الأسطول (اسطول اليونان) على أهبة السفر للحرب (محاربة أهل سبارطه) وكان بريكلس على ظهر السفينة إذ كسفت الشمس كسوفاً تاماً. فأثر ذلك في البحارة وتشاءموا

من هذا الظلام غير المنتظر , وكادت همتهم تخونهم , لو لم يعمد بريكلس إلى حيلة لطيفة , وهي أخذ رداءه ووضعه على وجه أحد القواد قائلاً: ألستَ الآن , فقال بريكلس: وأي فرقٍ بين هذا الظلام وذاك سوى أن الأول ناتج عن شيء أضخم من ردائي. .؟ وجاء في توسيديد وفي ذلك الصيف عند ولادة القمر , بعد الظهر بقليل أصاب الشمس كسوف , حتى أصبحت كالهلال , وظهر في السماء بعض نجوم , لم تلبث أن عادت إلى منظرها الأول ثم كثر بعد ذلك ورود ذكر الكسوف وشرح مظاهره في التاريخ مما لا مجال لذكره الآن. على أننا نكتفي بإيراد خبر نجاة كريستوف كولمبس: كان ذلك في غرة مارس سنة 1504 وكان الزاد فرغ من السفينة فألقت مرساتها تجاه الجزيرة المعروفة اليوم باسم جامايكا فطلب كولمبس من سكانها المتوحشين مؤونة وزاداً , فرفضوا. وكان عالماً بأن الشمس ستكسف في اليوم الثاني فاتخذ ذلك وسيلة للتهويل عليهم , فأنذرهم بمنع نور الشمس عنهم , إذا هم لم يجيبوا طلبه , ولا تسل عن رعبهم في ثاني يوم عندما رأوا كسوف الشمس , ولم يفهموا فيه إلاَّ تنفيذ ما هُدّدوا به. فتراموا على أقدام كولمبس يستعطفونه , وقدموا له كلّ ما طلب وأصبحوا ينظرون إليه نظرهم إلى إلهٍ

الكهانة

الكهانة قلنا فيما تقدَّم إن الكهَّان يعرفون الغيب بوحيٍ من الشيطان , فتلك هي الكهانة الأصلية عندهم , وأصحابها أوسع الكهان عاماً وأعظهم خطراً , وأسماهم مقاماً؛ ولكنَّ هنالك طرقاً أخرى لمعرفةِ الغيب تختلف عن الكهانة الأصلية في أسبابها وشروطها وكيفيتها؛ كالعرافة والعيافة والطرق بالحصى والَحزو والتنجيم وكلها ضروبٌ من الكهانة إلاَّ أن أهلها أقلُّ من الكهان علماً , وأدنى منهم رتبة , وهم نفسهم مراتب ودرجات. والعربُ يطلقون اسم الكاهن على العرَّاف , والعائفِ , والطارق بالحصى , والحازي , والمنجّم , وعلى كل متكهّن يتعاطى الخبرَ عن الكائنات في مستقبل الزمان. وربما استعمل بعضهم العرَّاف بمعنى الكاهن , فيطلقه على كل متكهن أما العرِّاف فهو الذي يعرف الأمورَ بمقدمات أسباب يستدلُّ بها على مواقعها من كلام مَن يسأله أو فعلهِ أو حاله. فعلمهُ قاصرٌ على معرفة الشيء المسروق وسارقهِ ومكان الضالة , ودواء المريض , ومواقع السحاب , ونحو ذلك وقد اشتهر من العرَّافين في الجاهلية رُباح بن كحلة عرَّاف اليمامة , والأبلق الأسدَي عرَّاف نجد , وكان كلاهما في العصر الأخير من زمن الجاهلية. وأولهما هو المقصود بقول عروة بن حزام: فقلتُ لعرَّاف اليمامة داوني ... فإنك إن داويتني لطبيبُ وإليهما معاً أشار الآخر في قوله: جعلتُ لعرَّاف اليمامة حكمهُ ... وعرَّاف نجدٍ أن هميا شفياني فقالا شفاكَ الله والله ما لنا ... بما حملتْ منك الضلوع يدان وممن اشتهر أيضاً بالعرافة هند صاحب المستنير الذي يقول عنهُ المسعودي أنهُ

كان في غاية التقدم فيها , وكذلك الأجلح الزهَري وعروة بن زيد الأسدي وأما العائف فهو الذي يتكهن بواسطة العيافة , وهي زجرُ الطير أو الوحش , والتفاؤل بأسمائهم وأصواتها وممرّها. قال الأعشى: ما تعفيفُ اليوم في الطير الرَّوَح ... من غراب البين أو تيسٍ بَرح وقال الفرزدق: وليس ابنُ حمراءِ العجان بمفلتي ... ولم يزدجر طير النحوس الأشائمِ وقال الأخطل يخاطب امرأة وسيمة تزوَّجها رجل دميم: فهلا زجرت الطير ليلة جئته ... بضيقةَ بين النجم والدَّبرانِ وهو كثير في شعرهم. وهذا النوع من الكهانة أشهر أنواعها عندهم: ومنشأوه اعتقادهم باليمن والشؤم. فاليمن عندهم خير , والشمال شرّ. ولذلك اشتقت لفظة التيامن واليمن والتيمن من اليمين , كما اشتقت لفظة التشاؤم والشؤم من معنى كلمة الشمال , لأن المشأمة في اللغة بمعنى الميسرة , واليد الشؤمي والجانب الأشأم , بمعنى اليد اليسرى والجانب الأيسر. فلذلك الاعتقاد كان الرجل منهم إذا أراد حاجة أتى الطير في وكره فنفّره , فإن أخذ يميناً مضى لحاجته , وإن أخذ شمالاً , رجع. وهذا هو الأصل في زجر الطير. ومن ثم استعملوا كلمة الطيَرة بمعنى التشاؤم , ثم أطلقوا الزجر على الوحش أيضاً , وتوسعوا في كيفية الزجر وأحواله , فقالوا: الزجرُ للطير وغيرها , التيمنُ بسنوحها , والتشاؤم ببروحها , والاعتبار بأسمائهم وأصواتها وممرّها. فلما صار كذلك اختلط أمره على العامة فأصبح ضرباً من الكهانة بعد أن كان اعتقاداً بسيطاً باليمن والشوم , فصار العائف , إذا عاف طيراً أو وحشاً , يتكهن فيخبر بأمور من الغيب , كما يفعل العرّاف. وربما عاف بالحدْس , وهو لم يرَ شيئاً , لاطيراً ولا وحشاً. وبقي التفاؤل والتشاؤم على بساطته الأصلية للعامة فقط ومن القبائل التي اشتهرت بالعيافة في الجاهلية بنو أسد. قيل أن قوماً من الجن تذكروا عيافتهم , فأتوهم , فقالوا. ضلَّت لنا ناقة فلو أرسلتم معنا من يعيف , فقالوا

لغُلّيمٍ منهم انطلق معهم. فاستردفه أحدُهم , ثم ساروا فليتهم عقاب كاسرةً أحد جناحيها. فاقشعرَّ الغلام وبكى. فقالوا مالك؟ فقال كسرت جناحياً , ورفعت جناحا , وحلفت بالله صراحاً , ما أنت بانسيٍّ ولا تبغي لقاحا وممن اشتهر بالعيافة من الأشخاص عبيدُ الراعي حدَّث المنقريُّ عن العتبيّ قال: وقف عبيد ذات يوم مع ركب من ثقيف على نفر وكانوا يريدون استقصاء رجل من تميم , إذ سنحت ظباء سود منكَّرة ثم اعترضت الركب مقصرة في حضرها , واقفة على شأنها , فأنكر ذلك عبيد الراعي ولم ينتبه إليهِ أصحابه فقال: ألم تدرِ ما قال الظباء السوانحُ ... أطفنَ أمام الركب والركب رائحُ فكبَّر من لم يعرف الزجر منهم ... وأيقن قلبي أنهنَّ نوائحُ ثم شارفوا مقصدهم , فألفوا الرئيس قد نهشتهُ أفعى فأتت عليه. قال أبو عبيدة معمر بن المثنى: وهذا من غريب الزجر. وذلك أن السانح مرجوٌّ عند العرب , والبارح هو المخوّف , وأظن عبيداً إنما رجر الظباء في حالة رجوعها , ووصف الحال الأول في شعره كما أن من شرط الواصف أن يبدأ بهوادي الأسباب , فيوضح عنه فهذا هو وجه رجر عبيد الراعي في شعره أما السانح والبارح فقد اختلف أئمة اللغة في تعريفها. قيل السانح ما أتاك عن يمينك ظبي أو طائر أو غير ذلك , والبارح ما أتاك من ذلك عن يسارك وولاك جانبه الأيسر وهو انسيّه. والبارح ما جاء عن يسارك إلى يمنيك وولاك جانبه الأيمن وهو وحشيُّه وقيل. بل السانح ما مرَّ بين يديك من جهة يسارك إلى يمينك , والبارح ما مرّ من يمنك إلى يسارك. ولا يخفى ما في كل ذلك من المناقصة. وكذلك قال بعضهم: السنُح الظباء الميامين. وقال البعض الآخر: السمُح الظباء المياشيم وأكثر العرب يتيمنون بالسانح , ويتشاءمون بالبارح. ومن ذلك المثل من

لي بالسانح بعد البارح وأصله أن رجلاً مرّت بهِ ظباء بارحة فتطيَّر من ذلك فقيل له: عسى أن تمرَّ بك أخرى سائحة , فقال المثل: وهو يضرب في توقع المحبوب بعد الكروه. وقال أبو دؤيب: أربت لإربتهِ فانطلقتُ ... أرجّي لحبّ اللقاء سنيحا وأنشد أبو زيد: أقول والطير لنا سانحٌ ... يجري لنا أيمنهُ بالسعودِ وأنشد الليث: جرت لك فيها السانحات بأسعدِ وقال الشاعر: أبا السنُح الأيامن أم بنحسٍ ... تمرُّ بهِ البوارحُ حين تجري وقال ذو الرمّة: خليليَّ لا لاقيتما ما حييتما=من الطيرِ إلا السانحات وأسعدا وقال النابغة: زعم البوارحُ أنَّ رحلتنا غداً ... وبذاك تنغابُ الغرابِ الأسود ومن العربَ من يتيامن بالبارح , ويتشاءَم بالسانح , قال الأعشى: أجارَهما بشرٌ من الموت بعدما ... جرَى لهما طيرُ السنيح بأشأمِ وبشر هذا هو بشر بن عمرو بن مرثد , وكان مع المنذر بن ماء السماء يتصيد في يوم بؤسه الذي يقتل فيهِ أول من يلقاه. وكان قد أتى في ذلك اليوم رجلان من بني عمّ بشر فأراد المنذر قتلهما , فسأله بشر فيهما فوهبهما له وقال زهير متشائماً أيضاً بالسانح: جرت سَنحاً ققلتُ لها أجيزي ... نوّى مشمولة فمتى اللقاءُ وقال كثيّر: أقولُ إذا ما الطيرُ مرَّت مخيفةً=سوانحها تجري ولا أستثيرُها وقال عمرو بن قميئة:

فبيني على طيرٍ سنيح نحوسهُ ... وأشأم طير الزاجرين سنيحها قال ابن بري: أهل نجد يتمّنون بالسانح , ويتشاءمون بالبارح , والعكس من ذلك عند أهل الحجاز. فهذا هو الأصل ثم قد يستعمل النديّ لغة الحجازي , والحجازي لغة النجدي , أقول: والظاهر من كل ذكرناه في معنى السانح والبارح لغةً. فقد رأيتَ أن السانح عند قوم الظباء الميامين , وعند غيرهم الظباء المياشيم؛ فلذلك يتايمن هؤلاء بما تشاءم بهِ الآخرون فكانوا بذلك مواقفين لهم في الحقيقة , لأن الخلاف إنما هو في الاِسم في المسمَّى قلنا إن أصل العيافة هو اعتقادهم باليمن والشؤم وإن اليمين عندهم خير , والشمال شرّ. أما تفضيلهم اليمين على الشمال , فقد جاروا فيهِ الطبيعة التي جعلت الأعضاء اليمنى من جسم الإنسان أقدر من اليسرى وأقوى. وجاراهم في ذلك التفضيل جميع الشعوب. فكان المحل الأيمن أفضل المحلين؛ وبذلك قضى الله نفسهُ إذ جعل اليمينَ لأهل الجنَّة , والشمال لأل النار , وجعل لكل رجلٍ ملكاً عن يمينهِ , وشيطاناً عن شماله. وقد جاء في صحيح البخاري أن النبيّ كان يحب التيمن ما استطاع في شأنهِ كله في طهوره وترجله وتنعلهِ وأما الطارق فهو الذي يتكهن بواسطة الطرْق بالحصى , وذلك أن يخطَّ في الأرض أو الرمل خطوطاً بإصبعين , ثم بإصبع , ويقول: ابني عيَان أسرعا البيان ثم ينبئ عما سئل عنهُ. وربما يكون النداء لابني عيان في العيافة أيضاً وفي غيرها من ضروب الكهانة. وأكثر كهان الطرق من النساء. قال لبيد: لعمركَ ما تدري الطوارقُ بالحصى ... ولا زاجرتُ الطير ما الله صانعُ وقيل الطرقُ إن يخلط الكاهن القطن بالصوف فيتكهن. والظاهر أن الطرقَ في الأصل كان بالحصى , ثم توسع فيهِ بعضهم إلى القطن والصوف , بقي الاِسم على أصله. ومن أمثال العرب التي تُضرب للذي في كلامهِ , ويتفنن فيهِ ,

قولهم: أطرقي وميشي. قال رؤية: عاذل قد أُولعتِ بالترقيشِ ... إليَّ سرًّا فأطرقي وميشي وفي لسان العرب: الطرق في الأصل هو ضرب الصوف بالعصا , والميش خلط الشعر بالصوف وأما الحازي فهو الذي يتكهن بواسطة الحرو؛ وهو أن ينظرَ في الأعضاء والغضون وخيلان الوجه فيتكهن. قال الشاعر: وحازيةِ ملبونةٍ ومنجّسٍ ... وطارقة في طرقها لم تسدّد قال ابن شميل: الحازي أقلُّ علماً من الطارق , والطارق يكاد كاهناً , والحازي يقول بظنٍّ وخوف والعرب يستعملون لفظة الحزو بمعنى الزجر أيضاً فيقولون: حزَونا الطير تحزوها حزواً , أي زجرناها زجراً. قال أبو زيد وهو عندهم أن يَنغق مستدبره فيقول هذا شرّ فلا يخرج وإن سنح له شيء عن يمينهِ تيمن بهِ , أو سنح عن يساره تشاءَم بهِ , فهو الحزو والزجر وأما المنجّم فهو الذي يتكهن بواسطة التنجيم. وذلك أن يرعى النجوم بحسب مواقيتها وسيرها ليعلم منها أحوال العالم. وفي كتب اللغة علم النجوم عندهم علم يبحث فيهِ عن أحوال الشمس والقمر وغيرها من الكواكب. وموضوعه النجوم من حيث يمكن أن تعرف بها أحوا ل العالم. ومسائله هي كقولهم: كلما كانت الشمس مثلاً على هذا الوضع المخصوص فهي تدلَّ على حدوث أمر كذا في العالم والأصل في هذا الضرب من الكهانة أنهم كانوا يعتقدون أن كل ما يحدث في هذا العالم من الحوادث إنما سببه النجوم من حيث سيرها ومنازلها وأنوائها واقترانها إلى غير ذلك من أحوالها ومظاهرها. فنسبوا إليها البرد والحر والصحو والمطر والخير والشر والصحة والمرض والحرب والسعد والسلم والنحس , وهو الاعتقاد الذي جعلهم يعبدونها في القِدَم. فلما وُجد عندهم ذلك الاعتقاد أخذوا يلاحظون النجوم

ويراقبونها ويلاحظون سيرها ومواقيتها حتى إذا حدث في الأرض حادث ما في زمن ما , ثم عاد الفلك إلى هيأتهِ التي كان عليها حين وقع ذلك الحادث , أنبأوا بعوده أيضاً بناءَ على أن الأسباب الواحدة , في حالة واحدة , تُنتج دائماً نتائج واحدة. فهذا هو الأصل في علم النجوم. ثم اتخذه بعضهم طريقةً لكسب المال فجعلوه ضرباً من ضروب الكهانة , وصاروا يخبرون بما يخبر بهِ الكَّهان من أحوال الغيب المختصة بإفراد الناس , كتفسير الأحلام , وأدواء الأمراض , ونجاح المسعى , وما أشبه ذلك. واعتقدت عامة الشعب إن كل شيء سرُّه في النجوم , وأن الإنسان قد يعلم الغيب بالوحي الفلكي. فمن ثم قالوا في كلامهم: نظر فلان في النجوم , بمعنى أنه فكَّر في أمر ينظر كيف يدبّره. فصار ذلك في اللغة كما تقول: بفلان جُنَّة , بمعنى أنه مختلّ العقل. وهذا من شواهد تأثير اعتقاد الشعوب في لغاتهم وهو كثير في اللغة العربية تلك هي أشهر ضروب الكهانة في الجاهلية. فإذا كان عندهم ضروب أخرى فلا عبرة بها لعدم شهرتها بينهم , فضلاً عن أنها لابد أن تكون مأخوذة من الضروب الأصلية التي أتينا على ذكرها كما أُخذ الطرقُ بالقطن والصوف من الطرق بالحصى ولم يكن للكّهان صفة دينية أصلاً , بخلاف الكهنة عند اليهود. ولعل السبب في ذلك كون وحيهم من الشيطان , ووحي كهنة اليهود من الله. وكان أهل الرتبة العليا منهم ينقطعون إلى الكهانة فا يشتغلون بعمل آخر , ولا يشتركون مع القبيلة اشتراكاً مادياً في شؤونها العمومية بل كانوا يعيشون عادة محتجبين عن إبصار العامة , إلا يخالطهم أهلهم وذووهم , ولا يقابلهم من الناس إلا مَن قصدهم ليستطلع

منهم الغيب. وكان معاشهم من الهدايا التي يقدمها لهم أولو الحاجات. وكان العرب يحترمونهم لعلهم وسعة اطلاعهم , وربما احترموهم بسبب علاقتهم ذاتها بالجنّ والشياطين. وبناء على ذلك الاحترام كانوا يسمون كل صاحب علم دقيق كاهناً كالطبيب والقُناقِن وهو البصير بالماء تحت الأرض وكذلك كل حكيم بصير بالأمور. وقد جاء في الحديث أن شريحاً كان زاجراً شاعراً. وفي حديث ابن سيرين: أن شريحاً كان عائفاً. أراد أنه كان صادق الحَدْس والظن , لا أنه كان يفعل فعل الجاهلية في العيافة. ومن المحتمل أيضاً أن تكون تسميتهم للطبيب والقناقن كاهناً من قبيل الحقيقة في لغتهم لا المجاز , لأن الجهل كان مخيماً على عقول عامتهم ولا فرق عند الجاهل بين ينذر بموت رجل , حيث لا ترى العامة شيئاً من الخطر , أو ينذر بخوف قبل حصوله , وبين من يخبر بمكان الضالة , أو تفسير الأحلام , فكلا الأمرين عند الجاهل من قبيل الغيب. وبناء على ذلك لا يبعد أن يكون قد دخل عندهم في عداد الكهان كثيرون من الأشخاص الذين كان لهم إلمام حقيقي بالطب والفلك أو غير ذلك من العلوم ولم تزل الكهانة في الجاهلية إلى أن جاء الإسلام فأبطلها. وقد أوردنا كلام الأزهري في هذا الخصوص. وجاء في الحديث أنهُ نهى عن حلوان الكاهن , وعن الطيرة. وفي الحديث أيضاً من أتى كاهناً أو عرافاً فقد كفر بما أنزل على محمد. قالوا أي من صدَّقهم وجاء في صحيح البخاري أنهُ كان لأبي بكر غلام يخرج له الخراج وكان أبو بكر يأكل من خراجه. فجاء يوماًَ بشيء فأكل منهُ أبو بكر فقال له الغلام: تدري ما هذا؟ فقال أبو بكر وما هو؟ قال كنت تكهنت لإنسان في الجاهلية وما أحسن الكهانة , إلاَّ أني خدعته فلقيني فأعطاني بذلك فهذا الذي أكلت منه. فأدخل أبو بكر يده فقاء كلَّ شيء في بطنه على إننا بالرغم عما جاء به الدين , لا نزال نرى حتى الآن سوق الكهانة رائجة في كل بلاد نطق أهلها بالضاد , كأنَّ الجهل يأبى إلاّ أن يكون محفوفاً أبداً بأنواع

الخرافات , أو كأن خرافات الجاهلية ملازمة للغتهم , لا تنفصل عنها , فورثناها معها. وكأني بنا قد خجلنا من وقوفنا عند الحد الذي وصلت إليه أجدادنا , فبعد أن كانت الكهانة على نحو ما ذكرناه في هذا الباب , جعلناها نحن علماً بل علوماً بأصولٍ ذات قواعد وروابط وشروط. وألَّفنا فيها الكتب العديدة , وأضعنا فيها الوقت الثمين , وزدنا عليها ضروباً وأنواعاً لم تكن معروفة في الجاهلية أصلاً فأفسدنا عقول الشعب بالأوهام والأكاذيب. وقد كان عدد الكهان في الجاهلية قليلاً بحيث لا يصيب العشر القبائل كاهن واحد , وأما الآن فلا شارع من شوارع مدننا إلاّ وفيه الرمَّال والحاسب والحازني , وباصر البخت , وضارب المندل , وكلُّ دّجال خدَّاع , يسلبون فقراء الناس أموالهم عاجلاً , ويعدونهم بالسعادة آجلاً. نعم إن الكهانة ممنوعة بأمر الحكومة في بلادنا , ومعاقب عليها في قوانيننا , ولكن أخلاق الشعب ورجال الضبط والربط بالجملة لم تزل على حالتها الأصلية؛ وربما تعجبوا من وجود مثل ذلك النصّ في قوانين الحكومة وأنكروا عليها معارضتها لأناس يعلمون الغيب ويخدمون الناس بإطلاعهم على أسرار المستقبل. ولذلك تراهم يغضون الطرف عنهم فلا يتعرضون لمنعهم. وقد رأيتُ مرَّةً أحد رجال البوليس انحراف عن قارعة الطريق قاصداً أحد الرَّمالين , فظننتُ أنهُ ذاهب لمنعه من نشر بضاعته في الشارع العمومي وإثبات مخالفته للقانون , ولم أكن أظنّ في أمثاله ذلك الترقي الأدبيّ. فأخذني العجب وأتبعتهُ بنظري؛ فإذا هو وقد جلسَ بين يدي الرمَّال , وأخذ يستطلع منهُ الغيب , ويسمع شقشقتهُ بغاية ما يكون من الجد والاحترام اسكندر عمون

رسائل غرام

رسائل غرام بين شهيرات ورجال عظام الرسالة التاسعة من جوزيفين إلى نابوليون بونابرت (لا نخال أحداً من القراء يجهل اسمَي جوزيفين وبونابرت وما وقع بينهما من النفور الذي أفضى إلى الطلاق. وكان ذلك في أواخر سنة 1809. إلاَّ أن جوزيفين ظلت تراسل نابوليون حتى أيامها الأخيرة. ولو سمحت لها الدول المتحالفة لرافقتهُ إلى منفاه. وكان موتها في سنة 1814 أي بعيد سقوط نابوليون. وقد وصفها جميع المؤرخين بالصفات الطبية وأجمعوا على أن نابوليون كان مديناً لها بأمور كثيرة لا يسعنا الإسهاب فيها الآن. قيل أنها كانت تتشاءَم من ارتقائهِ إلى العرش وتخشى أن يحمله ذلك على طلاقها الاقتران بأميرة من أميرات الأسر المالكة. وقد تم ذلك أما الرسالة الآتية فقد بعثت بها إليهِ على أثر ولادة وليّ عهده من ماري لويز): صحوت اليوم وقرْع النواقيس يملأ الجوّ وهزيم المدافع يرنّ في الفضاء. فسألت عن السبب فقيل لي أن جلالة الإمبراطورة قد وضعت مولوداً سيرث عرش فرنسا ويضيف صفحة مجدٍ جديدة إلى تاريخ آبائهِ. وقد كنت أودّ لو بلغتني هذه البشارة منك قبل أن أسمعها من أفواه الناس فكنت أفرح لفرحك وتقرّ عيناي بأن ترى لك من يخلّد لك ذكرك ويورثه للأجيال المقبلة , فإن ساءك أنني تمنيت سماع هذه البشارة من فمك فإن ما كان بيننا من العهد السابق شجَّعني على تعليل نفسي بهذه

الأمنيَّة. لعل ذكرى أيامنا الماضية تشفع بي لديكَ وتبدد عن محياك غمامة الكدر والاستياء لست أقصد يا صاحب الجلالة أن أراضيك بهذه الرسالة أو أكفّر عن سيأتي الماضية إليك. فإن تلك السيآت أعظم من أن يشفع بها ما أعانيه من مضض هذا الفراق واحتمله من أراجيف الوشاة. لاسيما وأنني لا أعرف لنفسي حسنة سوى أنني أحببتك حباً يقرب من العبادة فكان جزاء حبي لك أنك فصمت عرى مواثيقنا المقدسة بحجة أنني لم ألدْ لك من يرث عرشك من بعدك. وبلغتْ منك القسوة أن اتهمتني بأمور ما أنزل الله بها من سلطان ولست بلائمتك على تصرّفك هذا يا صاحب الصولجان. ولكن راعني ما رأيت نفسي فيه من اليأس. فرأيت أن أبسط إليك كتابي هذا واهني شعبك يولي عهدك ووارث عرشك. مع أنني أحسبك في غنى عمن يخلد لك ذكرك لأن الذكر الذي قد خلفته ستتوارثه الأجيال المقبلة خلفاً عن سلف. ولسوف يأتي يوم يرى فيهِ العالم أن الآلهة أساءَت إليَّ أكثر مما أسأتُ أنا إليك إذ لم تقدّر لي أن أهبك من يخلد لك ذكرك من بعدك. لذلك حاولت أن تنتزع حبي من قلبك. فلجأت إلى غيري لتبلغ بها ما كانت نفسك تطمح إليه. فهنيئاً لها من إمبراطورة سعيدة وهنيئاً لفرنسا بوارثها المقبل ولقد رضيت بنصيبي هذا بعد أن احتملت منهُ في أول الأمر ما تنوء من ثقله راسيات الجبال. وكنت أقول يومئذ أن الزمان هو الطبيب

الأكبر فلن يمرّ العام حتى أنسى ما بيننا من وعودٍ وعهود. وهو ذا الآن قد مرّ ذلك العام وأنا لا أزال أعاني ما كنت أعانيه يومئذٍ من غصص وحسرات والذي يحزنني أكثر من كل شيء هو أنني محرومة رؤيتك إذ تمرّ بي أيام طويلة مملّة ولا أرى لك حتى شبه خيال إلاَّ في الحلم. ولو تعلم شدة هذا العقاب لكان لي من دموعي شافع لديك. ولكنك قد أغمضت عينيك فلست ترى ما أعانيه من غصص مبرّحة. وإذا كان في العالم قوة تمنعني عن إخماد أنفاسي بيدي فذلك لأنني واقفة على عتبة الأبدية وقد غطستْ فيها ركبتاي. فلماذا أضيف إلى آثامي العديدة إنما آخر بوضع حدٍ لأنفاسي بيدي؟ وفضلاً عن ذلك فإن موتي يورثك من تأنيب الضمير مالا أطيق أن أراك معذباً به. ولأشهى على قلبي أن أراك سعيداً ولو على بعد منك , من أن تعيش معذباً وأنا قريبة إليك كان ينبغي أن أفرح لفرحك اليوم. ولكنَّ ذكرى عهودنا السالفة لم تُبقِ في قلبي مجالاً للسرور إذ كيفما ألتفتُّ أرى ما يروعني من الفرق بين الأمس واليوم. ويزيد روعي كلما تأملت في ما عسى أن يجيء به الغد وقد يتمثل لي شبح الغد بصورة تنين هائل. فيزيد بي انقباضي ولا أرى من خلال ظلمته الحالكة إلا شعاع أملٍ ضعيف هو أن أنام اليوم ولا استيقظ في الغد. ترى هل يحزنك غداً موت امرأة كنت تعبدها بالأمس؟ أم يصدق فيك المثل القائل أن البعيد عن العين بعيد أيضاً عن القلب

لا يسوءُك عتابي هذا فإن اليأس الذي أنا فيهِ هو الدافع لي على النطق بكلامٍ ربما لا ترضاه. وأنني ليدهشني فرط الشجاعة التي بدت مني في خلال العام الغابر إذ لم أكن أصدّق قبلاً أن امرأةً مثلي تستطيع أن تحتمل ما احتملته من عذاب وشقاء. والذي شجعني على احتماله هو أملي أن يكون لي من ورائه كفَّارة عن هفواتي تشفع بي لديك وتنسيك كل شيء ما عدا حسنتي الوحيدة وهي أنني أحببتك حبًّا مخلصاً على رغم ما كان يبلغك عني من الأراجيف. وليست غايتي الآن أن أدافع عن نفسي بين يديك , فإِن ما كان بيننا قد انطوت صفحته , وقضاءَك لا مرد له. وإنما أردت أن أنبهك إلى أمرٍ قد يسهو عنهُ الملوك والعظماء. وهو أن واضع الشرائع يجب أن يكون نموذجاً للعدل. وأما أنت فقد وضعت نفسك موضع الخصم والحكم , وسددت أذنيك عن سماع صوت الرحمة والرأفة لما كنت أسمع بانتصاراتك الباهرة كنت أفرح وأشعر كأنني حاملة راية النصر. لا أزال حتى الآن أتوق إلى سماع أخبار انتصاراتك وأتمنى أن تزيد منها كل يوم صفحةً جديدة إلى تاريخك المجيد وفي الختام أقبل تهنئاتي لك بوارث عرشك وأطال الله بقاءَك حتى ترى أولاد أولاده. . . بقلم سليم عبد الأحد) جوزفين

نابوليون الأول وحرب روسيا

نابوليون الأول وحرب روسيا إن كل ما كان يحفُّ بنابوليون أوحى إليه المنهاج الذي جرى عليهِ في تمثيل دوره , وجعله يلقي على عاتقهِ عبء مسئولية الحوادث الحاضرة والمستقبلة بدلاً من أن يتهيأ لتمثيل الدور المقضي عليه تمثيله أنهُ لم يكن يأتي عملاً من الأعمال أو يقترف جريمة من الجرائم أو يباشر سرًّا من الأسرار البسيطة , إلاَّ ويبادر الناس إلى التنويه ببسالته إن الألمان لم يجدوا شيئاً بروقهُ أفضل من الاحتفال بتذكار معركتي إيانا وإرساد ولم يكن هو وحده عظيماً , بل كان أجداده وأخوته وأولاد أخوتهِ وأصهاره جميعهم عظماء. وكان كلُّ شيء يأول بسهولة إلى أن يزيل منهُ آخر أثرٍ من آثار العقل ويعدُّه لتمثيل دوره الهائل. ولما تمَّ له الأمر كانت جميع القوى مستعدَّة لمناصرتهِ وباشر غزو المشرق فانتهى إلى الغاية الأخيرة وهي موسكو , فاستولى على تلك العاصمة وساق إلى الجيوش الروسية متآلف لم يكُ قد ساق مثلها إلى الجيوش المعادية له من عهد موقعة أوسترليتز إلى اليوم الذي جرت فيهِ موقعة واغرام وعوضاً عن الصدفة والدهاءِ اللذين جعلاه يتنقل من انتصار إلى انتصار جارياً إلى الغاية المنصوبة لهُ , نلقي فجأة مجموع صدفٍ معاكسة له من الزكام الذي أصابهُ في بورودينو إلى الشرارة التي أضرمت النار في موسكو والبرد القارس في روسيا. وبدلاً من الدهاء نجد فيهِ ضعفاً وصغارة لم يذكر التاريخ شيئاً يماثلهما وكانت الغزوة تتقدم تتقدَّم ولكن بشكلٍ معاكس , وصارت جميع الصدف معادية له بعد أن كانت من أحلافهِ. وحينئذٍ شهدنا حركة مخالفةً موجهةً من الشرق إلى الغرب تشابه كل المشابهة الحركة التي سبقتها

وقد أُعلنت حركة جديدة بمساعي عديدة جرت في السنوات 1805و1707و1809 , فتألفت عصابة كالعصابة الماضية وجعلت تكبر حتى صارت جماهير غفيرة وتألبت شعوب أوروبا الوسطى عند تلك الحركة التي كانت معتبرة تكراراً للحركة السابقة , لأنهُ لم يكن ينقصها شيء لتماثلها مماثلة تامة من مثل التردُّد في أثناء الطريق وازدياد السرعة عند الاقتراب من الغاية. وأُدركت باريس , وهي الغاية الأخيرة لتلك الحركة , وكان من وراء ذلك انكسار نابوليون وجيوشه وأن نابليون ذاتهُ لم يُعدّ شيئاً مذكوراً وصارت أعماله الأخيرة تستثير الشفقة عليهِ والنفور منهُ. ومع ذلك بدت صدفة جديدة تعجز الإفهام عن إدراكها , فإن المتحالفين كانوا يبغضون نابليون ويعتبرونهُ سبباً لجميع نكباتهم وكان يُقضي عليهم في ذلك الحين , عند زوال مهابتهِ وتقلص ظلّ قوَّتهِ واتهام الناس له باقتراف الجرائم والغدر , إن ينظروا إليهِ بنفس المقلة التي كانوا ينظرون إليهِ بها قبل ذلك العهد بعشر سنوات وبعده بسنة واحدة , أي أن يروا فيهِ لصاً نبذتهُ الشريعة إلاَّ أن صدفة غريبة لم تجعل الناس يعتبرونهُ ذلك الاعتبار. ولكنهُ لم يكن بعد قد أكمل تمثيل دوره. فإن ذلك الرجل الذي كانوا يعتبرونهُ لصاً نبذتهُ الشريعة أُرسل إلى جزيرة تبعد يومين عن فرنسا وأعطيْ تلك الشعوب تسكن , وهدأت الأمواج الزائرة وعقبها في ذلك البحر الساكن تموجات لطيفة ركب متنها سياسيون كانوا يتوهمون كانوا يتوهمون أن الفضل من ذلك السكون مرجعهُ إليهم وعاد البحر إلى الهيجان , فاعتقد أولئك السياسيون أن الخلاف الذي نشأ بينهم كان أصلاً لذلك الهيجان , وباتوا يتوقعون انتشاب حرب بين وإليهم وبانت لهم تلك الأحوال مأزقاً لا مخرج التي كانوا ينتظرونها , بل كانت هي نفس الأمواج الأنفة الذكر آتيةً من باريس

وإن ذلك الرجل الذي ألقى فرنسا في وهدة الخراب عاد إليها وحده دون أن تصحبهُ الجنود , ودون أن يكون لديهِ خطة معروفة يسير عليها؛ وكانت حياتهُ تحت رحمة كل خفير يلقاه في طريقهِ. ولكنهُ بصدفةٍ غريبة لم يُمس بأدنى أذى. وهرع القوم لملاقاته باحتفاءِ خلافاً لما كان منتظراً منهم؛ وطبقت أصواتهم الفضاءَ بالتهليل لذلك الذي كانوا بالأمس يقذفونهُ باللعنات , والذي سيعودون بعد شهر من الزمان إلى لعنهِ. ولم يجرِ ذلك إلاَّ لأنهم كانوا لا يزالون محتاجين إلى ذلك الرجل لإتمام الفصل الأخير. انتهى الفصل وتمَّ الدور الأخير , وأُمر الممثل أن يخلع لباسهُ وينزع عنهُ خضابهُ لاستغنائهم عنهُ وهو نفسهُ أظهر للملا طرَّا بكل وضوح حقيقة ذلك الشيء الحقير الذي كان البشر يعتبرونهُ قوَّة حين كانت يد الحوادث غير المنظورة تقوده وإن مدّبر الكائنات الحقيقي عند انتهائهِ من تلك الرواية أمر أهم الممثلين فيها أن ينزع عنهُ ما كان متنكراً بهِ وأرانا إياه , قائلاً: انظروا ذلك الذي آمنتم بهِ. واعلموا الآن أني أنا الذي جعلنكم تسيرون على الطريق التي سلكتموها وليس هو! إلاَّ أن البشر الذين تعمي بصائرهم قوَّة الانجذاب لبثوا مدَّة طويلة وهم لا يدركون الحقيقة وأنا نجد أموراً كثيرة مقدَّرة في حياة الاسكندر الأول وهو ذلك الشخص الذي ترأس الحركة المعاكسة , أي تلك التي جرت من الشرق إلى الغرب. فما هي الصفات التي كان مزداناً بها ذلك الرجل لتمكنهِ من تصيير ما سواه نسياً منسياً وترؤس تلك الحركة؟ أنهُ كان ولا مراءَ قد ازدانَ بعاطفة العدالة وعُني عناية حقيقية بشؤون أوروبا ولم يتعلق بأذيال أمور لا طائل تحتها. وكان متحلياً بصفات أدبية تفوق صفات الملوك المعاصرين له وذا أخلاق لطيفة تستميل إليهِ القلوب وقد شعر باهانة شخصية قالتهُ من نابليون

أن جميع هذه الأشياء المميزة كانت متجمعة عند الاسكندر الأول , وقد حشدتها الصدف الكثيرة أو الصدف المزعومة التي حدثت في حياتهِ الماضية , وساعدها كل شيء كتر بيتهِ وإصلاحاته المبنية على أساس الحرية؛ والمستشارين الذين كانوا يؤازرونهُ بصرف النظر عن أوسترليتز وتلسيت وأرفورت وكان هذا الرجل في أثناء الحرب الوطنية لائذاً بعقوة الخمول , لأنه كان مستغنى عنهُ. ولكنهُ لما أصبحت الحرب الأوروباوية مما لا يستغنى عنها , برز في المواقف الخطيرة إلى الموقف المعدَّ له , ليضمَّ متفرَّق الشعوب الأوروباوية ويسر بها إلى الغاية المعروفة أدرِكت تلك الغاية. وبعد الحرب الأخيرة التي اتقدت نيرانها سنة 1815 كان لدى الاسكندر أعظم قوة يستطيع الإنسان أن يصيبها وماذا فعل بتلك القوة الهائلة؟ إن الاسكندر الأول معيد السلم إلى أوروبا , الذي هبت في صدره منذ حداثتهِ نسمات الموسومة بسمة الحرية إلى بلادهِ , ذلك العاهل الذي كان قابضاً بيديهِ على عنان سلطة مطلقة كان يقدر بالحقيقة أن يعمل لخير رعيته ونجاحها. وماذا يبدو لنا الآن؟ بينما كان نابوليون في منفاه يرسم خططاً كاذبة ووهمية ليظهر السبيل الذي يمكنه أن ينتجهُ لسعادة الإنسانية لو كانت له السلطة على ذلك , كان الاسكندر الذي كانت له تلك السلطة هي من جملة الأباطيل؛ ولذلك أعرَض عنها وتركوا في أيدي أشخاص محتقرين , ولم يكن يني عن ترديد هذه الكلمات: ليس لنا المجد ولكن لك وحدَك أنا إنسان نظيركم , فاتركوني أعيش عيشة رجل بسيط لأتمكن من التفكير بنفسي وبالله كما أن الشمس أو كل ذرة من ذرات الأثير تنشئ كرة مستقلة بذاتها , مع

أنها لا تؤلف إلاَّ ذرة من ذلك الكائن العظيم الذي يعجز الإنسان عن الوصول إليهِ , فإن لكل إنسان غاية خاصة وفي الوقت عينه يخدم الغاية المشتركة التي يقصر العقل البشري عن الوصول إليها إن النحلة التي تطير عن الزهرة تقع على ولد وتلسعهُ , فيصير الولد يخاف النحل ويتوهم إن غاية النحل في هذا العالم لسع الناس إن الشاعر يعجب بالنحلة التي تمتصُّ من كأس الزهرة , ويصير يتوهم إن غاية النحل امتصاص شذا الأزهار إن المشتغل بتربية النحل يلاحظ النحلة وهي تجمع اللقاح وعصير النباتات لتغذية اليعسوب وصغار النحل ويصير يتوهم أن غاية النحل بقاء الجنس إن النباتي يلاحظ أن النحلة تنقل اللقاح من أحد النباتات إلى عضو التأنيث في زهرة أخرى لتلقيحها , فيصير يتوهم أن غاية النحل التلقيح إن نباتياً آخر يلاحظ أن النحلة تساعد على نقل النباتات من مكان إلى مكان آخر , فيصير يتوهم أن غاية النحلة نقل تلك النباتات ولكن الغاية الأخيرة للنحلة ليست في الغايات الأولى والثانية والثالثة التي مرَّ بيانها , والتي يستطيع عقل الإنسان أن يكتشفها وكلما أكثر المرءُ من البحث عن حقيقة تلك الغاية الأخيرة تجلى له أن عقله يرتدُّ كليلاً عن الوصول إليها ولا يمكنهُ إلاَّ أن يلاحظ العلاقة المشتركة بين حياة النحلة والحوادث الطبيعية الأخرى. فهو يبقى محصوراً في نفس الدائرة الضيقة للبحث عن غايات الحوادث والأشخاص الذين يذكرهم التاريخ فيظلُّ عاجزاً عن البلوغ إلى الغاية الأخيرة عن تولستوي إلياس الحويّك

في رياض الشعر

في رياض الشعر ما برحنا انجازاً لوعودنا السابقة باذلين الجهد في زيادة عدد الكتاب والشعراء الذين يحلّون الزهور بنفثات أقلامهم حتى أصبح قرَّاؤنا يفاخرون بمن يكتب لهم مجلتهم الشهرية. وإلى جمهور كتَّاب الزهور المعروفين نضيف اليوم أدبياً كبيراً رفعهُ شعره على قلتهِ إلى منزلة سامية بين حملة الأقلام ونعني بهِ حضرة المحامي المشهور داود بك عمون فقد ظفرنا منهُ بأوراقٍ مطوّية سنوالي نشرها: يوم فلادمير أو دعوى الحق الإلهي لا تلوموا تلك السيوفَ الدوامي ... جَلَتِ الشكَّ عن عقول الآنامِ علَّمتهم أن لا حياة لشعب ... رازحٍ تحت مطلقِ الأحكامِ أيُّ نصفٍ ترجون من حاكم يحس ... بُ هذي الرقابَ كالأنعامِ ورث الملكَ بالرجال وبالما ... ل كأن الرجال بعضُ الحطام فإذا اهتمَّ منةً بالرعايا ... فاهتمام الجزَّار بالأغنامِ قيصرُ الرّوس قام بين البرايا ... ناشراً دعوةَ الهدى والسلامِ ذاكراً أننا بنو رجلٍ فر ... دٍ خلقنا للحبِّ لا للخصامِ موعزاً بانعقاد مؤتمر التحكيم ... يقضي في المعضلات الجسامِ ضحكَ الضاحكون منها وعدَّوه ... اأمانيَّ نيلها بالمنامِ رُبَّ أمرٍ صعب المنال بعيدٍ ... صيَّرتهُ العقول سهل المرامِ

هبهُ حلماً فالسعي فيهِ جميل ... وجمالُ الحياة بالأحلامِ هذه الأرض ترتجيكَ فحققْ ... ظنَّها فيكَ يا سليل الكرامِ لكَ في منحها السلامَ أيادٍ ... خالداتٌ غرٌّ مدى الأيامِ ولبثنا عيوننا شاخصاتٌ ... ناظرين انجلاء ذاك الغمامِ فإذا بالسلام حربٌ عوان ... كلَّ يومٍ نيرانها في اضطرامِ قيصرَ الروسِ لا تضيّق على الصف ... ر مداهم فالصفر أهل انتقامِ لكَ مُلكٌ رحب الفضاء فسيحٌ ... فتعهد أجزاَءه بالنظامِ أفمنها أوجستَ من شعبك الموتو ... رِ خوفاً دفعتهُ للصدامِ؟ لا رعاكِ الإله يا أرض منشو ... را ولا لمَّلمت ثراكِ الهوامي ما لعقبانكِ اتخمنَ وغدرا ... نكِ أصبحنَ بالدماء طوامي كم خميسٍ وافاكِ يمرحُ زهواً ... ثمَّ لم يبقَ منهُ غير العظامِ شهر الحرب شاهروها وباتوا ... في أمانٍ والقتل في الأقوامِ سئمَ الروسُ فتكها بئست العي ... شة من ذلةٍ لموتٍ زؤامِ قال مقدامهم هلمّوا إلى الوا ... لد نشكو مظالم الحكامِ ومشوا للمليكِ عُزلاً ومد ... لين إليهِ بحرمةٍ وذمامِ فتلقتهمُ جنود أبيهم ... برشاش الردى وحدِّ الحسام ملأت منهم الشوارع اشلا ... ءُ كراديس فهي كالآكامِ

قيصرَ الروس إن شعبك أولا ... دكَ فاربأ واشفق على الأرحامِ قيصرَ الروس خفْ دعاء الثكالي ... وبكاء الأطفال والأيتامِ أفهذا الحق الإلهيُّ أن يقت ... ل شعبٌ أتاكَ لاسترحامِ زالَ ما كنتَ تدعيهِ من الح ... قّ بما سال من دماءِ حرامِ داود عمون سجن الهوى أصلُ سُقمي من العيون السقيمةْ ... وانحنائي من القدودِ القويمةْ تلك غرَّت بالانكسار فؤادي ... ورمتهُ فما استطاعَ الهزيمةْ وهوى لِينِ هذه قد عزَّة دعاني ... لدواعي الغرامِ لَيْنَ الشكيمة صرتُ من بعد عزَّة وإباء ... أجدُ الذلَّ في الهوى خيرَ شيمةْ ما غزَت أعينُ الحسان قلوباً ... قطُّ إلاَّ ومهجتي في الغنيمةْ لا ولا شمتُ من ثغورِ الغواني ... لمعَ برقٍ إلاَّ ودمعيَ ديمهْ علَّمتني نظمَ الفرائد لكن ... تيَّمتني منها اللآلي اليتيمةْ أنا أبكي ومهجتي في سعير ... وهي في عذبها البراد بسيمةْ وبروحي رشاً رخيم المعاني ... حبُّهُ حلَّ من فؤادي صميمةْ أهَيفَ القدّ باهرَ الحسنِ يزهو ... بجبين أضحى الهلالِ خديمهْ إن تبدَّي أو ماس تيهاً وعجباً ... لم يدعْ للهلالِ والغصن قيمهْ وعلى خدّه من المسكِ خالٌ ... أشتهي لثمهُ وأهوى شميمهْ غير أني أخاف نبل جفونٍ ... منهُ تولي الضنا وتوهي العزيمةْ سامحَ الله حبّهُ كم دهاني ... دونَ صحبي بالمعتقداتِ المقيمةْ كبَّل القلب بالقيود وألقا ... هُ بسجن الهوى لغير جريمةْ

ليتهُ إذ دعا الفؤادَ أسيراً ... لم يكن صيَّر الغرام غريمةْ تبذلُ العينُ دمعها في هواه ... ولهذا قد سُمّيَتْ بالكريمةْ عبد الحميد الرافعي هل الهموم قلوب ألقى الجمال عليكَ آيةَ سحرهِ ... فغدوتَ ما شاء الجمالُ حبيبا حتى الهموم سَمتْ إليك بودّها ... من كان يحسبُ للهموم قلوبا خليل مطران إلى بحمدون عبرات البين من دونكِ البينُ يا ليلى ومن دوني ... وبعض ما كان قبل البين يكفيني خطأ إليَّ خُطى الآجال ساريةً ... في القلب والقلبُ لا يدري إلى حينِ خطى كنسف الجبال الراسيات على ... نفسي وكالدمع دمع الحزن في اللين تمشي على الأمل الزاهي فتحطمهُ ... وقد يرفُّ رفيفاً كالرياحينِ وتغمر الحبَّ ظلاًّ بعدما صبغتْ ... مني الشباب حواشيهِ بتلوينِ يا بينُ ما ضربات الدهر غير خطىً ... تمشي بها في المحبّين المساكينِ شيئان مالهما في الناس تعزيةٌ ... ولا تعزّيهما يوماً بمظنونِ قلب بأضلاع مشتاقٍ تجاذبهُ ... يدُ الفراق وعقل عند مجنونِ يا بينُ ويحك ما أبصرت قطّ سوى ... شخصَي حبيبينِ من هذي الملايينِ

رفقاً بلؤلؤةٍ في جانبَي صَدفٍ ... ضُمَّا عليها كضمّ القلبِ للدّينِ فلو ترى الهائم المسكين مرتعداً ... من النوى كذبيحٍ تحت سكّينِ روح ضئيل وشخص جامد وهوى ... بَرْحٌ وهمُّ سليبِ العقل مفتونِ ملقىً لدى الناس لو أبصرت حالتهُ ... في الناسِ أبصرتَ ميتاً غير مدفونِ ليتَ الفراق نجابي من عواذلها ... ولو إلى مطرحٍ في القبر يطويني كأسٌ ظمئت لها حتى إذا عرضت ... شرقتُ منها بما قد كان يُرديني مصطفى صادق الرافعي الفتاة العمياء سادتي إنَّ في الوجود نفوساً ... ظلمتها الأقدار ظلماً شديدا هيَ تشقى من غير ذنب جنتهُ ... ولكم مذنبٍ يعيش سعيدا رحم الله أعيناً لم تشاهدْ ... منذُ كانت إلاَّ لياليَ سودا تتمنى لو فُتّحت فتملَّتْ ... من جمالِ الوجود هذا الشهودا تتناجى حمائم الروض صبحاً ... لا نراها ونسمعُ التغريدا ويكون الربيع منا قريباً ... فنظنُّ الربيع منا بعيدا حين ترنو إلى الوُرود عيونٌ ... ليت شعري كم تستطيب الورودا أبويَّ اللذين أوجدتماني ... أتريدانِ شقوتي؟ لن تريدا عشتما في ظلالِ شملٍ جميعٍ ... أنا وحدي وجدتُ شملي بديدا وإذا كنتُ قد ولدتُ فقيداً ... ليتني كنتُ قد فقدتُ وليدا

سادتي إننا صبرنا امتثالاً ... ما ضجرنا ولا شكونا الجدودا فانظروا نظرةَ الكرام إلينا ... وارحموا أدمعاً تخذُّ الخدودا ولي الدين يكن أوهى قرنه الوَعٍلُ هذي طراباُسٌ صحراؤها جدَتٌ ... للطامعينَ ومسرى ريحها عِللُ يذودُ عن حوضها أسٌ مقذفةٌ ... لا ينزلُ النصرُ إلاَّ حيثما نَزلوا أشاوسٌ من بني الإعراب ما لثموا ... إلاَّ ثغورَ مواضيهم ولا نَهلوا ما قامَ يطمعُ في أملاكهم شرهٌ ... إلاَّ تحكَّم من أعضادِه الشللُ وضاقت الأرض عنه وهي واسعةٌ ... وأظلمتْ بمرامي عينهِ السبُلُ كناطحٍ صخرةَ يوماً ليوهنها ... فلم يَضرْها وأوهى قرنهُ الوعلُ شبلى ملاَّط روعة نبأ روى البرق منعاهُ فأصعق بالنبا ... يدكُّ من الصبر الجميل ويخربُ بليلٍ من الأشجان ضلوٍ هلالهُ ... وعقد الثريَّا دمعُهُ المتصبّبُ كأنَّ السماك الرامح اعتقل القنا ... لثار أخٍ والنسر في الجوّ موكب كأن بني نعشٍ على نعش من ثوى نوائح ترثي المكرمات وتندب كأن بشير الصبح اجفل رهبةً ... من الأرض يدنو تارةً وينكّبُ كأن عبوس الأفق يلطم خدَّهُ ... فلاح عليهِ أحمر اللون أصهبُ كأن الضحى قد شقَّ جلبابهُ أسى ... فلم يدرِ أنَّي بعدهُ يتجلببُ نسيب ارسلان

رواية عطيل

رواية عطيل ترجم حضرة الكاتب الشاعر الشهير خليل أفندي مطران رواية عطيل لشكسبير؛ ومثَّلها في تياترو الأوّبرا الخديوية جوق جورج أفندي أبيض نابغة التمثيل العربي. ثمّ تمنى جمهور الأدباء على المترجم الفاضل أن ينشر هذه الرواية بالطبع , فصدَّرها بمقدمة بليغة درس فيها الشاعر الانكليزي وروايته هذه درساً جميلاً جدًّا فنقلاه عنهُ. والرواية لا تلبث أن تتداولها أيدي القراء. قال خليل: ندبَني لتعريب هذه الرواية جورج أفندي أبيض صاحب الفرقة (الجوق) المعروفة الآن باسمه , فترددتُ زمناً , ثم أتيح لي أن رأيتهُ يمثّل تجربة من أديب فأعجبني إتقانه وإتقان بعض أعوانه واستخرتُ الله في نقل عُطَيل إلى لغتنا الشريفة فلأذكرْ أولاً ما دعاني إلى اختيار اسم عطيل ردًّا على بعض المعترضين كان عُطيل في زعم القصَّاص الذي نقل عنهُ شكسبير أصل هذه الحكاية , بدويًّا مغربيًّا جلا إلى البندقية وخدم في جيشها حتى أصبح قائده الأكبر , وعقيدة في الملمَّات. والمغاربة يومئذ خليط من العرب والبربر المستعربة. فأمَّا أن يكون قد دعي منذ مولده باسم إفرنجي فغير مجتمل , وأمَّا أن يكون قد دعي باسم عربي حرَّفته العجمة , فهو الأصح عقلاً. فإذا أرددنا أو تلّلو إلى لسانهِ الأصلي , فالذي يستخرج من حروفهِ أحد اثنين: عطاء الله أو عُطيل. فأما عطاء الله فلم أتوصل إلى تحقيق أن مغربيًّا واحداً سمّي بهِ ولهذا ضربتُ عنه صفحاً , وأما عُطيل فقد اعتقدت أنهُ الأخلق بالاختيار لسببين: أحدهما أنهُ أشبه بما جرت عادة العرب على تسمية الزنوج بهِ من ألفاظ التحبيب أمثال مسعود ومسرور وزيتون ومرجان للذكور , وخيزران وضياء للجواري. ومعلوم أن عطيلا تصغير تحبّب لصفة عُطْل بمعنى عاطل أي خلوٌ من الحلية فتسمية أحد الزنوج به إنما هي محاكاة صحيحة لإصلاح العرب. وثانيهما لأن عُطيلُ بضم أوله ورفع أخره مع تخفيف التنوين أقرب إلى أوتللّو من اسم سواه

بقي في هذا الصدد أن أقول مروراً للذين تمنّوا لو أبقيت اسم أوتللو كما أورده المؤلف , إنني لم أوافقهم على هذا لأنني كرهت أن أُثبت في العربية اسماً من أسمائهم على الرطانة التي حرَّفتهُ إليها العجمة لغير ما سبب سوى الشهرة التي اكتسبها على تلك الصورة , في حين أنهُ لا يتعذَّر علينا إكسابهُ مثلها وهو مردود إلى أصله التقديري أو التحقيقي من غير أن نسوم مسامعنا جراحة تحريفهِ. ذلك ما أوحى إليَّ اليقين أنهُ خير وأولى بعد هذا التفسير الذي تقاضتني إياه بعض الصحف , ونفر من الأصدقاء , ارجع إلى رواية ولي فيها مبحثان موجزان , من جهة الأصل , ومن جهة التعريب أما من جهة الأصل فأقول أن أضع هذه الرواية إنما هو نابغة الادهار في فنهِ وأعني بهِ شكسبير. وضعها لإظهار الغيرة وتأثيره في الرجل بأقوى وأصدق ما دلَّ عليهِ الاختبار من أمرها , ولذلك اختار عاشقاً أفريقياً بدوي الفطرة - ليكون وثَّاب الشعور عنيفهُ - عسكريَّ المهنة - ليكون سريع التصديق والانخداع - مكتهلاً أي في أوَّل الانحدار من سنّ الأربعين - ليكون أشدّ في التعشق كما هي شيمة أمثاله ممن يسطو عليهم الحب بعد انقضاء الشباب وليكون أيضاً في الحالة التي يتهم فيها الإنسان نفسه بفقدان أكثر الصفات التي يقتضيها الغرام ولا سيما حيثما يكون المستهام أسود البشرة من إحلاس الحروب , والمستهام بها بيضاء منعمة من قوم فسدة الأخلاق مترفين ذلك هو الغرض الأساسي العام الذي رمى إليه شكسبير فأصاب بهِ دقائق الحقائق إصابة كانت في جملة ما حمل أكابر المفكرين وأعاظم المكتبة على الشهادة له بأنهُ أخبر خبير بخفايا القلوب , وأمهر كشاف لخباياها ثم إنهُ أدار حول هذا المحور غرضين ثانيين: أحدهما إثبات أن العفة لا تنتفي من مدينة مهما فسقت بل قد تزداد تمكناً من نفس المرأة المتحصنة بمقدار ما تندر العفة بين جيرتها وفي عشيرتها , والثاني تبيين الاحتيال ونهاية ما يبلغهُ من نفس رجل

ذكي مطاع خسيس أصمّ الضمير , مستبيح كل محرم , مستهين كل منكر في سبيل غايتهِ كيف صرف شكسبير قريحته العجيبة في ألوف الجزئيات التي تؤدّي إلى تصوير الغرض الكلي والغرضين الملحقين به؟ ذلك ما يقف عليهِ القارئ من مجرَّد مطالعته للرواية فإنهُ يشعر قليلاً قليلاً إن الأسماء تمحي وتستبدل بأشخاص مقوَّمين في أصلح تقويم لكل منهم ويدخل متدرّجاً من الوهم في الحقيقة فيرى وهو يسمع ويسمع وهو شاهد مَشاهد مما ألفهُ في الحياة لا يردّه إلى كونهِ قارئاً سوى انتهائهِ إلى دفة الكتاب ومن جهة هذا التصوير الأخَّاذ الذي يصوّر بهِ شكسبير الحقيقة رأى بعض جهابذة النقاد أن ذلك الأستاذ العظيم يبالغ فيهِ مبالغة قد يجاوز معها الحدود التي يرسمها الفن. صدقوا ولكن هل كانت عبقرية هذا الرجل لتحد بحدود , وهل مثل العقل الذي روقهُ كان مما يقيد بقيود؟ الشاعر الذي افتتن فكتور هوجو بغرابة شعره , ووجد عند فراسته وطلاقته وقوَّة تمثيله للمعنويات بالحسيات , مبدأ المذهب الحرّ الذي ذهب إليهِ فيما بعد هو وأضرابه وأصبح سنَّة الكتاب في العالمين الكاتب المنقّب المتعمق في مظاهر الخلائق ومضمراتها مع قدرة على المحاكاة ومهارة في الاختيار وبراعة في التأليف وسلطة على اللفظ يستدني بهِ أبعد المعاني ويقيد أوابد الوجدانات , الذي أعجب بهِ المؤرخ الفيلسوف تاين وناهيك بألوف المعجبين غيره من قبله ومن بعده الأديب الذي تترجم مكتوباته على وفرتها إلى كل لغات الدنيا , وفي بعض اللغات كالفرنسوية تكثر تلك الترجمات وتتنوع ويجيز إحسانها المجمع الأدبي الأكبر كما أجيزت ترجمة مونتيجو وليتورنور وغيرهما فتطلع الأمم المختلفة الألسنة والأجناس والأذواق والملل والنحل على مكتوباتهِ سواء في أصلها أو في غير أصلها , وتقرّها في أعلى منزلة عندها لجمعها المُذهب والمطرب إلى المفكه والمفيد والمبكي والمضحك إلى الزاجر والمؤنس

أهذا الذي يطلب منهُ أن يكون أسير اصطلاح وعبد لفظة ورقيق أوضاع سبق الاتفاق عليها خرج شكسبير عن ذلك الطوق ونعمًّا فعل. ولو أبقاه في عنقهِ لما اشرأبَّ صعداً إلى مناجاة أجرام السماء , ولا أطاق الإِكباب إلى أبعد أغوار الأسرار في الطبائع البشرية من ذلك المنجم العظيم نجمت عطيل وهي إحدى آيات مستخرجاته ولما كنت أعهده فيها من نادر المزايا وجدتُ من كلفي بها معواناً على معاناة تعريبها فأما من جهة التعريب فأقول أن في نفس شكسبير شيئاً عربياً بلا منازعة وهو أبين فيها مما بان في نفس فكتور هوجو. أقرأ لغتنا أم نقلت إليهِ عنها بعض المترجمات الصحيحة؟ لا أعلم. ولكن بينه وبيننا من وجوه متعددة مشاكلة محيرة , فإن عنده مثلما عندنا جرأة على الاستعارة وذهاباً بضروبها في كل مذهب , وله مثل ما لنا كلفٌ بالتنقل الوثبي من غير تمهيد ولا استئذان يدفعك من القصد إلى القصد وشيكاً وعليك أن تتمهل في فكرك وتجد الرابطة , وبهِ مثل ما بنا من الهيام في المبالغة التي لا يقبلها من الكاتبين ولا يعقلها من القارئين إلاَّ الذين في تصوُّرهم حدَّة وجماح كما يكون عادة عند الشرقيين وخصوصاً عند العرب. وعلى الجملة ففي كل ما يكتبهُ شكسبير شيء من روح البداوة قوامه الرجوع الدائم إلى الفطرة الحرة تناولتُ الرواية لأعرّبها وكأنني أنوي ردّها إلى أصلها كما رددتُ اسم عطيل وقبل أن أشرع فيها تفكرت في الأسلوب الذي اختاره لها أهو ذلك الأسلوب المخرّق الذي تشف الفصاحة فيه عن رقع العامية؟ لا وأفأً لا فتا لله لو ملكتُ تلك العامية لقتلها بلا أسف ولم أكن بقتلي إياها إلاَّ منتقماً لمجد فوق كل مجد ,. نزلتْ من هيكله الذهبي الخالص الرنان منزلة الرجلين الخزفيتين القذرتين فهو فوقهما متداعٍ وبهما مشوَّه , منتقماً لأمة كسرت العامية وحدتها وكانت عليها أكبر معوان للتصاريف التي مزَّقتها في الشرق والغرب كل ممزق ,

نوابغ مصر الأحياء

منتقماً للفصاحة نفسها وأية فصاحة في خَشَارة لا تصيب فيها الأصل إلا وقد تلوَّثت بذريرات لا تحصى من أوضار الرطانات بأنواعها بُعداً لهذه الأسلوب إذن! ولنختر غيره. . . أنؤثر الأسلوب الجزل المتين القديم؟ لا ولا! لأن الروايات إنما تكتب ليفهمها القوم ويستفيدوا منها مغزى بجانب التفكهة. أفنعكس عليهم تلك السنَّة الشريفة التي سنها النبي القرشي بقوله (أمرتُ أن أخاطب الناس على قدر عقولهم) بعد هذا وذاك لم يبقَ إلاَّ الأسلوب الوسط وهو الذي تكون بمقتضاه الألفاظ كلها فصيحة لكن سهلة , وتفكك الجمل تفكيكاً يقرّب مراداتها من الإفهام بمحاكاته لفنون المحادثات المستجدة من غير أن يفوتنا الالتفات في ذلك التفكيك إلى أشتات ما صنع أدباء العرب من مثله لمناسبات مخصوصة وإن لم يألفهُ جمهور الكتَّاب الاحتفاليين هذا هو الأسلوب الذي آثرتهُ وأرجو أن أكون قد وفقت فيهِ بعض التوفيق فتجمع معه لهذه الرواية مزيتان: أحداهما أنها تكون عربية فصيحة لولا الإعلام ولولا تشقيق الكلِم على ترتيب المخاطبة بين الفرنجة قديماً وحديثاً , والثانية أنها تمثل أقوال شكسبير حرفاً بحرف ولفظة بلفظة مع مراعاة انطباق كل منها على الاصطلاح الديني لو الاجتماعي الذي لها عند القوم الممثَّلين فيصحُّ أن تكون هذه التجربة مثالاً للتعريب يتحداه طلبة المدارس خليل مطران نوابغ مصر الأحياء لا تزال رسائل القراء ترد علينا بكثرة رداً على اقتراحنا الذي نشرناه في الجزء السابق فرأينا والحالة هذه أن نرجئ نشر النتيجة إلى الجزء الآتي

تربية الطفل

تربية الطفل الغوط - والتبرُّز على المرضع أن تتعهدْ الطفل من وقت إلى آخر وهو في مهده , فإذا كان مستيقظاً فقد يحتاج إلى إضجاعهِ على الجانب الآخر حتى يكون مستريحاً. فإذا لم يفد ذلك واستمزَّ مستيقظاً مع صراخ يجوز أنتكون إحدى اللفافات مبلولة من الغائط أو البول ويحتاج الحال إلى تغيرها , ومن الغريب أن الطفل وهو في مبدأ حياته يكره رطوبة الملابس ولا بدَ من أن تكون الملابس نظيفة جدًّا وجافة قبل استعمالها. ولا يحسن استعمال الصودا في غسيل الملابس لأنها تحدث طفحاً في جلد الطفل لأنه يكون رقيقاً في هذا الوقت. وأما إذا كانت الصودا ضرورية لتنظيف الملابس أثناء الغسيل , فلا بدَّ من إزالة كل آثارها بتكرار غسلها بالماء الخالص. ولا حاجة إلى القول أنه يجب غسلها أو تجفيفها في مكان آخر يبوّل الطفل عادة بعد ساعات قليلة من الولادة ويتبرز في هذا الوقت أيضاً ولون البراز أسود في الأيام الخمسة الأولى وهو اللون الطبيعي. وعلى كل من يعتني بأمر الأطفال أن يلاحظ النقط الآتية: نوب التبرز في الأربع والعشرين ساعة الأولى هي اثنتان أو ثلاث , والمواد تكون بدون رائحة كريهة ولنها أصفر (فاقع) بعد الخمسة الأولى , والمواد

تكون رخوة ولا تتشكل إلاّ بعد زمن طويل. وليس فيها كتل بيضاء (لأن الكتل البيضاء تدل على اللبن غير المهضوم): وأما البراز الأخضر المحتوي على كتل بيضاء فيجب استشارة الطبيب في شأنه , وكذا المواد البرازية ذات اللون الردغ سواء كانت محتوية على دم أم لا , لأن الوقاية من أمراض المعدة والأمعاء أسهل من معالجتها. وأما المواد البرازية الجامدة فتحتاج إلى علاج أيضاً خشية أن يتعوَّد الطفل الإمساك ويجب تغيير الفوطة المبولة بأخرى خشية تهييج الجلد. وعلينا أن نجفف الجلد جيداً ونذرّ عليهِ قليلا من المسحوق قبل وضع الفوطة النظيفة. وتنظف الآليتان جيداً بعد كل تبرُّز مع تجفيفهما وذرّ قليل من المسحوق عليهما. ويستحسن البعض وضع قليل من المرهم على الآليتين بدلاً من المسحوق. ولا بأس من ذلك إذا عمل المرهم من أجزاء متساوية من مرهم زنك وزيت الزيتون. وأما إذا أحمرَّ الآليتين فاستعمال المرهم المذكور واجب لبن الأم يختلف لبن الأمهات كمية وصفة , وعند بعض الأمهات اللبن الكافي بعد مضي 12 ساعة من الولادة. والبعض الآخر لا يوجد عندهنَّ اللبن الكافي إلاَّ بعد ثلاثة أيام. فإذا ظهر اللبن في ثدي الأم في الإثنتي عشرة ساعة الأولى بعد الولادة يحسن إرضاع الطفل في هذا الوقت , لأن الطبيعة قد هيأت في لبن الأم كل ما يحتاج إليهِ الطفل من التغذية

وفضلاً عن ذلك فاللبن الذي يخرج من الثدي بعد الولادة مباشرة يكون له تأثير خاص في أمعاء الطفل. ويعرف هذا اللبن باللبآ , ويختلف عن اللبن الذي يظهر في الثدي بعد ذلك بكثرة المواد الذهبية فيهِ. وإرضاع الطفل من الثدي يحدث تنبيهاً ويحرض على إفراز اللبن. وأما إذا لم يظهر اللبن في اليومين الأولين فيمكن إعطاء المولود كل ثلاث ساعات أو أربع ملعقة شاي من اللبن والماء. ويحضَّر اللبن بإضافة جزء من اللبن الحديث إلى ثلاثة أجزاء من الماء النقي المغليّ جيداً في إناءٍ نظيف ويمكن استعماله بعد ذلك متى هبطت حرارته إلى درجة 110 (فارنهت) كيف يرضع الطفل تحتاج الأم إلى قليل من المهارة حتى تستطيع أن ترفع طفلها من ثديها؛ ولإرضاعهِ من الثدي اليسرى عليها أن تضع الطفل على ركبتيها وذراعها اليسرى حتى يكون رأسه أعلى من رجليهِ وحتى يمكنها أن تجذبهُ إليها متى أراذت. وهي مع ذلك تسند جسمه ورأسه. ويحسن أن تضع الأم تحت مرفقها وسادة صغيرة , وتوضع الحلمة في فم الطفل , وتمنع الأم بسبابتها والأصبع الوسطى من اليمنى فيسند الطفل باليد اليمنى ويمنع الثدي من الضغط على أنف الطفل بأصابع اليد اليسرى. ويختلف زمن الرضاعة من 10إلى15 دقيقة وعلى المرضع أن تلاحظ أيبلغ الطفل اللبن أم لا وإذا داخلها شك في ذلك فعليها أن تزنه قبل الرضاعة وبعدها مباشرة.

إلى قراء الزهور

ومن الأطفال من يفهم عند أخذه إلى صدر أمهِ الغرض المقصود فيلتقم الثدي بسهولة , ومنهم من يحتاج إلى عناية وإغراء للإرضاع. وقد يجب أحياناً أن توضع نقطة من جلسرين البورق على الحلمة لاستغواء الطفل لالتقامها , أو ربما كان عدم بروز الحلمة هو السبب في عدم استطاعة الطفل للرضاعة , وكل ما يلزم وقتئدٍ هو أن تضغط ضغطاً خفيفاً حتى تبرز وبعد انتهاء الرضاعة يبقى الطفل ساكناً قليلاً من الوقت ثم يوضع في مهده حيث ينام نوماً هادئاً غالباً حتى يأتي ميعاد الرضاعة الثانية وتغسل الحلمة , بعد كل رضاعة , بقليل من الماء الدافئ وتنشف جيداً , ويحسن استعمال ثدي واحدة لكل رضعة لأنه لا يحسن أن يرضع الطفل من الثديين في كل مرَّة بل يلزم أن يرضع مرَّة من الجهة اليمنى والمرة الأخرى من الجهة اليسرى وهكذا بالتناوب الدكتور محمد عبد الحميد إلى قراء الزهور لدى الزهور مقالات كثيرة اضطَّرنا ضيق المكان في هذا الجزء إلى تأجيلها , فليعذرنا كتَّابها الأفاضل. وإننا نغتنم هذه الفرصة لإِعلان الذين يرسلون إلينا دائماً القصائد والمنظومات الشعرَّية على اختلافها , إنَّ الزهور لا تنشر في رياض الشعر إلاَّ ما كان من الطبقة الجيّدة منه وعبثاً يلحُّ علينا الناظمون الأدباء

السيدات والقلم

السيدات والقلم مضت الأيام الطيبة على دول الشرق , دول تجاوب على أفنانها الشعراء والشاعرات , والكاتبون والكاتبات. حيث أصاخت عروشُ الملوك والملكات لكل مُسمعٍ ومُسمعة من سادة الكلام. ومضت الأيام الطيبة على دول الغرب , دول أطلعت من آفاقها وجوه المطربين والمطربات , أصحاب الفن وصاحباته. حيث تألقت التيجان على محاسن الوجوه ومحاسن النفوس. ولكن أدرك الشرق الكبرُ حتى أورثه ألَلكَن وسرَت على الغرب نسمة الحياة فجدَّ وتقدَّم ملكاتنا وولائدنا بتنَ عواقر , وملكاته وولائده أنجبنَ وأكثرنَ. فما خلَّفتْ عنان التي زعموا , ولا ولاّدة التي وصفوا , قينةً ولا أميرةً. ولقد أتت بعد مرغريت ده فالوى ومدام ده سفينيه كثيرات مثل مدام ستايل وجورج ساند. بلى أتت عقائل متوَّجات مثل ملكة الانكليز المرحومة فيكتوريا , ومعاصرتها كرمن سلفا. فباتت سماءُ الغرب حالية , وسماؤُنا عاطلة على أننا أصبحنا اليوم نرى في الشرق سيدات يبارينَ الرجال , ويجاوزنَ كلَّ سابق منهم. وكنا ظننا حقبة من الدهر أن لن أسمع ذلك الترجيع يخالطه ذياك الأنين , ولكن العصر ربيع الشباب , والميدان روض الحياة فأهلاً بالساجعات المطربات أعجبتُ إعجاباً شديداً بما نسجته أنامل الكاتبة الفاضلة السيدة هند عمون في تاريخ الخواتم. فذلك فصل أقل محاسنه أنه بلا نظير وقد تنظر عيني في هذه (الزهور) الطبيعية فترى كل زهرة كأنها ثغر الأمل فأقول لمن الزهرة , فيُقال لفلانة الفاضلة. أهلاً بالزهرات في حديقة الزهور. .!

جريدة الأخبار

كنت قاربت الكبر. وأدركني الأعياء. وها أنا اليوم اسمع بلابل الله في ملكه فأجاوبه. ما هذا بنات هديل , وإنما هي بنات حواء. آن لأقلامنا أن تختار أحسن ما عندها من الدرر تلك الأجياد جديرة بهذه العقود. . . ولي الدين يكن جريدة الأخبار بلغت الصحافة المصرية منزلة سامية من الترقي واشتغل بها في العهد الأخير جمهور من كبار الكتاب ورجال السياسة , فأصبح لها تأثير بليغ في الرأي العام , فرأينا أن نخصّ من حين إلى آخر كل جريدة بفصل يصوّرها لقراء الزهور من حيث خطتها وأسلوبها وكيفية تحريرها. ونبتدئ في هذا الجزء بجريدة الأخبار لمناسبة عودتها إلى الظهور في هذه الأثناء على أثر توقيفها شهرين بمقتضى القرار الذي أصدره مجلس النظار الأخبار - أنشأها صاحبها سنة 1896 بالاشتراك مع داود أفندي بركات رئيس تحرير الأهرام اليوم. وتوقفت سنة 1900 ثمّ عادت إلى الصدور سنة 1906 فكانت أول جريدة عربية مصرية تصدر في الصباح. وهي أصغر الصحف المصرية حجماً ولكنها من أغزرها مادَّةً بالنظر إلى الأسلوب الذي توختهُ في إيراد الحوادث. وقد كادت تقصر أبحاثها على الشؤون المحلية أو ما كان لهُ علاقة بها من الشؤون الخارجية. وأنك لتقرأ الخبر في صحف المساء ثمَّ تصبح فتقرأه في الأخبار فلا تستنكف من معاودة قراءَتهِ لأنك على يقين من أنك ستجد في طريقة إيراده شيئاً جديداً. وللأخبار على سائر الصحف ميزتان: الأولى أنها تنشر ما لها وما عليها تاركة لمن يكتب فيها الحرية التامة في إبداء فكرة ولو جاء هذا الفكر مخالفاً لمذهبها , والثانية أنها ذات اعتناءٍ خاص بعنوانات أخبارها ومقالاتها

حتى لقد يجيء العنوان فيها وحدَه أبلغ من مقالة طويلة. ولقد جرى بعض هذه العنوانات مجرى المثل بين القرَّاء أما الشيخ يوسف الخازن صاحب الأخبار فهو معروفٌ بشدَّة الذكاء وتوقد الذهن. وهو من أكثر كتَّابنا حفظاً للتاريخ ونوادره وأقدرهم على الاستشهاد بها عند اللزوم , فتراه دائماً أبداً حاضر القريحة لإيراد حادثة أو نكتة يطبّقها على حوادث اليوم , يظهر لك ذلك في حديثه كما يظهر في كتابته , وقد حلَّى كثيراً بالدرس والمطالعة السليقة الانتقادية التي عرفت بها الأسرة الخازنية. وله من هذا القبيل نكت وأجوبة تروى بين الناس. والشيخ لطيف المعاشرة لا يملهُ جليسهُ.

وخصومه السياسيون أنفسهم يشهدون له بخفة الروح. وفد لا تفارق الابتسامة ثغره - كما ترى في رسمهِ الذي أمامك - وهي غالباً ابتسامة استهزاء من كل شيء. . عثرنا في بعض أعداد الأخبار على مقالة نعتقد أن الشيخ قد كتب مقدَّمتها وهو أمام المرآة يصوّر نفسه إذ قال لي صديقٌ شاذُّ الأخلاق , غريب الأطوار قلما يتفق رأيهِ , مخالفاً للجمهور في حكمهِ. وليس السبب في ذلك اعتاد معظم الناس أن ينظر إليها منهُ , فيكشف أموراً جديدة قد تخفى على الآخرين , وهو يعبّر عنها تعبيراً فكهاً لا يخلو من نكتةٍ تسرُّك فتجعلك تضرب صفحاً عن شذوذه وغرابة أطواره لاسيما وأنهُ بعيدٌ عن المكابرة فلا يحاول أن يقنعك بصواب رأيهِ بل يقول هذا رأيي والسلام وصاحبنا مزيجٌ من التعصب والتسامح بل هو بوجه عام شديد التعصب لمذهبهِ فلا يخط حرفاً إلا تأييداً لهذا المذهب أو انتقاداً للمذهب المخالف , وإن كان ذلك لا يظهر لأوَّل وهلةٍ في جريدتهِ التي أباح أعمدتها لكل المذاهب. ومن رأي السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار أن خطة الأخبار تظهر في ما تختاره من أقوال الصحف أكثر مما تظهر في مقالاتها الخاصة. وقد أثَّت أخلاق الرجل في أسلوب الكاتب أي تأثير حتى صحَّ فيهِ قول بوفون الكتابة هي الرجل فجريدته هي صورته المعنوية وهو شديد الولع بها فقد ضحى لأجلها في مراكز عديدة عُرضت عليه وأنفق في سبيلها حتى اليوم ستة آلاف جنيه من ثروتهِ. وهو كثير التأني في كتابتهِ شديد الحكم على إنشائهِ , يكتبُ ويشطب ويشذّب ويمزّق كثيراً قبل أن يدفع إلى الطبع مقالة لا تتجاوز العمود فهو من هذا القبيل أقلّ الصحافيين مقدرة على سدّ الفراغ , على أن مقالته تخرج بعد ذلك موسومةً بسمتهِ الخاصة فتُعرف بهِ ويشاركه الآن في تحرير الأخبار توفيق أفندي حبيب , ومقالاتهُ لا تخرج عن دائرة التعليق على الحوادث اليومية بأسلوب فكاهي لذيذ لا يخلو غالباً من

معرض الزهور السابع عشر

ملاحظات دقيقة وقرصات انتقادية , وهي غالباً موقعة بإمضاء محدّث وله أبحاث حسنة في شؤون طائفتهِ القبطية؛ وقد لا تعجبك المقالة منهُ على أنك قلما تضجر أو تسأم منها. وهو كثير المطالعة , يقرأ كلَّ ما تصل إليهِ يدُهُ مما يطبع باللغة العربية , وله ذاكرة قوَّية تجعله بمثابة قاموس للحوادث المصرية على عهدهِ , ويصعب على الشيخ يوسف أن يجد مساعداً للتحرير أطوع من توفيق حبيب وأقرب منهُ لفهم أفكاره , كما أنهُ يصعب على توفيق حبيب أن يجد صاحب جريدة يترك له الحرية في الكتابة كصاحب الأخبار , ولذلك قد مرَّت عليهما بضع سنوات وهما جليسان إلى طاولة تحرير هذه الجريدة , وكلاهما راضٍ عن صاحبه معرض الزهور السابع عشر في الإسكندرية في الإسكندرية جمعية زراعية أوربية النشأة , وطنية العمل , تقيم في كل سنة معرضين تشهر بهما عملها , أحدهما في أواخر شهر ابريل وتسمية معرض الزهور , والآخر في أواخر شهر نوفمبر وتسمية معرض الأقحوان والأول يطلق عليه اسمه بالغلبة لأنه يكون معرضاً للزهور وطوائف متنوعة من النباتات , وأصناف شتى من البقول والفواكه والخضروات. والثاني يطابق اسمه مسماه لأنهُ لا يعرض فيهِ غير

طوائف الأقحوان. وما أكثر أشكالها وألوانها. وكلا المعرضين يفتح في وقتهِ يومين متواليين - السبت والأحد - وبديهي أن الجمعية إنما تختار هذين اليومين لأنهما يوما الراحة والتنزه في الإسكندرية , ويكثر إقبال الجمهور فيهما على مشاهدة معروضاتها الجميلة فشهر ابريل نيسان الحالي هو شهر معرض الزهور. وقد فتح هذا المعرض في يومي السبت والأحد الواقعين في 20و21 منهُ وأقبل الألوف من الناس يتمتعون برؤية زهوره وبقوله منسقةً أبدع تنسيق وقد جرت العادة السنوية أن يحتفل بافتتاح معرض الزهور بحضر أمير البلاد أو نائب ينوب عن سموه من أمراء العائلة الخديوية , ولكن في هذه السنة كانت حفلة افتتاحه بسيطة على خلاف العادة فقد جرت بحضور أعضاء الجمعية وجماعة من أصحاب المعروضات وجمهور من الزائرين. ولم يرأسها أحد من الأمراء ولا النظار غير أن ذلك لم يؤثر في رونق المعرض ولا أنقص من جماله في نظر الجمهور قبل أن نصف معرض الزهور يجمل بنا أن نورد لقراء الزهور نبذة موجزة عن نشأة الجمعية صاحبة هذا المعرض لأنهُ من ثمار أعمالها: كثير من الناس من يظنُّ أنَّ الجمعية الزراعية في الإسكندرية هي نفس الجمعية الزراعية في القاهرة , أو هي فرعٌ منها. والحقيقة أنها مستقلة عنها تمام الاستقلال , وعملُ هذه يختلف عن عمل تلك. ووجه الشبه بينهما , من حيث الاشتغال بالزراعة , أن الأولى هي بمثابة البستاني الفلاّح. وكلتاهما تقوم بعملها تحت رعاية الجناب العالي الخديوي رئاسة دولة الأمير حسين باشا كامل. ومصر في حاجة إليهما معاً قبل أن تنشأ هذه الجمعية في الإسكندرية منذ سبع عشرة سنة خطر لبعض وجهاء الانكليز من موظفي الحكومة المصرية والنازلين في هذه المدينة أن يقيموا معرضاً للزهور هنا على نمط المعارض الزهرية التي تقام في انكلترا. فاستعدوا لذلك

وانشأوا معرضاً صغيراً من هذا النوع في النادي العمومي الانكليزي المعروف بنادي جنود والبحر. فكان كأنهُ معرض للنزالة البريطانية في الثغر إذ لم يهتمّ بهِ غيرها من سكان الإسكندرية إلاَّ قليلاً. وبعد سنةٍ من الزمن أقاموا معرضاً آخر في نفس المكان فكان هذا أفضل من المعرض الأول سنة 1896 رأى أولئك الغواة أن يوسّعوا دائرة عملهم ويؤلّفوا جمعيةً زراعية للمثابرة على ترقية توليد النبات والزهور في هذا القطر , وإقامة المعرض في كل سنة. وكان كذلك. فأنهم ألّفوا الجمعية برئاسة الأميرال بلامفليد الذي كان مديراً لمصلحة المواني والمنائر في الإسكندرية , وأرسلوا إلى الجناب الخديوي يلتمس منهُ أن يشمل جمعيتهم برعاية السامية , فُسرَّ سموه من المشروع وجعل الجمعية تحت رعايتهِ؛ وانتخب دولة الأمير حسين كامل باشا رئيس شرف للجمعية , والأمير عمر باشا طوسون وكيلاً لها واتفقت الجمعية مع شركة فنادق ننكوقتش على إقامة أول معرض رسميّ في تلك السنة في فندق سان ستيفانو في يومي السبت والأحد الواقعين في 223 ابريل نيسان و24 منهُ , وطلبت إلى سمو الأمير أن يفتتح هذا المعرض , ولكنَّ سموَّهُ اعتذر وقتئذٍ عن الحضور وأناب عنهُ دولة البرنس حسين باشا كامل فرأس حفلة الافتتاح كان المعرض الأول صغيراً فأقيم في قاعة البهو من بناية كازينوسان ستيفانو. ولكنَّ الجمهور هرع لمشاهدة الزهور التي تعرض في منتزه عام؛ فضربت الجمعية على الدخول رسماً قدرُهُ خمسة غروش صاغ عن كل شخص , وجمعت من تلك الضريبة مبلغاً كبيراً , لأنَّ عدد الذين زاروا المعرض بلغ نحواً من خمسة آلاف. ولا يزال هذا الرسم بعينه مورداً من موارد الجمعية. وفي سنة 1897 تبنَّت جمعية الزراعة البريطانية في لندن جمعية الإسكندرية , وأباحت لها استعمال مداليتيتن من مدالياتها فلورا وبنكسيان - من سنة 1897 إلى سنة 1903. ثم استقلَّت جمعية لندن بمدالياتها , وضربت مداليات مخصوصة للجمعيات التي تستمدّ رعايتها ,

ومنها جمعية الإسكندرية. ولما رأت الجمعية الزراعية الخديوية في القاهرة ترّقي جمعية الثغر في السنة التالية , أرسلت إليها أربع جوائز لتقدّمها للفائزين من العارضين. ومن ذلك الوقت صارت تمدُّها بالمساعدة المستمرّة. وكانت الجمعية تدعو لمعارضها الأولى أفواجاً من تلاميذ المدارس من ذكور وإناث , وتوزّع عليهم باقات الزهور عند انصرافهم إلة منازلهم , ولكنها أبطلت تلك العادة عند نجاح معارضها أما معرض الأقحوان فقد أُنشئ في سنة 1902؛ وكان إيراده لأول مرّة أكثر من نفقاته. وكان افتتاحه في يومي السبت والأحد - 29و30 أكتوبر - ولا يزال يجيء في وقته تالياً معرض الزهور وقد اضطَّرت الجمعية قديماً إلى إقامة معارضها في فندق أبات القديم وبورصة البرنس طوسون دار الجمعية اليونانية في الإسكندرية , ومنذ عدة سنوات لم تعد تقيم معرضاً في غير سان ستيفانو. وإدارة الفندق المذكور لا تتناول من الجمعية أجراً على إشغالها ساحة بنايتها بخمائل الأزهار , بل تكتفي بما تستورده بسبب المعرض من أثمان المشروبات والمأكولات , وهو شيء كثير. أما إيراد الدخول فتأخذه الجمعية كما تقدّم. كانت الجمعية عند نشأتها فقيرة تجمع من أعضائها من المال ما تستعين بهِ على القيام بعملها في الزراعة , ولكنها كانت حكيمة مقتصدة لا تشتغل إلاَّ بقيمة ما تستوردهُ. ولم تخطو خطواتٍ سريعة في ميدان العمل إلاَّ منذ سنة 1907 , فإن الحكومة منحتها في تلك السنة إعانة سنوية قدرها 600جنيه , فوسعت دائرة زراعتها , وعيَّنت لها سكرتيراً خاصاً هو المستر فش الذي لا يزال يشغل مركزه فيها بكل كفاءة. ثم أعطتها بلدية الإسكندرية بقعة أرضٍ في حديقة النزهة لنجري التجارب الزراعية فيها , وجعل السكرتير مكتبه في تلك الحديقة الواسعة للإشراف على العمل , ومنذ تلك السنة صارت تستغلّ زراعتها

وفي سنة 1909 استأجرت من مصلحة الأوقاف الخديوية عشرين فدانً من أرض عزبة خورشيد القريبة من الإسكندرية لمدة ثلاث سنوات , الفدان بأجرة 13جنيهاً في السنة. وفي سنة 1911 زادت الحكومة إعانتها فجعلتها 800جنيه وعنيت هذه الجمعية منذ نشأتها بتهذيب مغروسات البساتين وغروس ما لا يعرفهُ المصريون من أشجار الفاكهة الأجنبية , والنباتات المتنوّعة في أرض مصر. وقد توصَّلت بقوَّة تجاربها الكيماوية والفنيّة العديدة إلى إدخال بضعة أصناف جديدة على ما نراه عندنا من البقول والفاكهة والأزهار. ونذكر على سبيل الاستشهاد فيما يأتي بعض ما رأيناه من الجديد في المعرض الأخير: الليمون الحامض النباتي , وهو أشبه بالليمون البلدي والرشيدي إلاَّ أنهُ أكبر حجماً ولا نوى فيهِ , والبطاطس الانكليزي وهو نوع من أجود أنواع هذا الصنف والباميا البيضاء , واللفت الذي يستعمل لاستخراج السكر , وأنواع كثيرة من البقول والخضروات. وكثير من أنواع الزهور والرياحين وأخصها الجيرانيوم وزهر الايرس الإسباني. وهي تشتغل الآن بتلقيح البرتقال البلدي بالبرتقال اليافاوي المعروف بالشموطي وتحسين الصنف المعروف باليوسف أفندي المصري وقد أهدت إليها إدارة الزراعة في الولايات المتحدة عدَّة أنواع من أشجار البرتقال والخوخ والدرَّاقن. استحضرت من اليابان أنواعاً من الأشجار والبقول وهي تستعمل في زراعتها السباخ الكيماوي وأخصُّ تراكيبه ما كان ممزوجاً بفوسفات حمض الكلس والبوتاس ونترات السودا. وتستخدم أحدث الأدوات الزراعية وتبيعها للطالبين. وكانت منذ بضع سنوات توزع البذور على الزراعيين مجاناً تشجيعاً لهم على إتباع خطواتها في العمل. أما الآن فتبيع البذور وغيرها برأس المال ولولا ذلك لكانت أرباحها وافرة معرض الزهور الذي أقيم في هذا الشهر هو مجموعة نموذجات متنوّعة مما تغرسهُ الجمعية في أرضها - ما ذكر وما لم يذكر - ومما يزرعهُ غواة الزراعة ورجال الحقول من شتى الأزهار والنباتات والبقول على اختلاف أنواعها وأشكالها وألوانها

ساحة المعرض هي ساحة كازينوسان ستيفانو الداخلية المشرفة على البحر من الجهة الشمالية. وقد نسفت فيها أنواع المعروضات تنسيقاً هو كل جمالها الفني ولا يخفى أن الزهرة لا يعوزها شيٌ لتكون جميل: فهي جميلة في منبتها في الحق , وجميلة في يد القاطف , وجميلة في قاعة الاستقبال؛ ولكن مجموعة الزهور والنباتات

يعوزها الترتيب في وضعها لتكون جميلة , ما دام الجمال في تناسب الأشياء؛ وهذا ما كان متوفراً في معرض الزهور الأخير ساحة المعرض تقسم إلى نصفين بينهما كشك للموسيقى. إذا وقفتَ في أوَّلها متجهاً إلى الشرق تجد أمامك في النصف الأوَّل خمائل الزهور , وفصائل النباتات ذات الورق الأخضر تدبّج البقعة بأشكالها الهندسية الجميلة في ثلاثة صفوف: صفّ إلى اليسار للجهة البحرية , وصفّ إلى اليمين والثالث في الوسط أما النصف الآخر فأهمُّ ما فيهِ معرض المجلس البلدي وهو بمثابة بساط من الزهر مرسوم على مربع كبير من الأرض رسماً قد لا تكوّن اليد في التصوير أجمل منهُ للعين. ولا تسل عما فيهِ من أنواع الزهور والنبات , فإن عدَّ أصنافها , إذا لم نقل لا يتيسر لغير علماء النبات - وهو العذر الحقيقي - نقول أنهُ يستغرق وقتاً ويستوجب شرحاً طويلاً وهناك ثلاثة أقسام أخرى للمعروضات: قسم مخصوص للسيدات وهو يشتمل على أنواع الورد من أبيض وأصفر وأحمر , والأقحوان , والمنشور وغير ذلك , موضوعة كلها على موائد كبيرة في ظروف زجاجية مستطيلة بترتيب جميل. وقسم يشتمل على صنفين أحدهما للورد المقطوف والثاني لزهر الايرِس. والقسم الثالث هو محلّ البقول والخضروات والفواكه وقد خصصت له في المعرض خيمة واسعة لا تقلّ مساحتها عن 200ذراع مربع وقد قسمت المعروضات من الوجهة الفنية إلى أربعة أقسام رئيسية 1 - معروضات الشوالي للغواة 2 - الأزهار المقطوفة وهي تشمل الورد والايرس 3 - أزهار الموائد 4 - البقول والأثمار وغيرها. وقدّمت للعارضين المتسابقين مداليات وجوائز عديدة على ما امتاز من معروضاتهم المتنوّعة. والأربعة الذين نالوا الجوائز الأولى في الأقسام المذكورة هم بحسب ترتيب الأقسام: مدام شارلوت دبانه , والمستر هنري سفر , ومدموازل جشر ابنة رئيس المحكمة المختلطة , وسرهوبكنسون قرينة حكمدار بوليس الإسكندرية

ثمرات المطابع

وللمعرض نظام معروف بمعاملته مع المزارعين والعارضين وشروط الاشتراك في المعرض وقبول المعروضات ونحو ذلك. وله لجنة عاملة دائمة تخدم الجمعية. ولجنة مؤقتة خاصة تؤلف من المحكمين عند إقامة المعارض للحكم في استحقاق الجوائز. والأولى تؤلف من14 عضواً تحت رئاسة المستر سندرز القاضي في محكمة الاستئناف المختلطة , والثانية تؤلف من 10 أعضاء بينهم سيدتان انكليزيتان على أن جمال المعرض الحقيقي مستمدٌّ من زائريه , والمُشاهِدُ يستجلي هذه الحقيقة لأوّل وهلة عند دخوله إلأى ساحة المعرض. وأكثر ما يزيد المنظر جمالاً وجود الأوانس والسيدات فيهِ متفرقات بين الأزهار والرياحين , بقبعات تستلفت الأنظار بأشكالها , وأثواب تنافس الأزهار بألوانها , ولا تنسَ جمال الصور , ومحاسن الدعج والحور , وفخامة المظهر , ولطف المعشر (الإسكندرية) عباس المصفى ثمرات المطابع تاريخ آداب اللغة العربية - لما قرَّظنا في الزُّهور (276: 2) الجزء الأوَّل من كتاب آداب اللغة العربية لمؤلفه جرجي أفندي زيدان العالم المؤرخ الشهير , قلنا في الختام:. . . وأننا ننتظر توفيقه إلى إظهار الجزء الثاني من كتابهِ وهو سيكون ولا ريب , أوفى بحثاً , وأتمّ بياناً , لأنهُ يتناول عصراً كثرت آثاره , وتوفرت المعلومات عنهُ وقد صدق ظنّنا اليوم , وثبَّت صاحب الهلال اعتقادنا فيهِ , فإنهُ لم يحُلِ الحول على إصداره الجزء الأوَّل , حتى وضع بين أيدي أبناء العربية الجزء الثاني الذي نحن بصدده الآن وهو أوفى بحثاً , وأتم بياناً , كما أمَّلنا أن يكون إذا طالعتَ هذا الكتاب , وأمعنت النظر في تنسيقهِ ومباحثهِ , عرفتَ كم عانى الأستاذ زيدان من التعب وكم اجتاز من المصاعب حتى توفرت لديهِ موادّهُ ,

ودانت له أشتاتها , فألَّف منها ذلك الكتاب النفيس. ولكنَّ صاحب الهلال مأثور عنهُ النشاط والانكباب على الدَّرس , والرغبة في إفادة الناشئة العربية في هذا العصر , وليس كتابه هذا بأوَّل عملٍ مجيد يشكره عليهِ أبناء اللسان ويحتوي هذا الجزء على تاريخ آداب اللغة العربية في العصر العباسي من قيام الدولة العباسية إلى دخول السلاجقة بغداد , ويدخل فيهِ تكوّن العلوم الإسلامية ونقل العلوم الدخيلة إلى نضج العلم في أواسط القرن الخامس للهجرة , وفيهِ تراجم العلماء والأدباء والشعراءِ وسائر أرباب القرائح , ووصف مؤلفاتهم وأماكن وجودها أو طبعها من أقدم أزمنة التاريخ إلى الآن. فأنتَ ترى أن هذا الكتاب تاريخ لم يوضع قبله في العربية كتاب مثله , وقاموس يرجع إليهِ من طلب معرفة أدباء اللغة العربية في جميع الأمصار. ولقد كان المتأدبون منا يُقضي عليهم بالتعب والدَّرس السنين الطويلة لكي يلمُّوا إلماماً علماً بتاريخ الآداب العربية - وقد يملُّ كثيرون العمل , ويقنطهم السعي والبحث - فأصبحوا اليوم , بفضل الأستاذ زيدان , يتناولون ذلك التاريخ على أهون سبيل , وأصبح في وسعهم أن يشغلوا أيامهم بدرس علوم شتى كان ذلك السعي والبحث يحولان دونها. فكتاب تاريخ آداب اللغة العربية , وكتاب تاريخ المدُّن الإسلامي وحدهما , يحلاَّن صاحب الهلال المحلّ الأسمى من الكرامة والاحترام في نفوس أبناء اللغة العربية , وهما إلى جانب ما لحضرته من التأليف والأعمال يصِفانِ حياته بأنها حياة العمل والنفع الحقيقيَّين تعليل النوع - إذا سمينا لقراء الزهور الدكتور محمد عبد الحميد فلا نسمّي لهم من يجهلون , فهو الذي يتحفهم بتلك المقلات الشهرية عن تربية الطفل وهو الذي طالما أشرنا إلى كتبهِ الطبية النفسية التي لم يسبقه عالم إلى وضعها باللغة العربية. وأمامنا اليوم كتابٌ جديد له في تعليل النوع وهو يشرح نظرية النوع الجديدة المبنية على المشاهدات الإكلينيكية مع ذكر الطريقة المؤدية إلى معرفة نوع الطفل في بطن أُمه وقبل ولادتهِ وبيان طريقة الحصول على النوع المرغوب فيه من

ذكر أو أنثى - وهذه المسألة من المسائل التي لا تزال مغمضة , وقد تضاربت فيها آراء الأطباء واختلفت أقوالهم. ولا مجال هنا لتأييد مذهبٍ وتفنيد آخر فضلاً عن إن ذلك من شأن العلماء الاختصاصيين على أنهُ لا يسعنا إلاَّ تجديد الثناء على همة صديقنا الدكتور عبد الحميد التي لا تعرف الملل في خدمة قومهِ وبلاده بما ينشره لهم من المباحث العلمية الجديدة. وفّقه الله إلى متابعة أعماله المشكورة التي أخذت الأمة تقدّرها حق قدرها اللُّغة العربيَّة - وهو خطاب ألقاه في بيروت حضرة العالم الفاضل الأستاذ جبر ضومط م. ع أستاذ اللغة العربية في المدرسة الكليَّة السوريَّة. وقد بحث فيهِ بحثاً تاريخياً فلسفياً عن موطن العربية المُضَريَّة , ونسبتها إلى أخواتها من للغات السامية. ودقق النظر في تقسيم السامية إلى فرعيها القحطاني , وهو الذي كان يتكلم بالقحطانية السريانية والحميرية التي خَلفتها؛ والعادي , وهو الذي كان يتكلم بالعربية تسميةً بأشهر قبائله عَاد. ثمَّ توغل في هذه المباحث حتى إذا وفاها حقها من البرهان التاريخي والعقلي والأثري , نظر نظرةً صادقة في سبب غنى اللغة العربية واتساع دائرة ألفاظها وعباراتها واقتدارها على التعبيرات الفلسفية والاجتماعية. وما هو معروف عن الأستاذ ضومط من العلم وسعة الإطلاع يجعل لخطابه هذا منزلةً كبرى في نفوس الباحثين والمدققين من علمائنا الذين يعنون بهذا الموضوع التاريخي الفلسفي , فله الشكر الوافر الحب الطاهر - خطرات أوحى بها الخيال إلى حضرة الكاتب الشاعر الأديب أمين أفندي حمدي وتقطرت من قلمهِ كما يتقطر الندى , فجمعها في كتيّبٍ حرصاً عليها , ولا يُحرص إلاَّ على الثمين. فحبذا لو أقبل عليها محبوّ الأدب ليروا كيف توحي الطبيعة التصورات الجميلة ديوان المصري - نشر عبد الحليم أفندي المصري الجزء الثاني من ديوانه

إبراهيم أدهم باشا

المعروف باسمه , وفيهِ القصائد والمقاطيع الشائقة التي نظمها في خلال الثلاث السنوات الأخيرة , وكانت الزهور قد نشرت بعضاً منها كما يذكر القراء. والذي يقارن بين هذا الجزء من الديوان , وبين الجزء الذي سبقه , يرى كيف ترّقي الشاعر في خياله , وفصاحته , وأسلوبهْ , وطلاوته , ولكنه لا يختلف عليهِ النفس الشعري لأنَّ عبد الحليم شاعر مطبوع تكاد تلمس شاعريته في كلّ قصيدةٍ لمس اليد. فنحن نثني عليه كلَّ الثناء , ونتمنى أن يقبل الأدباء على ديوانهِ فإنَّ له في ذلك أعظم تنشيط إبراهيم أدهم باشا في إدارة الزهور تفضَّل صاحب العطوفة القائد الهمام الباسل إبراهيم أدهم باشا بطل الحرب الطرابلسية , وصاحب السعادة السريّ الأمثل سليم بك أيوب ثابت , فزارا إدارة هذه المجلة ,، أُصحابها لما يبذلونهُ في سبيل نشر المعارف والآداب. وقد ذكر القائد الكريم أنهُ اتصل بهِ ما للزهور من المكانة في نفوس القوم فأحبَّ أن يزور إدارتها ليعرب لنا عن إعجابهِ , وليثبّتنا في الخطة التي اتخذناها , غذ توسلنا بالزهور لإِحكام الصلات الأدبية بين الأقطار العربية. ونحن نقابل هذا الصنيع بالشكر للزائرين الكريمين , ونعدُّ ثناء القائد الهمام أكبر منّشطٍ لنا في عملنا أزهار وأشواك استغرقت الحفلة التي أقيمت لمساعدة منكوبي بيروت قسماً كبيراً من الجزء الفائت , فاضطرَّت إدارة هذه المجلة إلى زيارة ملزمة كاملة عليهِ. وكثرت المواد أيضاً في هذا الجزء , ولم يكن بدٌّ من نشر مقالة عن معرض الزهور الإسكندري فحرمتُ من المحادثة الشهرية مع قرائي , مع أني كنتُ أعددتُ لهم أزهاراً وأشواكاً كثيرة. . . فإلى الملتقي في الجزء القادم حاصد

العدد 25

العدد 25 - بتاريخ: 1 - 6 - 1912 النذل في قاموس اللغة وفي قاموس العالم النذل في القاموس الخسيس الساقط. فهل تعلم معنى هاتين اللفظتين؟ هما في القاموس أيضاً تجمعان في طيّهما معاني الحقارة , والسفالة والرذيلة والنقص والجبن , وما سوى هذا من المترادفات. ولكنني لا أخالك قد فهمتَ المعنى الحقيقي. إنَّ قواميس اللغة تنتقل بك من لفظةٍ إلى لفظة , وتفسّر لك كلمةً بكلمة. دعها إلى جانب , وهلمَّ بنا إلى هذا القاموس العظيم , قاموس العالم , وإليك منهُ الرواية التالية فقد حدثت وقائعها في مصر , في مثل هذه الأيام من السنة الماضية , كلفَ فتىً بفتاة. جارانِ تجاور بيتاهما , كما تحابَّ قلباهما. والحبُّ نظرة فابتسامةٌ فسلامٌ ... فكلامٌ فموعدٌ فلقاءُ وتشاكيا ما بهما. الوجد في نفسها , والنار في كبده. والقلوبُ

أرقُّ ما تكون , في صدورٍ لم تنفتح للحب , ولم تدر معنى الغرام. فهي حينئذ كذلك الغشاء الرقيق من الجلاتين تُلصق على الزجاج في الآلة المُصوّرة؛ فإذا تناوله النور لمحةً أثر فيهِ , فانطبعت عليهِ صُوَر ما يمرُّ حياله في خلال تلك اللمحة وعفَّت فتأدب. ووقف لهما غرورُ الشباب وقفةَ العدوّ الغادر. يهزُّ الفتاة ويدفعها فتردّهُ بعفَّة البكر , ويهيجُ الفتى ويغالبهُ فيتّقيهِ بأدب الحبّ وأعانت الأيام على الجوى والهيام. فتلاقيا على ضفاف النيل , وتفيئاً ظلال الأهرام , وتسامرا من نافذَتي بيتيهما تحت بريق النجوم في سكون الظلام , فما زادتها الليالي إلاَّ جوًى ووجداً , وما زادته إلاَّ صبابة وهياماً ولما فاض القلبان بالحبّ , ولم يبق في قوس الصبر منزع , حدَّث الفتى أهلهُ بأمره , وقصَّت الفتاة حكايتها على ذويها. قال بأبي هذه التي أحبُّ , وقالت يا أمِّ هذا الذي أريد. أنا الأمُّ فرضيت , وأما الأب فأبى. ولكنَّ الإِباء أجَّج نار الغضا بين ضلوع الفتى , فالتظى قلبهُ بالشوق والتهب لوعةً وجوى؛ وشجَّع الفتاة من أُمها الرضي , فتمادت في الوجد وتطوَّحت في الهوى. ولم يكن للعاشقين سبيل إلى السلوى , فانقطع هو إلى القنوط , وتعلَّلت هي بالمنى. حتى إذا غلب اليأس على الرجا , وفتَّ في ساعد الفتى وقد سامهُ الشوق صبراً , اندفع مع غرور الصبي , وحببَّ اليأس إلى نفسه الردى , فهوى بهِ الغرور إلى ذلة الانتحار فهوى وما ارعوى

قال: أما الحياة فقد مرَّرها أبي ونغَّصها عليَّ فلأجعلنَّ حياته مرَّةً منغَّصة , ولأنتقمنَّ لنفسي منهُ شرَّ انتقام. إني أموت فأشقُّ قلبه حزناً عليَّ , وأفتّت كبده تفجعاً وغماًّ , فلا يعيش بعدي , ولئن عاش فلِيستنفدَ دموع عينيهِ , ولتعذّبهُ الشيخوخة حتى يجرَّه العذاب إلى القبر. . . ولكن هبني قدمتُّ , وانتقمت بموتي من أبي , فكيف أطيق أن تحيا الحبيبة بعدي؟ أأرضي لها الحياة لكي يتلاشي الحبّ في نفسها فتنساني وقد لا تلبث أن تعلق بغيري فتلقم قبري حجراً؟ إنما قلوب النساء كالعصافير تتنقَّل من غصنٍ إلى غصن , فإذا استقرَّت فريثما يقف اهتزاز الفنن الذي استقرَّت عليهِ!. . وإذا لم يكن من الموت بدٌّ , فمن الظلمِ أن يموتَ الحبيب وحده , وتعيش الحبيبة بعده!!. . ثم كاشف فاتنتهُ بهذا الرأي , وبسط أمامها أفكاره وأمانيّه , فزجرتهُ فما ارعوى وإنما أثار تأنيبها في نفسهِ نزقَ الشباب فتصلَّب وأبى إلاَّ أن يموتا معاً. وخافت الفتاة أن تتَّهم في حبّها ووفائها فقالت له: أنت لست بأشدَّ حباًّ لك , ولست بأشجع قلباً , وأشدّ بأساً. الحبُّ ساواني بك وما آثرك عليَّ في شيء. إن كنت رجلاً فأنا امرأة. إنما المرأة أرقّ شعوراً من الرجل , وأكثر تمادياً في الحبّ , واندفاعاً مع الشهوات. ولقد شئتَ لي أن أموت معك فلتكن مشيئتك فيَّ يا ربّ فمدَّ الفتى يده وشدَّ على يد الفتاة فتعاهدا على الردى. ثم افترقا على هذا العزم بغيةَ أن يضمّهما القبر , ولم يضمّهما القصر , وإرادةَ أن يجمعهما الموت ولم تجمعهما الحياة

الانتحار جبن والمنتحر جبان قد ييأس امرئٌ فيرى الفرج في الموت , وقد يدفع صاحبه إلى مهواة الرَّدى تخلصاً من متاعب الحياة , وفراراً من نائبات الدهر. ولكنَّ الانتحار , مهما تنوَّعت أسبابه , واختلفت دواعيه , ليس إلاَّ دليل الخوَر والجبن , والذلَّة والصغار , فالمنتحر جباز وإن استبسل في طلب الموت. لولا الجبن لم يكن الانتحار! شلَّت يده! صبَّ لنفسه. فالسُمُّ في كأسها , والسمُّ في كأسهِ ودنا الموت من شفتيها , ودنا الموت من شفتيهِ. يا ويح لحظّهما! كلاهما غضُّ الصبي , رطب الأهاب , وكلاهما والهٌ تيَّمهُ الحب , وبرَّح به الجوى! حمل الكأس إلى شفتيهِ , فاهتزَّت بها يمناه , وارتجف لها قلبه. وأُدنت الكأس من شفتيها فما اهتزَّت يمينها , ولا خفق فؤادها وتلاقى الناظران من النافذتين , ففي مقلتها دمعة , وفي عينهِ جمرة!! هي فتاة وهو فتى! هي امرأة وهو رجل! هي شربت , وهو. . لم يشرب! الفتاة شربت كأسها حتى الثمالة , والتي صبَّ كأسه على الأرض! هل عرفت الآن معنى النذالة , ومعنى قولهم: فلان نذل؟!!

القدر والمقدر

القدَر والمقدّر الاعتقاد بالمقدّر من أهمّ الاعتقادات التي أثرت في حياة البشر في الأعصر الغابرة. وهو لا يزال متملكاً على أفكار أبناء اليوم وأن اختلفت كيفية اعتقادهم باختلاف مذاهبهم وآرائهم في عواقب الإنسان. وتقسم هذه المذاهب إلى ثلاثة أقسام: المادّيون والقائلون بمذهب جمع الكائنات (الوهية العالم) والروحيون فالماديون يعتقدون أن الإنسان ليس إلاَّ مجموع أجزاء كيماوية تنحلُّ بالموت ثم تتفرَّق دقائقها , وتنضم إلى أجرام أخرى فتصير لها ومنها. وعندهم أن لكل واحدٍ من البشر أن ينتقي لحياته غاية ترمي إليها أغراضه , وتطمح للوصول إليها أفكاره , وتوقف عليها أتعابه وآماله. أما قيمة الحياة فمتعلّقة بفضل صاحبها , وهي تقاس بما تجلبه على العالم من الخير - أو الشر؛ ولا يعبّر عنها عند الماديين إلاَّ باللذة والألم. العلم الوضعي يحسب كل ما يراه ظواهر طبيعية ونتائج حركات آليَّة تتشابه كلها في نظره , فلا تفرق ماهيّتها إلاَّ بواسطة الحسّ , فيسمي المادّيون ما يسرُّهم خيراً , ويدعون ما يؤلمهم شراًّ؛ وهم مع ذلك يؤثرون - نظرياً - خير المجموع على خير الفرد أما القائلون بالوهية العالم فيعتقدون أن كل جرمٍ من أجرام الخليقة هو شكل بارز عن الجوهر الإلهي المنتشر في طبقات الكون , وأن الروح بعد انفصالها عن الجسد تعود إلى ذلك الجوهر العظيم كما يعود

الجسد إلى المادة الكلية التي تكوّن منها. وكان فيثاغورس وأفلاطون وغيرهما من فلاسفة الماضي يعتقدون بالتقمص ولا يزال الهنود والدروز إلى أيامنا الحاضرة يعتقدون هذا الاعتقاد. وسواء غرقت الروح في بحر الحياة الكلية أم سكنت جسداً آخر , فإن الشخصية الحقيقية تنتهي عند عتبة القبر. فلهم , والحالة هذه , أن يعملوا ذوي الأخلاق الكريمة منهم يسعون في نفع الجمهور ما استطاعوا والروحبّون يؤمنون بأن الروح أبدية لا تفنى , وأنها تحفظ بعد الموت ذاكرتها وسائر مميزات شخصيتها الجوهرية. هي لا تموت لأنها شعلة من روح مبدعها العظيمة , فهي تعمل الحسنات وتسير في طريق الصلاح , وتفيد وتستفيد , وتضحي من لذتها وراحتها شيئاً كثيراً بقصد الوصول إلى المصدر الإلهي السامي والتمتع بغبطة لا نهاية لها مهما تعدّدت المذاهب والمشارب فقد أجمع البشر على أن هناك قوة تدير حركة العالم , ولكنهم اختلفوا في تسميتها. يسميها بعضهم عناية أو إرادة إلهية , وينعتها آخرون بالـ وقد اصطلح الجميع على التعبير عنها بكلمة قضاء أو قدَر وضع الأقدمون القدَر) فوق جميع الإلهة. وهو في علم أديانهم ابن العدم والظلمة وهما الإلهان الوحيدان اللذان لم يكن لهما ابتداء , ولكنهما انتهيا إذ أن العدم اضمحلّ في

الخليقة كما أن الظلمة تلاشت في النور. المقدّر يقبض بيده على حظوظ البشر , ويحكم فيهم كيفما شاءَ. وفي الخرافات القديمة أن أوامره منقوشة على صفحات من نحاس , ولا قوة أرضيّة تستطيع أن تمحوَها أو تغيّر منها شيئاً. كانوا يصوّرونه شيخاً طاعناً في السن كفيف البصر , وتحت قدميه الكرة الأرضية وعلى رأسه إكليل من نجوم , دلالة على خضوع السماء له. يسراه تمسك القارورة المحتوية على حظوظ البشر , ويمناه تقبض على عصا من حديد إشارةً إلى سطوته وقدرته المطلقة , وقساوته وصلابته في أحكامه وقد جاء في الياذة هوميروس أن جوبيتير كان قد أراد إنقاذ هكتور من شر أخيل , على أنهُ لما وزن حظّيهما ورأى أن هكتور سيموت لا محالة تركه وشأنه. وكذا فعل ايولّون الذي كان يرافقه في غدواته وروحاته ويمده بالمساعدة , فإنهُ ابتعد عنه لعلمه أن القدَر لا يُعاند توالت القرون وسبحت الأفكار في فضاء واسع من الحرية العلمية فتناول الفلاسفة هذا الموضوع ودرسوه درساً مدققاً فنفوا وجود إلهة عمياء تلقي على البشر صواعق غضبها ونقمتها بحسب أهوائها , ونسبوا القدَر إلى نواميس ثابتة. وعلاَّت رياضية تأتي بالنتائج التي ندعوها قضاءً وقدراً. وقال أرسطو أن الأقدار ناجمة عن قوتين: قوة خارجية , وقوة داخلية أي آتية من نفس الإنسان. وكان جميع المفكرين الذين سبقوا ديكارت يقولون بوجود سلسلة علات آلية هي أساس النظام الكلّي. ثم جاء ذلك الفيلسوف الفرنساوي وثبَّت هذه القاعدة ,

وأخرجها من دائرة المعقولات وأدخلها في دائرة الفلسفة الرياضية إذ شرحها شرحاً رياضياً , وأسندها إلى قواعد علمية رأسها القاعدة التي تستند إليها جميع العلوم الطبيعية , وهي أن لا شيء يموت بكل معنى الكلمة , ولا شيء يحيا , بل أن الموت كالحياة ليس إلا تقلب المادة من حال إلى حال بحكم النواميس الأبدية التي تديرها , وأنهُ لا بداية للكون ولا نهاية له , بل أن حركة نراها أن هي إلاَّ نتيجة حركة أخرى سبقت وهي تابعة لحركة أو لحركات تقدمتها. وفي العلوم الوضعية أن كلَّ ما في الكون حركات متتابعة متوالية , وأن كل حركة فسيولوجية تعقبها فينا نتيجة بسيكولوجية أو فسيولوجية. فالهضم مثلاً نتيجة الأكل , والغذاء نتيجة الدورة الدموية , والفكر نتيجة انتظام الدماغ. فلو لم تنتظم الدورة الدموية في أجسام روجربايكن والبرت كريسي وشورتز ما عرفت أوروبا البارود ولا قُتل بهِ الوف الجنود وملايين المحاربين. ولو لم تنتظم حركة القلب عند مخترع التلغراف اللاسلكي لما خلصت الباخرة كرباثيا النفوس التي انتشلتها من الباخرة تيتانيك كما أنه لو أصاب مخترعي السفن مرض ما , لما سارت السفن في البحار ولا غرقت الملايين فيها. وقس على ذلك. لاشيء يستطيع الخروج من دائرة النظام العلمي وهذا النظام هو قدر الأقدمين الفلسفي بعينه أجل إن النواميس تظل ثابتة لاتتغير. الأجرام الكبيرة تسقط

إلى الأرض بقوة الجاذبية , ولا تقدر أن تسبح في الجو ما لم يكن هناك من المواد الكيماوية ما يساعدها على معادلة ميزانيتها الطبيعية. شجرة التفّاح لا تستطيع أن تحمل عناقيد العنب , كما أن الدوالي لا تثمر موزاً , وكل ما في الكون مرتب محدود. يقول فولتر: قُدّر على الإنسان أن يكون له عددٌ محدود من الأسنان والشعر والأفكار؛ وقُدّر عليه أن يأتي يوم بهِ تسقط أسنانه , ويقع شعره , وتتلاشى أفكاره. ثم يتابع كلامه قائلاً: بعض البلهاء يقول: إن طبيبي البارع قد شفي عمتي من مرضها الخطر , وزاد في حياته عشر سنوات تقول , أيها الأبلة , أن طبيبك شفى عمتك من مرضها , ولكنهُ بفعله هذا , لم يغلب إرادة الطبيعية ولم يعاكسها بل اتّبعها. وقُدّر على عمتك أن تولد في هذه البلدة , وأن تمرض في يوم كذا بمرض كذا , وقُدِّر على عمتك أن تولد في هذه البلدة , وأن تدعوَه عمتك إليها , وأن يلّبي طلبها , وأن يعطيها العلاج الذي شفاها. هكذا شاءت الظروف الجارية بأحكام الناموس الأبدي الفلاّح الجاهل يظن أن الجوَّ أمطر حقله اتفاقاً ولكن الفيلسوف يعلم أن الصدفة اسم بلا مسمّى. وأنَّ التراكيب الجوّية أوجبت وقوع المطر على تلك البقعة في ذلك اليوم من الناس من تخفيهم هذه الحقائق فيقولون أن بعض ما في الكون ضروري , والبعض الآخر ليس إلاَّ حوادث وعوارض. وأنا أجيبهم أنهُ لمن المضحك أن يكون نصف الكون مرتّباً وتابعاً لنواميس

خواطر

ونظامات , وأن يكون النصف الآخر مهملاً. عند ما يتأمل المفكر ويبحث في دقايق هذا الموضوع يرى أن كل مبدأِ يخالف الإِقرار بالمقدَّر لهو مبدأ مستهجن لكن حُكم على بعض الناس أن يفهموا قليلاً , وعلى آخرين أن لا يفهموا مطلقاً , وعلى غيرهم أن ينتقدوا الذين يفهمون وأن يضطهدوهم مي خواطر خلق الله العالم كله واستراح , وخلق الله الرجل واستراح أيضاً؛ ثم خلق المرأة ومذ ذاك لا استراح هو , ولا استراح الرجل رأي أميركاني لا طريقة لإيقاف تأثير الجرائد إلا في تكثير عددها؛ وأني لمتعجب كيف أن حقيقة راهنة كهذه لا تزال مجهولة توكفيل خيار خصال النساء شرار خصال الرجال: الزهو والجبن والبخل الإمام علي أُحبُّ حرية الصحافة باعتبار ما تمنعهُ من المضارّ , أكثر مما أحبها باعتبار ما تجلبه من المنافع سنت بري إنما ينشئ الجريدة مشتركوها لا محرروها جيراردين

رسائل غرام

رسائل غرام بين نساءٍ شهيرات ورجال عظام الرسالة العاشرة من فكتور هوغو إلى خطيبته أديل فوشه فكتور هوغو أشهر من أن يعرَّف لأنه المجّلي في حلبة الشعر والإنشاء كما تشهد له بذلك مؤلفاته ورواياته التي بها مساوئ المجتمع العمراني بطريقة لم يسبقه إليها أحد. ومن أحسن ما نُشر له من آثاره الأدبية بعد موته مجموعة رسائله الغرامية التي كان يبعث بها إلى خطيبته أديل فوشه. وقد أخذنا منها الرسالة الآتية كتبها في ساعة يأس بلغه أن خطيبته ستقترن بغيره إطاعة لرغبة والديها في مثل هذه الأيام من السنة الماضية كنا نعدّ الأيام الباقية لنا من أمد الفراق. واليوم نعدّ الأيام الباقية لنا من حرية التراسل قبل أن تعتزلي إلى بيتكِ الجديد وتتكلفي المعيشة مع الرجل الذي قد اختاره لكِ والداكِ , وأني عالم أنهُ لا يحق لي أن أكاتبك فيما بعد , وإنما تشفع بي ذكرى غرامٍ لا تزال في النفس بقية باقية منهُ. فإن كنتُ أدعوكِ الآن رفيقة صباي فلأني لا أزال أُطرب لذكرى أيامنا الماضية وأحن إلى ربوع صبانا كما يحنّ الفطيم إلى أحصان أمه تلقّيت رسالتكِ الأخيرة مع بريد هذا الصباح فأحببت أن أُجيبكِ عنها قبل أن تنطوي آخر صفحةٍ من استقلالكِ فلا يعود يسوغ لكِ أن تبتسمي لغير زوجكِ أو تهتمي بغير مرضاته. وربما كانت هذه آخر

رسالة مني إليكِ. فائذني لي ان أُخاطبكِ باللهجة التي اعتدتُ مخاطبتكِ بها قبل الآن. لأنك تقولين أن الحب الذي يضمّ قلبينا سيظل ثابتاً إلى الأبد , وإن إكراه أهلك إياكِ على الاقتران بغيري لا يمكن أن ينسيك حبنا القديم وعهد غرامنا المنصرم أراك من خلال رسالتكِ تكتمين عني هموماً ثقيلة الأعباء. فلماذا أنتِ حزينة يا أديل ولماذا تفسحين للهموم مجالاً في فؤادك المثقل بأعباء الغرام؟ إن كان الغد يروعك فإن لكِ من بعده موقفاً تنسين بهِ مواقف الأمس إذ تجدين من حب زوجكِ ما يلهيكِ عن ذكرى غرام فاض بهِ قلبك ردحاً من الدهر ثم انطوت صفحته وانطفأت شعلته , وحلَّ محلَّهُ حبٌ آخر ربما فَتحت لكِ السعادة من ورائهِ أحضاناً رحيبة لعلك تتهمينني بفتور في الحب. ولكن متى عرفتِ أن رسمكِ لا يبرح من مخيّلتي دقيقة واحدة وأن قلبي لا يزال يخفق كلما عَرَض لي ما يذكّرني بكِ , علمتِ أن اليمين التي أقسمتها لكِ تحت تلك الصفصافة سأظلّ اردّدها حتى آخر نفس من الحياة. فافرحي ولا تحزني يا أديل. إن قلباً وقفته على حبّك لن ينفسح لغير رسمك الجميل. ومواقف حبنا هذه أرسخ من أن تعبث بها أيدي الزمان. سحابة وتنقشع يا أديل. فمتى انقشعت لا تعودين تذكرين من أيامنا هذه أكثر مما يذكر الشيخ من أيام طفولته. لأن واجبات الغد ستنسيك أحلام اليوم , ودآء الحب المستحكم فيكِ سيشفيهِ مرور الزمان. وما الذي يهمك غداً ولكِ من ثغور بنيكِ ما ينسيكِ ابتسامة حبيبٍ

قديم، ومن محبة زوجكِ ما يفتح لكِ أبواب فردوسٍ كنت قد أغمضتِ عينيكِ عنهُ قبلاً لتتمتعي بأحلامٍ زائلة؟ فافرحي ولا تحزني لأنني أنا أيضاً أفرح متى رأيتكِ في سعادة وهناء. أرى الحياة مملّة يا أديل. لم أعد أطرب لشيءٍ فيها كما كنت أطرب لها من قبل. لأن الآمال التي كنت أتعلل بها في الأمس قد زالت فصرتُ أرى الحياة أشبه بدور هزلي يلعبه الإنسان في العالم ثم يفسح المجال لشقيّ آخر يجيء بعده. فما الذي يحبّبها إلينا ولا شيء يخلد فيها سوى الآمال؟ نعم إن الآمال كثيرة متشعبة , وأنعشها للنفس ما كان مبعثهُ القلب ومنشأه الحب. ولكن أية لذةٍ للحياة إذا انطوت صفحة تلك الآمال وحلّ محلّها اليأس وانتقلت النفس من حلمٍ هنيءٍ إلى يقظة رائعة. تقولين أنكِ عازمةٌ على الانقطاع عن العالم , والالتجاء إلى دير تقضين فيهِ البقية الباقية لكِ من الحياة. أفما يكفيكِ أن لكِ من قلبي ديراً ليس فيهِ سواك يا أديل؟ ألا يكفيكِ أنكِ تتحوّلين هنالك من عابدة إلى معبودة فتسمعين من مزامير الغرام وأناشيده ما يفتح لروحكِ الطاهرة فردوساً تتنعمين فيهِ؟ فإن خطرَت لكِ فيهِ العبادة فهنالك تجدينها على أسماها وإنما هي موجهة إليكِ عند مذبح الغرام. كنت البارحة في ملهى. . . وكانت عيناي شاخصتين كلَّ الوقت إلى المقصورة التي كنا فيها معاً لآخر مرّة. وكان فيها رجل ضخم الجثة وبرفقتهِ فتاة حسناء في مقتبل العمر وهما يقهقهان لنكات الممثلين ويصفقان لها طرباً. فقلت في نفسي هل هما سعيدان كما كنا في تلك

المقصورة منذ أشهر خلت؟ وهل يمكن أن يبلغا من السعادة ما بلغناه منها في عهد غرامنا القصير؟ ما أطيب قلبك يا أديل! تطلبين مني أن أسامحك وأنتِ تعلمين التي لا أعرف لك سيئة غير ما أسأت بهِ إلى نفسك إذ أحببتني حباً مخلصاً كنت في غنى عنهُ. فحرامٌ عليكِ أن تستذبني نفسك الطاهرة وتنسبي إليها ما هي بريئة منهُ. وإن كانت سيئات البشر كلها من قبيل ما تستذنبين بهِ نفسك فما أقدسها ذنوباً تفتح لمرتكبيها أحضان الآلهة , وتبلغ بهم إلى نعيم تجري من تحتهِ الأنهار. أأنتِ تذنبين يا أديل؟ إذاً من بعدك لا يخطئ في العالم؟ ولمن تبقى أبواب السماء مفتوحة إن هي أُوصدت في وجوه الملائكة؟ لي حاجةٌ إليكِ يا أديل وهي أن تسمحي لي بحفظ صورتك التي أهديتها إليَّ في عيد ميلادكِ الفائت فإنها التعزية الوحيدة الباقية لي بعد مأساتنا هذه. فإِن أنكرتها عليَّ فليس لي إلاَّ أن أُعيدها إليكِ. ولكن ثقي أنك سواء استرجعتها مني أو لم تسترجعيها فإنَّ رسمكِ منقوش في قلبي ولن يمحوه مرور الأيام أو كرور الأعوام. سلام إلى حين اللقاء وراء مرسحنا الفاني. سلام يحمله إليكِ النسيم في اليقظة , والملائكة في الحلم بقلم سليم عبد الأحد فكتور

لقمان الدويبات

لقمان الدويبات قال أرسطو طاليس يُرى على نهر هيبانيس دويبات لا تعيش إلاَّ يوماً واحداً , فالتي تقضي نحبها في الساعة الثامنة من الصباح تُحتضر , والتي تطوي أيامها في الساعة الخامسة من المساء تموت هرماً. وقف أحد كتَّاب الإفرنج على هذا القول الذي نقله شيشرون , فكتب فصلاً يتدفق زلاله حكمةً رائعة , فجاريناه فيهِ فوضعنا هذه الأسطر التالية: لنفرض أنَّ ذكراً من ذكور هذه الدويبات الهيبانية عمَّر نهاراً واحداً لمتانة بنيهِ , واندماج خلقهِ , وتوثيق آرابه , أي أنهُ وُلد مع انبثاق الفجر؛ ثم قضى عمره عاملاً بنشاطً وهمة وكدٍّ وجدٍّ مدة الثواني العديدة

التي تنشأ منها الساعات العشر أو الإثنتا عشرة وهي مدة عمره الطويل. ما عاش هذه الساعات الطوال إلاَّ وقد حنكته التجارب , وعجم عود الزمان , وغمز قناته , فقام بين أخوته وأخواته خطيباً مصقعاً , ذرب اللسان , بليل الريق , جزل الخطاب , قوي العارضة , تخلب أقواله كل سامع. كيف لا يكون كذلك وقد ركِبَ من الأمور أكتافها , واقتعد ظهور المكاره , وحلب الدهر أشطره فأصبح طويل الفكرة , دائم التدُّبر , ولذا لا تعجب إذا قلتُ لك أنهُ غدا لقمان أوانهِ , وسبحان زمانهِ , وسليمان عصره , وقسَّ دهره أجل أنهُ لكذلك لاسيما وقد رأى أنداده ولدَاتهِ , قد اخترمتهم المنية عند الظهر , كأنهم خلائق نجت , كأنهم خلائق نجت , كأنهم خلائق نجت , كأنهم خلائق نجت , كأنهم خلائق نجت , كأنهم خلائق نجت , كأنهم خلائق نجت , كأنهم خلائق نجت , كأنهم خلائق نجت , كأنهم خلائق نجت , كأنهم خلائق نجت , كأنهم خلائق نجت , كأنهم خلائق نجت , كأنهم خلائق نجت نجاة سعيدة من مساوئ الشيخوخة , التي كانت تحلُّ بهم لو كانوا بلغوا مداها. ولهذا يحقّ لهذا الشيخ الجليل , لقمان هذه الدويبات أن يقصّ على أحفاده الأخبار المتواترة التي تروي أموراً كلها عجائب وغرائب لم تدر في خلد أصحاب التواريخ المدوَّنة. وعليهِ , جمعهم ذات يوم , وهم كلهم أقوام من جنسهِ , في مقتبل الشباب , وغض الأهاب , عمرهم ساعة. ثم قال لهم: هلمَّ أيها الشبان اسمعوا وعُوا. . . وما قال هذه الكليمات إلاَّ ورأيتهم جميعهم آذاناً صاغية , وقلوباً واعية. ثم أخذ يتكلم وهو يتحدَّر السيل , ويتدفق تدفق اليعبوب , كأنَّ الله فجَّر ينابيع الحكمة على لسانهِ , وأراه الغيب من وراء ستر رقيق شفاف. أما الجلاَّس فكانوا يطربون بغُرَر تلك الأقوال ,

ويثملون بارتشاف سلاَف الحِكم التي تزري بالدرر الغوال. وكل ما كان يرويهِ عليهم كانوا يقضون منهُ العجب العجَاب , ويطيبون لهُ نفساً , ويودّون أن يسمعوه مدى الأحقاب على أن سماعهم إياه إلى المساء ليس بقليل؛ فهو عندهم بمنزلة أعوامٍ , بل قرون. إذ الغروب عندهم من قَبيل عصر من أعظم عصور الخلق إذا بلغوه. ولنفرض الآن , إن هذه الدويبة الذكر - لقمان ذاك الأوان على نهر هيبانيس - أزمع على الرحيل ومغادرة هذه الدنيا الدنية , لأنهُ أحسّ بدنو أجله لميل شمس النهار إلى المغيب. فجمع جميع أولاده وأحفاده من صلبهِ ولفيف أصدقائهِ ومعارفهِ ليودّعهم وداع الفراق , ويوصيهم وصايا الأخيرة. فاحتشد جميعهم تحت ظل فُطرَةٍ ظليل. فأخذ الشيخ الجليل المحتضر يقول: يا أصدقائي ووطنييَّ , إني أشعر بأن لا بدَّ من نهاية هذه الحياة , لأنهُ كان لها بداءَة. ولقد حان أجلي , وقربت ساعة وفاتي , ولست متأسّفاً على زوال أيامي , وتصرُّم حبل حياتي. فلقد أصبح طول عمري عبئاً ثقيلاً على كاهلي , ولم يبقَ لي في هذه الدنيا ما يُطيّب لي فيها مرارة سُؤر رمقي. هذه الفتن والمحن وضروب النكبات أتلفت دياري , وكثرة البلايا والرزايا أمالت قناتي , وتتالي الأمراض والأدواء التي تحلّ بقومنا استفرغت قواي , وتعاقب المصائب والنوائب التي ألمَّت بأهل بيتي استنفد الدماء الباقي من حياتي. كل هذا , إذا ضُمَّ إلى ما رأيتهُ واختبرتهُ بنفسي

في حياتي هذه الطويلة , تتحققون أن الزمان علمني هذه الحقيقة الثابتة الأركان وهي: ليس قارَّة دائمة على هذه الأرض ولا بإرادتنا , ولاسيما إذا كانت تلك السعادة منوطة بأمور ليست بأيدينا ولا بإرادتنا , بل بمشيئة عنايةٍ غامضة. فلقد رأيتُ طائفة من أقوامنا ماتوا عند هبوب ريح صرصر؛ وشاهدت جماعةً من شبيبتنا المتهوّرة قد غرقت في طحمة سيل جارف؛ وكنت يوماً ممن حضر فرأى مطراً مدراراً أحث طوفاناً عرمرماً اكتسح زرافات زرافت من أبناء وطننا العزيز؛ ولقد تحطمت ديارنا ذات يومٍ كل محطَّم بعد أن سقط بَرَد هائل القدر أمات ربواتٍ وربواتٍ من أخوتنا المظلومين. وزيدوا على ذلك أن قوماً منَّا إذا رأوا سحابةً سوداء قالوا في أنفسهم: إن هذه إلاَّ سحابة قوم عاد إني لقد عشَت في عصور الخلق الأولى , في زمان الفطحل؛ وحادثتُ جماعةً عظيمة من الدويبات كنَّ أطول مني قامة؛ بل كنتُ بجانبهنَّ كأحد بني ياجوج وماجوج , بجنب واحدٍ من بني عُوْج كنَّ ذوات بنيةٍ أقوى من بنيتي , وذوات حكمةٍ تزري بحكمة سليمان. ولهذا اعلموا , يا سادتي , إن كل ما أنطق وأتفوَّه بهِ , لا يشوبهُ ريب , ولا يخامره شك. وليس في نيتي أن أخدع واحداً منكم يا قومي , صدّقوا كل ما أقوله لكم , وتأكَّدوا أن الشمس التي ترونها الآن متسترة وراء المياه , ويخيَّل إلينا أنها غير بعيدة عن الأرض , رأيتها سابقاً قد تكبّدت السماء , قاذفةً سهام أشعتها مصوّبةً إياها علينا؛ وكانت الأرض في ذلك العهد العهيد سابحةً في سبحات وجه الله , أكثر

مما هي عليهِ في هذه العصور المتأخرة؛ وكان الهواء أجف من هذا السكاك , وأحرَّ منهُ؛ وكان أجدادنا الفضلاء أصحاب جدٍّ وكدٍّ وجلَد وقناعة سامية يا قومي , إن حواسّي وإن كان قد فلَّ غربها , وكلَّت شباة ذاكرتي , إلاَّ أني أؤكد لكم أن هذا النجم المتلألئ المجيد , يتحرَّك ويسير. ولقد رأيتُ بزوغهُ الأول من ورآه قمة هذا الطود الباذخ , ونشأتُ في الوقت الذي أخذ يرتفع رويداً رويداً على الأفق , ويخطو بعد ذلك في السماء خطوات جبَّارٍ عنيد من أعظم الجبابرة قوةً وحولاً وطولاً وهولاً. ولقد تقدَّم في السماء تقدُّماً حثيثاً مدة إعصار متطاولة متتالية , وهو يقذف حرارةً غريبة , وأنواراً عجيبة , لا يمكنكم أبداً أن تتصورها , إن لم تروها بعيونكم؛ بل ما كان يمكنكم أن تحتملوا أمريهِ الأمرين أما الآن , وقد قارب الأُفول , وإن يوارى في قبور المياه , أرى أن أفراد هذه الأمة كلها سائرة , بل صائرة إلى الزوال والاضمحلال الوشيك , وتسجَّى هذه الدنيا الغرور بأكفان الظلمات , في أقلّ من مائة من الدقائق واحرَباه! يا أصدقائي , واحرباه! ما أعظم ما كان غروري في سابق العهد , في عنفوان شبابي , وغضاضة إهابي! كنتُ إخالني من الخالدين المقيمين في هذه الأرض! وإن ليس من شيءٍ في هذه الدنيا يستطيع أن يتغلّب عليَّ , ويُفنى جواهر بدني , وعناصره المتركب منها! وكنت إذا نظرت إلى مساكني التي كنت قد نحتّها في الصلصال

المودة

العَلك , كنت أقول: وهل يموت من يقيم في مثل هذه المباني المحكمة البنيان , التي لم يشيّد مثلها سليمان , ولا الإنس ولا الجان! فما أشدَّ ما كانت ثقتي بنفسي , وطمعي بهذه الحياة , وبقوة أعضائي , وبتراكيب مفاصلي ومواصلي , وقوة أجنحتي!!! كل ذلك أصبح كأن لم يكن , لقد عشت للطبيعة وللمجد , لقد عشت لنفسي ولمنفعتي. لقد عشت ولم استفد فائدةً تذكر لآخرتي , لقد عشت في دار الفرار ولم اتخذ عملاً فيهِ الثواب لدار القرار. ولقد أحسن من قال: يا صاحبي أن الزما ... نَ كما علمت وما علمتُهْ يفني الذي جمَّعتُه ... بيدي ويحصد ما زرعتهُْ ويخون مَن صافيتُهُ ... عمداً ويعشق مَن مقتُّهْ وجهلتُهُ فحمدتهُ ... وذممتهُ لمَّا عرفتُهْ ولطالما عاتبتهُ ... حتى على رغمٍ تركتًهْ ساتسنا المودَّة المودة بين الأخيار سريع اتصالها , بطيءٌ انقطاعها. ومثَلُ ذلك كمثَل كوب الذهب , هو بطيء الانكسار , هيّن الإصلاح. والمودَّة بين الأشرار سريع انقطاعها , بطيء اتصالها , كالكوز من الفخار يكسره أدنى عبث , ثم لا وصل له أبداً. والكريم يمنح مودَّته عن لقيةٍ واحدة , أو معرفة يوم؛ واللئيم لا يصلُ أحداً إلا عن رغبة أو رهبة (ابن المقفع)

في رياض الشعر

في رياض الشعر حنين إلى لبنان برح عزتلو داود بك عمُّون القطر المصري إلى باريس للسعي في خدمة جبل لبنان. وقد عثرنا بين أوراقه على الأبيات الآتية فأحببنا أن ننشرها بمناسبة ذلك السعي , وهي تنمُّ على ما في نفس الشاعر من الحب لوطنه والحنين إليه , ولبنان - وهو سويسرا الشرق كما يسمّونه - ما فتئَ منذ القِدَم حتى اليوم موحى الشعر وملهَم البيان. قال: هاج أشواقي إلى الدّمَنِ ... طائرٌ غنَّى على فننِ ايهِ يا قمريُّ أنَّ بنا ... فوق ما يبكيكَ من شجَنِ ولو أن الدمع منطلقٌ ... لهمي كالعارض الهتنِ إنما بالرُّغم أحبسهُ ... خشية التلوام واللسنِ حبذا المصطاف في جبلٍ ... ينطحُ الجوزاَء بالقننِ موئل الأحرار من قدمٍ ... وأباةِ الضيم من زمنِ ليس لبنانٌ لمكتسحٍ ... بضعيف العزم ممتهنِ سل ملوك الروم كيف غدا ... عرشهم مستوهن الركنِ علَّم الأهلون جيشهمُ ... فنّ نظم النحر باللدِنِ فبنو لبنان أسد وغًى ... أُطلقت فيهم يدُ المحنِ واختلاف الدين أورثهم ... عِلل الأحقاد والإحَنِ لبتَ ذا عزمٍ يضمهمُ ... ضمة الأعضاء في البدنِ

فيعيدوا السابقات من المج ... دِ والعلياء للوطنِ يا بني أمّي إذا حضرت ... ساعتي والطبُّ أسلمني اجعلوا في الأرز مقبرتي ... وخدّوا من ثلجه كفني داود عمون جرى في دمعهِ دمهُ به سحرٌ يتيّمهُ ... كلا جفنيك يعلمهُ هما كادا لمهجته ... ومنك الكيد معظمهُ تعذّبهُ بسحرهما ... وتوجدُهُ وتُعدمهُ فلا هاروتَ رقَّ لهُ ... ولا ماروت يرحمهُ وتظلمهُ فلا يشكو ... إلى من ليس يظلمهُ أسرَّ فمات كتماناً ... وباح فخانهُ فمهُ فويح المدنف المعمو ... د حتى البثُ يُحرَمهُ طويل الليل ترحمهُ ... هواتفهُ وأنجمهُ إذا جدَّ الغرام بهِ ... جرى في دمعهِ دمُهُ يكاد لعهده أبداً ... بعادي السقم يسقمهُ ثني الأعناقَ عوَّدُهُ ... وألقى العذرَ لومهُ قضى عشقاً سوى رمق ... إليك غداً يُقدّمهُ عسى أن قيل مات هوى ... تقول اللهُ يرحمهُ فتحيا في مراقدها ... بلفظٍ منك أعظمهُ شوقي

وداع وشكوى جاءتنا القصيدة التالية من الولايات المتحدة وقد قالها شاعرها مودعاً بلاد الشرق شاكياً متألماً , ومستقبلاً العالم الجديد باسماً مؤملاً. والشاعر قد عرَّفتهُ الزهور إلى قرَّائها (س2: ج4: ص214) قال بعد مقدمةٍ وجيزة: ولقد ركبتُ البحرَ يزأر هائجاً ... كالليث فارق شبله بل أحنقا والنفسُ جازعةٌ ولستُ ألومُها ... فالبحر أعظم ما يُخاف ويُتقي فلقد شهدتُ بهِ حكيماً عاقلاً ... ولقد رأيتُ بهِ جهولاً أخرقا مستوفزٌ ما شاَء أن يلهو بنا ... مترفقٌ ما شاء أن يترفقا متحفزٌ وكأنهُ متوقعٌ ... تحتَ الظلام سفينةَ أو زورقا تتنازع الأمواج فيهِ بعضها ... بعضاً على جهلٍ تنازُعَنا البقا بينا يراها الطرفُ سُوراُ قائماً ... فإذا بها حالت فصارت خندقا (نويُوركَ) ياذات البخار بنا أقصدي ... فلعلنا بالغرب ننسى المشرِقا وطنٌ أردناه على حبِّ العلى ... فأبى سوى أن يستكين إلى الشقا كالعبد يخشى - بعدما أفنى الصبى ... يلهو بهِ ساداته - إن يُعتقا أو كلما جاد الزمان بمصلحٍ ... في أهله قالوا طغى وتزندقا فكأنما لم يكفهِ ما قد جَنوا ... وكأنما لم يكفهم أن بنيها مَوثقا ما إن رأيتُ بهِ أديباً موسراً ... فيما رأيتُ ولا جهولا مملقا مشتِ الجهالة فيهِ نسحب ذيلَها ... تيهاً وراح العلمُ يمشي مطرِقا أمسى وأمسى أهله في حالةٍ ... لو أنها تعرو الجماد لأشفقنا

شعبٌ كما شاء التخاذل والهوى ... متفرقٌ ويكاد أن يتمزقا مستضعفٌ إن لم يُصب متملقاً ... يوماً تملَّق إن يُرى متملقا لا يرتضي دين الاله موفّقاً ... بين القلوب ويرتضيهِ مفرِّقا لم يعتقد بالعلم وهو حقائق ... لكنهُ اعتقد العزائم والرقى ولربما كرهَ الجمود وإنما ... صعبٌ على الإنسان أن يتخلقا وعصابةٍ ما إن تُزحزح أحمقاً ... عن رأسها حتى توّلي أحمقا راحت تناصبنا العداَء كأنما ... جئنا فرياً أو ركبنا موبقا بينا الأجانب يعبثون بها كما ... عبثَ الصبا سحراً بأغصان النقا بغداد في خطر ومصر رهينة ... وغداً تنال يد المطامع جلَّقا قيل اعشقوها قلتُ لم تسلم لنا ... معَها قلوبٌ كي نُحبَّ ونَعشقا إن لم تكن ذاتُ البنينِ شفيقة ... هيهات تلقى من بينها مشفقا أصبحتُ حيثُ لا تخشى أذًى ... أبداً وحيثُ الفكرُ يغدو مُطلقا نفسي اخلدي ودعي الحنين فإنما ... جهلٌ بُعيدَ اليوم أن نتشوقا هذي هي الدنيا الجديدة فانظري ... فيها ضياَء العلم كيف تألقا إني ضمنتُ لكِ الحياة شهيةً ... في أهلها والعيش أزهر مونقا (سنسناتي أوهايو) إيليا ظاهر أبو ماضي دموع الحبيب دموعكَ صنها أو فغال بمثلها ... من الدُرِّ إلاَّ عن صوانٍ من الحبِّ فإن تغلب الأشجان قلبك مرِّةً ... على أمرهِ فاذرفْ دموعكَ في قلبي خليل مطران

كرامة المرأة يا ربَّنا أجِرِ العذارى ... من كيدِ مَن خلَع العِذارا أجرِ الحسان الساذجا ... تِ ونجِّ الأحداثَ الصغارا من كلّ فظٍّ في السما ... جة والوقاحةِ لا يباري سكران سكَر جهالةٍ ... ولربما شرب العقارا ألِفَ القبيح فما يُبا ... لي أن يجرَّ عليهِ عارا يمشي ويثني عطفَهُ ... وكأنَّ في عينيهِ نارا أو يغتدي متقلداً ... خُلُقاً ووجهاً مستعارا وإذا رأى منهنَّ وا ... حدة تبسَّم أو أشارا أو راح يتبعُها ويأ ... ملُ أن يزور وأن تزارا حتى يطوفَ ببيتها ... ليلاً ويرصده نهارا ما أوفرَ العثراتِ لل ... غاداتِ وُقّيت العثارا من كل سافرة تودُّ ... لو أنها اتخذتْ ستارا كي لا ترى سافرة ثقلاء ين ... عنهمُ الطرفُ احتقارا وخريدة لولا الخما ... رُ حياؤها كان الخمارا تمضي لحاجتها ولا ... ترنو يميناً أو يساراً لا سمعَ تلقيهِ إلى ... ما قيل سرًّا أو جهارا هي واللواتي مثلها ... يفعلنَ ذاك ولا فَخارا يحسَبْنَ تطرئه الوجو ... هـ على محاسنها شنارا أولاءِ ربَّات الفضا ... ئل قد رفعنَ لها منارا

لكن من الغادات مَن ... لا اسما يَصُنَّ ولا إزارا أولعنَ بالأساق فه ... ي لهنَّ ما برحتْ مزارا يمشينَ فيها لا حيا ... َء ولا احتشامَ ولا وقارا متأوداتٍ كالقنا ... مترنّحاتٍ كالسكارى يُبرزنَ أجياداً كأج ... ياد الظباء ولا نفارا وترائباً لصقَ المش ... دُّ بجانبيها واستدارا أو يرتدنَ ملابساً ... شفَّافة عما توارى ويُجلنَ في من حوله ... نَّ لو احظاً ترنو حيارى خلاَّبةَ في قلب عا ... شقهنَّ يُضرمنَ الأوارا ولقد يكنَّ عقائلا ... يُولين ذا الجهلَ اغترارا أشكالهن المصيبا ... تُ تثير في النفس المثارا تُغري بهنَّ المستها ... مَ فؤادُهُ والمستطارا يامن تليقُ بها الكرا ... مة حاذري ذاك الصَّغارا صوني جمالاً طالما ... أولاكِ تيهاً وافتخارا لا كان حسنٌ فيكِ لم ... يكن العفاف له شعارا نقولا رزق الله أنين القوس عجباً تلومُ على الجوى دَنِفاً ... أضناهُ بُعدُ حبيبهِ غمَّا فالقوسُ لا قلبٌ ولا كبدٌ ... وتئنُّ عند فراقها السَّهما وليم غرزوزي

نقيب الأشراف

نقيب الأشراف وشيخ مشايخ الطرق نشرنا في الزهور (س3: ج2: ص90) صورة سعادة السيد علي يوسف بمناسبة إسناد منصب مشيخة السادة الوفائية إليهِ. وذكرنا أن سمو الجناب العالي قد ولَّى سماحة السيد عبد الحميد أفندي البكري منصب نقابة الأشراف ومشيخة الطرق الصوفية؛ ولكننا لم نتمكن من نشر صورة فضيلتهِ لأننا لم نظفر بها يومئذ

السيّد عبد الحميد هو نجل نقيب الأشراف المغفور له السيد عبد الباقي البكري يتتوَّجُ بالشرف النبويّ من جهة سيدنا الحسن رضي الله عنه ويقبض بيمناه النسب الأسمى الصدّيقي , ويسراه على النسب العُمَري الفاروقي؛ فالشرف محيطٌ بهِ من سائر الأطراف , متدلٍّ عليهِ من جميع الأكناف وُلد سماحتهُ سنة 1293هـ وتلقّى عن جماعةٍ من الفضلاء , فأخذ اللغة عن العلاّمة الشيخ محمد محمود الشنقيطي حتى برع فيها؛ وتلقّى النحو والفقه وسائر العلوم على الشيخ حسن السقَّا خطيب الأزهر؛ وتعلَّم اللغة الفرنسوية فقرأ بها الكتب الرئيسة في علم التاريخ وفلسفته وعلوم العمران حتى أصبح له في كلّ منها ملكةٌ عالية وقد رأينا أن نذكر شيئاً عن هذين المنصبين الساميين اللذين أُسندا إلى سماحتهِ لما في ذلك من الفائدة مشيخة المشايخ الصوفية مشيخة الطرق الصوفية من المناصب الدينية التي حدثت بع حدوث الصوفية. ولصاحبها التكلم على جميع الطرق. والشأن في هذه الطرق أن لكل طريقة شيخاً ولكل شيخ خلفاء في القرى والأمصار ولكل خليفة مريدين. فالشيخ يدير أمر الخلفاء والخلفاء , أمر المريدين من حيث إرشادهم ومراقبتهم وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر وتربيتهم

ونحو ذلك. ولشيخ المشايخ الولاية العامة على الجميع. ولم يكن للصوفية مشيخة عامة ترجع إليها أعمالهم وتتوحّد بها مقاصدهم بل كانت كل طريقة أو زاوية مستقلة بنفسها فكانت الفتن تكثر بسبب ذلك. فلما أنشأ السلطان صلاح الدين الأيوبي خانقاه سعيد السعداء وسماها دويرة الصوفية جعل لشيخها شبه تقدّم على غيره من المشايخ وكان لا يولّي عليها إلاَّ أعاظم رجال الدولة من الأكابر والأعيان كأولاد شيخ الشيوخ بن حموية مع ما كان لهم من الوزارة والإمارة وتدبير الدولة وقيادة الجيوش: ووليها ذو الرئاستين الوزير الصاحب تقي الدين عبد الرحمن بن بنت الأعز وغيره. وما زالت الحال كذلك إلى أن توجّدت رئاسة الصوفية بمصر في القرن التاسع للهجرة فجعلت الولاية فيها للسيد محمد شمس الدين البكري وكان من أعظم رجال عصره علماً وديناً. قال الشعراني عنهُ (ولو قلت أنهُ أعلم أهل زمانه لم أبعد عن الصواب) ثم تولّى بعده ابنه الإمام شيخ الإسلام العلاَّمة الشهير أبو السرور والبكري وانتقلت بعده إلى ذريته ولا تزال إلى الآن في البيت البكري الصديقي بمصر نقابة الأشراف الشرف هو بمعنى الرفعة. وكان يطلق في الجاهلية على عظماء العرب. فلما جاء الإسلام خصَّه بيوتات قريش. وجعلهم أكفاء في النسب وما عداهم ليس بكفؤ لهم. ومن هذه البيوتات بيت هاشم وجاء الإسلام

ورئيسه العباس بن عبد المطلب. وبيت تيم بن مرة وجاء الإسلام ورئيسه أبو بكر وبيت عدي وجاء الإسلام ورئيسه عمر هكذا. قال الفرزدق في هذا المعنى: ما حملت ناقة من معشر رجلاً ... مثلي إذا الريح لفتني على الكورِ حاشا قريشاً فإن الله فضَّلهم ... على البرية بالإحسان والخير ولهذا نجد في كتب التاريخ والدروج القديمة فلاناً الشريف العباسي وفلاناً الشريف العلويّ ونحو ذلك. وأما حصر الشرف في ذرية الحسن والحسين رضي الله عنهما فهو بدعة حصلت في زمن الخلفاء الفاطمين. قال الإمام ابن الحاج وتخصيص الشرف بذرية السبطين ليس بشرعي اهـ وقد حرص القوم منذ الصدر الأول على حفظ أنساب تلك البيوتات فأحدثوا وظيفة نقابة الأشراف. وهي وظيفة عامة تشمل التكلم والنظر في أنساب جميع الأشراف من أهل تلك البيوتات. وربما كان تحت إدارتها عند تكاثر ذرية بعض الروع نقابات أخرى فرعية كنقابة الطالبيين ونقابة العباسيين ونحوهم أما مركز هذه الوظيفة فكان من الرفعة والجلالة في المكان المكين. وهذا الشريف الرضي نقيب بغداد يخاطب الخليفة بقوله: عطفاً أمير المؤمنين فإننا ... في دوحة العلياء لا نتفرُّقُ ما بيننا يوم الفخار تفاوتٌ ... أبداً كلانا في المعالي مُعرقُ إلاَّ الخلافة ميَّزتكَ فإنني ... أنا عاطلٌ منها وأنت مطوَّقُ ولا يزال نقيب الأشراف في الدولة العلية يقدَّم في التشريفات

تربية الطفل

الرسمية على جميع رجال الدولة حتى الصدر الأعظم وشيخ الإسلام. ولم تزل هذه الوظيفة في البيت البكري من القرن الثاني عشر إلى الآن لم تخرج منه إلا بريهات يسيرة وأول من تولاها من رجاله السيد محمد أفندي البكري تربية الطفل أوقات الرضاعة يرضع الطفل في أوقات منتظمة بعد اليوم الثاني أو الثالث , وإذا كان نائماً يوقظ بلطف متى جاءَ وقت الرضاعة. ولا يمضي إلا القليل من الوقت حتى يتعود الطفل أن يستيقظ من تلقاء نفسه وقت الرضاعة , وينام بعدها. فإذا رضع الطفل في أوقات منتظمة نما النموَّ الاعتيادي , وحسنت صحته. وأما إرضاع الطفل بغير انتظام , وكلما بكى , فتلك طريقة رديئة تلبّكُ معدته فتفسد صحته. فإذا بكى الطفل , أو لم ينم وهو في مهده , وجب على الأم أن تلاطفه قليلا وأن تتحقق من بكاءه ليس بناشئ عن ألم أو قلق أو غير ذلك , فيهدأ ويرقد مطمئناً. يرضع الطفل , بعد اليوم الثالث , مرة كل ساعتين أثناء النهار , ومرتين أثناء الليل في المواعيد التالية: الساعة 5 و7 و9 و11صباحاً؛ و1 و3 و5 و7 و10 مساء والساعة 1. 30 صباحاً. وتراعى هذه المواعيد حتى يبلغ الطفل الأسبوع السادس. ووقتئذ يمكن تطويل الفترات بين

الرضعتين حتى تصير الفترة ساعتين ونصفاًُ , وبذلك غذاءَ أكثر مما يحتاج إليهِ , فلا ترتيبك المعدة ولا يعسر الهضم. ولما كان لبن الأم يكثر في الثدي إلى الشهر السابع أو العاشر وجب الاحتراس من إتخام الطفل بكثرة الرضاعة. وبعض الأطفال ينام من الساعة العاشرة مساء إلى الساعة الرابعة أو الخامسة صباحاً ومثل هؤلاء الأطفال لا يلزم إزعاجهم إذا حسنت صحتهم وكان وزنهم مناسباً لعمرهم. ويحتاج الطفل عند بلوغه الشهر الثالث إلى 8 رضعات في كل 24 ساعة , ويكفي البعض 7 رضعات , ومتى بلغ الشهر السادس يُرضع سبع مرات. ولحالة الطفل الصحيحة وكمية لبن الأم ونوعه شأن كبير في تنظيم أوقات الرضاعة. غير أننا نقول بوجه عام أنهُ يجب في الأشهر الأولى تكثير عدد الرضعات وتقليل كمية الرضاعة , وكلما تقدم الطفل في العمر يُقلل عدد الرضعات وتزداد كمية الرضاعة أعظم راحة للوالدة وأكبر فائدة للمولد. فإنهُ إذا تعوَّد أخذ غذائهِ في أوقات مقررة لا يعود يشغل والدته في كل ساعة من النهار ويؤرّقها في كل فترة من الليل فيحرمها الراحة ويصرفها عن كل عمل , بل يصير يكتفي بالمواعيد المخصصة له ويسهل على معدته القيام بوظيفتها. فلتراعِ الأمهات هذه القواعد يجدنَ راحة لهنَّ وفائدة لأولدهنَّ.

الأُم وطفلها كما أن الطفل قد استمدَّ حياته قبل ولادته من أُمه , فهو كذل يستمدُّها منها بعد ولادته إلى أن تنبت أسنانه؛ ولذلك يحسن أن تُرضع الأم طفلها بنفسها إذا استطاعت؛ ولا تتوهم الوالدات أن الرضاعة تضعفهنَّ بل هي بالعكس تزيدهنَّ صحةً ونشاطاً , ما لم يجهدنَ أنفسهنَّ في أعمال أخرى. تأثير الغذاء والشرب والدراء في لبن الأم يظن البعض أن الأم يمكنها أن تتناول أي صنف من أصناف الغذاء , وأن تأكل منهُ ما شاءَت دون ضرر على الطفل. ذلك رأي فاسد لأن اللبن من الدم , والدم من الغذاء والشرب , فهو يتنوّع باختلاف الغذاء. ولا يخفي كيف يكون لبن البقر حلو الطعم لذيذاً إذا اقتصر غذاؤها على البرسيم والتبن؛ وبالعكس فاللبن يكون رديئاً إذا أكلت من البصل والحشائش المختلفة. وكم تقاسي الأطفال من الأمراض الجلدية وخلافها إذا لم تحتط الأمهات اللائي يرضعنَ أولادهنَّ في غذائهنَّ. ولذا يلزم أن يكون غذاء الأم كافياً وجيداً خالياً من الخضروات والبقول التي تنفرز مع اللبن , فتغيّر طعمه وينفر منه الطفل كالجزر والبصل والجرجير والثوم والخرشوف. كما يلزم أن يكون خالياً من الفواكه غير الناضجة والتوت البدي والإفرنجي (الفريز) لأن هذه الأشياء قد تحدث مغصاً عند الطفل الدكتور محمد عبد الحميد

مصر وسوريا

مصر وسوريا إنهُ ليلَذُّ لنا كلما سنحت الفرصة أن نجمع بين هذين الاسمين العزيزين , ونذكرهما متدّحين في كل مكرمة ومأثرة. وقد عرف القراء مساعي الزهور المتواصلة في هذا السبيل , واطَّلعوا على كتابتها الكثيرة في هذا الموضوع. وإنهُ ليروقنا وإيم الحق أن نرى في هذه الأيام الفرَص سانحة للشدو بما نشاهدها من إحكام روابط الإِخاء الأدبي بين القطرين الشقيقين , والتغنّي بما نراه من التضامن بينهما. إن مثل هذا التضامن يظهر عادة بأبهى مظاهره إبّان النوائب والمحن. وقد كان لنا برهانٌ حسبيٌّ على ذلك في هذه السنة , حيث توالت النكبات على سوريا , فهبَّتْ شقيقتها مصر هبّةً واحدة تعطف عليها , وتسكب بلسم التعزية والحنان على جراحاتها. أدمت قنابل الطليان قلب بيروت , فحرّكت المروءة والإنسانية قلب الأمير النبيل محمد علي باشا , شقيق الجناب العالي , فألّف تحت رئاستهِ لجنةً من سراة مصر وأعيانها , فأقاموا في الأوبّرا تلك الحفلة الشائقة التي تُعدّ أجمل صفحةٍ في تاريخ علائق القطرين , فتجلى فيها الكرم المصري بأشرف مجاليه , وإنهال الذهب مدراراً لمؤساة المصابين. وقد خلّدت الزهور ذكر تلك الليلة البيضاء في الكُتيّب الذي أصدرته خصيصاً لهذا الموضوع فقلنا حينئذٍ: ليس لمستزيدٍ من مزيد!. وكان بعد ذلك أن نُكِبَت دمشق بحريقها الهائل , وأصابها من الخسائر ما جعل الناس يحجمون في بداية الأمر عن استنداء الأكفّ للتعويض , إذ ما عسى أن تعوّض المئات والألوف عن الملايين. ثم كتب كاتب مجهول على صفحات الجرائد يقول: كنا نودّ أن نعرف مصراً ثانية تعطف على دمشق عطف مصر على بيروت. . . فكبر مثل هذا القول على مصر , وأبتْ أن يكون هتاك مصر ثانية تُباريها في المكرمات , أو أن يكون يَدٌ تسبقُ يدها في تضميد جراح شقيقتها فهبّت لمساعدة دمشق , هبَّتها لمساعدة بيروت , وقام مقام الأمير محمد علي الموجود الآن في أميركا , أميرُ آخر من الأسرة العلويّة , فالتفّت حولهُ لجنةٌ جديدة

من أكابر المصريين لإحياء أربع ليالٍ ينفق ريعها على المصابين من الدمشقيين فلم نتمالك لدى هذا المشهد من ترديد قول القائل: نجومُ سماءِ كلما غاب كوكبٌ ... بدا كوكبٌ تأوي إليه كواكبُهْ وما الأمير الجديد إلاّ دولة البرنس عمر باشا طومسون الذي عدّ نفسه سعيداً في انتهاز هذه الفرصة لخدمة الإنسانية كما قال في التلغراف الذي أرسله من الإسكندرية لسغادتلو سليم بك أيوب ثابت. فهكذا يكون التلطّف بعمل البرّ. وقد طلب إلينا كثيرون من قرَّائنا السوريين أن نزيدهم معرفة بهؤلاء السراة الأماثل بنشر صوَرهم. وهذا واجب فطنّا له يوم زينّا الزهور بصورة دولة رئيس اللجنة. ولكن حال دون رغبتنا تمنّع الكريم عن التباهي بعمله ولو عظيماً.

على أننا ما زلنا بذلك حتى فزنا ببعض المرام. فمن أعضاء هذه اللجنة الكريمة صاحب السعادة عزيز باشا عزَّت , زكيل نظارة الخارجية سابقاً؛ وهو من أهل البيوتات , وله المجد المؤثّل والجاه العريض , وصلة قربى بالأسرة المالكة في وادي النيل. وقد زان ذلك المجد التالد بأخلاق غُرٍّ ومناقب عالية تسْتميل إليه كلِّ من جلسه؛ فهو ممن يصدق ما يُعبّر عنهُ لانكليز بلفظة جنتامن أما سعادة محمود باشا رياض فهو سليل أسرة رفيعة الدعائم وفرع دوحة ليس في أرض النيل من لا يعرفها ويعرف ما لها على مصر من الآثار الطيبات؛ ونعني بها أسرة الوزير الخطير ساكن الجنان رياض باشا صاحب المواقف المشهورة في تاريخ

السياسة المصرية. وقد تقلَّب صاحب هذا الرسم في عدَّة مناصب سامية لم يترك أحدها إلاَّ وقد ترك آثاراً تبعث على الحاجة إليه في ما هو أسمى منها فكان مديراً لأسيوط فمديراً للمنيا فوكيلاً لنظارة الداخلية. وهو اليوم معتزل ميدان السياسة بعد أن خلد له فيها آثاراً غراء ستعيش إلى زمن طويل. أما سعادة حسين باشا واصف فإنهُ من الرجال الذين يشهد لهم تاريخهم بالفضل والتفوُّق فإنك إذا تتبعت سيرتهُ منذ عودته من فرنسا حاملاً لشهادة الحقوق العليا , إلى تولّيه منصب القضاء في المحاكم المختلطة ثم تدرجّه فيها إلى أن أصبح وكيلاً لنظارة الحقانية , تجد له في جميع تلك المناصب آثاراً غرآء , ومآثر عديدة في ترقية شأن القضاء الأهلي. ثم دخل في سلك الإدارة فتولّى مديرّيتي المنيا وقا فمحافظة

السويس. ثم اعتزل المناصب بناء على رغبته ليتفرّغ للمشروعات الأدبية المفيدة. ومن آثاره الطيبة المدرسة الواصفية التي يتخرَّج فيها نفرٌ عديد من رجال المستقبل. وأما سعادة خليل باشا خياط فإنهُ من السراة المعدودين في هذه البلاد جاءها منذ عهد بعيد وله من الهمة ما ينزع بهِ إلى أسمى الذرى فجعل يعطف على كل المشروعات الكبيرة حتى عُرف ببعد الهمَّة والغيرة الوطنية وأصبح في كل مشروع يدٌ وفي كل مأثرةٍ باع. ولا نخال أحداً من القراء يجهل ما لهذا الشهم الهمام من الغرر المحمودة في سائر الوقائع التي ظهر فيها سكان هذه البلاد بما يسجل الفخر للشرقي في بطون الأوراق. ومن ألقى نظرة عمومية على العهد الأخير من تاريخ المشروعات الخيرية النافعة في مصر تجسّمت لمخيّلته همة الخياط السامية وماله من المحسنات.

ومن أعضاء هذه اللجنة سعادة الشهم الأبيّ عبد الرحيم باشا صبري المعروف بنزاهة المبدأ , والجامع بين الوقار والاتضاع والخلق الكريم مما حلّته به التربية الصحيحة , وأكسبه إياه اختلاطه بالعظماء والكبراء إبَّان وجوده في وظيفة تشريفاتي خديوي. وهي من الوظائف التي يقلّدها سموّ العزيز مَن كان كصبري باشا متحلياً بحيرة الصفات وغرر المواهب. وقد كان أمين صندوق اللجنة شابٌّ في مقتبل العمر عُرف بالجدّ والنشاط والمثابرة على العمل هو حبيب أفندي لطف الله نجل حضرة الوجيه الفاضل حبيب بك لطف الله المثري المشهور. ويرى القارئ رسمهُ بالثوب العسكري يوم كان في الجيش المصري في السودان. أو ليس في تجنّدِ هذا الشاب الذي والد وربي في

النعمة والترف على بُعد همته , وفهمه معنى الحياة الحقيقي؟ ولقد أبدى من الغيرة على إنجاح مشروع اللجنة ما يخلّد له في بيروت أجل ذكر هذا ونحن نأسف لأننا لم ننوفَّق إلى صوَر سائر من بقي من أعضاء اللجنة كأصحاب السعادة محمد الشواربي باشا منشئ مستشفى قليوب الشهير من ماله الخاص , وإسماعيل باشا صبري الشاعر النابغة , وحسن باشا مدكور سرّ تجار العاصمة , وإسماعيل باشا أباظة الوطني الجريء , ونجيب باشا شكور المهندس والإداري المشهور , ورفيق بك العظم الكاتب القدير ولابدَّ لنا في هذا المقام من المجاهرة بما كان لسعادة سليم بك أيوب ثابت من المساعي المأثورة في سبيل هذا العمل المبرور , ومن الهمة في ضمّ أواصر القطرين الشقيقين , فقد كان بفضل ما أُوتيهِ من الذكاء الوقَّاد , والسياسة الحسنة , وما عُرف به من المحبة الصادقة لوطنه , روحَ هذه الحركة المؤدية إلى تلك الغاية النبيلة , وسيذكر له منكوبو حادثة بيروت مأثرته هذه بالشكر الجزيل.

نوابغ مصر

نوابغ مصر كانت الزهور قد اقترحت على قرَّائها س3: ج2: ص89 أن يذكروا أسماءَ العشرة الذين تصحُّ تسميتهم بنوابغ مصر في الأيام الحاضرة فلاقى هذا الاقتراح ارتياحاً عظيماً بدليل كثرة الأجوبة التي وردت من مصر وسوريا وأميريكا من المشتركين وغيرهم من القرَّاء , ويظهر أن هؤلاء ليسوا بالنزر واليسير , وقد استكبر البعض لفظة النابغة فرأى أننا طلبنا كثيراً بطلب عشرة نوابغ. وفهم البعض الآخر أننا إنما نعني في الحقيقة بهذه الكلمة كلَّ رجلٍ كبير فاضل يحقُّ لمصر أن تفاخر بهِ فرأى أننا ضيَّقنا النطاق بطلب عشرة فقط. ولاحظ علينا فريقٌ أنهُ كان الأجدر بنا أن نحصر الجواب على هذا السؤال ببعض الأفاضل الذين يعتدُّ بآرائهم فتجيء النتيجة معبّرة عن رأي الخاصة المفكّرين لا عن رأي العامة وجه الإطلاق. غير أننا في اقتراحنا لم نرمِ إلى كل هذه الأمور , بل أحببنا أن نجسّ نبض الرأي العام فنعرف من هم العشرة الذين يمثّلون في نظر الأمة بوجه عام الفئة الممتازة التي تُعدُّ في طليعة البلاد عقلاً وفضلاً , ولا نوافق من أنكر علينا وجود النوابغ في بلادنا. فمن جهةٍ كلُّ شيء في هذا العالم يُقاس بالنسبة ويكون الحكم عليه نسبياً. فالرابية الصغيرة تعدُّ في عين الطفل طوداً شامخاً , والأستاذ في عين تلميذه عالماً تحريراً وقس على ذلك. ومن جهة ثانية فإن في البلاد فئة تفرَّدت بصفاتها العقلية والأدبية ولو أُتيحت لها أحوال أكثر موافقةً لأعربت عن نبوغها ببراهين حسيّة

ذكرنا ذلك ردًّا على ما علّق بهِ بعض المجاوبين على أجوبتهم. ولا نجزم بأن حكمهم سيكون يوماً حكم التاريخ؛ فكم من شهير عظيم في حياته , تضمحلّ شهرته , ويصبح نسياً منسياً بعد مماتهِ. هذا ما لاحظهُ البعض علينا. ومما لاحظناه نحن أنهُ كان للصحف تأثيرٌ كبير في حكم فريقٍ من المجاوبين. فإن الجرائد أكسبت قوماً منا شهرةً جعلت لهم مقاماً رفيعاً في أعين العامة. ومما يجدر بالذكر خصوصاً أن رجال القلم هم أرفع من سواهم في النفوس بدليل أن معظم نوابغنا أن لم نقل كلّهم من الكتَّاب والشعراء كما سترى. ولا يُستغرب ذلك لأن حملة الأقلام هم قادة الأفكار ويسهل عليهم أكثر من سواهم عرض مواهبهم العقلية على أبناء جلدتهم. على أن هذا الحكم في بلادنا أعمّ مما في سواها لعدم وجود نوابغ عندنا في العلوم والفنون والصنائع والتجارة. وها نحن ذاكرون نتيجة الأجوبة التي وردت على اقتراحنا , وليس في من ستقرأ أسماءَهم إلاَّ كلُّ فاضل نجيب: أحمد بك شوقي 370 صوتاً السيد علي يوسف 307 أصوات حافظ بك إبراهيم 305 أصوات جرجي أفندي زيدان 289 صوتاً الدكتور يعقوب صرُّوف 271 صوتاً سعد باشا زغلول 269 صوتاً ولي الدين بك يكن 267 صوتاً الدكتور فارس نمر 264 صوتاً أحمد زكي باشا 259 صوتاً خليل أفندي مطران 254 صوتاً هؤلاء هم العشرة الذين أحرزوا أصواتاً أكثر من سواهم. ويليهم إسماعيل باشا صبري والسيد مصطفى لطفي المنفلوطي وفتحي باشا زغلول وأحمد بك لطفي السيد وعبد الخالق باشا ثروت وعلي باشا أبو الفتوح

أزهار وأشواك

ويوسف باشا سابا والشيخ محمد بخيت. وتوزَّعت أصواتٌ على كثيرين غيرهم وممن ذُكروا بين النوابغ جورج أفندي أبيض في فن التمثيل؛ وسمعان بك صيدناوي في التجارة؛ ونجيب بك هواويني في الخط؛ والشيخ سلامه حجازي وعبد الحي أفندي حلمي وإبراهيم أفندي القباني في الغناء والتلحين. وحسبو بك محمد في الصناعة. ولم ينسَ القراء سيداتنا الأديبات. فنالت السيدة لبيبة هاشم والسيدة ملَك ناصف باحثة في البادية والآنسة مي أصواتاً غير قليلة. وقد ذكر بعض الظرفاء على سبيل الفكاهة مَن يعدُّون نوابغ في نوعهم , كحافظ نجيب المحتال الشهير , والحاتي في شيّ اللحم الخ. . ومن هذه النتيجة يرى القراءُ مرآة للرأي العام في رجال مصر في هذا العصر. فنرجو أن يزداد عدد نوابغنا الأعلام في كل فنٍ وعلم وحرفة حتى يعيدوا للشرق مجده القديم وفخره الغابر. أزهار وأشواك كان سبب انقطاعي عن محادثة القرَّاء على غير إرادة مني. وها أنا اليوم عائد إليهم ببعض ما جنيت لهم. كانت الأزهار والأشواك كثيرة في هذه المدة , ولا عجب فإننا كنا في فصل الربيع. على أن بقاءها شهرين متواليين في جعبتي قد أفقد الأزهار بهجتها , وكسر من الأشواك حدّتها. فطرحتُ بكثير منها على الطريق. غرق تيتانيك هي الباخرة الكبرى التي أقلُّ ما يُقال في وصفها أنها كانت مدينة عائمة على

وجه المياه. تفاصيل غرقها - وقد عرفها القرّاء - مما تقشعرّ له الأبدان؛ وتصوُّر الفاجعة التي حدثت في وسط الأوقيانس , بين الماء والسماء , مما تنخلع له القلوب. لا أحاول إعادة ما رددتهُ الصحف عن عظمة تيتانيك وهول نكبتها؛ بل أنا ذاكرٌ للقراء بعض خواطر دوّنتها لهم: تيتانيك نسبة إلى التيتان , وهم , في خرافات الأقدمين , طائفة من الجبابرة تمرّدوا على جوبيتر فصعقهم صعقاً. وكأن الإنسان الذي توصل بقوة ذكائه إلى تذليل القوى الطبيعية , فسخّر لخدمته الماء والهواء وسائر العناصر , قد غالى بفوزه , فأحبَّت الطبيعية أن تنتقم لنفسها: جبل من الجليد انفصل عن البحّار المتجلدة وصدم تلك الباخرة فذهب بها وبمن عليها , فيا لله من انتقام الطبيعية! وقد كان بين ضحايا هذه الفاجعة رجل من أبناء سوريا هو المرحوم إبراهيم المشعلاني. أخصُّهُ بالذكر لأنه كان يتولى إدارة الجريدة التي كانت تصدر في الباخرة يومياً , وتتلقى أخبار العالم بالتلغراف اللاسلكي. غريبٌ في السوريّ هذا الميل إلى الصحافة أينما حل وحيثما وُجد. ولا أُغالي في قولي أنهُ إذا كان في العالم الثاني جرائد ومجلات سيكون كتابها في الجنة وفي الجحيم من أبناء سوريا حافظ بك إبراهيم هطلت في الأسبوع الماضي على موظفي الحكومة مزنُ الألقاب والرتب السنوية , فأصابت الرتبة الثانية الشاعر الكبير حافظ إبراهيم , وكيل الكتبخانة الخديوية. فأصبح حافظ عزتلو بك. ولا تسل عن فرح الشعراءِ وزمرة الأدباء , فإنهم استبشروا بهذا الإنعام , وباتوا يؤملون من ورائه خيراً وأيقنوا أن أدبهم سيرفعهم يوماً إلى أعلى المناصب والرتب , بعدما كان عليهم مجلبةَ شقاءٍ ونصَب. لا اعتراض لي على هذا الأنعام الذي صادف محله كما تقول الصحف عادةً. بل أني اثني مع المثنين على حكومتنا الخديوية التي أخذت تقدر الأدباء قدرهم. وسألبي الدعوة التي جاءتني من سليم سركيس وداود بركات إلى الاحتفال الذي سيقيمه في الكونتيننتال جمهورٌ من أدباء وادي النيل برئاسة شوقي بك إكراماً للشاعر إليك. غير أنني

لا أرى رأي الذين يرون أن أقدر حافظ قد زاد بتبييكه فلهو , في حكمي وحكم التاريخ , مجرَّداً عن كل لقب اسمي وأشهر منه محلَّي بأعظم الألقاب , فإذا أنت قلت الشاعر حافظ إبراهيم عرفه كل الناطقين بالضاد , وإذا قلت عزتلو الوجيه الفاضل حافظ بك إبراهيم قد لا يعرفه إلاَّ بوّاب منزله وفرّاش الكتبخانة. وقد قال لي أحد الظرفاء عن الأنعام بالرتبة الثانية على شاعرنا إن شعره رفعه إلى الرتبة الأولى , ولمَّا توظف , سكت , فأنزله سكوته إلى رتبة الثانية الرتب والألقاب مهما أطنب الإنسان بمدح المساواة , لا يزال في فطرته ميالاً إلى علاماتٍ تميّزه عن سائر أبناء جنسهِ , مشغوفاً بألقابٍ ترفعهُ عن عامة الناس. لأن العامة تُكرم صاحب الرتبة , وتنظر إلى حامل اللقب بغير العين التي تنظر بها إلى مَن كان خلواً منه , حتى رأينا الأميركان أنفسهم , وقد حظّرت عليهم قوانين بلادهم حمل ألقاب الشرف , يسعون في تزويج بناتهم صاحبات الألوف والملايين بحملة الألقاب علّ العدوى تسير إليهم. . . على أن هذه الفئة من الناس قد تكاثر عديدها , حتى أصبح الامتياز بعدم الحصول على لقب امتياز. يذكّرنا ذلك بكلمة تُروى عن ريشليو الكردينال الوزير على عهد لويس الثالث عشر , فإنهُ لما كان يسعى إلى كسر شوكة الأشراف , أخذ ينعم بألقاب الشرف على عامة الناس حتى يساويهم بغيرهم , وقد قال مشيراً إلى ذلك: سأجود بالألقاب على معظم الرعية , حتى يصبح من العار أن يحمل الإنسان لقباً , كما يصبح من العار عليهِ أن يكون بلا لقب. وقد اتفق في الأيام الأخيرة أن كاتب إدارة الزهور أردف في عنوانٍ كتبهُ اسم أحد أعيان البلاد بلقب بك فورد على الإدارة كتابٌ من الوجيه المذكور يطلب فيهِ استبدال البكوية بالأفندية رجوعاً إلى الحقيقة. ولعمري أنها لمأثرة تُذكر في هذه الأيام حيث أصبح منتحلو البكوية والبشوية لا يحصرهم عدٌّ.

قليلٌ من السياسة يعلم الله أني لا أحب السياسة ولا أنا منها , وقرّائي أيضاً يعرفون ذلك. وإذا كان قلمي يخط عنها اليوم كلمةً فلعلاقة بينها وبين مشتركي الزهور: في بلاد السلطنة العثمانية حزبان سياسيان - الاتحاديون والائتلافيون - ولكليهما خطةٌ ورجال. وإذا كنتُ أنا - لجهلي بالسياسة - لا أرى بينهما إلاّ الفرق الذي يراه اللغويون بين اتّحد وائتلف فالظاهر أنه يوجد هناك في الواقع فرقٌ عظيم جداً , بدليل تلك الحرب الطاحنة التي شبت نيرانها إبّان الانتخابات , فدارت فيها الدائرة على حزب الائتلاف , وكانت النتيجة إقفال صحفٍ كثيرة ومحاكمة أو نفي صحافيين عديدين. أما علاقة هذه الحوادث بهذه المجلة , فهي أن للزهور في بلاد السلطنة مشتركين , وهم لا يخرجون عن أن يكونوا من رجال أحد الحزبين , لأنهم والحمد لله من قادة الأفكار وزعماء القوم. فرأيناهم , بعد انجلاء المعمعة , فريقاً منهم في مجلس النواب متربعين , وفريقاً آخر في طي السجون معتقلين. قضية قديمة بين الإله الخلاَّق , وجماعة العشاق , قضية قديمة: خلق الله لهم من جهة كل حسن مليح , وخلق لهم من جهة ثانية أعيناً تنظر وقلوباً تخفق. فحدث بين الفريقين نزاع - ويا له من نزاع , على ما يقول فرسان هذا الميدان - كانت نتيجته دائماً أبداً شؤماً ووبالاً على الفريق الثاني غالباً كان أو مغلوباً. فأصبح لسان حاله ينشد: ما بين معترك الأحداق والمهجِ ... أنا القتيل بلا إثم ولا حرجِ وقد تطوَّع الشعراء منذ القديم للدفاع في هذه القضية؛ كيف لا وهم من عبَّاد الجمال , وحارقي البخور على مذابح الحُسْن. أنا لا أحاول التحيّز إلى أحد الخصمين. بل أحافظ على موقف الحياد. فقد عرفتهُ أربح لي وأنفع. ولكني سمعتُ في هذه القضية مرافعات لطيفة دونتها لقرَّائي لأنهم يحبون الشعر الجميل , وناقِلُ الكفرِ ليس بكافر. . . من جبل لبنان جاءَنا هذان البيتان لأمين ناصر الدين:

جعلتَ يا ربِّ هذا الحسن واسطةً ... نلقى بها الهمّ أشكالاً وألواناً إن شئتَ فاخلق وجوه الغيد أجمعها ... شنعاء أو فاخلقِ الشبَّان عميانا وفي وادي النيل أنشدنا طانيوس عبده: لا تظلمي دَنِفاً ذابت حشاشتهُ ... فقد عطفتِ عليهِ قبلُ أحيانا أو كان شأنكِ شأن الله متّعنا ... بكلّ ما قد نهى عنهُ وجازانا بليغٌ والله دفاع الشاعرين! وهو جديرٌ بأن يُضمُّ إلى دفاع من تقدمهما فقال: إلهي ليسَ للعشَّاق ذنبُ ... لأنك أنتَ تبلوا لعاشقينا فتخلق كلَّ ذي وجه مليح ... بهِ تسبي عقول الناظرينا وتأمرنا بغضِّ الطرف عنهُ ... كأنكَ ما خلقتَ لنا عيونا وما دام المجال منفسحاً أمامي في هذا الجزء , لا بأس عليَّ من إيراد أبيات وردت على إدارة الزهور من ناظمها محمود أفندي الناظر , وهي لا تخرج كثيراً عن هذا الموضوع. قال موجّهاً السؤال إلى خليل مطران: أتنجلي في النهار ... محجوبة الأقمار أم تلك سرب ظباءِ ... كرهن سكنى القفارِ جاءت تصولُ علينا ... بأين كالشفارِ بالقدّ كالغصنِ لدناً ... والخدًّ كالجلّنارِ قد كنتُ من قبل جلداً ... واليومُ عزَّ اصطباري إن دام واللهِ هذا ... فسوف ألقى تباري فيا خليل أجبني ... كيما يقرّ قراري وزار خليل إدارة الزهور فعرضت عليهِ الأبيات , فكتب للحال تحتها: محمود صبراً على ما ... لقيتَ في الأقمار وفي الظباءِ الجوافي ... وهنَّ أنسُ الديار لا يكمل الحبُّ ما لم ... يَجُزْ مدى الاصطبارِ فصبراً إذن أيها المحبُّون حتى يبلغ حُبكم حدَّ الكمال حاصد

ثمرات المطابع

ثمرات المطابع ليالي الروح الحائر - قرأتُ هذا الكتاب من البسملة إلى تمَّ طبعه وأنا بين أرقام أعالجها في ديوان , وصفحات أسوّدها في عزلة , فكنت أصل أناءَ نهاري بأطراف لياله , وأحار مع الروح الحائر حيرة مصطفى كامل في أمر مصر , والشاعر الحرّ في أخلاق العصر. قرأته وملء نفسي السرور والإعجاب بأسلوبه العصري الجديد الموفَّق فيه بين سموّ الخيال ودقة الشعور وشدَّة اللهجة من حيث المعاني , وبين حسن الرصف وسلاسة التركيب وانتقاء الألفاظ إلاَّ نادراً من حيث المباني. وما لاح لي فجر الليلة الخامسة عشرة من لياليه وهي الأخيرة إلاَّ وقد لاح لي أنه كتاب سياسي فاجتماعيّ فأخلاقيّ بأغراضه ومراميه ومغازيه , وديوان شعريٌّ أشبه بليالي ألفرد دي موسيه على خلوّه من بيتٍ واحد يأوي إليهِ الروح الحائر. فأسلوبه أسلوب النثر الشعري , أو الشعر المنثور , وهي طريقة جديدة تجري عليها أقلام نفر قليل من كتَّابنا العصريين , وأظن أوَّلَ من جبها إلينا الشاعر الفيلسوف اللبناني أمين الريحاني , وما (0الأجنحة المتكسرة لجبران جبران إلاَّ شوط في هذا المضمار بعيد , أودُّ لو جاراه فيه غير واحد من المتبارين في حلبة الأدب. يقع الكتاب 192 صفحة وليلة شعر الأرواح واقعة في الصفحة

المئة والخامسة أي نحو منتصفه , وتتلوها ليلة أناشيد العلا فليلة الوداع وهي مسك الختام. ومَن قرأ بسمة الربيع ص 107 وأغنية الروح الحزين ص 112 فأغنية النار فعرش الجبابرة لم يشكّ في أنه يقرأ شعراً هو كل الشعر لولا أنه غير مقفَّى وغير موزون - استغفر الله - بل هو كل الشعر لأنهُ طليق من هذه القيود. ولئن كان للشاعر الناظم بحور يجتازها بما عنده من أصول سلك البحار , فإن للشاعر الناثر أجنحة يرفرف بها فوق بحار المعاني حرًّا مطلقاً , وأخلق بهِ أن يكون أقرب إلى ربَّة الشعر وأحب إليها. ولنرجع بعد هذا الاستطراد إلى أناشيد العلا فأقول أنها ستة فصول مندمجة في ليلة واحدة وأسلوبها يكاد يكون نثراً مرسلاً , لأن العبارات في الغالب طويلة وغير متقطعة كما في أناشيد الليلة السابقة , ولكنهُ يسميها أناشيد وقد أصاب في ذلك. فيظهر مما تقدَّم أن نصف الكتاب شعر نثري يجسّ فيهِ الكاتب أوتار النفس فيثير عواطفها بما يُشعرها بجمال الطبيعة فيطربها , أو بحقيقة البشر فيؤلمها. ولنرجع إلى صفحة 105 وما إزاءَها ووراءَ فننتهي حيث كان يجب أن نبتدئ لولا أن ما يتراءَى حول سطور الليلة الأولى ولو أحقها من أشواك السياسة وقتاد الانتقاد قد يخنق قلماً رطباً لم يجرِ (ولن يجري إلى حين) إلاَّ في مثل صفحات الزهور. فإذا رجعنا إلى تلك الصفحة وهي إلى اليسار ونظرنا ذات اليمين وقعت العين على سؤال يلقيهِ صاحب الليالي على الروح الحائر وهو: وهل أحببتَ هذه؟ سؤال يتوارى

الروح بدون ما جواب عليهِ , وبتواريهِ تختم الليلة الثانية عشرة وعنوانها الفاكهة المحرَّمة وموضوعها الحب. والحب موضوع الليلة السابقة أيضاً وعنوانها الأخوات الثلاث أما علاقة هذه الليلة بطريدتها فهي على ما يلوح لي حبية شعرية لأنها تبتدئ بذكر الحب بمعنى الصداقة هذه المرة والشعر عليهما مدار الليلة العاشرة وإن كان عنوانها إشراف النفس على المستقبل. أما الليلة التاسعة حيُّ الأموات بلوزان فليلة على هولها كم أودّ أن أحياها وأموت فيها أو أُحييها وتميتني , فهي ليلة في مثلها تتنبّه نفس الشاعر ويُجهد عقل الفيلسوف. وما الليلة الثامنة إلاَّ نذيرها الصادق. وأخلق بمن سيحزن أن يحزن قبل وقوع البليّة كما جاء حديث الحزن الإنساني مقدَّماً على حديث المقابر في هذه الليالي. وما قصتا الصديق علي ونرجس العمياء اللتان يقصهما الروح الحائر في ليلتين متتاليتين إلاَّ بسط آراء أخلاقية بالأكثر في أسلوب روائي لطيف. وقد خيّل إليَّ لمح فكرة سياسية خلال أسطر نرجس العمياء. أما الليلة الخامسة فعنوانها حديث الروح المجنون وهي ليلة سوادها من سواد قلب الهيئة الاجتماعية ووجها. وهي ليلة على قصرها من أجمل أخواتها. ولهجة الكاتب فيها شديدة مرّة وعباراتها تشف عن تألم وامتعاض في النفس. وكذلك الليلة الرابعة وموضوعها غرور الناس بالناس ولم يبق لنا إلاَّ ثلاث فنبيت حيث كان أن نغدو. أما الثالثة فقد أحياها الكاتب في وصف علَّة الشرق وهي كما يوحي إليهِ الروح

الحائر بُغض العظماء. وقد ذكرني قوله نحو آخرها وأقيمي يا أمم الشرق لكل كبير تمثالاً مقالات الأخبار وغيره عن تمثال مصطفى باشا كامل. أما الليلة الثانية فهي حديث بعض الأمم - أمة الهوَز - وما أدراك ما أمة الهوز , إن لم تكن أمة خيالية لو تمخضت بها الليالي لوضعتها على ضفاف النيل؟ وأما الليلة الأولى وقد كان البدءُ بها الأولى فهي رثاء مؤثر لصديق اسمه مصطفى وهو اسم كامل وإن نقصه اللقب. . . ومما أعجبني من بنات أفكار صاحب الليالي والليالي من المعاني حبالي قوله في الهرم: وأرفع ببصري مرة إلى قمة الهرم فيغلي دمي في عروقي غيظاً من رافع بنيا له وواضع جدرانه لأن صخوره دموع متحجرة أذرفها شعبٌ شقيّ انجازاً لشهوة ملك ظالم , فإنني لا أنظر إلى الأهرام إلاّ متألماً لا مُعجباً. . . ولكنني أعجب له احتلالاً قديماً كان داخليًّا فتحوَّل خارجيًّا. وقد روي لي أن عسكريًّا انجليزيًّا تسلق شرّ منقلب ولطَّخ تلك الصخور بدمه - وهل تلك الصخور إلاّ دماء - لا دموع - متحجرة استنزفها ملك ظالم من شعب شقي؟ فالكتاب بالأجمال مجموعة آراء الكاتب وخواطره وعواطفه الوطنية والاجتماعية والشخصية جميعاً أو جزء أول من هذه المجموعة لأنهُ مختوم بليلة الوداع الأول لا الأخير. فعسى أن يطول الهجر بين الروح

الحائر وصاحب الليالي ليتحفنا بكتاب آخر على منواله وديع البستاني روميو وجوليت - عُطيل - لويس الحادي عشر - في مصر اليوم نهضة فعلية لا يسع هذا الفن الجليل إلاَّ الارتياح إليها والاستبشار بها. فقد توفَّق جورج أفندي أبيض - بعد أن درس هذا الفن في باريس على ايمتهِ - إلى تأليف جوقٍ عربي متقن لم ترَ مسارحنا العربية له مثيلا. وشهدت القاهرة والإسكندرية وغيرهما من مدن القطر الكبرى تلك الليالي الشائقة التي أحياها جوق أبيض فكان الإقبال عظيماً والرضي تامًّا. ولسمو أمير البلاد يدٌ على هذه النهضة تُذكر بالشكر الحميم لسموّه. وكانت نتيجة هذه النهضة في فنّ التمثيل بروز فئة من كتابنا إلى الميدان وإخراجهم لنا سلسة روايات تشخيصية أدبية تعوّض علينا بعض ما تفقدنا إياه روايات اللص الشريف وأمثالها من الحكايات التي نكتب للمتاجرة. . . يعد الروائي الانكليزي شكسبير إِماماً في فنّ الروايات التمثيلية , قلا عجب إذا تبارى كتابنا المجيدون في نقل رواياته إلى لغتنا. ومن أشهر تلك الروايات رواية روميو وجوليت التي مرّت عليها العصور , ولم تُبل جدَّتها , وبرزت على أكثر مسارح العالم ولم تفقد بهجتها. ولدينا

الآن نسخة عربية منها بقلم الشاعر المجيد والكاتب القدير نقولا أفندي رزق الله؛ طالعناها فوجدناها محكمة التركيب , منسجمة الألفاظ , محلاَّة بأبيات شعرية جميلة من نظم مترجمها المعروف بحسن سبكهِ وسلاسة. معانيه , وإننا لننتهز هذه الفرصة لإِطراء رزق الله أفندي والثناء على همتهِ التي لا تعرف الكلل فهو من أكثر كتَّابنا نشاطاً وعملاً ومثابرة على مداعبة القلم. ومن روايات شكسبير المشهورة أيضاً رواية أو عُطيل وهي التي مثَّلها جوق أبيض , فنالت استحساناً جزيلاً. وقد ترجمها إلى اللغة العربية شاعرنا المشهور خليل أفندي مطران المذكور في غير هذا المكان من هذا الجزء بين نوابغ العصر في مصر. ولسنا في حاجة إلى تعريف القرَّاء بسحر قلم الخليل بل نكتفي بأن نذكر هنا ما رواه لنا أحد المتضلعين في لغة الانكليز , قال: أخذتُ رواية عطيل وقابلتها بأصلها الانكليزي فوجدتُ ترجمة مطران تنطبق على الأصل انطباقاً تاماً فهي كالحسناء وظلها في المرآة وقد نشرنا مقدمتها في الجزء الماضي من الزهور. ومن الروايات التي مثَّلها جوق أبيض أيضاً رواية لويس الحادي عشر للشاعر الفرنسي كازيمير ده لافين ترجمها له بالعربية قلم كاتبٍ متفنن وشاعر رقيق عرفه أدباءُ القطرين , عنينا به إلياس أفندي فياض الذي طالما اتحف مسارحنا العربية بكل رواية جميلة شائقة. وروايته هذه كأخواتها تمتاز بسهولة العبارة مع بلاغتها , وطلاوة التركيب مع متانته شأن السهل

الممتنع. وفياض يشتغل الآن بترجمة رواياتٍ شهيرة لحوق أبيض ننتظرها بفروغ صبر. هذا ما يسمح لنا المجال بذكره عن هذه الروايات الثلاث. وإننا لنعدّها خير ما جاءَنا بهِ موسم الأدب في فصل الربيع. جواهي الأدب من خزائن العرب - لمكتبة صادر في بيروت فضلٌ لا ينكر على الأدب العربي , فهي منذ نصف قرنٍ دائبة على خدمة لغتنا بجدّ واستقامة قد كلَّلهما النجاح. وهي لا تزال تبحث عن كل نقص في كتبنا المدرسية والأدبية فتسدُّه , حتى أصبحت الكتب الصادرة من هذه المكتبة الشهيرة ومطبعتها تعدُّ بالمئات. وقد جاءنا منها أخيراً كتاب جواهر الأدب وهو يشتمل على خير ما يؤخذ من خزائن العرب من مقتطفات أدبية ومقطوعات شعرية. وقد ظهر من هذا الكتاب حتى الآن ثلاثة أجزاء وهو مضبوط بالشكل الكامل. فنثني على همة سليم أفندي ويوسف صادر ونغبطها على توفيهما في خدمة الأدب والعلم. معنى الحياة - لدينا الطبعة الثانية من هذا الكتاب النفيس لمؤلفه اللورد افبري. وقد سبق لنا الكلام مطولاً عن مؤلفاته هذا الفيلسوف الجليلة التي ترجمها إلى العربية الأديب البارع وديع أفندي البستاني فأجاد وأفاد. وإن في إقبال القراء على كتبهِ خير تقريظ له.

ديوان منصور شاهين الغريب - في الشعر العامي روحٌ شعرية قد لا تجدها في دواوين الشعراء. يعرف ذلك من له بعض الإِلمام فيما يسمّونهُ زجلاً في مصر ومعنّى في لبنان. فأن الزجَّالين وقوَّالي المعنى شعراء في فطرتهم لا ينظمون إلاَّ عن شعور ولا يقيّدون طائر مخيّلتهم بسلاسل القواعد الثقيلة؛ فتجيء أقوالهم في أكثر الأحيان آخذة بمجامع اللب. ومن الذين اشتهروا بهذا الفن في لبنان منصور شاهين الغريّب. طبع ديوانه حضرة نجله أمين أفندي الغريب صاحب جريدة الحارس البيروتية. وقد طالعنا في هذا الديوان مطالع وقصائد ومحاورات تدلّ على قوة سليقتهِ الشعرية. الحياة اليومية - هذا الكتاب الصغير الحجم الكبير الفائدة كناية عن عشر مقالات كتبها في الجريدة حضرة الأديب أمين أفندي حمدي في مواضيع اجتماعية يخلق بالناشئة الإمعان فيها. وقد ختمت بكلمة طيبة من قلم الأستاذ حفني بك ناصف. الحياة القومية - هذا الكتاب الصغير الحجم الكبير الفائدة كناية عن عشر مقالات كتبها في الجريدة حضرة الأديب أمين أفندي حمدي في مواضيع اجتماعية يخلق بالناشئة الإمعان فيها. وقد ختمت بكلمة طيبة من قلم الأستاذ حفني بك ناصف. وعش خالياً - كثر إقبال قرّاء العربية في هذه الأيام على القصص الخيالية. وهذه رواية من الروايات التي تستحق إلتفاتهم. ترجمها إلى العربية الأديب إلياس أفندي منسّي الذي سبق ونقل إلى العربية أشياء كثيرة عن آداب الإفرنج. الإِقدام - جريدة يومية أدبية سياسية بدل اشتراكها 150 غرشاً في السنة تصدرها في الإسكندرية حضرة السيدة الغيورة على الأدب

البرنسيسه الكسندره أفرينوه ويتولى رئاسة تحريرها صديق الزهور الكاتب الشهير ولي الدين بك يكن ويودعها من نفثاته الشائقة ما هو مأثور عنه في فني المنظوم والمنثور , فلا عجب إذا اكتسبت الأقدام على حداثة عهدها مقاماً يذكر بين الصحف الممتازة. المجلة المصرية - مجلة جديدة تصدر باللغة الفرنسوية في القاهرة لمديرها الموسيوبول تريبيه ورئيس تحريرها الموسيو جاك دوبفر جاءَنا منها العددان الأول والثاني فألفينا هما حافلين باللطائف الأدبية والمباحث العلمية مما يتعلق بمصر وشؤونها المختلفة. ولا شك في هذه المجلة ستصادف انتشاراً واسعاً لما عُرف بهِ صاحباها من التفنن في الكتابة والغيرة على الشرق والشغف بالبحث في أحواله. وهي تصدر مرتين في الشهر وبدل اشتراكها 60 غرشأً صاغاً. صدى البرق - جريدة اجتماعية أدبية انتقادية تصدر في بيروت. صاحب امتيازها الشيخ اسكندر العازار , ومديرها المسؤول عزت أفندي الجرّاح , ورئيس تحريرها بشارة أفندي الخوري , صاحب جريدة البرق المعروفة في عالم الأدب والتي احتجبت عن قرّائها المولعين بها بأمرٍ من المجلس العرفي. فنحن على ثقة من أن الإِقبال الذي لاقه البرق سيلاقيه صداه بفضل محرره صاحب الجولات الصادفة في ميدان الكتابة.

العدد 26

العدد 26 - بتاريخ: 1 - 7 - 1912 الجنايات والاجتماع إن للاجتماع أمراضاً كما للجسم الحيّ. وهي كأمراض الجسم الحيّ إما مستوطنة وتسمى جنايات وجرائم؛ وأما وافدة وتسمى قلاقل وثورات. وأسبابها كأسبابها أما متمة واصلة وهي في أحوال الأفراد الخاصة. وأما مُعدّة مهيئة وهي في نظامات الاجتماع نفسه كما هو الحال في الجسم الحي. فالجنايات كالأمراض نفسها لا تقع إلا إذا توفر لها هذان العاملان: أحوال خاصة في الأفراد , واستعدوا في جسم الاجتماع. وسياسة الاجتماع كطبابة الجسم الحي: رداعة توجَّه إلى الجاني كما يداوي الطب المريض؛ ومانعة أو واقية تمنع أسباب الجناية لوقاية المجتمع منها قبل وقوعها , كما يمنع الطبّ المرض بمقاومة أسبابه بعلم حفظ الصحة المعروف بعلم الهيجين. فسافة الاجتماع يقاومون الجنايات بالشرائع المسنونة , وهي كالطب الشافي للأمراض. ويحاولون بالنظامات الموضوعة وهي كالطب المنعي الواقي من الأمراض. وكما أن طبابة الأجسام الشافية والواقية

تتوقف على تعرُّف طبائع الحي الأمراض التي تفتك بهِ ودرس الوسائل النافعة , كذلك سياسة الاجتماع الرادعة والواقية تتوقف على تعرّف طبائع الجناة ودرس الشرائع والنظامات الموافقة أيضاً. زكما أن الطب البشري لم يقُل كلمته الأخيرة في كل ذلك , كذلك الطب الاجتماعي لم يقل كلمته الأخيرة أيضاً. غير أنا إذا قابلنا بين الطبين نجد أن الطب البشري تقدم أكثر جداً مما تقدم الطب الاجتماعي. فشفاء الأمراض صار أسهل مما كان في الماضي وصارت طبائعها معروفة أكثر كذلك. وإذا كانت صناعة الطب لم تتقدم كل التقدم المطلوب في شفاءِ الأمراض حتى الساعة , لكنها تقدمت كثيراً في علم الوقاية منها. فإن علم حفظ الصحة يكاد يكون قد ألمَّ بكليات نواميس الأمراض وكيفية تولدها ووسائل منعها. وقد تمكن من حصر كثير منها. وفي بعض البلدان تمكن من منعها أصالة لأن الطب البشري سار مع العلم سيراً حثيثاً وجنباً لجنب. وإذا كان لم يتمكن من منعها بتاتاً فليس من نقص في علمهِ , بل من صعوبات أخرى تعترضهُ متأتية من نظامات الاجتماع نفسها. فالأمراض الوافدة التي كانت تنقضّ في الماضي على أوروبا وتفتك بمئات الألوف من سكانها في زمن قصير كوافدات الطاعون والجدري الأسود والهواء الأصفر والحمَّى التيفوئيدية نفسها حتى خانوق الأطفال المعروف بالدفثيريا قد قلَّت اليوم جداً وزالت منها في بعض الأماكن طبيعتها الوافدة. فإذا كانت أكثر المدن الكبرى في هذه الجهات بلغت الغاية في النظافة بعد أن كانت

مجمعاً للقاذورات وصار السكان فيها أكثر اعتناءً من قبل بنظافة وآكلهم ومشاربهم ومساكنهم وملابسهم وأجسادهم , فالفضل في ذلك للطب الذي عرف كيف يستفيد حالاً من العلم. وسوف تخفّ الأمراض جداً وتقلّ ويلاتها كلما اصطلحت نظامات الاجتماع ومكَّنت الطب من العمل بقواعد علم الصحة كما هي معروفة له اليوم. بخلاف الطب الاجتماعي فإنهُ لم يتقدَّم على نسبة تقدُّم العلم اليوم فهو لم يتعرَّف طبائع الاجتماع وطبائع الجناة جيداً. وشرائعه الشافية ونظاماتهُ الواقية لا تزال قاصرةً جدًّا عن المقصود وما ذلك إلاَّ لأن نظرهُ في طبيعة الاجتماع لم يتغير كثيراً عم كان في الماضي , ولم يتيسر لهُ حتى اليوم تطبيق نظاماتهِ وشرائعهِ على النواميس الطبيعية التي اكتشفها لهُ العلم. والحق يقال أن هذا التطبيق محفوف بالمصاعب لأسباب كثيرة ناشئة عن غلبة تعاليمهِ الدينية والأدبية في شرائعهِ ونظاماتهِ وتأثيرها في طبائع أفراد المجتمع أنفسهم. فإذا كان الطب قد استفاد كل الفائدة من العلم الطبيعي فلأن موضوعها واحد فلم يكن يمكن فصل أحدهما عن الآخر بخلاف سياسة الاجتماع فهي حتى الآن لا تزال للأسباب المتقدمة باقية في واد والعلم الطبيعي يسير في واد آخر. ولا يستفاد من ذلك أن الاجتماع لم يستفيد من حركة العلم اليوم في سياساته فإن إنكار ذلك مجازفة فأمراضه الوافدة قلت جدًّا فقلت حروبه وانكسرت حدَّة ثوراتهِ وخفت وطأة قلاقله. ولا شك أن الجرائم والجنايات قد قلت كذلك عما كانت في الماضي البعيد. كل ذلك لسهولة

مراسهِ اليوم أكثر من قبل لاصطلاحه نوعاً بفضل ما انتشر عليهِ من ظل العلم الحديث. غير أن القلاقل إذا كانت قد خفت وطأتها فهي لم تقلّ اليوم بل زادت واستوطنت كذلك كقلاقل العمّال. وإذا كانت الجنايات قد قلت عما كانت في القديم فهي لم تقلّ قلة مطلقة بل ربما كذلك بالنسبة إلى ما كانت عليهِ في الماضي القريب لزيادة انتشار العلم وزيادة الشعور بالحاجة معهُ مع بقاء أسبابها. لأن الطب الاجتماعي لم ينظر كثيراً في هذه الأسباب وإذا نظر فلم يهتدِ كثيراً إلى الوسائل الواقية منها أو أنهُ لم يحسن تطبيقها عليها. وأسبابها إنما هي في نظامات الاجتماع نفسها التي لا تزال حتى الآن بعيدة جدًّا عن توفير التضامن له بتوفير العمل وتوفير المنفعة المتبادلة. فالشارع لم ينظر في الجنايات إلاَّ إلى العقاب فكأن الصعوبات التي تعترضهُ في نظامات الاجتماع صرفتهُ عن ترّف طبائع العمران للبحث في الوسائل الواقية إلى تعرّف طبائع الجناة أنفسهم لتحديد العقوبة. وقد هداهُ العلم اليوم في ذلك كثيراً وخدعه أكثر لأن الاعتماد في العلم على جهة واحدة مضرٌّ جدًّا. فنظر في الأمر نظرة علمية هي في مصلحة الجاني أكثر منها مصلحة المجنيّ عليهِ. إذ نظر إلى الجاني كنظرهِ إلى المريض المستحقّ غالباً للشفقة والحنان بقطع النظر عن تأثير جنايتهِ في الاجتماع. وهو نظرٌ يوافق عليهِ العلم إذا كان الغرض منهُ توفير عضوٍ من أعضاء المجتمع لنفع منهُ لهذا المجتمع. وإلاّ فالشفقة في الطب كما في الشرائع يجب

أن تشمل الأهم وهو الجسم الاجتماعي نفسهُ. ولو كانت هذه الشفقة في الشرائع اليوم ترمي إلى إصلاح الجاني لا يعتني بها كثيراً في الشرائع حتى اليوم. وكل ما تفعله هذه الشرائع لمصلحة الاجتماع هي أن تحبس الجاني وتكفَّ شره عن المجتمع إلى حين. وكثيراً ما يضيف الجاني إلى عيوبه وهو في السجن عيوباً أخرى يكتسبها من مخالطته لسائر الجناة المحبوسين معه في سجن واحد. فلا يخرج من السجن حتى يعود إلى جنايته بجسارة وتفنن لم يكونا له من قبل. فتخفيف العقوبة على الجاني لم تفد الاجتماع بل ذكر بعضهم أن القتل كان يزيد كلما قلَّ القصاص بالقتل. وليس في الأمر غرابة والدواء على ما تقدم. حتى ولا القتل نفسه يستطيع بالإرهاب أن يقلّل القتل عسى أن يستطيع الجاني أن يستغفل نظام الاجتماع وينجو من عقاب مؤجل. ولذلك رأى بعضهم أن يشغَّل الجاني في سجنه حتى يدفع ثمن جنايته فيكتسب عملاً نافعاً ويعوّض على المجنيّ عليه ويُرهَب لطول الإقامة حينئذٍ في السجن. وهو أقرب الآراء إلى العدل مهما قام عليه من الاعتراضات. ويلزم حينئذٍ أن لا يقبل عن شغله عوضاً ولو كان ذا مال ويشمل التعويض حوادث القتل التي كثيراً ما يذهب فيها التعويض المدني هدراً فيفقد الإنسان عزيزاً له ويفقد معيِّلاً كذلك. على أن الجاني نفسه مظلوم , وظالمه نظام الاجتماع نفسهُ سواء عن جهل لقلة انتشار العلم أو عن حاجة لقلة توفر العمل أو عن مرض لتطرّق

الحزم

ذلك إليهِ بالوراثة المكسوبة هي نفسها من الاجتماع. والشرائع التي تعاقبهُ كأنها تعاقب بهِ جهلها في تطبيق نظاماتها على حاجة العمران والتي كثيراً ما يكون الجاني العزوم فيها أنبل جداً من الذين يحرجونه ويسترون جناياتهم بالخبث؛ فما دامت تعاليم الاجتماع لا تتمشى على قواعد العلم الحديث قتضع العمران في مقامهِ الطبيعي وتعتبرهُ جسماً حيّاً كسائِر الأحياء وتطلق عليهِ نواميسها الطبيعية فمن المستحيل أن تهتدي إلى إحكام الروابط بينهُ. وما دامت نظامته لا توفّر له النفع المتبادل فيصعب جداً ضبطهُ ولقد صدق القائل: إن توفر أسباب الثروة في بلاد لمن أفضل أسباب تقليل الجنايات فيها. فالناس في كل أمورهم دنيا وآخرة إنما هم يقتتلون على رغيف. الدكتور شبلي شمبل الحزم الرجال ثلاثة: حازمٌ , وأحزم منهُ , وعاجز. فالحازم من إذا نزل بهِ الأمر , لم يدهش له , ولم يذهب قلبه شعاعاً , ولم تعي بهِ حيلتهُ ومكيدته التي يرجو بها المخرج منهُ. وأجزم من هذا , لمقدامُ ذو العدَّة , الذي يعرفُ الابتلاء قبل وقوعهِ فيعظمهُ إعظاماً , ويحتال لع حيلةً , حتى كأنهُ قد لزمهُ؛ فيحسم الداء قبل أن يُبتلى بهِ ويدفع الأمر قبل وقوعهِ. وأما العاجز فهو تردُّدٍ وتمنٍّ وتوانٍ حتى يهلك. ابن المقفَّع

رجل الدم والحديد

رجل الدم والحديد نابوليون بونابرت ذلك الجبار الطاغية! رأيته مضطجعاً ضجعتهُ الأخيرة وقد أخرس الموتُ لسانه وأبطل القبر صوته. جرَّد سيفه فأقلق الكون , وتمادى في جبرؤته فأزعج السموات. وضع قدمه اليمنى على إهرام مصر , واليسرى على كرملين القيصر , ثم صاح بأوربّا صيحة مرعبة , فكان لزئيره دويٌّ ضجَّت له الأرض , وهلعت له الكائنات. رجل الدم والحديد! كان يرى العالم كما يرى النسرُ النملة من علوّهِ الشاهق. هدم الباستيل؛ ليطلق منه الأسرى؛ ثم بنى على أنقاضه باستيلاً آخر , سجن في العالم أجمع. وكان السعد يخدمه , فنصره في أوسترلتز , وعقد له الظفر في مارنجو , وحالفه في الأهرام. فلما رأى الله طغيانه , قال: ليس حسناً أن يبني هذا النسر عشَّهُ في الجوّ لئلا يقلق السماء؛ هلمَّ ننزل ونضربه فلا يُزعج الكائنات! وكان ظلّ ذلك الجبار يُلقي رعباً على المسكونة؛ وكلما رفع يده , تتلَّمس أوربا رأسها , لترى هل هو بعد على عنقها! لو ولدت فرنسا بونابرتاً آخر لاضطرّ الله أن يتجسَّد مرة أخرى لإنقاذ العالم من شرّه وطغيانه. ألم يحفر جهنما أخرى في الأرض , ليدفن فيها

أوربّا؟ ألم يستو على عرش مصنوع من عظام القتلى , ومصبوغ بدمائهم. وكان الفضاء مملوءاً بدويّ مزعج: أنين الأرامل وبكاء الثواكل , وعويل النادبات؛ من ساحة أوسترلتز إلى براري موسكو. ثم حدث بعد ذلك سكوتٌ طويل , لأنَّ الكائنات حبست أنفاسها لتنظر إلى مشبح ذلك الطاغية. ونادي المرّيخ ابنه فقال تقلدّ سيفك , أيها الجبار , ولا يغرّك نجم سعدك؛ فإن بعد أوسترلتز , موسكو؛ وبعد مارنجو , واترلو! وكانت ألبا تتثاءب , والقديسة هيلانة تفتح ذراعيها؛ وقد بدأ الشهاب المذنّب بالسقوط من علوّه الشاهق , فترك وراءه خيطاً ضئيلاً كان يضعف كلما اقترب من الأفق. ولاحت في ذلك الأفق غمامة سوداء بقدر كف اليد؛ ثم أخذت تكبر وتعلو , إلى صارت تتهدد ذلك النجم اللامع. ولمح نابوليون تلك الغمامة , فأراد أن يموت كما تموت الجبابرة. فصاح بالكائنات صيحة مرعبة من على قمة الأهرام وقال أيها الجنود , أن أربعين قرناً ننظر إليكم من قمم هذه الأهرام ثم مرّت الأيامُ , وذلك النسر يبسط جناحيه على المسكونة؛ وكان خفوقهما يقلق العمالقة في قبورها , ويلقي هلعاً في قلوب البشر. إلاّ إنّ لكل جليات داوداً في ذلك اليوم سخر نابوليون من ولنتون. فأجابه ولنتن: غداً نلتقي في واترلو!.

وكان نبتون إله البحر , يٌعدّ سفينة لنقل جليات إلى جزيرة القديسة هيلانة. وتنفّست أرامل أوربا , لأن الله نهض لينتقم لدماء أزواجهنّ , ويلجم ذلك التنّين! , أما نابوليون فظلَّ يحلم. رأى كل شيء , ما عدا ألبا وواترلو وضاع عليه في الخارطة موقع القديسة هيلانة. لو درى بها يومئذٍ , لأخسفها في قعر البحر , وجعل من عليها أكلاً للتنانين العظام. ولكن لويائان كان يحرسها ويدفع عنها صدمات الجبار. ولما سقط ذلك النسر , أقلته السفينة إلى الباستيل المعدّ له واعتقله بين أزرقين - ماءٍ وسماء. وتنفست أوربّا , لأن حملاً ثقيلاً أُزيح عن صدرها؛ وأصبحت صروح اللوفر والويلري تصفر فيها الريح. هوذا اليوم يرقد زقدته الأبدية - عظيماً في موته كما في حياته - والنفس تتهيّب الأسد ولو كان جثة هامدة. ألا نمْ يا صاحب الجبروت! لقد أحسنت بموتك إلى العالم , فهل كفّرت عن ذنوبك إلى الله؟ أنت تطلب المجد حتى في القبر؛ لذلك تنام في حفرةٍ عميقة حتى يكون كل من ينظر إليك حاني الرأس: أنت في حفرةٍ ترى القوم حولي ... ها خشوعاً فكيف لو كنت حيَّا ليت شعري وقد نزلت برمسٍ ... من لُملك الدنيا تركتَ وصيَّا فسلم عليك يوم طواك ال ... قبر ميتاً ويوم تُبْعَث حيَّا سليم عبد الأحد

دمعة الروح

دمعة الروح على المغرد الصامت كان لي كنار صغير أحببته بكل ما في فؤادي من الحب. دنوت من قفصه في صباح ذات يوم فوجدته ميتاً فبكيته وندبته مي ما أسرع ما تتمزق أثواب الورود , وما أتعس القلوب الشديدة التأثر! يمرّ النسيم العليل على الأزهار النضرة فتتمزق بوطئه اللطيف أثوابها وتنتثر وريقاتها. هكذا يكفي لاستمطار العبرات أن يلامس الألم بأطراف بنانه أثير الروح الموحدة. وما الدموع الهاطلة من الأجفان إلاّض حصرات قديمة كامنة في طيات الفؤاد , أوقدت شعلتها يد سوداء - يد الكذب ولافتراء , زاد الانفراد والتأمل في اشتعالها. من الرجال من يكتفون بالوهاجة والمجد والفخر , ومن النساء من لا يفهمنَ الحياة إلا بالزينة والغنى وارتفاع القدر. أما أنا فلا هذه العطايا تغرّني , ولا تلك المواهب تستهويني شي واحد في نظري وهو ما يشترك في نظري وهو ما يشترك في تركيبه قسم كبير من الفكر وقسم أكبر من القلب. شيء واحد يبنه إعجابي , وهو ما كان مترفعاً عن الصغائر والدنايا - هو زهرة نادرة المثال غرستها يد الوفاء في حدائق الإخلاص الصافي , شمس الذكاء والمعرفة تحييها , ومياه العواطف السامية العذبة تسقيها. ما أتعس القلب الحساس وما ألينه لاستحكام الجروح في ثنياته!!

طائر صغير نسجت أشعة الشمس ذهب جناحيه , وانحنى الليل عليه فترك من سواده قبلة في عينيه. ثم سطت عليه يد الإنسان فضيّقت دائرة فضائه وسجنته في قفص كان بيته في حياته ونعشه في مماته. طائر صغير أحببته شهوراً طوالاً. غرّد لكآبتي فأطربها. ناجى وحشتي فآنسها. جاور روحي فآخاها. غنّى لقلبي فأرقصه , ونادم وحدتي فملأها ألحاناً. امتزج ذكره في دقائق حياتي فأصبح عندي بمنزلة صديق لا تصلني به اللغة ولا يقربني منه التفاهم الروحي؛ بل يعززه إليَّ حضوره الدائم وإن لم يبالِ هو بحضوري , وصوته الرخيم وإن لم يغرد إلاّ لأن التغريد من طبعه , وسوره الذي لا يعرف الكآبة , واصطباره على ضيق الفضاء وإقناعه بما قدّر له من النور والهواء. عندما كانت تبكيني الآلام كنت أريه منديلي مبللاً بالدموع فيعرض عني. إن الدموع تعقب ظلمة الأحزان كما يعقب الندى ظلام الليل , وروح الطيور نور مغرّد فكيف يفهم النور الظلام؟ كنت أنظر إليهِ مشيرة بأصبعي إلى الأثير البعيد لعلي أرى منهُ زفرة تنبئني عن لوعة في قلبه غير أنهُ كان يقمز على قضبان عشه الصغير غير مبالٍ بي كأنهُ يقول: النور لا ينظر إلى الشمس والقلب لا يحدق بالروح لأن كليهما واحد. أنا لا أنظر إلى الأثير لأني نقطة منهُ. إني أسكنهُ وإن بعدت عنهُ , كالشاعر الذي يظل جوهر نفسه سابحاً في سماء الجمال وإن خاله الناس جالساً بينهم مصغياً إلى أحاديثهم

وإذ كنت آتيةِ بالأزهار نازعة عنها وريقاتها فارشة بها أرض القفص لعلي أرضيه كان يدوسها بإهمال متابعاً تغريده , كأنهُ فيلسوف لا يكترث للصغائر وإن كانت جميلة المظاهر , ولا يعمل في حياته إلا بما يشغل أفكاره وينبه قوى البحث وتسكره في آن واحد. كنت أجلس للدرس والتحبير فتشمئزّ نفسي أحياناً من عبوسة الكتب , ويقل قلمي في يدي كأنهُ صولجان تنازل عن ملكه , فيأخذ كناري في الزقزقة والتغريد وتأتي جماعة طير من الخارج وتضم تغريدها إلى تغريده كما تمتزج الألحان في طيات الأمواج. فتبتسم الأفكار على صفحات الكتب أمام ناظري , ويترنح اليراع بين أناملي , ويمايل تمايل الصفصاف بقرب الغدير , وتنجلي الغيوم عن فؤادي وتطرب روحي. وفي المساء كان يصمت الكنار إجلالاً لقداسة الظلام فيخفي رأسه بين جناحيه ويحمد جمود المفكّر. إذ ذاك تأتي بنات خيالي محلولة الشعر وورد الابتسام مزهر على شفتيها , ومصباح الشعر متقد في يمينها. فتعقد حلقة وتدور راقصة حول أحلامي , وتغني أناشيد على ألحان سرية كأعماق اللجج , أاشيد غريبة لم يسمعها الأخيال روحي المتموج بين تلك العذارى الراقصات , ولم أفهمها إلا بحاسةٍ سادسة تولد في قلب الشاعر في ساعات الوحدة والكآبة. بينا ملوك الجوازاء تطل من أعالي علاها ناظرة إليَّ من نافذتيّ , والكنار يرقبني بعينيه المخفقيتين تحت جناحيه الذهبيين

والآن انظر إلى القفص! لقد صمت الطائر المغرد , والشماع المحيي تجمد , فلا ترى في القفص إلاّ قليلاً من الشمس المائتة! مات الصغير المغرد , مات صغير حشاشتي! مات قبل غروب الشمس وقبل انقضاء الربيع , ولا يبقى في نفسي إلاّ أثر من ذلك اللحن البديع! شعاع ذهبي أطل حيناً واختفى في كبد الآفاق ابتسامة نور أشرقت نور وما لبثت أن تبددت نور فكر ضاء ثم اضمحل في لجج العدم وردة أُثير تنفست فعطرت وأسكرت ثم ذبلت نغمة حب تموجت ساعة ثم تلاشت في هاوية السكينة صديق صغير غرد فأطربني وسكن بجوار روحي فأنسني ولما آلم قلبي العالم بدناءته وكذبه غنى طائري فأنساني قباحة البشر وغشّهم وجعلني أفكر في كل حسن بهي هذه قيثارتي فقدت أحد أوتارها فناحت بلابل أنغامها فما أتعس القلوب الشديدة التأثر! وما أكثر مرارة الجرح الصغير الذي يفتح جراحات كبيرة!! مي

مشاهير علماء نجد

مشاهير علماء نجد في النهضة الأخيرة بيتنا في المقالات السابقة أن الذي أنهض العلم والأدب في ديار نجد هو الشيخ محمد بن عبد الوهاب ابن سلمان بن علي بن أحمد بن راشد بن بريد بن محمد بن بريد بن مشرف بن عمر بن بعضاد بن ريس بن زاجر بن محمد بن علوي بن وخيّب التميمي النجدي الذي تضاف إليه الوهابية. والنسبة هي إلى الشيخ محمد لأنهُ هو الذي شيَّد أركان هذا المذهب دون أبيهِ لا بل خالف أباه فنسبت إلى عبد الوهاب لاشتهار الابن باسم والده , ولأن المسمَّين بمحمد كثيرون , ولأنهُ لو كان سموا بالمحمديين لوقع الالتباس بين المحمديين المسلمين وبين المحمديين الوهابيين فاختار الناس ما يزيل الالتباس. ولما اشتهر الشيخ محمد بعلمهِ وفضله وأدبهِ جاءه عدة رجالٍ ليقرأوا العلوم عليه فأتقنوها وامتاز بها وألّفوا فيها ثم أصبح هم مدرسين لغيرهم من الطلبة فانتشر نور العرفان في ربوع نجد كلها. فمنهم: 1ً الشيخ أحمد بن ناصر بن عثمان بن مُعمّر , قاضي الدرعية في عهد سعود وقد أخذ العلم عن الشيخ محمد. 2ً الشيخ العالم الورع الزاهد عبد العزيز بن عبد الله الحصين الناصري قاضي ناحية الوشم في أيام عبد العزيز وابنهِ عبد الله 3ً الشيخ العالم الزاهد سعيد بن حجي قاضي حوطة بني تميم في زمن عبد العزيز وابنه سعود 4ً الشيخ الفاضل محمد بن سويلم قاضي بلد الدَلَم وناحية الخرج في عهد الأمير عبد العزيز 5ً الشيخ الحبر البحر الزاخر عبد الرحمن بن خُميّس قاضي الدرعنية

في أيام الأمير الخطير عبد العزيز وابنه سعود 6ً الشيخ الدرَّاكة عبد الرحمن بن نامي قاضي بلد العُيَيْنة , ثم قاضي الأَحساء في زمن الأمير سعيد وابنه عبد الله 7ً الشيخ الوقور محمد بن سلطان العوسجي قاضي المحمل , ثم قاضي الأحساء في أيام أمارة سعود 8ً الشيخ الجليل عبد الرحمن بن عبد المحسن قاضي بلدة حريملة وبلدة الزلفي في عهد سعود وابنه عبد الله 9ً الشيخ الغذّ حسن بن عبد الله بن عيدان قاضي حريملة في زمان عبد العزيز الأمير العزيز 10ً الشيخ الفرد عبد العزيز بن سويلم قاضي ناحية القصيم في أيام عبد العزيز وابنهِ سعود وحفيدهِ عبد الله. والشيخ العالم حمد بن راشد العريني قاضي ناحية سدير. فهؤلاء كلهم نبغوا في أيامهم لأنهم أخذوا العلم عن الشيخ محمد رأس الوهابيين قد طووا بساط أيامهم في عهد الأمير الذي ذكرنا اسمهُ أو ثاني الأمير بن اللذين ذكرنا اسميهما. وقد قرأ عليهِ العلم غير هؤلاء من الأفاضل والأدباءِ ممن لم يوّلوا القضاء لأنهم أخذوا على أنفسهم تدريس العلم والأدب في ديارهم وسائر ديار العرب بدون أن يتقلدوا وظيفة تتعلق بالحكومة أو الإمارة. ومن علماء نجد الذين كانوا في ذلك العهد الشيخ عبد الله بن عبد الوهاب قاضي العُييْنَة. له من التصانيف: 1ً زاد المستقنع 2ً شرح المختصر 3ً شرع الأقناع 4ً شرح المنتهى 5ً حاشية الإقناع 6ً حاشية المنتهى 7ً كتاب العمدة وكل هذه التأليف عن الشيخ منصور البهوتيّ شارح الإقناع والمنتهى , وعن الشيخ أحمد بن محمد بن بَسّام. ومن طبقات أولئك العلماء الشيخ محمد بن أحمد بن إسماعيل النجديّ المشهور في بلدة أشَقْرِ. أخذ الفقه عن الشيخ أحمد بن مشرف النجديّ , وأخذ عنهُ

كثيرون منهم الشيخ أحمد بن محمد بن بَسّام والشيخ عبد الله بن ذهلان. وكان الشيخ محمد بن أحمد بن اسمعيل المذكور معاصراً للشيخ سليمان محمد بن الشيخ عبد الوهاب المذكور. ومن عداد أولئك الفُحول في ذلك الأوان العالم الفقيه القاضي الشيخ سليمان ابن علي بن مشرف جدّ الشيخ محمد بن الشيخ عبد الوهاب المشهور. وكان سليمان المذكور فقيه عصره على مذهب الإمام بن حنبل إليهِ انتهت رئاسة العلم في نجد كما سبقت الإشارة إليهِ. وجميع العلماء المعاصرين لهُ يرجعون إليهِ في حلّ المعضلات من المسائل الفقهية والتفسيرية والفرائضية وغيرها. ولهُ من التصانيف 1ً و2ً كتابان في المفاسد , 3ً شرح الإقناع. إلاَّ أنهُ لما وقف على شرح الإقناع للبهوتيّ أتلف شرحهُ على ما قالهُ بن بشر النجديّ. وقد أخذ العلم عن الشيخ أحمد بن محمد بن مشرف النجديّ وغيرهِ. وأخذ عنهُ جماعة من أكابر العلماء منهم: أبناهُ الشيخ عبد الوهاب والشيخ إبراهيم , والشيخ أحمد بن محمد القصير النجديّ المتوفي سنة 1079هـ=1668م ومن علماء نجد الذين يشار إليهم بالبنان الشيخ حسن بن سلطان القصير المشهور في بلدة أُشَيْقر. أخذ العلم عن الشيخ أحمد بن محمد بن أحمد بن اسمعيل. والشيخ الفاضل سليمان بن علي بن مشرف. وأخذ عنهُ عدة من العلماء كالعالم الفاضل الشيخ عبد الله بن أحمد بن محمد بن عضيب الناصريّ النجديّ. هؤلاء هم أشهر علماء ذلك العصر. ثم حدث ما ثبَّط عزائمهم فتقهقر أمر العلم وأصحابهِ وكان ذلك في سنة 1133هـ=1720م إذ ظهر فيها سعدون بن محمد بن عزيز الإحسائي على نجد وحاصر آل كُثيّر في العارض وأظهر المدافع من

أيها القمر

الإحساء ونزل في عُقْرُبا المعروفة وحاصر بلدة العمارية حتى هزلت مواشيهم وأصابتهم أضرار كثيرة. ثمَّ سار الدرعية ونهب بيوتها فقتل أهل الدرعية كثيراً من قومهِ وفرَّ العلماء إلى بلادٍ يجدون فيها راحتهم. ولما مات سعدون المذكور سنة 1138هـ=1725م عُمّرت منازل بني هلال ومنازل بني سعيد وآل بني سليمان في بلدة الروضة المعروفة في ناحية سدير. فتنفس العلماء الصعداء وعاد أغلبهم من مَفَرّهم إلى مقرّهم. وبعد ذلك بمدَّة ظهر آل سعود في الدرعية واستولوا على بلاد نجد والإحساء والقطيف وعمان والعسير وجبل شمَّر (جبل طيء) وانقادت لهم القبائل والبلاد وحصل من أمرهم ما هو مشهور. ورجع العلم إلى دياره وانبعث من قبره كما سنذكره بعد ذلك إن شاء الله تعالى. شاتسنا أيها القمر الآن وقد أظلم الليل وبدأت النجوم تنضح وجه الطبيعة التي أعْيَتْ من طول ما انبعثت في النهار برشاش من النور النديّ ينحدر كأنهُ قطرات من الأمواج المتلاطمة في بحر النسيان الذي تجري فيهِ السفُنُ الكبيرة من قلوب عشاق مهجورين برَّحت بهم الآلام , والزوارق الصغيرة من قلوب أطفال مساكين تنتزعها منهم الأحلام , تلك تحمل إلى الغيب تعَباً وتَرَحاً , وهذه لعباً وفرحاً , والغيب كسجلّ أسماء الموتى تختلف فيهِ الألقاب , وتتباين الأحساب والأنساب , وتتنافر معاني الشيب من معاني الشباب , وهو يعجب من الذين يسمّونهُ بغير اسمهِ ولا يعلمون أنهُ كتاب في تاريخ عصر من عصور التراب. والآن وقد بدأت الطبيعة تتنهد كأنها تُنفّس بعض أكدارها , أو تُمْلي في الكتاب الأسود أخبار نهارها , وبدأ قلبي يتنفس معها كأنهُ ليس منها قطعة صغرى , بل طبيعة أخرى , والله ما أكبر قلباً يسع الحب من قبلة اللقاء إلى ذكراها , ومن

حياة الصبي الأولى إلى ما يكون من الجنة أو النار في أُخراها , إن هذا لهو القلب الذي ترى فيه الطبيعة كتاب دينها المقدس فإذا لحق العاشق الذي يحمله بربهِ تناولنهُ وهي جاثية كأنها في صلاة الحزن ثم قبلته ثم أودعته في مكتبة الأبد لأنهُ تاريخ قلب آخر بل هو جزء من الموسوعات الكبرى التي يدوّن فيها الدهر تاريخ النفس الإنسانية على ترتيب بعينه تعلّم الناس منهُ أن يبدؤا لغاتهم جميعاً بحرف (الألف) لا لأنهُ من أقصى الحلق. . بل لأنهُ من أقصى القلب , بل لأنهُ من أقصى التاريخ , بل لأنهُ أول اسم (آدم) ذلك العلم الأول في تاريخ الحب. والآن وقد رقَّت صفحة السماء رقة المنديل , أبلَتهُ قُبَل العاشق في بعاد طويل , أو هجر غير جميل , وتلألأت النجوم كالابتسام الحائر على شفتي الحسناء الخيلة كأنهُ قطرة من الندى تلمع بين ورقتين من الورد. وأقبل الفضاء يُشرق من أحد جوانبهِ كالقلب الحزين حين ينبع فيهِ الأمل ومرَّت النسمات بَليلة كأنها قِطع رقيقة تناثرت في الهواء من غمامة ممزقة. وأقبلت كل نفس شجية ترسل آمالها إلى نفس أخرى كأنها أحلام اليقظة. ونظر الحزين في نفسهِ والعاشق في قلبهِ ونام قومٌ قد خلت جنوبهم فليس لهم نفوس ولا قلوب. وليس الكون تاجه العظيم فأشرق عليهِ القمر. والآن وقد طلعتَ أيها القمر لتملأ الدنيا أحلاماً وتشرف على الأرض كأنك روح النهار الميت ما ينفكُّ يتلمَّس جوانب السماء حتى يجد منها منفذاً فيغيب. فهلمَّ أبثك نجواي أيها الروح المعذب واطرح من أشعتك على قلبي لعلي أتبيَّن منبع الدمعة التي فيهِ فأنزفها , إن روحي لا تزال في مذهب الحس كأنها تجمُش للبكاء ما دامت هذه الدمعة فيهِ تجيش وتبتدر. ولكن إذا أنا سفحتها وتعلقت بأشعتك الطويلة كأنها معنى غزلي يحمله النظر الفاتر فلا تلقها على الأرض أيها القمر فإن الأرض لا تقدّس البكاء وكل دموع الناس لا تبل ظمأ النسيان ولو انحدرت كالسيل يدفع بعضها بعضاً. أرأيت أيها القمر هذا النهر الصافي الذي يجزي كأنهُ دموع السحر من أجفان

هاروت وماروت ويطَّرد بجملته كأنهُ قطعة من السماء هاربة في الأرض. وهل ترى في شاطئهِ تلك الشجرة الناضرة الممتلئة بالأوراق كأنها مكتبة يتصفحها الهواء؟ هذه هي مثال الفلسفة الطبيعية فكل حكيم لا ينبت على شاطئ الدموع الشريفة فهو فيلسوف جافّ كأنهُ مصنوع من جلود الكتب. وما دمعتي إلاَّ النهر الذي نبتُّ في شاطئهِ وهي شيء وأصفاه لأنها مخلوقة من ثلاثة عناصر تقابل العناصر السماوية. من الحب الذي يقابل عنصر النار ومن اللين الذي يقابل عنصر الهواء ومن البكاء الذي يقابل عنصر الماء. ليس كل مَن عصر عينيهِ فقد بكى. إن البكاء لأشرف من ذلك. وكما يكون الضحك أحياناً حركة في الأفواه تبعثها العادة كحركة الحواس الغليظة فيضحك المرء وقلبه صامت كذلك يكون من البكاء ما هو حلم الأسى لأن في العين حاسة لا بد من تمرينها أحياناً تسمى حاسة الدموع. وما إن لقيت باكياً إلأَّ رأيت وجهه مقبلاً عليَّ كأنهُ يسألني: تُرى من أين يُذبح الإنسان إذا كانت دموعه هي دماء روحه؟ ذلك لأن الدموع لم تعد على طبيعتها دموعاً بل هي علامات الألم أو السخط. الألم من المخلوق والسخط على الخالق فهي ألفاظ من لغة العجز قد تكون أفصح منها كلمات السفاه والغيظ والحنق وما إليها. ولكن الباكي بها لا يجد من الجراءة ما يرفع صوته من حفرة الحلق لضعف إحساسه بالذل السياسي أو لضعف قلبه بالتقوى التاريخية فيرفع صوت روحه وهي تتكلم من العين. أريد أن أبكي أيها القمر لأنهُ يخيَّل إليَّ أن حقائق كثيرة تغتسل بدموعي وأني لا أكون في حاجة إلى البكاء إلاَّ حين تكون هي في حاجة إلى الدموع. ولقد شعرت مراراً باهتزاز عقلي في تصفح الأسفار , واضطراب نفسي في متاحف الآثار , واختلاج قلبي في معابد الطبيعة التي قامت الجبال في بنائها لأنها أحجار , فما أفدت من كل ذلك ما أفدته من دمعة تفور في صبيبها , كأنها روح عاشق

يطاردها الموت يدي حبيبها , فإن في هذه الدمعة ثواب آلامي , ويقظة الحقائق من أحلامي. وما زلت حائراً في أمر مشتبه لا أُصيب الوجه فيهِ فلا أدري إذا كانت هذه الدموع المتساقطة تنقضُّ من بناء الحياة لينهدّ , أو هي تضاف إليهِ ليشتدَّ , فإني أرى أقواماً يحبون بالدموع وآخرين يموتون بها. ولعل عين الإنسان ملئت بالدموع من أصل الفطرة لتكون منها خنادق مستفيضة حول الروح فلا يقتحمها الفكر ولا يرى أبداً إلاَّ ظاهرها ولولا ذلك ما بقيت الروح من أمر الله. أو لسنا نرى الذين يبكون كثيراً يؤملون أن يدركوا من أسرار الروح كثيراً إذ يرون تلك الخنادق قد أخذت تمجُّ ما فيها فكأنهم بالماء قد غِيض وكأنهم بالأمر قد قُضِي. ولكن الإنسان ليس إله نفسه فمتى انكشفت أرض الخنادق الروحية ظهرت فيها حفرة القبر وكانت آخر دمعة تجف منها هي دمعة الموت. بَيد أن الحقائق التي تهيئ للبائسين ذلك الأمل بكثرة ما تفيض أعينهم من الدمع هي في رأي الناس علم وفلسفة لأن الجهل في الإنسان لا حد له فكل ما ظفر بهِ عده حداً علمياً. أولا ترى أن أجمل ما في الديانات والشرائع قد تحول إلى حجارة البيَع والصوامع والمساجد والأضرحة والمحاكم والسجون وكثير من مثلها حتى صارت هذه الأبنية تفهم الناس من ضروب المعاني أكثر مما تفهمهم الكتب السماوية في الأرض والأرضية في السماء. ما لي ولك أيها القمر لا أحب أن أُفيض عليك دمعتي فقد ترى فيها أشعة كثيرة من ألوان الأسرار المحتلفة. بل أنا أراها في قلبي وقد اشتمل بها الخيال الحزين. خيال هذا الأمل الذي يسميه الناس الحب وتسمية الطبيعة الحياة المعذبة لأن الناس قد مضوا على أن لا يعرفوا الحقيقة إلا بأوصافها ولا يعرفوا من أوصافها إلا ما يتعرف إليهم من ظاهرها الجميل. أما باطن الحقيقة الذي يحتوي السرَّ المحزن فهذا يعرفهُ من يفهم لغة الطبيعة وما لغتها إلاَّ أفعالها. وأنت فإذا أردت

أن تدرس علم البلاغة من هذه اللغة فادرس المصائب والآلام والأحزان أنها هي أقانيم البلاغة الثلاثة: المعاني والبيان والبديع وأنك إن درستها وتدبَّرت شواهدها الصحيحة التي لم يصنعها رُواتها أصبحتَ أفصح من ينطق عنها في هؤلاء البكم الذين يقرأ أحدهم صفحة الزهر بعينين في أنفهِ. . . ولا يستحي الغبيّ أن يقول لك أن في الزهرة معنى جميلاً. فمن أحبَّ ورأى حبيبته من فرط إجلاله إياها كأنها خيال مَلك يتمثَّل له في حلم من أحلام الجنة. ورأى في عينيها صفاء الشريعة السماوية وفي خدّيها توقد الفكر الإِلهي العظيم وعلى شفتيها احمرار الشفق الذي يخيل للعاشق دائماً أن شمس روحه تكاد تُمسي. ورآها في جملتها تمثال الفنّ الإِلهي الخالد الذي يُدْرَس بالفكر والتأمل لا بالحسّ فأطاعها كأنها إرادته واستند إليها كأنها قوَّته وعاش بها كأنها روحه. فذلك هو الذي يشعر بحقيقة الحب وهو الذي يقول لك صادقاً مصدوقاً: إن كل لفظة من لغة الطبيعة في تفسير معنى الحب كأنها صَلْصَلة الملَك الذي يفجأُ الأنبياء بالوحي في أول العهد بالرسالة. ليس كل ما يعجبك يرضيك ولكن كل ما يرضيك يعجبك فالجمال الوصفي الذي يقاس بالنظر ويخرج منهُ الفكر بنسبة هندسية جمال صحيح وحريٌّ أن يكون معجباً ولكنهُ على كل حال بناءٌ جسمي كالفصر المشيد الذي يعجب الفقير المعْدَم فيتمناه فإن هو صار لهُ خالياً لم يرضه لأنهُ لا يلتحف سقوفه المموَّهة ولا يفترش أرضه الموطأة ولا يلبس جدرانه الموشاة ولا يقتات من هوائهِ الطلق. أما الجمال الذي يرضي فهو الذي يشفُّ عن صورة روحك بغير ما يخيلها لك ماء الحياة العكر هذا الذي لا يشفُّ عن شيء ولا يزال يضطرب فيجعل شبحك في اختلاطه كأشباح البهائم إذا ضربت في الماء بأرجلها. فترى من ذلك الجمال كأن ملكاً هبط عليك من السماء وفي يده مرآة فنظرتَ فإذا صورتك بعينها ولكنها في يد ملك. وقليل أن يجد الناس مثالاً من ذلك الجمال فكثير منهم يجحدونه ويرونه ضرباً من الوصف الشعري الذي يظهر في خلقهِ ولإبرازه مقدار ما في الشعراء من روح

الله. وإنما يجحد مثال الجمال الكامل من لا يستطيع أن يكون مثال الحب الكامل وإذا كانت قد علاها الصدأ فكيف يعلوها الوجه الجميل. وكيف تخلص إلى روحك من طين هذه الكأس الزجاجية المرآة الصدئة نشوة الجمال ولو سكبت فيها حور الجنة كل ما في خدودها. ولقد قيل أن قوماً من العرب ترحَّلوا عن بعض منازلهم فكان من أنْسائِهم قطعة مرآة صقيلة كأنها وجه المليحة التي نسيتها فمرت بها ضبع كأشأم ما خلق الله قبح طلعة وجهامة منظر حتى كأن في وجهها تاريخ الجيف التي اغتدت بها. فوقفت عليها تعجب من إشراقها وسنائها وما كادت تنظر فيها حتى راعها وجهها ولا عهد لها برؤيته من قبل لأن الله رحيم ومن رحمته أن لا تعرف الوحوش أنها وحوش وأن لا تجد أسباب هذه المعرفة. فانقبضت الضبع وزَوَت وجهها وقالت: من شرٍّ ما اطَّرحك أهلك أيها المرآة. . .! فجمال هذه الضبع الذي جحدته المرآة كما يجحد الكافر رحمة الله وحسنها الذي أحالته قبحاً كما يُحيل الطبع اللئيم كل حسنة تتصل به هما أشبه شيء بالعقل والقلب في المحب الأخرق الذي يحب بحواسه فتجوع روحه وتشبع وتعتلّ بالتخمة أيضاً. . . وكم في الناس من مثل هذه الضبع وكم في الحسان من مثل تلك المرآة. ما أحسب الإحساس إلاَّ نكتة صافية في القلب تقابل نكتة العين التي يكون بها البصر فكل ما انطبع في هذا انطبع في تلك لكي تكون الروح بين مرآتين فيسهل عليها أن تدرس الحقيقة بالمقابلة فإذا نزل الشاعر الحسَّاس بروضة غناء أحسَّ بقلبه كأنما يخضرُّ بعد يُبس. وإذا أطلَّ في الغدير الصافي أحسَّ بمعنى الماء ينصبُّ في عروقه. وإذا نظر إلى وجه الجميلة الحسناء فلماذا لا يحس أن قلبه امتلأ جمالاً حتى كأنهُ لا يعشق إلا شيئاً في نفسه. بلى وأكثر من ذلك فإن الشاعر ليكتب عمن يحبها فيرى كأنه ينفخ في كل

في رياض الشعر

كلمة معنى من الحياة لأنهُ لا يكتب كلاماً بل يخط صورة قلبهِ. والعواطف الحية تبقى حية ولو كانت مرسومة لأنها لا تجتمع في شكلها الذي تنتهي إليهِ إلاَّ بعد أن تمر في أدوار الحياة فتألفها الأرواح وتصير كاللفظ ما هو إلاَّ أن يذكر حتى ترى معناه للذهن ماثلاً. بلى ولقد يخبَّل إليَّ أيها القمر الجميل حين أكتب عمن أهواها أنك لفظ في ألفاظي تطلع من المداد فإذا قلت وجهها فهل تظن هذا اللفظ الذي هو جملة الجمال إلا قمراً في الكلام. وإذا فلت ابتسامها فهل ترى الحروف إلاّ الفجر الندي وإذا قلت هي فهل ترى إلاّ ضمير الطبيعة التي تأخذ عنها الإنسانية دينها؟ أة لو تعلم أيها القمر من هي! مصطفى صادق الرافعي في رياض الشعر رأي مختبر عاقلِ عذيريَ من خُلُقٍ باسلِ ... أحدَّ وأمضى من الذابلِ صليبٍ على القسر لا يلتوي ... إذا غمزتهُ يد الناقلِ إذا شاقني الأمر صعب النوال ... مضيت ولو أنهُ قاتلي وإن حال من دونهِ حائلٌ ... مشت أخمصاي على الحائلِ حديد قوي النفس ذو همة ... تضايق في جسدٍ ناحلِ وأورثنيها فًتى أمثلٌ ... وأُورثها لفًتى ماثلِ بلوتُ الزمانَ وأهل الزمانِ ... فخذ رأي مختبرٍ عاقلِ

رأيتُ الملوك إذا أُطلقوا ... أضرَّ من الجارف الغائلِ نفوس الرعايا وأعراضها ... وأرزاقها أكلة الآكلِ

وُعودهمُ برقها خلَّبٌ ... وأقسامهم ضحكةُ الهازلِ ولو عقلوا قيَّدوا نفسهم ... ومن لك بالمطلق العاقلِ فتلك القيودُ ضمان العروشِ ... توطّدها في المدى القابلِ حقوق الملوك بتقديسها ... دعاوى على الحقِ للباطل همُ ميَّز الله أشخاصهم ... بشيءٍ ولكن رضي الخاملِ بني الشرق هبُّوا فقد طالما ... زحفتمُ في الدَّرّك السافلِ إلى مَ تنامون عن حقكم ... وتعبث فيكم يدُ العاملِ ويظلمكم رجلٌ واحدٌ ... وأنتم عداد الدُّبى النازلِ فدونكم العلم فهو المحرّ ... ر والرّق لازمة الجاهلِ وخلّوا الديانات طيَّ القلوب ... وكونوا عن الخلف في شاغلِ ألم تنظروها غدتْ آلةً ... لتفريقِ جمعكُم الحافلِ ولا ترهبوا الموت فالموت لا ... يؤخرُهُ وَجَلْ الواجلِ داود عمون إن في هذه الأبيات لصورةً معنوية لشاعرها الكبير. ولئن كنا قد اخترناها لهذا الجزء فلأنها أشبه شيءٍ بمرآةٍ تتجلى فيها نفس داود بك عمون. ففي الجزء الأوَّل منها وصفٌ ينطبق على الشاعر انطباقاً تاماً , وفي سائرها أفكار ومبادئ عرفها الناس في هذا الرجل المتقد ذكاءً وعزماً. فهي لمن عرفوا داود عمون ولمن لم يعرفوه صورة عنهُ وعن أفكاره طبق الأصل وإنما نشرناها مع صورتهِ لتكون متممة لها.

زهرة بنفسج الدكتور نقولا فياض أشهر من أن يُعرَّف , فهو الشاعر الذي يسحر القلوب , والخطيب الذي يسترقّ الألباب. وستتحف الزهور قرَّاءَها تباعاً بما ستجود بهِ قريحة هذا الأديب الكبير. وهذه القصيدة الرقيقة باكورة ما تقدمهُ إليهم: أهوى البنفسج آية الزَّهرِ ... في الشكل والتصوير والعطرِ وأحبّهُ في الأرض مختبئاً ... وأحبُّهُ في بارز الصدرِ ولكل عذراءِ أقدّمهُ ... ما دام فيهِ حياؤه العذري لكن شجاني منهُ حادثة ... أجرتْ دموع عرائس الشعرِ هي زهرة بجوار ساقيةٍ ... نبتت وعاشت عيشة الطهرِ لم تدرِ غيرَ العشب مُتَّكأً ... وسوى عناق الماءِ لم تدرِ فا فاستيقظت يوماً كأن بها ... سكراً وقد شربت ندى الفجرِ تبكي جوًى وتقول ما أملي ... لو عشتُ خالدةً بذا القفرٍ حسناء لكن لا عيون ترى ... حسني ولا من عارفٍ قدري هلاَّ صعدتُ إلى ذُرى جبلٍ ... وبدلتُ هذا الكوخ بالقصرِ فأرى الجديد من الوجود وما ... تحوي معاني الكون من سحرِ وأشارف الدنيا وأجعلها ... تطوي مناظرها على نشري قالت وقام بها الهوى فمشتْ ... في القفر مثل ظبائهِ العُفرِ والريح تحملها وتقعدها ... وتموج بين الشعر والخصر حتى إذا صعدتْ وما ابتعدت ... وقفتْ تجيل الطرفَ عن كبْرِ فرأت بساط العشب منتشراً ... تلوي عليهِ معاطف النهرِ جاراتها في الحيّ نائمة ... حمراً على أعلامها الخضرِ

فاستبشرت بالفوز وانطلقت ... تعدو ولا تلوي على أمرِ وحلا لها السفَرُ البعيد وما ... حسبت حساب الحلو والمرِّ الأرضُ مرعرةٌ ومحرقةٌ ... فكأنها تمشي على جمرِ ورفيقها هُوج الرياح وقد ... ثارت عليها ثورة الغدرِ ترمي بها كل الجهات فلا ... ترتاح من كرٍّ إلى فرٍّ حتى أصابت هضبةً فإذا ... فيها نعيم العين والفكرِ من تحتها الجنات مشرقةٌ ... بالزَّهر كالأفلاك بالزُّهرِ والناس والأشياء مائجةٌ ... كالبحر في مدٍّ وفي جزرِ قالت بدأت أرى فواطربي ... لو كنت أبلغ موطئ النَسرِ أعلو إلى قمم تحّجبها ... تلك الغيوم بحالك السترِ فأرى بديع الكون تحت يدي ... وأفضُّ منهُ غامض السرِّ يا للبنفسجة الجميلة من ... أهوال ما قاستهُ لو تدري عزَّ السبيل إلى مطامحها ... في مصعد الأشواك والوعرِ وأصاب أرجلها الضعيفة ما ... يُمني الحديدَ الصلبَ بالكسرِ فتأوَّهتْ ندماً ولو قدرتْ ... رجعتْ على أعقابها تجري لكنها داخت وصيَّرها ... خوفُ السقوط كراكب البحرِ فتشبثتْ بالأرض مفرغةً ... جهد القوى وبقيَّة الصبر حتى تسنَّمتِ الذُرى وغدتْ ... في الأوج تتلو آية الشكرِ لكنها لم تلقَ وا أسفي ... في الأوج غير جلامد الصخر لا عشب ينبت في جوانبهِ ... أبداً ولا أثرٌ لمخضرِّ

والعاصفات كأنها أسُدٌ ... في الجوّ تزأر أيما زأرِ والغيم ساوى في تلبُّدهِ ... ما بين نصف الليل والظهرِ فجثت لأوَّل مرَّة وبكتْ ... كالطفل من تعب ومن ذُعرِ والبرْدُ أفسد لونها كمداً ... من كلّ مزرَقٍّ ومحمَرٍّ فاصفرَّ ذياك الحبين كما ... ذهبتْ نضارة ذلك الثغرِ من قهرها أنَّتْ وقد سُمعتْ ... وسط الزوابع أنَّهُ القهرِ يا ليتني لم أصبُ نحو عُلًى ... وبقيت بين عرائس الزهرِ قم ارتمت ضعفاً وأخرسها ... شبَحٌ بدا من جانب القبرِ وتصلَّبت أعصابُها ومضتْ ... بالموت هاويةً إلى القعر مسكينةٌ قد غرَّها شرفٌ ... هو كالسراب لكل مُغترَ ظنت بأن لها العلاء غنى ... فإذا بهِ فقرٌ على فقرِ ما كان أهناها وأسعدها ... لو لم تفارق ضفة النهرِ الدكتور نقولا فياض بين فؤادي والجوى نشرنا للسيد عبد الحميد بك الرافعي شاعر الفيحاء مقاطيع شعرَّية دلَّت على مقدرته في هذا الفن. ونحن ننشر اليوم قياماً بوعدنا صورته ومقدمة قصيدة شائقة له نظمها في مديح آل الرفاعي. وقد أعادت علينا هذه الأبيات الطيبة ذكرى شعراء البداوة المجيدين: أيُّ قلب يا غريبَ المنحنى ... ضلَّ منّي ويحكم يومَ النوى هل له يا هل ترى من ناشدٍ ... هل له من ناشدٍ يا هل تُرى

أحرقَ البينُ بقاياه فمن ... لي بهِ وهو رمادٌ بالغضا كلّما هبَّت رياح الملتقى ... خلتُ في إدراجها منهُ هبا لا أبيتُ الليلَ إلاَّ شاكياً ... كرَّة السهد على جيش الكرى وإذا مرَّ خيال طارقُ ... منكِ يا ميُّ بوهمي وانثنى قامت الحرب لكِ الله على ... سوقها فؤادي والجوى والأسى ويلاه من نيرانه ... قوَّم الأضلاع مني وبرى ولقد كانت لعَمري قفصاً ... لفؤادٍ طار في جوّ الهوى

ما درى أن الهوى إشراكه ... تقنص الأسدَ ومَن لي لو درى يا مهاة العُرب يحمي خدرها ... في صدور البيد أطراف القنا أنا مَن تدرين لم يخطر على ... قلبهِ السلوان أو حبّ السوى غير أني يا ابنة القوم فتى ... يبذل النفس بتطلاب العلى حملته هذه الدنيا على ... غارب الغربة يجتاب الفلا في ضواحي الأرض أياماً وفي ... حاجرٍ يوماً ويوماً بالنقا صيَّر الانجاد أغواراً بما ... قد برى منها بتكرار السُرى تتشاكى النوق من أسفاره ... وتملّ الأرض من ضرب البرا ولحكم الدَّور أضحى مثلا ... ما انتهى بالسير إلاَّ وابتدى فكأني خاطرٌ ما وسعت ... دركه يا سعد أفكارُ الدُّنا فغدت تجهد في ترديده ... فمتى يا دهر ينزاح الغطا كم ليالٍ يفرق الليل بها ... حار في أطباقها بدر الدجى خضتها كالنجم في غلوائه ... اذرع البيد بأخفاف المطا تتهادى بيَ تيهاً ناقة ... تسبق السهم عن القوس انبرى قد عراها بعض ما بي فغدت ... تملأ الدنيا دويًّا بالرغا كلما أزعجها طول الونى ... نهَّضتها عزماتي بالحدا عبد الحميد الرافعي الحجاب احجبي وجنتيكِ عن أعين النا ... س فسرُّ خلف الحجاب وانظري مثلما يلوح المنارا ... ن إذ الشمس غُيّبتْ في الحجاب خليل مطران

في بلاد الأندلس

في بلاد الأندلس الرحلة الثانية قصدت عاصمة الأسبان هذه المرة عن طريق غير الطريق التي انّبعتها السنة الماضية. فبعد أن زرنا نابولي قامت بنا الباخرة إلى جنوى , فوجدناها أكثر جمالاً ونظافة من نابولي , وهي تمتاز عنها بمحاسن شواطئها , وكثرة متنزهاتها , وجمال حدائقها الغناء , وأهمها حديقة المركيز دي بلافتشيني وفيها كل أصناف الزهور والأشجار الموجودة في العالم , وكثير من التماثيل البديعة والرموز التاريخية. وقد شاهدنا فيها أشجاراً كبيرة من أرز لبنان الجميل. وهذه هي المرة الثانية التي أشاهد فيها أرز لبنان العزيز بعد أن شاهدته للمرة الأولى في حديقة القصر الملكي في بلدة الجرانخا في إسبانيا كما سيجيء الكلام عن ذلك. وأنهُ ليعزّ عليَّ أنه لم يتيسر لي حتى الآن مشاهدة أشجارنا التاريخية نفسها في أعلى تلك القمم الجميلة التي يفتخر لبنان بمحاسنها. وبالقرب من هذه الحديقة التي يقولون عنها أنها أكبر وأجمل حديقة في أوربا يوجد قصر جميل وروضة غناء للشاعر الكبير ادمون روستان ولكنهما أقل جمالاً وعظمة من قصره الشهير وغياضهِ ورياضهِ الفسيحة الكائنة في مسقط رأسهِ كامبو التي أتينا على ذكرها في الصيف الماضي.

ومما تفاخر بهِ جنوى أيضاً جميع مدن أوربا مقبرتها الشهيرة التي تستحق الزيارة لكونها آية في الترتيب والعظمة والجلال وفيها تماثيل وصور بغاية الإتقان والجمال. وهذه المقبرة هي لأهل البلد من جميع الطوائف والملل. ولكل فئة ترتيب خاص بغاية الإتقان والكمال. ومما يجعل لجنوى أهمية كبرى حسن موقعها الجغرافي وجمال شواطئها البحرية التي خصتها بهِ الطبيعة. وهي بلدة عامرة آهلة بالسكان كثيرة المصانع والمعامل أخص منها بالذكر معمل أنسلدو الشهير بصنع السفن الحربية. والطريق بين نابولي وجنوى من أجمل الطرق التي يقطعها الإنسان في البحار لأن الجزر الآهلة بالسكان , والجبال الكثيرة الأحراج والغياض تتخللها عن قرب على طول المسافة تقريباً. وبعد أن قضينا نحو 36 ساعة في جنوى زرنا في أثنائها بالأوتوموبيل شواطئها الجميلة التي يقصدها السائحون والسائحات من كل جهات العالم للتمتع بجمال مواقعها الطبيعية وطيب هوائها وصفاء سمائها , قامت بنا الباخرة إلى مدينة الجزائر حيث شاهدنا بمزيد الإعجاب والسرور آثار العمران الحديث وآيات المديبنة الفرنسية التي جعلت هذه المدينة الإفريقية من أجمل المدن منازلها ومبانيها على علوّ متتابع. ولكن أنَّى لبيروت تلك الشوارع الجميلة التي تسير فيها العربات والسيّارات دون أن يشعر الإنسان بأقل ارتجاج أو انزعاج. ولكل منزل في هذه المدينة تقريباً حديقة لطيفة بهِ وتحتوي على أجمل الإزهار وأحسن

الأشجار. أما الفنادق الفاخرة التي فيها , فهي , وإن تكن أقل عظمةً وغنىً من لو كندات شبرد وسافواي وهليوبوليس في مصر , أكثر جمالاً ورونقاً لحسن مواقعها العالية التي تطل على أحسن المناظر برًّا وبحراً ولاتساع الحدائق النضرة التي تحيط بها وتساعد كثيراً على انشراح الزائرين الذين يقضون بين أشجارها الكثيفة وأزاهرها الفائحة العبير أطيب الأوقات وألذّ الساعات. وبعد أن تمتعنا بمحاسن ما في هذه المدينة من ىثار المدينة والعمران التي قامت بفضل واجتهاد الأمة الفرنساوية قصدت بنا الباخرة رأساً إلى جبل طارق , ذلك المضيق المنيع الذي لا يعرف أهميته ومناعة تحصينه إلاَّ مَن يُسعدُهُ الحظ بزيارته. وقد اتفق أننا وصلنا إلى جبل طارق في آن واحد تقريباً مع الباخرة كرباثيا وهي التي أنقذت بعض ركاب الباخرة تيتانيك في تلك الفاجعة المؤلمة المعروفة. وعند تقابلنا حيّتها باخرتنا بأنغام الموسيقى. وفي سفح ذلك الجبل يوجد بلدة آهلة بالسكان يقطنها أكثر من 25 ألف نفس. ولولا ممانعة الحكومة الإِنكليزية وعدم تصريحها لكل أجنبي بالإقامة أكثر من أسبوع واحد فقط تلك البلدة , لكان عدد سكانها ازداد كثيراً. أما البلدة فهي بغاية النظافة والترتيب. والعادات الإنكليزية متأصلة فيها تماماً بحيث أن الإنسان يحسب نفسه في انكلترا. ومعظم الدكاكين والمخازن يقفل يوم الأحد , وبعضها يقفل يومي الجمعة والسبت أيضاً. والعربات لا تقدران تسير إلاَّ خطوة خطوة أمام الكنائس , خصوصاً

عند إقامة الصلاة. والرقص ممنوع في الملاهي والقهوات , بحيث أنهُ لا يوجد في البلدة إلاَّ محلات للسينماتوغراف فقط. أما القلاع والطوابي والاستحكامات التي تحيط بذلك الجبل , وخصوصاً المدافع العديدة المحكمة الوضع من داخل تلك الصخور الهائلة , فحدث عنها ولا حرج. ولا يدلُّ على وجود تلك المدافع في داخل الجبل إلاّ الثقوب العديدة المحفورة في تلك الصخور وأغلب تلك الثقوب مغطى ببعض الأشجار والأزهار , ولكن عندما تعكس الشمس أشعتها عليها في بعض ساعات النهار يتلألأ فولاذ تلك المدافع من فوهات تلك الخروق ومن تحت ظلال الأشجار والأزهار. وهناك مرقاة حربية تصل بين البلد وأعلى قمة ذلك الجبل وتلك الحصون المنيعة لسهولة التواصل وسرعة مناولة الأشياء عند لزومها. وبعد أن زرنا ما أمكننا زيارته من جبل طارق , وتمتعنا بمحاسن حديقتها الغناء التي تعزف فيها الموسيقى العسكرية كل يوم مساءً , ركبنا باخرة صغيرة أوصلتنا إلى الجزيرة البيضاء الشهيرة بمؤتمرها الدولي المغربي الأخير؛ وهي أول الحدود الإسبانية , بعد أن تنازلت اسبانيا لانكلترا عن حقوقها في جبل طارق سنة 1882. ولهذا الحادث التاريخي تذكارٌ في منتصف بلدة جبل طارق , وهو عبارة عن بابين كبيرين بشكل قنطرتين , يمثل أحدهما الحكم الإسباني القديم , وعليهِ الرموز الملكية الإسبانية , ويمثل الثاني الحكم الإنكليزي مع رموزه وشعاره المعروف فليخسأ من يسيء الظن ولم تطل مدة إقامتنا في الجزيرة لأنها بلدة صغيرة ليس فيها من

الملاهي والآثار المهمة ما يستوقف المسافر , لا سيما إننا كنا في شوق عظيم إلى مشاهدة الأندلس الجميلة التي يتحدث بجمالها الركبان , ويتوق للتمتع بمحاسن آثارها العربية كل شرقي. والأندلس أجمل وأخصب جهات إسبانيا , وأكثرها آثاراً وأجلّها تذكاراً , وهي بلاد كثيرة السهول والروابي , قليلة الصخور والجبال. والسير في أرجائها الفسيحة يشرح الخاطر ويسرّ النواظر , لكثرة ما يشاهد الإنسان من المروج الخضراء , وجنائن الفاكهة المتنوّعة الأصناف , وسهول الزيتون المترامية الأطراف , وهي تشبه كثيراً بتنسيق مزروعاتها وألوان خضرتها سهول البقاع في سوريا. ولآهل الأندلس عادات خاصة بهم , ومزايا وأخلاق قومية يمتازون بها عن سواهم. فرجالهم من أشد الرجال , وأكثرهم نشاطاً وإقداماً؛ ولذلك يكثر بينهم عدد مصارعي الثيران الذين يمتازون على أقرانهم في ساحة المصارعة. أما نساؤهم فمن أجمل نساء إسبانيا , وللجمال الأندلسي شهرة عظيمة في العالم. فهنّ على الغالب طوال القامة , يقرب لونهنّ إلى السمرة أكثر منهُ إلى البياض. ومع ذلك فقد شاهدت منهمّ من يُخجل بياض وجوههنّ نورَ الصباح. وللنساء ولعٌ شديد في حب التزين بالزهور ورصفها على الصدور والرؤوس. وللفلّ الأندلسي الجميل الحظّ الأكبر في ذلك مما جعلني أتذكر عفواً حين مشاهدة بعضهنّ قول خليلنا العزيز شاعر بعلبك: زانت الرأس بفلٍّ ... هو بالرأس تحلّى

ما رأت قبلكِ عيني ... وردة تحمل فُلاّ أما تلك العيون التي أن رَمت قتلت , فبسوادهنّ تفاخر الأندلسيات كلّ حسان العالم , وقد خطر على بالي بعض أبيات للمرحوم الشيخ خليل اليازجي بعد أن كنت قد هجرت ونسيت الشعر وأهله. أما الأبيات فهي: بيض الصوارم تفدي الأعين السودا ... فتلك لا تبتغي للضرب تجريدا وأسمرُ الرمح يفدي العطف منثياً ... فذاك لا يبتغي للطعن تسديدا وأما ذلك الفمُ الصغير الجميل الذي يفترُّ عن دور , ويبسمُ عن أقحوان , فقد نطقت جوارحي عند رؤيته , قبل أن ينطق فمي بقول بعضهم: وفم كصدري ضيّق لكنَّ ذا ... يحوي اللهيب وذاك يحوي الكوثرا وأما تلك الأيدي والزنود الجميلة فلا أجد في وصفها قولاً أوفق وأتم مما قال الشاعر: وزندين لو لم يمسكا بدمالج ... لسالا من الأكمام سيل الجداول والأندلسيون أهل كرم وأنس. وقد اقتبسوا من العرب الأنفة والمرؤة وإكرام الغرباء. ولم تزل إلى الآن ملآكلهم تشبه كثيراً المآكل العربية , ودورهم حافظة أيضاً شكلها الشرقي الجميل القديم فكل دار لا تخلو من فسحتين عند مدخل الباب الكبير , تفصل بينهما قنطرة شرقية الشكل , وفي وسط الساحة الثانية بركة مياه , والأزهار مرصوفة من حولها , مما يجعل للبيت رونقاً جميلاً ويزيد أهله استعداداً حسناً للانشراح وتعاطي كؤوس الراح. والنساء مثل رجالهنّ أهل طرب وأنس. ويمتزن عن باقي النساء

من إدارة الزهور

بسلامة القلب وشدّة التأثير. ولكن إذا علق قلبهنّ بأحد فمن الصعب أن يخلص من أيديهنّ لشدة مفعول الغرام والانتقام في قلوبهنّ السليمة. ومن العادات الخاصة بأهل الأندلس , والمنقوطة طبعاً عن العرب , إن الشاب لا يقدر أن يقابل خطيبته ولا يكلمها مباشرة إلا بعد مرور بضعة أشهر على عقد الخطبة ويجب أن يتردّد في تلك الأثناء إلى منزل والدها دون أن يصعد إلى الدور الأعلى حيث تكون خطيبته فيضعون له كرسيّاً في أول المدخل وعروستهُ تكلمهُ قليلاً من نافذة البيت. وفي أيام الآحاد والأعياد - وما أكثر الأعياد في هذه البلاد - عند ذهاب الخطيبة إلى الكنيسة يجب على الخاطب أن يتتبع خطواتها , وعليها أن تحاول الإِعراض عنهُ وتتظاهر بعدم الرغبة فيهِ. وفي أثناء الخطبة يجب على الفتاة أن تظهر أكثر من ألف مرة عدم رغبتها في الاقتران , ومع ذلك عند مجيء خطيبها في الساعة المحددة إلى البيت يجب عليها أن تطل من الشباك وتكلمه. وسنجيء في مقالٍ آتٍ على ذكر ما نشاهده من أحوال الأندلس مدريد نجيب زلزل من إدارة الزهور هذا الجزء الأخير الذي يصدر من الزهور قبل عطلة الصيف السنوية. وموعدنا والقرّاء الأدباء أول أكتوبر تشرين الأول القادم.

تربية الطفل

تربية الطفل قد يستعمل فريق من الأمهات بعض المشروبات كالجعة لزيادة اللبن ولكن اللبن الذي تزداد كميته هذه الوسيلة يصبح رديئاً ويعرّض الطفل لجملة أمراض؛ ولا يغتر الإنسان بالنمو الذي قد يظهر على الطفل عند ابتداء استعمال هذه المشروبات لأنهُ يكون وقتياً. وكل المشروبات الروحية تفرز أيضاً مع اللبن وتحدث تأثيراً رديئاً كالصراخ والبكاء بدون سبب والقلق في النوم والتشنجات العصبية والضعف العمومي. وعلى كل مرضع أن تتحاشى الدواء بقدر الإمكان فلطالما انطلقت أمعاءُ الطفل بالمسهل الذي تأخذه الأم , دون أن تتأثر هي به , وطالما كان للمسكنات والمخدرات تأثير أقوى في الأطفال منهُ في الأمهات , وكم من دواءٍ قوي تناولهُ الأم فأتلف صحة الطفل , فيجب على كل مرضع أن تسأل طبيبها الذي يصف لها الدواء إذا كان مؤثراً في الطفل أم لا. الرضاعة والطمث - ينقطع الحيض غالباً أثناء الرضاعة. ولوحظ أن الحيض يظهر عند المرضع في الشهر الثاني إلى الرابع في 15 في المائة ومن الشهر الرابع إلى الثامن في 30 في المائة ومن الشهر الثامن إلى الثاني عشر في 30 في المائة أيضاً , وفي السنة الثانية في 25 في المائة. وعند ظهوره يلاحظ تغيّر في صفة اللبن وكميتهُ يضعف معُ الطفل ويحتاج الحال إلى استعمال الرضاعة المختلطة حتى يفطم الطفل. وقد لا يكون لظهور الحيض تأثير في اللبن في بعض النساء , وذلك نادرٌ.

الرضاعة والحمل - لا تحمل النساء إلاَّ بعد انقطاع الرضاعة وظهور الحيض؛ ولكن بعضهنَّ يحملنَ أثناء الرضاعة. ذكر رمفري أن النساء اللواتي يحملن أثناء الرضاعة بدون ظهور الحيض لا يتجاوزنَ 6 في المائة بيد أن النساء اللواتي يحملنَ أثناء الرضاعة وبعد ظهور الحيض يبلغنَ 60 في المائة. ولا بأس من إرضاع الحامل طفلها إذا لم يبلغ السنَّ المناسبة للفطام واستطاعت هي ذلك دون أن يطرأ عليها أو على ولدها ضعف. المراضع - أكمل غذاءٍ للطفل هو لبن أمهِ , وإن لمن واجب كل أُمٍّ قوية البنية جيدة الصحة إرضاع طفلها. وأما إذا لم يكفِ لبن الأم أو كان لبنها رديئاً , أو كانت صحتها غير جيدة لإِصابتها بالسّ أو بمرض قلبي أو بحمى شديدة أو بخرَّاج في الثدري , فيجب أن يمنع الطفل عن لبن الأم ويستبدل الغذاء الذي هيأتهُ له الطبيعة. لأنه من الخطأِ أن نسمح للأم المصابة بتدرُّنٍ رئوي مثلاً أن ترضع طفلها فتنتقل العدوى إليهِ بطريق اللبن , وأفضل طريقة حينئذٍ هي إحضار مرضع سليمة البنية لأنها خيرٌ من الرضاعة الصناعية. ويجب عرض المرضع وطفلها على الطبيب كما أنه ينبغي عمر طفلها مساوياً بالتقريب لعمر الطفل المراد إرضاعهُ؛ ولا بدَّ من الاعتناء بهِ أيضاً خشية أن تتكدر حزناً عليهِ فيتكدر لبنها. ويجب الاهتمام بالمرضع من وجهة الغذاء والشرب والنظافة والرياضة البدنية والمعيشة الأدبية لأن لكل ذلك تأثيراً في الطفل كما تقدَّم. وزن الطفل - يحسن وزن الطفل مرة أو مرتين في كل أسبوع ,

لأن ذلك يعّفنا درجة نموّه وبالتاي حالة غذائه. وهناك أنواع مختلفة من الموازين لهذا الغرض. ومن البديهي أن في زيادة وزن الطفل دلالة على صحته. ويكون وزن الطفل عند الولادة نحو سبعة أرطال انجليزية , ولا ينتظر أن يزيد في الأسبوع الأول بل ربما نقص في الأيام الثلاثة الأولى عما كان عند الولادة. ويسترجع هذا النقص في اليوم العاشر تقريباً , ولابد أن يزداد بعد ذلك بالتدريج ونتراوح الزيادة بين 4 أواق إلى 8 في الأسبوع. ومتوسط الزيادة هو 6 أواق تقريباً. فالطفل الذي يزن سبعة أرطال انجليزية وقت الولادة يزداد وزنه إلى تسعة تقريباً في نهاية الأسبوع السادس , ويكون 11 رطلاً في نهاية الشهر الثالث , 16 رطلاً في نهاية الشهر السادس , و20 رطلاً في نهاية الشهر التاسع , و22 رطلاً في نهاية السنة الأولى. ويمكن أن يقال على وجه العموم أن الوزن يبلغ الضعفين في آخر الشهر الخامس وثلاثة أضعاف في آخر السنة الأولى. ومتى نقص وزن الطفل عما ذكر يجب الالتفات إلى أوقات الرضاعة وتنظيمها , أو إلى زيادة كمية اللبن إذا كانت لا تكفي الطفل , أو إلى صفة اللبن فإنهُ فد يكون رديئاً ولا يكفي للتغذية كما يحسن عرض الطفل على الطبيب حتى تتحقق الأم من سلامتهِ من الأمراض. نزهة الطفل - يصحّ إخراج الطفل للنزهة , إذا كان سليماً , بعد انتهاء الأسبوع الأول في زمن الصيف , وبعد انتهاء الأسبوع الثاني في الربيع والخريف , وبعد انتهاء الشهر الأول في الشتاء. والنزهة في الهواء الطلق تزيد الشهية وتحسّن الصحة وتساعد الصحة على النموّ. ويجمل أن لا تتجاوز

النزهة ربع ساعة أو عشرين دقيقة وتكون في أنسب وقت من النهار , فيلزم أن تتقي الأمّ ساعة البرد في زمن الشتاء , وساعة الحرّ في وقت الصيف. كما يلزم أن تحذر التيارات الهوائية ولتكن الخادمة نفسها على استعداد قبل أن تهيئ الطفل للخروج بالباسه طاقية على رأسه وتغطية وجهه بقطعة من الشاش , ولفه برداء من الصوف فوق الملابس الاعتيادية ويحمل الطفل على الذراعين في الشهر الأول , وأما بعد ذلك فيمكن إخراجه في مركبة صغيرة. وإذا لم يشعر الطفل براحة وجب إرجاعه سريعاً. وعند رجوعه لا بد من خلع الملابس الزائدة التي استعملت في النزهة. ويكفي الطفل أن يتنزه مرة في اليوم في الشهر الأول ويمكن إخراجه بعد ذلك مرة في الصباح وأخرى في المساء , دون أن تتجاوز المرة الواحدة ثلاثين دقيقة. مركبة الطفل - أفضل مركبة للطفل ما كانت متينة التركيب بعجل فيهِ منطقة من المطاط حتى يكون اهتزازها ليناً , وبغطاء أي كبوت بقي الطفل حرارة الشمس وتأثير المطر. ولا بد من وضع الطفل بحيث يكون وجهه أمام الخادمة أو المرضع فيسهل عليها ملاحظته. وعلى الخادمة أن تسير بتأنٍّ في طريق سهلة غير وعرة , وأن لا تقف في الطريق للكلام مع فرد من الأفراد لئلا يشغلها هذا الكلام عن ملاحظة الطفل وهو واجبها المهم وعليها أن تحترس فلا تعبر الطريق حتى تتأكد من خلوّها من السيارات وعربات الترام وخلافها. الدكتور محمد عبد الحميد

شؤون لبنانية

شؤون لبنانية اتجهت الأنظار في الآونة الحاضرة إلى جبل لبنان انتهاء مدة حاكمهِ العام واجتماع السفراء بالباب العالي في الاستانة لتقرير التعديل المرغوب في إدخاله على النظام الأساسي. ولما كانت مثل هذه الشؤون السياسية لا تدخل في دائرة أبحاث الزهور لم نشأ أن نتعرض لها من هذه الوجهة بل اكتفينا بإيراد كلمة من الوجهة الاجتماعية التاريخية سنردفها ببحثٍ واف في وقت قريب. كان الأمراء في لبنان أصحاب السلطة المطلقة شأن معظم حكام ذلك الزمان. فكانت البلاد تسعد أو تشقى لمجرد استعداد أميرها ورغبته في إسعادها أو ظلمها. وقد تولى الحكم في لبنان أمراء كثيرون أشهرهم الأمير فخر الدين المعني والأمير بشير الشهابي والأمير حيدر اللمعي. ثم كان أن أخذت الرعية تفهم حقوقها وتدرك أن الحاكم إنما هو منها وبها , فشرعت تعمل على تقييد سلطته. وأخذ أفرادها يجدّون ويجتهدون , فأثروا علماً ومالاً واكتسبوا نفوذاً بعيداً , فحدثت في البلاد حركات سياسية واجتماعية أفضت منذ نصف قرن إلى تغيير الهيأة الحاكمة ونزع السلطة من الأمراء والزعماء وتأليف الحكومة اللبنانية على شكلها الحاضر. وكانت قاعدتها الأساسية المساواة بين أفراد الرعية بإلغاء امتيازات الأسَر وأصحاب المقاطعات. فكان لهذا الانقلاب أكبر تأثير في ذوي المقامات وهم لم يتعوّدوا إلا توّلي الأحكام فتضعضعت أحوالهم وساء مصيرهم , وهذه

سنّة الاجتماع في سيره. على أن فريقاً منهم لم يستسلموا إلى هذا الانقلاب بل شمروا عن ساعد الجدّ لينالوا بالاجتهاد ما لم يكن بقي في الإمكان نيله بفضل الآباء والأجداد. ولنعم ما فعلوا. ومن هؤلاء العظاميين العصاميين الأمير يوسف أبي اللمع. وقد جاءنا بمناسبة وفاته في الشهر الماضي مقالة ضافية من أحد كبراء كتّاب لبنان ضمّنها كاتبها نظرة في تاريخ لبنان الاجتماعي منذ عهد إبراهيم باشا المصري ونبذة من ترجمة حياة الأمير المتوفي ضاق نطاق هذا الجزء عن استيعاب هذه وتلك , فاكتفينا بما تقدم مرجئين الإفاضة في البحث التاريخي إلى فرصة أخرى. أما الأمير المتوفي فهو ابن الأمير إسماعيل

ابن الأمير حسن سليل أمراء قيدبيه. وأمه السيدة أسماءُ وحيدة الأمير حيدر اللمعيّ الشهير , وللأسرة اللمعية شأن كبير في تاريخ لبنان. ولد رحمهُ الله في بيت شباب سنة 1848. وبعد أن أحرز نصيباً وافراً من العلوم واللغات دخل في سلك الحكومة وهو لم يتجاوز السابعة عشرة من عمره , فعيّن وكيلاً لقأعقامية المتن على عهد الأمير بشير عساف وأخذ بعد ذلك يتقلب في وظائف الإدارة مدة ثلاثين سنة فأسندت إليهِ قأعقاميات مختلفة ترك فيها آثاراً طيبة تشهد له برغبة حقيقة في نفع بلاده وتحسين شؤونها الاقتصادية. وهذه ميزة حياته الكبرى , فإن له فضلاً يذكر في تمهيد سبل المواصلات , وأنشأ المجالس البلدية , وإحياء التجارة والصناعة والزراعة ولاسيما زراعة التبغ التي اعتنى بها مدة خمس عشرة سنة حتى أحيا مواتها وأعاد إلى البلاد ما كانت تجني قديماً من المنافع من هذا الصنف. فأصبح اليوم الألوف من اللبنانيين يستدرّون الأرباح الطائلة من زراعة التبغ والمتاجرة بهِ. وقد عرفت الحكومة له فضله فكافأته بالأوسمة والرتب العالية. وكان رضي الأخلاق سليم الطوية ناهض الهمة , أحب وطنه حبّّا جمّاً وخدمهُ خدمة صادقة. وبالإجمال فإنه عرف أن يحفظ بسعيه مقام أسرته الكريمة فجمع بين طارف المجد وتالده , فعاش حميداً ومات فقيداً. ووقف شبلي بك ملاَّط شاعر لبنان على قبره باكياً: على الركنِ الذي كانت لديهِ ... تهونُ المثقلاتُ من الأمورِ على الرجلِ الذي رمتِ المنايا ... بهِ القطبين من حسَبٍ ونورِ

مس كايل

مس كايل على الجانب الأيمن من الخط الحديدي الواصل بين مصر ومصر الجديدة , في المكان المعروف بكبري غمرة , بناءٌ فخم متسع الأرجاء , ممتد الأطراف , في منبسط مخضرّ الأديم , طلق الهواء , يحيط بهِ شبه سهل يتمشى فيهِ شارع عباس حتى أقصاه , وهو مطلٌّ عليه يستأنس بحركةٍ غير منقطعة فيهِ من دون أن يبلغ إليهِ ضجيجها فيزعجهُ في راحته وسكونه. . . ذلك البناء الجميل هو دار علم وفضيلة؛ هو نتيجة الاجتهاد والثبات؛ هو منشأ أمهات المستقبل في مصر؛ هو الكلّية الأميركية للبنات في هذا القطر؛ هو الأثر الطيب الخالد للمرحومة مِسْ كايْل التي اغتالها الموت في أوائل الشهر الماضي. وددنا أن نكتب تاريخ هذه المرأة الفاضلة فإذا بنا أمام تاريخ النهضة الأدبية النسائية في مصر في الثلاثين السنة الأخيرة؛ ولا غرو فإن مس كايْل رافقت تلك النهضة منذ استهلالها حتى عهدها الحاضر فكانت تنشيء المدارس للبنات وتديرها بحكمة واجتهاد يوم لم تكن دُورُ العلم آهلةً بغير النزر القليل من الطلبة فضلاً عن الطالبات؛ ومشت معها آخذة بيدها , ومتدرجة بها في مرقاة النجاح حتى لقد ارتبط تاريخ حياتها بتاريخ نشوء وارتقاء هذه النهضة , وما عمل ثلاثين سنة مملؤة بالنشاط والثبات والإخلاص بالعمل اليسير الذي لا يكترث له. قدمت مِسْ كايْل القطر المصري فبدأت عملها في اسيوط حيث أقامت زهاء ثماني سنوات رئيسية لمدرسة البنات التي أنشأتها الرسالة الأميركية في تلك المدينة. ثم رأست مدرسة الأميركان الكبرى بالأزبكية في القاهرة تسع عشرة سنة متوالية بذلت لها في خلال كل مواهبها الفطرية , وخبرتها المكتسبة , فما برحت تلك المدرسة تنمو وتزهو حتى رأيناها في هذا العهد من خيرة معاهد التربية والعلم. ولما رأت ثمرات أعمالها يانعة في هذا القطر وعلَّمتها خبرتها وكثرة احتكاكها بالمصريات أن الفتاة المصرية لا يعوزها غير الوسائل لإدراك الترقي الحقيقي ,

رأت أن تنشيء في مصر كلّيةً كبرى للبنات تجعل تنشئتهنَّ فيها أمكن في العلم , وأعمّ في الفائدة. ولم يكن في وسعها , وهي امرأة لا ثروة لها غير اجتهادها وإخلاصها , أن تنفق على تشييد هذا المعهد , وتهيئة لغرضها المقصود. ولكن ذلك لم يحل بين همتها وبين تحقيق هذه الأمنية فقصدت إلى الولايات المتحدة الأميركية تستدرّ المال بالخطَب عن الشرق وحاجته إلى العلم , وتستجدي قومها باسم الإنسانية فجمعت نحواً من اثني عشر ألف جنيه وحملتها إلى مصر راضية نفسها بقيامه

بالواجب , وعن سعيها لتكلله بالنجاح. وجاد لها المحسنون في مصر أيضاً بمبلغ غير يسير فأنشأت ذلك البناء الفخم الذي أشرنا إليهِ في فاتحة هذا المقال , وجعلته كلّية للبنات يتعلمنَ فيهِ العلوم على أنواعها , ويترَّبينَ فيهِ التربية الفضلى. ومن المأثور عن هذه المرأة أنها كانت فاضلة بكل قوة هذه الكلمة. فقد حدثتنا عنها حضرة الآنسة اميليل بدر - والآنسة بدر رفيقة مس كايل ويدها اليمنى في عملها المجيد خلال خمسة عشر عاماً - أنها كانت متصفة بكل الأخلاق الطيبة التي أنت تحببها إلى تلميذاتها اللواتي كنَّ يحترمنَ فيها الرئيسة المرشدة , والأم الحنون العاقلة معاً. وبلغ من حب تلميذاتها لها أنهنَّ كنَّ يتسابقنَ إلى خدمتها وفاءً لسابق جميلها عليهنَّ فكانت إذا انتدبت إحداهنَّ لعمل ما لا تجد منها إلا اندفاعاً لإتمام ذلك العمل. وقد طالما أحوجتها مساعدة في التعليم لسبب من الأسباب فكانت السيدة هند عمون , والآنسة سلمى خشف - وكلتاهما من متخرجات مدرستها - تلبياتها إلى ما تريد حباً وكرامة. ولو أن مس كايل اضطرت إلى معونة كل تلميذاتها لرأتهنَّ جميعهنَّ هند عمون وسلمى خشف. ذلك هو بلا ريب عنوان التربية المثلى والأدب الصحيح. أما هي فكانت تعامل الطالبات معاملة الأم لبناتها فلم تكن تميز نفسها عنهنَّ بشيء ولا تفرق بينهنَّ لأمر من الأمور. ولما أنشأت الكلية كان في الفرقة الأولى خمس أوانس انقطعت أربع منهنَّ عن المدرسة لأسباب عائلية فجعلت مس كايل من الخامسة وحدها - وهي الآنسة نجلا داغر - فرقة لذاتها تعطى حقها من العلم اعتباراً للأسبقية التي كانت لها على سائر التلميذات وفي ذلك ما فيهِ من الأنصاف والعدل. وخلاصة ما يقال أن النهضة الأدبية النسائية في مصر قد فقدت , بفقد مس كايل , يداً نشيطة كانت تدفعها إلى الأمام , وعاملاً قوياً كان يساعدها على الترقي والانتشار. وما أجمل الفكرة التي رآها بعض ذوي الفضل إذا اقترحوا نصب تمثال هذه السيدة في باحة كلتها بغمرة تخليداً لفضلها واعترافاً بحميلها , وإن تكن تلك الكلية نفسها أثرا خالدا بحسناتها وأياديها الفراء.

صور الشعر

صور الشعر إن للنفس لنزعات تختلف باختلاف عواملها , وكأنها أمام تلك العوامل لوحة الصوَر المتحركة تنطبع عليها صوَر بما تتلوها وهكذا. فهي مسرح تتعاقب عليهِ روايتنا السرور والابتهاج والوحشة واليأس , فبينا ترى المرء يهتز اليوم طرباً إذ تراه في الغد ينقبض غماً , وما الحياة التي حارت في تكييفها الإفهام إلا مجموعة لمختلف تلك المظاهر. أما تذكارات أويقات البشر والإيناس فإنها تبدد عن النفس المحزونة غياهب الكرب وتقشع سحب الاكدار , إذ هي فجر السرور يطرد ليل الهموم فيجعل للإنسان من ضيقه فرجاً ومن وحشته أنساً. وأحسن تلك التذكارات لغة للفؤاد في أويقات الفرح يرنّ صداها في الوجدان فتلقي على مشاعر النفس معنى السعادة. السعادة خيال ما تحقق لإنسان , وسراب قصده الناس فتقطعت بهم الأسباب فرضوا من الغنيمة بالإياب , وعندي أنها في وادي الحقيقة اسم لغير مسمى. وما السعادة الحقة إلا في جولان خاطر الشاعر في مسارح الخيال حيت يكون بطلاً لروايات مختلفة , فطوراً يرى نفسه كأنهُ المحب وافاه حبيبه في غفلة العيون , وطوراً بهيم بالطبيعة فتتجلى له في أبهى حللها , وطوراً يترقب طلعة البدر فيظهر له قوسه من وراء خط الأفق المرئي تعلوه طبقة من ذهب ابريز فيستعطفهُ ليملي عليهِ كثيراً من معاني الخيال , وطوراً يرى من ظلام الليل شريكاً له في وجده , وفي هاطل المطر تقديراً لكمية مسكوب دمعه , وفي وميض البرق شبهاً لخلب أمانيه , وفي طرف النجم ذكرى ليل الأماني , وفي أشعة الصباح صورة الأمل الوفر , وفي مجرى الغدير جلال الخيال؛ وطوراً يحب الجمال حقيقة؛ وطوراً يحبهُ خيالاً. لا شيء أروح للنفس المحزونة من أن ينشر أمامها مطويّ صفحات رقصت عليها ريشة الخيال فجاءت صوَراً ما وُجد أبدع منها في معرض الحياة. تلك صوَر الشعر أمين حمدي

كللي

كلّلي وهو موشح للغناء نشرناه إجابة لطلب الكثيرين من القراء كلّلي يا سحب تيجان بالحلي واجعلي سوارها منعطف الجدولِ يا سما فيكِ وفي الأرض نجوم وما كلَّما غيَّبتِ نجماً أطلعت أنجما وهي ما تهطل إلا بالطلا والدما فاهطلي على قطوف الكرم كي تمتلي وانقلي للدنّ طعم الشهد والفوفلِ تتقدْ كالكوكب الدريّ للمرتصد يعتقد فيها المجوسيُّ بما يعتقد فاتئد يا ساقيَ الراح بها واعتمد وأمل لي حتى تراني عنك في معزلِ قلّلِ فالراح كالعشق فزد يقتلِ من ظلمْ في دولة الحسن إذا ما حكم فالسدمْ يجول في باطنه والندم والقلمْ يكتب ما سطر فوق القمم من ولي في دولة الحسن ولم يعدلِ يعذلِ إلاَّ لحاظ الرشأ الأكحلِ لا أريمْ عن شرب صهباء وعن عشق ريمْ فالنعيم عيش جديد ومدام قديم لا أهيم إلا بهذين فقم يا نديم وانهلِ من أكؤسٍ صُوِرنَ من صندلِ أفضل من نكهة العنبر والمندلِ هل يعودْ عيش قطعناه بوادي زوردْ والجنودْ في حضرتي تضرب جنكا وعودْ والحسودْ في معزل عنا غدا لا يسودْ عذَّلي لا تعذلوني فالهوى لذَّ لي ما الخلي في الحب مثل العاشق المبتلي أسفرتْ ليلتنا بالأنس مذ أقمرت بشرتْ بملتقى المحبوب واستبشرت شمَّرتْ فقلت للظلماء مذ قصَّرت طوّلي يا ليلةَ الوصل ولا تنجلي وأسبلي سترك فالحبيب في منزلي

ثمرات المطابع

ثمرات المطابع شرح الهاشميات - الهاشميات من أهمّ ما قيل في مدح بني هاشم وآل البيت النبوي. وناظمها الكُمَيت بن زيد الأسدي. نشرها بالطبع وضبطها بالشكل التام وشرحها شرحاً وافياً حضرة الكاتب البليغ السيد محمد محمود الرافعي. وقد صدَّرها بنبذة شائقة عن الشيعة وتاريخ التشيع وأخباره وأسبابه ونتائجه , وبترجمة حياة الكميت وهو من أشعر شعراء الإسلاميين وأسماهم بياناً وأعلاهم كعباً , وُلد أيام مقتل الحسين سنة 60 ومات سنة 126 هـ. في خلافة مروان بن محمد. وكان معروفاً بالتشيع لبني هاشم. قال سئل أبو معاذ الهرّاء: مَن أعرُ الناس؟ - قال: أمن الجاهليين أم من الإسلاميين؟ قالوا: بل من الجاهليين. قال: قال الفرزدق وجرير والأخطل والراعي. فقيل له: ما رأيناك ذكرت الكميت في مَن ذكرت. قال: ذاك أشعر الأولين والآخرين. فكان حرياً بمن هذا مقامه في دولة الشعر والأدب أن يُنشر ديوانه وتُدوَّن أشعاره. وقد تنبه لهذا الواجب السيد محمود الرافعي , فخدم الأدب والأدباء خدمةً جلَّي بنشره هذا السفر النفيس. وقد أردف الهاشميات بمجموعة اختارها من بليغ شعر الكميت في شؤون مختلفة , ومن أجود كلام الفحول من شعراء الصدر الأول الذين أدركوا اللغة أيام مجدها وشبابها. فعسى أن يقدّر الأدباء هذا العمل الجليل قدره فيقبلوا على اقتناء ذلك الكتاب. كلمات نابوليون - إياك - كتابان جليلا الفائدة نقلهما إلى العربية حضرة الكاتب إبراهيم أفندي رمزي , فأحسن نقلاً وعملاً. موضوع

الكتاب الأول يدل عليه عنوانه. وهو مختارات من الأقوال المأثورة عن الرجل النابغة الكبير نابوليون بونابرت في شؤون مختلفة كالعائلة والتربية والحب والنساء والحياة والصفات القومية والسياسية والدين والحرب والشجاعة الخ. وإذا صح أن كلام الملوك ملوك الكلام فإن هذا ينطبق أتم الانطباق على أقوال ذلك الرجل العظيم صاحب الفكر الثاقب والرأي السديد. وأن هذه الكلمات المأخوذة من كتاباته وخطبه ورسائله أو التي آثرها عنهُ معاصروه تشفُّ عن حقيقة نفس الرجل وأخلاقه. فهي خير درس لمن يريد أن يفقه تاريخ نابوليون وسرّ نجاحه العجيب , فضلاً عن أن فيها ما يبعث على المرؤة والإقدام والجد. وقد أحسن رمزي أفندي بتصدير هذه (0الكلمات بحياة قائلها الواقعة في ثلاثين صفحة فإن ذلك يساعد على تفهمها. والكتاب مزين بأشهر صوَر نابوليون. أما الكتاب الثاني فهو مجموعة نصائح مفيدة بما يجب اجتنابه أو عمله على المائدة وفي اللباس والعادات وغرفة الاستقبال والمكاتبة والزيارة وغير هذا من مظاهر حياتنا اليومية فيجدر بفتياننا وفتياتنا أن يتدبروا ما فيهِ لأنهُ مقوّم للعادات مهذّب للأخلاق يرشد إلى ما يجب أن يتجلى بهِ المتأدبون. النخبة الراغبية في الأفعال العربية - إذا جمع الرجل بين الثروة الأدبية والثروة المادَّية , وعرف كيف يستخدم هذه في سبيل تلك كان منهُ لبلاده النفع الأتم والخير الوافر. وهاتان المزيتان قد اجتمعتا للرجل الفاضل صاحب العطوفة إدريس راغب بك. فقد عرفهُ الخاص والعام بنصرته للأدب وتفانيهِ في خدمتهِ بما له من المآثر الطيّبة في هذا السبيل. وكأنهُ لم يكتفِ بما يبذله لتنشيط الأدباء والعلماء فأراد أن تكون له يدٌ على اللغة العربية فعني بتأليف كتابٍ سمَّاه النخبة الراغبية في الأفعال العربية شهد فيهِ حضرة الأستاذ الأكبر الشيخ سليم البشري شيخ الجامع الأزهر شهادة طبية جاء فيها قوله: وجدتهُ لطيف العبارة , سهل المأخذ , كبير الفائدة؛ قد جمع من مقدمات التصريف ومقاصده ما فيهِ كفاية الراغبين ورغبة المستكفين وقد رتبهُ المؤلف حفظهُ الله ترتيباً جميلاً فصل فيه أقسام

العلم وأجزاءه وأنواعه تفصيلاً حتى لا يتشوش مشتفيده ولا يضلّ طالبه. والكتاب مخطوط بخط جميل متقن ومنقول بالزنكوغراف نقلاً بديعاً جاء معهُ تحفة في فن الطباعة. مصر وسوريا - عنوان بحث سياسي انتقادي في تاريخ علائق القطرين المصري والسوري قديماً وحديثاً. وضعهُ حضرة الكاتب البارع الشيخ بولس مسعد صاحب لبنان والدستور ودليل سوريا وأهداه إلى اللجنة المؤلفة لمساعدة المنكوبين في حريق دمشق , فاستحق الثناء الجمّ على عمله. ومن عرف ميل الكاتب إلى المباحث التاريخية ولاسيما ما كان يتعلق منها بمصر وسوريا عرف قيمة هذا الكتاب الكثير الفوائد على صغر حجمه. الخيل وفرسانها - للدكتور نجيب بك الخوري الطبيب الأول لحكومة جبل لبنان ولع شديد بالخيل وتربية الأفراس الجياد. وقد دفعهُ هذا الولع إلى وضع كتاب قال عنهُ أنهُ ثمرة أتعاب ثلاثين سنة قضاها بين الخيل وفرسانها والبحث عن الجواد العربي والفروسية عند القبائل البدوية ولم يكتفِ حضرته بخبرته في هذا البحث بل زار من أجل التوسع والتدقيق فيهِ مدارس أوروبا العليا ونقَّب في تعاليم الإفرنج في هذا الفن ثم أودع كل تلك الفوائد في كتاب سماه الخيل وفرسانها فتصفحناه فوجدنا وافياً بالغرض الموضوع له وجديراً بعناية المولعين بالخيل والمتاجرة بها ولاسيما أندية السباق في مصر وفي سوريا. فنثني على المؤلف أطيب الثناء لعنايته بهذا الموضوع الذي طالما عني بهِ فرسان العرب وأفاضل الكتاب. الرقيّ والاعتدال - هو هذا الكتاب الذي سبقنا إلى درسه بعض الكتاب المجيدين في بعض الصحف والمجلات الأدبية. أهداه إلينا مؤلفه الفاضل اسكندر أفندي قزمان فألفيناه سلسلة مباحث في ما يجب تناوله بالاعتدال من المسائل الاجتماعية ووسائل الترقي. وهذا الكتاب هو الحلقة الأولى من تلك السلسلة

ومداره على الفتاة وعلاقتها بالتمدن والحرية وما يتفرع عن هذا الموضوع , مع آراء طائفة من مشاهير الكتاب فيه. وقد ختمه بارجوزة في ثلاثمائة وثلاثين بيتاً ونيف موضوعها الفتاة العصرية. والكتاب في مجمله مفيد لمحبي هذه المواضيع التي يسرنا أن يكثر عدد الباحثين فيها والمولعين بقراءتها لأنها أنفع من معظم الأقاصيص الرائجة تجارتها في هذه البلاد. فحبذا العمل الذي قام به اسكندر أفندي وعسى أن يجد من الإقبال على كتابه ما يشجعهُ على إتمام هذه السلسلة. شهيدة شهر العسل - رواية تقع في 30 صفحة وضعها الأديب فيليب أفندي داود فرحات. ومدارها على غرق الباخرة تيتانيك وهي اجتماعية تاريخية غرامية تمثلت وقائعها في تلك الحادثة الهائلة. طرق البناء في مصر - خطاب فني تاريخي يبحث في أساليب البناء القديم والحديث في هذا القطر ألقاه جناب المسترد ريتشموند المدير العام السابق للمدن والمباني الأميرية وترجمهُ حضرة الكاتب الفاضل وديع أفندي البستاني. آراء الدكتور شبلي شميّل - آخر ثمرة من ثمرات المطابع في هذا الشهر رسالة كتبها الدكتور شميّل وقد جاء في أولها: نشرت جريدة الأخبار منذ مدة للكاتب أ. ش. انتقاداً على كتاب خالد للريحاني جاء فيهِ تعريض بآرائي وأنها آراء غريبة. ولما كان هذا القول يشبه أن يكون صدى رأي الجمهور أكثر من أن يكون رأي الناقد الخاص , ولئلا يرسخ في الأذهان أن الغرابة هي دائماً في مخالفة الشائع المشهور , رأيت أن أنشر هذه الكلمة في رسالة على حدة جلاءً للحقيقة عملاً بقولي: الحقيقة أن تقال لا أن تعلم فقط.

أزهار وأشواك

أزهار وأشواك من بحمدون إلى الرافعي نشر السيد مصطفى صادق الرافعي في الجزء الثالث من هذه المجلة قصيدة لطيفة عنوانها إلى بحمدون - وبحمدون قرية جميلة في جبل لبنان - تأوَّه فيها من النوى وسكب عبرات البين على فراق ليلى. فوصل صدى زفراتهِ إلى تلك الربوع , وجاءَه جواب ليلى منظوماً بقلم حبيب أفندي ثابت. نسمةٌ لطيفة هبَّت من قمم لبنان فأحببتُ أن تسري إلى القرَّاء من نافذتي , لاسيما وقد حُرِم الكثيرون في هذا الصيف من نسيم لبنان البليل؛ وإليك بعض ما في الجواب: ليلى تحيَّيك من أعلى بحمدونِ ... والبينُ فاعلمْ كما يُشجيك يشجيني إن كنتُ قدمتُّ بعد البين من شجني ... فبعض ما كان قبل البين يُحييني أو كان للمرء دينٌ يستعزُّ بهِ ... فمنتهى عزَّتي أنّ الهوى ديني والصادق الحبّ يبقى في مودَّتهِ ... أن حالَ من دونهِ بينٌ ومن دوني لهُ بمصر مقامٌ طابَ مرتعُهُ ... تصوُّر الفكر يدنيهِ ويدنيني. . . وينبض القلب في طيّ الضلوع كما ... يرفُّ نحلٌ على خضرِ الرياحينِ وأن عينيَ من وجدي تُمثّل لي ... أهرامَ مصر تناغي طودَ صنّينِ إني لأذكر مصراً لا لبهجتها ... لكنْ لمن هو من مصرٍ يحيّيني وأذكرُ الحَرُّ الشديد بها ... كنارِ قلبي لا تعنو لتسكينِ إلاَّ إذا صادق وافى وأدركني ... محمومةً فهو من يأسو فيشفيني ثم شاركت ليلى الرافعي في شكواه وتمنت لقياه في الجبل حيثُ النسيمُ عليلٌ في خمائلهِ ... إذا سرى لم ينبه طرف نسرينِ

والماء يجري على الحصباء في غُدُر ... مثل اللجين على درٍّ يحلّيني والكرم يبدو لنا كالدرّ ناضجة ... لوناً فيعنيك معناه ويعنيني إليَّ يا صادقاً في الحبِّ مرتهناً ... قلبي فما أنا من يحيا إلى حينِ. . . وإن ضنتَ ففي الحالين ما برحتْ ... ليلى تحيّيك من أعلى بحمدون بقي سؤالٌ لي أوجهّهُ إلى الرافعي وهو: هل يلاكَ يا أبا السامي أخيلية أم خيالية. .؟ سوق عُكاظ عُقدت هذه السوق في مصر في فندق الكونتننتال منذ شهر من الزمن على طرزٍ حديث وأسلوب شائق جميل ترأسها أمير الشعر في مصر , أحمد شوقي بك , وتصدّرها ناظر المعارف العمومية , أحمد حشمت باشا , وحضرها كل ذي مقامٍ في دولة الأدب , وتبارى في ميدانها نثراً ونظماً , أشهر من نثر وأبلغ من نظم. لم يكن موضوعها المفاخرة بين قبيلتين ولا التحكيم بين شاعرين , بل كرام حافظ إبراهيم الشاعر وتهنئته بيكويته. في الجزء الفائت قلتُ كلمتي في الرتب والألقاب , وفي لقب حافظ على الأخص. وكلمتي اليوم قاصرة على هذه الحفلة أو بالأحرى على الإشارة إليها فقط. لأني كنت قد جمعت لقرّائي أهم ما قيل فيها من طيب الشعر وجيد الخطب. ثم نظرت إلى الأتعاب والمشقات التي كابدها سليم سركيس فقدّرتها قدرها , وأبيت أن أحرمهُ الانتفاع بتعبه كما فعل بتوجيه أنظار القراء إلى العدد الأخير من مجلته وقد دوّن فيه جميع القصائد والخطب التي قيلت في حافظ. فأهنئه وأهنئ شريكه في العمل داود بركات فإنهما أقاما هذه الحفلة فأكرما الأدب ورفعا شأن الأدباء وحملاً فريقاً من كتَّابنا على شحذ قريحتهم بعد أن كادت تصدأ فسمعنا نغمات مطربة كانت قد خمدت حيناً من الزمن.

شارع الفحالة لاحظ القرّاء منذ مدة تغييراً في عنوان مجلة الزهور فبعد أن كانت الإدارة في أول شارع الفجالة أصبحت في نمرة 72 منهُ. مع ذلك فهي لم تبرح مكانها ولم تنقل منهُ قيد شبر. والسرُّ في هذا الأمر أن محافظتنا - حفظها الله - رأت من الحكمة أن تغيّر أسماء بعض الشوارع. وتقلب نمر البعض الآخر رأساً على عقب , فأصبح الأولون آخرين والآخرون أولين: وهذا بعض ما أصاب شارع الفجالة فصار أوله الآخر وآخره الأول باعتبار النمر. وفي هذه المناسبة أقترح على اللجنة التي غيّرت أسماء بعض الشوارع أن تبدل اسم شارع الفجالة بشارع الأدب وذلك لأنهُ لم يبقَ في هذا الشارع من أثر للفجل والفجالين. وهو من جهةٍ ثانية شارع الجرائد والمجلات والمطابع والمكاتب. ففي أوله - أو في أخره حسب الترتيب الجديد - مكتبة ومطبعة المعارف , ومجلة الزهور , ومكتبة الهلال , ومطبعة ومجلة الروايات الجديدة , ومجلة سركيس , ومجلة فتاة الشرق ومجلة الجنس اللطيف , وجريدة الوطن , ومطبعة وجريدة الأخبار وجريدة مصر وجريدة الرقيب وجلة المحيط ومجلة رعمسيس ومجلة فرعون وجريدة العمران ومطبعة العرب , وإدارة الهلال ومطبعتها حيث تطبع أيضاً مجلة طبيب العائلة , ومطبعة السلام , ومكتبة الأخبار , ومكتبة الطلبة , ومطبعة الجوهر الساطع وجريدتها. فترى مما تقدَّم أي عددٍ من المطبوعات والنشرات يصدر من هذه البقعة الصغيرة في أرض العاصمة , ويُنثر جميع هذه الصحف والمجلات والمطابع بشارع الأدب؟ حاصد

العدد 27

العدد 27 - بتاريخ: 1 - 10 - 1912 القنصل الروماني والوالي العثماني أتيليوس ريجلوس وصبحي بك لما احتلَّ الإيطاليون جزيرة رودس منذ بضعة أشهر أسروا وإليها صبحي بك , وظل عندهم معتقلاً مدة من الزمن , حتى واقتنا الصحف في الشهر الغابر بخبر الإفراج عنه. وذلك أن الإيطاليين أطلقوا سراحه ليعود إلى الاستنانة فيفاوض حكومته العثمانية بأمر تبادل الأسرى الذين وقعوا في أدي كلتا الدولتين المتحاربتين. وأعطت حكومة رومة صبحي بك مهلة شهر ليقوم بهذه المهمة , فإذا لم تفضِ المفاوضة إلى نتيجة ترضي الفريقين عاد إلى الأسر. قرأنا هذا الخبر في جرائدنا اليومية فذكّرنا حادثة من هذا القبيل جرت منذ اثنين وعشرين قرناً تقريباً في حرب التحمت مواقعها , كحرب اليوم , على سواحل أفريقيا , وكان بطلها , القائد الروماني ماركوس انيليوس ريجلوس وهو أحد أبناء رومة

القديمة الذين لا يزال التاريخ يردد أعمالهم العظيمة وأقوالهم المأثورة. وقد بلغ حب الوطن عندهم مبلغاً لم يبلغ إليهِ سواهم حتى أنهم جعلوا هذه الفضيلة في مقدمة الفضائل التي يتحلى بها المرء وبها يفاخر. وما هذه الحادثة التي نرويها اليوم إلا واحدة من تلك الحوادث المدهشة التي يتألف منها تاريخ رومة الجمهورية ورومة القياصرة. كان ريجلوس هذا قنصلاً لرومة سنة 253 ق م. وكان زمام الجمهورية الرومانية في ذلك العهد في يد قنصلين يديران شؤونها. وكانت رومة على أيام قنصلية ريجلوس في حربها الأولى مع قرطجنة. فتولَّى ريجلوس قيادة الجيوش. وبعد أن انتصر على الأعداء في موقعة إكنوم البحرية تمكن من النزول بجنوده إلى ساحل أفريقيا حيث ظلَّ النصر محالفه حتى افتتح مدن الشاطئ ووصل إلى مدينة تونس فشدَّد عليها الحصار. ولما أنس من الأعداء ميلاً إلى عقد الصلح وضع لهم من الشروط القياسية ما لم يسمعهم معهُ قبول السلم. وكان أن أتتهم من بلاد اليونان نجدة بقيادة القائد كسانتيبوس. فخرجوا على الرومانيين واشتبك القتال بين الفريقين فوقع ريجلوس أسيراً بين أيديهم. وظل في الأسر سنتين كاملتين. ثمَّ إن القرطجنيين أفرجوا عنهُ , وأرسلوه إلى رومة ليفاوض حكومتها بشروط الصلح وبأمر تبادل الأسرى , بعد أن أخذوا عليهِ الأيمان المحرّجة أنهُ يعود إلى أسره إذا هو لم ينجح في ما هو مطلق لأجله.

وهذا ما فعله الإيطاليون اليوم مع صبحي بك فوصل ريجلوس إلى رومة , وبلّغ مجلس الشيوخ السناتو المهمة الموكولة إليهِ. فتضاربت الآراء واختلف القوم في الأمر. فُسئل حينئذٍ ريجلوس عن رأيهِ. فتكلم بجنان ثابت عن وجوب رفض الصلح , لأن في استمرار الحرب دمار قرطجنة , وارتفاع شأن رومة على مناوئيها. أما بشأن تبادل الأسرى فأشار أيضاً بعدم القبول. لأن أُطلق سراحهم لا يجني الوطن منهم فائدة في القتال. أما القرطجنيون المأسورون في رومة فمعظمهم في مقتبل العمر فإذا أفرج عنهم عادوا إلى بلادهم وكانوا عوناً كبيراً لها رومة. أعرب ريجلوس عن هذا الرأي وهو عارف أنهُ بهذا الكلام يقضي بنفسه على حريتهِ. لكن منفعة الوطن كانت فوق كل منفعةٍ سواها. فوافق المجلس على رأيهِ ورفضت رومة مطالب قرطجنة. وللحال أخذ ريجولوس أهبتهُ للسفر ليقفل راجعاً إلى محل أسره فأحاط بهِ الشعب الروماني - وقد أعجب ببسالته وتفانيه - وطلب إليهِ بإلحاح أن لا يعود إلى الأسر والعذاب المنتظر له , فأبى. وأقبلت أمهُ وزوجتهُ تذوقان الدموع السخينة وتستحلفانهِ بالبقاء في وطنه لأن الموت الأكيد ينتظره عند الأعداء , فأبى وقال: حلفتُ أن أعود إلى قرطجنة إذا لم تقبل رومة بمطالبها , فلن أحنث بيمني مهما أصابني ثم ودَّع ذويه وسافر لا يلوي على شيء. فلما وصل إلى القرطجنيين - وكان قد اتصل بهم حضُّه لمواطنيه

على مواصلة القتال - حنقوا عليهِ حنقاً شديداً وأذاقوه العذاب ألواناً. فكانوا يضعونهُ في برميل محشوٍّ بالمسامير ويدحرجونهُ من أعلى الجبل حتى يتخدَّش جسمه , ثم يطلونهُ بالعسل ويعرضونهُ في أشعة الشمس فتحوم حوله الزنانير والحشرات فتذيقهُ من لسعاتها أشد الآلام. وظلوا بهِ على هذه الحالة حتى مات. هذه حكاية مثال الوفاء والبرِّ باليمين عند قدماء الرومانيين. وقد تغنى بها الشعراء في قصائدهم وسبكها الكتَّاب في روايات تمثيلية , وخلَّد المصوّرون والنحاتون ذكرها في صوَرٍ وتماثيل بديعة. وهي تذكرنا السموأل المعروفة , وحكاية الطائي وقراد مع النعمان. رأى القارئ شدة المشابهة بين إرسال القرطجنيين القائد ريجولوس إلى رومه وإرسال الإيطاليين الوالي صبحي بك إلى الأستانة. فعسى أن يكتب الوالي العثماني في تاريخ قومه صفحةً مجيدة كما فعل القائد الروماني , وإن كان لا ينتظر صبحي ما انتظر ريجولوس من العذاب في الأسر.

مقالات باكون

مقالات باكون باكون أشهر مشاهير فلاسفة الانكليز , كان له تأثير كبير في عصره , وهو يُعدُّ مؤسس الفلسفة الحديثة المبنية على الاختبار والاستقراء. وقد شاءَ صديقنا محمد لطفي جمعه الكاتب الألمعي والأصولي الضليع أن يتحف قرَّاء الزهور بمختارات من مقالات الفيلسوف. وإليك النبذة الأولى منها: 1 - أصحاب السلطة وأهل المكانة العالية: وإنا أُناسٌ لا توسُّطَ بيننا ... لنا الصدر دون العالمين أوِ القبرُ إن من ولي أمراً كبيراً يكون عبداً ذليلاً لثلاث: أمته وصنعته وسمعته. فيطيع وليَّ أمره طاعةً عمياء , ويردعه صيتهُ عما تميل إليهِ نفسهُ , وتستغرق أعماله كل أوقاتهِ. وأيُّ رجل يشتري بحريته قوةً , ويسعى لنيل الحول على غيره فيفقد سلطانه على نفسه؟ وإن أحد الناس يجهد نفسهُ لينال سمعةً. وما السمعة إلاَّ أم المتاعب؛ فقد يدفع حبُّها الرجل إلى اقتراف الذنوب , فيصل إلى المكانة السامية بعد أن ينال شرفه الأذى. والسبيل إلى العلى غير ميسر , والدرب إلى الصيت زلِق لا تؤمن عاقبة السير عليهِ. وإن تزلُّ قدمهُ فقد هوى , أو عاد ذليلاً محسوراً. وأذكر قول شيشرون إذا أفل نجمُ سعدك , ووضعك سواد حظك وأمسيت وضيعاً بعد أن كنت رفيعاً , فخليقٌ بك أن لا تعيش. وإذا شاءَ من حصل على السلطة والسطوة أن يتخلى عنهما لا يستطيع

إلى ذلك سبيلا. فإذا استطاع ذلك قلَّت رغبته في التخلي ولو أشابه كرّ الغداة ومرّ العشيّ. ومثله كمثل العجوز من النساء , فإنها تفتأ تتبرّج وتتزين كأنها بالدهر منها هازئ. وإذا تاقت نفوس ذوي الصيت والسمعة إلى السعادة يوماً , فيكفيهم أن يسمعوا بها ممن يتطلب مكانتهم ويسعى في الحصول على ما لهم من السطوة والسلطان. لأنهُ لا يحبّب الصيت للإنسان سوى أن مئين من الناس يتمنون ولو بجدع الأنف أن ينالوا مناله. ولو علم الناس بما يلاقيه أصحاب المكانة السامية من المتاعب , لا كتفوا بما لديهم. ولكن: لا يعرف الشوق إلاَّ من يكابده ... ولا الصبابة إلاَّ من يعانيها وأحدنا أول من يشعر بهمومه ومتاعبه وآخر من يحس بعيوبه ومثالبه وقد لا يستطيع من يقوم بشأن الناس أن يقوم بشأن نفسه , فيكون أجهل الناس بحاله ويكون الناس أرف بهِ منهُ. وأن المكانة السامية تمكن صاحبها من صنع الخير وعمل الشر. وخير ما ينحني من عمل الشر هو النية الصالحة وعدم القدرة على اتيانهِ. وأما صنع الخير فهو أسمى المقاصد وخير ما تطمح له النفس الفاضلة ومن كانت نيته صالحة فإن له عند الله ثواباً وأجراً. أما الناس فلا يؤمنون إلاَّ بما يرونهُ أمامهم من الأعمال الصالحة. وليس في طاقة أحد الناس أن يصنع ما ينويهِ من خير , إلاَّ إذا كان قادراً ذا سطوة ونفوذ. ولم يكن لله في خلق الإنسان من غرض سوى أن يكون الإنسان مخلوقاً خيراً ,

يعمل الخير ويقابل الخير بالخير. وليس يهدأ قلب الرجل في صدره , إلاَّ إذا صنع الخير أو نواه. وكن إذا وليت منصباً مقتدياً بمن سبقك إليهِ ممن كانوا مفلحين. ولا تنسَ أمر من أفسد قبلك لأن لك في أمره عبرة. وإذا رأيت خللاً في ما بين يديك من العمل فأجهد نفسك في إصلاحه , ولا تعجب بنفسك ولا ترمِ من سبقك بالعجز والتقصير. ولا تعمل عملاً إلاَّ إذا كان النظام رائدك؛ ولا تكن متشبثاً في أمورك. ولا تخف أمراً لا يخشى على عملك من إفشائهِ. ولا تمكّن أحداً من سلب حقوقك. ولا تدع غيرك ينال مما لك من النفوذ منالاً. وكن عليماً بشؤون من وليت أمورهم , وكن منهم بمثابة العقل المدبر من الجسم المطيع. ولا تحجب نفسك عمن له شكوى يبثها. واسمع ما يبلغك من النصح والإرشاد واعلم أن كل كلمة تطرق إذنك لها نفع في الحال أو في المال. وقد يجيز صاحب المنصب الرفيع على ذنوبك يأتيها رغم أنفه. منها المهلة في إنجاز الأعمال , والتدني إلى الرشوة , والشدة واللين. ولئلا يتمكن منك حب المهلة في أداءِ ما يجب , لا تحجب عنك من له شكوى بينها , ولا تخلف ميعاداً , ولا تبدأ بعمل قبل أن تفرغ مما قبله , ولا تمزج أمرين لا علاقة للواحد بالآخر إن استطعت ذلك سبيلاً. ولأجل أن تكون ذاعفة أربط يديك وأيدي غيرك ممن يأتمرون

بأمرك برباط القناعة. ومر نفسك ومرهم بأن لا يقللوا من مقدار نفوسهم ليكثروا من قدر ثروتهم. وكن غليظاً شديداً على من يهبك هبة لتعمل له عملاً. وإذا كنت كاملاً عفوفاً فقد أمنت نفسك ومن يلوذ بك. ولا يرتدع من يحاول أن يرشوك إلاَّ إذا أظهرت له الكمال والعفة , وأبيت عليهِ التمليق والإكرام. ولا تجعل لأحد سبيلاً يمكنهُ من إساءة الظن بك. فإن الشك أول مراتب اليقين. ومن شك في أمانتك لا يلبث أن يؤمن بخيانتك. واعلم أن من تناءَى عن مشربه قد يحرّك نفوس أهل الشر والعدوان فيرتابون من أمره. فإذا شئت أن تتحول عن مبدأ منت بهِ شيئاً. ولا تخفِ عليهم من أمرك شيئاً. ولا تقرّب إليك من هو أقل في المقدار فقد يظن أهل الشر أنه واسطة في الشر وأن المال يأتيك على يديه. واعلم أن الحدة والخشونة تولدان الكراهية والبغضاء. أما الصرامة والجفاء فتولدان الخوف والتبجيل. وكن إذا شئت أن تلوم من يستحق اللوم مهاباً وقوراً ولا تكن قادحاً مهيناً. ولا تكن ليناً فتعصر فإن اللين يورث الذل والهوان. ومن يسرف في تبجيل الناس فقد أودع نفسه في أيديهم أسيراً. وللشهرة تأثيرٌ في خلق الرجل. وكان أحد الحكماء يقول: إن أكابر الرجال صناديق مقفلة مفاتيحها الارتقاء إلى ذروة المجد. فإذا بلغ أحدهم غايته , فتح وبان ما فيهِ أن خيراً وأن شرًّا فشرٌّ.

وبلوغ ذروة المجد يصلح النفوس الخيّرة ويفسد نفوس أهل الشرّ. وأنتَ ترى شبيه الشيء منجذباً إليهِ. فإن كانت نفس الرجل كريمة جذبها الخير , وإن كانت شريرة جذبت إليها الشرّ. وليس للفضيلة الكامنة في النفوس مكان سوى المجد والشرف. ولذا ترى النفوس الكريمة وهي قبل أن تصل إلى ما تعلل بهِ نفسها متقدة مشتعلة , فإذا بلغتهُ اطمأنت وسكنت إليهِ كما يسكن الطفل إلى صدر أمهِ. واعلم أن سبيل المجد وعرٌ. فارتكن فيهِ إلى يعضدك حتى تصل إلى غايتك , فتستطيع أن تقف آمناً شرَّ السقوط. وإذا جاء ذكر من سبقك فاذكره بالخير فإن في ذك خيراً لك ولهُ. وإذا كان لك رفاق في عملك , فكن معهم رقيق الجانب , ليّن الخلق حسن العشرة. ولا تأنف من أن تشاورهم في الأمور , ولا تكن في كل حال مستقلاً برأيك. وإذا كنتَ مع قوم في حديث لا دخل له بعملك فاطرح العظمة جانباً وأبدُ لهم كما يبدو الرجل الكريم. 2 - جمال الوجوه جمال الوجهِ مع قبحِ النفوسِ ... كقنديلٍ على قبرِ المجوسِ إنَّ النفوس الجميلة كالجواهر الكريمة , لا يبدو بهاؤها إلاَّ إذا رُصِّعت في قالب خلوٍ من التزيين والتحسين. وإن طلعةً ترى فيها الهيبة والجلال خيرٌ من محيا ترى فيهِ البهاء والجمال.

ولقد يندر أن ترى رجلاً ذا جمال فائق قد نال المكرمات وحاز الفضائل. وكأن الطبيعة شاءَت أن يكون ذو الجمال خلواً من العيوب الظاهرة , ولكنها لم تشأ أن يكون جميلاً كاملاً. ولذا أنتَ لا ترى بين أهل الجمال رجلاً ذا نفس كبيرة أو عقل عظيم. وأنهم يفضلون التأدّب والاحتشام على السموّ والعظمة. ويتمنى أحدهم أن يكون مكان الإجلال والإكرام. ولا يرجو أن يكون قابضاً على صولجان دولة الأقلام. ولقد حفظ لنا التاريخ ذكر كثيرين ممن جمعوا بين جمال الوجوه وكرم النفوس. فقد كان القيصر أوغسطس قيصر الرومان أجمل أهل زمانه. وكان اليونان يفاخرون الأمم بجمال السيباديس. وكانت أمة الفرس تضرب بجمال سلطانها إسماعيل الأمثال. وليس لون الوجه وحسن تقاطيعه ورقة الإنسان ورشاقته تكفي لأن يكون جميلا؛ لأن الجمال معنى لا يستطاع التعبير عنهُ , وليس في قدرة المصوّر البارع أن يظهره في صورته. وقد لا يبدو ذلك المعنى إلاَّ بطول المشاهدة. وليس الأحكام في الخلق جمالا. وإنك لا نجد الجمال النادر المثال إلاَّ في شيء لم يبلغ فيهِ الإتقان حدَّه. ولقد زعم أبُلس المصوّر أنهُ يصوّر أبدعَ الوجوه إذا ما أضاف إلى عيون المهى أنفاً كالسيف أو أدقّ وثغراً كادرّ والمرجان. وخطر ببال ألبرت دورو أن يخلق إنساناً كامل الجمال إذا اعتمد في خلقهِ على التناسب في قياس الأعضاء.

على أن مثل تلك الصورة لا تنال رضى غير مبدعها. وليس من المحال أن يصوّر مصوّرٌ وجهاً فيهِ من الجمال ما لم نرَه من قبل على أن مثل ذلك الوجه لا تكون للفن أو للصنعة فيهِ يد , إنما يكون خالقه قد أُلهم إلهاماً إلا هيّاً كما يوحى إلى الشاعر بالمعاني وإلى المغني بالأنغام وإنك ترى وجوهاً ليس للإِحكام فيها أثرٌ وإذا نظرتَ إليها وجدتَ بها من الجمال ما لا تجده في سواها. وليس للشباب يد في الجمال. وإن صدق قول القائلين بأن رشاقة الحركات أصل كل جمال لكانت المرأة البالغة من العمر عتيّاً أجمل من الفتاة اليافعة لأنها نالت من الرقة والرشاقة حظاً أوفر. وقد جاء في المثل السائر أن الشباب جمال وقد يحق ذلك القول على الشباب إذا عُدَّ جمالاً , لأنهُ ستار للعيوب والجمال كثمر الغيظ لا يلبث أن ينضج حتى يبلغهُ الفساد. وقد يكون الجمال والشباب مفسدة للمرء أي مفسدة. ولو كان الجميل فاضلاً بانت فضائله كالشمس التي تكامل ضوؤها. ولو كان ناقصاً بدا نقصه كالغيم في السماء الصفية. نقله عن الانجليزية محمد لطفي جمعة المحامي

في رياض الشعر

في رياض الشعر الشامية نشرنا في سنة الزهور الثانية ص90 رسم الأخوين الشاعرين تامر بك وشبلي بك ملاَّط. وأشرنا إلى مرض الأكبر منهما الذي أصيب بذهولٍ في عقله. وهو لا يزال في دائهِ يُنشد الشعر المطرب من حين إلى حين عندما يفيق من ذهوله. وقد جاءتنا هذه القصيدة البديعة قالها شاعرها العبقري في مرضهِ: روحي فِدى ظبيات الشامِ والشامِ ... ولو كلفنَ ولوعاتٍ بإِعدامي بين البريد وجابيها على كثَبٍ ... أضعتُ قلباً معنّىَ نضوَ أسقامِ ما أنسَ لا أنسَ إذ بالجزع من برَدَى ... صوبُ اللجين يباري مدمعي إلهامي تمرُّ ريحُ الصبا بالروضِ حاملةً ... للكوثر العذب ريّا عرفهِ النامي وزاجل الماءِ يروي للنسيم ضحىً ... بردَ الحنانِ بتلحين وأنغامِ واشٍ ينمُّ ونمَّام يشي أبداً ... أحبِبْ بذينك من واشٍ ونمَّام يا ظبيةً زوَّدتني نظرةً تركت ... روحي تسيلُ على أطرافِ أقدامي ما ضرَّ بالشام لو ثنّيتها فمضت ... بمهجتي وانقضى تبريحُ آلامي أنتِ المكِسّرة الأسيافَ صائلةً ... بمرهف النصل ماضي الحدّ صمامِ وما تخذتِ شعار السيف في لَقَب ... إلاّ بجامع فتك الصارم الظامي مكسور جفنكِ لو جرَّدتِ باترَهُ ... يبري صحاحَ المواضي بري أقلامِ لو تعرضين لذي مسحٍ بصومعةٍ ... في القدسِ منقطعٍ بالنسك قَوَّامِ

أعطاكِ أجمع ما صلّى مناجرةً ... بنظرةٍ من صبيحٍ منكِ بسَّامِ وراح يسمح عثنوناً وعنفقةً ... تيه المقامر لاقى نجحَ أزلامِ ولو سموت لذات الرملِ سافرة ... بسفح دُمَّرَ أو في هامة الهامي ظنّتكِ جؤذرَها الوسنانَ فابتدرتْ ... تدعوهُ بين يعافيرٍ وآرامِ ما الروض باكره طلٌّ فرتّله ... كاللؤلؤ الغضّ من زهر وأكمامِ أبهى وأطرب نشراً منكِ ناضيةً ... بكلةِ الخدر ذا وشيٍ وأعلامِ لو في الملاحةٍ عن شمس النهار غنى ... كفيتِ رمضاَءها مستوطن الشامِ يا ظبية الشام ردّي قلبَ مكتئبٍ ... أو شاركيه بوجدٍ جارحٍ دامِ ولستُ أطمع في قربٍ بخلتِ بهِ ... خوف احتراقكِ في مستوقد حامِ أصبحتث جذوة نارٍ تلتظي لهباً ... ستبصرينَ رمادي بعد أيامِ تامر ملاط الأسد الباكي نظم الشاعر هذه القصيدة منذ سنتين , وهو معتزلٌ في عين شمس للاستشفاء من داءٍ ألمَّ بهِ , وسألناه يومئذٍ نشرها في الزهور فاعتذر بأنها من الخصوصيات التي نظمها لنفسه. وكان بعد ذلك أن امتدَّت إليها إحدى الأيدي على غير علمٍ من الشاعر وتلاعب بها النسَّاخ , فنشرت في بعض صحف سوريا وأميريكا متبورة مغلوطة , ونُسب فيها إلى ناظمها أغراضٌ لم تخطر له ببال. فلم يسع الشاعر والحالي هذه إلاّ إرسالها إلينا لنشرها على حقيقتها: دعوتُك استشفي إليكَ فوافِني ... على غير علمٍ منك أنكَ لي آسي

فإن تركي والحزنُ ملءُ جوانحي ... إداريه فلغرركَ بشري وإيناسي وكم في فؤادي من جراحٍ ثخينةٍ ... يحجّبها برادي عن أعين الناسِ تخذتُ لهمّي عين شمس مباَءةً ... فثمَّتَ إِضحائي فريداً وإغلاسي يخالون أني في متاعٍ حيالها ... وبئس متاع الحيّ جيرة ديماس أرى روضةً لكنها روضةُ الرَّدى ... وأصغي وما في مسمعي غير وسواسِ وأنظرُ من حولي مشاةً وركّباً ... على مُزجّياتٍ من دخانٍ وأفراسِ كأني في رؤيا يزفُّ الأسى بها ... طوائفَ جنّ في مواكبِ أعراسِ وما عين شمس غير ما ارتجل النهى ... بقفرٍ جديبٍ من مبانٍ وأغراسِ بنوها فأعلوها ما هو غير أن ... جرتْ أحرفٌ مرسومة فوق قرطاسِ بدت إرَمٌ ذات العماد كأنها ... من القاعِ شدَّتها النجومُ بأمراسِ كفتها ليالٍ نزرةٌ فتجدَّدت ... ثوابت أركانٍ رواسخ آساسِ وغالط فيها البعثَ ما خالط الحلى ... بها من ضروبٍ محدثاتٍ وأجناسِ هناك أُبيحُ الشجوَ نفساً منيعةَ ... على لضيم مهما يفللِ الضيم من بأسي يمرُّ بيَ الأخوانُ في خطراتهم ... أولئك عوَّادي وليسوا بجلاّسي أهشُّ إليهم ما أهشُّ تلطفاً ... وفي النفس ما فيها من الحزن والياسِ ذرونيَ وانجوا من شظايا تصيبكم ... إذا لم أطقْ صبراً فأطلقتُ أنفاسي فإني على ما نالني من مساءةٍ ... لأرحمُ صحبي إن يلمَّ بهم بأسي ذروني لا يملكْ وجيفي قلوبكم ... إذا مرَّ ذاك الطيف وادَّكر الناسي فتا لله لولا ذلك الطيفُ والهوى ... لهُ مُسعدٌ لم يملك الدهرُ إتعاسي ذروني أحسُ الخمر غير منفّرِ ... عن الوردِ منها نفر الطائر الحاسي

فرَّبتً كأس عن شفاهي رددتُها ... وقد قتلَ الدمع السُلافة في الكأسِ ذروني أنكسْ هامتي غير متقٍ ... ملامة رُوَّادٍ وشبهة حُوَّاس فبي حرَّةٌ بكرٌ ضلوعي سياجها ... أراشَ عليها سهمهُ معتدٍ قاسِ أُعيدُ إليها كلَّ حينٍ نواظري ... وأخفضُ من عطفٍ على جرحها راسي يكادُ يبثُّ المجدَ ما لا أبثُّهُ ... من السَقَمِ العَوَّادِ والسأمِ الراسي أنا الألم الساجي لبُعد مزافري ... أنا الأملُ الداجي ولم يخبُ نبراسي أنا الأسدُ الباكي أنا جبلُ الأسى ... أنا الرمسُ يمشي دامياً فوق أرماسِ فيا منتهى حبّي إلى منتهى المنى ... ونَعمةَ فكري فوق شقوة إحساسي دعوتُك أستشفي إليكَ فوافني ... على غيرِ علمِ منك أنك لي آسي خليل مطران النيل السعيد صفت مرآتهُ وجلاهُ جالِ ... فلاح كأنهُ ذوبُ اللآلي وغازلتِ الحدائق شاطئيهِ ... وألقت فوقهُ خضرَ الظلالِ فكم غصنٍ قد ارتسمت حلاهُ ... عليهِ تهزُّه ريحُ الشمالِ كما ارتسمت على المرآة خود ... يرنّح عطفها خمرُ الدلالِ وناحية برمان أُظلّت ... وناحية بأعراش الدوالي ونخلٍ باسقاتٍ كالعذارى ... تثّنى في غدائرها الطوالِ خلعنَ الحسنَ منعكساً عليهِ ... فآنسنَ الحقيقة بالخيالِ وحلّى ألسن الأطيار منهُ ... وقال لها إذكري باري جمالي فجنَّ الطيرُ باسم الله حتى ... تدانى الله والسبع العوالي

فآمن بالبديع الصنعِ قلبي ... وفاض الطرف بالدررِ الغوالي وسار النيل يطلبُ وصل مصرٍ ... وهل يُرضي المحبَّ سوى الوصالِ تُضاحكه الغزالة في علاها ... وبدرُ النمِّ في أوج الكمالِ عذارى الغرب قد سحتنَّ شرقاً ... وغرباً للجنوب وللشمالِ أمثل النيلِ شاهدتنَّ نهراً ... تفرَّد بالمحاسن والجلالِ لئن كان الأُلى عبدوهُ ضلّوا ... فربَّ هداية تحت الضلال أحبُّ النيلَ حبَّ أبي وأمي ... وأهوى مصرَ فوق دمي ومالي وبي عن كلَ مشروب حرامٍ ... غنى برضابهِ العذب الحلالِ رضعتُ هواه في مهدي صغيراً ... وحينَ أشابت الدنيا قذالي بلادي لا أروم بها بديلاً ... ولو أُسكنت في روض المآلِ وما فكّرت في الأهرام إلاَّ ... بكيتُ مفاخرَ الحجج الخوالي فلولا يمسك التوحيدُ ركني ... سجدتُ لتلكم الرمم البوالي بودّي لو قرعتُ صفاة همي ... بأمثال الجبالِ من الرجالِ فبي وخزٌ من الأيام جافٍ ... على جرحٍ قريب الاندمالِ أيمضي الدهر لا ميت فأنسى ... ولا أشفي من الداء العضالِ وما لي لا أرى إلاَّ ظلاماً ... يكاد يغضُّ من نور الهلالِ وما بالي أهمُّ بما أُرجّي ... فتقعدَ بي على نِضو رحالي بمن يا نيل أرمي مَن رمانا ... وقد خلتِ الكنانةُ من نبالِ حلفا محمد توفيق علي يوزباشي بالجيش المصري

نجيب وأمين الحداد

نجيب وأمين الحداد قد كان لي جسمٌ رسمتُ خيالهُ ... حرصاً عليهِ قبل يوم زوالهِ واليوم أوشك أن يزولَ من الضنى ... فأنا لكم أهدي خيالَ خيالهِ في التاسع من شهر فبراير شباط سنة 1899 , أصيب الأدب العربي بركن من أركانه , وبكى الشعر العصريّ أميراً من أكبر أمراءِ ديوانه , بوفاة الشيخ نجيب الحدَّاد من لا يزال الأدباء حتى اليوم يلقبونهُ بفقيد النظم والنثر , لأنهُ أحيا موات كلتا الصناعتين وترك لنا من آثار منظومة ومنثورة ما يخلّد له أكبر ذكر. لم تتجاوز سنو حياة النجيب الاثنتي والثلاثين , لكنهُ وضع فيها من

الروايات والمقالات والقصائد ما لا نعرف ما يوازيه قدراً ومقداراً من مؤلفات كتّاب العصر. لم يمض على وفاتهِ إلاَّ ثلاثة عشر عاماً وبضعة أشهر , حتى راشت المنية سهماً جديداً ورشفته إلى تلك الأسرة فأصابت كبد شقيقه الشيخ أمين , وقد اغتالت في هذه الفترة , بين موت الشقيقين , خالهما أديب العصر الأكبر , الشيخ إبراهيم اليازجي , آخر أنجال الشيخ ناصيف , فكانت خسارة الأدب بالثلاثة فادحة , وكانت صفقة الموت بهم رابحة. شعر الشيخ أمين في السنة الغابرة باشتداد التعب عليهِ , فسافر في أوائل هذا الصيف إلى جبل لبنان للراحة والاستشفاء , فما ردَّ وطنه عنه مقدوراً , ولا أَكسبهُ راحة , ولا جاد عليهِ بالشفاء من الداء , فمات في عين قني من قضاء الشوف , بعد أن ارتوت نفسه من مرأى وطنه , وشبعت عيناه عن مناظر جباله ووهاده. الشيء الذي مات أخوه نجيب متشوفاً إليهِ , متحسراً عليهِ , فقال وهو محتضَر: مات النجيب فأرخوا قبراً له ... قد مات مشتاقاً إلى لبنان ولد الشيخ أمين في بيروت سنة 1870 بعد ميلاد شقيقه الشيخ نجيب بثلاثة أعوام , ومات وهو في الثانية والأربعين من عمره , فكان نصيبه من هذه الحياة عشر سنوات أكثر من نصيب أخيهِ. وقد تلقى دروسه الأولية في مدارس سوريا , وأخذ العربية كشقيقهِ عن خاليهِ المشهورين إبراهيم وخليل اليازجي:

تمتّعتُ من دهري بما هو حاصلٌ ... لواءٌ لديَّ الغرمُ فيهِ أو الغنمُ وما كنتُ من أهل اليسار وإنما ... لقد كان همي أنني ليس لي همُّ أتيت ولا تدري وها أنتَ سائرٌ ... إلى حيث لا تدري فحسبك تهتمُّ وخذْ فرَص اللذاتِ قبل فواتها ... ألم ترَ أن الجسم يخلفهُ رسمُ نظم طانيوس عبده وكان أول عهده بالصحافة في جريدة الأهرام التي ظلّ أخوه يحرّر فيها عشر سنوات على أيام المغفور لهما سليم بك وبشارة باشا تقلا. ثم انفصل الأخوان عن الجريدة المذكورة , واشتركا في إنشاء جريدة

لسان العرب الشهيرة سنة 1894. فأصبحت حياتهما الأدبية مشتركة. وهما في ذلك العهد , يذكر أننا بمعيشة الأخوين الشاعرين بطرس وتوما كورنيل , إذ كانا ينظمان وهما في منزل واحد , فينادي الواحد الثاني عندما تعصاه القافية. يا أخي أعرني قافية. وقد كتب الشيخ أمين فصولاً شائقة على صفحات الجامعة العثمانية وجريدة السلام ومجلة أنيس الجليس. ثمَّ دخل في جريدة البصير لصاحبها رشيد بك شميّل؛ وظلَّ ثلاثة عشر عاماً يدبّج فيها من المقالات الرنانة , والملح الأدبية المستظرفة , ما حمل البعيد والقريب على الشهادة له بسرعة الخاطر , والرشاقة في التعبير , والسهولة في التفنن بأساليب الإنشاء والشاعرية الحقيقية , ومضاء القريحة. وقد اتفق كلّ من عرف الأمين على وصفهِ بكرم الأخلاق , ولطف العشرة , وخفة الروح , ورعاية الذمام , والقناعة والتواضع والبعد عن كل تظاهر. وقد سألنا حضرة الشاعر طانيوس أفندي عبده - وقد كان رفيق الأخوين الشاعرين وثالث هذين القمرين - عن رأيه في الشيخ أمين , فأجابنا بالأبيات الأربعة التي تراها تحت صورة الفقيد , وقال: هذا هو الشيخ أمين وهذه حياته وليس لي من الأبيات إلا نظمها. ولئن بكى فيهِ الأدب كاتباً بليغاً وشاعراً رقيقاً , فإن أصدقاءَه يبكون فيهِ فوق ذلك , خلاًّ وفيّاً وصديقاً صدوقاً.

مطلع العام الجديد , فكتب المرحوم الشيخ أمين الحداد نبذةً في هذا الموضوع أحببنا نشرها للقراء لأنها تنمُّ , من وراء ستار الهزل , عن مللٍ من الحياة وتعبٍ من العمل , كأن صاحبها كان يشعر بدنو أجله , وقد تحققت أمنيته لسوء الحظ ,، وقد رقد رقاده الأخير مستريحاً راحة أبدية , قال رحمات الله عليهِ: أنت تعلم أنني منذ عشرين سنة وأنا خادم في دولتين عظيمتين خدمة لم تنقطع يوماً واحداً , وهما دولتا الصحافة والكأس. بل إذا سامحتني دولة منهما يوماً واحداً , وهما دولتا الصحافة والكأس. بل إذا سامحتني دولة منهما يوماً أو بعض يوم , كان ذلك مخصصاً لخدمة الدولة الأخرى. ولقد ترى حصان المركبة يُحلُّ لجامه , ويُطلق إلى المراتع ليستأنف حياته ونشاطه , بل لقد ترى أمواس الحلاَّق , وهي جماد , تُراح من العمل لتستعيد حدتها ورهفها. أما خادم هاتين الدولتين فلا يُسمح له بشيءٍ من ذلك , بل لقد أكون أنا المخصوص دون سائر الزملاء بهذه المهنة التي تَبِعَتها عليَّ وليس منفعتها. فلطيور السماء أوكار , ولثعالب الأرض أوجار , وأما هذا الخادم فليس له مكان يضع فيهِ رأسه ليستريح إلا أن يكون ذلك الموضع الأخير , وربما يكون في إحدى زوايا البصير لذلك تراني لا أتمنى في سنة 1911 إلا أن أُحال على المعاش في إحدى هاتين الدولتين , ولكنني أتمنى معاش الصحافة , فقد خدمت دولتها أكثر جداً من دولة الكأس التي لا يزال لها عليَّ ديون وحقوق. فهل للاكسبريس أن يسرع في تحقيق هذه الأمنية لهذا المتأخر الذي طال انحباسه , وضاقت أنفاسه , وملّت من الانتظار كأسه. أمين الحداد

حياة الأخوين

حياة الأخوين 1 - سعيد الشرتوني ويراعة فُجعت بفقد وحيدها ... كالأُم قد فُجعت بفقد وحيدِ كلُّ المصائب هيّناتٌ عندها ... إلاَّ المصيبةُ بالإِمام سعيدِ في التاسع عشر من شهر آب الفائت فجعت اللغة العربية بعلَمٍ من أعلامها العالية , الإمام الكبير المغفور له الشيخ سعيد الخوري الشرتوني , رافع لواء الفصاحة والبيان في الربوع السورية , ومعزّز فن التأليف بما أنشأه من الكتب الجمة الغزيرة الفوائد على المدارس العلمية.

وهو أحد الأفراد الذين تجود بهم فلتات الزمان حيناً بعد حين , فيحدثون انقلاباً في ما تركه الأولون للآخرين. حياته - وُلد صاحب الترجمة في بلدة شرتون نحو سنة 1847؛ وأبوه عبد الله بن ميخائيل بن إلياس ابن الخوري شاهين الرامي. كان وهو صبي كثير الزيغان فسافهُ زيغانهُ إلى قتل إحدى قريباتي. وحديث الأمر أنهُ كان لنا بين بيتنا وبيت عبد الله بلوطة جاءتها مرَّة الصغيرة ياسمين ابنة عمّ أبي , وصعدت إليها تقطف البلوط؛ فبصر بها سعيد فانتهرها , فأبت النزول بحجة أن البلوطة مُلك عمها , فكان أنهُ أسرع إلى البيت وأتى بالبندقية المحشوَّة وأطلقها على الابنة فسقطت من علُ لا حراك بها. . . تراوحتُ متردّداً في إيراد هذه الحكاية , فرأيت أنَّ من الوفاء بالتاريخ إيرادها على حين أنها ليست غباراً على حياة الفقيد لصغر سنّة حينذاك. فأرسله أبوه إلى مدرسة عبَيه , حيث تلقَن مبادئ العربية فقط , ثم شرع بالمطالعة لنفسهِ بما فيهِ من الميل إلى العلم. ودرّس برهة في مدرسة عين تراز للروم الكاثوليك , ثم عقد وأبي العزيمة على غشيان بغداد للتدريس فيها , فجاءَت الأنباء بانتشار الوباء فيها فانثنيا , وارتحل سعيد إلى الشام حيث درّس زماناً , ثم هبط بيروت واشتغل عند اليسوعيين في العلوم العربية , ونبغ وأجاد. فألَّف عندهم ونقّح وصحّح طائفة من الكتب المفيدة. ولبث عندهم زماناً طويلاً ثم بعد ذلك درّس بعض السنين الصف الأول العربي في مدرسة الحكمة المارونية فأتاح لي. الحظ أن أكون من بعض تلاميذه. ثم استسلم إلى الراحة متنكباً منابر

التدريس دون التأليف , فأنشأ وهو منزوٍ في بيتهِ عدة تأليف ناضجة سيأتي الكلام عليها. وقد اشترى منذ عام بيتاً في فرن الشباك تحوطه قطعة من الرزق كان يدير زراعتها بيده. وما هي إلاَّ أيام حتى ألعّتب هِ حمى في المعدة انجلت تاركة وراءَها ألماً شديداً في رقبيتهِ من جهة الكتفين , فأضعف الألم المستديم جسمه وهدّ سلامة بنيانه. من صفاتهِ وأحاديثهِ - من صفاتهِ الرزانة والتروّي واعتزال ضوضاء العالمين والتواضع والأنس ولطف الحديث , ومن صفاتهِ الاقتصاد ولهُ أحاديث مأثورةٌ يضيق المجال عن سردها ولا بأس بحديث منها. حدثني مرة قال: زارني المغفور له الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية وكان الانكليز قد احتلوا مصر جديداً , فسألتهُ عن الخطة التي ينوي انتهاجها مع المحتلين؛ فأجاب بالرغبة في معاكستهم فأشرتُ عليهِ بموالاتهم لما هم عليهِ من بسطة البأس والسلطان فتستفيد مصر من الموالاة ولا تستفيد من المعاكسة: قال فأجابني الشيخ: أصبت وأني فاعل كذلك. علومه - يمتاز صاحب الترجمة بعلوم الصرف والنحو وعلوم المعاني والبيان والبديع وبعلم اللغة وأساليب الإنشاء , وهو في كل ذلك صاحب الإِمامة يؤخذ بقوله ويُركن إليهِ وله في ذلك التأليف الجملة الجليلة التي طافت المدارس وتصدَّرت في مكاتب الأدباء , ولم يكن يعرف من اللغات أولاً سوى العربية وقد لجَّ بهِ الشوق إلى تفهُّم الافرنسية وهو أبيض الناصية , فأكبَّ عليها ودرساً يصل بهِ إلى الترجمة منها , فوصل , وترجم قوانين يوستينيانوس ونشرها في مجلة المقتطف. وقد نظم

الشعر رغماً عن عدم انطباعه عليهِ فأجاد في بعضهِ من ذلك أبيات كتبها تحت صورته مع عائلتهِ امرأته وبناته الثلاث قال: رسمٌ يمثّلنا والشملُ مجتمعٌ ... والعيش صافٍ وظلُّ الخير ممدودُ وهذه الحالُ أقصى ما يؤمّلهُ ... حيٌّ من الخلق بالآفات مقصودُ لكنَّ فرقتنا لا بدَّ واقعةٌ ... يوماً فيُفصلُ عن أثمارهِ العودُ فنسأل الله جمعاً بعد تفرقةٍ ... في جنّةٍ وجميلُ العَود محمودُ وقد ازدادت هذه الأبيات اليوم مسحة من الجمال لانفراط الشمل بموت اثنتين من بناتهِ الصبيَّات وبلحاقه بهما: ومن نظمهِ قوله من قصيدة وداعِ: وداع لذيذاتِ الحياة وداعكم ... فليسَ على شاكي التفرّق من عتْب يجرّعنا هذا البعاد مرارة ... على قدر ما ذقنا الحلاوة في القربِ مؤلفاته والحكم عليها - إن الدهر الآتي حكمٌ عدل في كتابات المنشئين , يطرح الغث ويبقي فيهِ أو لمال كثير عنده , لا لبلاغةٍ في كلامه؛ حتى إذا مات ومات جيله , أنصف الدهر في كتاباته العارية من سياج الجاه والمال , فتناولها ومحاها. وقد يموت كاتب فقير فتبقى كتاباته على هام الدهر لبلاغتها وعلوّ طبقتها. أما سعيدٌ رحمهُ الله فأرى أن كتاباته من الخالدات. ومؤلفاته عديدة منها كتاب الشهاب الثاقب في صناعة الكاتب وهو عبارة عن رسائل في جميع أبواب المراسلة , أنشأها والنفوس إلى مثلها ظمأى , ولم يتحدَّ فيها طريقة التصنّع

والتكلّف والسجع والكلام الكثير في المعنى القليل , بل تحدّى الإنشاء المرسل من السهل الممتنع. وله رسالة انتقد بها كتاب النحو الذي وضعهُ يومذاك المرحوم أحمد فارس الشدياق. وهو المصحح ديوان المطران جرمانوس فرحات وشارحه. ولم أرَ الشيخ مجيداً في تصحيح هذا الديوان لما فيهِ من المغالط الشعرية المتعددة والجوازات القبيحة. ومن مؤلفاتهِ كتاب المعين للتلميذ وللمعلم وقد أحسن في وضع هذا الكتاب لما فيهِ من الطرق الرحيبة الموصلة إلى مواطن الإنشاء؛ وقد أردف المعين بكتاب نجدة اليراع وهو كتاب جمع فيهِ الجمل المترادفة في وصف أمر أو شيء. وله كتاب حدائق المنثور والمنظوم وهو مجموعة من أطايب الشعر والنثر على نحو ما هو عليهِ مجاني الأدب وهو جزءان. ومن قلمهِ تصحيح أغلاط كتاب الألفاظ الكتابية للهمذاني , وتصحيح ديوان ابن معتوق , وترجمة قوانين يوستينيانوس , ومقالات جمة من أحاسن الكتابات في المقتطف خصوصاً وسواه من المجلاَّت والجرائد. وفي آخر المدة وضع كتاب مطالع الأضواء في مناهج الكتَّاب والشعراء وهو كتاب مدرسيّ في علوم المعاني والبيان والبديع , وقد تبّسط في هذه العلوم تبسُّطاً يكاد يكون مملاًّ. غير أنهُ فاق على سواه من المؤلفين في هذا الفن بأنهُ أردف هذه العلوم الثلاثة بقوانين الإنشاء من مثل الذوق وانتقاء اللفظ والمعنى والمطالعة والتمرين إلى غير ذلك من الأبواب الجميلة التي لم يطرقها مؤلف عربي سواه فجاء

كتاباً جليلاً للتعليم في المدارس , وأردفه بكتاب في علم الخطاب ولم أقرأ بع هذا الكتاب. يتضح مما تقدّم أن جميع الكتب التي ألَّفها صاحب الترجمة وصححها مدرسية يستغني عنها المترسّلون في العلوم العربية إلاَّ معجمه المشهور واسمه أقرب الموارد وهو حتى الآن أكمل معجمٍ يصل بناشد الألفاظ إلى ضالتهِ عن أقرب سبيل وفي أسرع آن , على حين أننا في عصر أصبحت السعادة عبد الله باشا فكري وزير المعارف في مصر سابقاً والمغفور له العلامة الشيخ محمد عبده. هذه حياة الشرتوني. فهي حافلة بالآثار العلمية الطيبة دالَّة على أن الرجل استعمل الزمن الذي جازه بالعمل المتواصل , ولم يكن لسعيدٍ من نظير في ذلك إلاَّ المثلث الرحمات المطران يوسف الدبس الذي كان يعمل كل يوم سبع ساعات رغماً عن شيخوختهِ ومرَض بصره. وإن حياة كتلك الحياة القمينة بأن تكون مثالاً وضَّاحاً لشبيبة هذا العصر , فتعلم أن العم لا يعطينا بعضه حتى نعطيه كلنا. والآن ألقي عليك أيها الراحل الكريم كلمات الوداع الممزوجة بعواطف الاحترام؛ وثق أن لك من سلامة بيانك , ونصاعة برهانك , ونقاء فصاحتك , ومضاء بلاغتك حارساً أميناً على كتاباتك من نقد النافدين , وكفيلاً ضميناً على بقائها زاهية إلى انقضاء العالمين.

2 - رشيد الشرنوني أن رشيداً أخو سعيدٍ لأبيه؛ وُلد في بلدنا شرتون سنة 1864 , وأفضى إلى ربهِ سنة 1907 أي في روعة العمر ومعمان النشاط إذ لم يكن له من العمر سوى ثلاث وأربعين سنة. تلقَّن مبادئ العربية والافرنسية في مدرسة مار عبده هرهريَّا , ودرَّس حيناً في مدرسة عين تراز ومدرسة عينطوره , ثم انقطع لخدمة العلم عند اليسوعيين في بيروت , فكان يدرّس صف الخطابة في كليتهم , ويحرّر جريدة البشير وكان في خلال ذلك يؤلف ويترجم ويصحح الكتب المفيدة , حتى كانت أواخر سنة 1905 , فهبط مصر لخدمة العلم

فقضى فيها سنة جاء بعدها للاصطياف في لبنان , فأدركه المرض في منتصف الليل , وفي صباح اليوم أجري له الدكتور هاش عملية جراحية فلم تنجح , وقضى بين قلوب تتفطَّر ودموع تتقطَّر. وكان جميل الصورة غضّ الإِهاب كثير اللطف جميل العشرة وفير المحبة لمسقط رأسهِ وأوطانهِ , وكان كأخيه نشيطاً , يصرف أوقاته بالعمل. فإنهً مع انصرافهِ إلى التدريس والصحافة طول حياته , تمكَّن من تأليف بعض الكتب , ولو أمدَّ الله بحياته , لكان من أكبر خدمة العربية ومن أقطاب العلم والأدب , وله فضل كبير على فئة كبرى من الناشئة التي أخذت عنهُ ونهجت منهجه في طلاوة العبارة وتحدّي الذوق فيها. وكان ضليعاً في اللغة , علاَّماً في علوم الصرف والنحو والمعاني والبديع والبيان والخطابة. وكان شديد النفرة من الكتب القديمة لهذه العلوم لما فيها من التفاصيل الفارغة التي تذهب بوقت التلميذ فتنحت من جلَدِهِ وعزمه , فشنَّ على ذلك غارةً شعواء وشمَّر عن ساعد الكدّ لتأليف سلسلة كتبٍ في العلوم المذكورة على السياق الافرنسي. فوضع للصرف وللنحو سلاسل هي اليوم عمدة التدريس في المدارس الكبرى والصغرى في سوريا , ولعلها في مصر أيضاً , ولو استطالت حياته لأتى بالكتب المنوية لعلوم البيان على الطراز المُعلَم , وهذه السلاسل المذكورة خير ما ألف ويؤلف النحَّاة للتدريس. ومن تأليفه كتاب المراسلات نحا فيهِ نحو أخيهِ سعيد في إنشاء الرسائل المتنوّعة , ولكنهُ دون كتاب أخيهِ حجماً وجمالاً. أما الكتب

التي ترجمها عن الافرنسية فكثيرة جداً منها تاريخ لبنان القديم , ورواية بحيرة قدس. وهو الذي صحح ونشر الكتب التاريخية التي وضعها مؤرخ عصره المغفور له البطريرك اسطفان الدويهي؛ وله كتاب تمرين الطلاَّب وهو مجموع تمارين لأبناء التحصيل في الصرف والنحو وقد شاع استعمال هذا الكتاب لكثرة فوائده , وله كتاب في المنطق لم ينشره. وقد أفاضت صحف البلاد في الكلام عنهُ بعد وفاهِ , وقد رثاه الصديق الأديب الشاعر أحمد أفندي تقي الدين بقصيدة منها: أبنات الهديل لا تَذري ... ببكاء الرشيد منسكبا واندبي حظَّه فتى ... عشق الكتب واصطفى الأربا شاحذاً للرقيّ عزمته ... في بلادٍ لا تُكرِمُ الأدبا ورثاه هذا العاجز بأبيات منها: صُحفُ البلاد وكان مهيع هديها ... صدعت بطاحن خطبهِ تبيينا نبأٌ تطاير في البلاد فهزَّها ... حسبتهُ ملبوساً وكان يقينا أخذتهُ أعلامُ الجبال بصيحةٍ ... سمعت لها في الهابطات رنينا. . . لم تزدحم من حولِ نعشك ألسنٌ ... ألفت بغير مماتك التأبينا وتراجع الأدباء عنك لأنهم ... رهبوك يا أسد العرين طعينا خافوا سماعك ضعف قولهم وقد ... كان الكلام إذا نطقت سمينا مسكين القلم الذي ايتمتهُ ... مَن سوف يرحم ذلك المسكينا أفاض الله عليهِ سجال رحمتهِ وأحصاه بين أصحاب اليمين لبنان محبوب الخوري الشرنوني

أزهار وأشواك

أزهار وأشواك خليل بعد حافظ النعَم على أدبائنا تتوالى تترى من حكومة أفندينا العباس. في العامين السابقين عيّن فريق منهم في نظارات الداخلية والمالية والمعارف والحقانية والأوقاف وسائر دواوين الحكومة؛ وقد قلتُ كلمتي بهذا الشأن في حينها. وجاء في هذا العام دور الرتب والنياشين فكانت فاتحتهُ رتبة حافظ , وقد تلاها الآن نيشان خليل مطران. والآني للآتي إن شاء الله. . . مثل هذه الرتب والأوسمة لا تحلّي مثل تلك الصدور وفيها من درر المعاني , وجواهر الأفكار ما يزري بقلائد النحور. بل هي تكتسب من الرونق والبهاء , ما لا يكون لها وهي على صدر الفضلاء والأدباء. فإن أوسمة الشرف على صدر من لا يستحقّها كالطغراء السلطانية على النقود الزائفة , أو كالتمثال البديع على قبر يضمُّ عظاماً نخرة. أما الوسام المجيدي وقد عُلّق على صدر الخليل فكأنهُ رُصع بأغلى الجواهر وأثمن الأحجار. فليهنأ النيشان باستوائهِ على صدر المطران. تذكار الأدباء إذا كنتُ قد ضفرت من أزهاري باقاتِ وأكاليل قدَّمتها إلى من بسم لهم ثغر التوفيق من أدبائنا. فقد حفظت من تلك الأزهار أبهجها وأنضرها لأنثرَها مُرطَّبة بدموع الذكرى على ضريح من اغتالهم غائلُ المنية ممن سالت أرواحهم الزكية من شق تلك القصبة. . . تُقام الحفلات تباعاً , شائقةً رائقة , لا كرام كبار أدبائنا وتهنئتهم بظهور فضلهم , ولنعم العمل عمل القائمين بهذه الأعياد الأدبية. على أن لأدبائنا الأموات كذلك حقّاً علينا يجب أن لا نتغاضى عنهُ. وهل إلى التغاضي من سبيل وقد كان لنا بمن فقدنا في هذا الصيف تذكير شديد: مات الشيخ أمين الحداد فذكّرنا فاجعة الأدب بأخيه النجيب فوجب على أدباء وادي النيل أن يخلّدوا ذكرى الأخوين الشاعرين. وحملت إلينا أنباء لبنان نعي الشيخ سعيد

الشرتوني , فأعادت لاعج الأسف على شقيقهِ الرشيد فتحتم على أدباء الشام أن يحيوا اسم الشقيقين العالمين اللغويين. وهذا عثمان بك جلال , كاد يكون نسيَّا لولا أن همة جوق أبيض أبرزت لنا على مسرح عباس طائفة من رواياتهِ التمثيلية هي كالخرائد جمالاً وجديرةٌ بأن تحيي على لغة الإعراب , سيحتفَل قريباً بنقل رفاتهِ من مصر إلى لبنان , لترقد بقاياه أبيه وأخواتهِ في لحد واحد. . . فالفرصة إذن موافقة لتهنئة الذين تفترَّ لهم ثغر الدهر. ولئن سرَّني تأليف اللجان في بيروت ولبنان برئاسة الآنسة الذكية سلمى أبي راشد مديرة جريدة النصير للقيام باستقبال رفات اليازجي بما يليق , فقد ساءني أن أرى الشرتوني الكبير والصغير يذهبان , ولا أرى كلمةً فيهما لأساتذتنا الأعلام كعبد الله البستاني أو جبر من ضومط , كما أنهُ عزَّ عليَّ أن نفقد الأمين بعد النجيب , ولا يقوم من بين أصدقائهما - ولا أسمّي - من يتحفنا ببحث تاريخي أدبي انتقادي عن آثارهما الكتابية. التمثيل العربي من الكرسي الخاص بمجلة الزهور في تياترو عباس حضرت كل الروايات التي مثّلها جوق أبيض فشاهدتُ: الأحدب لفيفال , ومضحك الملك ` لفيكتور هوغو وقد ترجمها إلياس فياض , والساحرة لفيكنوريان ساردو , وترجمتها لفرح أنطون؛ والشيخ متلوف , والنساء ومدرسة الأزواج ومدرسة النساء ` ` من وضع موليير الشهير وترجمة المرحوم عثمان بك جلال. . ليلات ستّ رأيتُ وسمعت فيها أبهج ما ترى عين للأديب , وأطرب ما تسمع أذنه: مناظر بهية ,

ومجتمع راقٍ , حِكم بليغة , وملاحظات دقيقة مسبوكة فب ألطف قالب وأبلغ أسلوب فاجتمعت لذة البصر والسمع والعقل. كلّ روايةٍ من تلك الروايات ترمي إلى تمجيد إحدى الفضائل , أو شجب بعض الرذائل بطرق متنوعة تتراوح بين الهزل والجد: فهذا يهذّب نفسك والابتسامة على ثغرك , وذاك يرقي عواطفك والدمعة في عينيك فلكلّ مؤلّفٍ أسلوب , ولكلّ أسلوب طريق إلى القلوب. هذا ما شعرنا بهِ في ليالي أبيض , وهذا ما رأيناه بأم العين بعد ما سمعنا بهِ من تأثير الروايات في رقيّ الشعوب. ومقابل ما وجدنا من اللذة , وجنينا من الفائدة في تلك الليالي الغرّ , أزفُّ كلمة تهنئةِ وكلمة شكر إلى جورج أبيض على الخطوة الكبيرة التي خطاها في هذا الفن , وأشرك معهُ من التفَّ حولهُ من الممثلين والممثلات , ولا مجال لديَّ اليوم لأذكرَ كلّ من يستحقُّ الذكر. كلمة التهنئة والثناء واجبة أيضاً لمن ألبس تلك الروايات الإفرنجية حلةً عربية قشيبة. فقد عرفنا قلم الفيَّياض كاسمه فيَّاضاً يتدفق بالمعاني كسلسبيل الماء , ويتفجر منهُ الكلام وكله عذوبة وسهولة وصفاء. ورأينا من بيان منشئ الجامعة في الساحرة سحراً يفتن الألباب. أما المرحوم عثمان دلّنا إلى ما يمكن استخراجه لمسارحنا من تلك اللغة العامية المملوءة جزالة وعذوبة وإلى ما فيها من النكات والتلاعب بالألفاظ مع سهولة فهمها وطَبَعية التخاطب بها. وأن في نجاح الممثلين الباهر في تلك الروايات وتصفيق الحاضرين المتواصل لأكبر دليل على ما أقول. ويا حبذا لو جاد الزمان بزجَّال من طبقة عثمان جلال , فإنهُ ولا شك قادر على إدخال نوع الكوميدي الذي كنا نقنط من وجوده في لغتنا. ولا تنسيني كلمات التهنئة التي أصوغها للمثلين والمترجمين كلمة شكر خصوصية أوجهها إلى رجل يدير كل هذه الحركة كالزنبلك ويكاد لا تراه عين عنيت عبد الرزاق بك.

من كل حديقة زهرة

وقصارى الكلام أن من بات يقول اليوم أن الفنَّ التمثيلي لم يترقَّ لا يكون حضر ليالي تياترو عباس , وإذا قال ذلك وكان قد حضرها فإنه يكون من المتعنتين الذين يرمون إدراك الكمال بين عشية وضحاها , ولا أريد أن أكون من أولئك. نعم إن كل ما شاهدناه في ليالي أبيض كان جميلاً , ولكن كل ذلك يكلّف كالاً جزيلاً. ومهما كان إقبال الشعب عظيماً فإنهُ لا يفي بما هناك من النفقة. وهنا يبتدئ واجب الحكومة. . . حاصد من كل حديقة زهرة اقترح أحد الكتاب على سبيل الفكاهة تأليف وزارة عامة من دول العالم على الشكل الآتي: هولاندا لرئاسة الوزارة. انكلترا لوزارة البحرية. الولايات المتحدة لوزارة الحربية. فرنسا لوزارة المالية. ألمانيا لوزارة الداخلية. تركيا لوزارة الخارجية. النمسا لوزارة المعارف. إيطاليا لوزارة الأشغال والصناعة. روسيا لوزارة الزراعة. بلجيكا لوزارة البريد. اليابان لوزارة المعادن والغابات. وإسبانيا لرئاسة مجلس الداخلية وقد ذكر الكاتب على هذه الطريقة ما امتازت بهِ كل دولة من الدول في الشؤون الاجتماعية. لنا في كل يوم برهان جديد على توقد الذكاء الشرقي , وتفوّقهِ في الفنون والصنائع , متى أنفسح له المجال , وساعدتهُ الأحوال. وقد قرأنا في صحف أميريكا أن حكومة الولايات المتحدة أقرَّت على وضع نشيد وطني رسمي. فتبارى رجال الموسيقي في هذا الباب وأخذوا يضعون الأناشيد , وفي حملتهم الموسيقي الشهير اسكندر أفندي معلوف أحد المهاجرين السوريين. فوضع نشيداً دعاه لأجلكِ يا اميريكا ثم عرضهُ على دوائر المعارف في نيويرك وبوسطن , فلاقى استحسان الجميع. وسئات دوائر المعارف في جميع المدن الأميريكية الكبرى استعمال هذا

النشيد البديع في تمرينات التلاميذ اليومية , ولم يبقَ لاتخاذه نشيداً رسمياً للبلاد إلاَّ موافقة مجلس النواب عليهِ. وروت الصحف أيضاً أن المسترتفت رئيس الولايات المتحدة سمع تلحين هذا النشيد فأعجب بهِ كل الإعجاب. مثّل سعادة أحمد حشمت باشا ناظر المعارف الحكومة المصرية في مؤتمر التربية الدولي الذي عُقد في هذا الصيف في مدينة لاهاي. وقد ألقى خطبة تناول فيها مجمل تاريخ التربية الدينية والفلسفية في مصر معلناً أن التربية في وادي النيل الآن أوسع مما كانت عليهِ لامتزاجها بكثيرٍ من مبادئ التربية المدنية الحرَّة في أوروبا وأن التسامح الديني بلغ مبلغاً يضمن التأليف بين العناصر المختلفة في البلاد. زاد دخل شركة قناة السويس في الستة الأشهر الأولى من هذه السنة 85. 840 جنيهاً عن دخلها في مثل هذه المدة من السنة الماضية. ويُنتظر أن تبلغ الزيادة في السنة 120 ألف جنيه أو ثلاثة ملايين فرنك. وذلك رغم الاعتصابات العديدة والعراقيل الجمة التي عطلت الملاحة في هذا العام ورغم تخفيض الشركة للرسوم التي تتقاضاها. من أخبار الصين أن يوانشيكاي رئيس الجمهورية الصينية أصدر أمره بتعطيل جريدة كنغ ياو التي كانت تنشر من نحو ألف وخمسمائة سنة أي من قبل وجود المطابع في أوروبا. وكانت الأحرف مركبة من الرصاص والفضة , والورق من الحرير الأصفر. وقد برهن مدير وهذه الجريدة في كل آن عن استقلال في الرأي والنزوع إلى التمدُّن الحديث؛ وحدث أن أحدهم تجرَّأ في القرن الثاني عشر واقترح على الحكومة إرسال بعثة إلى أوروبا لدرس عاداتها واتخاذ ما يوافق الصين منها فكان جزاؤه الإعدام. ومنذ سنة 1800 أخذت الجريدة المذكورة تصدر يومياً وفي سنة 1907 أمرت الإمبراطورة بتعطيلها لأنها أذاعت المساعي التي كانت تُبذل أوانئذٍ في القصر لاختيار وليّ للعهد. فاستأنفت الجريدة الظهور بعدئذٍ باسم آخر , وربما فعلت هكذا هذه المرة أيضاً واستأنفت الظهور رغماً عن الأمر الصادر بتعطيلها.

ثمرات المطابع

ثمرات المطابع كتاب آداب العرب - عرف قراء العربية شاعراً تعوّد توقيع منظوماتهِ في الصحف والمجلاَّت بإمضاءِ العرب. وكان هذا التوقيع يلتبس أحياناً على بعض صحفنا في أميركا وسوريا فتتوهم تلك المنظومات من المنقولات عن العرب. أما هنا فقد عرفناها لحضرة الألمعي إبراهيم بك العرب , وعرفنا شاعرها أديباً غيوراً على لغتنا , صديقاً صدوقاً لمعظم أدبائنا. بين يدينا الآن كتابٌ من قلم حضرتهِ جمع فيه ما امتاز بنظمهِ من الحكَم والأمثال على ألسنة الحيوانت , فجاء فيهِ ما ينيف على المئة عظة قال ناظمها: عن الطيرِ في جوّ السماء أخذتها ... وفي القفرِ عن طبيٍ وذئبٍ ورئبالِ وقد ضمنها حكماً ومواعظ ... لتهذيب أخلاقٍ وإصلاح أحوالِ وقد قدرتها نظارة المعارف قدرها فقررت طبع كتاب العرب على نفقتها , كما قرّرت تدريسه في المدارس الإبتدائية وفي مدارس المعلمات السنية ومدارس معلمي الكتاتيب؛ وهذا أجمل تقريظ لكتاب صديقنا إبراهيم بك. أما طريقة الإرشاد وتلقين الفضائل بواسطة الأمثال فهي قديمة العهد , فقد ورد شيءٌ من ذلك في التوارة والإنجيل. واشتهر بالأمثال عند القدماء ايزوب الرومي , وعند الإفرنج لافونتين وهو أبلغ من كتب في هذا الباب. ونالت الأمثال المنسوبة إلى لقمان الحكيم شهرةً بعيدة

عند العرب. ومن الأئمة في هذا الفن ابن المقفّع , وكتابه كليلة ودمنة أشهر من أن يُعرّف. ومن كُتُب الأمثال كتاب فاكهة الخلفاء ومفاكهة الظرفاء لابن عربشاه الدمشقي. وقد ورد شيءٌ من هذا النوع في كتاب سلوان المطاع لحجة الدين بن ظفر , وفي كتاب عنوان البيان للشبراوي , وكتاب ألف ليلة وليلة وكتاب الأذكياء لأبي الفرج بن الجوزي , وفي مصنَّفات السيوطي. وأشهر من كتب في هذا الفن من المحدثين رزق الله حسُّون وقد طبع كتابه النفثات في لندرا , ومحمد عثمان جلال , وطبع كتابه الأمثال والمواعظ في مصر. ونحن اليوم نسجل اسم العرب إلى جانب أسماء هؤلاء الأئمة. العائلة المصرية - جميلة ومعزّية النهضة الأدبية التي نشاهد أثارها بين نسائنا وفتياتنا. فقد قام فريق منهنَّ يعاون رجالنا في ترقية مجتمعنا الشرقي , آخذات على عاتقهنَّ تنببه أخواتهنَّ إلى واجب المرأة , والدفاع عن حقوقها. وقد انضم إلى هذه الفئة العاملة كاتبة جديدة , عرّفتنا بها الجرائد في هذه المدة , وقد زدنا بها معرفةً من كتاب جليل الفائدة أهدته إلينا في الشهر الماضي , فرأينا فيها نفساً تتلهب غيرةً على مجد قومها , وعقلا يقدح زناد الفكر في معرفة دائنا ودوائنا. فبحثت في موضوع العائلة وهي أساس العمران وركن الاجتماع , وتتبعث بنوع خاص العائلة المصرية في جميع أدوارها ومظاهرها وطبقاتها , وانتقدت

بعض عاداتنا في التربية والمعيشة الزوجية , وهي كتبت ما كتبت بعد أن تأملت فتألمت , وفكّرت فتحسرت على مجدِ آفل وعزٍ غابر وقد قرنت هذا الشعور الرقيق بخيالٍ واسع يساعدها على تصوير الحقائق والمناظر بصورٍ تمثلها لك أبلغ تمثيل. والشعور والخيل من أهمّ صفات الكاتب , فلا يبع أن تنال هذه الكاتبة الجديدة مقاماً رفيعاً بين أديباتنا , وقد مهد لها كتابها العائلة المصرية الطريق لذلك. وصايا الوطن العشر - واضع هذا الكتاب , أميل فاكه أحد أعضاء الأكاديمية الفرنسوية , من الكتَّاب المفكَّرين والمنشئين البعيدي الصيت. وقد بحث في كتابه هذا بحثاً وافياً في ماهية الوطن وأقسامهِ , والوطنية ورسوخها في قلب الإنسان والبواعث العاملة على تقويتها في النفوس كاللغة والدين , وتاريخ البلاد وفنونها وآدابها وعلومها , إلى غير ذلك من الأبحاث النفسية المبنية على التحليل البسيكولوجي ولأدلة التاريخية. وقد استنتج الكاتب من بحثهِ - وهذا ما يجدر بالشرقيين , حكَّامهم ومحكوميهم , تفهُّمهُ - أ، هـ يجب على الحكومات التي توجد فيها اليوم مذاهب سياسية وأديان متعددة أن تعتقد: أن المذاهب ليست عاملاً من عوامل الوطنية , وأن في مقاومة هذه المذاهب والأديان وطنية هي إطلاق حريتها كلها ومساواتها كلها في المعاملة. أما ناقل هذا

السفر النفيس إلى العربية فهو الكاتب المشهور إبراهيم أفندي سليم نجار مراسل المقطم من العاصمة العثمانية , وهي خدمة جديدة له تضاف إلى خدماتهِ السابقة في سبيل أبناء جلدته. فنسأل له التوفيق ولكتابه الرواج. أمثال الشرق والغرب - عنوان كتابٍ ضمَّ بين دفتيهِ زبدة ما دار على ألسنة الفلاسفة والحكماء من الأقوال المأثورة والأمثال المشهورة , جمعها ورتبها حسب مواضيعها حضرة الأديب الفاضل يوسف أفندي توما البستاني؛ فأجاد وأفاد. لأن مثل هذه الأقوال هي نتاج الأدمعة المفكّرة , وخلاصة الحكمة في كل مكان وزمان؛ فإن كثيراً ما تكون الجملة الواحدة نتيجة اختيارٍ طويل وملاحظات عديدة , فتجيء بالمعنى الكبير. وسننشر في عدد قادم طائفة من هذه الأقوال لما فيها من جزيل الفائدة. الصديق - عنوان مجلة جديدة أصدرها في الإسكندرية الفاضل عبد الحميد أفندي سالم , وهي أدبية تاريخية روائية. جاءنا العدد الأول منها وهو يتضمن بعد المقدمة مقالة عن الشاعر البرتغالي كاموينس , وبحثاً مستفيضاً في الروايات ومطالعتها وكتابتها والأسلوب الروائي. وقيمة الاشتراك 30 غرشاً صحيحاً في مصر و10 فرنكات في الخارج. فنتمنى أن يكون للصديق أصدقاء كثيرون.

بوليوس قيصر

بوليوس قيصر رواية تمثيلية من أشهر الروايات , وأحكمها وضعاً , وأعظمها وقعاً في النفوس لمؤلفها نابغة هذا الفن شكسبير الروائي الانكليزي الشهير. نقلها إلى العربية بعبارة مطابقة تماماً للأصل الانكليزي حضرة الكاتب المجيد سامي الجربدني المحامي وسننشرها تباعاً ابتداء من هذا الجزء بمناسبة النهضة التمثيلية الحديثة. أشخاص الرواية: يوليوس: منجّم أوكتافيوس: قيصر حكام الدولة الرومانية بعد موت قيصر , سنّا الشاعر - وشاعر آخر ماركوس انطونيوس: حكام الدولة الرومانية بعد موت قيصر , لوسيليوس , أصدقاء بروتوس وكاسيوس اميليوس لبيدوس: حكام الدولة الرومانية بعد موت قيصر , تيتينوس , أصدقاء بروتوس وكاسيوس بوبيليوس: من أعضاء مجلس الشيوخ , مسلاّ , أصدقاء بروتوس وكاسيوس ببليوس: من أعضاء مجلس الشيوخ , كاتو الصغير , أصدقاء بروتوس وكاسيوس شيشرون: من أعضاء مجلس الشيوخ , فولومنيوس , أصدقاء بروتوس وكاسيوس بروتوس.: كاسوس: المتآمرون على قيصر , فارو كليتوس , خُدَّام بروتوس كاسكا ليجاريوس: المتآمرون على قيصر , كلوديوس ستراتو , خُدَّام بروتوس تريبونيوس سمبر: المتآمرون على قيصر , لوسيوس دارداتيوس , خُدَّام بروتوس ديسيوس سنّا: المتآمرون على قيصر , بنداروس , خادم كاسيوس فلافيوس: كالبورنيا , امرأة قيصر ماروليوس: بورسيا , امرأة بروتوس ارتيمدوروس: أعضاء مجلس الشيوخ أهالي حرس وخدَم

الفصل الأول المشهد الأول شارع في رومه يدخل فلافيوس وماروليوس وبعض عامة الناس فلافيوس - إلى بيوتكم! اذهبوا إلى بيوتكم أيتها المخلوقات الكسلى. أتظنون اليومَ يومَ عيد؟ أو لا تعلمون أنهُ لا يجوز لكم وأنت من الصنّاع أن تسيروا في الأسواق في غير أيام البطالة بدون أن تحملوا شارات صناعاتكم؟ أنت يا هذا تكلم. ما حرفتك؟ العامي الأول - نجَّار يا سيدي ماروليوس - أين وِزرتك وأين مَسطرتك؟ وما تصنع جائلاً مرتدياً أحسن ملابسك؟ وأنتَ يا هذا من أيّ الحرف أنت؟ العامي الثاني - إذا عُدَّ الصناع الحاذقون فما أنا يا سيدي إلاّ عامل مرقّع ماروليوس - ولكن ما صنعتك؟ قلْ بلا مواربة العامي الثاني - إني أحترف حرفة أرجو أن أواظب عليها بالأمانة والإخلاص ألا وهي ترقيع القديم. ماروليوس - غاضباً ما صنعتك يا دنيء؟ أيها الدنيء المنافي ما صنعتك؟ العامي الثاني - لا تغضب يا سيدي. لا تغضب عليَّ. ف ني قد أُصلحك ماروليوس - ما تعني بهذا أيها الوقِح؟

العامي الثاني - أي إني أرقّعُك يا سيدي فلافيوس - آه. أنتَ سكاف. أليس كذلك؟ العامي الثاني - حقاً يا سيدي أن المخرز آلة معيشتي. فقد اصطفيتهُ لي خليلاً دون جميع الرجال والنساء. نعم أنا جرّاح الأحذية القديمة آسوها عند إشرافها على الهلاك. إن خيرَ مَن مشى على الأرض مرَّت رجلاه بين يديّ فلافيوس - ولماذا تركت حانوتك اليوم وخرجت تقود هؤلاء الناس في الأسواق؟ العامي الثاني - حتى يقطّعوا أحذيتهم مشياً فيزداد كسبي. على أني لا أكتمك يا سيدي أننا تركنا أشغالنا لنرى قيصر ونفرح لانتصاراته ماروليوس - ولمَ تفرحون؟ أين النصرُ المبين الذي جاءنا بهِ؟ وأين الأسارى الذين أتى بهم إلى رومة يحفون بمركباته؟ أي بني رومة قساة القلوب غلاظ الرقاب. كونوا خُشُباً مسندةً! إن الجماد لخيرٌ منكم. أنسيتم بومباي؟ يوم كنتم تتسلقون الأسوار والمباني وتصعدون إلى النوافذ والأبراج - بل إلى المداخن - حاملين أطفالكم , واقفين صابرين منتظرين اليوم كله لتختلسوا نظرةً من بومباي وهو مارٌ في شوارع رومة. حتى إذا لاحت لكم مركبته هتفتم له هتافاً اهتزت له أعماق التيبير كأنه ينطالُّ ليسمع صدى أصواتكم المالئة شاطئيهِ!. . والآن؟ ماذا تفعلون الآن؟ أترتدون أحسن ملابسكم وتخلفون لأنفسكم عيداً وتنثرون الأزهار في طريق رجل جاءَكم بنصرٍ مخضّب بدم بومباي؟ إليكم عني! تفرَّقوا. اركضوا إلى قعر بيوتكم وخرُّوا سجّداً وادعوا الآلهة علّها تحول عنكم

طاعوناً واقعاً لا محالة عليكم يا ناكري الجميل فلافيوس - يا أبناء وطني الصالحين. اذهبوا. واجمعوا جموعكم الذين على شاكلتكم إلى ضفاف التيبير؛ واذرفوا الدمع حتى يفيض منهُ النهر ويملأ عبرَيه عسى أن تُغفر لكم أوزاركم يخرج جميع الأهالي أنظرْ. أنَّ أدنى عواطفهم قد تحرّكت. ألا ترى كيف خرسوا في ذنوبهم وذابوا؟ أقصد أنت إلى الكابيتول من هذه الناحية , وأنا من هنا , وإذا رأيت صوراً مزدانة بزينة قيصر فانزع زينتها ماروليوس - أيليق أن نفعل ذلك واليوم عيد لوباركال؟ فلافيوس - لا بأس. يجب أن لا ندع الصور مزدانة بزينات قيصر. أنا ذاهب لأطرد العامة من الشوارع فافعل أنت فعلي وفرّقهم حيث تراهم متكاثفين. فإِنّا إذا نزعنا الآن هذه الريشات المتنامية من جناح قيصر ما استطاع أن يطير فوق الطيران العادي. أما إذا لم نفعل فإنهُ يحلّق إلى حيث لا تراه العين , ونبقى نحن خاضعين خائفين يخرجان المشهد الثاني محلٌّ عام هتاف يدخل قيصر وأنطونيوس وكالبورنيا امرأة قيصر , وبورسيا إمرأة بروتوس ,

وديسيوس وشيشرون وبوتوس وكاسيوس وكلسكا. وجمع كثير يتبع , وبينهم منجّمو لمشاهدة السباق قيصر - كالبورنيا! كاسكا - ياهو! اسكتوا! أن قيصر يتكلم قيصر - كالبورنيا! كالبورنيا - هانذا سيدي قيصر - قفي واعترضي أنطونيوس في طريقهِ حين يمرَّ بك جارياً! أنطونيوس! أنطونيوس - سيدي قيصر قيصر - لا تنسَ وأنت تجري في السباق أن تلمسَ كالبورنيا. فأن شيوخنا يقولون أنهُ إذا لمس أحد المتسابقين عاقراً في مثل هذا اليوم زالت عنها لعنة عَقرَتِها أنطونيوس - سأذكر ذلك ولا أنساه. أن قيصر إذا قال لشيء كن فيكون قيصر - ابدأوا. والعبوا لعبكم هتاف واختلاط المنجم - أي قيصر! قيصر - ها. من ينادي؟ كاسكا - قولوا للناس تسكت! اسكتوا! قيصر - من يناديني في مثل هذا الزحام؟ فإني أسمع صوتاً أرفع من صوت الموسيقى ينادي قيصر. تكلم أن قيصر مصغٍ يسمع

المنجم - إحذر خامس عشر مارس! قيصر - مَن الرجل؟ بروتوس - أن منجماً يحدزك خامس عشر مارس قيصر - إيتوني بهِ. دعني أرَ وجهه كاسيوس - يخاطب المنجم تقدَّم من بين الجمع وانظرْ إلى قيصر قيصر - ماذا قلتَ لي؟ قلْ مرةً أخرى المنجم - احذر خامس عشر مارس! قيصر - أنهُ لحالِمٌ. لندعه وشأنه. هيّوا بنا يخرح الجميع ويبقى بروتوس وكاسيوس كاسيوس - أتأتي معي لمشاهدة السباق؟ بروتوس - ما أنا بالذاهب كاسيوس - رجوتك. افعلْ بروتوس - ما أنا باللعَّاب. أنهُ لينقصني بعض ما عند أنطونيوس من الميل إلى اللهو. ولكن لا يقفنَّ امتناعي في سبيل ذهابك أنت. ها أنا منصرف. كاسيوس - إني ألحظُ إليك منذ زمن يسير فلا أرى في عينيك تلك المودة التي عوَّدتنيها. ولا تُظهر لي من الحبِّ ما كنتُ أنتظره منك. ولا تمدّ يدك السمحآء مدًّا يرقبهُ صديقك الصدوق. بروتوس - لا تخدعنَّك الظواهر يا كاسيوس. فما حوَّلتُ وجهي عنك بل عن نفسي. . . عواطف متباينة تتقاذفني. إنْ هي إلاّ أفكار خاصة بي قد تصطبغ بها أعمالي. فلا يحزن أصدقائي لأمري - وأنتَ يا كاسيوس في عدادهم - وليعلموا أن بروتوس قد اشتغل بمحاربة نفسه عن إظهار المدّة لهم. كاسيوس - إذن عفوَك عن أخطائي حسن مقصدك. بل عفواً عن خطأِ

جعلني أخفي عنك في طيّ قلبي أفكاراً وتأملات ذات شأن وقيمة قلْ يا بروتوس! هل تستطيع أن ترى وجهك؟ بوتوس - كلاّ. فإن العين لا ترى نفسها إلاّ إذا انعكست صورتها إليها بشيء آخر كاسيوس - هذا أكيد. أسفي أن لا يكون لديك مرآةٌ تعكس لك فضائلك المخباة فتريك ظلك. إني سمعت كثيرين من أعلى الناس مقاماً في رومة - عدا قيصر - يئنون تحت نير هذا الزمان. يذكرون بروتوس ويتمنون لو ينظر إلى نفسهِ بأعينهم بروتوس - إلى أيّ الأخطار تدفعني يا كاسيوس فتجعلني أفتش في نفسي عما ليس فيَّ كاسيوس - إذن تهيأ للسمع. وما دمتَ تعلم أنك لا تستطيع النظر إلى نفسك فأنا أقفُ لك مرآة صغيرة تعكس ما خفي عليك منك. لا تسيء الظنّ بي. لو كنتُ ضَحِكة بين الناس أو من الذين يطرحون صداقتهم طرحاً على أول قادم. أو كنتُ ممن ينقلب على الصديق عدوّاً أغتابهُ بعد أن أكون قد مدحتهُ. أو كنتُ أحفلُ باسترضاء عامة الناس لحقَّ لك الحذرُ مني هتاف في الخارج بوتوس - ما هذا الهتاف؟ إني أخشى أن يكون الشعب قد اختار قيصر ملكاً كلسيوس - آه. أتخشى الأمر؟ إذن أنت لا ترغبُ فيهِ؟ بروتوس - أي كاسيوس. إني لا أريد ذلك ولكني أُحب قيصر. . . ولمَ تمسكني عن الذهاب؟ ما الذي تودُّ أن تبوح لي بهِ؟ إن كان هناك ما يعود بالنفع على بلادي فدونك عينيَّ! ضعْ الموتَ أمام إحداهما والشرف أمام الأخرى فتراني أنظرُ إلى الأمرين نظراً واحداً وأسيرُ في طريقي إما إلى الموت وإما إلى الشرف. لنجعّل الآلهة بالقضاء عليّ إن كنت لا أحبُّ الشرف أكثر مما أخاف الموت

كاسيوس - أعرف بك هذه الفضيلة كما أعرفك. خفّف عنك. إني أسوقُ إليك حديثاً موضوعه الشرف. ما الحياة؟ إني أجهل رأيك ورأي الناس في قيمة هذه الحياة الدنيا. أما أنا فسيَّان عندي الموت والحياة إذا كان لابدَّ لي من العيش خائفاً من نفسي. . . لقد ولدت حرّاً مثل قيصر. أو لستَ أنت حرّاً أيضاً؟ تغذَّينا كلانا من غذائهِ. وكلانا يتحمل برد الشتاء كاحتماله. فإني كنت مرة مع قيصر على شاطئ نهر التيبير في يوم مطير ذي ريح عاصفة. وأمواج النهر تودُّ لو استطاعت التملص من شاطئيه فتلطمها حَنِقةً غضبى. فقال لي قيصر أتجسر يا كاسيوس أن تقفز معي إلى هذا النهر الشرس فنسبح إلى الضفة الأخرى. فامتثلتُ الأمر حالاً ووثبتُ إلى الماء وقلتُ له اتبعني. فتبعني. وتدفق السيلُ وعلا خريره فأخذنا نكافحه بأعصاب كَلِبَةٍ ندفع الأمواج غير هيابين فتندفع. وما كدنا نصل إلى هَدَفِنا حتى سمعتُ قيصر ينادي إليَّ يا كاسيوس أو أغرق فانتشلتهُ من ماء التيبير مضنوكاً كما انتشل جدُّنا الأعلى اينياس العجوزَ أنشيزيس من نيران ترواده الملتهبة. وها قد صار هذا الرجل إلهاً وبقي كاسيوس رجلاً تعساً , عليهِ أ، ينحني خاشعاً إذا تكرَّم قيصر ورمقهُ شزراً. إنهُ أصيب بالحمى في إسبانيا فكان يرتجف ورأيت شفتيه وقد جَبُنتا ففرَّتا هاربتين من لونهما الطبيعي. وتلك العين التي يرتعب العالم من نظرتها رأيتها وقد زال عنها لمعانها. لقد سمعتهُ يئن. إن لسانه الذي أمر الرومانيين أن يكرموه ويدوّنوا خطَبَهُ في كتبهم كان يصرخ طالباً كأساً من الماء كما تصرخ امرأة على سرير المرض. إيهٍ أيتها الآلهة! إني أعجب كيف يتسنى لرجلٍ بهِ من ضعف الخُلق ما بهِ أن يجوز قصب السبق وحده على هذا العالم العظيم هتاف في الخارج بروتوس - أنهم يهتفون أيضاً. ومما أظنُّ هذا الهتاف إلاَّ تكريماً يضاف إلى حساب قيصر

كاسيوس - ويلك يا رجل. أنهُ مثل ضم رودس يضمُّ بين ساقيه هذا العالم الضيق ولا يُبقي لنا نحن صغار الخَلق إلاَّ أن نمشي بين رجليه الضخمتين ثمَّ نتطال لنجدَ لأنفسنا قبوراً ندفن بها عارنا. الناس يملكون في بعض الأحيان آجالهم إننا نعيبُ زماننا والعيب فينا. بروتوس - قيصر - ما الفرق بين الاسمين وبمَ يفضل قيصر بروتوس؟ ولمَ ينادي باسمهِ أكثر مما ينادي باسمك؟ اكتب الاسمين معاً. ليس اسمه بأجمل من اسمك. لحن في قراءتهما. إن اسمك عذب اللفظ كاسمهِ. ضعهما في كفتي ميزان فلا يرجح اسمهُ اسمك. عزّم بهما فسرعان ما تخرج الأرواح من بروتوس خروجها من قيصر. وأيم الآلهة جميعها! على أي طعامٍ يقنات قيصر هذا حتى ينمو يا رومه. وأنهُ ما مرَّ منذ الطوفان زمن احتكر شهرته رجل واحد فقط. وما استطاع رجل أن يقول قبل الآن جدران رومه الواسعة ضاقت عن أن تسع أكثر من واحد. ها نحن , ورومه رومه , ولا مكان لأكثر من رجل فرد فيها. إني سمعتُ آباءنا تقول إن كان فيما مضى رجل يُدعى بروتوس ودَّ لو خضع لحكم الشيطان الأبدي ولا يرى ملكاً على رومه بروتوس - لا أشكُّ في حبّك لي. واظنني قد حذرت بعض ما تدفعني إليهِ. سأنبئك بما يستقرُّ عليهِ رأيي في هذه الأمور. أما الآن فأرجوك أن لا تزيد في تحريك شجوني. إني سأمعن النظر فيما قلت وسأصغي إلى كل ما ستقول ثمَّ لي جواب على هذه المهام. واعلم أني أؤثر أن أكون قروياً حقيراً على أن أكون ابناً لرومه ينوءُ تحت أحمال قد يحمّلنا إياها هذا الزمان. فأمضغ هذا الكلام جيداً حتى نلتقي مرةً أخرى. كاسيوس - أنا فرِحٌ لأن كلماتي الضعيفة قد أذكت مثل هذه النار في صدرك بروتوس - قد انتهت الألعاب وعاد قيصر

كاسيوس - عند ما يمرّ القوم اجذب كاسكا من كُمّ ثوبه إليك فيروي لنا بأسلوبه الساخر ما يستأهل الرواية من حوادث اليوم يدخل قيصر وأتباعه بروتوس - سأفعل. إنما تعالَ وانظر. ها علامة الغضب تلمع على جبهة قيصر. وأتباعه يمشون كاسفين. إن الاصفرار يعلو خدي كلبورنيا. وشيشرون ينظر بأعين من نار تذكرنا مواقفه في الكابتول حين يعارضه في الكلام أحد أعضاء المجلس كاسيوس - سيقص كاسكا علينا قيصر - انطونيوس! انطونيوس - قيصر؟ قيصر - أبغِني رجالاً يحيطون بي. رجالاً سمانا ذوي رؤوس ناعمة ينامون الليل كله. إن لكاسيوس الواقف هناك نظرات جائعة مهزولة. إنهُ كثير التفكير ومثل جانبه لا يؤمن انطونيوس - لا تخفهُ , ليس منهُ خطر. إنهُ روماني نبيل يميل إليك قيصر - لما تجنبتُ رجلاً تجنبي كاسيوس الناحل. أنهُ يقرأ كثيراً , وهو شديد الملاحظة , يحدق بنظره فيخترق أعمال الناس. لا يلهو ولا يلعب نظيرك يا انطونيوس , ولا يسمع الغناء , يتبسم قليلاً , وإذا تبسم فكأنهُ يهزأ من نفسه أو يحتقر قلباً يجد ما يستأهل التبسم. إن أمثاله قلقون أبداً , لا يهدأ لهم بال إذا رأوا من هو أعظم منهم. فهو خَطِر. على أني أنبئك عما يجب أن تخاف وليس عما أخافهُ أنا. لأن قيصر لا يزال قيصر. تعالَ إلى يميني , فإن هذه الأذن ثقيلة السمع وأبدِ لي رأيك فيهِ بالحق. يخرج قيصر وأتباعه ما عدا كاسكا كاسكا - أنك جذبت كمَّ ثوبي. هل تبغي محادثتي؟

بروتوس - نعمو أنبئنا ما الذي أساء قيصر اليوم كاسكا - أنك كنت معهُ. . ألم تكن معهُ؟ بروتوس - لو كنت معهُ ما سألتك شيئاً كاسكا - لقد قدّموَا له تاجا , وبعد أن قدّموه ردّه بيده هكذا. فهتف له الشعب. بروتوس - وما كان سبب الهتاف الثاني؟ كاسكا - الأمر نفسه كاسيوس - هل أهدوا التاج إليهِ ثلاث مرات؟ كاسكا - نعم. ثلاث مرات , وقد ردّه ثلاثاً أيضاً. لكنه تمهّل في الثانية أكثر مما في الأولى , وفي الثالثة أكثر مما في الثانية. وكان الذين حواليَّ يهتفون له المرة بعد الأخرى كاسيوس - من قدّم له التاج؟ كاسكا - انطونيوس بروتوس - كيف كان ذلك كاسكا - أما كيف كان ذلك فصعب عليَّ وصفه. ما اكترثتُ. ظننت الأمر ألعوبة. رأيت ماركوس انطونيوس يقدّم له شيئاً ليس بالتاج حقيقة بل إكليلاً صغيراً. وقد قلت لك أنهُ رفضهُ. على أني أظنهُ كان يود لو أبقاه. فقدّم إلا كليل ثانية , فردّه قيصر أيضاً. على أنني أظنهُ اسثقل أن يعيد يده خاليةً منه. فعاد انطونيوس وقدم الإكليل مرة ثالثة , فردّه بين هتاف الجمهور وتصفيقهم. وأخذوا يرمون قبعاتهم القذِرة في الهواء فتختلط رائحتها برائحة أنفاسهم المنتنة حتى كاد يُقضى على قيصر. فقد اعتراه الأغماء وسقط إلى الأرض. أما

أنا فلم أجسر أن أضحك مخافة أن أفتح فمي فيمتلئ ريحاً خبيثة كاسيوس - مهلاً. مهلاً. هل أغمي على قيصر؟ كاسكا - أنهُ سقط على قارعة الطريق , وأزبد فمه ولم يتكلم بروتوس - والأمر معقول. فإن قيصر مصاب بداء الصرع كاسيوس - ليس قيصر المصاب بالصرع! بل أنت , وأنا , وهذا الأمين كاسكا. نحن المصابون بالصرع! كاسكا - لا أفهم ما تقول. ولكني أعلم أن قيصر وقع إلى الأرض وكان قد لحظ قبل أن يقع سرور الشعب لرفضه التاج فجذبني إليهِ لأنزع الرداء عن عنقه , والتفت إلى جمهور الواقفين وقال تعالوا اضربوا عنقي. أما أنا فلو كنت أحد هؤلاء الصنّاع لصدقته حالاً. وعندما رجع إلى نفسه , اعتذر عما بدر منهُ ونسب السبب إلى مرضه , فصاحت ثلاث أو أرع نساء كنَّ بجانبي يا له من ملك كريم وغفرنَ له من قلوبهنَّ. إنما لا عبرة بأعمالهنَّ فلو طعنَ قيصر أمهاتهنَّ ما فعلنَ خلاف ذلك بروتوس - وبعد ذلك خرج كئيباً؟ كاسكا - نعم كاسيوس - هل تكلم شيشرون؟ كاسكا - نعم. تكلم باليونانية كاسيوس - ماذا قال؟ كاسكا - لو كنت أعلم ما قال لما نظرت إلى وجهك بعد الآن. أما الذين فهموه فكان ينظر بعضهم إلى بعض ويتبسمون ويهزّون الرؤوس. أما أنا فلم أفهم شيئاً. كان الكلام يونانياً - دونك خبراً آخر: إنهم قبضوا على ماروليوس وفلافيوس لأنهما نزعا الزينات من صور قيصر. وهناك مساخر أخرى قد نسيتها. مودّعاً طيبا نفساً كاسيوس - تعالَ نتعشى في بيتي هذا المساء

كاسكا - لا. فإن لي موعداً آخر كاسيوس - فليكن الأمر غداً كاسكا - لا بأس إن عشتُ , وكان غذاؤك طيباً , وإن أنت لم تنس كاسيوس - سأكون بانتظارك يخرج كاسكا بروتوس - غريب أمر هذا! وكيف صار بطيء الفهم. فقد كان رفيقي في المدرسة وعرفته على جانب عظيم من الذكاء وسرعة الخاطر كاسيوس - أنهُ لا يزال سريعاً في التنفيذ سبّاقاً إلى غايات الشرف والشجاعة رغم ظاهره البطيء. وليست هذه الخشونة البادية عليهِ إلاَّ مرقاً في صحن ذكائهِ يذيقهُ الناس فيحسنون هضم كلامه بشهية بروتوس - وهو كذلك. سأتركك الآن. فإذا أحببتَ أن تراني غداً أجيئك. أو تعالَ أنت إلى منزلي. إني أكون بانتظارك كاسيوس - سأفعل. استودعكَ التفكير في شؤون هذا الزمان يخرج بروتوس. إنك شريف يا بروتوس. على أني أرى معدنك الشريف قد يُصكُّ ويجوَّل إلى غير وجهتهِ. ولذلك وجب أن لا يخالط الشريف إلاَّ الشريف , فالعصمة ليست لأحد , وأي الرجال لا يُستغوى. أن قيصر حاقدٌ عليَّ ولكننهُ يحب بروتوس. فلو كنتُ أنا بروتوس وكان بروتوس كاسيوس لما استطاع أن يثير مكامن عواطفي. فلأذهبنَّ الليلة وأكتبُ رسائل أرميها إليهِ من نوافذ بيته رسائل مختلفة الخطوط تشيرُ إلى ما له من عظيم المكانة في قلوب أهل رومه وتلمذح إلى أطماع قيصر ومآربه وبعد ذلك ليطمئن قيصر في مقعده إن استطاع للاطمئنان سبيلا. فإنّا سنهززه تهزيزاً أو نخضع للنحس طويلاً يخرج المشهد الثالث رعد وبرق يدخل كاسكا من جهة شاهراً سيف , وشيشرون من جهة أخرى شيشرون - السلام يا كاسكا. أكنتَ في ركاب قيصر حتى منزله؟ مالك

تكاد تختنق؟ إلى أيّ شيء تحدّق كاسكا - وأنتَ مالك ساكناً لا تتحرَّك والأرض تكاد تميد بما فيها كورقة يهزُّها الريح. أي شيشرون! إني رأيت أعاصير اقتلعت الأشجار ذات العقد؛ وشاهدتُ البحر ينتفخُ ويرغي ويُزبِد طامعاً بأن يرتفع إلى السحب الغضبى ولكنني لم أرَ قبل اليوم عاصفة تمطرُ ناراً. فقد يكون أهل السماء قام بعضهم على بعضٍ عدوّاً. أو أن الأرض تطاولت على الآلهة فاستفزتها إلى إرسال صواعق الهلاك شيشرون - ماذا رأيتَ من الغرائب؟ كاسكا - رأيت عبداً رافعاً يده اليسرى تلتهب ناراً كأنها تضمُّ عشرين مشعالاً ولكنها سليمة لا تحترق. والتقيتُ بأسدٍ سللتُ له سيفي فكان يحملق فيَّ ثم سار بسلام. وثَمَّ يسيرون في الشوارع. والبارحه جثمت البوممة طائرُ الليل تنعبُ في رابعة النهار. . أفإِذا اتفقت هذه الخوارق على الوقوع يعللها الناس بأنها طبيعية ويخلقون لها أسباباً؟ أما أنا فأراها نُذُرَ سوءِ للبلد التي تحلُّ عليها! شيشرون - لا ريب أنهُ زمنٌ غريب الطوار. إنما الناس يؤوّلون على هواهم أموراً ليست مقاصدهم. أيجيء قيصر إلى الكابيتول غداً؟ كاسكا - يجيء فقد أمرَ أنطونيوس بأن ينقل إليك نبأ عزمه على الذهاب شيشرون - مُسيّتَ بالخير ليس هذا الطقس بلائق للسُرى كاسكا - بحفظ الله يا شيشرون يخرج شيشرون يدخل كاسيوس من ناحية أخرى كاسيوس مَن هنا كاسكا - روماني كاسيوس - أنتَ كاسكا. عرفتك بصوتك

كاسكا - ُذنك سمَّاعة! أي كاسيوس ما هذا الليل؟ كاسيوس - إنها لليلة تسرُّ المخلصين الأمناء كاسكا - مَن رأى السماء تزمجر هكذا كاسيوس - الذين رأوا الأرض مملوءة ذنوباً. أنظر يا كاسكا! إني كما تراني قد خرجتُ أجول في الأسواق معرّضاً نفسي لأخطار هذا الليل , مفكوك الإزار معرّياً صدري للصواعق حتى إذا ما أرعدت وشقّت صدر السماء كنت أتعرّض لها مستقبلاً انقضاضها هكذا؟ كاسكا - ولم تستفزُّ السماء هذا الاستفزاز؟ أن علينا نحن البشر أن نخاف ونرتجف عندما ترسل الآلهة البطّاشة مثل هذه النذر الهائلة لترهبنا كاسيوس - إنك بليد يا كاسكا! فإما إنه يعوزك شررُ الحياة اللازم لكلّ روماني وأما أن يكون مخبوءا فيك لا تقدح بهِ. تلبس لباس الخوف والدهشة , ويعلو وجهك الاصفرار , وتحدّق لترى علة ملل السماء. ولو استقصيتَ السبب الحقَّ لوجدتَ أن هذه النيران وهذه الأشباح الزاحفة وهذا الطير والحيوان وهذه الأشياء جميعها لم تخرج عن مألوفِ سليقتها وأصل كيانها ولم يستعصِ سرُّ انقلابها على الرجال عاقلهم ومجنونهم وطفلهم , فضاع منهم سبب تحوّلها هذا التحوُّل الرهيب إلاّ لأمرٍ جللٍ خارق؛ وأن السماء قد نفخت فيهم هذه الأرواح لتجعلهم آلةَ رعبٍ وإنذار! أي كاسكا! هل أُسمي لك رجلاً هو أشبه الأشياء بهذا الليل - رجلاً يرعد ويبرق ويبنش القبورَ ويزأر كالأسد في الكابيتول - رجلاً لا يفضلك ولا يفضلني في الأعمال ولكنهُ نما فصار مخيفاً هائلاً كهول ما نشاهد من الخوارق. كاسكا - قيصر عنيت. ألم تعنهِ يا كاسيوس؟ كاسيوس - ليكن من يكون. تعساً لهذا الزمان! فإن للرومانيين الآن أعصاب أجدادهم وعضلاتهم. أما عقول آبائنا فقد ماتت وبقيت لنا عقول الأمهات

أن نيرنا وصبرَنا عليهِ لمظهرٌ من مظاهر تخنّثنا كاسكا - يقال أن الأعيان ينوون المناداة بقيصر ملكاً يحمل التاج في البرّ والبحر وفي مكان خلا إيطاليا كاسيوس - إذن فإنا أعرف أين أغمد هذا الخنجر وأحرر نفسي من هذا الرق! إيهٍ أيتها الآلهة! إنكم في هذا تجعلون الضعيف قوياً وتقهرون المستبدين!. . . لا تستطيع الحصون الحجرية ولا الأسوار المصفحة بالنحاس , ولا السجون المخنقة , ولا سلاسل الحديد أن تقف حاجزاً في سبيل عزم نفس أكيد. إنما كنتُ أعلم ذلك - وهو ما يعلمه الناس كلهم - فإني أستطيع أن أنزع عني متى شئت هذا الاستبداد الذي أحمله كاسكا - هكذا أنا. وهكذا كل عبد يحمل في يده قوة تزيل عنهُ عبوديته كاسيوس - إذن لماذا يكون قيصر السيد المستبد؟ مسكين هو - الذنب ليس ذنبه. إنهُ لا يودّ أن يكون ذئباً لو لم يرَ الرومانيين حملاناً؛ ولا أن يصير أسداً لو لم يكن الرومانيين ظباء. إن أعظم النار التهاباً تبدأ بشرر في العشب الصغير البائد. يالرومة. ما آزراها وما أشبهها بالحثالة والنفاية حيث هي أداة هوان تُحرق مشكاةً لشيءٍ سافلٍ اسمهُ قيصر! رويدكِ نفسي لقد أضلتني شجوني , فقد أكون مخاطباً رجلاً راضياً بالرق. على أني أتحمل مسؤولية كلامي , فلا أخشى الخطر بعد أن سلحت لملاقاته عزيمتي كاسكا - إنك تخاطب كاسكا. وليس كاسكا بالثرثارة المهذار. ضع يدك في يدي! كن في عصبة تقوم في وجه هذه المساوئ , فأصبح واحداً منكم لا يسبقهُ إلى العمل سابق كاسيوس - هذا عهد بيننا. يتصافحان فليكن في معلومك الآن أني قد أثرت بعضاً من أشرف رؤوس رومه ليكونوا عوناً لي على أمر جلَل نبيل؛ وهم

بانتظاري الآن في رواق بومباي في هذا الهزيع من الليل حيث لا سار في الأسواق. . . ما أشبه وجه الطبيعية بعمل دموي مخيف سوف نقدم عليهُ يدخل سنّا كاسكا - اختبئ هنيهةً! إنسان قادم على عجل كاسيوس - هو سنّا. اعرفه بمشيته. أنهُ صديق. ما لك تسرع يا سنّا؟ سنّا - أهلاً بك وفرحاً! يا لهول هذا الليل! إن بعضاً من قومنا رأى مناظر غريبة كاسيوس - أينتظرني القوم؟ قل! سنّا - نعم هم بانتظارك. ايه كاسيوس لو تستطيع أن تجعل بروتوس منا كاسيوس - اطمأن بالاً. خذ هذه الورقة للمجلس , وضعها في كرسي بروتوس الخاص بهِ بحيث لا يراها سواه , وارمِ بهذه إلى نافذة بيتهِ , علّق هذه على تمثال جدّه بروتوس؛ ثم تعالَ والحق بنا في رواق بومباي. أهناك داسيوس وتريبونيوس؟ سنّا - الكل عدا سمبر الذي خرج وراءك إلى بيتك. ها أنا أُسرع لأوزع هذه الأوراق حسب قولك كاسيوس - ثم ارجع بعد ذلك لى رواق بومباي. يخرج سنّا مخاطباً كاسكا كاسكا. هلمَّ بنا إلى منزل بروتوس قبل أن يفاجئنا النهار. ثلاثة أرباعه لنا الآن , وسنأخذه كله بعد هذا الاجتماع كاسكا - أن منزلته رفيعة المقام في قلوب الشعب وما يرونهُ تهجماً إذا صدر منا ينقلب بسحر هيبتهِ فضيلةً وإحساناً كاسيوس - لقد قدرته وفضله وحاجتنا إليهِ حق القدر. هيا بنا فقد آذن الليل بالانصراف , وسوف نكون واثقين منهُ قبل أن يلوح الفجر يذهبان تم الفصل الأول

العدد 28

العدد 28 - بتاريخ: 1 - 11 - 1912 الرتب والنياشين الإنسان بطبيعته ميال إلى الزهو , توّاق بفطرته إلى التفوّق على أبناء جلدتهِ , شغفٌ بكل ما يميزه على الغير. تلك غريزة ملاصقة للنفس البشرية كيفما تكيفت وحيثما وُجدت. ولذلك ترى منح الرتب والنياشين من العادات القديمة المنتشرة بين جميع الأمم والشعوب , أيّاً كان شكل حكومتها ولطالما استخدمها الرؤساء والحكام لاستمالة أصحاب النفوذ من المرؤوسين والمحكومين , لأنهُ إذا كان للرعية ألف وسيلة تتزلف بها إلى عاهلها , فللعاهل فيما تجود به يده من نعم الألقاب والأوسمة أحسن ذريعة للتزلف بدوره إلى تلك الرعية. ولإِن روى لنا التاريخ حادثة ذلك الكونت الذي مننه ملكه بقوله من جعلك كونتاً؟ فأجابهُ , ويده على قائم سيفه أنت. ولكنني صيّرتك ملكاً فلكم روى لنا عن استكانة أصحاب الألقاب إلى الذل والخنوع لما نحيهم ذلك اللقب الذي يخوّلهم حق التشامخ على من كان عطلا منه. ولإِن كان قانون الولايات

المتحدة يمنع الأميركيين من حمل الألقاب وعلامات الشرف , فلكم رأينا من أغنيائهم يسعون زحفاً لنزويج بناتهم صاحبات الملايين من ذوي لقب وإن كان نعدماً لا يملك شروى نقير. البحث في الرتب والنياشين من الأبحاث التي كثير خوض الكتاب فيها. فمن أن تقابل وتقارن بينها دون أن تتوصل إلى إقناع صاحب يقول عنها: علامة شرف , وشهادة نبل , ودليل مرؤة ورفعة: تقول هذا مجاج النحل تمدحهُ ... وإن ذممتَ تقُل قيء الزنابيرِ يسعى الآن فريق لإلغاءِ الرتب وإبطال النياشين وسائر علامات الامتياز. وحجتهم في ذلك نشر المساواة بين الوطنيين. ولاسيما أن هذه الامتيازات لا تزيد في قدر الرجل وليست دائماً في الواقع علامة امتياز حقيقي , بل كثيراً ما تكون موضوع تجارة سافلة من مانحيها , وذريعة للإعجاب والغطرسة من نائليها. ولطالما كانت موضوع الدسائس والمساعي الدنيئة في جميع أنواع الحكومات من إمبراطوريات وملكيات وإمارات وجمهوريات. وقد تبادر فكر إلغاء النياشين والرتب إلى ذهن رجال الثورة الفرنسوية الكبيرة فألغوا كل ما خلّفه عهد الملوك من الرتب والألقاب والنياشين , ولكنهم لم يلبثوا أن اضطروا إلى إنشاء غيرها ليجعلوها علالة لكبرياء الناس. فأوجدوا أولاً ما سمّوه أسلحة الشرف وذلك مكافأة للأبطال الذين امتازوا في حملة إيطاليا. ثم لما قبض نابوليون

بونابرت على أزمة الأحكام أخذ يمطر ألقاب الامتياز على قواده , مضيفاً إلى أسمائهم الأصلية أسماء الانتصارات التي أحرزوها ف المواقع الحربية. وكان قد أنشأ وسام فرقة الشرف لجيون دونور وجعل عدد حاملي هذا الوسام 6000 فقط. فجاءَت الإمبراطورية الثانية وزادت على هذا الرقم أصفاراً فجعلته 60. 000 ولا يزال التاريخ يذكر ذلك الاحتفال الباهر الذي أقيم يوم وزّع بونابرت هذا النيشان على مستحقيه. ولا ينكر أن من الخدمات الجلّي ما لا يمكن إثابة من يقوم بها بالدراهم. وهذا ما يدّعيه مريدو الرتب والنياشين. فيرونها والحالة هذه أسمى ثواب وخير جزاء , فضلاً عن أنهم ينظرون فيها باعثاً للنشاط , معزّزاً للجدّ في سبيل الخير العام , مثيراً للعواطف النبيلة في النفوس وإذا كانت أحياناً تُنال عن طريق الثروة , فكثيراً ما تكون أيضاً جزاء عمل جليل يؤول إلى ترقية البلاد ماديّاً أو أدبيّاً أو علميّاً أو فنيّاً , فأصبحنا نراها على صدر الجندي والشاعر والعالم والمخترع وصاحب الفن , وصار عدد حاملي النياشين من هذه الطبقات يزداد يوماً فيوماً. وقد قال الشاعر الفرنسوي روستان عن لسان ابن نابوليون: كان بودّ أبي أن يجعل الشاعر كورنيل أميراً فسأجعلنَّ فكتور هوغو دوقاً. . وعلى كل فيجب التحفظ والاعتدال في توزيعها حتى تبقى علامة امتياز حقيقي لا تبتذَا فتفقد قيمتها في أعين الناس. ولا بأس في هذا المقام من إيراد نكتة للملك فكتور عما نوئيل الإيطالي فإنهُ كان يقول شيئان لا يمكني أن أرفضها لأي رجل فرنسوي يطلبهما مني بتأدب: عود كبريت ليولع

سيجارته , ونيشان القديسين موريس ولا زار ليزين صدره. . ولقد اشتهر أمر كثيرين من مشاهير العلماء وكبار الرجال الذين رفضوا بتاتا الرتب والنياشين , وكان رفضهم عن إخلاص في الاعتقاد ورسوخ في المبدأ. غير أن رفض البعض كان ينمّ عن كبرياءٍ حقيقة وعجرفة فعلية. وما الرتب والنياشين في الحقيقة إلاّ كمصباح يحمله الإنسان , فيبدي عيوبه إذا كان ناقصا , ويُظهر محاسنهُ إذا كان كاملاً. قال أحد كتَّاب الغربيين: يجب أن نعجب لا أن نضحك من هذا الاختراع الكبير - اختراع الأوسمة والنياشين - فهو اختراع قوة أدبية لنيل قطعة من المعدن يرون فيها أمجد مجد وأشرف شر وأعظم جزاء هذا جنون ولكنهُ جنون جميل. كأن الناس خافوا على هذه الامتيازات من الطامعين فيها يدّعونها كذباً وزوراً فجعلوا في القانون مادة تعاقب بالسجن من ستة أشهر إلى سنتين من يحمل نيشاناً لم يُنعم عليهِ بهِ , كما أنهم يغرّمون من ينتحل لنفسهِ لقباً من ألقاب الشرف جزاءً نقدياً من 500إلى 20000 فرنك. وأحسن ما يختم بهِ هذا المقال كلمة جامعة شاملة على إيجازها , لأحمد فارس الشدياق عن الألقاب قال: هي خرقة تستر عورة الاسم الذي أُطلق على المسمى. . بل هي كالبطاقة شُدَّت إلى لابسها ليعرف بها سعره. إلاَّ أنه كثيراً ما يقع الغلط في إلصاقها بمن ليس بينهُ وبينها علاقة. . .

بعد أن تكلمنا عن الرتب والنياشين من الوجهة الأدبية الاجتماعية , يجدر بنا أن نقول عنها كلمة من الوجهة التاريخية. تقدم أن منح النياشين وعلاقات الشرف والامتياز عادة قديمة. وكان أبطال الرومانيين عدا ما يصيبهم من الغنيمة على العدو يُثابون بأسلحة شرف يوزعها عليهم بنياشين وعلامات يتزينون بها في الحفلات العمومية , كما هي العادة اليوم , وأشهرها الأكاليل. فكان إكليل المعسكر يُمنح لأول جندي يدخل معسكر الإهداء , وإكليل الحصن لأول جندي يهاجم قلعتهم. وكان يُنعم بإكليل البحر على القائد البحري الذي يكسر أسطولاً أو على النوتي الذي يسبق رفاقه بالصعود إلى مركب العدو. أما إكليل الزيتون فكان للعساكر والضباط الذين ينقذ حياة أحد الرومانيين. وكان الجيش يقدّم إكليل الكلإ للقائد الذي ينجيه من أيدي العدو. أما إكليل الآس وإكليل الغار فكانا للقائد الذي يخرج شعب رومة لملاقانهِ بعد العودة من فتح كبير أو انتصار باهر. وعلى عهد الإمبراطورية الرومانية , وُضع حدٌّ فاصل بين هذه الإنعامات. فكانوا يسمعون الأكاليل الإنعامات الكبرى أما الإنعامات الصغرى فمنها الِوار في الذراع والقلادة في

العنق والدائرة على الصدر والقرون على الخوذة. وكانت هذه الشارات من الذهب أو الفضة. وكان منح الإنعامات الكبرى من حق مجلس الشيوخ السناتو أو الجيش , ومنح الإنعامات الصغرى من حق قواد العساكر. وكان يحوز للروماني أن يُحرز كل هذه الامتيازات معاً وعدداً كبيراً منها. فإن سكسيوس دنطاطوس نال 22 رمخ شرف و25 اسطوانة و83 قلادة و160 سواراً و26 إكليلاً. أما قدماء اليونان فلم يكن عندهم كل هذه الأنواع الكثيرة من علامات الشرف. وأشهرها عندهم الإكليل ولخطيبهم الأكبر ذيموستينوس خطبة معروفة في هذا الموضوع. وكانت علامات الامتياز في ما مضى عسكرية على الغالب للتميز بين القواد وطبقات الضباط والعساكر. على أن الملوك أخذوا يوجدون الأوسمة الخاصة ينعمون بها على كل من خدم بلاده. فأنشأ شارلمان وسام التاج الملكي والملك لويس التاسع وسام كوز اللزّان والملك جان وسام النجمة والملك هنري الثالث وسام الروح القدي وأشأ لويس الراع عشر وساماً باسم جده الأكبر القديس لويس واتخذ لويس الرابع عشر من هذا الوسام طبقة ثانية سماها وسام الاستحقاق العسكري للإنعام به على غير الكاثوليك من رعاياه. ولما جاءَت الثورة الفرنسوية ألغت جميع الألقاب والنياشين. على أن نابليون أعادها فأنشأ نيشان اللجيون دونور كما تقدم

مقالات باكون

مقالات باكون 3 - الانتقام وما مات منا سيّدٌ حتفَ أنفهِ ... ولا طُلَّ منا حيث كان قتيلُ الانتقام عدالة الوحشين. وإذا امتزج حبهُ بالنفوس يكون كالسُّم خالط الشراب؛ لأن من يقترف ذنباً يضرُّ بنظام الشرائع؛ وأما من حقد على عدوّ له , وأخذ بثأر قتيلٍ , أو شرفٍ ناله أذى , فإنهُ ينتزع سلطة الشرائع ويعبث بها. على أن من قابل السيئة بالحسنة , وعفا عمن أذنب , فقد أمسى كريماً , لأن العفو من شيم الكرام. وأما من استكبر , وقابل الإساءَة بأختها , فقد حطَّ من مقدار نفسهِ , ووضعها ونفسَ المسيء على بساط المساواة. وقد كان سليمان الحكيم يقول: إن الجنة مأوى الغفور. وما الانتقام إلا تمرّد في النفس قد أنبته ذنب انقضى عهده. فما لنا وذلك الماضي الذي فات , وخير لنا أن نعني بيومنا وغدنا من أن ننظر في شأن أمور كانت بالأمس. وليس الظلم من شيم النفوس , إنما حب النفس يدفع الناس إلى الظلم والشر. فكل يظلم لمغنم يستجلبه , أو لحاجة في نفسه يقضيها , أو لنيل شرفٍ يسعى ليدركه. فماذا علينا من رجل يحب الخير لنفسهِ , ويكرههُ لغيره. أما من يظلم الناس ليشفي غليلاً في الفؤاد , لأن الشرّ

كامن في نفسهِ كمون الكهرباء في الأجساد , فهو خليق بالرحمة والغفران , لأنهُ كالأفعى ليس لديها الأسمها. ولقد يُزكى الانتقام , إذا كان لذنب لا ينال المذنب عليهِ عقاب سوى الأخذ بالثأر. على أن الانتقام في مثل هذه الحال جدير بأن لا يكون ذنباً يقع آتية تحت طائلة العقاب وإلا يكون المنتقم قد ألقى بنفسه في التهلكة وأصابه الشر مرتين. وأشرف أنواع الانتقام ما كان على مرأى من الناس ومسمع. فليس الغرض من الانتقام أن ترد الإساءَة إلى من أساء إليك , إنما الغرض أن يتوب المسيء عن الإساءة , ويعلم أن هذه بتلك والبادئ أظلم. وقد ينتقم الجبان لنفسه تحت طي الخفاء , فيكون كالسهم أرسلته القوس تحت جنح الظلام. وقد يعفو الناس عن المسيء إن كان عدواً لدوداً , ولكنهم لا يلتمسون للصديق عذراً , إذا نقض عهداً , أو خان وداً. ومن الناس من يفتأ يذكر الثأر والانتقام , فيبقى جرح نفسه غير ملتئم أمدً فيقضي عمره بين الهم والكدر. ولو أنه نسي ما فات لالتأمت جراحه. وقد يقوم المنتقم للانتقام وهو آمن شر العاقبة , لأن الله يعضده والناس , وذلك المأخوذ بثأره كبيراً بين قومه , قد غدره أعداؤه وأوقعوا بهِ ظلماً. فقد هبّ أغسطس قيصر للانتقام ممن أراقوا دم يوليوس قيصر , فعضده أهل رومه وأخذوا بيده وحكموه فيهم.

4 - الدرس والمطالعة إن للدرس والمطالعة نفعاً كبيراً: فإن الخلوة بالكتّاب تشرح الصدر وتحسن الحديث وتزيد القارئ علماً وعرفاناً. وأيُّ شيءٍ أحبُّ إلى من هجر الدنيا ومن عليها من كتاب يجلس إليهِ؟ وأيُّ شيءٍ أنفع إلى رجلٍ يحبّ إذا ما فاه أن يفوه بالقول البليغ من كتاب يحسّن لفظه؟ وأيُّ شيء يعلم رجل الدنيا كيف يسير في الدنيا غير كتاب مفيد؟ وإنك لا تجدر رجلاً يدبر أُمور غيره وينظر بشؤون أمته ويأخذ على عاتقه عبئاً ثقيلاً , إلاَّ وهو على بيّنة من العلم , ونصيبه من المعرفة وافر. على أن لكل نافع ضرّاً. وليس ضرُّ العلم بناشئ منه. إنما يعاب صاحبه إذا لم يسلم من ثلاث: الإفراط فيهِ والإعجاب ومزج العلم بالعمل. فإن الإكثار من الدرس والمطالعة والعلم يورث الخمول. وأنك إن حاولت إظهار معرفتك في حديثك فقد عرَّضت نفسك للنقد واللوم. وأنك إن شئت أن تسير في عملك وفقاً لغرض علمك فأنك لا تستطيع. وليس الغرض من العلم أن يكون كل بضاعتك؛ إنما هو كالصقل لليماني , فإنه يشحذ القرائح ويخرج القوى الكامنة في النفس فتبدو كالأحجار الكريمة إذا أخرجها العامل من جوف الأرض أو قاع البحر وصقلها فبدت محاسنها وخفيت عيوبها. على أن العلم في حاجة إلى التدريب وليس يكفيك أن تكون ذا علم واسع أن لم تكن قد هذبتك الأيام وأمسيت لمعول الحوادث صفاً صلداً. لأن العلم كالأسد الهصور لا تستطيع أسره إلاّ إذا كبلته بقيود من اختبار.

وقد يكون أحدنا ماكراً ختلاً مخادعاً , فيسخر بالعلم ويسكن إلى خداعه ومكره لأنهما يمكنانه مما يريد. وقد يندهش الجاهل منه. إنما لا يستطيع أن ينتفع به إلاَّ العاقل الحكيم. فإنه يعلم علم اليقين أنَّ العلم ليس إلاّ مشكاة يستضي بها في ديجور هذه الحياة الدنيا فعليها النور وعليهِ المسير. وليس الغرض من المطالعة أن تنتقد قول المؤلف أو تنقض آراءَه , أو لتأخذ كلامه قضية مسلمة لا نزاع فيها , أو لتتمشدق بما قرأته على رؤوس الإشهاد , لتظهر للملأ أنك تقرأُ الكتب؛ إنما الغرض أن تزن أبحاث الكاتب وتمعن النظر في مقدماته ونتائجه. على أن الكتب كالطعام: بعضه تذوقه ولا تأكله , وبعضه تلتهمه التهاماً , وبعضه تلوكه وتهضمه هضماً. فبعضها تقرأ زبده , وبعضها تطالعه بلا إمعان كثير , وبعضها تطالعه وتدرسه درساً دقيقاً وتمحصه تمحيصاً. وفي مطالعة الكتب منافع غير التي ذكرت ثلاث. فالدرس يدّخر منهُ العقل حكمة. فالدرس يمدّ العقل بالحكمة فيدّخرها , والجدل يشحذ الذهن ويوقد القريحة , والاقتباس يورث الدقة والإتقان. فإذا كنت ممن لا يطالعون كثيراً , فأنت في حاجة إلى ذكاءٍ تخفي به جهلك؛ وإن كنت ممن يفضلون راحة البال على الجدل والمناقشة , فأنت أحوج الناس إلى ذهن حادّ يدلك على كلام تلقي به حجة خصمك؛ وإن كنت قليل الاقتباس فأنت في حاجة إلى حافظة شديدة تتقي بها شرَّ النسيان. وكل فرع من شجرة الحكمة يوسع دائرة من دوائر العقل. فالتاريخ

المودة الكاذبة

يعلّم الناس فنَّ السياسة , والشعر يولّد الآراء السامية , وفنّ الرياضيات يعلّم الدقة , والعلوم الطبيعية تكون واسطة للتبحر في العلم , والفلسفة الأدبية تورث الحزم والثبات , والمنطق والبلاغة يقرّبان المرء من المقدرة على الخطابة والمناظرة. وليس في العقول نقص لا يكلمه العلم , أو عاهة لا تشفيها الحكمة. وكما أن لكل داءٍ من أدواءِ الجسم جدواءً يشفيهِ فالمشي ذهاباً وجيئة ينفع الأمعاء , وركوب الخيل يشفي المخ , والرماية تصلح الرئتين. فمن كان قليل الانتباه فدعه يدرس الرياضيات فإنهُ إن سها أو نسي أو أخطأ فيها مرةً , تكبد مشقة العمل ثانياً , وإن آنس من نفسه عجزاً في الاستنتاج فدعه يصرف قليل وقت في مطالعة المناظرات الدينية. وإن أحس من نفسه بضعف في ضرب الأمثال فدعه يقرأ كتب الشرائع والقوانين محمد لطفي جمعه المحامي المودة الكاذبة إن أهل الدنيا يتعاطون فيما بينهم أمرين , ويتواصلون عليهما؛ وهما ذات النفس , وذات اليد. فالمتبادلون ذات النفس هم الأصفياء. وأما المتبادلون ذات اليد فهم المتعاونون ذات يلتمس بعضهم الانتفاع ببعض. ومن كان يصنع المعروف ببعض منافع الدنيا , فإنما مثلهُ فيما يبذل ويُعطي كمثل الصياد وإلقائهِ الحبّ للطير , لا يريد بذلك نفعَ الطير وإنما يريد نفع نفسه. ابن المقفع

النساء الرجال

النساء الرجال اطلعنا على الفصل التالي في إحدى المجلاَّت الفرنساوية فرأينا أن نترجمه لما فيه من بيان فضل المرأة الغربية , وفوزها على الرجل في كثير من الأعمال الجلّي التي قلما يقدم عليها غير الشجاع الباسل. وهو مكتوب بقلم السيدة ريموند دلاروش الطيَّارة الفرنساوية التي أدهشت بطيرانها المتفرجين في حفلة عين شمس بمصر في شتاء سنة 1910. وقد أرادت بنشره أن تردَّ على جمهور من الكتَّاب قام ينتقدها على أثر سقوطها من الجوّ في حفلة الطيران في مدينة ريمس ويُعنّف من أجلها سائر النساء بدعوى أن المرأة لا تستطيع ما يستطيعه الرجل. قالت الكاتبة: تعجب بعضهم من إقدامي على الطيران , وأدهشتهم جرأتي ومخاطرتي أحياناً كثيرة بدعوى أن الطيران خاص بالرجال لا يتعداهم إلى النساء. ثم انقلب تعجّبهم ودهشتهم إلى انتقاد وتأنيب يوم وقعت بي طيارتي في مدينة ريمس فأصبتُ ببعض الجراح والرضوض؛ ولو أسعدني الحظ فلم أقع لحوَّل أولئك الناس تعجبهم ودهشتهم إلى إعجاب بفضلي , وإقرار بعلمي , وكان مديحهم لي وثناؤهم على جراءَتي وخبرتي بدلاً من الانتقاد والتأنيب اللذين وجهوهما إليَّ! أو لم يقولوا علناً على أثر إصابتي تلك إنني حصدت ما زرعت , ولقيت ما سعيت إليه؟؟ قلت مراراً عديدة من قبل , وأنا أكرّر اليوم ما قلتهُ بالأمس أن الطيران ليس بأعظم خطراً من سواه بين أنواع الرياضيات البدنية والاختراعات المعدة لها. وإذا جازلي أن أتباهي بكوني أول امرأة لامست

الغيوم , وصعدت إلى عالم النجوم فأشرقت من أعالي الفضاء على هذه الأرض , وقسم لها شؤم حظها أن تقع مرة من شاهق فتصاب بالجراح والرضوض , فإني لست المرأة الأولى التي قارعت الرجال في كثير من أنواع الرياضة , وركبت من الأخطار كل مركب صعب , فدلَّت على جلد ثابت , وشجاعة فائقة. إن نساء كثيرات وأخص الانكليزيات والأسوجيات والدانماركيات بلغنَ حداً قاصياً في إتقان بعض الرياضيات كالجمنستيك , وكرة القدم بجميع أنواعها , والسباحة , ولعب السيف , وركوب السيارات والدرّاجات وهلمَّ جرّاً من أمثال هذه الفنون المروّضة التي اختصَّ بها الرجال دون النساء! ولقد وددت لو تمكنت من ذكر جميع الشهيرات في العالم في مثل هذه الأعمال غير أني سأقصر كلامي على بعضهنَّ مخافة أن يطول المجال. وسيرى القارئ من خلال حديثي هذا أن في وسع المرأة أن تسير إلى جانب الرجل وترفع رأسها تباهياً وكبراً. جرَّب كثيرون أن يقطعوا خليج المانش سباحة فلم يُفلح منهم سوى القبطان وب في سنة 1875 على أنهُ كان بين أولئك المجرّبين امرأتان اشتهرتا بإِقدامهما , حداهما البارونة فالبوكادساسكو والثانية الآنسة كلارمن. أما الأولى وهي نمسوية اشتهرت بالسباحة في نهر الدانوب الطونة

ومصادمة التيار فيهِ , فإنها نزلت البحر في كاله في الساعة السابعة من صباح اليوم الخامس من سبتمبر أيلول سنة 1900 فعاكسها التيار وتقاذفتا الأمواج واللجج نحواً من ست ساعات متوالية حتى خارت قواها فأقرَّت بفشلها بادئ ذي بدسِ حتى إذا أراد المركب الذي كان يرافقها أن ينقلها إليهِ أبت عليها كبرياؤها الإقرار بالعجز فعادت تعارك الأمواج وتغالب اللجج حتى كانت الساعة الخامسة مساءً فتلاشت قواها تماماً ولم يعد في وسعها الثبات فأعلنت عجزها بعد مكافحة عشر ساعات. وكانت المسافة التي قطعتها ثلاثين كيلومتراً. وأما الثانية فنزلت إلى البحر من دوفر في صباح اليوم السادس والعشرين من أغسطس سنة 1905 فسبحت ست ساعات متوالية وكاد يسعدها الحظ ببلوغ أمنيتها لولا أن عاكستها الريح بعد ذلك وغالبها التيار فلم تتمكن من قطع ما كان قد بقي أمامها من المسافة إلى البرّ الفرنساوي. ومما يؤثر عن هذه المرأة قطعت سباحة مسافة 37 كيلومتراً في ثلاث ساعات وإحدى عشرة دقيقة. وبين النساء السبَّاحات كثيرات اشتهرنَ بجلدهنَّ وقوتهنَّ ولإقدامهنَّ على منازعة الرجال الجوائز في السباقات المتنوعة , وأشهرهنَّ الأختان الشقيقتان مارث وسيسل روبرت السويسريتان , والآنسة مارفنت الفرنساوية , والآنسة فردندوفر النمساوية , والآنسة جونسون الانكليزية. وقد طالما وضعت أندية الألعاب المروّضة في الدانمارك جوائز كبيرة

للسابقين في السباحة فنال كثيرات من النساء عدداً منها بعد أن زاحمنَ أشهر السباحين في سبيلها فتغلبنَ عليهم , وعرف الجميع مقدرتهنَّ وسبقهنَّ في هذه الرياضة الخطرة المتعبة فأقرّوا لهنَّ بالفضل. ومن الأعمال التي اختص بها الجنس القويّ دون الجنس الضعيف التصعيد في الجبال العالية المغطاة قممها بالثلوج , والمحفوفة سبُلها بالأخطار والمكاره كجبال الألب في أواسط أوروبا. كل من زار سويسرا في الصيف عرف أن كثيرين من الأجانب عنها إنما يؤمونها بغية التصعيد في جبالها فيسير الواحد منهم متوكئاً على عصا طويلة صلبة يغرزها قدامه في الثلج ويتنقل وراءها بحذر وانتباه شديدين مرتقياً قمة فقمة , وهو لا يأمن أن تزلّ بهِ القدم فيهوي من شاهق إلى أسفل حيث لا ينجو من الهلاك إلا بأعجوبة بالغة. وكثيراً ما تتدحرج عليهِ القطع العظيمة من الثلوج فيموت شرّ ميتة. فلهذا كله كان التصعيد في تلك الجبال عملاً طلباً للشهرة. على أن كثيرات من النساء قد صعّدنَ في جبال الألب وفزنَ بالغاية القصوى منها. فإن مسز سايرس الانكليزية فازت مرتين أيضاً وكان زوجها رفيقها فيهما. وفازت مدام رهاتش مرة برفقة زوجها أيضاً , ومدام فون شزايو مرتين أيضاً وكان رفيقها فيهما مسيو أولر. فكان فوز أولئك النساء مدعاة لإعجاب الناس وإكبارهم هذه الأعمال الشاقة تأتيها المرأة المنسوب

جنسها إلى الضعف والوهن. واشتهر عن الرجل دون المرأة أيضاً إطلاق المسدسات , وإتقان الإصابة بها. غير أن بعض النساء اللواتي جرّبنَ هذا العمل برعنَ فيه براعة أقرّ بفضلها الرجال أنفسهم. فإن سارة برنار الممثلة المشهورة معروفة بأنها قلما صوَّبت فأخطأت. ومثل سارة برنار الآنسة لويزابايما فإن شهرتها في ذلك لا تقلّ عن شهرة زميلتها الممثلة الطائرة الصيت. ومما يؤثر عن براعة النساء في الإصابة بالرصاص أن الماركيزة دي نسل غارت من الكونتس بولينياك وكلتاهما كانت تحب الدوق ريشيليو , فتبارزتا واختارتا الرصاص دون السيف وقد كانتا مشهورتين بإتقان الرمي ولا تخطئان المرمى إلا نادراً. فلما تقابلتا في ساحة البراز أطلقت المركيزة رصاصها أولاً فأخطأت مرماها عمداً غير أن الكونتس اكتفت يومئذ بأن تقطع برصاصها إذن ضرّتها عقاباً لها. وممن اشتهر بهذا الفن البرنسيس تشيكا الرومانية فإنها كسرت 15 لعبة بخمس عشرة رصاصة بعد التصويب بل تبعاً لإشارة المشاهدين. أما المبارزة بالسيف فقد اشتهرت بها نساء كثيرات أيضاً لأن في هذه المبارزة مجالاً للمرأة لأن تستخدم نظراتها الحدة الصائبة , ورشاقة قدها , ولين أعضائها , وخباثتها الفطرية. وإن في تاريخ انكلترا شاهداً بليغاً يصحُّ أن يتخذ دليلا على براعة النساء بالمبارزة. فقد حدث في اليوم التاسع من ابريل سنة 1787 إن الشفاليه سان جورج وهو أعظم

من اشتهر بضرب السيف وإتقان المبارزة بهِ بارز السيدة ديون الانكليزية في منزل لورد بروكهام بحضرة ولي عهد انكلترا يومئذٍ وعدد غفير من لوردة الانكليز , وكبار رجالهم. فأسفرت المبارزة عن إصابة السيدة ديون للشفاليه سان جورج سبع مرات متوالية بدون أن تمكنهُ من إصابتها مرة واحدة. أما اليوم فإن انكلترا وفرنسا تتباهيان بوجود نساء عارفات بهذا الفن كمسز سندرسون ومدام فيني في لندن , ومدام اميل مارينياك , والآنسة كاميل ليففر في باريس. وانتقلت مدام دلاروش من هذا الحديث في مقالها إلى ذكر الشهيرات في ركوب الدرَّاجات والسيَّارات , فسمَّت النساء الشهيرات فيهما وذكرت عدداً من اللواتي ربحنَ الجوائز وفزنَ بها على الرجال وذلك في حديث يطول , حتى انتهى بها البحث إلى الطيران فقالت أنها أول امرأة طارت. ولكنها ليست بالطيَّارة الوحيدة الموجودة اليوم بين جماعة الطيَّارين. ثم قالت أنها ذكرت يسيراً من كثير عن شجاعة المرأة وإقدامها وتفوّقها في هذه الأعمال بالرجال دون النساء. ونقول - ونحن قد اختصرنا أقوالها كثيراً أيضاً وصرفنا النظر عن أعمال وألعاب جلَّي فلم نذكرها - هل يصح بعد ذلك أن يقال الجنس القوي والجنس الضعيف على تعميم وإطلاق هاتين الصفتين؟؟

في رياض الشعر

في رياض الشعر الثلاثون عاماً طلُّ الثلاثين عنكَ اليوم منتقلُ ... هل أنتَ من بعدها بالعيش محتفلُ بعد السنين التي كانت محبّبة ... ثم انقضتْ فتقضّي الأنسُ والجذَلُ تلك الليالي التي قضيتها حلُماً ... ما كان أقصر حلماً كلهُ غزلُ ماذا لقيتُ من الدنيا وما عَلقت ... منها يداي وما إن عشتُ أقتبلُ لاحتْ كواكب ليل الشعرِ تُنذرني ... بأنني عن مغاني اللهوِ مرتحلُ إن أنكرتني العيونُ السودُ رانيةً ... فطالما عرفتني تلكم المقلُ أيامَ أخطرُ في روض الصبا مرِحاً ... تميلُ بي نشوةُ الدنيا وتعتدلُ والغيد تبسم لي من ل ناعمةٍ ... في خدِّها ويديها تصدقُ القُبَلٌ ما لي تروّعني الذكرى وتفتنني ال ... دنيا وما لي في معروفها أملُ ألا يخفّ عني أنني رجلٌ ... قد أنقضتْ ظهرَهُ أيامهُ الأولُ لعلَّ شيبي الذي راعت بوادرُهُ ... نورٌ تضيءُ بهِ للتائه السبّلُ أسرفتُ في حبّ دنيا لا بقاء لها ... وعشق ملك وشيكاً عنهُ أنتقلُ فالناس قد خلقوا لا للبقاء بها ... بل للترحّل لولا أنهم غفلوا أين الألى نحن نمشي في منازلهم ... أين المواكب والأقيال والدولُ العقلُ يستهجنُ الدنيا ويمقتها ... والقلبُ مستغرَق فيها ومختبلُ فليس من راغبٍ عنها وإن رغبت ... عنهُ وكلٌّ لهُ في جذبها حيلُ

لا راهبٌ ساكنٌ في الدير منصرفاً ... عنها ولا عابدٌ في الغار معتزلُ فاكدح إلى الله كدحاً غير ملتفتٍ ... لزينة الأرض والحق بالأُلى وصلوا وابرأ إلى الله ليس العصر مرتقياً ... ما دام يزري بما جاءت بهِ الرّسلُ أين التمدُّن والأهواءُ غالبةٌ ... والناس مثل وحوش الغاب تقتتلُ حلفا محمد توفيق علي يوزباشي بالجيش المصري التمدُّن العصري ننشر الأبيات الآتية من قصيدة عصماء جاءتنا من شاعر من أكبر شعراء العراق: يقولون أحيى المغربان حضارةً ... وهل حَييت إلاّ لمصلحة الذاتِ يعيش سعيدٌ مفردٌ بين معشرٍ ... شقيٍّ وحيٌّ واحدٌ بين أمواتِ وكم جائعٍ يرنو إلى مُتفكهٍ ... وعادم قوتٍ حول واجد أقواتِ وكم جسدٍ فوق الأخادع شاخصٍ ... إلى جثةٍ تحت الأخامص مُلقاةِ وما الزمن الماضي بأعظمَ محنةً ... من الحاضر الموصول بالزمن الآتي ولم أر كالإنسان ربّ شرائعٍ ... حديثات وضعٍ أو شرائع موحاةِ ولكنهُ لم يطوِ ليلَ ضلالهِ ... هدى شارع في الأرض أو في السموات يظنون هذا العصر عصر هدايةٍ ... وأجدر أن ندعوه عصر ضلالاتِ فإن خرافاتٍ مضت قد تبدَّلتْ ... حقائق إلاّ أنها كالخرافاتِ وأكذبُ عصرٍ ما تشدَّق أهلهُ ... على ظلمهم بالعدل أو بالمساواة ذئابٌ وشاءٌ لا الذئاب رواجعٌ ... عن الغيّ أو تعدو على زُمر الشاةِ

ألا هل يعود الدين وهو مُشَتّتٌ ... جماعاتِ هذا العصر جامع أشتاتِ ولكن أبوا إلاّ التنازُعَ فالتقتْ ... أدلةُ نفيٍ في أدلة إثباتِ محمد رضا الشبيبي الكريم قامت تُعنّفني على تبديدي ... مالي لفعلِ المكرمات وجودي وتقول ماذا قد حفظتَ لصببةٍ ... يبكون بعدك ربَّهم وعميدي هل ذكرُك المحمود يُشبع جوعهم ... أو فخرُك الموهومُ يستر جيدي أكرمتَ حتى حاسديك فهل ترى ... أن الحسود يسرّ بالمحسودِ هم يحمدونك في الرخاء فإن بدتْ ... لك شدةٌ عمدوا إلى التنديد. . فأجبتها كفّي ملامكِ إنني ... لابنُ المكارم عن أبي وجدودي أُعطي إذا منعوا وأمدح أن هجوا ... شتان بين طريفهم وتليدي وأنا ابنُ بجدتها إذا قلمٌ جرى ... فوق الطروس أكرُّ كرَّ الصيدِ فأزّين القرطاس لا فحشاً ولا ... فُجراً وكلُّ القارئين شهودي أتبره السودان محمد فاضل بالجيش المصري السلطان الغازي أقول لظبي راعني زهرُ حسنهِ ... حنانيك قلبي فيك يرجو الأمانيا غزوت قلوبَ الناس حتى ملكتها ... تباركت سلطاناً وحيّيتَ غازيا محمد علي حامد حشيشو

الفكاهة في الشعر

الفكاهة في الشعر أسبوع فلورة أو تكريم الكلاب لا أعني تكريم كلاب المجاز؛ فليس تكريمُ هذه الكلاب بالأمر الطارئ أو البدع الغريب؛ وما خلا زمانٌ ولا مكان من كلبٍ من كلاب الأنس علا بهِ الجدُّ إلى حيث باتت تتزلف إليهِ الأسود , وتمشي بين السباع. وإن المرءَ ليجد كيف سار إنساناً له خسةُ الكلب ونذالته , وليست له نظرته وأمانته. والناس تظلم الكلاب بحشره في زمرتها , ويرون نهاية الزراية وصفهُ بصفتها. وأن الكلبية لنبرأ براءة الإنسانية منهُ. . . ولكني عنيتُ الكلاب ذات الأذناب وقد وصفها العرب ورثوها ومدحوا خفتها وسرعتها , ولكنهم لم يسبقونا إلى الاختفاء بها , والاحتفال بولادتها وتسميتها , وأن حقّاً على الناس أن يمجدوا الأمانة حيث كانت وأين ظهرت , فهل نُلام إذا نحن مجدناها في مخلوق من مخلوقات الله؟؟ اجتمعنا في رهط من الأدباء ليلة من الليالي , وجعلنا مناسبة اجتماعنا مضيَّ أسبوع على ولادة كلبة لبعض أصدقائنا. فقلتُ أبارك للنفساء وأحيي المولود: أعلني يا فلورة الأفراحا ... واملأي الأرض والسماَء نباحا ما حبا الدهر بنتَ كلبٍ بأعلى ... من ذراريكِ عنصراً ولقاحا ابشري دولةَ الكلاب بجروٍ ... سوف ينفي عن قومهِ الأتراحا ما تقضّي الأسبوعُ إلاّ وأمسى ... يذرع الدار جيئة ورواحا خلع الليلُ والنهار عليهِ ... فتوارى عن العيونِ ولاحا حرَّك الدهرُ ذيلهُ حين وافى ... وعوى الكون بهجةً وانشراحا سوف يغدو على الكلاب أميراً ... يُفزِع الأسدَ وثبةً وصياحا بل سيمحو عن الفصيلة ضيماً ... بات عاراً لنسلها فضَّاحا بل أراه يُقيم ما أعوجَّ منها ... من ذيولٍ فتستقيم صحاحا

بل أراه يعيد سيرة قطمير ... وقاراً وفطنةَ وصلاحا لا أصابت عصا لئيم قفاه ... أو ثوى في الطريقِ ليل صباحا لا ولا عضَّةُ من الجوع نابٌ ... يُثخنُ الناس والسباع جراحا أو ترامي على الموائد يوماً ... يرقبُ العظمَ سائلاً ملحاحا أو براه داءُ الكلاب وأخفى ... بين جفنيهِ عسجداً لمَّاحا كان إيواؤها حراماً فلما ... جاء أضحى لنا حلالاً مباحا قد فرحنا في عيده وطربنا ... وشربنا في نخبهِ الأقداحا يا كليباً أزرى بذكر كليب ... لا تظننَّ ما نقول مزاحا ما مدحتُ الأنام يوماً وإني ... لست آلوك يا كليب امتداحا أعجم الناس في المودَّة بكماً ... وتلا عهدها الكلاب امتداحا إنَّ عيَّ اللسان خيرٌ من النط ... ق إذا ان للأذاة سلاحا وسعار الكلاب أهون شرّاً ... من سعار يمزّق الأرواحا عباس محمود العقاد بالأوقاف بمصر حافظ بك المنشاوي إن صحّ في رجل أن ينعت بالسريّ النبيل , فإن حافظاً من أجدر كبراء القطر المصري بهذا النعت. وقد فزنا برسالة وقصيدة أهديتا إليه في هذا الشهر بمناسبة إنعام الحضرة الفخيمة الخديوية عليه بالوسام العثماني الرابع بصفته أحد أعضاء الجمعية العمومية. فآثرنا نشرهما لبلاغتها وللدلالة على ما لسليل أسرة المنشاوي من المكانة في نفوس الأدباء أما الرسالة فهي من قلم الذكي النجيب محمد بك البابلي , وهذا نصّحها البليغ بعد الديباجة: تالله , لو صاغوا لك من الثريا وساماً , وجعلوا فوق السماكين لك مقاماً , ما حلّوا صدرك بأحلى وأشرف مما انطوى عليهِ من كرم , ولا زادوا مكانك رفعةً

عما أوصله إليك علوُّ الهمم , وحسبك صدرٌ ضلّت الفضيلة حتى اهتدت إليهِ , فاستقرَّت عليهِ؛ ومقام بناه خيرة الآباء الأمجاد , وأعلاه صفوة الأبناء الأجواد. . . البابلي أما القصيدة فهي لشاعرنا الكبير خليل مطران , وهذا نصُّها: هل لشعري وأنتَ منهُ مرادي ... وصف حاليك من على وانفرادِ كلُّ مدحٍ أراهُ فيكَ قليلاً ... وكثيرٌ ما يقتضيني فؤادي خطةٌ غيرُ بالغٍ كلُّ جهدي ... بعضَ شيءٍ من شوطها المتمادي فليكنْ من تمام جودك عذري ... فقبولُ الأعذارِ شأنُ الجوادِ أيها الحافظُ الأمينُ بحقٍّ ... للمعالي من طارفٍ وتلادِ قد وفدنا حجيج أكرم بيتٍ ... واعتمدنا نؤمُّ أشرفَ نادِ لا بقصدِ البناءِ فخماً ولا ال ... زينةِ أبهى ما جوَّدتها الأيادي لا ولا المجدِ باقياً عن كبارٍ ... من كرام الآباء والأجدادِ إنما شاقنا لقاءُ المعالي ... والمرؤاتِ والندى والأيادي في فتى حازمٍ جريء همام ... ثابت العهد صادق الميعاد ثقفٍ أن يهزّه الخطبُ يوماً ... هزَّ لدناً من القنا المَّياد راسخِ العزم في كفاح الليالي ... باسم الوجه في قطوب العوادي موئلِ المستجير كهفِ اليتامى ... والأيامي منارة الروَّادِ حيثما تدْعُهُ الذمار يُجبْها ... صوتُ حقٍّ منهُ وسيف جلادِ ويجبها رأيٌ مذلٌّ عداها ... ربَّ رأيٍ أغزى من الأجنادِ أي كفيل الحمى إذا قيل من في ال ... قوم يومَ الندى ويم التنادي بعضُ تلك الخلالِ في نفَر مه ... ما يقلُّوا كفايةٌ للبلادِ تلك حسبُ الفتى مقاماً وبيتاً ... وحديثاً يبقى على الآبادِ

حول النياشين

وبها يُدرك المقام المعلّى ... من بك أئتمَّ عن هدى ورشادِ عِشْ طويلاً في غبطة وصفاءٍ ... سالماً ناعماً رفيعَ العمادِ وليزنْ صدرَك الرحيبَ وسامٌ ... بات فيهِ وقدرُهُ في ازدياد نعَمُ المالكين لا فرقَ فيها ... غير أن الفروقَ في الأندادِ خليل مطران السعادة قالوا السعادة في الغرا ... م وفي الملاهي والشبابْ فأنا فتىً ذقتُ الغرا ... م فلم أجد غيرَ العذابْ حليم إبراهيم دموسى حول النياشين في إحدى معارك الحرب المشهورة بين فرنسا وألمانيا في سنة 1870 و1871 أسر الألمان جنديّاً فرنساويّاً اسمه فوكه وقادوه إلى مكان الأسرى ولكنهُ لم يلبث أن آنس غفلة من حراسه فهرب وعاد إلى المعسكر الفرنساوي فقاتل في اليوم التالي قتالاً شديداً وأظهر شجاعة وإقداماً فائقين فوعد ضابط فرقته بالمداليا الحربية وقدم اسمه بين أسماء أخوانه المستحقين تلك المكافأة. . . ثم مرّت الأيام وتوالت السنون ولم تلمع على صدر فوكه المداليا الفضية حتى تقدمت لناظر الحربية في هذه السنة قائمة بأسماء المعدة صدورهم للمداليات والنياشين لهذا العام وبينها اسم فوكه وتاريخ استحقاقه للمداليا فبحثت الحكومة عنهُ حتى وجدته لا يزال حيّاً يرزق فقلدته النيشان. . . بعد أربعين سنة.

جريمة الرجل

جريمة الرجل وجريمة المرأة فتاةٌ في ربيع حياتها , تلوح على وجهها إمارات الطهر والعفاف , أطلّت ذات ليلة من نافذة منزلها , وكانت الطبيعة هادئة , والناس نياماً والسكون باسطاً جناحيه تكاد لا تسمع سوى حفيف الأشجار وتغريد الطيور وخرير المياه. . . نظرت إلى ما فوقها فرأت النجوم تنير القبة الزرقاء , والقمر يتهادى كالعروس مبدّداً جيوش الظلام باسطاً ضوءَه على العالم فيزيد الطبيعة بهاءً وجمالاً , ثم حانت منها التفاتة إلى ما تحتها فرأت منظراً رائعاً مهيباً رأت منحدراً تغطيه أشجار الصنوبر والأعشاب الجبلية ينتهي إلى وادٍ جميل تكسوه المروج الخضراء. . . راقتها تلك المناظر البديعة التي طالما سمت بالشعراء إلى عالم الخيال وانتعش فؤادها من نسيم الليل العليل , فغادرت منزلها في سكون الليل وسحر القمر , وجعلت تسير بين الكروم بخفة الغزال , وهي تمتع نظرها بمحاسن الطبيعة وجمالها حتى وصلت إلى مكان تظلله شجرة فتقدمت إليها وجلست على غصن من أغصانها لتستسلم إلى سرورها وهنائها. . . ما كادت الفتاة تجلس حتى مال بها الغصن فوق هوة عميقة تنتهي إلى ذلك الواد , فتماسكت به وصاحت بأعلى صوتها: أدركوني! ولكن ما من مجيب.

رأت الهوة الفاغرة فاها تحاول أن تبتلعها , وفوقها سماء وتحتها فضاء فأيقنت بالهلاك. . ظلت معلقة في الفضاء حتى ضعفت قواها , وكلت يداها , فهوت إلى الحضيض , فتهشمت أعضاؤها , وذهبت ضحية غواية الجمال. . كانت سعيدة بحياتها هنيئة بما حولها فماتت أشنع ميتة , وذهبت طعاماً للوحوش. فوا أسفي على شبابها الزائل! أما الغصن الذي كان سبباً في هلاكها فعاد إلى ما كان عليه قبلاً , وقد يورد غيرها مورد الهلاك. . . تلك هي حال المرأة الساقطة. تولد الفتاة طاهرة عفيفة , وتشبّ ساذجة وديعة , ترى الحياة لذيذة وتبني لنفسها قصوراً من الآمال , حتى يعترض هناءها رجل تحسبه نجم حياتها وقبلة رجائها , فتركن إليه وهو يخادعها حتى إذا ما نال بغية منها تخلي عنها , فترى هول سقطتها , فتضيق بها الدنيا على رحبها فتتمسك به مستغيثة بالعدل وما من سميع , وبناصر الضعفاء وما من مجيب , إلى أن يستولي عليها اليأس فتسقط في وادي الشقاء مستنجدة بالإنسانية فلا تجد إلاَّ وحوشاً يأنون إليها منتهزين فرصة ضعفها القضاء الأخير على كل وسيلة لها إلى العيش إلى أن تصير عالة على الإنسانية. . أما الرجل الذي كان سبباً في وقوع هذا البلاء فيتجاوزون عن هفوته ولا يناله شيء من الضرّ كأنه لم يأتِ أمراً فرياً , ويظل رائعاً في بحبوحة الصفو والهناء , وقد يوقع غيرها في شرك خداعه. ولا يتحمل عاقبة تلك الجنايات سوى الفتيات الضعيفات. إني إذا بكيت حزناً على شباب الأولى فإني هنا أصيح نادباً تلك

الأنفس التي تفسد بعد يوم وأقول , إن العالم يفسد شيئاً فشيئاً وسيأتي يوم لا نرى فيه للشرف والعفاف أثراً. وما ذلك إلا لأن الرجل لا يجد رادعاً إذ لا عقوبة تحلُّ بهِ من جرَّاء عمله فتراه مندفعاً في سبيل خداع المرأة. إلا أن ذلك ظلم وعدوان وتلك حال لا تدعو إلى الطمأنينة والأمن. . . أنا احترم القانون ولكني أقول إن جاء به من محللات تلك الجريمة جريمة إفساد الفتيات كالرضا مثلاً الذي يعتبر مسوغاً لما يقدم عليه الشبان والفتيات. أقول إن هذا الرضا لا يصح الأخذ به فإنه محاط بوعود طويلة عريضة من جهة الشاب واعتقاد راسخ من جهة الفتاة بصحة ما يقوله مغويها. ولست أظن هذا الرضا يخرج عن حدود الضعف المسبب عن الحيلة للوصول إلى غرض مقصود فهي شبيهة من كل الوجوه بجريمة النصب والاحتيال من أجل المال التي جعل لها القانون بين بنوده عقاباً للمحتال على العرض أثمن قيمة من المال , فلم لا يفرض القانون عقاباً للمحتال على العرض كما فرضه للمحتال على المال , فلم لا يفرض القانون إن هذا الأمر جريمة تستحق العقاب , والرأي العام يطلب ذلك والقانون الذي لا يسير مع الرأي العام في مستوي واحد , من جهة ما يعتبر جريمة وما لا يعتبر جريمة , قانونٌ ناقصٌ أو متجاوز , وأعيذ قانوناً أن يلحق به النقص أو التجاوز. ولقد يرى البعض أني أبالغ في وصف جريمة الرجل دون الفتاة؛ على أن قليلاً من الإمعان يكفي المتأمل في الحوادث التي تمرّ أمامه من هذا

القبيل أن يرى أن مصيبة الفتاة بسقوطها هائلة تودي بنفسها إلى الهلاك فتصير طريدة شريدة تتحمل أنواع البؤس والشقاء , فضلاً عن أنها تصير سمّاً زعافاً يسري في عروق الهيئة الاجتماعية. أما الرجل فإنه كما ذكرنا لا يناله شيء من الضر مع أنهُ جانٍ على المرأة والمجتمع الإنساني في وقت معاً. ليست الحالة تتوقف على خداع شاب لفتاة بل هنالك قطيع من سفلة الأغنياء يساعدهم على تحقيق أمانيهم قومٌ هم وتجار الرقيق سواء. . . أن الفضيلة تتعذَّب لضياع العفاف , والإنسانية تتألم لأن الكمال يفر مدبراً أمام جيوش الفساد التي تزداد انتشاراً. فيا ليت السماء تمطر صواعقها على هؤلاء الناس الذين يقوّضون دعائم الفضيلة ويهدمون أركان العمران والرقي الأدبي. ولكن مضى زمن الصواعق والمعجزات. فيا أصحاب الشرائع ويا أيها الحكماء تعالوا واندبوا هذا العصر الذي يدعونهُ بعصر الماديات فإن حالتنا تستدعي الندب والبكاء. ولعلّ تلك الدموع تغسل شرورنا وتطهّر آثامنا. . . لقد تعب فلاسفة الأخلاق فكتبوا المقالات , وألَّفوا الكتب وألفوا الخُطَبَ ضمنوها نصحاً خالصاً وحضّاً على الكمال , ولكني أرى أنها لا تؤثر إلاَّ في من كانت نفسه في استعداد لقبولها. فإن من فسدت أخلاقه ومات ضميره تعذَّر علينا إرجاعه إلى السبيل المستقيم بكلمات عذبة رقيقة. ولله در سليمان الحكيم حيث قال إن من يوبخ مستهزئاً يكسب لنفسه هواناً؛ ومن ينذر شريراً يكسب عيباً. ومثل هؤلاء قد اجتمعت فيهمم الصفتان وانبعثت فيهم روح الاستهزاء , وامتزجت في

أمثال وأقوال

نفوسهم روح الشرّ , فلا يرجى إصلاحهم بالنصح والإرشاد. وقد خطرت على بالنا كلمة لشكسبير نابغة الانكليز وشاعرهم قال دع المتشرّد يقترف الجنايات كل يوم , ويتوغل في شروره صباح مساء , دعهُ ولا تنصحهُ إلى يوم قريب يسقط فيهِ إلى الهاوية على عنقهِ , فالقانون له بالمرصاد ولا تفوته الفرص , وهو يستطيع أن يريبه ويقوّم أخلاقه فإن مادة أو مادتين في القانون تقوم مقام عشرين من ألفاظك العذبة الرقيقة نعم يجب أن يكون القانون واقفاً بالمرصاد للمجرمين الأشرار. وهو أعظم رادع يقف في سبيل هؤلاء الفاسقين. ولو جاءَ فيهِ بندٌ يقضي بعقوبة من يخدع الفتاة ويجرّها إلى الهلاك سواء كانت بالغة سنّ الرشد أو لا لخفت وطأة هذه المصيبة شيئاً عن الهيئة الاجتماعية. وإذا عُدَّ حكم قدماء المصريين بقتل الزاني وقطع أنف الزانية في منتهى القساوة فإن التجاوز عن تلك الجريمة يُعَدُّ منتهى التساهل الذي يكون سبباً لانتشار الفساد في الأخلاق وعلةً لخراب العمران فيليب. م. ليليا أمثال وأقوال القلم شجرة , ثمرها المعاني؛ والفكر بحرٌ , لؤلؤة الحكمة عبد الحميد بن يحيى الرجل القليل العلم ينمو نموّ الثور: يزداد لحمه لا عقله

لو صوّر العقل لأضاء منه الليل , ولو صوّر الجهل لأظلم منه النهار سئل أحد القدماء: ماذا تعلمت من الفلسفة؟ قال: تعلمت أن أعيش بالسلام مع جميع الناس مرّن نفسك حتى على الأشياء التي تيأس من عملها , وخذ مثالاً على ذلك اليد اليسرى فإنها أقدر على ضبط العنان من اليمنى بسبب التمرين لا يصلح للصدر إلاَّ واسع الصدر ابن سهل لو وضعت مصائب الناس كلها في كومة واحدة , وأبيح لكل واحد أن يختار منها ما شاء , لأختار كلّ مصيبته واستردّها سقراط الجاهل يُسأم , أما مدّعي العلم إدّعاءً فلا يُطاق نابوليون كن المشتوم لا الشاتم , وكن من الذين يُجار عليهم لا من الجائزين. بولانو المرأة الجميلة تبهج العيون , والمرأة الصالحة تبهج القلب , الأولى حلية والثانية كنز نابوليون يجب علينا أن ننتحل أعذاراً للجميع: للأولاد لأنهم صغار , وللنساء لأنهنَّ ضعيفات , وللحكام لأن مهامهم عظيمة فلا بدّ لهم من الخطأِ وللصالحين لأنهم لا يقصدون الإساءة , وللاشرار لأنهم يستحقون الشفقة لأن الشقاء مستقبلهم سنيكا عمل الخير اخياري ولكن رده إلزامي شيشرون الشحّ أَرُّ على الإنسان من الفقر , لأن الفقير إذا وجد اتسع والشحيح لا يتسع وإن وجد الإمام علي)

من يأكل وهو شبعٌ يحفر قبره بأسنانه مثل تركي ما من إنسان تكشَفُ أفكاره وأفعاله ألا يستحق الشنق عشر مرّات مونتاين ابكِ على العاقل يوم يموت , وابكِ على الأحمق حتى يموت. أفلاطون إني لأرى الرجل فيعجبني , فأقول هل له حرفة؟ فإن قالو لا , سقط من عيني عمر بن الخطاب إذا لم تكن سعيداً , فذلك لأنك تطلب ما ليس لك , وتنسى ما عندك شكسبير تحتاج لثلاثة لتكون سعيداً: عافية الجسد , وصحة العقل , وسلامة القلب من أقوال العرب العبد له سيد فرد , والرجل الطماع عبد لكل فرد يساعده على سد مطامعه لابرويير ومن أمثال الانكليز: من كان ضميره مطمئاً نام والرعود تقصف ارقب عدوَّك كأنه أسد ولو كان فأرة يجب أن نهتمّ للمستقبل اهتماماً لا يحرمنا لذة الحاضر لأنه ليس من الحكمة أن نشقي اليوم مخافة أن نشقي غداً درهم الفقير إذا غُصب كان جمرة في كيس الغنيّ

أزهار وأشواك

أزهار وأشواك حول الرتب والنياشين عيّن بوالو الشاعر الفرنسوي الشهير في القرن السابع عشر مؤرخاً للملك الكبير لويس الرابع عشر يدوّتن أهم أخبار البلاط وحوادث المملكة على عهده. ولما عاد الملك إلى باريس من إحدى حروبه , وقد أحرز النصر تلو النصر , رفع إليه الشاعر قصيدة اشتهرت بمطلعها حيث قال ما معناه: أيها الملك العظيم كفَّ عن الانتصار أو أكفَّ أنا عن الكتابة يعني بذلك أن الملك ينتصر في كل حرب بأسرع مما يقدر المؤرخ على تدوين خبر الانتصار. . . وأنا , وليس لي مقدرة بوالو في الكتابة , أكاد أقول لسموّ أفندينا العباس: يا أميري كفَّ عن الإنعام على الأدباء , أو أكفّ أنا عاجزاً عن تهنئتهم وشكر آلائك إذ أنني ما كدت أفرغ من تهنئة حافظ برتبه , وتهنئة خليل بنيشانه , حتى وافتني الجريدة الرسمية زاهيةً بخير الإنعام على جرجي زيدان بالرتبة المتمايزة. ومع ذلك فقد قابلتُ هذا الخبر كما قابله جميع قرّاء العربية بالارتياح التام , لأن جميع قرّاء العربية يعرفون ما لصاحب الهلال من الفضل الجمّ والأدب الغزير فكانت هذه الرتبة مكافأة عن ربع قرن قضاه في التأليف والتصنيف: وإذا سعى البعض إلى الرتب والنياشين بمأثرةٍ باهرة أو بثروة طائلة , فإن الرتبة سعت إلى زيدان بك اعترافاً بأنهُ لم يعش إلا ليتب ولم يكتب إلا ليفيد. وليس مثل هؤلاء الأدباء بالعدد العديد.

أقتطف من الرسائل الواردة باسمي إلى إدارة مجلة الزهور شيئاً عن الرتب والنياشين , لأن هذا الموضوع حديث الناس في هذه الأيام. كتب لي أحد القراء من مصر يقول ما كان أصدقك يا حاصد في تعليقك على رتبة حافظ حيث كتبت: فإذا نحن قلنا الشاعر حافظ إبراهيم عرفهُ كل ناطق بالضاد. ولكننا إذا قلنا عزتلو الوجيه بك إبراهيم لا يعرفهُ إلاَّ بواب منزله وفرَّاش الكتبخانة. وقولك هذا يصح في كل أديب كبير , فقد حدث منذ أيام في نظارة المعارف ما أُبت ذلك: كان صاحب الهلال , بعد الإنعام عليهِ بالرتبة , في النظارة , وكان هناك أحد كبار علماء الهند. فعرَّف الناظر الواحد إلى الثاني , قائلاً زيدان بك فلم يُعره العالم الهندي كبير التفات لظنهِ أنهُ أحد البكوات - والبكوات في مصر أكثر من الهمّ على القلب - فأدرك الناظر الأمر , وأراد أن يستدرك ما فات فما لبث أن ذكر جرجي زيدان منشئ الهلال فقام الهندي إليهِ وصحافهُ مصافحة الاعتبار والإجلال مثنياً على تآليفهِ وأعماله الأدبية. . . فما أجمل مغزى هذه الحادثة وما أبلغ. . . وكتب إليَّ قارئ من الأرياف يقول: كثرت المؤامرات في هذا الصيف وإنني لأكاد أرى في رتب أدبائنا واحدة منها , وما المتآمرون إلاَّ عصبة من الباشاوات والبكوات. فإن حافظاً وخليلاً وزيدان كانوا بصفتهم الأدبية يُعدّون في طليعة أهل البلاد قبل هؤلاء الباشاوات والبكوات. فدبَّر لهم المتآمرون هذه المكيدة , وقد انطلقت عليهم الحيلة فأصبح حافظ برتبتهِ الثانية , وخليل بنيشانهِ الثالث , وزيدان برتبتهِ

المتمايزة بعد فلان باشا , ودون هذا يحمل العثماني أو المجيدي الأول , وذاك الذي يرفل في كسوة الميرميران أو الأولى صنف أول. وبهذه المناسبة اقترح على الحكومة - وهي مهتمة الآن لإعداد ميزانية مصالحها وإيجاد المال اللازم لإنفاذ المشروعات النافعة للبلاد - أن تضع رسماً على حاملي الرتب والنياشين. ومهما كان هذا الرسم زهيداً فإنه يعود على الحكومة بإيراد وافر يسد شيئاً كثيراً من حاجاتها بسبب كثرة الذين ستتناولهم هذه الضريبة. ولكان هذا الإيراد يزيد أضعاف الأضعاف , لو ضوعف الرسم على البهوات التقليد. ف نك لو مررت حوالي الساعة الحادية عشرة مساءً في ميدان باب الحديد أو في ميدان الأوبرا , لتمزقت أذناك من ترديد حمار يا بك؟ أجي يا بك؟ ولو كان بينك وبين البكوية مراحل. . . وفي الختام أورد لقرأئي الآتية وقد روتها الجرائد الفرنسوية في الشهر الفائت قالت: لقي بوليس باريس قرب الشانزليزه شاباً متقلداً شارة اللجيون دونور , فرابه أمره لاعتقاده أن مثل هذا الوسام لا يحمله إلا الشيوخ الذين أتوا في حياتهم أعمالاً جليلة. فأخذه إلى أقرب مخفرٍ هناك. فسئل الشاب عن اسمه ولقبه وسبب تقلده شارة هذا النيشان العظيم الشأن , فأجاب بكل بساطة أنا عما نوئيل ملك البرتغاال السابق فانحنى سائله أمامه باحترام , واعتذر له بما حضره من الكلام. حاصد

صور هذا الجزء

صوَر هذا الجزء كنا قد أعددنا لهذا الجزء من الزهور صوَر أسرة اليازجي , لنشرها بمناسبة الاحتفال بنقل رفات المرحوم إبراهيم من مصر إلى لبنان. فكان تأجيل الاحتفال سبباً في تأخير نشر الصوَر. موت الكنار في الجزء الخامس من الزهور ص242 نشرنا مقالة للكاتبة مي ترثي فيها كناراً لها. وقد نقلت جريدة الزمان هذه المقالة وأردفتها بالأبيات الآتية: بكتِ الكنارَ فهيَّجت بي لوعةً ... نفسي بها امتلأت لموت كناري أن تُشجِ ميَّ وفاة عصفورٍ لها ... فتقول فيهِ النثرَ كالأشعارِ فيما تراني في الرثاء أجودُ من ... بعد الحبيبِ ونكبةِ الأقدار؟ ذيَّاكَ عصفورٌ بكتهُ بلهفةٍ ... فإذا بكيتُ بمدمعٍ مِدرارِ ومثيرُ أشجاني ملاكٌ , هل أكو ... نُ موفياً حقَّ الغرامَ شغاري؟ شتَّانَ بين مصيبةٍ ومصيبةٍ ... يا ميُّ. منُ ينهي إليكِ سراري؟ مَن همت فيهِ لا كلام يفيهِ حقَّ ... الوصفِ. والهفي من التذكارِ! قد كان أجمل زهرةٍ في روضةِ ... الآمال لي ومحجّة الأوطارِ حاولتُ ما استطعتُ المطار بهِ فلم ... أُفلح فماتَ ولم نفز بمطارِ فتحسُرٌ أضنى الكنارَ أصابنا ... وكمثلنا قد بتِّ بتُّ بنارِ اسطفاق علبوني صاحب جريدة الميزان البرازيلية

جرائدهم وجرائدنا

جرائدهم وجرائدنا نشر مسيو ارثور ماير مدير جريدة الغولوى الفرنسوية كتاباً بعنوان الذي رأيتهُ بعيني فلما بلغ إلى وصف الجرائد قال عن جريدة الماتن: يصحّ القول في جريدة الماتان أنها الجريدة العصرية الراقية. فهي إذا قالت أقول كلّ شيء جاز لها هذا الإدعاء , فإن لها أسلاكاً تلغرافية خصوصية تربطها , وهي في باريس , بلندن ونيويرك وبرلين؛ ولها مراسلون في كل مكان. وهي متحدة بجريدة التيمس الانكليزية المشهورة فتنقل أخبارها الخاصة في كل صباح. أما صبغتها السياسية فجمهورية بحتة ولكنها لا ترفض نشر أفكار وآراء رجال السياسية على تباين أغراضهم وسياساتهم. فهي والحالة هذه أنموذج الجرائد الحرة ذات المقام السامي في عالم الأعمال والأشغال من كل نوع , وهي أشبه بمنبر عال مباح لكل خطيب من كل مبدأ ومن كل غاية ولست أظن أنهُ توجد بين الصحف صحيفة أكثر منها إقداماً وشجاعة. وتشغل إدارتها بنايات كل واحدة منها كبيرة على حدة. وتبلغ المساحة التي أقيمت فيها هذه الإدارة ثلاثة آلاف وأربعمائة متر مربع. أما عمالها المأجورون فيعدون تسعمائة عامل , عدا المراسلين. وفيها ست ماكنات أميركية كبرى تطبع في الساعة الواحدة مئة ألف عدد ولها مستودع كهربائي خصوصي يغنيها من المستودع العمومي ولاسيما أبان الاعتصابات. وفيها معمل لحفر الصوَر فهي تكتب وتطبع وتنشر لنفسها بنفسها ةلا تشتري من المعامل إلاَّ الورق والحبر. أما إيرادها اليومي فيبلغ ثمانين ألف فرنك ولكنها تنفق على الورق يومياً عشرة آلاف فرنك. وقد كان مجموع ما أنفقتهُ على أخبارها التلغرافية الخارجية في سنة 1909 نصف مليون فرنك وأما دائرة تحريرها فمؤلفة من مئة كاتب ينقسمون تحت إدارة رئيس التحرير إلى ثلاث فئات فئة المخبرين المحليين وفئة المخبرين الأجانب.

ثمرات المطابع

ثمرات المطابع عجائب غرائب لما سألنا قراءنا هذه السنة عن النوابغ في مصر , أجابنا كثيرون منهم ذاكرين حافظ نجيب النابغة في الاحتيال. والحق يُقال أنهُ لنابغةٌ فذٌّ في بابهِ , يُعَدُّ أرسين لوبين واللص الشريف وسائر أبطال روايات البوليس السري عيالاً عليهِ. كانت المحاكم قد حكمت عليهِ ثلاثة أحكام غيابية لاتهامهِ بالنصب والاحتيال في حوادث غريبة الوقائع , وحكمت عليهِ مرة حكماً حضوريّاً , ولكنهُ تمكن من الفرار من سجنهِ في 27 دسمبر سنة 1907 , وظلَّ خمس سنوات يتنقل في القطر المصري والبوليس ينقّب عنُ وهو يواصل أعماله الغريبة. ذهب إثر هربه من السجن إلى الوجه البحري؛ ودخل في دير أشواري , وادَّعى أنهُ راهب واسمهُ غبريال جرجس وبقي هناك بضعة شهور اكتسب في خلالها ثقة الجميع , حتى أصبح صاحب الكلمة المسموعة وحينئذٍ احتال على رئيس الدير وأخذ مبلغ ستمئة جنيه واختفى. ثمَّ قصد دير المحرّق متخذاً اسم الراهب غالي جرجس , وراسل من هناك بعض صحف العاصمة , وكان له كتابات تُذكر في موضوع الخلاف الذي كان قائماً في ذلك العهد بين الجرائد الإسلامية والجرائد القبطية. ولما افتضح أمره , غادر الدير واختفى أثرهُ , إلى أن كان اليوم العاشر من شهر أكتوبر الماضي. فقد بلغ البوليس أن حافظاً موجود في دائرة قسم مصر القديمة وهو متنكرٌ يحترف حرفة درويش يعطي عهوداً فهاجمتهُ قوة من رجال البوليس فوجدوه محاطاً بعدد كبير من الدراويش في حلقة ذكر , ولما رآهم مقبلين إليهِ , أخذ يكبر بصوتٍ عالٍ الله! الله! ولما قبضوا عليهِ , ادَّعى أنهُ الشيخ عبد الله إبراهيم من المنوفية وأنَّ الله يخلقُ من الشبه أربعين. على أنا إدعاءَه هذا لم يجده نفعاً , وسيق إلى السجن. وكان مدة إقامته في مصر العتيقة قد اقترن بإحدى جاراتهِ - وهي تجهل

حقيقة أمره - ورزق منها ابنة سماها عزيزة وهي الآن في حولها الثاني. هذا شيءٌ قليل من نوادر هذا الرجل الغريبة. وما كنا لنشغل بها قرَّاء ثمرات المطابع لولا أن الرجل كاتب بليغ وله مصنّفات نفيسة وإليك تحرير الخبر: قصدتْ مطبعة منذ مدة سيدة وطنية اسمها وسيله محمد وعرضت على نجيب أفندي متري صاحب المطبعة نشر كتاب عنوانه روح الاعتدال لواضعه شارل وانير. فارتاح متري أفندي إلى موضوع الكتاب الجليل ورآه جديراً بالنشر باللغة العربية لما فيهِ من الفائدة للبلاد فطبعه؛ وتناولت الصحف الكتاب بكلمات الإطراء , وأقبل عليهِ القراء أيّما إقبال , وقرَّرت مدارس كثيرة تدريسه. وبعد مدة وجيزة عادت وسيلة محمد إلى مطبعة المعارف وبيدها نسخة من كتاب آخر , عنوانه غاية الإنسان فلم يتردَّد نجيب أفندي متري في قبوله إذ رآه لا يقلُّ فائدة عن الكتاب المتقدم ذكره. فطبعهُ ونشره في الشهر الماضي وكان له نصيب كبير من إقبال القراء. وفي أوائل أكتوبر عادت وسيلة محمد إلى المطبعة ومعها القسم الأول من ترجمة كتاب الناشئة وفي 10 أكتوبر قبض البوليس على حافظ نجيب , فحال دون إنجاز الكتاب الثالث من هذه الكتب التي كان ينشرها حافظ باسم زوجتهِ - وهي لا تدري من سرّ زوجها شيئاً. . . أهدت وسيلة محمد كتابها الأول إلى ابنتها العزيزة فقالت , - أو قال حافظ نجيب أنت اليوم طفلة في المهد , ترّك ابتسامتي , ويكفيكِ حنوي. وطفلة اليوم أم الغد. . . والزمان قلَّب , والغد مجهول , فقد لا أكون إلى جانبيكِ إذ ذاك , فترجعين إلى هذا الكتاب. . فتؤثرين العمل بما فيهِ من الآراء السديدة على ما يجدو إليهِ نزق الشباب , أو جنون الصبا , وطيش الرعونة. . . وإذا ما أعوزتكِ النصيحة فإن في آراء الكتاب الاجتماعيين ما قد ينوب عن نصيحة أمِ ثوَت , أو والدٍ قُبر , هذه هديتي. فإن تعلمت علماً صحيحاً وكنتِ رقيقة العواطف , عرفتٍ منها كم كنت أحبكِ وأرغب في نفعكِ والكتاب الثاني أيضاً مهدي إلى الابنة العزيزة وقد جاء في كلمة الإهداء:

الدهر عبر , والحياة سير , والنفس بينهما لا تستقرّ , فمن تتقي الأيام تأمن عِبَرها ومن تعرف الحياة تتحمل سيرها. والحوادث جائية ذاهبة , والأعمار فانية ناضبة , فالحال لا تدوم أسعدتْ أم أشقتْ , والذكرى لا تفنى قبحت أم حسنت. فاتقي بنيتي العاقبة الأخرى , فإنما الحياة هي الذكرى نكتفي بهذه النتف للدلالة على مقدرة حافظ نجيب الكتابية , لأن المجال غير متسع لزيادة البحث في كتبهِ وآرائهِ. على أنهُ لا يسعنا قبل الختام إلاّ إبداء الأسف لضياع مثل هذا الذكاء النادر. ولو عرفت الحكومة الآن أن تقوده في الطريق المستقيم لنفعت وأفادت كثيراً. الهدية الفهمية - أتحفنا بهذه الهدية حضرة الفاضل محمد أفندي فهمي المغربي أحد موظفي نظارة الحربية. وهو عنوان لكتاب وضعه لتذليل صعوبات اللغة الانكليزية فإذا بهِ ثمرة مطالعات كثيرة , وخبرة كبيرة. والكتاب مقسوم إلى قسمين: يتضمن القسم الأول الاصطلاحات اللغوية والأفعال المختلفة المعاني باختلاف الحروف التي تليها مع جمل تدل على كيفية استعمالها؛ والقسم الثاني يتضمن الاصطلاحات الإدارية والعلمية والفنية , وتجاه كل عبارة ترجمتها العربية. فجاء هذا الكتاب المفيد أشبه شيء بقاموس مرتب حسب المعاني. فنوجه إليهِ أنظار طلاّب اللغة الانجليزية فيجدون فيهِ فائدة عظيمة. الإسلام والإصلاح - هو عنوان تقرير رسمي رفعُ جناب السر ريشارد وود قنصل دولة انكلترا الجنرال ووكيلها السياسي في تونس إلى جناب ناظر خارجيتها وقد نشرتهُ الحكومة الانكليزية في الكتاب الأزرق الذي أصدرتهُ سنة 1878 عقب وقوع الحرب بين الدولة العثمانية وروسيا. وأعاد طبعه بالعربية حضرة الأديب محب الدين أفندي الخطيب أحد محرري جريدة المؤيد. وأردفهُ

بلمحة في تاريخ الجندية العثمانية ترجمها عن الكاتب التركي رفيق بك مانياسي وزير العدليه العثماني المتوفي. وهو من الكتب التي يحسن الإطلاع عليها في الآونة الحاضرة. سوريا ومصر - كثرت هذه المدة الأبحاث في موضوع القطرين الشقيقين لشدة صلة الروابط الأدبية بينهما. وآخر ما جاءنا بهذا المعنى كتيّب بالعنوان المتقدم أرسله إلينا حضرة الأديب نسيم أفندي ملول , وقد جمع فيهِ سلسلة مقالات كان قد نشرها في جريدة النصير البيروتية , ثم جمعها خدمة للدولة والوطن العثماني. الشعب - جريدة جامعة أنشئت لخدمة الشعب الشوفي , يُصدرها في عين زحلتا حضرة الكاتب الشاعر رشيد بك نخله الأديب المعروف لدى قراء الزهور ويودعها ما اشتهر عن قلمهِ من النفثات الشائقة. فنرجو لها النجاح في الخدمة القومية التي تتوخاها. الصحة - كلَّ يوم يأتينا دليل جديد على نهضة اللغة العربية في العالم الجديد على يد المهاجرين النشيطين. وقد حمل إلينا البريد الأخير العدد الأول من مجلة صحية طبية اسمها الصحة يصدرها في نيويرك الصيدلي الكيماوي يوسف أفندي يبرودي , فإذا بها حافلة بالموضوعات العلمية والفوائد الطبية والأبحاث الصحية المفيدة. مكتبة المنار - أهدت إلينا هذه المكتبة الزاهرة لأصحابها رضا وخطيب وقتلان قائمة كتبها عن السنة لجارية , وهي طافحة بالكتب الأدبية المفيدة. والمكتبة ترسلها مجاناً إلى كل من يطلبها منها.

يوليوس قيصر

يوليوس قيصر رواية تمثيلية من أشهر الروايات وأحكمها وضعاً وأعظمخا وقعاً في النفوس لمؤلفها شكسبير الفصل الثاني المشهد الأول رومه - منزل بروتوس بروتوس - منادياً الخادم لوسيوس! يا لوسيوس! لنفسه لا أقدر أن أحرز من النظر إلى النجوم مقدار قرب النهار منا. منادياً الخادم لوسيوس! أنت ياهذا! لنفسه ليت لي ذنيه واستغرق في مثل نومه. منادياً الخادم لوسيوس - هل نادى مولاي؟ بروتوس - خذ شمعةً إلى غرفة قراءَتي. أضئها وتعال ادعني إليها لوسيوس - سأفعل يا مولاي. تخرج بروتوس - لنفسه فلتنجونَّ رومه بموته! إني لا أجاهده ابتغاءَ مصلحة نفسي بل لمصلحة الأمة. يودُّ يُتوَّج. تُرى كيف يكون تأثير التاج فيهِ؟ تلكم المسألة. لا يخرج الصل من وكره إلاّ على نور النهار عند ذلك يجب المشي باحتراس. إذا نحن ألبسناه التاج لبسنا الخطر , فنكون قد أخرجنا الصلّ من وكره فلا نأمن. بل نكون قد حدّدنا نابه يعطينا به حين يشاء. شرُّ ما تكون العظمة عليه عندما تفرّق بين القوة والرحمة. إن قيصر - والحق يقال - لم يدع عواطفه تتغلب على عقله قط. إنما من يضمن المستقبل؟ إن الطمع يتخذ في بدء أمره التواضع سلماً له. فتراه محولاً إليهِ وجهه عندما يكون واقفاً في أسفله. فإذا ما اعتلا قمته ولاّه ظهره ناظراً إلى السحب فوقه ناسياً تلك الدرجات الواطئة التي تسلّقها. هذا مثل سائر

وبرهان معروف. . . قد يفعل قيصر هذا الفعل. فلنمنعنه قبل أن يأتيه لا حجة لنا عليه الآن. فلنغيّر شكل دعوانا ولنقدّر أنهُ إذا نما عما هو عليهِ أضرَّ وكان ضرره عظيماً. لنحسبنّه بيضة الحية نقتلها في قشرتها مخافة أن تفرّخ فتسعى لضرّ الناس. يرجع الخادم لوسيوس. لوسيوس - مولاي. أضات الشموع في غرفتك. وقد رأيت هذه الورقة مطوية طيتها في النافذة , ولم تكن هناك عندما رقدت. يعطيه الورقة. بروتوس - اذهب ونم. لم يطلع النهار بعد. في أي الأيام نحن يا غلام؟ لوسيوس - لا أعلم يا مولاي. بروتوس - أنظر في التقويم وهات الخبر. لوسيوس - أمرك. تخرج بروتوس - يمكنني أن أقرأ على نور هذه النيازك المتساقطة في الهواء يفتح الورقة ويقرأ بروتوس أنت نائم؛ تنبّه وانظر إلى نفسك! إن رومه الخ الخ. . . تكلم. أضرب. أفدِ! بروتوس أنت نائم! استيقظ! لنفسه قد عثرت على كثير من هذه الكتب المحرَّضة. يقرأ رومه الخ الخ لنفسه تُرى ما معنى هذا؟ هكذا يجب أن تكون: أتستعبد رومه خوفاً من إنسان فرد؟ أرومه؟ أن آبائي طردوا تاركون من أزقة رومه عندما طمع بالملك. يقرأ تكلم اضرب لنفسه أكلاماً وضرباً يرجون مني؟ ايه رومه! لكِ عليَّ العهد أن تنالي مبتغاكِ على يدي إن كان العدل ينجم عن ذلك. يرجع الخادم لوسيوس. لوسيوس - مولاي قد انسلخ أربعة عشر يوماً من شهر مارس. بروتوس - حسناً. اذهب وانظر من بالباب فإني اسمع قرعاً. يخرج لوسيوس

لنفسه طالت لياليَّ ولم أنم من يوم ما حرَّضني كاسيوس على قيصر. إن المسافة بين تنفيذ عملٍ فظيع وبين أول دافع يدفع إليه لخيال أو حلم مخيف. العقل والجسد يتشاوران , وتصبح حالة الإنسان كمملكة صغيرة تتناوبها الثورات يرجع لوسيوس. لوسيوس - أن أخاك كاسيوس في الباب يودّ أن يراك. بروتوس - هل هو وحده؟ لوسيوس - كلاّ مولاي! بل معهُ أكثر من واحد. بروتوس - أتعرفهم؟ لوسيوس - لا. فإن قُبعاتهم مشدودةٌ إلى آذانهم وأرديتهم تغطي نصف وجوههم , فلم أتمكن من معرفة واحدٍ منهم. برتوس - دعهم يدخلون يخرج لوسيوس. لنفسه هم العُصبة. ايهٍ أيتها الفتن! أتخجلين من إظهار وجهكِ المخيف في سوادِ الليل وهو مباءَة الشرور؟ إذنْ أنَّي لكِ أن تجدي كهفاً في رابعة النهار يسدُل سِترَ ظلامهِ على فظاعة وجهك؟ لا تطلبي محالاً. خبإِي وجهكِ تحت ستار التبسّم والمخادعة فإنك لو خرجتِ إلى الناس بلا ستار لعجزت ظلمةُ جهنم الخامسة عن إخفاءِ فضيحتكِ! يدخل المتآمرون كاسيوس وكاسكا وداسيوس وسنِّا وسمبر وتريبونيوس. كاسيوس - طاب صباحك يا بروتوس. لقد تجاسرنا على إقلاعك. أليس كذلك؟ بروتوس - لم أنمْ ليلى. هل أعرفُ هؤلاء القادمين معك؟ كاسيوس - نعم , كلاًّ منهم. وليس منهم إلاّ من يُكرمك ويَودُّ لو كان لك في نفسك مثلما للرومانيين فيها من حسن الثقة. هذا تريبونيوس. بروتوس - أهلاً بهِ.

كاسيوس - وهذا داسيوس بروتوس - مرحباً بهِ كاسيوس - وهذا كاسكا. وهذا سنّا , وهذا سِمبر بروتوس - أهلاً بهم جميعاً وسهلاً. أيُّ الهموم حالت بين عيونكم وبين الليل فمنعتها من النوم؟ كاسيوس - أتأذن لي في كلمة؟ بروتوس وكاسيوس يتهامسان داسيوس - هنا الشرق. أو ليس هذا مطلعُ الشمس؟ يشير إلى جهة الشرق كاسكا - كلاّ سنّا - عفوك. بلى. وليست هذه الحبائل البيضاء التي تقاطعُ السحب إلاّ رسل النهار كاسكا - إنكما على ضلال. وستعرفان بهِ. إن الشمس تشرقُ من هنا حيث يتجه سيفي وهي جهة قريبة للجنوب. والسنة تكون في أولها في مثل هذه الأيام. ثم تتجه بعد شهرين تقريباً إلى الشمال وترمينا بحرارتها. أما الشرق فهذه وجهته. هنا حيث الكابيتول. بروتوس - هذه يدي. هاتوا أيديكم كاسيوس - ولنحلفنّ متفقين بروتوس - لا. لا حلف ويمين. إن لم تكن إماراتُ وجوهنا وآلام نفوسنا وجور الزمان علينا بالأسباب الكافية لنا , فلتتفرَّق الآن وليذهب كلٌّ إلى فراشهِ ولندع نسرَ الاستبداد في تحليقهِ يتخطفنا الواحد إثر الآخر. أما إذا كانت هذه الأسباب نفسها ناراً تنفخُ في الجبان شجاعة وتجعلُ نفوس الأطفال والنساء

مفلوذةً , فماذا تزيدنا اليمين في إقدامنا؟ وأيُّ الروابط تفضلُ رابطة كلمة خرجت من أفواه رومانيين يكتمون السرَّ ولا يمارون؟ وما اليمين لقوم كرام تعاهدوا على تنفيذ أمرِهم أو تركه ملطخاً بدمائهم؟ دعوا الأقسام للكهنة , للجبناء , للمنافقين , للجثث الزائلة ولنفوسٍ تقبلُ الضيمَ وتصبرُ على الأذى. أن الذين يُشكُّ في أقوالهم يُقسمون , ليحملوا الناس على تصديق أغراضهم الباطلة. أما أنتم فأعيذكم من أن تدنّسوا عِرضَ غرضنا أو تكبحوا جماح نفوسنا بقَسَم تظنونهُ لازماً. إن دماءَكم التي تجري في عروقكم - على شرف محتدها - لتصبح أسفل من دم اللقطاء إن حنث أحدكم بحرف من كلمة خرجت من أفواهكم. كاسيوس - ما قولك بشيشرون. أنعجمُ عودَه؟ أظنهُ يؤيدنا بقوَّة. كاسكا - لا نتركه سنّا - لا نتركه أبداً متلّوس - لنشركنّهُ معنا. إن شعره الفض لأكبرُ مبرّرٍ لعملنا في أعين الناس ولأعظم داعٍ لثقتهم بنا , فيقولون أن حكمهُ الصائبَ قد سدَّد أيدينا. ولا يظهرُ علينا شيءٌ من مظاهر نَزَق الشباب بل تُدفن كلها في عظيم رصانتهِ ورزانتهِ. بروتوس - لا تذكروا اسمهُ. إننا لن نطارحهُ الأمر. فهو لا يتبع أحداً ابتدأ عملاً قبلهُ. كاسيوس - فلندعهُ وشأنهُ كاسكا - حقاً إنهُ لا يصلح لشيء ديسيوس - ألا يُمسُّ أحد بسوءٍ خلاف قيصر؟ كاسيوس - أصبتَ المحزَّ يا ديسيوس. فلا يليق بأنطونيوس محبوب قيصر أن يعيش بعده. إن تركناه نلقَ منهُ محرّكاً للفتنة يَقِظاً. وقد تمتدُّ يده إلى الإساءة إلينا إن هو أحسنَ إدارة ما لديهِ من الواسطة السيئة. فلنمنعنهُ من ذلك , وليسقط مع قيصر!

بروتوس - إذا نحن قطعنا الرأس وألحقنا بهِ الأعضاء ظهرت أعمالنا بمظهر دمويّ لا يليق. ويكون مثَلُنا مثل المتشفّي يشوّه فريسته بعد قتلها. فإن أنطونيوس ليس إلاّ عضواً من أعضاء قيصر. . أي كاسيوس! لنكن فدائيين لا جزارين. إننا نناهض روح قيصر , ولا دم للأرواح. ليتنا نستطيع أن نبطش بروح قيصر ولا نمس جسده. يا للأسف! لا بدَّ لدم قيصر إن يسيل. إذن فلنقتلنه شجعان لا حاقدين ولا منتقمين. لنجعلنه ذبيحةً تليق بالآلهة , لا جثةً تقطع وتُرمى للكلاب. ليكن عملنا السادة الدهاة يدفعون عبيدهم إلى الغضب ثم يعنفونهم على ذاك الاندفاع. بمثل هذا تظهر فعلتنا للجمهور لازمة لازبة , لا حاقدة غائرة , فندعي مطهرّين لا سفاحين. دع انطونيوس من فكرك. أنهُ لا يستطيع أن يعمل أكثر مما تعمله يد قيصر بعد أن يقع رأسه عنه. كاسيوس - ولكنني أخافهُ. فإن محبته لقيصر. . . . بروتوس - مقاطعاً دعه من فكرك أيها الطيب كاسيوس. إن كان يحب قيصر فماله إلاّ أن يموت حزناً عليه. وليس الأمر بالهين ف نهُ مغرم بالتنزه والطيش والمغازلة. تريبونيوس - لا خوف منه. لا تقتلوه فإنهُ سيعيش ويضحك من هذا الأمر تدق الساعة. بروتوس - اسكتوا عدوا دقات الساعة كاسيوس - دقت الساعة ثلاثاً ترينونيوس - حان وقت الذهاب كاسيوس - على أننا لا نزال في شك من خروج قيصر من بيته اليوم. فلقد أصبح متطيراً متشائماً , إذا سمعته لا تظنهُ ذلك الرجل الذي لم يكن ليعبأ بالأوهام والأحلام والتقاليد الدينية. فقد لا يأتي اليوم إلى الكابيتول لسبب مظاهر هذا الليل غير العادية ولأقول المنجمين الذين يحيطون بهِ.

ديسيوس - لا تخشَ هذا الأمر. فأنا أثينه عن عزمه إذا صمَّم على البقاء في منزله. إنه يبتهجُ إذ يسمعني أقول له: إن الشجر يُسلّمُ وحيد القرن إلى الهلاك كذلك الدببة فإنهم يصطادونها بالزجاج , والفيلة بحفر الأحافير , والشباك تنصبُ لاقتناص الأسود , أمّا ابن فيؤخذ بالتملّق فإذا قلتُ له أنك تكره المملقين , يجيبني نعم أكرههم. وهو بهذا القول يكون قد خضع للتملق كل الخضوع. دعوني أتمم عملي فإني أعرف كيف استميله وآتي بهِ إلى الكابيتول. كاسيوس - لا إننا نذهب كلنا ونأتي به بروتوس - ولتكن الساعة الثامنة غاية موعدنا سنّا - نعم ولا تتأخروا سمبر - أن ليجاريوس يكرهُ قيصرَ , فقد وبّخه هذا مرة إذ سمعه يطري بومباي. أعجبُ كيف لم تفتكروا به. بروتوس - اذهبْ إليه الآن. إني قد أحسنتُ إليه فهو يحبني. أرسله إليّ فأكيفه كاسيوس - لقد هجم علينا الصباح. بروتوس , ها نحن تاركوك. تفرقوا أيها الأخوان. اذكروا ما قلتموه , وكونوا أبناء رومه الصادقين. بروتوس - أيها السادة الأخيار. إبسموا واطربوا. ولتخفي وجوهكم نيّاتكم. ولنظهر بمظهر الممثلين الرومانيين مالكين قياد أنفسنا وواثقين منها. طاب ليلكم جميعاً. يخرج الجميع عدا بروتوس. ينادي الخادم أي لوسيوس. يا غلام! لنفسه نومه عميق. لا بأس. تمتع بندي النوم اللذيذ. إنك لا تحلم ولا ترى أشباحاً وخيالات تملأ رؤوس الرجال بعيدي الهمّ , لذلك تنام نوماً عميقاً تدخل إمرأته بورسيا

بورسيا - بروتوس! مولاي! بروتوس - بورسيا! ما هذا؟ ولِمَ تبكرين في القيام. ليس لمزاجك الضعيف أن يتعرّض لبرد الصباح ورطوبته. بورسيا - ولا لمزاجك أنت أيضاً , إنكَ قد انسللتَ من فراشي انسلالاً. والبارحة على العشاء نهضت فجأة وأخذت تتمشي ويداك ورآء ظهرك تتنهدُ وتشكو. عندما سألتك السببَ نظرتَ إليّ مغضباً , فأعدتُ السؤال عليك فحككت رأسك وضربت الأرض برجلك , فألححتُ ولم تنثن عزيمتي , فأشرت بيدك إليَّ أن انصرفي , فانصرفت طائعة مخافة أن أزيد في قلقك المتقد راجيةً أن يكون الأمر انزعاجاً خفيفاً قد يطرأ على جميع الناس , ولكنه قد حرمك الأكل والكلام والنوم وتمكن منك حتى لو كان أثره في جسمك مثلما هو في عقلك لغابتْ عني معرفتك أي مولاي دعني أعرف سبب حزنك. بروتوس - إني منحرف المزاج قليلاً. هذا كل ما في الأمر. بورسيا - إن بروتوس لعاقل حكيم. لو كان يشكو الدآء في صحته لتوَّقي أسبابه. بروتوس - هذا ما أفعله. اذهبي إلى فراشكِ أيتها العزيزة. بورسيا - أمريض بروتوس؟ أمن دواعي الاستشفاء أن تنهضَ مفكوك الإزار تمتصُّ رطوبة الصباح؟ أمريضٌ بروتوس إذ يهربُ خلسة من فراشه الطيب لملاقاة عدوى الليل ولاستفزاز برد الهواء وفساده إلى زيادة مرضه؟ لا يا بروتوس! إن علتك هنا في الرأس , لي بحقّ الزوجية أن أعرفَ ماهيتها. . إني أجثو لديك واستنجدُ ماضي جمالي علّهُ يستهويك. بل أستعين عليك بعهود حبّك وبميثاق عظيمٍ جعلنا جسداً واحداً إلاّ كشفت لي ضميرك وقلت لي - لمن هي مقام النصف منك - في مقام نفسك - ما سبب وجومك؟ ومن الذي لجأ إليك هذه الليلة. فإني رأيت رهطاً يخفون وجوههم حتى عن الظلام.

بروتوس - لا تركعي يا بورسيا اللطيفة! بورسيا - ما كنت لأركع لو كنتَ بروتوس اللطيف. أي بروتوس. أمحظور عليَّ في عرف عهود الزوجية أن اطّلع على سرّك؟ أأكون وإياك واحداً في بعض الأمور ولا! كونه في الأخرى؟ أقُسمَ لي الاكتفاء بمنادمتك على الطعام وتسليتك عند المنام والتحدّث معك في بعض الأحايين؟ أأسكن في ضواحي كيفك أم في وسط قلبهِ؟ إن كانت تلك قسمتي منك فما أنا بحليلتك بل خليلتك. بروتوس - أنتِ زوجتي الشريفة الصادقة , أعزُّ إليَّ من تلك النقط الحمراء التي تطرق قلبي الحزين. بورسيا - إن كان حقاً ما تقول فقد حقَّ لي أن أعرف سرّك. نعم أنا امرأة ولكني امرأة اختارها بروتوس زوجةً له. نعم أنا امرأة ولكني أرضيك عند الحسب فأنا ابنة كاتو أوَ لا تظنني أقوى بنات جنسي وقد انتسبت لمثل ذاك الأب واقترنت بمثل هذا الزوج؟ أطلعني على أفكارك. إني لا أبوح بها. أما علمت مقدار ثباتي إذ طعنت نفسي مرةً بخنجر في فخذي؟ أأحتمل بصبر تلك الطعنة ولا احتمل أسرار بعلي؟ بروتوس - ايه أيتها الآلهة. اجعلني كفوءًا لهذه المرأة النبيلة يُقرع الباب اسمعي اسمعي. الباب يُقرع. اذهبي الآن وستعلمين عما قليل ما انطوى عليهِ قلبي. سأقرأ لكِ كتاب حزن وجهي فتطّلعين على كل دخائلي وأسراري. عجلي بالخروج تخرج بورسيا لوسيوس! من الطارق؟ يدخل لوسيوس ومعه ليجاريوس. لوسيوس - هنا رجلٌ مريض يودُّ أن يشافهك بروتوس - لنفسه هذا ليجاريوس الذي أشار إليهِ سمبر. للخادم قف

ناحية يا غلام. كيفَ أنتَ يا ليجاريوس؟ ليجاريوس - تقبَّل تحيةً طيبة من لسان ضعيف بروتوس - تعساً لميعاد ضربتهُ للاعتصاب بهذه العمة. ليتك لم تكن مريضاً ليجاريوس - لستُ بالمريض إذا دعاني بروتوس إلى مواقف النُبل بروتوس - لو كنتَ صحيح الأذن التي تثني لها ركبُ الرومانيين! ها قد اقتلعتُ مرضي مني ينزع عصبته عن رأسهِ أيْ حياة رومه. أيها الأسد الخارج من صُلب الشرف إنك كالساحر عزَّمتَ فأخرجتَ شيطان مرضي مني. إني الآن أسابق المستحيل فأسبقهُ إن أنتَ أمرتني. ما العمل؟ بروتوس - عملٌ يجعل المرضى أصحاء ليجاريوس - أو لا نجعل بعض الأصحاء مرضى؟ بروتوس - نعم. سنفعل ذلك. سأكشف لك الأمر في الطريق وأنبئك عمن أشير إليه ليجاريوس - أُخطُ أمامي فأثب وراءك بقلبٍ من نار أجري إلى ما لستُ أعلمهُ راضياً بأنك قائدي. أنا سهمٌ من سهامك , ارمِ بي حيث تشاء بروتوس - إذن اتبعني يخرجان المشهد الثاني بيت قيصر. برقٌ ورعد يدخل قيصر بثبات النوم قيصر - ما سكنت السماء ولا استراحت الأرض في هذا الليل. لقد صاحت كالبورنيا في نومها ثلاثاً إليَّ. هوَّاه. إنهم يقتلون قيصر مَن بالباب؟ يدخل الخادم

الخادم - مولاي! قيصر - اذهب إلى الكهنة , وابلغهم أمري , يذبحون في الحال قرابينهم ويتكهنون. الخادم - سأفعل يا مولاي تدخل كالبورنيا كالبورنيا - ما قصدك قيصر؟ أتفكر في الخروج من منزلك؟ ما أنت بخارج منهُ اليوم. قيصر - أما قيصر فسيخرج. لا تقدر الأشياء التي تتهددني أن تنظر إليَّ وجهاً لوجه بل تدور من ورائي. فإذا ما لفتُّ إليها وجهي اضمحلَّت كالبورنيا - قيصر! إني لم أهتمّ بالخرافات والأوهام قط. أما الآن فإنها تخيفني. . في الدار رجل روى لنا عن أحد حرَّاس البلد ما تقشعر منهُ الأبدان هذا فضلاً عما سمعناه ورأيناه نحن: لبوةٌ تزأر في الأسواق. قبورٌ انشقت وقذفت بموتها خارجاً. جنودٌ نارية مرعبة تصفُّ صفوفها صفَّ القتال تتحارب بين السحب ودماؤها تتساقط على الكابيتول تمرُّ في الأزقة تولولُ وتعوّلُ تعويلاً. إيهٍ قيصر. ليست هذه الأمور بالعادية. إنها لتخيفني قيصر - لا مردَّ لما قدَّرته الآلهة تقديراً. إن قيصر لذاهب اليوم. فما هذه النذُر بمرسلةٍ له بل قد تكون مرسلةً كله كالبورنيا - لا نيازك تُرى عند موت السوقة. أما الأمراء فالسموات تسطع موتهم تسطيعاً. قيصر - الجبان يموت مراراً قبل موته أما الشجاع فميتة واحدة. أغرب ما سمعت من الغرائب خوف الإنسان من أجله وهو ضربة لازب تجيء عندما تجيء.

يرجع الخادم فيخاطبه قيصر قائلاً: ما قال الكهنة المنجمون؟ الخادم - إنهم يتمنون لك ألاَّ تبرح منزلك اليوم. فقد شقوا أحشاء الذبيحة فلم يجدوا فيها قلباً. قيصر - إن الآلهة تفعل هذا حياءٌ من الجبن. لو أقام قيصر اليوم في صحن بيته خوفاً لكان بالحق وحشاً لا قلب له. لا. قيصر لا يقيم. الأخطار تعلم حق العلم أن قيصر أشدُّ منها خطراً. نحن أسدان وُلدنا في يوم واحد. أنا أكبرهما وأشدهما رعباً. إن قيصر لذاهب. كالبورنيا - وأسفاه يا مولاي. إن حسن ظنك يبتلع حكمتك وتعقلك. لا تخرج اليوم. قل إن مخاوفي جعلتك تلبث في بيتك لا خوفك. لنبعث بانطونيوس رسولاً إلى مجلس الشيوخ يحمل نبأ انحراف مزاجك. دعني - وأنا على ركبتيَّ - أفز بهذه الأمنية. قيصر - سأمكث إكراماً لكِ. وسيقول لهم انطونيوس إني مريض. يدخل ديسيوس ها ديسيوس. دعه يحمل إليهم الخبر ديسيوس - السلام قيصر. سَعُدَ صباحك. إني أتيت أدعوك إلى مجلس الشيوخ. قيصر - طاب قدومك. أحمل سلامي إلى الأعيان وقل لهم إني لا أريد أن أذهب اليوم. . . لو قلتُ لا أستطيع لكان قولي كذباً أو قلت لا أجسر لكان القول أكذب. . . إني لا أريد أن أذهب. هكذا تقول لهم. كالبورنيا - قلْ إنه مريض. قيصر - أو يكذبُ قيصر؟ أأمدُّ يدي فأتناول النصر والفتح من بعيد وأخشى الحق أقوله لذقون بيضاؤ. ديسيوس! اذهب وقل لهم أن قيصر لا يريد أن يجيء ديسيوس - أي قيصر عظيم الاقتدار! دعني أعرف لذلك سبباً مخافة أن

يضحكوا مني إذا أنا جئتهم بمثل هذا الكلام قيصر - السبب راجع إلى إرادتي. إني لا أريد أن أذهب , وكفى بهذا سبباً للأعيان. . . على أني لا أخفي عليك أنت حقيقة الأمر لأنك تحبني. ن امرأتي كالبورنيا تمسكني عن الخروج من البيت. لقد رأت في حلمها تمثالي يتفجر الدم من جوانبه كينبوع ذي مائة عين وأهلَ رومه قادمين باسمين يغسلون أيديهم بدمي. وهي تدّعي أن في هذا نذيراً بشرّ قادم مستطير. فجثت أمامي راجيةً أن أمكث في بيتي اليوم. ديسيوس - لقد ساء تأويلُ الرؤيا. إنه لحلمٌ جميلٌ مبخوت. فما تمثالك يفجّر الرومانيون الدم من جوانبه تفجيراً ويغسلون فيه أيديهم إلاَّ رمز إلى أن رومه سترضعُ منك شبابها , وإن أعاظم الرجال يتزاحمون لينالوا منك أثراً خالداً أو تذكاراً جميلاً. ذلكم تأويل حلم كالبورنيا. قيصر - لقد أحسنتَ تأويله ديسيوس - وستزداد اعتقاداً بحسن التأويل عندما أنقلُ إليك نبأً آخر: إن المجلس قد أجمع أمرهم على أن يقدموا لك التاج اليوم! فإذا لم تذهب الآن قد يتغير إقرارهم في الغد. ومن يضمن لنا الخلاص من سخرية ساخر يقول فضّوا المجلس إلى تتناوب امرأة قيصر أحلامٌ أخرى. أولاً يهمس الهامسون بأن قيصر قد خاف. عفوك قيصر! إني أنطق بلسان حبي الشديد لك. فهو ينطقني بالحكمة قيصر - لكالبورنيا ما أضلَّ مخاوفكِ يا كالبورنيا. إني أخجل من نفسي عندما أرى كيف أنقذتُ إليكِ. إيتيني بردائي. أنا ذاهب. يدخل بوبليوس وبروتوس وليجاريوس ومتلوس وكاسكا وتريبوتيوس وسنا. ها بوبليوس آتٍ ليأخذني. بوبليوس - طاب يومك قيصر!

قيصر - أهلاً بك يا بوبليوس! بروتوس , مرحباً بك أمبكرٌ أنت أيضاً بالقيام؟ طاب يومك كاسكا. وأنتَ ليجاربوس. أنت مريض؟ إن مرضك الذي أهزلك لأشد عداوة لك مني! كم الساعة؟ برزتوس - أشكر لكم أيها السادة تلطفكم واجهادكم أنفسكم بالمجيء يدخل أنطونيوس وها أنطونيوس الذي يقضي لياليه سامراً قد جاءنا مبكراً. سعدتْ أوقاتك يا أنطونيوس أنطونيوس - ولقيصر الشريف أسعدُ الأوقات قيصر - دعهم يهيئوا لي ثيابي! إني لحقيق باللوم إذ أجعل هؤلاء السادة ينتظرون. مرحباً كاسكا. مرحباً متلوس وأنتَ تريونيوس لي حديث ساعة معك اليوم. كن قريباً فلا أنسى. تريبونيوس - سأكون بقربك. لنفسه نعم سأقرب قرباً يودُّ أصدقاؤك لو كان بُعداً قيصر - ادخلوا أيها الأصدقاء , نذوق معاً شيئاً من الخمر ثم نذهب معاً كإخوان الصفاء يخرجون جميعهم المشهد الثالث شارع قرب الكابيتول يدخل ارتمييدوروس يقرأ ورقة ارتمييدوروس - قارئاً قيصر احذر بروتوس. توقَّ كاسيوس. لا تقرب كاسكا. ضع عينك على سنَّا. لا تثق بتريبونيوس. الحظ سمبر. برتوس لا يحبك. إنك قد أغضبت ليجاريوس. كلُّ هؤلاء مجمعون رأيهم على اردائك. إذا كنت إنساناً غير خالد لنفسك. الاستسلام مدعاة الفتنة. لتحرسك الآلهة القديرة محبك ارتمييدوروس

سأقف هنا حتى يمرّ قيصر فأعطيه هذه الورقة على شكل عرض تظلّم. نفسي حزينة على فضيلة لا تستطيع البقاء في وجه منافسة حاسدة تحرق الأرمّ. أي قيصر إن أنت قرأت هذه الورقة سلمت. وإلاّ فتكون الأقدار قد اتخذت من الخونة ساعداً وعضداً يخرج المشهد الرابع قسم آخر من نفس الشارع أمام بيت برتوس تدخل بورسي والخادم لوسيوس بورسيا - يا غلام. ألم تذهبْ بعد؟ ركضاً إلى مجلس الأعيان! اذهب ما لك واقفاً لوسيوس - لأعلم بما تأمرينني أيتها السيدة بورسيا - ليتك تستطيع الذهاب والرجوع بأسرع مما أمرك بذلك. لنفسها تشدّدي عزيمتي! وأقيمي لي جبلاً حاجزاً بين ضميري ولساني. إن لي قلب رجل وقوّة امرأة أن تكتم سرّها. للخادم ألا تزال واقفاً أمامي؟ لوسيوس - ما مهمتي يا مولاتي؟ أأركض إلى الكابيتول وأرجع إليك؟ أليس عليَّ واجبٌ آخر؟ بورسيا - بلى اذهب وانظر أمعافى مولاك فإنه خرج متألماً. خذ بالك مما يفعله قيصر ومن الناس الذين يقتربون منه. اسمع اسمع يا غلام! ما هذا الصوت؟ لوسيوس - إني لا أسمع شيئاً أيتها السيدة بورسيا - أصغ أصغ جيداً. إني سمعتُ ضجيجاً كضجيج عراك تحمله الريح من ناحية الكابيتول

لوسيوس - بالحقّ يا مولاتي لم أسمع شيئاً يدخل المنجم بورسيا - للمنجم تعال يا إنسان. من أين أنت قادنٌ؟ المنجم - من بيتي أيتها السيدة الصالحة بورسيا - كم الساعة؟ المنجم - التاسعة تقريباً أيتها السيدة بورسيا - هل وصل قيصر إلى الكابيتول أم لم يصل بعد؟ المنجم - لم يصل بعد. وأنا ذاهب لأقف فأراه مارّاً في سبيله إلى الكابيتول بورسيا - إن لديك أمراً تعرضه على قيصر. أليس كذلك؟ قل المنجم - نعم أيتها السيدة لي ما أعرضه عليه. فإذا أحسن إلى نفسه وأعارني أذنه أوصيته بأن يطاط لأمره بورسيا - ولماذا؟ هل تعلم بخطر يتهدده؟ المنجم - إني لا أجزم بوقوع الخطر ولكني أخشى حدوثه. سعدت أوقاتكِ. هنا الشارع ضيق والجمع الذي يلحق بقيصر مؤلف من أعيان وقضاة وذوي مطالب شتى يتكاثفون فيزحمون رجلاً ضعيفاً مثلي. وقد يقتلونهُ. سأذهب إلى مكان أفسح من هذا أعارض قيصر في السبيل وأكمله يخرج بورسيا - يجب أن أدخل إلى غرفتي. ويلٌ لي , ما أضعف قلب المرأة. لتُنجحِ السموات مقاصدك يا بروتوس! آه لقد سعني الخادم تقول ما يأتي لتحوّل ذهن الخادم عن الجملة الأولى فيما لو كان قد سمعها أن لبروتوس طلباً لا يستحيبه إليهِ قيصر. يكاد يُغمى عليَّ. اذهب يا غلام إلى مولاك واقرأ سلامي. قل له إني مشروحة الصدر لا أشكو ألماً ثم ارجع إليَّ وأنبئني بما يجيبك بهِ تخرج ثم يتبعها الخادم تم الفصل الثاني

العدد 29

العدد 29 - بتاريخ: 1 - 12 - 1912 البلقان والحرب ليس في الآونة الحاضرة من لا يهتم للحرب المنتشبة بين العثمانيين والبلقانيين فالناس في كل مكان على اختلاف طبقاتهم ولغاتهم وأجناسهم يتهافتون على الأنباء الواردة من ميادين القتال تهافتاً عظيماً جداً. لذلك أنشأنا الفصل التالي وهو مجمل ما طالعناه في المجلات والمؤلفات الإفرنجية وخلاصة جامعة عن هذه الحرب ومقدماتها وسياسة البلقانيين فيها وتكهن الساسة الأوروبيين عن عقباها لعلّ في ذلك كله فائدة لقراء الزهور. الولايات العثمانية الأوروبية وسكانها - للحكومة العثمانية في أوروبا ست ولايات خلا الآستانة وضواحيها. وهي: سالونيك , وموناستر , وأدِرْنَه , واشقودره , وقوصه , ويانيا. ويُطلق الجغرافيون عليها جميعها اسم مكدونيا وإن لم تشمل هذه التسمية في الحقيقة البلاد الألبانية. أما عدد سكان هذه الولايات فلم يحصَ إحصاءً دقيقاً لكثرة التباين في الأغراض والنزعات الجنسية والسياسية والدينية. ولكنَّ المأثور أنه لا يتجاوز خمسة ملايين ونصف مليون يضاف إليهم عدد سكان الآستانة وملحقاتها فيبلغ المجموع على التقريب ستة ملايين ونيّف. وهم أخلاط من السلافيين والترك واليونانيين والألبانيين. وأما عددهم بالنسبة إلى الجنس

أو الدين فالمشهور أن الألبانيين يعدون 1. 500. 000 , واليونانيين يدّعون أنهم يبلغون 2. 000. 000 في حين أنهم لا يتجاوزون مليوناً ونصف مليون في نظر سواهم. ويقول المسيحيون أن عدد المسلمين 1. 500. 000 فقط. وتقول غايت دي فرنكفورت الألمانية أن الإسرائيليين يبلغون 190. 000 , والفلاخيين الرومانيين 100. 000 والبلغاريين 700. 000 والسربيين 700. 000 أيضاً. ولكن الحقيقة غير ذلك فالجريدة المذكورة أنقصت في عدد البلغاريين والسربيين عملاً بإشارة البارون مرشال بيبرشتين المتوفي منذ عهد قريب والذي كان سفيراً لألمانيا في الآستانة ثم سفيراً لها في لندن إذ كان عدوّاً لدوداً للعنصر السلافي. ولعل حقيقة عدد البلغاريين في مكدونيا يزيد عن المليون. وكذلك السربيون فلا ريب في إنهم يعدّون أكثر من مليون أيضاً. وقد اختلف الباحثون في نسبة البلغاريين والسربيين إلأى العنصر السلافي فلم يتبينوا الحقيقة حتى كانت معاهدة برلين في سنة 1878 إذ انضمَّ على أثرها كلُّ جنس إلى جنسه وكل قطيع إلى حظيرتهِ. معاهدة برلين والبلقان - قضى البند الثالث والعشرون من معاهدة برلين المشهورة بأن يكون لمكدونيا نوع من الاستقلال الإرداي يضمن حقوق المسيحيين من أهاليها تحت سيطرة الحكومة العثمانية ومشارفتها. غير أن الباب العالي سوَّف المكدونيين كثيراً تنفيذ ما تضمنهُ هذا البند , ولم يكترث قط لالحاح دول البلقان عليهِ في ذلك. فأخذت هذه الدول حينئذ بإثارة رأي الأهالي على الآستانة مستعينة بنفوذها في

مكدونيا ورغبة المسيحيين في الاستقلال؛ فبلغاريا , كانت تحرّض البلغاريين , واليويانيين , والسرب السربيين , حتى أصبحت البلاد ميداناً للدسائس , وأمست جبالها معتصماً للثوار وغاباتها ملجأً للصوص , وقُراها عرضة للنهب والحريق , وبات أهلها أعداءً بعضهم لبعض فانتشرت الفوضى , وعمَّ الخوف , وتعاظمت الويلات والشرور. وإنما أتت دول البلقات كل هذا إقلاقاً للحكومة العثمانية , وعرقلةً لسياستها في مكدونيا لأنها كانت ترمي من وراء تلك الفتن إلى ثلاث رغائب شديدة الأهمية في نظرها وهي: حمل الباب العالي على تنفيذ مضمون

البند الثالث والعشرين من معاهدة برلين , ولفت أنظار أوروبا إلى حالة المسيحيين في مكدونيا , واستمالة الشعوب المسيحية في تلك البلاد كل شعبٍ إلى الدولة التي تضمُّ إخوانهُ تحت رايتها. على أن الغاية القصوى الحقيقية لم تكن إلاَّ التربص لتركيا وتحيُّن ضعفها للاستيلاء على مكدونيا واقتسامها فتكون لكل دولةٍ حصة تُعطاها بمقدار عملها وأهميتها: فالبلغاريون العثمانيون ينضمون تحت جناحي بلغاريا , والربيون تحت لواء السرب , واليونانيون إلى اليونان. أما رومانيا التي يميل إلأيها أبناؤها الفلاخيون الرومانيون المتشتتون في مكدونيا في كل ناحية وصوب , والذين يصعب جدّاً اجتماعهم معاً في جزء واحد منها , فتعتاض من حصتها هنالك جزءاً غير يسير في ما يحاذي أملاكها من أملاك ومكافأة لها من أجل وقوفها على الحياد. وكانت بلغاريا أشد دول البلقان سعياً إلى الفوز بأمانّيها فلم تدع وسيلةً من الوسائل إلاَّ تذرَّعت بها , وساعدها إهمال الحكومة العثمانية نفسها وأغضاؤها عن مساعيها فمكَّنت محبتها من نفوس البلغاريين العثمانيين بما كانت تبديه لهم المدارس وعمَّمتها في قراهم حتى لقد بلغ مجموع المعلمين الذين يبثون روحها بين الأهالي نحواً من أربعة آلاف معلم لخمسين ألف تلميذ بلغاري عثماني. ولم تكتفِ بذلك كلهِ فأوعزت إلى شباب بلغاري نبيه يدعى يوسف تعلَّم في باريس ونال شهادة دكتور في الحقوق بأن ينصرف عن المحاماة وينتظم في

سلك الاكليروس. وما زالت ترقّيه بسرعة حتى عيّن اكسرخوساً للبلغاريين فكان موضع ثقة دولته بما أظهره من الكفاءَة والحذق والدهاء فبثَّ الروح البلغارية في نفوس رعيته ونشّأ الشعب على التعصب لقوميته وعلَّمه أن بلغاريا إنما هي أمه الحقيقية وأما تركيا فعدوَّتهُ اللدودة. ولما تمادت العصابات المكدونية في غيّها وشرورها وقابلها العثمانيون بالمثل , وأصبحت مكدونيا من أقصاها إلى أقصاها مسرحاً تمثّل عليه الفظائع , وتلعب فيه كرات الديناميت , ويتطاير فوقه رصاص البنادق تململت أوروبا في نومها وفتحت عينيها على تلك البلاد , وأصاخت بمسمعها إلى استغاثة البلقان بها فأقدمت حينئذٍ على العمل وسعت حتى أنشأت في سنة 1903 رقابةً أجنبية على إدارة تلك البلاد.

الرقابة الأجنبية - تألفت هذه الرقابة في البدء من مفتش عثماني ومندوَبين أحدهما روسي والآخر نمساوي , ومن ضابطين أوروبيين قُصرت مهمتهما على مشارفة الأمن العام إذ رضيَ الباب العالي بانتظامها في الجندرمة المكدونية من أجل هذه الغاية. وكان حسين حلمي باشا الذي وليَ الصدارة في عهد الدستور المندوبَ العثماني في الجنة السالف ذكرها. فلما كانت سنة 1905 رأى المندبون شدة الحاجة إلى توسيع اختصاص الرقابة فتألفت حينئذٍ لجنة خاصة لتنظيم الشؤون المالية. ثم رمَت روسيا والنمسا في أواخر سنة 1907 إلى إنشاء نظام خاص بالقضاء فلم تفلحا. وحدث بعد شهور أن ملك انكلترا وإمبراطور روسيا تلاقيا ملاقاتهما المشهورةة في ريفال واتفقنا على المسئلة المكدونية. فهاج اتفاقهما رأي أحرار الضباط العثمانيين فأرغموا السلطان عبد الحميد على نشر الحكم الدستوري ففعل , وهدأ بال أوروبا والبلقان حيناً من الدهر. وكان إعلان الدستور في تركيا بعد تلاقي الملكين في ريفال بخمسة وأربعين يوماً فقط مؤبداً لقول نيازي بك في خواطره عن الثورة العثمانية: لولا اجتماع ريفال لم يُعلن الدستور العثماني في سنة 1908. عهد الدستور - وكان في مكدونيا على أثر الثورة العثمانية وفوز الأحرار العثمانيين ما كان في جميع السلطنة فإن الشعب تناسي لأول وهلة أغراضه ومنازعاته حبّاً بالدستور؛ فتصافح المسلم والمسيحي , وتراضي الأرمني والكردي , وتفاهم التركي والعربي. غير أن تلك العواطف الشريفة كانت أشبه بشغلة القش لم تتقد حتى عاجلها الخمود فانطفأت

وتحولت إلى رماد ثم تبددت ذراتها في الهواء. وأصاب أوروبا من الدستور ما أصاب العثمانيين أنفسهم منهُ فرضيت بإلغاء الرقابة الأجنبية من مكدونيا مقتنعة بأن العهد الجديد في تركيا يعوّضها منها خيراً لأن الدستور من شأنه أن يساوي بين الرعية ويهبها الحرّية والعدل. غير أن السياسة العثمانية التي ساسها الاتحاديون لم تُرضِ دوَل البلقان وأسخطت عليها المسيحيين في مكدونيا وهم الأكثرية العظمى هنالك فعادت الحالة إلى شبه ما كانت عليهِ من قبل ورجعت العصابات الثورية إلى أعمالها وشرورها كما كانت أبَّان سلطنة عبد الحميد. وما برحت مكدونيا قلقةً مضطربةً حتى أواخر ستة 1910 فاختلَّ الأمن كثيراً , وعاد البلغاريون إلى أوروبا يستنجدونها ويستحثونها على العمل

الصحيح. أما الحكومة العثمانية الاتحادية فلم تكن تعبأ بمساعي هذه الدوَل الصغيرة لأنها كانت تعتقد باستحالة اتفاقهنَّ على العمل معاً. وما كان أشد دهشتها حين رأت بلغاريا تصافح اليونان , واليونان , واليونان السرب , والسرب الجبل الأسود , بعد أن كان اليونانيون أعدى أعداء البلغاريين , والسربيين أنداد الجبليين. فكان انفرادها أمام دوَل أربع متحدة تناوئها وتتطلَّبنَ خذلها وفشلها دافعاً لها إلى الاتفاق مع رومانيا ولكنها لم تنجح لأن بلغاريا أفهمت جارتها أن تقف على الحياد فتنال ما تطمع بنيله بدون أن تسفك نقطة دم أو تبذل قبضةً واحدة من المال. ولما تمَ لهذه الدوَل هذا الأمر اتفقنَ فيما بينهنَّ الاتفاق الذي ولَد الحرب الحاضرة. الحرب - نكتب هذه السطور والبلغاريون على بضعة عشر كيلومتراً من الآستانة , وأدرنه مطوقة بالجنود ومضيَّق عليها الخناق , ومشدودون في حصارها , والطريق قد خلت لليونانيين فتمشوا إلى سالونيك واحتلوها على أهون سبيل , والعثمانيون واقفون في شطلجه معتصمين بحصونها ومحتمين بقنابل الأسطول على شواطئ البحرين بحر مرمره والبحر الأسود , والوباء يفتك فتكاً ذريعاً بالعسكرين العثماني والبلغاري , والقتلى يُعدُّون كالجرحى بعشرات الألوف , وليس في بلغاريا والسرب

والجبل الأسود واليونان غير الشيوخ العجَّز , والنساء الضعيفات والأطفال الرُضَّع , وقد اكتظت قصور الآستانة وجوامعها ومستشفياتها بالمصابين من العساكر , والمنكوبين من الأهالي يشكون الجوع والعري , ويتلمَّسون القوت , ويرُّون من البرد , ويئنون من الأوجاع , وعلى طرُق بلاد الأناضول عشرات الألوف من المساكين نبذتهم بلدانهم , فتشتتوا في القفار لا منازل تؤاويهم , ولا قوت يشبعهم ولا غياث لهم من غير السماء؛ وجرائد العالم تحمل إلينا أنباء هذه الفظائع , وتقص علينا أخبارها المؤلمة حتى لنكاد نسمع بآذاننا دويّ البارود , وأزيز الرصاص , وصليل السيوف , وأنين الجرحى , وحشرجة النفوس , ونبصر بعيوننا مجاري الدماء , وتراكم الجثث , ونلمس بأيدينا فقر الفقراء , وبؤس البؤساء , فما

نجيء على هذا أو بعضه حتى يعرض لنا خبر ينسينا فظائع ما قرأنا من قبل كأن يقف بنا الكاتب أمام عانةٍ من الذئاب تفترس أشلاء القتلى بل قد تصيب جريحاً منسياً فتنشب أنيابها فيهِ وهو لا يجد بعض القوة ليدفعها عنهُ , أو قبالة مئات من الغربان والعقبان والثعالب وبنات آوى يتألبن على الجثث , وينقرنَ الصدور , ويبقرنَ البطون , بل قد يقعنَ أيضاً على الأحياء في النزع الأخير فيمثّلن بهم تمثيلهنَّ بالموتى , ثم ينقل إلينا البرق مختصر الآراء , وملخص السياسة , وموجز الأنباء عن التحام الجيوش وتفانيها في القتال فنكاد لا نعي من الصباح إلى المساء غير أخبار الحرب , وأحاديث الطعن والضرب. تلك هي الحرب اليوم فواهاً لها من صورة للمدنية في القرن العشرين!! وتلك هي عاقبة السياسة التي يسمونها سياسة تنازع البقاء!. قوتل الإنسان ما أكفره!! عقبى الحرب - قد تنتهي هذه المجازر البشرية عن قريب فإذا ختمت بفشل العثمانيين أضاعت الدولة التركية أملاكها في أوروبا وفقدت بفقدها نحواً من ستة ملايين نفس من رعاياها , وإذا تمَّ لها الفوز أو بعضه قبل أن تضع الحرب أوزارها كانت الخسارة أقلّ والأضرار اللاحقة بها أخف غير أن انتصار الدول البلقانية المتحدة سيؤدي على الأرجح إلى مشكلةٍ كبرى بينهنَّ تكون عقدتها في كيفية اقتسام البلدان المكتسبة لهنَّ. وقد ظهرت بوادر هذه الأشكال من خلال احتلال اليونانيين لسلانيك ومصادرتهم دخول البلغاريين إليها , ومن سياسة السرب مع الألبانيين

جمال الدين الأفغاني

وإصرارها على امتلاك ميناء على بحر الأدرياتيك ومقاومة النمسا لها , ومن إلحاح رومانيا بتوسيع منطقتها في أملاك بلغاريا حتى ثغر فارنه على البحر الأسود أيضاً جزاء وقوفها على الحياد ورغبة هذه في التنازل لها عن بعض أجزائها من الجهة الأخرى فقط وهلمَّ جرّاً , أما الأيام فستكشف ما انطوى وإن غداً لناظره قريب. جمال الدين الأفغاني في نظر الدكتور شبلي شميّل يشتغل الدكتور شميل في هذه الأثناء بوضع كتاب كبير عنوانه حوادث وخواطر أو هو مجموعة مذكراته كما بدل عليه الاسم. وقد اقتطعنا منه الفصل التالي جمال الدين الأفغاني الشهير. قال عفا الله عنه: . . . أما جمال الدين فكان من نوابغ عصره عالماً واسع الإطلاع في علوم الأقدمين وفلسفتهم ذا ذكاءٍ مفرط وأدب رائع مع شجاعة في القول لا تصدر إلاَّ عن نفوس مستقلَّة كريمة وكان ذا حديث طلي شهي لا يمل منه سامعه مع فصاحة عربية في التزام القواعد واختيار الألفاظ ولكنها ممزوجة ببعض لكنةٍ أعجمية تنمُّ عن أصله الغريب وإنما وقعها على الأذن كان محبوباً. ونظره كان جذاباً وله عينان إلى السواد غائرتان قليلاً تتقدان ذكاءٍ. وهو لم يكن يعرف لغةً من لغات الإفرنج الحافلة بالأفكار الجديدة والعلوم الحديثة ولكنهُ كان مقدرة عجيبة في التحصيل

حتى أنهُ ليستفيد منك الشيء الجديد ويصبهُ في قالب المعلوم المختمر فيه ويوهمك أنهُ معروفٌ له منذ زمان طويل. وجمال الدين لم يكتب في ما أعلم شيئاً وإنما كان يلقي على آخرين مقالات ضافية تنشر في جريدة مصر تحت أسمائهم. ولولا الشيخ محمد عبده يده الكاتبة لما كان لصوته صدى ولبقيت تعاليمه في صدور أكثر الذين تلقوها عنه وماتت معهم إذ كانت كل تعاليمه حديثاً يلقيه بحسب مقتضى الحال. فهو فيلسوف من الفلاسفة المشائين أو بالجري الرواقيين ورواقه كان رواق القهوة التي بجنب قهوة البورصة القديمة المتقدم ذكرها. ولعلَّ تلاميذه لا ينسون في مستقبل الأيام إن يحيوا ذكره بينهم في ذلك المكان. وقبل جريدة مصر كانت شهرة جمال الدين مقتصرة على الأخصاء وأعماله محصورة في دائرة مريديه وأما جريدة مصر فكانت سبباً كبيراً لإذاعة صيته ونشره في الآفاق. ولما عرَّفت أديب بجمال الدين كانت معرفتي بهذا الأخير حديثة العهد. فقد كنتُ أسمع بهِ وأنا في الإسكندرية فلما أتيتُ إلى مصر وددتُ أن أتعرَّف بهِ. وكان يتردد كثيراً على بيت حنا عيد قنصل دولة البلجيك. فلما أبديت رغبتي هذه لعيد المذكور ضرب لي موعداً للاجتماع به عنده في إحدى السهرات. ولما تعارفنا أخذنا ننتقل من حديث إلى حديث إلى أن ابتدرتهُ بالسؤال الآتي ولم يكن سبق لي كتابة أو تصريح في هذا الموضوع بعد. قلت: ما قول سيدي الشيخ لفظة الأستاذ

لم تكن قد جرت بعد على الألسنة كما هي اليوم في المعبود الأول الذي اتخذه الإنسان من بين أشياء هذا الوجود؟. وكأني لحظتُ أنه أُخذ بهذا السؤال عى غرَّة كأنه لم يخطر له ببال من قبل. فتقلقل قليلاً كأنه يريد أن يتمكن في مجلسه ولم يطل به ذلك حتى دخل في مقدمة مستفيضة أغنتهُ ومتله الصمت طويلاً وأعانتهُ على تصوير الحكم بما فسحت له من الوقت ومتله لم يكن يلزم له أكثر من ذلك لما له من سرعة الخاطر وحدَّة الذهن. ولا أذكر شيئاً من هذه المقدمة وإنما أذكر أنه

انتهى بها القول إن المعبود الأول للإنسان الأول كان يقتضي أن يكون في ثنايا الغيوم المتلبدة أو هي نفسها أما أنا فلم أكن من رأيه وكأني نظرت إلى الإنسان نظراً أعرق في الحيوانية. فاعتبرتُ الإنسان الأول لاصقاً بأرضه يتخبط في ما أمامهُ متخوفاً من كل شيء إذ كان يجهل كل شيء فاتخذ معبودة الأول من أشيائها ولم يرتفع بصره إلى ما فوق إلاَّ بعد ذلك بكثير. واعتبرت حينئذ العبادة الفتيشية أول عبادات الإنسان وجعلتها في الغابات الكثيفة ذات الشأن في الميثولوجية القديمة وفي الأشجار الكبيرة المنفردة القائمة في العراء يُستظلُّ بها من الرمضاء كما تدل عليهِ بقايا ذلك فيهِ حتى اليوم. وهذا الحكم لم يقم بي اعتباطاً من دون تفكير سابق بل قام في نفسي على أثر زيارتي لمدينة بعلبك في سنة 1870 حين رجوعي من أنطاكية وكنت قد أرسلتُ إليها في بعثة من قبل المدرسة الكلية حين كنتُ أدرس الطب لإغاثة منكوبيها في الزلزال الذي نكبت بهِ تلك المدينة في تلك السنة. وكان رفيقي في هذا السفر ذهاباً وإياباً أدورد فاندَيْك المعروف عند المصريين ابن الشهير كرنيليوس فاندَيْك صاحب الفضل الأكبر على سورية وسائر الأقطار العربية في نهضتها العلمية الحديثة. فلما وصلنا بعلبك بعد سفر أربعة عشر يوماً في مروج خصيبة يتعالى فيها الحشيش الطبيعي إلى إقامة الإنسان ولكن يد حكامها الطغاة أقحلتها وتركتها قفراء من السكان لم نشأ أن تقيم في المدينة وفضَّلنا أن نبيت ليلتنا في قلعة بعلبك نفسها وكان القمر بدراً والسماء صافية فبين الآثار الكثيرة

المتهدمة توجد أعمدة من الغرانيت ذات علوٍّ شاهق لا تزال قائمة صقّاً واحداً في ساحة منبسطة. فلما وقفتُ أمامها في ضوء القمر الصافي وفي وسط ذلك السكون الرهيب والشباب غضٌّ والعواطف شديدة التأثر شعرتُ في نفسي بتهيب من منظرها الفخم لا يزال أثره بي حتى اليوم كدت أجثو منهُ على ركبتيَّ من شدة الخشوع. فكأن هذا الشعور بي كان لي موضوعاً للتفكير بعد ذلك في أمر العبادات وإن منشأها في الإنسان إما تهيب عن إعجاب أو خوف عن ضعف. وأحرِ بالإنسان الأول اللاصق بأرضه أن يكون معبوده الأول منها على نحو ما تقدَّم. قلت أن جمال الدين كان من الفلاسفة الرواقيين أي أنهُ كان ينشر

تعاليمه في طي المحادثات الاعتيادية ولكنها كانت محادثات خلاَّبة في لذَّة المعنى وحسن الانسجام ولم يتهيأ له أن وقف خطيباً في قوم إلاَّ مرة واحدة أظهر فيها أنه خطيب مفوَّه أيضاً وكان ذلك بمسعى أديب إسحاق وفي تياترو زيزينيا على محضر من جمهور غفير من علية القوم من رجال ونساء من السوريين والمصريين. فألقى خطبة اجتماعية سياسية أبدع فيها معنى ومبنىً وجرأةً وبقي يرتجل الكلام نحو ساعتين من دون أن يبدو عليهِ أدنى تعب أو يتلعثم حتى خلب العقول وأقام الناس وأقعدهم كأنه رابطهم بسلاسل كلامه يلعب بهم كما يشاء. وقد أعجبني منه قوله فيها وهو يتكلم عن استبداد الملوك واستماتة الشعوب قال كأن الناس ليسوا شيئاً والملك هو كل شيء إن قام قاموا وإن قعد قعدوا!. ولما بلغني أن جمال الدين بعد أن نفي من مصر ببضع سنين كتب رسالةً باللغة الأفغانية في نفي مذهب الماديين ترجمها الشيخ محمد عبده إلى العربية دُهشت لعلمي بأن الرجل لم يكن من المتدينين. على أن جمال الدين كسائر الفلاسفة الأقدمين لم يكن يستطيع بمبادئة النظرية وفلسفته المجرَّدة أن يجزم جزم الطبيعيين في استنادهم إلى العلوم الحديثة اليوم فلم يكن يستطيع إلاَّ أن يكون من الشكوكيين أمثال المعرّي وأمثال فولتير الذين ينكرون الأنبياء ولكنهم يقفون مترددين في أمر الخلق هل هو حادثٌ أو قديم فيكونون تارةً من الإلهيين وطوراً من اللاأرديين لعدم تمكنهم من ضابط علميّ محسوس يضبط أحكامهم ويقوّي حجتهم في تردُّدهم اللهم إلاَّ أن يكونوا من الحصافيين النفعيين الذين يكونون في

اعتقادهم على هوى جليسهم تارةً أقرب إلى المعطلين وطوراً أقرب إلى المؤمنين أي أنهم يكونون كما وصفهم الإمام الغزالي حين قال: إن الآراء ثلاثة أقسام: رأي يشاركه فيهِ الجمهور فيما هم عليه. ورأي يكون بحسب ما يخاطب به كل سائل ومسترشد. ورأي يكون بين الإنسان ونفسه لا يطلع إلاَّ من هو شريكه في اعتقادهم اهـ ويصعب عليَّ جداً بعد اختياري الرجل بنفسي من جهة ثم سماعي عنه بعد دلك أن أبدي فيه حكماً جازماً ولكني أرجح جداً أنه لم يكن من المؤمنين. الدكتور شميل

نشيد نهر الصفا

نشيد نهر الصفا عين زحلتا قرية لطيفة يعرفها أكثر الذين اعتادوا الاصطياف في جبال لبنان؛ وألطف من القرية نفسها غابات الصنوبر التي تحيطها وأجمل من هذه وتلك منظر نهر الصفا المتدفّق عند قدم الجبل , وعلى بعد أمتار قليلة منهُ يركض نهر القاعة. كلٌّ من النهرين يسرد حكايته الأبدية على الأشجار المصغية إليهما بحللها السندسية. ويظلُّ النهران في اندفاع وشكوى , وروح الوادي تئن في أثرهما إلى أن تائم مياههما مياه البحر العظيم في الصيف المنصرم زرت عين زحلتا لأول مرة. هنا سالت صور الكون الهيولية وذابت ذرات الأثير؛ هنا اجتمعت بلابل أرفيوس لتعيد ذكرى أوريديس ذات القلب الكسير؛ هنا تنهدت العطور تنهداتها الغرامية , وتحولت الورود إلى أشعة سحرية؛ هنا اغتسل قوس القزح , فترك في الماء من ألوانه ألحاناً فضية؛ ومن دماء الأحلام المتجمدة استخرج قوس قزح ألوانه السرمدية؛ هنا بعث الأفق بأسراره إلى الأرض مع خيوط من الأثير ذهبية؛ هنا نامت الأشباح بين أجفان بنات المياه , فامتزج النور بالظلام وتلاشت اليقظة بالمنام؛ هنا ناحت حمائم الشعر , وغنَّت أطيار الأنغام؛

هنا لثمات النسيم شوقٌ وهيام؛ ومداعبة الموجة تبادلُ نظرةٍ وابتسام؛ وجمود الشاطئ حقد على فتور الليالي ومعاكسات الأيام؛ هنا ارتعاش الأوراق على الغصون تحية همت من مُقل الكواكب وسلام؛ وتمايل الأفنان ودلالها نجوى ملك الوحي والإِلهام؛ هنا ليلةُ أنوارٍ وفجرُ ظلام. وألغاز ملامسٍ وألوان وأنغام؛ حينما يمرُّ الفجر على قمم الجبال يرى صورته في هذه المرآة البلورية , يرى رمز الشبيبة مع ما يتبعها من جماهير الآمال النضرة كالأزهار , والأميال المتنقلة كالأطيار. ثم يأتي الغروب ساكباً في أعماقها كلَّ ما في أحزانه من المرارة مع ما يرافقها من النظرات المتحوّلة والابتسامات المتغيبة والجباه الكئيبة والشفاه المتحركة بالصلوات , الساكنة بالتأملات. هنا عيدان الأشجان تبكي - تبكي بقلبٍ جريح. وفي كلّ لحظةٍ يخيل أنها تُسَلِّم نَفَسَها الأخير بشهيقٍ فيهِ من اللوعة والكتمان والتجلد بقدر ما فيهِ من المجد والعظمة , من البسالة وعزة النفس الأبية. لكنّ المياه لا تموت ولا تحيا , بل تردد ذكرى الماضي , وتهمس خفية نبؤتها في المستقبل , وتُرادف أصوات الأفراح وتُعدد آهات الانراح. هنا لغزٌ من ألغاز الحياة وليلة من ليالي الزمان. وأنا لغز أمام هذا اللغز , وليلة إزاء هذه الليلة. أهيم وحيدةً على الشاطئ الحزين , أنظر ولا أرى , أسمعُ ولا أفهم , أفكّر ولا أجد , أستعلم ولا أعلم. . .

فؤادي يخفق مع فؤاد النهر الخفي , ونفسي قيثارة الأحلام والألحان. لكني لغزٌ حيٌّ تائه في ظلّ الغصون , ينظر مستفسراً إلى لغز آخر , فلا يجد فيهِ إلاَّ صورته , فيودّ تمزيقها وسحقها وإن أحبها! عند احتضار النهار ذهبتُ إلى رأس النبع وجلست على صخرةٍ قائمة في وسط المياه المتسلسلة من صدر الصخرة الكبيرة. جلست وأرواح الخيال تستنشق الأريج العطري المعانق لشعور بنات المياه. وآلهة الأهوية الأربعة يتلاعبون بدقائق الشفق سابحين على أمواج الظلام , وحول أشباحهم تلتفّ أكاليل البنفسج وقلائد الياسمين , وفي ثغورهم يلمع فتيت النجوم , بينا أبكار الشعر تسرّ لأخواتها خفايا اليأس والرجاء تحت أشجار الصنوبر , وعذارى الطرب تستخرج من عناقيد باخوس خمراً تسكر بهِ ألباب الآلهة , ومن سكر الآلهة يولد الشعراء والأنبياء. على هذه الصخرة حيث أنا أحلم ثملةً بما شرَبتهُ مشاعري من رحيق الخيال العلوي , كان يجلس الأمير بشير الشهابي الكبير. كثيرون من بعده ومن قبلي جلسوا هنا وفؤاد كلٍّ منهم منقبض تهيباً وخشوعاً أمام أنفاس الطبيعة وأصوات الخلود. ما يجول بخاطري الآن كان يجول بخاطرهم لأن الأفكار تتشابه في المصدر وفي النتيجة على رغم تعدّد شُعبها وفروعها , والرغائب الكثيرة اللاصقة في أعماق النفس البشرية هي في كل آن ومكان. جميعنا طرح على النهر السؤال الذي انثر تموجاته الآن على الأمواج

المتراكضة: هو سرّ الأسرار الغاضة الذي يردّده صدى الهياكل العميقة التي تشيدها المدارك في أقداس البشرية: من أين وإلى أين؟ من أين وإلى أين؟؟ من أين تأتين أيتها المياه وإلى أين تذهبين؟ من أين أتينا وإلى أين نذهب؟. . . المياه تتدفق في أثر المياه مهللةً مكبرة؛ وقد أفاضت أصواتها في الغناء والنحيب , ودمدمت العناصر فيها أسرار الوارد الإلهي , ورفرفت على جوانبها أجنحة الخلود. . . من أين وإلى أين. . .؟ ثقل دماغي بأفكار لا أدركها , وضاق مني الصدر لهموم لا أعرف ماهيتها فنزعت عن ساعدي ساعة وُضعت في أسورة ذهبية ونظرت إليها قائلة: - أيتها الساعة! أنتِ رمز الوقت الجاري في نهر الزمان فيسير قاصداً بحر الأبدية. ها أنا أغطسك في هذه المياه. . . عسى أن تحفظي في حياتك المعدنية أثراً لرموز معنوية. ثم جمعت بعض الحصى الجميلة الكثيرة الألوان الراكدة في أعماق النهر , قائلة: أيتها الجواهر! سأحملك معي إلى وادي النيل لتذكريني بالعواطف الكثيرة التي تلاطمت في فؤادي أمام نهر الصفا. . . أنتِ ذكر الأبدية التي حييت فيها لحظة وإذ رفعت عيني إلى الأفق رأيت مقلة الزهر ترقب يد ملك الظلام الراسمة على رداء الليل صوَر الهيئات السماوية. فغادرت رأس النبع مرددة: أنهر الصفا! من أين وإلى أين؟

أنهرَ الصفا! جئتك تعبة الروح والجسد معاً. قرأت خلاصة الأحوال الحاضرة فدوت في جوانب مخيلتي أصوات المدافع , وتمثلت لناظري صوَر الحرب المريعة. ثم قصدت الاجتماعات فملأ أذني ضجيجها التافه. وضجرت نفسي من معانيها السطحية - إن لم تكن خبيثة. عجبت من بلاهة الإنسان ومن ركاكة أمياله وفتور همته. إذ ذاك سمعت اسمك الموسيقي فأحببته لأن فيهِ جمالاً وعذوبةً وسلاماً. لقد أحرقت قدميَّ الرمال الحارة , ومزَّقت يدي أشواك الحياة , فجئت إليك لاستخلص من أعشابك بلسمّاً لجروحي. تعلَّقَ بأهدابي غبارُ المادة محاولاً إخفاء الجمال المعنوي عن عينيَّ , فأتيت لأغسل أهدابي بمياهك المقدسة. جئت لأرطب يديَّ وعينيَّ برضا بك العذب ثقل فؤادي عليَّ , فأسرعتُ لأبعث به معك إلى روح البحر العظيم الذي يناديك إليهِ من عمق أعماق زرقتهِ البعيدة أنت ابن الغيوم , وألعوبة الحرارة الهوائية , وضحكة المادة الدائمة , وقهقهة الجوّ بين الهضاب والأدوية. أنت قبلة الشمس للبحر. أنت أنشودة الجبل في الوادي. أنت الروح الصغيرة المسرعة إلى أحضان الروح الكبيرة أنت جميل كأسرار الجنان. عذب كنظرات الولهان وفي اسمك ألوان وألحان

الشكوكيون

أنت تهلمم بي , أيها النهر , فخذني معك بعيداً عن الحياة وضوضائها خذني معك. . . لكن , ما هي نسبتي إليك؟ أنت مجموع سوائل لا وجدان لها , ولا قلب يخفق بين أجزائها. وأنا. . . أنا شئءٌ آخر. أنت لغز بين البحار والآفاق , وأنا لغز بين الحياة واللانهاية. أنا أعرف إني لا أفهمك , وأشعر بجهل الإنسان وشقائهِ , أما أنت. . . مالنا ولك؟ سيري , أيتها المياه , سيري واتركيني. أسقي النباتات والأعشاب , ضعي لآلئ في أفمام الورود , رطّبي صدر الأرض الملتهب , ترنمي في وحدة الوادي , اسردي حكايتك التي لا تنتهي , اندبي , هللي , اصرخي , اهمسي , انشدي , أنحبي , اطربي , احزني. كل هذا ننسبه إليكِ نحن أبناء الطرب والكآبة سيري , أيتها المياه , ودعيني ابكي. لقد تلبَّد جوّ فكري بالغيوم القاتمة. وقلبي - ما لكِ ولهُ! - منفرد حزين. . . . مي الشكوكيُّون ليس شيء من أمور الدنيا إلاّ وهو معرَّض للشك حتى قال بعض الفلاسفة: إن كل شيء يقبل الشك حتى قولي هذا: إن كل شيء يقبل الشك ومن بين الفلاسفة طائفة يعرفون بأهل الشكوك يشكون في كل شيء حتى في وجود ذواتهم محمد المويلمي

الرتب والنياشين

الرتب والنياشين ذكرنا في الجزء الماضي شيئاً عن الرتب والنياشين وتاريخها عند القدماء ورأينا تكلمةً للبحث إيراد نبذة مستقلة عن الرتب والنياشين في الدولة العثمانية لأنها تهم القراء أكثر من سواها. وقد كتب هذه النبذة خصيصاً للزهور حضرة الكاتب الفاضل حقي بك العظم. قال: تقسم الرتب في الدولة العثمانية إلى ثلاثة أقسام: عسكرية وملكية وعلمية. الرتب العسكرية - وضعت الرتب العسكرية الحالية في أواخر زمن السلطان سليم الثالث المشهور بميله إلى الإصلاح والتمدن الغربي الحديث , وقد كان بدأ قبل كل شيء بالإصلاح العسكري , ولكن الظروف لم تساعده , وحال دون إتمام مقاصده جهل الأهالي وسوء نية زعماء الجيش الانكشاري , فذهب شهيد التعصب. وقد أتم خلفهُ السلطان محمود مشروعهُ العسكري ونظم الجيش العثماني على الطراز الأوربي وأشأ معظم الرتب العسكرية الحالية وإليك بيانها بالترتيب: الرتبة يقابلها عند الإفرنج لقب صاحبها راتبه الشهري مشير دولتلو أفندي حضرتلري إذا كان قائداً 150ليرة في الاستيداع 75 ليرة فريق سعادتلو أفندم راتبه الشهري 60 ليرة ميرلوا عزتلو أفندم راتبه الشهري 30 ليرة ميرالاي عزتلو أفندم راتبه الشهري 20 ليرة قائمقام عزتلو بك راتبه الشهري 10 ليرة

بكباشي ومعناها رأس الألف رفعتلو بك أو أفندي راتبه الشهري 12 ليرة يوزباشي ومعناها رأس المائة فتوّ تلو بك أو أفندي راتبه الشهري 8 ليرة ملازم أول حمّيتلو بك أو أفندي راتبه الشهري 5 ليرة ملازم ثاني حمّيتلو بك أو أفندي راتبه الشهري 4 ليرة ولكل من أصحاب هذه الرتب العسكرية ما يكفيه ويكفي عائلته من المؤن والذخائر مثل الخبز والسمن واللحم والفحم والسكر والشعير والتبن وما أشبه يأخذها كل شهر وذلك حسب رتبته فللملازم الثاني مثلاً أربعة أرغفة خبز في اليوم ومقدار من اللحم في الشهر وثلاث أقات سمن ويزيد ذلك كلما ترتقي الرتبة. وهناك غير هذه الرتب العسكرية الحربية رتبةٌ أخرى في الجيش خارجة عن الصفوف الحربية مثل رتبة أمين الاى تقابل البكباشي ورتبة كاتب الطابور تقابل اليوزباشي ومعاون كاتب الطابور يقابل الملازم الأول. وينقطع أصحابها للأعمال الكتابية والحسابية فقط. ومفتي الاى يقابل البكباشي , وإمام طابور يقابل اليوزباشي , وكلاهما يقوم بالطقوس والشعائر الدينية في الأورط والالايات. الرتب الملكية: وضعت هذه الرتب في أواخر حكم السلطان محمود بعد إبادة الانكشارية. وقد كانت وقتذاك عزيزة لصعوبة نيلها حتى كان يشار بالبنان إلى من ينال الرتبة الخامسة , وهي أصغر رتبة ملكية كما هو معلوم واستمر الحال على هذا المنوال إلى زمن السلطان الخليع. وتقسم

هذه الرتب إلى قسمين. قلمية وسيفية. فالقلمية خصت بمكافأة عمال الدولة والسيفية خصت بمكافأة الولايات وإشرافها. وهذا بيان الرتب الملكية وألقاب أصحابها مع ما يقابلها من الرتب العسكرية: العلمية منها السيفية منها ألقاب أصحابها في الكتابة ما يقابلها من الرتب العسكرية وزير. . . دولتلو أفندم حضر تلري مشير وصاحب الوزارة مقدم عليه بالا. . . عطوفتلو أفندم حضر تلري فريق أول أولى صنف أول روم ابلى بكلر بكى سعادتلو أفندم حضر تلري فريق أولى صنف ثان ميرميران سعادتلو أفندم حضر تلري مير لواء متمايز متمايز عزتلو أفندم ميرالاي ثانية ثانية عزتلو بك أو أفندم قائمقام ثالثة ثالثة رفعتلو بك أو أفندي أة آغا بيكباشي رابعة رابعة فتوّتلو بك أو أفندي أو آغا يوزباشي خامسة خامسة حميّتلو بك اة أفندي أو آغا ملازم أول ويوجد رتب أخرى من نوع الرتب السيفية هي: رتبة أمير الأمراء ورتبة مدير الاصطبل العامر , يقابلهما من الرتب القلمية الرتبة الثانية ويلقب صاحب الأولى منهما بلقب باشا ويكتب إليه عزتلو باشا ورتبة قبوجي باشى الركاب السلطاني , تقابلها الرتبة الثالثة. وهذه الرتب خاصة برؤساء القبائل والأميين من أشراف البلاد لاسيما القاضية منها. وقد كانت الدولة تراعي هذا الترتيب , فلا تنعم مثلاً بالا على أحد أشراف الولايات مهما كان مقامه عظيماً بل تخصهُ برتبة روم ايلي بكلربكي

أو ميرميران أو أمير الأمراء إذا شاءت أن تكافئه. واستمرَّت هذه القاعدة معمولاً بها إلى أوائل حكم السلطان الخليع حيث أخذ رجاله يبيعون الرتب بيع السلع دون الالتفات إلى التقاليد المتبعة في منحها. والرتب الملكية , قلمية كانت أو سيفية , لا تعطي أصحابها لقب بك ماعدا رتب روم ايلي بكلركي وميرميران وأمير الأمراء فإن أصحابها يلقبون بلقب باشا كما مرّ ذكره لذلك تجد كثيراً من أصحاب رتبة بالا - وهي أعلى رتبة بعد رتبة الوزارة - يلقبون بلقب أفندي أما لقب بك فإنه خاص أولاً بأولاد الأسَر والعائلات الكبيرة في الولايات من أصحاب الزعامات والمقاطعات الممنوحة لهم من قبل الدولة في الأزمنة السابقة , ثانياً بأولاد الباشوات فقط. وقد وقعت هذه التقاليد في فوضى عظيمة في عهد السلطان عبد الحميد حتى أصبح الإنسان يرى ابن الفراش والخادم والفقير في الآستانة يلقب بك. الرتب العلمية - لا تمنح هذه الرتب إلا للعلماءِ الدينيين من المسلمين ورجال باب المشيخة في الآستانة والقضاة الشرعيين في الولايات. ولبعض هذه الرتب , خصوصاً الكبيرة منها , رواتب قليلة تسمى آريه لق أي ثمن شعير لخيل تاريخه إلى مئات من السنين , وهذا بيانها وبيان ألقابها مع ما يقابلها من الرتب الملكية: الرتب العلمية ألقاب أصحابها في الكتابة ما يقابلها من الملكية قاضي عسكر روم ايلي سماحتلو أفندم حضرتلري وزير

قاضي عسكر أناضول سماحتلو أفندم حضرتلري وهي بين الوزارة وبالا قاضي استانبول فضيلتلو افندم حضرتلري أولى من الصنف الأول مولوية الحرمين الشريفين فضيلتلو افندم حضرتلري أولى من الصنف الثاني مولوية البلاد الخمسة فضيلتلو بك أو افندي متمايز مولوية المخرج فضيلتلو بك أو افندي ثانية رتبة كبار مدرسين مكرمتلو بك أو أفندي ثالثة رتبة موصلة سليمانية مكرمتلو بك أو أفندي وهي بين الثالثة والرابعة ثم هناك رتبة تسمى رؤوس استانبول ليس لصاحبها لقب تقابلها الرتبة الرابعة. وأمات القضاة الشرعيون غير الحائزين على رتبة فيكتب إليهم مودَّتلو بك أو أفندي ويكتب للصدر الأعظم فخامتلو دولتو أفندم حضرتلري ولمعزول الصدارة دولتلوا بهتلو أفندم حضرتلرى ولشيخ الإسلام دولتلو سماحتلو أفندم حضرتلرى ولمعزومه دولتلو فضيلتلو أفندم حضرتلرى وللأصهار السلطانية عطوفتلو أفندم حضرتلري وللسردار دولتلو عنايتلو أفندم حضرتلري ولآغا القصر السلطاني دولتلو عنايتلو أفندم حضرتلرى وللبطاركة رتبتلو أفندم حضرتلرى وللملوك الأجانب حشمتلو وللسفراءِ الأجانب اصالتلو أفندم حضرتلرى النياشين - أقدم نشان في الدولة العثمانية نشان الافتخار , وليس له إلاَّ درجة مرصعة بالحجارة الكريمة وقد أنشأه السلطان محمود

الثاني , ثم أهمل أمره إلى أواخر زمن السلطان عبد الحميد الخليع الذي أحياه وصار ينعم به على العظماء من الأجانب فقط. وهذه بقية النياشين العثمانية قِدَمها مع أسماء السلاطين الذين أنشأوها النشان اسم السلطان عدد درجاته ملاحظات الافتخار السلطان محمود الثاني 1 مرصع فقط المجيدي السلطان عبد المجيد 5 وله درجة مرصعة بالأحجار الكريمة العثماني السلطان عبد العزيز 4 وله درجة مرصعة بالأحجار الكريمة الشفقة خاص بالسيدات السلطان عبد الحميد الثاني 2 وكلاهما مرصع بالأحجار الكريمة امتياز السلطان عبد الحميد الثاني 1 مرصع وله نمطان الواحد ذهبي والآخر فضي خاندان آل عثمان السلطان عبد الحميد الثاني 1 مرصع بالأحجار الكريمة الأسرة المالكة أرطغرل السلطان عبد الحميد الثاني مرصع بالأحجار الكريمة ثم هناك مداليات أنواط مثل مدالية التخليص تمنح لكل من ينجي حياة شخص من الغرق في البحر أو من حريق وما أشبه ومداليات الزراعة والافتخار أنشأها جميعها السلطان عبد الحميد الثاني. هذا غير أنواط حربية وقتية قديمة أسست عقب الحروب الماضية كحرب الروس واليونان وكريد واليمن وغيرها منحت لكل من حضرها من الجند والضباط والقواد. حقي العظم

في رياض الشعر

في رياض الشعر ردّوا على الأوطان عزَّا خلا يحيي بك علمي شاب خبرة الفتية العثمانية المصرية جامع إلى شرف المحتد علوّ الهمة , وإلى الذكاء النادر براعة وافتناناً في ضروب الأدب والموسيقى. رزق في هذه الأيام غلاماً سماه مصطفى. وقد فرح أصدقاء هذا الفاضل بما أتمه الله عليه من نعمة الخلف ورأى صديقه خليل أفندي مطران أن يتحفه لهذا المناسبة بقصيدة فيها التهنئة وفيها العظة. فيها وصف بعض الحالات التي يكون عليها الأطفال وفيها ما هو جار من الأمور العتيدة التي أفضت بالشرق إلى هذا الانحطاط وإشارة إلى المستقبل وما يرجى منه على أيدي رجال الغد. ولقد وفق الشاعر إلى كل ما قصد وأخرج للناس ضرباً جديداً من الشعر فيه تفكهه ودرس مفيد قال: يا سبط يحيي وسليلَ العلي ... حيّي الرضي طالعك المجتَلي وسلّم الله الوليدَ الذي ... هلَّ فما أبهى وما أجملا كأنَّ ذوب العاجِ صلصاله ... وأنَّ معنى الحبّ ما مثّلا ناهيك بالعينين من قوّتيْ ... ذهن ومن نورَيْ حجيً أرسلا كحسنهِ الحسن إذا ما غفا ... وذيدت الأعينُ إن تغفلا محركاً في نومهِ ثغرَهُ ... كأن في الرؤيا رضاعاً حلا لا الحلل الغراء من همهِ ... ولا يبالي باهراتِ الحلي جذلانُ من نشوة أحلامهِ ... وأين منها نشواتُ الطلي تراه قرباً وكأنَّ الكرى ... يحمله فوق السُهى محملا كطائر يظهر تحليقهُ ... بمظهرِ الترجيح مما علا فإن صحا فالدهر عبدٌ لهُ ... يرضيهِ مطواعاً وإلاّ فلا وكل حميّ فمنوطٌ بأن ... يفهم ما يهوى وإن يفعلا سيان في اللطف وفي الظرف ما ... أساء من أمرٍ وما أجملا

له ولا للناس علمُ الذي ... يرى ويستحسن أن يُعملا وحولهُ الحولُ فإن يفتننْ ... فسحره السحر ولن يُبطلا أنلهُ ما شئت فكيف اشتهى ... تحويلهُ من فورهِ حُوّلا فليكن المفتاح ثدياً جرى ... بالكوثر العذب كما أمّلا ولتكن الساعة جنّيّةً ... تدير في داخلها مقولا ولتكن الأكتافُ أفراسهُ ... لكنَّ شرط الأنس أن تصهلا وليكن الكرسيُّ أن حثّهُ ... قطارة ينساق مستعجلا وكل ما شكّله فليكن ... مهما عصى الطبعَ كما شكّلا يا ولداهُ أسعدْ وعش واغتنم ... من السرورِ المغنمَ الأجزلا لكنَّ دهراً جئتَ فيهِ أبى ... عليكَ أن تركب مستسهلا أدبرَ بالشرق ولا يبتغي ... إلاّ بأمثالك أن يُقبلا اليوم لا تعقلُ لكن غداً ... تكون ممن سلفوا أَعقلا ما اليوم ما القابل؟ هذا مضى ... بنا ولم نشعر وهذا تلا اسمع شكاتي فهي إن لم تفد ... حالاً ففيها النفع مستقبلا كان لنا مجدٌ نزلنا بهِ ... من السماوات العُلى منزلا وكان لا ينكر منا إذا ... قلنا غداة الفخر نحن الأولى وكان منّا كلُّ ذي مرّةٍ ... إن صال كسر الجحفلا وكان منا كل ذي فطنةٍ ... يكاشف الوحيَ ويهدي الملا وكان منا كلُّ حامي حمىً ... لا تطرقُ العصمُ لهُ معقلا وكان مُلك الأرض ملكاً لنا ... وحكمنا في الأمم الفيَصلا لكنّهُ عزٌّ مضى وانقضى ... بذنب مَن خانَ ومن أهملا

تراكمت أغلاطُنا آخذاً ... بعضٌ ببعضِ فانتهينا إلى. . . ولا اسمّي منتهانا فقد ... يُؤثر بعضُ الشيء أن يُغفلا واحربا بتنا وما شأننا ... إلاّ اعتذارٌ يُشمت العُذّلا وما تبقّي غيرُ أبنائنا ... تعزيةً للنفس أو مأملا عساهم أن يُصلحوا بعدنا ... ما أفسد الظلاّمُ منا. . . ألا. . . أي نجلَ يحيي عهدكم ... ردّوا على الأوطان عزّاً خلا إنا نرجيّ جيلكم كلّهُ ... إن يَترَ المجدَ ولا يخملا فمن دعا يومئذ واجدٌ ... فينا عديد الخير مستكملا الراجلَ الجلدَ الذي لا يهي ... عزم له والفارسَ الأبسلا والعالمَ المثمرُ تعليمهُ ... أجملَ ما علّم أو فصّلا والوالدَ البرّ بأبنائهِ ... يرخص في تأديبهم ما غلا والحرّة الهيفاَء لا تنثني ... عن عوج الأغراس أو تعدِلا والصانعَ البارعَ في صنعهِ ... يتقن مفتنّاً ومسترسلا والزارعَ الحاذقَ في شأنهِ ... يعافُ أن يجمدَ أو يكسلا بمثل هذا الجمع من ولْدِهِ ... تشفي جراح الوطن المبتلي أي نجل يحيي كنْ إذا حقّقوا ... آمالَنا ندَبُهم المفِضَلا بالعلم والحزم اعتضدْ واعتددْ ... لتغدوَ الأرشدَ والأمثلا إنا معدُّوكَ ليومٍ بهِ ... تكونُ ذاك السيّدَ الموئِلا في ذلك العهد وقد صرت في ... أترابك الأمكنَ والأرجلا تذكّر الطفلَ الذي كنتهُ ... وحاشِ ذاك الخُلق أن يُبدلا

إذ كنتَ في مهدكَ لا تتقي ... لو أنَّ طوداً راسخاً زُلزلا ولا تراعي طاغياً قادراً ... ولا تحابي بَطلاً مُبطلا ولا تني بالسؤل حتى ترى ... محققاً ما عزَّ إن يسألا وتجهل الإثمَ بأنواعه ... كما ترى العفةُ إن تجهلا عظائم الدنيا تحبّ الفتى ... في أكثر الأخلاق مستطفلا تلك مُنايا يا بنينا فإن ... تمَّت محوتم ذنبَنا المخجلا هيّا أعيدوا المجد فينا إلى ... ما كان من سيرتهِ أوَّلا خليل مطران غانية فقيرة شكتْ فقرها فبكتْ لؤلؤءًا ... تساقط من جفنها فانتثر فقلتُ مشيراً إلى دمعِها ... أفقرٌ وعندكِ هذي الدُرَرْ بشارة الخوري قساوة التشفّي رأيتهُ يستخرجُ الشَّوك من ... كفّين كالبلُّورِ والآسِ فقلتُ في نفسي له شامتاً ... ذُقْ بعض ما تفعلُ بالناسِ نجيب شاهين حظي كشَعري بُليتُ بحظٍ مثلَ شَعريَ لو حوَى ... دُجاه الدُّجى لمَ يبدُ في أفْقهِ فجرُ وأعجبُ مِن صبري عليهِ سلامتي ... فقُبّحَ حظّي والسلامةُ والصبرُ أمين

أزهار وأشواك

أزهار وأشواك توارد الخواطر توارد الخواطر أمرٌ معروفٌ بين الناس عامةً , وكلٌّ يروي من هذا القبيل الشيء الكثير مما حدث له شخصياً أو اتصل بهِ عن الغير. على أن توارد الخواطر بين الأدباء كثيراً ما جاء بصورة مدهشة غريبة , فتقرأ الشطرة الواحدة من الشعر , أو الفقرة الواحدة من النثر , لشاعرين أو لكاتبين مختلفين , حتى لتكاد تتصوَّر الواحد قد اقتبس قول الآخر مع أنه لم يتفق له الإطلاع على شيء منهُ؛ وتاريخ آداب العرب حافل بمثل هذه النوادر. وإلى القراء حادثة من هذا القبيل جرت في مصر , واتصل خبرها بحاصد الزهور وهو ينقلها تفكهة للقراء: وضع أحد الأدباء كتاباً عنوانه العرب وأطوارها وأحبَّ أ، يهديه إلى العالم العربي أحمد زكي باشا , فسأل الأديب محمود أفندي عماد أن يصوغ له كلمة الإهداء في بيتين من الشعر , وطلب مثل هذا الطلب أيضاً من شاعر الأمير شوقي بك. فجاءه من الأول هذا البيتان: إيهٍ ذكيَّ النفس تحيا نسبةٌ ... تنمي إليك ويستحيلُ سرارها وكذا أرددتُ لما عرضتُ فهذهِ ... عربُ النجادِ وهذه أطوارها ونظم له الثاني البيتين الآتيين: أذكيُّ يا ربَّ الفضائل والنهى ... وأجلَّ من يُعزَى إليهِ فخارُها إن شئتَ تعجبُ بالرجال فهذه ... عربُ النجادِ وهذه أطوارها

فيرى القارئ كيف أنفق الشاعران في الشطر الأخير حتى في اللفظ فجاء واحداً عند كليهما. ولقد ذكرتكِ نهر الصفا وصفته مي في هذا الجزء بشعر منثور , ووصفه من قبلها في أحد أجزاء السنة الأولى من الزهور الأمير نسيب أرسلان بشعر منظوم قال في مطلعه: يا صاحبيَّ قفا على نهر الصفا ... نهر لدينا بات أشهر من قفا وقد وقف عليه في الصيف الماضي أديب مصري لا أعرف من هو , وأديب لبناني هو رشيد بك نخله الشاعر الذي يعرفه قرَّاء الزهور أنقل محضر تلك الوقفة عن جريدة الشعب اللبنانية فقد جاء للرشيد فيها قوله:. . . فتناشدَنا الأديب المصري وتناشدناهُ من قديم الشعر وحديثه إلى أن أنشد: ولقد ذكرتك والرماحُ نواهلٌ ... مني وبيض الهندِ تقطرُ من دمي فوددتُ تقبيلَ السيوف لأنها ... لمعتْ كبارقِ ثغركِ المبتسم فقلنا رحم الله فارس بني عبس إن صحَّت النسبة أوَ تذكر ما يقول الرشيقُ على خد ذلك: ولقد ذكرتكِ في السفينة والردى ... متوقَّعٌ بتلاطمِ الأمواج وعلتْ لأصحاب السفينةِ ضجةٌ ... وأنا وذكركِ في ألذِّ تناجي فقال واذكر للظفراوي قوله: إني لأذكركم وقد بلغ الظما ... مني فأشرق بالزلال الباردِ

وأقولُ ليتَ أحبتي عانيتهم ... قبل الممات ولو بيومٍ واحدِ ولا أنسى ما يقول أبو الحسن الوزير: ذكرتُ سُليمى وحرُّ الوغى=بقلبيَ ساعةَ فارقتها وشاكل سمرُّ القنا قدَّها ... وقد ملنَ نجوي فعاقتها قلتُ حسن ولكنك تبدَّلت الوزن وغيَّرت المطلع. فقال إذاً اسمع للحلّي: ولقد ذكرنكِ والعجاجُ كأنهُ ... مطلُ الغنيّ وسوءُ عيش المعسرِ فظننتُ أني في صباحٍ مسفرِ ... من ضوء وجهك أو سناءِ مقمرِ قلتُ جيّد وأطرقتُ بقدر ما تقرأ وقلت: ولقد ذكرتكٍ عند آخر نظرة ... مني لقومي والحِمامُ مهدّدي فبكى الجميعُ وكنتُ أبسم بينهم ... أملاً بأنكِ حولَ نعشي في الغدِ فارتجف المصري وتدارك دمعتين جالتا في حدقتيهِ وقال: بربك البيتين فأعدتهما له فاستظهرهما قائلاً: سأردّدهما مدى العمر. قلت: ولو انفق لي حضور ذلك المجلس لختمت مذاكرة الأديبين ببيتٍ فردِ ينسيهما ما تناشداه , وهو لشاعر ظريف ذكر محبوبته في موقف لم يقفه عنترة بن عبس ولا أقرانه الشعراء , فقد دهمه القطار الحديدي الإكسبرس وهو على صهوة برذون حرون فأيقن بالهلاك فهاجته الذكرى , فأنشأ يقول من فؤاد متبول: ولقد ذكرتكِ والحمارُ معاندي ... فوق الشريطِ وقد أتى الوابورُ. . .!

سؤالٌ من الهند آل إبراهيم في الهند قومٌ كرام جمعوا إلى شرف المحتد وعريض الجاه أدباً جمّاً وظرفاً وافراص , ولهم على الأدب والأدباء في الشرق مآثر غير دوائر. قدَّرت الأيام لوديع أفندي البستاني - وهو الفتى النشيط الأديب المعروف لدى قراء العربية بكتبهِ المفيدة النافعة - أن يكون بين هؤلاء القوم الأمجاد , فكاد ينسى بينهم في الهند أرقى مجتمعات وادي النيل لما يدور بينهم من المذاكرات الشعرية والأبحاث الأدبية. . . وكدتُ أنا أيضاً أنسى الموضوع الذي من أجله اكتب الآن , وأستطرد إلى ذكر ما يرويه لي صديقي عن الهند وعن مكارم من حلَّ بينهم على الرحب والسعة , فأهمل السؤال الذي كلفني أن أنشره على صفحات المجلة. قال البستاني الصغير: هذان بيتان من الشعر رواهما الشيخ أحمد آل إبراهيم قال: لقي نبلنا العوارضِ فانثنوا ... لأوجههم منها لحىً وشواربُ خلقنا بأطراف القنا لظهورهم ... عيوناً لها وقعُ السهام حواجبُ فلمن هذا الشعر؟ وأنا أقول: من عرف الشاعر وكتب إليَّ عنهُ ضمنت له جائزة تجيئه عن طريق الهند. . . كرمه ابن هاني سبق لي حديث قديم مع القرَّاء عن كرمة ابن هاني - أو منزل شوقي بك - وقد كانت هذه الكرمة في الشهر الفائت مسرحاً أقيمت فيهِ معالم الأفراح والحفلات الأدبية. وكل حفلة تقام في ذلك الصرح

ثمرات المطابع

يقتصر عنها الوصف مهما كان بليغاً. فأمير الشعر متفرّدٌ في حفلاتهِ كما هو متفرد في أشعاره. . . لا يعنيني من هذه الاحتفالات إلاّ ذاك الذي أقامهُ أكبر شاعر عربي إكراماً لأكبر ممثل في الغرب ولصنوه في الشرق عنيتُ بالأول مسيو سلفان وبالثاني تلميذه جورج أبيض , وإلى جانب كلٍّ منهما جوقته , وفي صدر الحفلة حشمت باشا ناظر المعارف الغيور , فتصافح تحت رعايتهِ الأدبان العربي والغربي. وشكر الوزير لنابغة التمثيل في فرنسا اعتناءَه بتلميذه أبيض حتى أخرجهُ نابغة الممثلين في الشرق , كما شكر سلفان للوزير تنشيطه لهذا الفن وأمَّل أن يبلغ التمثيل العربي من النجاح ما بلغهُ التمثيل الفرنسوي منه. وكان بين المدعوين إلياس أفندي فياض الكاتب الشاعر العربي المعروف ومترجم أشهر الروايات التي يمثلها جوق أبيض , فهمس في أذن جاره داعياً الآمال. . . حاصد ثمرات المطابع حديث القمر - نشرنا في الجزء الخامس من هذه السنة ص 249 مقالةً خيالية عنوانها أيها القمر من قلم الشاعر المشهور السيد أبي السامي مصطفى صادق الرافعي. ثمَّ أخذ حضرته هذه المقالة وتوسع فيها بما أوحى إليهِ أمير الليل من خطرات أفكار شعرية وغزَلية وأدبية واجتماعية فجاءت سلسلة فصولٍ شائقة تتناول مباحث شتى في الحب والجمال والزواج والإلحاد والطبيعة بأسلوب خيالي وقالب

شعري تعمدهُ حضرة الكاتب البليغ وهو يرمي من ورائهِ إلى تربية ملكة التخيّل في الناشئة , لأنَّ الخيال هو أساس الإنشاء وركنه الركين , فلا يمتلك الذين يحاولون الكتابة أعنّه هذه الصناعة إلاَّ إذا حبتهم الطبيعة نصيباً من الخيال , وعملوا هم على تربية هذه القوة بالمطالعة والملاحظة والاقتداء. وقد قال حضرة المؤلف في مقدمة هذا الكتاب: البلاغة التي حار العلماء في تعريفها , على كثرة ما خلّطوا , لا تعدو كلمتين: قوة التصوُّر والقوة على ضبط النسبة بين الخيال والحقيقة. وهما صفتان من قوى الخلق تقابلان الإبداع والنظام في الطبيعة , وبهما صار أفراد الشعراء والكتَّاب يخلقون الأمم التاريخية خلقاً , وربّ كلمةٍ من أحدهم تلدُ تاريخ جيل إلى أن يقول في ختام المقدمة المذكورة: فالبلغاء هم أرواحُ الأديان والشرائع والعادات , وهم ألسنةُ السماءِ والأرض. وإذا شهد عصرٌ من العصور أمةَ ليس فيها فيها بليغ فذلك هو العصر الذي يكون تاريخاً صحيحاً لأضعف طبائع الأمم ونحن نحمد الله كثيراً على أن مصر لا تخلو من أمثال أبي السامي الفاضل , فعصرها الحالي ليس بعصر الضعف وخمول الطبائع. مفكرة المعارف أصدرت مطبعة المعارف الشهيرة مفكرتها أسنة 1913 وهي حاوية التواريخ العربية والإفرنجية والقبطية وفيها ذكر الأعياد الدينية والمدنية وتواريخ أشهر الحوادث السياسية وختامها

جدول لتحويل العملة وجدولان آخران للمقاييس والموازين وقد اعتنى بها حضرة نجيب أفندي متري منشئها الفاضل اعتناءً خاصّاً في هذه السنة فانتقى لها أجود أصناف الورق وأجمل شكل للغلاف فجاءَت غاية في الإتقان كسائر ما تخرجه مطبعة المعارف فنوجه إليها الأنظار. - عهد الرشيد والمأمون من أجمل صفحات تاريخ العرب , ونكبة البرامكة على يد الفضل بن الربيع من أشهر حوادث ذلك العهد , وأعظمها وقعاً في النفوس. وقد سبك هذا الموضوع جورجي بك زيدان منشئ الهلال في قالب رواية تداولتها أيدي قراء العربية فنالت شهرة بعيدة. وشاء حضرة الأديب ميشال أفندي بيطار , المدرّس في جامعة اللغات الشرقية في باريس , أن يعرّف الأفرنج بشيء من آداب لغتنا , فنقل هذه الرواية إلى اللغة الفر نسوية بمساعدة مسيو شارك موليه , فبرزت الغادة العربية الشرقية بحلةٍ غربية جميلة , وصادفت بين القوم إقبالاً وإعجاباً. فنهنئ زيدان بك باشتراك الغربيين مع الشرقيين في تقدير كتاباتهِ , ونشكر لصديقنا بيطار أفندي هذه الخدمة للغتهِ , وندعو له بالتوفيق في هذا السبيل. المنطاد - جردية أسبوعية حرَّة لصاحبها ومحررها الأديب زوين أفندي يوسف زوين تصدر في ريودي جانيرو , فيها مباحث حسنة ولها نزعة وطنية محمودة.

بوليوس قيصر

بوليوس قيصر رواية تمثيلية من أشهر الروايات , وأحكمها وضعاً , وأعظمها وقعاً في النفوس لمؤلفها نابغة هذا الفن شكسبير الروائي الانكليزي الشهير. نقلها إلى العربية بعبارة مطابقة تماماً للأصل الانكليزي حضرة الكاتب المجيد سامي الجربدني المحامي وسننشرها تباعاً ابتداء من هذا الجزء بمناسبة النهضة التمثيلية الحديثة. الفصل الثالث المشهد الأول رومه. أمام الكابيتول. مجلس الشيوخ مجتمع فوق في الكابيتول. جم جمع غير قليل بينهم أرتيميدوروس والمنج. هتاف يدخل قيصر وبروتوس وكاسيوس وكاسكا وديسيوس ومتلوس وتريبونيوس وسنَّا وأنطونيوس ولبيدوس وبوبوليوس وبوبليوس قيصر - مخاطباً المنجم ها قد جاء اليوم الخامس عشر من شهر مارس المنجم - نعم قيصر. ولكنهُ لم يذهب بعد أرتيميدوروس - السلام قيصر. اقرأ هذه الورقة ديسيوس - مقدماً له ورقة أخرى أن تريبونيوس يرجوك أن تعيد قراءة هذا العرض إذا رأيتَ من وقتك متسعاً أرتيميدوروس - أي قيصر. اقرأ ورقتي قبل؛ فإنها تمسُّ نفسه. اقرأها يا قيصر العظيم. قيصر - يجب تأخير ما يمسنّا عن سواه أرتيميدوروس - إياك والتأخير! اقرأها حالاً قيصر - ما هذا؟ أجُنَّ الرجل؟ بوبليوس - تنحَّ يا هذا جانباً كاسيوس - أفي الأسواق تتهافتون على عرض مطالبكم؟ تعالوا إلى الكابيتول يصعد قيصر إلى المجلس يتبعهُ الآخرون

بوبوليوس - مخاطباً كاسيوس أتمنى لغرضكم أن ينجح اليوم كاسيوس - أيّ غرضٍ عنيت؟ بوبوليوس - طب نفساً يقربمن قيصر بروتوس - مخاطباً كاسيوس ما قال لك بوبوليوس؟ كاسيوس - تمنى لنا نجاح غرضنا. إني أخشى افتضاح أمرنا بروتوس - أنهُ يقرب من قيصر. انظر. ارقبهُ كاسيوس - مخاطباً كاسكا كاسكا. كن سريعاً في العمل , فإننا نخشى الكشاف الأمر. ما العمل يا بروتوس؟ إن افتضح أمرنا قتلتُ نفسي. فواحدٌ منا ليس براجع إلى أهله اليوم: إما أنا , وإما قيصر! بروتوس - تشدد! انظر إلى بوبوليس. أنهُ لا يتكلم عنا فهو يبتسم وملامح وجه قيصر لم يعلُها تغيُّرٌ أو انقلاب. كاسيوس - قام تريبونيوس بمهمتهِ خيرَ قيام. لقد اصطحب انطونيوس وخرج بهِ خارجاً. يخرج انطونيوس وتريبونيوس ديسيوس - أين سمبر؟ ليذهب في الحال يقدّم شكواه إلى قيصر سنّا - كاسكا! أنت أوَّلُ من يرفع يده قيصر - أمستعدون جميعاً؟ من عرف منكم اعوجاجاً فلينئ بهِ , فإ، قيصر ومجلسه يقوّمانه تقويماً. سمبر - أي قيصر الرفيع العظيم كليَّ الاقتدار! إن سمبر يطرح أمامك قلبه الوضيع. . . يركع قيصر - منعتك هذا. قد يفعل التملّق وتعفير الجباه فعله في صغار الناس فيثيرُ عاطفة نفوسهم , فينسخون شرائع وأوامر أصدروها , يغيّرون فيها ويبدلون شأن الأطفال. لا تعرّتك نفسك فتحسب أنّ بين جنبي قيصر دماً كدم البهل يذيبه

الكلام اللين والانحناء الواطئ والتملّق السافل المعوّج , فيثنيهِ عن عزمهِ. لقد صدر الأمر ونفي أخوك. فإذا أنت ركعت وداهنت وتضرعت لأجله , انتهزتك وطردتك كالكلب من أمامي. أن قيصر لا يقاصُّ بلا سبب , وكذلك لا يعفو بلا سبب سمبر - أما من صوت أكرم من صوتي يستعذبهُ قيصر فيصغي إليهِ ويعفو عن أخي المنفي؟ بروتوس - أي قيصر. أُقبّل يدك غير مداهن , وأرجوك أن تهب أخا سمبر حريته قيصر - متعجباً ماذا؟ بروتوس؟ كاسيوس - عفوك قيصر عفوك! أني أترامى على قدميك وأتسوَّلُ منك عفواً عن سمبر قيصر - لو كنتُ نظيركم لتأثرتُ؛ أو لو كنتُ ممن يرجو الغيرَ لتحوَّلتُ عن عزمي مرضاة رجائهم. ولكني ثابتٌ في عزمي ثبوتَ نجم الشمال الذي لا يضاهيهِ في الفلك نجمٌ ثبوتاً. السماءُ ملأى بكواكب لا تعدُّ ولا تحصى. كلها تحترق ضياءً وليس بينها سوى واحدٍ لا يحول ولا يتزعزع. كذا الدنيا مملوءةٌ رجالاً. رجالها من لحم ودم ذوو عقول ذكية , ولا أعرف فيهم غيرَ واحدٍ راسخاً لا ينازع ولا يتحرَّك. فلأرينكم أني ذلك الرجل. إني نفيتُ سمبرَ حازماً , وسأبقيهِ في منفاه حازماً سنّا - أواه قيصر. . .! قيصر - عني! أتحاوِلُ أن ترفع جبال الأولمب؟ ديسيوس - يا قيصر العظيم! قيصر - ألا ترى بروتوس يركع على غير جدوى؟ كاسكا - أيتها الأيدي تكلمي عني! يطعنهُ كاسكا أولاً وبعده بقية

المتآمرون ثم يطعنهُ بروتوس في الآخر قيصر - وأتتَ أيضاً يا بروتوس؟ فليسقط قيصر! يلتفّ بردائه ويسقط ميتاً سنّا - يا للحرية! يا للخلاص! لقد مات الاستبداد! اركضوا ونادوا بالأمر في الأسواق. كاسكا - ليذهب بعضكم إلى المنابر ويهتف يا للعتق! يا للحرية! يا للنجاة! بروتوس - مخاطباً الأعيان والشعب المختلط بنابلهم خوفاً لا تخافوا أيها الأعيان وأنتم أيها الشعب اطمأنوا بالا. قفوا لا تهربواز لقد وفى الطمع دَينه كاسكا - اصعد إلى المنبر يا بروتوس ديسيوس - وكاسيوس أيضاً بروتوس - أين بوبليوس؟ سنّا - هنا وقد أضاع رشدهُ سمبر - خذوا حذركم. فقد يفاجئنا أحد أصدقاء قيصر. اعتصموا بالاتحاد بروتوس - دعوا الحذّر والاعتصام جانباً. وأنتَ بوبليوس تشجَّع. أننا لا نريد بك شرّاً , ولا نريد بأحدٍ من الرومانيين شرّاً كاسكا - ابتعد عنا يا بوبليوس لئلاّ يهجم علينا ويلحقون بشيبتك أذًى بروتوس - نعم اذهب. فلا يحملُ عبء هذا الأمر إلاّ فاعلوه. يرجع تريبونيوس كاسيوس - أين أنطونيوس؟ تريبونيوس - فرَّ إلى بيتهِ رُعباً الرجال والنساء والأولاد يصيحون ويصخبون كأنهُ يوم النشر بروتوس - إيهٍ أيتها الأقدار ها نحن مترقبون أمركِ فينا. كلنا يعلم أن مصيره إلى الموت ولكنهُ يجهل ميعاد قدوم الساعة

كاسيوس - من يقتطعُ عشرين سنة من ثوب حياتهِ , فإنهُ يقتطعها من خوف الموت لا من الحياة نفسها بروتوس - إذن. الموت دواءٌ وما نحن إلاّ أصدقاء قيصر إذ اختصرنا له خوفه من الموت. فلننحنِ أيها الرومانيون ولنغسل أيدينا في جراح قيصر نخضبّها حتى الأكواع. غمسوا فيها سيوفكم , وهبّوا بنا إلى الساحة نرفع سلاحنا الأحمر فوق روسنا وننادي يا للسلام ويا للعتق ويا للحرية! كاسيوس - انحنوا واغتسلوا. ستعيد الأجيال المقبلة تمثيل دورنا هذا بألسنٍ مجهولةٍ وفي بلدان لم تخلق بعد بروتوس - نعم وسُيدمي مراراً قيصرُ خذن الترابِ المطروح الآن عند تمثال بومباي كاسيوس - وعلى عدد تلك المرار سيلقّبنا المستقبلُ بالقوم الذين أنالوا وطنهم الحرية ديسيوس - أتذهبون؟ كاسيوس - نعم. بروتوس يقودنا , وأحسنُ قلوب رومه وأشجعها تسير على عقبهِ يدخل خادم بروتوس - سكوتاً: مَن القادم؟ صديق لأنطونيوس الخادم - راكعاً أي بروتوس. بذا أمرني أنطونيوس: أخرُّ ساجداً وأعفّر وجهي وأقول إن بروتوس نبيلٌ حكيم شجاعٌ وأمين وكذلك كان قيصر قديراً جسوراً محبّاً وعظيماً. إني أحبُّ بروتوس وأكرمهُ وقد خفتُ قيصر فأحببتهُ وأكرمتهُ. فليسمحْ بروتوس وليؤمنْ لي سبيل قدومي إليهِ أستفسرهُ سبب قتل قيصر , وله عليَّ العهد إني لا أحبُّ قيصر ميتاً بأكثر ما أحبُّ بروتوس حيّاً؛ بل أتبع بروتوس في سبيله غير المطروق بقلب مؤمن صادق بذا نطق سيدي انطونيوس

بروتوس - لنعَم الرومانيُّ الحكيم الشجاع سيدك. ما ظننتهُ بأقلَّ مما هو عليهِ قط. أبلغهُ يحضر إلينا إذا شاء , فنقنعهُ ثمَّ بنقلبُ إلى أهله آمناً. الخادم - سآتي بهِ في الحال يخرج الخادم بروتوس - سيكون منّا. أنا واثق من ذلك كاسيوس - حبذا لو تمَّ ذلك. فإني أوجس في نفسي خيفةً منهُ , وما خانتني فراستي وتشاؤمي قط. بروتوس - ها قد جاء انطونيوس. يدخل انطونيوس أهلاً بماركوس انطونيوس انطونيوس - ينظر جثة قيصر ملقاة , يركع إلى جانبها أي قيصر ذا السلطان! أيطرحونك أرضاً؟ أتتكمش فتوحاتك وانتصاراتك وغزواتك إلى مثل هذا القدر الصغير؟ وداعاً ينهض إني أجهل مآربكم أيها السادة فلا أعلم من تستسمنون بعد قيصر فتدمون. إن كنتم إياي تقصدون , فلستُ بواجدٍ زمناً للموت أليق من زمنٍ مات فيهِ قيصر. ولا آلةً على نصف شرفِ آلةٍ أغناها أنبلُ دمٍ في هذه الدنيا. إن كنتم تضمرون لي العداء فأتوسل إليكم أن تظهروه الآن وسواعدكم الحمرُ تتبخر وتدخّن. لو عشتُ ألفاً ما لقيتُ نفسي بأجدر بالموت مني الآن مطروحاً إلى جانب قيصر ترديني الأسياد نخبة رجال هذا العصر بروتوس - لا ترجُ موتك على أيدينا يا أنطونيوس. إنك تنظر إلى هذه الأيدي وما جنتهُ فتخالنا قساة سفّاحين , ولكنك لا تعلم ما انطوت عليهِ قلوبنا. إنك لو استطعت النظر إليها لرأيتها ملآى بالحنان والرأفة. نعم فإننا ما فتكنا بقيصر إلاَّ شفقةً على اضطهاد رومه. فالشفقة على هذه طردت من قلوبنا الشفقه عليهِ وابتلعتها كما تبتلع النارُ ناراً أقلّ منها التهاباً. أما أنت يا أنطونيوس فإنّا نرحب بك

ونقبلك بيننا على الرحب والسعة. نفتح لك قلوبنا ونحميك بسواعدنا , فترجع سيوفنا مفلولةً عنك كاسيوس - وسيكون لك الرأي الأعلى في تدبير مهام المُلك الجديد بروتوس - صبرَك حتى نسكّن روع الجمهور الذي يكاد يجنُّ خوفاً ثم أخبرك لما أقدمتُ على قتل وأنا صديقه الصادق أنطونيوس - لا أشكُّ في حكمتكم. هاتوا كلٌّ منكم يده الحمراء. هاتها أنت أولاً يا بروتوس ثم أنت يا كاسيوس. وأنت ديسيوس وأنت متلوس وأنت سنّا. يدك أيها الشجاع كاسكا. وأنت يا تريبونيوس هاتها الآخر في دورك ولكنك لست بالآخر في درجة حبي لك. ماذا أقول أيها السادة؟ إن قدميَّ تكادان تزلاّن بي عن موطئ الشرف فما أنا في أعينكم إلاّ واحداً من اثنين - أما جبان أو منافق. مخاطباً قيصر حقاً لقد أحببتك يا قيصر. فما الذي تقوله لو أطلّت علينا روحك الهامدة؟ أليس الأمر أشدَّ وقعاً عليك من قتلهم إياك؟ ليت لي عدد جراحك عيوناً تذرف الدمع كالدم المتدفق من جسدك. لذلك موقفٌ أليق بي من تبادل عبارات الوفاق مع أعدائك. عفوك يوليوس. هنا اصطادوك أيها الوعل الجسور. هنا سقطت , وهنا يقف صيادوك مخضبين بدمائك. ايه أيها العالم إنك كنت غاباً لهذا الوعل وكان الوعل أعزَّ أبنائك. يا لك من غزالٍ تكاثرت عليهِ أمراء الصيد فأردوه! كاسيوس - أنطونيوس أنطونيوس - عفوك كاسيوس. إن أعداء قيصر لا يقولون فيهِ أقلَّ مما قلتُ فما بالك بأصدقائهِ. إن قولهم لتواضع بالغ حدّه كاسيوس - لا ألومك على مدحك قيصر , ولكني أودُّ أن أعلم أصديق أنت

فترجي , أم عدوّ فيذهب كلٌّ سبيله! أنطونيوس - لو لم أكن صديقاً ما وضعتُ يدي بأيديكم. إنما لقد أضلّتني شجوني حينما نظرتُ قيصر ملقى. إني صديق كلٍّ منكم , وكصديق أرجوكم أن تقنعوني بأن قيصر كان خطِراً بروتوس - إن لم نقنعك بذلك كان عملنا وحشيّاً لا مسوّغ له. أي أنطونيوس أنَّ الذي دعانا إلى قتل قيصر لكافٍ لإقناعك ولو كنتَ ابناً له أنطونيوس - هذا كلما أطلب. وأتوسل إليكم أن تسمحوا لي أنا صديقه أن أذهب بجثتهِ إلى الساحة العمومية , وأقول كلمتي في جنازتهِ بروتوس - ليكن لك ما تريد كاسيوس - لي كلمة أقولها لك يا بروتوس يكلمه على جانب إنك لا تعلم ما تصنع. لا تسمح له بذلك. إنك لا تعلم أي التأثير يكون لكلامه في الشعب بروتوس - لا. لا إني سأقف فيهم خطيباً أولاً وأُبيّن لهم أسباب قتل قيصر , وأذكر أن أنطونيوس سيقيم له الاحتفال اللائق بدفنهِ بإذن منا. ذلك أشفع لعملنا وأضمن كاسيوس - لا أعلم ما سيكون. ليس الأمر من رأيي بروتوس - لأنطونيوس هاك جثة قيصر. خذها! إنك ستتكلم بعد أن أكون قد انتهيت , فإذا تكلمت قل إنك تفعل ذلك بأمرنا. امدح قيصر ما شئت ولكن لا تذمنا , وإلاّ فلا يكون لك شأن في الجنازة أنطونيوس - إني لا أطلب أكثر من هذا بروتوس - هيئ الجثة واتبعنا يخرج الجميع عدا أنطونيوس أنطونيوس - مخاطباً جثة قيصر غفرانك أيها التراب الدامي! غفرانك أن نظرتني أتبادل الودَّ والأدب مع هؤلاء الجزارين! إنك لبقية أشرف رجل عاش

في الدنيا. ويلٌ لليد التي سفكت هذا الدم الثمين! إنّ جروحك يفتح شفاهها العقيقة كالأفواه الخرساء تستنطقني نبوةً هي لعنةٌ تكرسف الناس. ستمتلئ جوانب ايطاليا حروباً. وسيقوم الأخ على اخيهِ والابن على أبيهِ والمملكة شعبها بعضهم بعض عدوّاً. سيأمن الناس الدم والدمار والخوف فتبسم الأم أن رأت أولادها تتخطفهم أيدي الحروب. ستزول الشفقة من قلوب الناس لتعودها رؤية الفظائع. وثمَّ روح قيصر تزأر ثائرة يصحبها إله الشرّ الجهنمي منادياً بالويل والثبور على هذه البلاد فتنطلق كلاب الحرب تعدو وراء فرائسها تنهش بلا رحمة حتى تملأ جوانب الأرض جيفاً ليس من يدفنها. يدخل خادم أخادم أوكتافيوس قيصر أنت؟ الخادم - نعم يامولاي أنطونيوس - أن قيصر أرسل يستقدمه لرومه الخادم - نعم. وهو قادم. وقد أمرني أن أقول لك. . يرى جثة قيصر ويلي! قيصر! أنطونيوس - لقد تأثر قلبك. در جانباً وابكِ. أن الحزن مجلبةً للحزن وها عيناي أدمعتا إذ رأتا الحزن يجول في عينيك. . . أقادمٌ مولاك؟ الخادم - سيبيت الليلة على بعد سبعة فراسخ من رومه أنطونيوس - عُد إليهِ مسرعاً وأرو له الرواية. ليست رومه بالبلد الأمين لاكتافيوس بعد , أنها نابحة ملآنة خطراً. عُدْ. عُدْ. قلْ له يلبث مكانه ولا يأتي. لا. قف قليلاً. لا تذهب قبل أن أحمل الجثة إلى الساحة العمومية. سأرى هناك أثر خطابي في الناس , وعلى أيّ محملٍ يحملون فعلةَ هؤلاء الرجال السفاحين , ثم نذهب ونروي الأمر لاوكتافيوس. هات يدك ساعدني. يخرجان بجثة قيصر

المشهد الثاني يدخل بوتوس وكاسيوس ولفيف من الأهالي الأهالي - صارخين هاتوا برهانكم. اقنعونا اقنعونا برتوس - اتبعوني ودعوني أقف فيكم خطيباً أيها الأصدقاء. كاسيوس! اذهب إلى الشارع الآخر وفرّق الجماعات. ليبقَ الذين يودُّون سماعي هنا. أما الذين يبغون اللحاق بكاسيوس فليتبعوه. إنّا سننبئكم عن سبب قتل قيصر جهاراً العامي الأول - أنا سألبث مكاني واسمع بروتوس العامي الثاني - وأنا سأسمع كاسيوس ثو نقابل برهان هذا ببرهان ذاك يخرج كاسيوس يتبعه بعض الأهالي ويصعد بروتوس إلى المنبر العامي الثالث - اصبروا حتى النهاية. اسمعوا أيها الرومانيون مواطنيَّ وأصدقائي. اسمعوا لي دعواي. وأنصتوا حتى تتمكنوا من السماع. إذا قلت فصدّقوني , لأن لي من شرفي ما يحملكم على الثقة بي فإن وثقتم بشرفي آمنتم بكلامي. زنوني بميزان حكمتكم واشحذوا عقولكم حتى تقيموا الميزان مستقيماً. . . هل في هذا الجمهور صديق لقيصر؟ إن كان بينكم صديق حميم , فإني أرفع صوتي وأُناديه قائلاً: إن محبتي لقيصر لم تكن بأقل من محبتكم. . . سيقول هذا الصديق: إذن لمَ قتلت قيصر؟ ها كم جوابي: ما قتلت قيصر كرهاً لقيصر , بل قتلته حباً برومه! أوددتم لو متم أرقاء وبقي قيصر حياً؛ أم إن يموت هو لتعيشوا جميعكم أحرارً. . .؟ إنَّ قيصر أحبني , فأنا أبكيه , إنهُ كان حظاً مبخوتاً. فأنا أفرح له؛ إنهُ كان شجاعاً , فأنا أكرمهً؛ م \ نعم , ولكنهُ كان مطماعاً فقتلته. ها دموعي جزاء محبته إياي , ها فرحي وسروري لطالعه المسعود , ها إكرامي وإجلالي لشجاعته , وها كم الموت جزاءً

عدلا لطمعه؟ هل بينكم من انحط فصار يودُّ لو كان عبداً رقيقاً؟ إن وجدت فيكم الرجل فقد وجدت خصمي. هل بينكم من لا يودّ أن يكون رومانيّاً؟ إن وجدت فيكم الرجل فقد وجدت خصمي. هل بينكم من سَفُل فصار لا يحب وطنه؟ إن وجدت فيكم الرجل فقد وجدت خصمي. . . هانذا واقف انتظر الجواب. . . الجميع - إنه غير موجود. إنه غير موجود يا بروتوس! بروتوس - إذن فليس لي فيكم خصم. إني لم أفعل بقيصر غيرَ ما كنتم تفعلونه أنت به. لقد دُوّنِ خبر موته في سجل الكابيتول وذّكِرت معه مفاخره وانتصاراته غير مبتورة ولا مقتضبة! وكذلك ذكرت معايبه التي استحقّ الموت من أجلها غير مُبالغ فيا ولا مُغالي. يدخل أنطونيوس وآخرون يحملون جثة قيصر ها جثة قيصر قدمت يبكيها أنطونيوس الذي سينال بعد موت صديقه محلاً رفيعاً في الحكومة وإن لم تكن له يد في قتله. إليكم ختام القول. إني كما قلت أعزَّ أصدقائي إيثاراً لأمر رومه , كذلك قد خبأت الخنجر نفسه أغمده في صدري إذا دعاني إليه داعي حبّ وطني. الجميع - ليحيي بروتوس! ليحيي! ليحيي! العامي الأول - احملوه على الأكتاف إلى بيته! العامي الثاني - أقيموا له تمثالاً مع أجداده! العامي الثالث - أحلّوه محل قيصر! العامي الرابع - أنهُ قد جمع محاسن قيصر , فلنتوّجه! العامي الأول - سنسيرُ وراءه إلى بيتهِ هاتفين منادين بروتوس - يا بني وطني! العامي الثاني - سكوتاً. أن بروتوس يتكلم العامي الاول - سكوتاً يا قوم

بروتوس - دعوني أذهب وحدي أيها المواطنون الصالحون. امكثوا أنتم واسمعوا ما يقوله لكم أنطونيوس عندما يمدح قيصر. لقد سمحنا له أن يقوم مؤبناً فالبثوا مواضعكم ولا تلحقوا بي. دعوني أذهب وحدي يخرج العامي الأول - امكثوا يا قوم ودعونا نسمع أنطونيوس يخرج العامي الثاني - ليصعد إلى المنبر فنسمعهُ. اصعد يا أنطونيوس النبيل أنطونيوس - إني مدين لكم من فضل بروتوس. . . يصعد إلى المنبر العامي الرابع - ماذا يقول عن بروتوس؟ العامي الثالث - إنهُ يحسب نفسه مديناً لنا وذلك من فضل بروتوس العامي الرابع - لقد أحسن صنعاً. فخير له أن لا يشير بكلمة سوء إلى بروتوس العامي الأول - تالله لقد كان قيصر عاتياً! العامي الثالث - أكيد. مباركٌ لنا خلاص رومه منهُ العامي الثاني - اسكتوا. دعونا نسمع ما يقول أنطونيوس أنطونيوس - أيها الرومانيون الكرماء! الجميع - اسكتوا. دعونا نسمعهُ أنطونيوس - أيها الرومانيون مواطنيَّ وأصدقائي. أعيروني سمعكم. لقد جئتُ لأدفنَ قيصر لا لأؤبّنهُ. إن الشرّ يعيش بعد فاعله أما الخير فيدفن إلى جانب رفاتهِ. فليكن حال قيصر كذلك. . . .! خطب فيكم بروتوس النبيلُ فأراكم أن قيصر كان يطمح ببصره إلى الملك. إنْ صحَّت التهمة فأنها لبيرة على قيصر , وقد نال عليها جزاءهُ كبيراً. ها أنا واقف لديكم الآن أقول كلمتي في قيصر. لقد سمح لي بذلك بروتوس النبيل ورفاقه النبلاء. إن قيصر كان صديقي - صديقا عادلاً أميناً - ولكن بروتوس يظنه كان مطماعاً , وليس بروتوس بالرجل المشكوك

في كلامهِ. لقد جاءَ قيصر من فتوحاتهِ بأسارى لا يحصى عددهم , فإذا ما فداهم القادون ملأ بالأموال خزائن رومه فهل كان ذلك من قيصر طمعاً؟ كان قيصر يذرف الدمع أن رأى فقيراً باكياً. واللهِ أن للطمع غير هذه الأخلاق! أما رأيتم يوم لوباركال وقد قدَّمتُ له التاج ثلاثاً فردَّني خائباً ثلاثاً؟ أهذا ما يسمونهُ طمعاً؟ ولكن بروتوس يقول أن قيصر كان مطماعاً , وليس بروتوس بالرجل المشكوك في كلامهِ. ما أنا مفنّداً بروتوس ولكنني أسرد الرواية كما أعلنها. إنكم قد أحببتموه كلكم فيما مضى وحاشا لحبكم أن يكون بلا سبب. فماذا الذي يقبضكم عنهُ الآن فلا تندبونهُ. ايهِ أيها الإدراك. أين أنتَ. أتركتَ رؤوس بني آدم وفررتَ إلى الوحوش الضارية؟ عونك. عونك إن قلبي فارقني ولحقَ بقيصر في هذا التابوت. حنانيك قلبي عُدْ إليَّ العامي الأول - نأرى معظمَ كلامه معقولاً العامي الثاني - لو تدبرت الأمر لوجدتَ أقيصر قد ظُلِم العامي الثالث - إذن فسيظلم غيره بعده العامي الرابع - هل تنبهتَ إلى ما قال عن التاج؟ أنهُ لم يقبل التاج. إذن لم يكن طامحاً إلى الملك العامي الأول - إن صحَّ القول فسيعلم الذين ظلموا أيَّ منقلب ينقلبون العامي الثاني - مسكين أنطونيوس! لقد احمرَّت عيناه كالنار من البكاء العامي الثالث - أنهُ لأنبل رجلٍ قام في رومه العامي الرابع - اسمعوا. لقد عاد يتكلم أنطونيوس - بالأمس كنّا وكلمةُ قيصرَ تقفُ في وجه العالم كله لا تردّ واليوم نحن وها هو ملقى إلى الحضيض أوضعَ من أن يُرمق بنظرةِ إكرام. . . أيها السادة!

لو أردتُ أن أحرّك عاطفة قلوبكم وأفكاركم. أو أن أثيرَ غضبكم لخطّأتُ بروتوس ولخطأتُ كاسيوس ولخطأتُ غيرهما كثيرين. ولكنني لا أفعل ذلك أبداً أنهم نبلاء أشراف. كيف أجسر أن أخطّئهم. إني أوثر أن أخطّئ الميت وإن أخطّئ نفسي وإن أخطئكم جميعاً على أن اسبَ الخطأ لرجالٍ كرام مثل هؤلاء. أرأيتم هذه الوثيقة بيدي. إنها مختومة بخاتم قيصر. وجدتها في خزانتهِ. هي وصيتهُ لو سمع أهلُ رومه مضمونها. عفوكم فلستُ بقارئها لكم. لو سمع أهلُ رومه مضمونها لجأوا إلى قيصر يلثمون جراحهُ , ولخضّبوا مناديلهم بدمهِ الكريم , لا بل لتسوَّلوا شعرة من شعرهِ يحفظونها أثراً خالداً أبناؤهم من بعدهم العامي الرابع - اقرأ الوصية. اسمعنا الوصية يا أنطونيوس الجميع معاً - الوصية! الوصية! اسمعنا وصية قيصر! أنطونيوس - صبراً أيها الأصدقاء الكرام. فلستُ بقارئها. لا يلبق أن تعلموا كم كان قيصر يحبكم. ما أنتم من خشب. ما أنتم من حجارة. إن أنتم إلاّ رجال - خير لكم أن لا تعرفوا مضمونه. خير لكم أن لا تعلموا أنه أوصى لكم بما ملكتْ يداه! أهٍ ما أوخم العاقبة لو علمتم! العامي الرابع - اقرأ الوصية. لا بد من سماعها يا أنطونيوس. محتمٌ عليك أن تقرأ وصية قيصر أنطونيوس - أتصبرون على ذلك؟ أتستطيعون إن تمكثوا بعد؟ لقد جاوزت الحدَّ غذ ذكرتها لكم. إني أخشى إغضاب هؤلاء النبلاء الذين أغمدوا خناجرهم في صدر قيصر. إني أخشى ذلك كثيراً العامي الرابع - قل خونة. لا تقل نبلاء! الجميع - الوصية! الوصية!

العامي الثاني - تباً لهم من قتلة. سفكة! الوصية! اقرأ الوصية! أنطونيوس - لقد أحرجتموني فجبرتموني على قراءتها. دونكم جثة قيصر. التفّوا حواليها ودعوني أنزل إليكم فأريكم الرجل الذي كتب الوصية. هل تسمحون لي بالنزول؟ الجميع - انزل. انزل العامي الثاني - انزل العامي الثالث - سنفسح لك مجالاً بيننا العامي الرابع - التفوا على شكل حلقة العامي الأول - ابعدوا عن الجثة العامي الثاني - افسحوا مجالاً لهذا النبيل أنطونيوس أنطونيوس - لا تقربوا مني كثيراً. افسحوا لي قليلاً كثيرون - لا تضيّقوا عليهِ. افسحوا المجال. ارجعوا أنطونيوس - إن كان في مآقيكم دمع فاذرفوه الآن يشير إلى رداء قيصر كلكم يذكر هذا الرداء. هو رداء قيصر ارتداه ليلة صيفٍ وجلس في قباب مضروب على أثر عودته من نصرٍ مبين على أعدائكم. انظروا. هنا مرَّ خنجر كاسيوس. تبينّوا طعنة كاسكا الحاقد. إنها مزَّقت الرداء تمزيقاً. وهنا طعن بروتوس المحبوب طعنتهُ. بروتوس حبيب قيصر وملاكه الحارس. حدّقوا في طعنتهِ انظروا كيف نزع النصل المشومَ ففتح باباً خرج منهُ الدم يجري ليتحقق القارع القاسي. ايهٍ أيتها الآلهة! قولي كم كان قيصر يحب هذا الطاعن! إنها لأشدُّ طعنة أصابت قيصر. فإنهُ عندما رأى بروتوس يطعنهُ , التفَّ بردائه وخبأ وجهه وسقط إلى جانب تمثال بومباي قتيلَ الغدر ونكران الجميل أكثر منهُ قتيلَ السيوف والخناجر. بالسقوط

قيصر من سقراط! أي مواطنيَّ الأعزاء أنّا سقطنا كلنا بسقوطه , أنا وأنتم وكل الرومانيون. أما الغدر والخيانة فانتصرنا وعلثتا على ظهورنا. أراكم تذرفون الدمع كقطر الندى. لقد مسّت الرحمة قلوبكم. كلُّهذا وقد شاهدتم الرداء ممزَّقاً فما تصنعون لو نظرتم إلى الجسد مهشماً يرفع الرداء عن جسد قيصر ها كم قيصر. ها جسده شوَّهتهُ أيدي القوم الخائنين العامب الأول - يا لهول المنظر! العامي الثاني - يا لقيصر النبيل! العامي الثالث - يا لشؤم هذا اليوم! العامي الرابع - أه أيها الخونة السافلون العامي الأول - إنهُ لمنظر دمويٌّ فظيع العامي الثاني - سننتقم له الجميع - الانتقام! الانتقام. هلموا ننتقم. اركضوا. احرقوا. اقتلوا. اذبحوا. لا تدعوا خائناً يفلت أنطونيوس - قفوا , قفوا أيها المواطنون العامي الأول - سكوتاً. اسمعوا لأنطونيوس النبيل العامي الثاني - تسمعهُ. نتبعهُ \. نموت معهُ. أنطونيوس - حلمكم أيها الأصدقاء الصالحون. حلمكم أخواني الأعزاء. ما قصدتُ أن أحرّك طوفان ثورتكم. إنَّ الذين أقدموا على هذه الفعلة لأقوامٌ نبلاء حكماء قد يكون لهم من أنفسهم عذر لا أعلمهُ يبرّرهم في أعينكم. لم أتِ لأحوّل قلوبكم عنهم فلست بالخطيب المفوّه مثل بروتوس. ما أنا إلاّ ذاك الرجل الساذج الذي يحب صديقه. والذين سمحوا لي بالكلام ذلك حقَّ العلم. ليس لي فهم ولم أتعلم الحكمة ولم أُعط موهبة الخطابة لأثيرَ فيكم دمكم. إني أهرفُ بما أعرف

العدد 30

العدد 30 - بتاريخ: 1 - 1 - 1913 العام الجديد صدَّ عني ولا عجَبْ ... كلُّ شيءٍ لهُ سببْ ذهبتْ ساعةُ الرضي ... وأتتْ ساعةٌ الغضبْ مستبدٌّ بحكمهِ ... فأنا مثيل ما أَحبْ تارةً صاحبُ المنى ... تارةً صاحبُ الكُرَبْ فلقاءٌ بهِ الهنا ... وفراقٌ بهِ التعبْ كلُّ ذنبي لأنَّ لي ... فيهِ صدراً قد التهبْ ولأني عشقتهُ ... باردِ القلبِ والشَّنبْ أيها العامُ مرحباً ... بالمنى فيكَ والأربْ قلْ فما أنتَ حاملٌ ... بين بُردّيك من عجبْ؟ رايةَ السلم أم تُرى ... رايةَ الحرْبِ والحرَبْ فائتلافاً بهِ المنى ... أم خلافاً بهِ العطَبْ

أترى الترك أم عُدا ... تهمُ تكسبُ الغلّبْ وهل الشرقُ بعد ذا ... ك بأمنِ من النوَب أم هي النار في رُبى ال ... غرب يعلو لها لهَبْ وقوى العالمين في ... معرك الخُلفِ والصَّخَبْ فالسما مكفهرَّةٌ ... والفضا اهتزَّ واضطرَبْ كلُّ هذا لأجل شب ... رٍ من الأرض يكتسبْ يا عقول الآنام ما ... زلتِ في أوضعِ الرتب ايهِ سوقَ الوغى لقد ... هزَّني نحوكِ الطرَبْ لا فما حدَّث الروا ... ةُ ولا كاتبٌ كتبْ مثلما عنكِ قد رُوي ... فهو أعجوبةُ الكتبْ رحِمَ اللهُ أنفساً ... غالها عندكِ العطبْ وجيوشا تدافعتْ ... صُعداً فيك أو صَببْ بل أسوداً تقحَّمتْ ... غمرةَ الموتِ لم تهبْ ساقها الحكم للهلا ... كِ فماتت كما وَجبْ يا رفات الأسود فَاْ ... تنثني عندكِ الركبْ أيا العام هل أرى ... راحةً فيك أم نَصَبْ أصديقاً فترتجي ... أم عدوّاً فتجتنبْ كن كما تشتهي فلا ... رغبةٌ فيك أم رهَبْ الياس فياض

المرأة المترجلة

المرأة المترجلة الرجل المتأنث كالمرأة المترجّلة: كلاهما متصنع لا يطاق! وددت احتقار زيد فقلت زيد امرأة , وشئت تكريم هند فقلت هندٌ رجل. أنا أحتقر الرجل إذا تأنث وإكراهه جهدي , وأعتبر قليلاً المرأة إذا ترجَّلت ولكنني أكرهها كثيراً. للرجولية أخلاق , وللأنوثة أخلاق وكل خلُق حسن في صاحبه. القوة تستَحب في الرجل , والضعف يستملح في المرأة. فإن تعدّت القوة إلى النساء فسدت , وإن تخطَّى الضعف إلى الرجال كان ذلاً! المرأة إذا ترجلت خير من الرجل إذا تأنث. هي تطمع بأن يكون لها شرف الرجولية. وأما هو فليكون له ماذا؟ ولكنه لأيسر في نظري أن يتأنث الرجل من أن تترجل المرأة. الويل كل الويل من الضعيف إذا قدر , والمظلوم إذا احتكم. ليس الشرَ في أن يتحول الذئب إلى حمل , ولكن الشرّ كل الشرّ في أن تصير النعجة ذئباً. وليس الرجل ذئباً من طبعهِ ولكن المرأة إذا ترجلت تحوَّل ضعفها إلى شراسة فكانت شرّ الذئاب! هي مخلوقة ضعيفة لا تفهم معنى القوة فإذا وجدَت القوة اتخذَتها سلاحاً ذا حدَّين! قبيح في الرجل الضعف , وأقبحُ منه القوة في المرأة. التصنّع في

الأخلاق كالترقيع في الأثواب. تالله أن التصنّع والتكلّف لا يحتملان ولو كانا من المشخصين أنفسهم وهم على المسرح! كرهتُ الرجل يدّعي لنفسهِ ما لغيره لأنني لا أحب الرياء. ولكنني إذا أدهشني الرياء في الرجل لأنهُ حادثٌ فيهِ , فليس يدهشني الرياء في المرأة لأنهُ خلُقٌ فيها. ذلك أن الصدق من طبائع القوة والكذب مع القوة , ويجيء الصدق مع الضعف فيكون مجال للدهشة حينئذٍ. وإن شرّ ما ولَّده الضعف الفطري في المرأة الكبرياء والدعوى! ألا ترى أن الضعيف تسهتويه القوة فيريدها لنفسه فلا يستطيعها , فيتطلبها بالوهم لباطل؟ أوَ ليست الكبرياء والدعوى مجرد توهم في الإنسان للقوة والفضل؟ الكبرياء في المرأة الرذائل فيها , والإدعاء أقبح خلالها. والكبرياء في الرجل رذيلة ولكنه ليس شرّ الرذائل فيه , والإدعاء ضعف وخلل فيهِ ولكنهُ ليس بالضعف والخلل الأعظمين. قد يتكبر الرجل ويكثر من الإدعاء ولكن قوته تجيز له هاتين الخليتين وتستر عليهِ قبحهما بعض الستر. أما المرأة فلست أرى فيها ما يجيز لها الكبرياء ويسامحها على الدعوى إلاَّ إذا استجزنا ضعفها واستسمحناه وحينئذٍ تظهر فيها بشاعة هاتين الرذيلتين بكل مظاهرها المستقبحة!

خيرٌ لك أن تعادي امرأة تحب منك التملق وتتطلبه لنفسها من أن تتملَّقها. شرّ خطأ يرتكبه الإنسان أن يتملق المرأة؛ لأن المرأة على ضعفها ورغبتها في القوة تتناسى التملق وتحسبه حقيقةً واقعية وثناءً صحيحاً فتكون حينئذٍ كالمهرة الجموح لا تردّها شكيمة , ولا يُمسك بها رسن! أحسنتِ يا سيدتي! ولكنه لأهون عليك لو قطعت لسانك وكسرت قلمك فلم تقل لها هاتين الكلمتين. إن البرهان في التجربة لو شئت! هذّب المرأة على معرفة نفسها فذلك خير مؤدب لها , أولاً فكن أصمّ فلا تسمع , وأحمق فلا تفهم. المرأة كالقلعة أعدى أعدائها في داخلها. إذا هي قويت على المؤثرات الخارجية فلن تقوى على عواطفها الداخلية. وأنهُ لأيسر على قلعة يحاصرها العدو أن تتجيَّش عليها الجيوش حواليها , من أن يخونها جنديٌّ واحد في داخلها. المرأة لا تستطيع أن تكون قاضياً لأن عواطفها تتغلب دائماً على عقلها. لا تسألها العدل فإنها لا تستطيعه. قلبها الذي يحكم , وعقلها الذي يطيع! عبثاَ تحاول منها أن تكون غير ذلك!

تاريخ الجندية العثمانية

تاريخ الجندية العثمانية كانت نظارة المعارف العمومية في الآستانة قد أدخلت في برنامج المدرسة الملكية العليا - قبل تسعة عشر عاماً - درس قانون التجنيد واختارت لتفسيره وتدريسه المرحوم رفيق بك مانياسي زاده الذي صار في زمن الدستور وزيراً للعدلية والمذاهب ثم توفاه الله إليه. وهذا الفصل مقدمة لتلك الدروس وهو يتناول تاريخ الجندية العثمانية نقله إلى العربية صديقنا الكاتب الفاضل محب الدين أفندي الخطيب: لم تكن أمور الجندية في أوائل سلطنة آل عثمان مؤسسة على أساس متين , وإنما كان أفراد الأمة القادرون على معاناة الحرب والنضال يتقلدون أسلحتهم يوم الزحف ويتقدمون للدفاع عن الدين والوطن. وكانت الجنود في عهد السلطان عثمان مؤسس السلطنة وفي عهد أرطغرل والده تسمى فرساناً لأنهم كانوا يؤدون وظيفة الجندية يومئذٍ ركباناً. وكان السلطان عثمان ينشر المنادين في المدن والقرى عندما تصحُّ عزيمته على الحرب , فينادي هؤلاء بالناس إلى دارة الإِمارة. ومع ذلك فقد كان ثمة - غير هؤلاء المتطوعين - عساكر خاصة وأتباع ورؤساء يوجدون دائماً حيث يوجد مركز الحكومة. وبعد سنة من استيلاء مجاهدي الإسلام على مدينة بروسه أصبحت هذه المدينة عاصمةً , وصار للحكومة العثمانية مكانة خاصة بين ملوك الطوائف. وهذا ما حمل العمانيين على العناية بوضع للإدارة وسن القوانين التي لا بد منها للسير في مضمار الحضارة والارتقاء. وكان في جملة ذلك أن نالت الجندية ونظاماتها حظّاً من هذه العناية , فتولى الوزير المدبر علاء الدين باشا أخو السلطان أورخان اختيار الأقوياء من أبناء الترك وخصهم بمقدار كاف من العلف وعهد إلى قره خليل الشندرلي وهو قاضي بلاجك إن يزيد في عدد الجند وتنظيمه. أما مولانا القاضي خليل فقد بذل همةً فائقة في هذا السبيل , حتى كثر عدد هؤلاء الأبطال , فرتب لكل واحد منهم مرتباً يومياً بقيمة أقجة ربع درهم شرعي تعطى لهم إبان الحرب حتى إذا انقضت قطع العلف اليومي عنهم وإذن لهم

بالعودة إلى أشغالهم الخاصة. ومن هذا يستدلّ على أن الجنود كانوا مكلفين بوظيفة الجندية لمدة غير محددة. أخذ يزداد عدد هؤلاء الجنود وهم فريق المشاة ثم كثرت وظائفهم فدفعهم الطمع المركوز في فطرة البشر إلى ما أفسد نظامهم , فخطر للسلطان حينئذٍ أن يؤسس جنده على طراز آخر , لا سيما وقد تبين أن خروج هؤلاء الجنود المشاة عن طاعة السلطان نتيجة طبيعة لنظامهم القاضي بأن لا يكونوا جنوداً موظفين تماماً , بل هم نوع من الجند المأجور للخدمة في زمن الحرب ليس إلاّ. ولما تداول رجال الدولة في هذا الأمر وضع قرة خليل الشندرلي لائحةً قال فيها أن استقلال العثمانيين يظلُّ مهدداً بالخطر ما دام الجيش مؤلفاً من التركمن الرومانيين ومن هؤلاء المشاة. وهو يرى أن خير دواء لهذا الداء أن يؤخذ من الفتيان المسيحيين الذين دخلوا في الرعاية العثمانية مقدار ألف شاب في بضع سنوات وتصرف لهم علف وتعينات كافية باسم وظائف الحضر والسفر. فوقع اقتراح قرة خليل من رجال الدولة أسن وقع. وعلى هذا سنوا نظام دويشرمهْ للوصول إلى هذه الغاية. قضى نظام الدويشرمهْ بأن تأخذ الدولة في كل سنة ما استطاعت من الأطفال المسيحيين وأن تعني بتربيتهم وتهذيبهم إلى أن يبلغوا سنّ التجنيد , وعندئذٍ يرسلون إلى الثكنة العسكرية في العاصمة , ويُصرف لكل واحد منهم في كل يوم أقجة واحدة ربع درهم شرعي. وقد اقترح الحاج بكتاش ولي أجد رجال الصوفية على السلطان أورخان أن يطلق على هؤلاء اسم يني شري بمعنى الجندي الجديد فأجاب السلطان مقترحة. ذلك هو أصل الجنود الانكشارية وهذا سبب تسميتهم بهذا الاسم. ولم تكن أوروبا يومئذ قد ابتدأت بتأسيس الجندية النظامية , إذ أن فرنسا نظمت جيش لمشاة في زمن شارل السابع سنة 1447م وأطلقت عليهم اسم فرنك أرتير في حين أن العثمانيين نظموا جيش الانكشارية سنة 1326م. وعلى هذا

فالعثمانيون سبقوا أوروبا إلى تأسيس الجيش النظامي بأكثر من مائة سنة. ونحن نرى مؤرخي أوروبا يعزون شرف تأسيس الجنود النظامية الدائمة إلى شارل السابع مع أن العثمانيين أجدر بأن يعزى إليهم هذا الشرف , ولا ندري كيف نوفق بين ذلك وبين أنصاف هؤلاء المؤلفين. كان عدد الجنود الجديدة قليلاً فاضطرَّ رجال الدولة إلى تجنيد الأسراء ومع ذلك فقد ظلَّ الجيش ناقصاً فأكل عددُه بالتبعة المسلمين. أما الأسراء والأطفال المسيحيون فكانوا يسمون الغلمان الجهلة. وقد اعترض هذا المشروع في بدايته بعض عوارض وذلك أن القسس جعلوا يبثون في النفوس ما أحدث الضغينة بين المسيحيين المتجندين ولكن هذا لم يلبث أن زال أثره بارتقائهم في درجات الوظائف العالية وبالإنصاف الذي كانوا يعاملون بهِ حتى دعي ذلك إلى إقبال الجميع على التجند وأصبحت الحكومة في غنى عن متابعة سيرها في مشروع الدويشرمه وأحدثت في جنديتها صفاً جديداً سمتهُ صف المتطوعين. سار الانكشاريون بنظام من مبتدأِ أمرهم إلى يوم جلوس السلطان محمد الفاتح للمرة الأولى. ولما عاد السلطان من وقعة وارنه الكبرى وارتقى عرش السلطنة للمرة الثانية أخذ الرعب من خليل باشا مأخذه لأنهُ كان سبب استقالة السلطان من الملك. فأخذ خليل باشا يدس الدسائس في صفوف الانكشاريين , ويحثهم على التمرد والعصيان , فكان ذلك مدعاةً لشرور ومفاسد كثيرة. وأول شيء توسلوا به للمجاهرة بالتمرد والعصيان مطالبتهم السلطان محمد الفاتح بالإحسان بقشيش على أثر وفاة السلطان مراد الثاني وجلوس لسلطان الفاتح وذلك بعد حرب القرمان. حاول السلطان الفاتح والسلطان سليم والسلطان وغيرهم من المصلحين الذين قلما تظفر الأمم في كل زمان بأمثالهم أن يعيدوا روح النظام إلى هذا الجيش الذي ما حارب إلاّ ظفر , ولكن ذهبت عبثاً كل مساعيهم وظلَّ الشر والفساد ممزوجاً بتلك الشجاعة والهمم. وكذا ظلّ الانكشاريون يجنون ثمار النصر في

الحروب فيزيدون في شرف دولتهم ومجدها. ويحدثون القلائل والفتن الداخلية في زمن السلم فيضعون بنين البلاد. ولما كان عهد السلطان محمود الثاني بلغت الروح التراق وجاوز الحزام الطيبين فأدرك السلطان إن لم يبقَ لوجود هذا الجيش فائدة تذكر وكان قد أحس منذ كان وليَّ العهد بمسيس الحاجة إلى جيش معلّم فشرع سنة 1241 بتأليف جيش دعه اشكنجي وأبلى في هذا السبيل بلاءً حسناً ثم نجح في محو اسم الانكشارية من الجود , أولئك هم الانكشاريون الذين رفعوا مجد الدولة إلى هام العلى وأسمى الذرى ثم دخل بينهم خليط من السفلة والأدنياء فأفسدوا تربيتهم وبدلوهم من النظام اضطراباً ومن الطاعة والامتثال تمرداً وعصياناً فتجاوزوا حدودهم وطوحوا بالبلاد إلى مهاوي الهلكة ومدارج الانحلال حتى أدركهم السلطان محمود لثاني فدمرهم وأنقذ البلاد من شرورهم. وسنّ قانوناً جديداً كان مقتضاه إن جمعت جنود جديدة باسم العساكر المحمدية المنصورة وكان السلطان جديراً إن يدعى باسم مجدد القوانين العثمانية. ولما جلس السلطان عبد المجيد على سرير الملك أيد مشروع أبيه بنصّ الخط. السلطاني الذي قريء في الكلخانة وكان فيما جاء عن الجندية في الخط السلطاني 00غن طريقة الجندية حتى الآن لم يكن يلاحظ فيها عدد نفوس كل بلدة بل يطلب للجندية من بعض البلاد ما يزيد عن درجة احتماله ومن البعض الآخر أقلّ مما يجب , وهذا أمر ينافي العدل من جهة ويضرَّ في شؤون الزراعة والتجارة من جهة ثانية , وفوق ذلك فإن استخدام فريق من الناس في الجندية طول العمر يبعث في نفوسهم الملل واليأس وينتج قلة النسل - من أجل ذلك تفضلنا بإبطال هذه الطريقة العميقة والجري بعد الآن على طريقة خير منها يكون من شأنها أن يطلب للجندية من كل بلدة مقدار معين لزمن معين. ولهذا تفضلن في هذا الخط السلطاني بوضع طريقة القرعة العسكرية وسننا لذلك نظامات خاصة

خطرات

ولما كان الدفاع عن الدين والذبّ عن حياض الدولة فريضة على كل مسلم صحيح الجسم فقد أصبح من المحتم على كل من أصابتهُ لقرعة من المسلمين المقيمين في البلاد العثمانية أن يطيع أمر لنظام ويدخل في سلك الجندية , إلاّ من كانت لهم موانع شرعية أو امتيازات خاصة. يتبين من هذا أن فريضة الدفاع عن الدين والوطن خاصة بالأفراد المسلمين وأما المسيحيون المتوطنون في بلاد السلطنة والمتجنسون بجنسيتها فقد أسقطت عنهم فريضة الجندية في مقابل ضريبة خاصة معينة يدفعونها باسم البدل العسكري وأكثر الدول المتمدنة اتخذت طريقة القرعة في جنديتها بعد تاريخ قراءة ذلك الحين في مدارج الإصلاح والتعديل وأهم هذه الإصلاحات النظام الذي أعلن يوم 27 صفر سنة 1304 فإن بذلك بلغت جنديتنا ارتقاءها الحاضر. خطرات لكار من سيلفا - ملكة رومانيا الحالية المرأة الساقطة تنتظر إلى المرأة الشريفة كما تنظر إلى المرأة التي تربطها شناعة خَلقها فهي لو حطّمتها. كثرة الكلام تذهب بجوهر الأفكار وما تبرح تحوّل ذهبها إلى دراهم زائفة حتى يظهر صاحبها فقيراً ويقرب من مغزاه في العربية المثلث السائر: إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب) العقل كالملِك يسكن كوخاً , فإن مجرَّد وجوده يحوّل ذلك الكوخ إلى قصر الديانات أوحت الفن ولكنه قلما كان أصحاب الفنون قديسين!

في رياض الشعر

في رياض الشعر الملك المظلوم هدية إلى الفاضلة البرنسيس الكسندر أفيرينوه فيزنيومكا مكانك الأفقُ فما أنزَلكْ ... بُدلِتَ عنهُ الأرض أمْ بَدَّلتْ يا مَلَكَ اللهِ أيرضي الملَكْ ... مثلك الثرى من بعد مُلك الفلكْ؟ كلاّ. فلنْ تألفَ هذا الأنامْ ... خُلقتَ من نورٍ وهُمْ من ظلامْ أين جناحاكَ؟ متى فارقاكْ ... قد سقط في الأرض أمْ في السِّماكْ؟ إنك أوْلى بمجد ذاكَ المقامْ ... مِثلكَ لا يهنأُ فوقَ الرَّغامْ مَنْ عندنا يفهمُ هذا الجمالْ؟ ... أيُّ أمريءِ يهوي صفاتِ الكمالْ؟ أنتَ خيالُ الحبِّ نِعمَ الخيالْ ... حَذارٍ , اتدخلْ قلوبَ الرجالْ تِلكَ قلوبٌ دَهْرها في اضطرامْ ... كأنها موقدَةٌ بالآثامْ إن تُؤتَ خيرا بينهم يحسدوكْ ... وإن تجُدْ بالفضلِ لا يحمدُوكْ دانَيْتَهمْ لكنهم أبعدُوكْ ... لو صرتَ ربَّ القوْم لم يَعبدوكْ أُفّ لخَلقٍ ليسَ فيهِ كرامْ ... هَلْ كرَمٌ يسكنُ هذي العظامْ تَبقى لياليكَ وتفنى المنى ... بين الهمومِ الكثْرِ بينَ الضنى ويَلي فكم تحملُ هذا العنا ... كمْ تشتكي أنتَ وأبكي أنا!!

قدْ نفدَ الدَّمعُ فهلْ للغمامْ ... كدمعي إن زاد فيهِ الهيامْ تفتنُ لكنْ لستَ تدْري الفِتنْ ... كذاك يؤذي كلُّ شيءٍ حسنْ بهذهِ الروح وهذا البدَنْ ... تلقي مِنَ الناسِ سهامَ الضِغَنْ لله ما أظلمَ تِلك السهمْ! ... ألم تُصب غيرَ فؤاد الغرامْ؟ تغفرُ جُرْمَ الناس إن أجرَموا ... منهم ولوْ تعلمُ ما أعلمُ قد غنموا منكَ ولا تغنَمُ ... منهم ولوْ تعلمُ ما أعلمُ خاصمتَهم عدلاً وإنَ الخصامْ ... أعدلُ ما يحبو الكرامُ اللئامْ أبكيكَ أمْ أرثيكَ هلْ نافعُ ... دَمعٌ ونَوْحٌ والقضا واقعُ؟ هذا شقاءٌ ما لهُ دافعُ ... اسمعْ فإنَّ الله لي سامعُ قلْ أيها الأرضُ عليكِ السلامْ ... تحية بالدَّمع لا بالكلامْ ولي الدين يكن صدى نشيد نهر الصفا نشرنا في الجزء الماضي من الزهور شعراً منثوراً للكاتبة الفاضلة مي عنوانه نشيد نهر الصفا وفي الأبيات التالية صدى لذلك النشيد لشاعر ليس أنين الصفا بأحن من أنينه: هلْ دَرَتْ ميُّ واللآليءُ تجري ... بحفيفِ النسيمِ بين الغصونِ وهي في عالمِ الخيالاتِ سكري ... بمعاني فينوس أو أَبُّلونِ أنَّ ورقاء ذلك النهرِ سرّاً ... سرقت كُنهَ سرِّها المدفونِ ودَرَتْ ما وراءهُ من دموعِ ... ودرَتْ ما وراءهُ من شؤونِ واستقلّت تُذيعُهُ من بلاد ... لبلادٍ حتى انتهت في الصين

هاجها شجوُ أُخته وهي تُصغي ... لأنينِ الأرواحِ ريّاً الجفونِ فهمتْها وقد تلاشت وتاهت ... روحُها بينَ نشوةٍ وحنينِ ورأَتها تخطُّ أنيَ لغزٌ ... في ضمير الوجودِ غير مبينِ فأَرفَّت بالجانحينِ وحنّت ... وأسرَّت إلى فتاةِ الشجونِ لستِ لغزاً بعد الوجودِ ولكن ... كنتِ لغزاً من قبلما أن تكوني غَيلان هدية رأس سنة جذبتني يومَ الخميسِ وقالتْ ... بعد يومين. . . قلتُ إنيَ أدري بعد يومين يقبلُ العيدُ قالت ... والهدايا بين الأحبةِ تجري قلتُ ذي عادةٌ فقالت وهل ... تفكرُ فينا؟ أجبتُ أنتِ بفكري سوف أُهدي إليكِ من خالص الجو ... هرِ عقداً مرصعاً بالدرِّ سوف أهدي إليكِ قرطاً ثميناً ... وبُروشاً مذهّباً للصدرِ سوف آتيكِ بالخواتم عشراً ... تزدهي منكِ في أصابعَ عشرِ سوف. . . قفْ قالت الفتاةُ وقد ... مالتْ بغضنٍ يزهو بطلعةِ بدرِ مازحٌ أنتَ أو تقول إذن مِن ... أيّ أرضِ غنمتَ أو أي بحرِ؟ فتبسمتُ ثمَّ ملتُ قليلاً ... نحوها والهوى يشدُّ بأزري وبلا إذنٍ قد نثرتُ بأذني ... ها كلاماً كأنهُ نثر زهرِ إنما هذهِ الآلي ولا أن ... كرُ يا هندُ من خزائنِ شِعري عند ذا افترَّ ثغرها ثمَّ قالت ... إن هذا اللسانَ آلةُ سحرِ بشارة الخوري

السيف والقلم والمحراث كان محمد توفيق أفندي علي ضابطاً في الجيش المصري وهو شاعر من أكابر الشعراء فكان إذا خلا لنفسه من مهام الجندية استيقظ الشاعر الرقيق في صدر الجندي الباسل , وحلّ القلم في يمينه محل السيف فنظم تلك الدرر التي كان يهديها إلى الزهور ففي السودان آثر جنديته وفي الزهور آثار شاعريته. ولقد جاءنا منه أنه استعفي من الجيش وانقطع إلى مزرعة له مؤثراً صحبة المحراث على صحبة السيف والقلم فكتبنا إليه نستطلع أمره فكان جوابه أبيات الآتية: لا السيفُ في مصر يرضيني ولا القلمُ ... كلاهما في يمين الحرِّ منثلمُ جرَّدتُ سيفي وأقلامي وبي أملٌ ... واليومَ أغمدُها يأساً وبي ألمُ نُريد بي الدهر لا تمَّتْ إرادتهُ ... ذلاًّ وفقراً ويأبى العزُّ والكرمُ سأصرفُ العمرَ حُرّاً لا يقيّدُوني ... إلاّ التقى والنهى والمجدُ والشممُ وأطلبُ المالَ لا زهواً ولا سرَقاً ... فإنما المالُ في أهل النهى ذممُ وخيرُ ما يَقتني المصريُّ مزرعةٌ ... يشقى بها الفأسُ والمحراث والنَّعمُ باللهِ يا سيفُ هل ضُمَّت عليك يدٌ ... في الرّوع مثلُ يدي والهولُ يحتدمُ وهل سواي فتىً زانتك صحبتهُ ... يغشى بك الموتَ مختالاً ويقتحمُ ألستَ كنت ترى جقَّ الرئاسة لي ... إن راحَ يخفقُ فوق الفيلقِ العلمُ لكنَّ للدهرِ جيشاً من حوادثهِ ... إذا رآنيَ ولّي وهو منهزمُ ويا يراعيَ أنَّ الصمتَ من ذهبٍ ... لا يسمعون وفي آذانهم صممُ قد يسجنُ البلبلُ الغرّيد في قفصٍ ... وينعب لبومُ في الآفاقِِ والرّخمُ للهِ بهجةُ حقلي ما يماثلها ... في حسنها السيفُ مصقولاً عليهِ دمُ ويا سطوراً بمحراثي أدبجها ... لا يستقلَّ بها القرطاسُ والقلمُ تفتّح الزهرُ منها عن مباسمهِ ... وراح يرتع فيها مقلةٌ وفمُ هذا هو الخير معسولاً مواردُهُ ... هذا هو العيشُ إلاّ أنهُ حُلمُ محمد توفيق علي

أُولاه وأُخراه ويَلي لحالة صبٍّ شطّ مغناهُ ... عن الأحبة لا بل ألف ويلاهُ مضني الحشا والهٌ زاد الغرامُ بهِ ... ودمعهُ من دم الأحشاء مجراهُ كم ليلةٍ باتَ يرعى النجمَ ناظرهُ ... طوراً وطوراً نجوم لأفق ترعاهُ ذا مقلة للقا الأحبابِ ساهرةٍ ... يا حبذا لو ترى الإِغماضَ عيناهُ لعلَّ طيفَ خيالٍ من أحبّته ... يزوره سَحَراً إن عزَّ مسراهُ الله في مغرمٍ ذابت حشاشتهُ ... والسهدُ برَّحهُ والوجدُ أضناهُ يهيمُ في كل وادٍ بادّ كاركمُ ... منهُ فؤادٌ لقد طارتْ شظاياهُ رفقاً بمهجةِ صبٍّ ما له ولكم ... هجرتموه فزادت بعدُ بلواهُ شكاكمُ بثّهُ مما ألمَّ بهِ ... من الغرامِ ولم تُصغوا لشكواهُ ما أقبح الموت إلاّ في هوى رشإِ ... يهواكَ في الحبّ إخاصاً وتهواهُ مُنايَ يا دمتَ في عزّ وفي سعةٍ ... وفي جنابٍ مربع طابَ مثواهُ لو كنتَ تعلمُ في حالي وشقوتها ... وما أقاسيهِ من قومي وألقاهُ أُدعي غريباً وإني بين أظهرِهم ... ولي بذي الحال في بغدادَ أشباه فكلما قمتُ أدعوهم لنهج هدًى ... قاموا ينادونَ إياكم ودعواهُ هذا هو الكافر المرتدُّ مذهبهُ ... أتى بدينٍ جديدٍ ما عرفناهُ محرَّم ما وجدنا السالفين على ... منهاجه وعن الآبا أخذناهُ إذاً عذرتَ فتىً وافى بمعذرةٍ ... والحبّ أولاهُ معروفٌ وأخراهُ بغداد كاظم الدجيلي

في جنائن الغرب

في جنائن الغرب الحرب عن الفيلسوف جوزيف دي مستر نرى في ميدان الطبيعة قوةً غريبة كأنها غضبٌ محتوم يُسلط جميع المخلوقات على بعضها بعض , حتى حكم الموت مكتوباً على حدود الحياة كلها. فإذا أغفلنا الجماد رأيناه يبتدئ بالنبات , ويتناول أصغر عشبة تنبت إلى أكبر شجرةً تنمو. كم غصن ذوى وكم زهرة ذبلت. . . . غير أنه يتجلى هذا الحكم في الحيوان في أفظع حقائقه كأنَّ هناك دافعاً خفيّاً ظهرت نتيجته مشيرة إلى أصل الحياة بوسائط قاسية. فهي كل طائفة من طوائف الحيوان عددٌ يفترس قويّها ضعيفها. ففي بين حشرات تقتنص , وزخَّافات تبتلع , وطيور جارحة , وذوات أربع كاسرة , بحيث لا تمرّ برهةٌ إلاَّ قتَل حيوانٌ حيواناً.

فالحيوان أرقى من النبات , والإنسان أرقى الحيوان. وهو لا يغفل واحدة منها. لأنه يقتل ليأكل , ويقتل ليلبس , ويقتل ليتزّين , ويقتل مهاجماً , ويقتل مدافعاً , ويقتل متعلماً , ويقتل لاعباً , ويقتل قاتلاً. . . . ملكٌ عظيم غاشم لا شيء يسدّ عوزه , ولا شيء يقف أمامه. تراه قد أحصى مقدار الزيت الذي يستخرج من رأس الحوت , ثم تراه قد شكّ بإبرته هذه الفراشة الجميلة الذي اقتنصها بإصبعه وهي طائرة , يحنّط التمساح ويسجن الطير , ويحزن الحية ذات الأجراس في ماءٍ يحفظها لأعين المفرّجين , وإذا ركب جواده ليصيد النمر كان سرج جواده من جلد ذلك النمر؛ يأخذ أمعاءَ الخرفان ليشدّها أوتاراً على قيثارة طربه؛ وينتزع أضالع الحوت فيصنع منها مشداً لخصر الفتاة العذراء. ويستعمل عظام الذئب آلاتٍ تتقاضاها صناعاته , ويجعل نيوب الفيل ألعوبةً لولده الصغير. أن مكاتبه لحافلة بأشلاء قتلاه. غير أن الفيلسوف الذي يتتبع هذه الحوادث لابد له من التطلع إلى حيث تنتهي في هذا الكون العظيم. إذ لم يبقَ فوق الحيوان إلاَّ الإنسان وليس غير الإنسان من ينفّذ هذا الناموس عليهِ. نعم إن الإنسان موكَّل بقتل الإنسان , ولكن كيف يتم ذلك وهو مخلوق ملؤه الحب والشفقة , يبكي مصائب قريبه كما يبكي مصائبه , ويخترع خرافاتٍ لنفسهِ لكي يبكي. . . كيف يتم ذلك وقد قيل له أنهُ يُسأل عن آخر قطرة من الدم المهزوق ظلماً الحرب كافلة هذا الحكم الرهيب. ألا تسمعون الأرض تهدر ظامئةً طالبةً شرب الدماء؟. . لا تشفي أوارها دماء الحيوان ولا دماء

المجرمين الذين ماتوا بسيف الأحكام. ولو أن عدل البشر قضى على الكل لما بقي مجالٌ للحرب ولكنها لا تطول إلاَّ عدداً نزراً لعلّها تهمله في أكثر الأحايين وهي لا تدري أن إنسانيتها الفظيعة تدعو إلى لزومية الحرب. الأرض لا تصرخ عبثاً. هذه الحرب قد أنقذت نارها وتطاير شرارها فإذا بالإنسان قد تناوله غضبٌ إلهي بعيدٌ عن الحقد والغضب البشري فمشى إلى ساحة القتال لا يدري ماذا يفعل ولا ماذا يريد. وهنا اللغزُ المعقَّد. إذ أن الذي يفعله الآن مباين لطبيعته ولكنهُ يفعله مستلذاً مطيعاً. ألا ترون أن الإنسان في ساحة الوغى لا يعصى لكبيره أمراً. هل حدَّثنا التاريخ أن جنوداً شقوا على قائدهم عصا الطاعة ولو كان ذلك القائد من أكبر شرَّاب الدماء والقوم الظالمين. لا شيء يقف في سبيل تلك القوة التي تدفع الإنسان إلى الحرب فيصبح قائلاً وهو بريء لأنهُ آلة تسيّرُها يدٌ رهيبة فيقع في المهواة التي احتفرها لنفسه قائلاً مقتولا وهو لا يشكّ أنه هو الذي صنع الموت. . . وهكذا تنفذ تلك الشريعة الهائلة في الحشرات وفي الإنسان وتبقى الأرض هيكلاً عظيماً لا تفتر إراقة الدماء على مذبحهِ بلا رحمة ولا شفقة منذ البدء إلى انقضاء العالم وموت الموت. . . خليل شيبوب المغفرة دليلُ عدم الاهتمام والاكتراث. إذا وُجد الحب الحقيقي يجب أن لا توجد المغفرة. كارمن سيلفا

عيد الميلاد

عيد الميلاد للكاتب الأميركي الشهير وشنطون أرفنغ لست أشعر بيقظة العواطف الشجية في فؤادي , وثورة الذكرى بين جوانحي عندما نحتفلُ بالأعياد مثلما أشعر بها حينما تبدو طوالع عيد الميلاد. إخال أن في هذا العيد جاذباً علويّاً يجتذب الايئدة إلى هياكل الشعور والتأمل , ويطير بالنفوس إلى فراديس المسرّات حيث تحلّق في أجواء الملذات الروحية وتتمتع باستكانتها إلى العقائد الدينية. أي شيء أعظم تأثيراً ووقعاً في النفوس , وأسرع نفوذاً إلى أوتار القلوب , واستيلاءَ على الأفكار من ترنيم تلك الأنشودة الملكية المنبعثة من أرجاء الهيكل يتوهم الكثيرون مجرد تمتيع الجثمان بلذيذ الأطعمة وجديد الثياب ونفيس الحلي. إن للعيد غاية أسمى من هذه. للعيد معنى نبيل رمى به واضعوه إلى تجديد المودة وربط قلوب الشعوب بأسباب المحبة وتوثيق عرى الفرابة بين الأسر , والصداقة بين الأصحاب التي فصمتها يد المصائب وعبثت بها عواصف الحياة , فيجتمع البنون حول موقد والديهم , ويلتئم شمل الأصحاب حول موائد بعضهم بعض ويصطبغ الجميع بصبغة العيد. ومما جعل لعيد الميلاد مزيةً وميزةً خصوصيةً على غيره هو أن

الفصل الذي يقع فيهِ فصل شتاء , فنحن في ما سوى ذلك من الفصول الثلاثة نستعد أغلب مسراتنا من محاسن الطبيعة - من نضارة الربيع وجمال الصيف وجلال الخريف حيث كلٌّ من اخضرار المروج وتغريد الطيور وسكينة الطبيعة تستفزُّ منا كوامن السرور , وتفتح في قلوبنا ينابيع منهُ , أما فصل الشتاء حيث الطبية ملتحفة بأكفانها البيضاء , مستسلمة إلى سبات الموت إلى يوم تبعث في الربيع , حيث قد تقلصت الأيام وتمددت الليالي , وأكمدَّت أنوار الغزالة ونضبت عيون السرور منا نشعر بحاجتنا إلى الاجتماعات ونميل إلى المعاشرة لنولّد من نفوسنا سروراً لنفوسنا , فتصبوا القلوب إلى القلوب وتشترك العواطف مع العواطف لمباثَّة الإحساسات الرقيقة وتمتزج الأرواح بالأرواح ويتعهدها سيّال الحب فتتمّ الألفة وتتركب عناصر السعادة المشتركة , كما تتألف العناصر الطبيعية وتساعد حرارة نار الشتاء مع تمديد الصدور المنقبضة وإضاءة الثغور ببرق الابتسام وصقل غضون الجباه بمكواة الانشراح , ثم يستهوي الكرم الجميع فيفتح كلٌّ منزله للضيوف , وصدره للأحباب. بين هتاف الجذلين , وضوضاء المغتبطين , وحفيف أرواح الحب , أيُّ فؤادٍ لا يجب جموداً , وأي صدرِ لا تنفتح أريحيته؟ أجل ليس فصل الشتاء الوقت الملائم لإيقاظ العواطف السامية وإضرام نار القرى في البيوت فقط , بل لإِشغال جذوة الإحسان في القلوب أيضاً. أنا وإن كنت نائياً عن موطن آبائي , غريباً في هذه الأصقاع , لا يضمني منزل والد آوي فيهِ إلى ناره. ولا تصافحني كفُّ قريب , أو

في حسناء اسمها وردة

يرحّب بي صديق فحسبي بهجة العيد التي تنفذ إلى أعماق نفسي وطلعات الذين حولي السعيدة التي تُدخل فيَّ مجرى السعادة وتجعلني أشعر كأني بين أهلي وخلاَّني , لأنه حقيقةً كما يقال أن السعادة عاطفة قابلة الانعكاس كأشعة السماء , فكل محيا يطفح ابتساماً وكل طلعةٍ تفيض حباً وابتهاجاً هي كمرآةٍ تعكس إلى وجوه الآخرين أشعة السعادة وأضواء الهناء , ومن يحوّل وجهه عن الاشتراك بفرح المعيدين وينزوِ كالحاً في عزلته تستولِ عليهِ السوداء فيضطّر أن يطيب نفساً ويفرح مع المحتفلين ليتمَّ مهرجان العيد. كان أسلافنا في خالي الأحقاب يحتفلون بالعيد احتفالاً شائقاً , ويرصدون من معدات الطرب وصنوف الملاهي ما يضاعف دواعي السرور أما اليوم أعظم أبهة وفخامة , ولكنها أقلُّ مجلبة للسرور وأنقص مورداً للطرب لأن قانون الاجتماع يذهب برونقها وأصفاد العادات تغلُّ القلوب فلا تستطيع وثوباً من الفرح , ومع ذلك فعيد الميلاد في كل زمان ومكان لا يخلو من جاذبيةٍ وبهجة وحبور. بدرى فركوح في حسناء اسمها وردة وردة الروضِ قد تعيشُ قليلاً ... ثمَّ تُبلى أوراقُها بالذُّبولِ سنّةُ الله في الطبيعيةِ لكن ... وردةٌ أنتِ في جميع الفصولِ شبلي ملاط

طربوشي بنتوفلي

طربوشي بنتوفلي لاحظت منذ أيام أن صبيَّ مزيّني يُطيل النظر في طربوشي أثناء تنظيفه. فتأكدتُ أن هذا الطربوش أصبح غير لائق لأن تتوَّج بهِ هامتي فأبدلتهُ بآخر فصار لديَّ طربوشان. فلبستُ الجديد ووضعتُ القديم ناحية للانتفاع بهِ في يوم ماطر , أو سفر شاق , أو مظاهرة حادة. ولكن لم تمض أيام ثلاثة حتى تقلَّص ظلُّ أملي في الطربوش القديم إذ قدّم لي من قماشهِ الصفيق العتيق بنتوفلي من أفخر ما صنع عمال الأحذية. إذاً أصبح طربوشي حذائي!! فوقفتُ أمامه نحو نصف ساعة وكلما مددت قدماً للبسه أحسست بانكماش في أصابعي. لأنني مع اشتراكيتي التامة لم أرض لأول وها إن تتساوى قدماي برأسي. ولبثتُ طول النهار ولا شاغل لي غير الطربوش وتحوّله الفجائي إلى بنتوفلي وحدَّثت نفسي في أمره غيرَ مرّة فرأيت أنه لا بأس في أن أنتعله لأنه ربما كانت قدماي أنفع وأشرف من رأسي , بل أن رأسي يملّي عليَّ ما يؤذيني ويضرّ غيري. أما قدماي فبالعكس لا ضرر منهما ولا نفع لأحد. وإذا كنت أظن أن قدميَّ لا تستحقان العناية فإنني وأهم لأن الناس على اختلاف طبقاتهم ينفقون على جزمهم سواء في أثمانهم أو في تنظيفها

أضعاف أضعاف ما يصرفونه على طرابيشهم. بل منهم من يضع في جيبه قطعةً من الصوف وأحياناً علبة ورنيش ينظف بها من حين إلى ولو بين آخر - إخوانه وأصدقائه - حذاءه الضيّق اللماع. ثم إن الرأس ولقدم في درجة من الأهمية واحدة سواء في ما ورد عنهما في الكتب المنزلة أو أقوال أساطين الحكمة والشعر والفلسفة. وكما يبدي المرء استحسانه أو استقباحه لشيء ما برأسه فإنهِ يبديهما أيضاً بقدميه. وربما كانت حركات القدمين أفعل في النفوس والعيون. وقد ذكَّرتني المسألة بأمر ذي شأن خطير. فقد كنت قبلاً تمتلئ عيناي بهجة وحبوراً بمشاهدة الحسان وقد كللنَ رؤوسهنَّ بأفخر صنوف البرانيط. أما الآن فإنني أفضل النظر إلى أقدامهنَّ وحركاتها وسكناتها على التطلع إلى رؤوسهنَّ سواء كانت عارية أو مغطاة لتأكدي أن شعور أغلبهنَّ عيرة. فتلك الجدائل والضفائر والحلقات المصقولة والمنحنيات المجعدة بل كل ما تراه من الشبكات والعقصات مشترًى من السوق وتختفي تحته قطع من اللبَّاد يغمض الكثيرون عيونهم عند ما يلمحونها على طاولة التوالَيتْ. ومهما اجتهد امرؤ في تزيين قدميه والعناية بحذائه فإن عمله لا يؤثر في غيره تأثير قلنسوات الشعور وشعور قضاة الانكليز في بلادهم بعقول السذّج وعامة الشعب. وأضفت إلى هذا كله أنهُ لولا الأقدام ومساعيها الخيرية لما كانت الرؤوس وفائدتها الأدبية. فالعناية بالإقدام طيبّاً وذوقيّاً وأبيا أسٌّ لحماية

الحقد

الرؤوس. حتى أن الأميريكيّ مهما كان فقيراً معدماً يلبس برنيطة على قدر الحال ويصرف آخر سنت في جيبه على تنظيف جزمتهِ بالورنيش والبويه والبنزين والشمع. وهكذا أخذت أتدَّبر كل هذه النظريات وأقارنها بعضها ببعض وأخيراً قررت ما يأتي: أولاً - الأسف على انحطاط الطربوش القديم ثانياً - أن ألبس البنثونلي الجديد في الرأس العام الجديد ثالثاً - أن لا أفضل رأسي على قدميَّ في حال من الأحوال لأن لكل منهما عملاً لا يقوم به الآخر وغاية الأمل أن يأتي يوم نتخلص فيهِ من شرّ الجزم والشراريب والطرابيش والبرانيط معاً. وكل عام وأنتم. . . . توفيق حبيب الحقد مقل الحقد في القلب إذا لم يجد محركاً مثل الجمر المكنون إذا لم يجد حطباً. فليس ينفكُّ الحقد متطلعاً إلى العلل كما تبتغي النار الحطب. فإذا وجد علة استعرَ فلا يطفئه حسنُ كلامٍ ولا لينٌ ولا رفقٌ ولا خضوع ولا تصرعٌ ولا مصانعة ولا شيء دون تلف الأنفس وذهاب الأرواح. ابن المقفع

مستقبلنا

مستقبلنا إذا كان قد ذهب عصر الأنبياء الذين كانوا يعرفون المستقبل بقوة الوحي , فإن في عصرنا رجالاً ينظرون إلى مصير الإنسانية بعين بصيرتهم النيرة , فيقولون ما نحن صائرون إليهِ على قاعدة سنن العمران. وقد جمعنا لقراء الزهور في مطلع العام الجديد شيئاً من أقوال هؤلاء المفكرين يتم عن رأيهم في مستقبل المجتمع الإنساني: إذا نظرنا إلى أطوار التاريخ يظهر لنا جليّاً أن تأثير الجهل والرذيلة يضعف على التمادي كلما تقدمنا في تاريخ الإنسانية. فالهيئات الاجتماعية تزداد نظاماً بل فضيلة , ومجموع الخير يكثر ومجموع الشرّ ينقص كلما ازددنا معرفة بالحقائق. العالم برتلو عندما يقال أن الترقي سنَّة من سنن التاريخ لا يقصد من ذلك أن هناك قوة لازمة تولّد الإصلاح من مرور الأزمان. إن الإنسان في كل زمانٍ ومكان قد أراد إصلاح أرمه فترَّقى من الإصلاح الذاتي إلى فكرة الإصلاح العام. فالترقي متوقف على الإِرادة وحدها. على أنه إذا رسخ في الأذهان يوماً ما مبدأ فلسفي قائل بتلاشي قوة الإرادة فالمدنية حينئذ تتباطأ في سيرها وتتثافل ثم تقفز الكاتب جورج بيكوت قصيرة هي حياة بلادٍ لا يُشيَّد بناؤها على أساس التقدّم المادي الذي هو ثمرة الاقتصاد , ونتيجة النشاط والإِقدام في الأشغال , والاجتهاد المتواصل في ميدان الحركة الصناعية. على أنهُ لم تبلغ أمةٌ من الأمم إلى اليوم العظمةَ الحقيقية باعتمادها فقط على تقدّمها المادّي؛ ولذلك فإنه يجب الاعتراف بفضل الذين كوّنوا ترقي الأمة سواءً كانوا من الذين اشتغلوا بعقولهم أو بأيديهم في هذا السبيل روزفلت

هو ذا قد وُلدت في هذا الجيل دولة جديدة تضطرُّ أوروبا آجلاً أو عاجلاً أن تحسب لها حسابها حتى في الشؤون أوروبية نفسها. مَن تراه يقول لنا أنه لا يأتي يوم نكون فيه مجتمعين للمداولة في مسئلة من نوع المسئلة الكريتية مثلاً فيفاجئنا من أقصى البحر أميرال ياباني محتماً علينا إشراكه معنا في المداولة؟؟ غليوم الثاني ما العالَم إلاَ صورة من أفكار طائفة قليلة من أصحاب العقول المتفوّقة. هؤلاء أوجدوها وكبَّروها وزخرفوها في الماضي , ومثل هؤلاء لا يفتأون يكبرونها ويزخرفونها إلى أبد الآبدين جبرائيل دانو نزيو لا يتعلم الإنسان الحرية إلاَّ من الحرية نفسها فالإنسانية تكتسب قوة جديدة في كلّ مرة يُفكُّ قيد من قيودها. فليكن واجب الحكومة إذن نزع القيود , وضمانة العدل بين الجميع جورج كليما نصو عيب الهيئة الاجتماعية في حالتها الحاضرة مغالاتها في مبدأ المركزية. ومهمَّة اليوم مهمة استعداد لا مهمة قتال. أن نظام الديمقراطية الحقيقية لا يتأتي عن تسلط رجلٍ أو ملك أو مجلس نيابي أو زعيم أو حزب , ولكنهُ يتأتى عن تقدم طبيعي في طوائف الاجتماع بعد أن تتمتع بكامل استقلالها. فالمركزية اليوم تضغط على هذا الاستقلال وتقيد هذا الترقي فيجب نسخها بتاتاً بول بونكور إذا كان الإنسان يقضي شيخوخته في التحسُّر على الماضي بعد أن أفنى شبابه في الأمل بالمستقبل , فلا شك في أن خير أيامه ليس ذلك

فؤادي والذكرى

اليوم الغابر الذي لا يُرَدّ , ولا ذلك اليوم الآتي الذي لا يُعرف , بل هو هذا اليوم الحاضر سواء كان جوّه صافياً أو متلبداً بالغيوم جول كلارتي ما سوف يكون القرن العشرون؟ سيكون كغيره من القرون: العلوم الطبيعية والمادية ستواصل سيرها فتزيد في رفاهية المعيشة , وعلماءُ السياسة والاجتماع سيظلون ينسبون الفضل في ذلك إلى أنفسهم سواء ساعدوا هذا الترقي على غير علم منهم أو عرقلوا سيره , ومخيلة البشر ستظل تخلق لهم أسباباً للشقاء والتعاسة , وأهواؤهم ستجلب دائماً البلايا والرزايا وعواطفهم الشريفة تحاول مداواة تلك المصائب. والعدل سيظلُّ في عمل واحد وهو تغير مراكز المدعون إلى تلك المائدة حيث يأكل الكبارُ الصغار , وأصحاب القلوب الطيبة سيظلون يعتقدون أن تلك الحالة يجب أن تكون على غير ما هي ملكيو ردي فوكيه فؤادي والذكرى أيها القلب الشجي! يا لها طرفة من الأغاني قد أثارت كامن وجدك فما هو إلاّ سجع البلابل ونوح الحمائم هاجا ذكرى لوعتك. أيها القلب الشجي! ما هو إلاّ مغرب الشمس ومطلع البدر , بل ما هي إلاّ الزهرة الساطعة تذكرك ماضياً زاهراً , بل كوكباً تألق في صفحة حياتك , ثم توارى بحُجُب المغرب تحدوه نظراتُ الأسى القاتل. أيها القلب الشجي! ما هي إلاَّ زهرة جافة في كتابٍ حرَّكتْ

ساكن ذكراك , وجعلتك تتنزي تنزي الأطيار وقد رابها شبحا الصياد. أيها القلب الشجي! ما هي إلاَّ دمعة الألم تعقبها ابتسامة الأمل , وما هي إلاَّ ذكرى الماضي يشوبها رجاءٌ ضعيف في المستقبل , بل ما هو إلاَّ الحال وكأنه فردوس من حلو الأماني وسط سياج من مرّ الواقع , بل ما هو إلاَّ اليأس المميت قد كاد يرديك. فأخفق أيها القلب واضرب ضربات الحياة , ولكن حياة الإِباء حياة الأمل , أو فاسكن سكون الموت سكون العدم سكون الفناء , بل اسكن الرمس وعليك في الحالتين سلام. أيتها الذكرى! أنتِ يا بنت الم , وشقيقة الأمل. تسكنين مسارح الخيال , وتعشقين حفيف الأشجار , وتغريد الأطيار؛ تتخللين النغمات وتلازمين النفحات؛ يحتويك خرير الماء ويحملك نسيم الخلاء , فكأنكِ الشعر في صوره وجمال الطبيعة في أبهى مظاهرهِ. أمرجعةٌ أنتِ عهداً سجلتهُ أيدي الوفاء , ومحتهُ أكفُّ الجفاء؟ عهداً تذكره الأطيار في أوكارها والكواكب في بروجها؟ تتحدث بهِ الظباء في مسارحها والآساد في آجامها؟ عهداً أشهد عليهِ الغدير والماء السلسبيل , والأطيار والأقمار , والمغرب والمشرق , والشمال والجنوب , والزهور والرياحين , ونهر المجرة وتباشير الصباح؟ كلا أيتها الذكرى فما أنتِ بمرجعة الماضي , ولا مكررة صورَ الحياة: أقصر فؤادي فما الذكرى بنافعة=ولا بمرجعة بعضَ الذي كانا شبين الكوم أمين حمدي

رواية

رواية يوليوس قيصر لشكسبير تعريب سامي أفندي الجريديني أضفنا إلى هذا الجزء من الزهور 16 صفحة زيادة عن الصفحات المقررة لكل جزء , حتى نتمكن من الاتيان على تتمة رواية يوليوس قيصر؛ وذلك إجابة إلى رغبة جمهور كبيرٍ من قرَّائنا - ولا سيما طلبة البكالوريا منهم - لأن الترجمة التي نشرها الزهور جاءت أكبر معوانٍ لهم على تفهُّم الأصل الانكليزي المقرَّر لامتحان هذا العام , فلم نشأ أن نؤخرها عنهم , وقصدنا الأول خدمة ناشئنا الراقية المتعلمة. وقد لاقت هذه الرواية رضى القرَّاء التام؛ ولا عجب فهي من تأليف نابغة واضعي الروايات التمثيلية. أما ترجمتها العربي فهي من خير ما أخرجتهُ الأقلام من حيث الانطباق التام على الأصل مع متانة في التركيب , وانسجام في الأسلوب؛ وبلاغة في التعبير. ولقد جاء الثناء العام على هذه الترجمة وتقدير الأدباء لها خير تقريظ لحضرة الكاتب المجيد سامي أفندي الجريديني المحامي. وبهذه المناسبة نعلن أننا قد جمعنا هذه الرواية على حدة وهي تطلب من إدارة (0الزهور أو من مترجمها الفاضل في مصر وثمن النسخة خمسة غروش صاغ.

ثمرات المطابع

ثمرات المطابع كتاب الأمير - إذا ذُكر اسم نيقولا ماكيافيلي في حلقةٍ من الأدباء تبادر على الأذهان معهُ ذكر كتاب الأمير لقد ترادف هذان الاسمان حتى بات كلٌّ منهما عَلَماً لصاحبه , وحتى ما تسأل أديباً

عن أحدهما إلاَّ ذكرَ الاثنين معاً كما عَلقا بذهنه لأول مرةٍ سمعهما وهو لا يزال فتىً على مقعد التلمذة. وليس أدلّ على شهرة المؤلف من اشتقاق الكتَّاب من اسمهِ لفظه ماكيافيلزم أو السياسة الميخائيلية كما اصطلح عليها كتَّاب العربية ولا أدلَّ على قيمة مؤلَّفهِ من قولنا أن هذا المؤلَّف نفسهُ هو سبب ذلك الاشتقاق. فقول الفرنج ماكيافيلزم أو قولنا السياسة الميخائيلية لا يُقصد بهِ سوى التعبير

عن سياسة الأثرة والغدر أو سياسة الغاية تبرّر الواسطة ما زالت اللغة العربية خلواً من كتاب الأمير حتى اكتشفت خبره صديقنا الكاتب الفاضل محمد لطفي أفندي جمعه المحامي , وأتاحت له محاسن الاتفاق أن يهتدي إلى الآنسة مريم البرتيني فأخذ عنها قواعد اللغة الايطالية وأصولها , وعني حينئذٍ بنقل ذلك الكتاب إلى العربية نقلاً جمع بين الأمانة للأصل , والسهولة في التعبير. كتاب الأمير مستهلٌّ - بعد البسملة - بترجمة حياة مؤلفه نيقولا ماكيافيلي , ويليها بحث أدبيٌّ في تآليفهِ ثمَّ يتلو ذلك حديث طويل ولكنهُ مفيد جداً عن تاريخ المعرّب منذ أوَّل عهده بهذا الكتاب حتى صباح الثلاثاء في 27 يونيو سنة 1911 تاريخ الفراغ من تعريبه , ويعقب ذلك فصلٌ عنوانهُ الليلة الأخيرة وفيهِ قصة خيالية عن حياة ماكيافيلي وموتهِ , ثم يجيءحينئذٍ كتاب الأمير الحقيقي. وقد استغرقت المقدَّمات المذكورة خمسين صفحة كاملة , ووقع سائر الكتاب في مئة وخمسين أخرى. أما المباحث التي احتواها فنصائح أهداها ماكيافيلي إلى أميرة فيزنزه وجعلها قواعد لابدَّ منها للحكم , وأصولاً زعم أنها مرقاة إلى نيل الحالكم أرفع مقام وأسمى مكانة. غير أنَّ علماء الاجتماع , وكبار الفلاسفة والكتَّاب لم يعتبروها كذلك قط ففنَّدها بعضهم , وانتقدها آخرون انتقاداً مرّاً , وحملوا على صاحبها حملات شديدة. وكيف كان الأمر فكتاب الأمير خلَّد اسم ماكيافيلي وأبقاه قدوةً لمن اقتدى ,

أو عبرةً وذكرى لمن اعتبر وذكر. ولقد طبعت مطبعة المعارف الشهيرة هذا الكتاب على نفقتها طبعاً جميلاً متقناً والتزمت نشره وتعميمهُ عملاً بخطتها في نشر الكتب العلمية والأدبية فاستحقَّ صاحبها الفاضل جميل الثناء. فنلفت الأنظار إلى كتاب الأمير متمنين له الرواج الذي يستحقهُ. العلاج الجراحي -. . . وهذا أيضاً للدكتور محمد عبد الحميد. . التشريح الجراحي -. . . وهذا أيضاً للدكتور محمد عبد الحميد. . . وكم لهذا الطبيب العلاَّمة قبل هذين المؤلفين من الأسفار النفسية , التي تؤلف وحدها مكتبة عربية في العلوم الطبية. ولقد سبق لهذه المجلة تقريظ هذه الآثار الجليلة كل أثرٍ في حين صدوره , كما سبق لهه أيضاً نشر صورة صاحبها المفضال تكريماً له واعترافاً بجميله على العلم واللغة. أما الكتابان اللذان بين أيدينا الآن فإن اسميها يصفانهما خير وصف وهما مترجمان عن أشهر أساتذة الانكليز في علم الجراحة الحديث. وقد ميّزهما الدكتور عبد الحميد عن كتبه الأولى بما بذله لهما من العناية المعنوية والمادية ولاسيما هذه حيث زانهما بالصوَر الكثيرة الملوَّنة. وصدَّر أحدهما - التشريح الجراحي - ببيتين من الشعر هم: أرى نفسي تتوق إلى أمورٍ ... يقصر دون مبلغهنَّ حالي فنفسي لا تطاوعني ببخلٍ ... ومالي لا يبلّغني فعالي ومن عرف قلة إقبال قراء العربية لسوء الحظ على الكتب العلمية

يفهم ما في تضاعيف هذين السطرين من المعاني. على أن همة عالمنا النطاسي لم تعرف الكلل والفتور فهو لا يزال عاملاً مجدّاً ودائباً - برغم ما في التأليف في هذا الباب من المصاعب والعقبات - على تعميم علم الطب في اللغة العربية. فهو يقوم وحده , وعلى نفقته الخاصة , بعمل يحتج إلى جمعية علمية تقوم بنفقاتها خزانة حكومة عامرة. فإذا وجّهنا نظر نظارة المعارف المصرية إلى أعمال الدكتور عبد الحميد فإنما نوجّه نظرها إلى عمل جدير بعنايتها , وإذا هي فعلت - وهي فاعلة إن شاء الله - فإنما تكون قد أضافت حلقة جديدة إلى سلسلة آثارها المجيدة في سبيل التعليم باللغة العربية. تقويم البشير - جاءنا هذا التقويم لسنة 1913 وهي السنة السادسة والثلاثون لظهوره. وهو أتم تقويم معروف باللغة العربية يتضمن حساب السنة الغربية والشرقية والهجرية والقبطية والإسرائيلية والمالية مع مقابلة الواحدة بالثانية , والحسابين الشمسي والقمري , والأعياد الدينية والمدنية وكل ما يتعلق بالطوائف الشرقية ورؤسائها , وأسماء قناصل الدول في الشرق , وأسماء موظفي حكومة لبنان وولايات سوريا , ونص القانون الأساسي في تركيا والنظام الأساسي لجبل لبنان , والتقسيمات الإدارية في الدولة العثمانية مع كل ما يتعلق بالولايات ومدنها وسكانها. هناك جداول عن النقود والموازين والمكاييل في جميع البلاد وفوائد شتى في التاريخ والجغرافية وسائر العلوم. فنشكر لحضرة العالم الفاضل الأب لويس معلوف عنايته بهذا التقويم الذي أصبح بفضل ما يدخله عليه من التحسن

المتواصل أشبه شيء بدائره معارف خفيفة الحمل حافلة بالفوائد والمُلَح. الأمازون - جريد جامعة حرَّة أنشأها حضرة الكاتب الفاضل فارس أفندي دبغي من أدباء الجالية السورية في سان باولو من أعمال البرازيل في أمريكا. وقد أهدي إلينا الأجزاء التي صدرت منها إلى اليوم فطالعنا فيها المقالات الأدبية والسياسية التي تنمُّ عن مقدرة منشئها وعلمه. جراب الحاوي - تصدر هذه الجريدة في تونس ايرس , مديرها يوسف أفندي ملحم شعيا ومحرّرها سمعان أفندي بقالبٍ هزلي لتقربها من إفهام العامة. فنمتني لهاتين الجريدتين كل نجاح وتقدُّم , كما أننا نثني على صحافتنا العربية في أميريكا قاطبةً لما تبذله من العناية في حفظ رابطة اللغة والوطنية. جمعية الاتحاد والإحسان السورية في طنطا - أهدت إلينا هذه الجمعية الراقية كتيّباً جمعت فيه خلاصة أعمالها لسنتها الخامسة فتبينَّا فيه آثاراً شريفة , ومآثر غراء لا يكبرها أحد على مؤسسيها الأفاضل , وأعضائها الكرام. فنتمنى لها ما تمناه لها من قبلنا حضرة العالم المحترم الدكتور شميل إذ قال فيها عفي الله عنه: عسى أن تكون هذه الجمعيى قدوة لإنشاء جمعيات كثيرة من أمثالها.

أزهار وأشواك

أزهار وأشواك سنة 1913 معايدتي السنوية أقدّمها لقراء الزهور سائلاً أن يكون عامهم الجديد حافلاً بالخير , تزينه أزهار اليمن خالية من الأشواك. قيل - ولا أدري من قال ولا لماذا قال ولا أي عهد قال - أن رقم 13 أسوأ الأرقام وأشأمها. وللناس في هذا المعنى تخرُّصٌ وأحاديث ملفقة وخرافات منمقة. تحضرني منها الساعة الحكاية الآتية: زعموا أن منجّماً وقف بحضرة فردريك ملك بروسيا , ففاجأه الملك بقوله: تنبأ لي عن الزمن الذي أُنوَّج فيه إمبراطوراً. . . فقال المنجم: نحن مجموعة إلى السنة التي نحن فيها وجدنا ذلك التاريخ 9 + 4 + 8 + 1=22 + 1849=1871 وسنة 1871 هي في الواقع سنة تتويج فردريك إمبراطوراً على ألمانيا. قال الملك: ومتى أموت؟ فقال المنجم: أعد العملية نفسها بأرقام سنة تتويجك 1 + 7 + 8 + 1=17 + 1871=1888 وهي سنة وفاة الإمبراطور الألماني الكبير. ثم سأله ثالثةً: ومتى تنحلُّ تلك الإمبراطورية؟ فقال المنجم: دونك والعملية أيضاً بأرقام سنة وفاتك: 8 + 8 + 8 + 1=25 + 1888=1913 هذه حكاية المنجم والإمبراطور. لذلك ترى الشعب الألماني

يقابل سنة 1913 ببعض القلق والتشاؤم. جوابٌ على سؤال نشرتُ في الجزء الماضي بيتين , وسألتُ القرَّاء اسم ناظمها , وأنا اليوم ناشرٌ أحسن جوابٍ جاءني من صاحب التوقيع , وها هو بحرفه: قرأتُ سؤال البستاني الذي أورده عليك أيها الحاصد في نسبة ما رواه الكريم الشيخ أحمد آل إبراهيم. وذلك قول القائل: لقي نبلنا العوارض فانثنوا ... لأوجههم منها لحىً وشواربُ خلقنا بأطراف القنا لظهورهم ... عيوناً لها وقع السهام حواجبُ أما الجواب , فالبيتان لعبد العزيز بن نباتة السعدي المتوفي سنة 405 للهجرة وهو من شعراء سيف الدولة , وعليهِ تخرَّج الشريف الرضي شاعر قريش المشهور. وقد وقع في البيتين تقديم وتأخير لأنهما من قصيدة يأتي فيها سياق البيت الأول بعد الثاني بأبيات غير قابة , وفوق ذلك فإن روية البستاني على غير وجهها: قال ابن نُباتة في مطلع القصيدة وهي من قلائده: رضينا وما ترضي السيوفُ القواضبُ ... نجاذبها عن هامكم وتجاذبُ فإِياكمُ أن تكشفوا عن رؤوسكم ... ألا إن مغناطيسهنَّ الذوائبُ إلى أن يقول بعد أبيات: خلقنا بأطراف القنا لظهورهم ... عيوناً لها وقع السيوف حواجبُ أؤمل مأمولاً بغير صدورها ... فوا خجلتا إني إلى المجد تائبُ أبَوا أن يطيعوا السمهريَّة عزَّةً ... فصُبَّت عليهم كاللجين القواضبُ وعادت إلينا عسجداً من دمائهم ... ألا هكذا فليكسب المجدَ كاسبُ ثم يقول منها: بيوم العُظالى والسيوفُ صواعقٌ ... ألا هكذا عليهم والقسيُّ حواصب

لقوا نَبلها مُردَ العوارض وانثنوا ... لا وجههم منها لحىً وشواربُ وبعد يا حاصد الزهور فأما وقد ضمنت جائزة آل إبراهيم عن طريق الهند فاعلم إن الضامن غارم والسلام. مصطفى صادق الرافعي أما كون هذا الجواب الشافي قد ورد من الرافعي فلا عجب وهو الأديب المشهور صاحب الكتاب النفيس في تاريخ آداب للحصول عليها. عتاب نشرت الزهور ص76 من هذه السنة أبياتاً جميلة لشاعر الفيحاء السيد عبد الحميد بك الرافعي , عنوانها إلى شاعر الأمير وقد وجه فيها الكلام إلى شاعر الأمير أحمد شوقي بك , وسأله مطارحة الشعر على صفحات هذه المجلة ملتقى أقلام أدباء القطرين. فمرَّت بضعة أشهر دون أن تمكّن الفرصة شاعرَ النيل من الجواب , فعتب الشاعر الطرابلسي - ويحقُّ له أن يعتب - ورأيتُ بعض آثار عتبة على ورقةٍ في إدارة الزهور فقرأتُ فيها: يقولون أغضى عن جوابك أحمدٌ ... ومرَّ زمانٌ للعتاب مجيزُ فقلتُ عجلتم بالملامةِ ويحكم ... ألم تعلموا أن النفيسَ عزيزُ ولم يبقَ في الدنيا محالٌ محقّقٌ ... إذا قلتمُ بخلُ الجوادِ يجوزُ فأحببتُ نشرَ هذه الأبيات لأن في نفسي - ونفس القراء أيضاً - عطشاً إلى عذوبة شيء من الشوقيات حاصد

مواليد شهر يناير ك2

مواليد شهر يناير ك2 يزعم الكثيرون أن لليوم والشهر الذين يولد فيهما الإنسان تأثيراً في إخلافه وحياته. وها نحن ناشرون على سبيل الفكاهة شيئاً من ذلك مبتدئين بالشهر الأول من السنة. فالذين يولدون في: 1 منه أصحاب نشاط وجدّ ينالون الرتب العالية 2 منه أغنياء وذوو نشاط 3 منه أقوياء الإرادة متصلّبو الرأي 4 منه ذوو مزاج عصبي سريعو الغضب 5 منه متطفّلون يدعون معرفة كل شيء 6 منه سريعو الخاطر متوقدو يصلحون لكل عمل 7 منه طليقو اللسان فصيحو اللهجة ذوو عذوبة في الحديث 8 منه ضعفاء القلوب 9 منه سريعو الانقياد يصدقون كلما يسمعون 10 منه ميَّالون إلى العلوم محبون للآداب 11 منه يثرون ولكن بالعناء الجم وشقّ النفس 12 منه تعساء في شهواتهم وأمانيّهم وأهوائهم 13 منه ميالون إلى التجارة يحبون الإثراء 14 منه ثابتو المبدأ دقيقو المعاملة 15 منه ذوو حظوظ وتوفيق مستمرّ 16 منه سعداء بالحب 17 منه يميلون إلى الاشتغال بالزراعة 18 منه يحبون الحركة. أسفارهم خطرة 19 منه يحبون الخلوة والانفراد

فكاهة

20 منه قليلو الثقة بالنجاح 21 منه ضعيفو الإرادة , عديمو الثبات 22 منه ذوو عقول نقّادة يدققون في كل شيء 23 منه كبراء النفوس 24 منه يرتقون مناصب الحكومة العالية 25 منه ظريفو الحديث , كثيرو الكلام 26 منه ميالون إلى الاشغال اليدوية 27 منه يحبون الحروب ويقتحمون أخطارها 28 منه متعجرفون يحبون الحرية 29 منه ذوو سموّ في الأفكار وأصالة في الرأي 30 منه أقوياء القلوب 31 منه شديدو الحرص يضيعون الفرص لشدة حرصهم ا. غ فكاهة إلى مدارس البنات الشاب - إني أحب أن أتزوج بابنتك ولكن هل يمكنكِ أن تخبريني عن معارفها؟ الوالدة - قد حازت شهادات الامتيازات في الفوسيولوجيا والبكتريولوجيا والبداغوجيا وال. . . الشاب - كفى كفى يا سيدتي. إنها لا توافقني. لأني أريد فتاة تعرف الطبخولوجيا والكنسولوجيا وكافة أشغال البيوتولوجيا

وبما تعرفونه أنت جميعاً. إني أريكم جراح قيصر وهي تقوم مقامي فتخطب فيكم. أما لو كنت بروتوس. وكان بروتوس أنطونيوس , إذن لرأيتم أمامكم رجلاً يُغلي الدم في عروقكم ويضع لساناً في كل جرح من جراح قيصر وينفخ في حجارة رومه روحاً تحرّضها على الثورة. الجميع - نثور. سنثور عليهم العامي الأول - سنحرق بيت بروتوس العامي الثالث - تعالوا. تعالوا نفتش عن القتلة أنطونيوس - سمعكم. سمعكم. دعوني أقل كلمة بعد أيها الأخوان الجميع - اسكتوا. اصغوا لأنطونيوس. أنطونيوس الشريف الشريف أنطونيوس - أيها الأصدقاء , إنكم تفعلون ما لا تعلمون. أتعرفون لِِمَ تحبون قيصر هذا لحبّ. قد نسيتم. ها أنا مذكركم: نسيتم الوصية التي ذكرتها لكم. الجميع - صحيح. حق. الوصية. امكثوا نسمع الوصية أنطونيوس - ها كم الوصية مختومة بخاتم قيصر. إنهُ أوصى لكل روماني: لكل واحد منكم بخمسة وسبعين درهماً العامي الثاني - يا لقيصر كليّ الشرف. سنثأر لقتله العامي الثالث - يا لقيصر ذي الملك أنطونيوس - صبراً صبراً الجميع - اسكتوا يا قوم أنطونيوس - وقد أوصى لكم بجميع حدائقه وجنائنه القائمة على هذا الجانب من نهر التيبير. كلها لكم. متعة لكم ولأولادكم من بعدكم تتنزهون وترتاضون بها ما شئتم. . . ذلكم قيصر. فمتى تجدون له نظيراً؟ الجميع - لا نظير لهز لا نظير له. هلموا بنا. هلموا نحرق جثته في بيت الآلهة

ونشعل منها مشاعل نضرم بيوت القتلة من نارها. احملوا الجثة. العامي الثاني - هاتوا ناراً العامي الثالث - حطّموا المقاعد العامي الرابع - كسّروا النوافذ. كسروا الأخشاب. كسروا كل شيء يخرج الشعب حاملين جثة قيصر أنطونيوس - فلتعمل الفتنة الآن عملها. وأنت أيها الشرُّ هانذا قد أوقفتك على قدميك فاختر لنفسك سبيلاً يدخل خادم ماذا جرى يا غلام؟ الخادم - حضر أوكتافيوس لرومه يا مولاي أنطونيوس - أين هو؟ الخادم - في بيت قيصر ومعه لبيدوس أنطونيوس - سأوافيه إلى هناك في الحال. لقد جاء في الميعاد المرغوب. إن الحظ لباسم فلنغنم الساعة ونتمنى عليه المنى الخادم - سمعتُ اوكتافيوس يقول أن بروتوس وكاسيوس قرَّا من رومه مذعورين كم أصيب بمسِّ من الجنون أنطونيوس - ربما لحظا ما فعلتهُ بالشعب وكيف هيجتهُ عليهما. سرْ بي إلى أوكتافيوس يخرجان المشهد الثالث شارع يدخل سنّا الشاعر سنا - لنفسه لا يحلو لي الخروج جائلاً في الأسواق. ولكنَّ دافعاً يدفعني إليه. تخيلاتُ لشؤم تجول في خاطري فقد حلمتُ الليلةَ إني تعشيتُ مع قيصر يدخل الشعب

العامي الأول - ما اسمُك؟ العامي الثاني - إلى أين تقصد؟ العامي الثالث - وأين تسكن؟ العامي الرابع - أمتزوّجٌ أنتَ أم عزَب؟ العامي الثاني - أجب كلاًّ منا بصراحة العامي الأول - وبالاختصار العامي الرابع - وبحكمة العامي الثالث - نعم وبالصدق. ذلك خيٌر لك وأبقى سنا - ما اسمي؟ إلى أين أقصد؟ أين أسكن؟ أعزبٌ أنا أم ذو أهل؟. . . وعليًّ أن أجيبكم بصراحة وباختصار وبحكمة وبصدق. فلنبدأ بالحكمة. إني بحكمةٍ غير متزوّج العامي الثاني - مغضباً أتعني أن المتزوجين حمقى؟ ستنالُ جزاءَك مني على هذه انتهِ قل بصراحة سنا - بصراحة؟ إني ذاهب في جنازة قيصر العامي الأول - أعدوٌّ أنتَ أم صديق؟ سنا - صديق العامي الثاني - لقد أجبتَ بصراحة العامي الرابع - منزلك؟ بالاختصار سنا - بالاختصار؟ قرب الكابيتول العامي الثالث - اسمك؟ بالصدق سنا - بالصدق؟ اسمي سنا

العامي الأول - مزّقوه إرباً إرباً. إنهُ أحد المتآمرين سنا - أنا سنا الشاعر. أنا سنا الشاعر العامي الرابع - مزّقوه إرباً لرداءة شِعره. مزّقوه لرداءَةٍ شعرهٍ سنا - لستُ سنا المتآمر العامي الرابع - سيَّان. أن اسمه. انزعوا اسمه من قلبهِ ودعوه يذهب العامي الثالث - مزّقوه. مزّقوه. تعالوا. هاتوا المشاعل. هلموا إلى بيت بروتوس. إلى بيت كاسيوس. احرقوا الجميع - بعضكم إلى بيت ديسيوس وبعضكم إلى بيت كاسكا والبعض إلى بيت ليجاريوس. تعالوا. هلموا بنا. تعالوا. . . . يخرج الجميع الفصل الرابع المشهد الأول بيت في رومه أنطونيوس وأوكتافيوس ولبيدوس جلوس إلى مائدة أنطونيوس - إذن كلُّ هؤلاء سيموتون. إن أسماءَهم لمحصاة اوكتافيوس - وأخوك أيضاً سيموت. أتوافق على ذلك يا لبيدوس لبيدوس - أوافق اوكتافيوس - فاحصهِ معهم يا أنطونيوس لبيدوس - مخاطباً أنطونيوس بشرط أن لا تُبقي على ابن أختك بوبليوس أنطونيوس - إنهُ لن يعيش. وها قد علمت اسمه. فاذهب الآن يا لبيدوس إلى بيت قيصر وائتنا بوصية لنقرّ على ما سنبدّل فيها ونغيّر لبيدوس - أتلبثون هنا ريثما أعود؟

اوكتافيوس - هنا أو في الكابيتول يخرج لبيدوس أنطونيوس - ما أجدر هذا الرجل بأن يقوم لدينا مقام ساعٍ يروح ويجيء لأغراضنا. إنهُ تانه لا كفاءة له ولا استحقاق. أيخلق بنا أن نقاسم هذا العالم مثالثة فينال حصةً كحصة كلّ منا؟ اوكتافيوس - هذا ما ارتأيته أنت. وقد استشرته في إصدار أحكامنا السوداء بالموت أنطونيوس - إني بلوت الدهر أكثر منك يا اوكتافيوس. فإن نحن أغدقنا التكريم على هذا الرجل فما ذاك إلاّ لنخفف أعباء الحمل عنا ونتخذه حماراً لنا يحمل النضار إلى حيث ندفعه أو نقوده فإذا ما حطَّ الرحال نزعنا عنه حمله الثمين وتركنا له حصته تعباً وكدّاً تحت النير ثم إطلاقاً إلى مراع زريئة يأكل مرقصاً أذنبه من الطرب اوكتافيوس - قد يتمُّ لك ما تريد. ولكنهُ جنديٌّ مجرّب باسل أنطونيوس - نعم وهكذا حصاني. ولذا تراني أكيلُ له العلف كيلاً وأعلمه الكرَّ والفرَّ والهجوم والوقوف فأُخضع قوته البدنية لإرادتي. وكذا شأن لبيدوس معنا. إنهُ فارغ العقل يقتات على الحثالة والنفاية والتقليد فيبدأ حيث انتهى الآخرون شيئه ونحفظ شيئنا. اسمع الآن لمهامٍ عظمى أنقلها إليك: إن برتوس وكاسيوس يجمعان جموعها الآن فعلينا أن نسرع ونشدّد محالفتنا وننتقى أصدقاءَنا ونجهد قواتنا ونتشاور في خير السبل لملاقاة أخطار وكشف مخبآت الأقدار اوكتافيوس - لنفعل ما تقول. فإن الأعداء تحيط بنا وتكاد تردينا وكثيرون يبذلون لنا الابتسام وقلوبهم ملآى بضغائن لا تحصى. يخرجان

المشهد الثاني معسكر قرب سارديس. أمام خيمة بروتوس يدخل بروتوس ولوسيليوس وجنود. يقابلهم تيتينيوس وبنداروس بروتوس - يا هو! قف! لوسيليوس - كلمة المرور! قف! بروتوس - أي لوسيليوس. هل صار كاسيوس قريباً منا لوسيليوس - قريب وها بنداروس قدم يبلغك تحيات مولاه بروتوس - طابت تحياته. إن انقلاب حال مولاك يا بنداروس وسوء مشورة أتباعه جعلاني أندم على فعل ما قد فعلنا. أما وقد صار بالقرب منا فسأري غليلي الإكرام لوسيلوس - جلملني وأكرمني ولكنهُ احتاط لنفسه في الحديث وتكتم على خاف عادتهِ بروتوس - لقد وصفتَ صديقاً أخذت حرازةُ مودّته بالبرود. فإذا مرض الودُّ وسرى في عروقهِ الفساد لبس لباس الكلفة والمجاملة المفتعلة أما الحب الصحيح الفطريّ فخلوٌ من هذه الحيل. مَثل الفارغ من الرجال مَثلُ جود يجمح قبل إطلاق العنان فتتخيلُ القوة وراء طغيانهِ وزهوهِ فإذا ما أدميتَ جنينهِ ضرباً بالركاب ذَبل عرفُهُ وتبين لك عند التجربة برذوناً خدَّاعاً. أقادمٌ جيشهُ معه؟ لوسيليوس - الفرسان قادمون معهُ وهم معظم الجيش أما البقية فيبيتون الليلة في سارديس صوت مشي جيش عن بعد

بروتوس - اسمعوا. إنهُ لقادم. هلموا لملاقاته يدخل كاسيوس بقوَّاته كاسيوس - يا هو. قفوا بروتوس - قفوا. يا هو. كلمة السرّ الجندي الأول - قفوا الجندي الثاني - قفوا الجندي الثالث - قفوا كاسيوس - لقد أسأتَ إليَّ الأخ النبيل بروتوس - احكمي أيتها الآلهة بيننا. أيسيءُ إلى أصدقائهِ رجلٌ لا يقدر أن يسيءَ إلى أعدائهِ كاسيوس - إن تحت ظاهرك الوقور كثيراً من الخطايا. فإذا ما اقترفها. . . بروتوس - مقاطعاً رويدك كاسيوس رويدك وابدِ شكواك سرّاً لا جهراً فإني أعرفك حق المعرفة. لا يليق بنا أن نظهر أمام جيشينا بمظهر المتنافرين المتخاصمين لنمنعنّهم رؤية غير الألفة فيما بيننا. مُرْهم يتفرقوا ثمَّ تعال إلى خيمتي وأطل في وصف شكلويك فإني لكَ من السامعين كاسيوس - بنداروس! مر القواد يرحلوا بجيوشهم قليلاً عن هذا المكان بروتوس - افعل فعله يالوسيليوس. واحم خيمتنا عن كل قادم إلى أن نتمَّ حديثنا. دعْ لوسيوس وتيتينيوس يحرسا الباب يخرجون المشهد الثالث خيمة بروتوس. يدخل بروتوس وكاسيوس كاسيوس - هاك ما أسأتَ إليَّ بهِ: إنك حقرتَ لوسيوس بيلاّ وعاقبتهُ على رشوةٍ أخذها من أهل سارديس فكتبتُ أشفع فيهِ إليك لأني أعرفهُ قازدريتَ الكتبَ وطرحتها جانباً

بروتوس - أنتَ المسيء إلى نفسك إذ دافعتَ عن مثل هذه القضية كاسيوس - لا يجمل بنا في مثل هذه الأحوال الحرجة إن تعاقب على مثل هذه الجرائم التافهة بروتوس - بل أنتَ خليق بالعقاب يا كاسيوس لأجل يدك ذات الحكة ولأجل بيعك المناصب لغير الأكفاء كاسيوس - أمثلي توصف يده بذات الحكة؟ وايمِ الآلهة لو لم يكن القائلَ بروتوس لكان هذا القول آخر كلامهِ بروتوس - إن اسم كاسيوس يُلبس الرشوةَ لباساً من النبل فيغطّي القصاصُ رأسهُ ويتوارى كاسيوس - القصاص! بروتوس - اذكرْ شهر مارس. اذكرْ اليوم الخامس عشر منه. أما سال دم يوليوس الكبير انتقاماً للعدل؟ مَن مِن طاعنيه سَفُل فضرب إكراماً لغير الحق؟ ايهِ لكَ. أواحدٌ منا نحن الذين أردوا أعظم رجال العالم لتأييده الصوص يدنس يده برشوةٍ سافلة ويبيع شرفه الواسع الضخم بشيء زريٍّ يمسك بين الأصابع هكذا؟ إذن لتمنيتُ إن أكون كلباً يطاول القمر نباحاً ولا أكون ذلك الروماني كاسيوس - لا تهيجني يا بروتوس فلن احتمل هذا منك. إنك تنسى نفسك فتحملني فوق طاقتي. أنا جنديّ أكثر منك اختباراً وأعظم كفاءةً وأحرى منك باشتراط الشروط بروتوس - اذهب فما أنت بكاسيوس كاسيوس - بل أنا هو بروتوس - قلت لك لا كاسيوس - لا تستفزَّ غضبي أو أنسى نفسي. احترس لنفسك ولا تبالغ في تحريضي

بروتوس - عني أيها الرجل الخفيف كاسيوس - لم يعد بالإمكان. . . بروتوس - أصغِ لكلامي. فما أنا بحاسب حساباً لغضبك الطائش. أو أخاف تحديق رجلٍ مجنون؟ كاسيوس - ايهٍ أيتها الآلهة. أأطيق بعد كل هذا صبراً بروتوس - نعم وأكثر من هذا. أرغ وأزبد حتى تشقَّ قلبك المتعجرف. اذهب إلى عبيدك أرِهم غضبك ودع أرقّاءك يرجفون خوفاً. أتظنني أكترث لك فأتهيبك أو أقف أمامك ذليلاً في حالة غضبك؟ وايم الآلهة إنك ستبتلع سُمَّ كيدك ولو أرداك. أما أنا فسأسخر بك بعد الآن وأجعلك أضحوكتي كلما اشتدّ غضبك كاسيوس - أإلى هذا الحد انتهينا؟ بروتوس - أرِني إنك ذلك الجندي الذي يفوقني. أيّد دعواك بالحجة فاسرّ لك وأفرح. نعم إني أحب أن أتعلم من رجال النبل كاسيوس - إنك تسيء إليَّ من كل الوجوه. ما ادَّعيتُ بأني جندي أفضل منك بل قلت إني أكبر منك. هل قلت أفضل منك؟ بروتوس - وما يهمني لو قلت كاسيوس - ما كان قيصر في حياته ليجسر على إغرائهِ كاسيوس - لا أجسر؟ بروتوس - لا كاسيوس - لا أجسر على إغرائه؟ بروتوس - لا. لم تجسر خوفاً على حياتك كاسيوس - لا تحمّل صداقتي فوق وسعها فقد أفعل ما أندم عليهِ

بروتوس - إنك قد فعلت ما يستوجب الندم. أي كاسيوس , تهديدك لا يخفيني فإني لا بس من أمانتي درعاً قويّة تردّه عني فيمرُّ بي الريح لا اعبأ بهِ. لقد أرسلت أطلب منك ذهباً فمنعته وأنا أعجز من جمع المال بطرقٍ سافلة. فو السماء! لأوثر أن أصكَّ فؤادي نقوداً وأسبك من دمي دراهم على أن أنزع من أيدي الفلاحين الخشنة أموالهم الزرية بغي حق. أرسلت أطلب منك مالاً أوزعه على جنودي فمنعت ذلك عني. أيليق هذا بكاسيوس: هل كنت أجيبه بهذا الجواب أنا؟ ايهٍ أيتها الآلهة. أرسلي زوابعك ومزّقيني إرباً إرباً إن كنت طمّاعاً أجلس عن أصدقائي مالاً حقيراً كاسيوس - ما رددت طلبك بروتوس - بل رددته كاسيوس - لم أفعل. إن الذي نقل إليك الخبر لمجنون. قد مزَّقتَ فؤادي على الصديق ستر مساؤى صديقه أما بروتوس فيبالغ في ذكرها ويعظّم بروتوس - لا. لا. بل أردها ردّاً إذ أراك توجهها إليَّ كاسيوس - لم تعد تحبني بروتوس - بل ذنوبك لا أحبّ كاسيوس - عين الرضا كليلة عن كل عيب بروتوس - بل عين للمداهن كليلة لا ترى الذنوب ولو علت علوّ الأولمب كاسيوس - ايهٍ أنطونيوس. ايه أوكتافيوس. هلما انتقما من كاسيوس وحده الآن فقد ملَّ الدنيا وعافتها نفسه. ها صديقهُ يكرههُ وأخوه لا يعبأ بهِ بل يسترقّهُ كالأسير يعدُّ هفواتهِ يسجلها عليهِ ويعيد ذكرها ويكررها فترسخ في ذهنهِ فيرمي بها وجه صديقه. ليتني أستطيع أن أذرف حياتي دمعاً. هاك خنجري. هاك صدري

العاري صدراً يضمُّ قلباً أعزَّ من مناجم بلوتوس وأثمن من الذهب فانزعهُ مني إن كنتَ رومانياً فإن الذي أبى عليك الذهب يجود لكَ بقلبهِ. اطعّني كما طعنتَ قيصر فلقد كان في أشدّ ساعاتِ كرهك إياه أحبّ مني بروتوس - ردَّ خنجرك إلى غمده. اغضب متى شئت فسأفح لك المجال. افعل ما تريد فإني أعدُّ مساوئك سليقةً فيك. ويحك كاسيوس. إن مثل نفسك الساذجة مثل حجر القدح يطير شراره إذا حُكَّ ثم يهمد ويبرد كاسيوس - رجلاً سخرةً لصاحبه صرت. فالحزن وسرعة الغضب هيّجاني بروتوس - أي كاسيوس. وأنا أيضاً كنت سريع الغضب عندما خاطبتك بتلك اللهجة كاسيوس - أتعترف بذلك. هات يدك بروتوس - وقلبي معها كاسيوس - آه يا بروتوس بروتوس - مالك؟ كاسيوس - أليس لي عندك ذرةُ حبّ تشفع بي عندما يشط بي خلقي الموروث عن أمي فأنسى نفسي بروتوس - نعم. فإذا ما أسأتَ إليَّ بعد اليوم حسبتُ السببَ توبيخ أمك لك فأتركك حتى تهمد الشاعر - ينادي من الخارج دعني أدخل لأرى القائدين. يلوح لي أن شقاقاً وقع بينهما فلا يجدر أن نبقيهما معاً لوسيليوس - من الخارج لستَ بداخل عليهما

الشاعر - من الخارج لا يمنعني إلاّ الموت. يدخل الشاعر يتبعهُ لوسيليوس وتيتينيوس ولوسيوس كاسيوس - ما بالكم؟ ما الأمر؟ الشاعر - يا للعار أيها القائدان! ما تقصدان؟ كونا صديقين وليحب أحدكما الآخر فذلك أليق بأمثالكم وأجدر. صدقاني. فإني عشتُ ورأيت سنين كثيرة كاسيوس - هازئاً بهِ ما أرطن تلحينك يا مخالف سنن الناس! بروتوس - اخرج يا غلام. اذهب أيها الوقح! كاسيوس - رفقاً بهِ يا بروتوس فإنها لعادة بهِ بروتوس - قد أرفق بهِ في غير هذا المكان فلكل مقم مقال وما شأن هؤلاء المجانين المتشاعر في الحرب؟ اخرج يا هذا كاسيوس - اخرج. اخرج. اذهب يخرج الشاعر بروتوس - مخاطباً لوسيليوس وتيتينيوس قولا لقواد الفرق يهيئون مراقد لجيوشهم الليلة كاسيوس - ارجعا إلينا حالاً واحضروا مسلا معكما يخرج لوسيليوس وتيتينيوس بروتوس - لوسيوس! إليَّ بكأسٍ من الخمر. يخرج لوسيوس كاسيوس - ما ظننت الغضب يبلغ منك ما بلغهُ لآن بروتوس - أي كاسيوس أسقمني كثرة أحزاني كاسيوس - إن جعلت ليأس يتغلب عليك فقد أضعت حكمتك بروتوس - ما حمل رجلٌ حزنه حملي. . . ماتت بورسيا كاسيوس - بورسيا؟ آخ بروتوس - ماتت كاسيوس - وكيف نجوت أنا من القتل عندما أغضبتك. يا لفقد جارح غير محمول! كيف ماتت؟

بروتوس - ماتت قلقاً لطول غيابي وحزناً على انتصارات أوكتافيوس وأنطونيوس. عندما علمت بالنصر أحرزاه أضاعت رشدها قم اغتنمت فرصة غياب خادماتها فذهبت إلى نار موقدة وابتلعتها كاسيوس - أهكذا ماتت؟ بروتوس - هكذا كاسيوس - رحماكِ أيتها الآلهة الخالدة يدخل لوسيوس بالخمر وبالمشعال بروتوس - لا تعد لي ذكرها. أعطني كأساً من الخمر أدفن بها كلَّ غمّ وهمّ نخبك يا كاسيوس يشرب كاسيوس - ما اظمأ قلبي لشرب نخبك النبيل. املأ يا لوسيوس حتى يفيض الخمر من الكأس فإني لا أرتوي مهما شربت حبّاً ببروتس يشرب بروتوس - ادل يا تيتينيوس. يخرج لوسيوس ويدخل تيتينيوس ومسلّا أهلاً بمسلاّ تعالوا نجلس حول هذا المشعال نبحث في شؤوننا كاسيوس - أكذا تذهبين يا بورسيا؟ بروتوس - رجوتك لا تزد. أي مسلاّ لقد تلقّيت كتباً تنبئ بزحف أنطونيوس وأكتافيوس علينا بجيشٍ عظيم ووجهتهم فيلبي مسلاّ - جاءَني مثل هذه الكتب بروتوس - ألم تزد لك شيئاً عن كتبي؟ مسلاّ - إن أوكتافيوس وأنطونيوس ولبدوس قتلوا مايةً من أعضاء مجلس الشيوخ واحد منهم بروتوس - هنا اختلفت الرسائل. فعندي إنهم حكموا على سبعين بالقتل وشيشرون واحد منهم كاسيوس - أشيشرون منهم؟

مسلاّ - نعم قثتل شيشرون بأمرهم. هل أرسلتْ لك امرأتك كتاباً يا مولاي؟ بروتوس - لا يا مسلاّ مسلاّ - ألم يرد ذكرها في الكتب التي جاءتك بروتوس - لا. لم يرد شيء مسلاّ - هذا غريب بروتوس - ولما تسأل؟ هل جاءك نبأ عنها؟ مسلاّ - كلا يا مولاي بروتوس - أستحلفك برومانيتك أن تصدقني الخبر مسلاّ - فاسمعْ وتلقَّ الخبر الحقَّ كروماني. إنها ماتت وكان موتها غريباً بروتوس - وداعاً يا بورسيا وداعاً. كلنا مسوقون للموت يا مسلا ولا يعزيني عن فقدها إلاّ اعتقادي بأنهُ لم يكن لها عن الموت مندوحة مسلاّ - وكذا يتحمل عظماء الرجال المصائب العظام كاسيوس - ليس في استطاعتي احتمال مثل مصابك رغم تسليم عقلي وعلمي بصحة أقوالك بروتوس - دعنا من هذا. وهيوا بنا إلى العمل! ما تقولان في زحفنا على فيلبي في الال كاسيوس - لا أظنهُ صواباً بروتوس - والسبب؟ كاسيوس - هاكهُ: خيرٌ لنا أن يتولى العدوُّ خطة الهجوم فتهك قوى جنده

وتُبدَّد ذخيرتهُ ويصيبهُ الضرّ. أما نحن فنتربص مكاننا متوفرة لنا أسباب الراحة والدفاع وسهولة الحركة بروتوس - أفضل من هذا الرأي الصائب رأيٌ أفضل منهُ. إن الأهالي القاطنين بين فيلبي وبيننا لا يضمرون لنا الودّ الصحيح بل حاقدون علينا للضرائب التي ابتززناها منهم فإذا ما سار العدوُّ فيهم قادماً إلينا انضموا إليهِ فيزداد بهم عدداً وقوةً وإقداماً. أما إذا سبقنا العدوَّ إلى فيليبي فإننا نمنع عنهُ هذه الميّزة ونحول بينه وبينهم كاسيوس - سمعك يا أخي بروتوس - اذكرْ إننا قد جمعنا كلَّ ما يمكننا جمعهُ من جيشَ وعدَّة وبلغ استعدادنا مداه فلم يبقَ لنا بعد هذا الصعود إلاّ النزول. أما العدوُّ فيزداد يوماً بعد يوم. إن أعمال الناس مدّاً إذا ركبوه في أُبانهِ سار بهم إلى الفلاح أما إذا تباطئوا وأهملوه فإنهم يبقون كلَّ رحلتهم في رقراقٍ من التعاسة. نحن الآن عائمون في أعلا مدّ البحر فلنسر مع التيار في سبيله وإلاّ أضعنا فرصتنا كاسيوس - فليكن ما تريد ولنذهب لملاقاة الأعداء في فيليبي بروتوس - زحفَ علينا سواد الليل ونحن غارقون في الكلام. لابدَّ للطبيعة إن تأخذ مجراها فلنرضها بقليل من النوم. هل لكم من كلامه تقولونهُ؟ كاسيوس - لا. طاب ليلك. سنبكّر غداً في القيام ثم نرحل بروتوس - (منادياً الخادم لوسيوس! يدخل الخادم أعطيني جلبابيّ. يخرج الخادم وداعاً مسلاّ. طاب ليلك يا تيتينيوس. وأنتَ أيها النبيل كاسيوس أتمنى لك نوماً هنيئاً كاسيوس - لقد بدأنا ليلتنا بالخصام أيها العزيز بروتوس فإياك أن تدع مثل ذاك الشقاق يحول بيني وبينك بعد الآن

بروتوس - عادت الأمور إلى مجاريها كاسيوس - مُسيت بالخير بروتوس - وأنت أيها الأخ العزيز تيتينوس ولوسيليوس - طاب ليلك أيها المولى بروتوس بروتوس - وداعاً جميعاً يخرج لجميع عدا بروتوس يدخل لوسيوس بالجلباب بروتوس - هاتِ الجلباب. أين آلةُ الطرب؟ لوسيوس - هنا في الخيمة بروتوس - ما بالك تتكلم ناعساً. مسكين لا لوم عليك فقد أضناك الوقوف للحراسة. ادعُ كلوديوس وادع معهُ غيره يناموا هنا على فُرشٍ في خيمتي لوسيوس - فارو! كلوديوس! يدخلان فارو - هل نادي مولاي؟ بروتوس - اضطجعنا في الخيمة فقد أنهضكما عما قليل وأرسلكما إلى أخي كاسيوس - عفوك. بل نبقى واقفين نتلقى أوامرك بروتوس - لا. لا أريد ذلك بل اضطجعنا وإلاّ غيّرتُ فيكما ظني مخاطباً لوسيوس ها الكتابُ الذي طلبتهُ منك يا لوسيوس فإني في جيب جلباني. يضطجع كلوديس وفارو لوسيوس - أكدتُ لمولاي أنهُ لم يعطينه قط بروتوس - لا تؤاخذني يا غلام فإني كثير النسيان. هلاّ فتحتَ عينيك المتثاقلين قليلاً وعزفتَ على الآلة أو دقتين لوسيوس - أمرك مطاع يا مولاي بروتوس - إني أتعبك فوق طاقتك ولكنك مطواع

لوسيوس - ذلك واجب عليّ بروتوس - يجب ألاّ أسألك فوق ما تستطيع فإن دم السباب يتطلب الراحة لوسيوس - لقد نمت منذ هنيهةٍ يا مولاي بروتوس - حسناً فعلت وستنام عما قليل أيضاً فلست بممسكك طويلاً. وسأحسن إليك إن عشتُ عزف على الآلة لحنٌ منوّم ينام الخادم يا لك من نعاسٍ قتّال. هل لمست غلامي بعصاك الثقيلة فأنمتهُ على أوتاره. هنيئاً لك النوم يا غلام فلست بمزعجك وموقظك. إن كبوتَ لوجهك كسرت آلتك. سآخذها منك. طاب ليلك يا غلام يعود للقراءة في كتابه الم أطوِ الورقة عندما انقطعت عن القراءة. دعني أرَ. ها هي يدخل خيال قيصر ما أردأ نور هذه الشمعة. ها! من القادم؟ إن ضعف عينيَّ يصوّر لي هذا الخيال المزعج لقد جاء عليّ. من أنت؟ آله؟ أم مثلك؟ أم شيطان؟ فقد برّدت الدم في عروقي وأوقفت شعر رأسي. يتكلم من أنت؟ الخيال - ولمَ أتيت؟ الخيال - لأخبرك أنك ستراني في فيليبي بروتوس - أأراك مرةً أخرى؟ الخيال - نعم في فيليبي بروتوس - إذن سأراك في فيليبي يخرج الخيال لقد هدأ روعي إذ اضمحليت سيكون لي معك شأن أيها الخيال المشوم لوسيوس! يا غلام! فارو! كلوديس! انهضوا جميعاً لوسيوس - الأوتار رديئة يا مولاي بروتوس - يظن أنهُ لا يزال يضرب على الأوتار. أفق يا لوسيوس

لوسيوس - مولاي بروتوس - هل كنت تحلم عندما صرخت في نوك؟ لوسيوس - ما علمت إني صرخت يا مولاي بروتوس - نعم صرختَ. هل رأيت شيئاً؟ لوسيوس - لا يا مولاي بروتوس - عد إلى نومك يا لوسيوس. كلوديس! وأنت يا غلام انهض! فارو - مولاي كلوديس - مولاي بروتوس - لماذا صحتما في نومكما؟ الاثنان معاً - هل فعلنا ذلك يا مولاي بروتوس - نعم. هل رأيتما شيئاً فارو - لم أرَ شيئاً يا مولاي كلوديس - ولا أنا يا مولاي بروتوس - اذهبا لكاسيوس بلّغاه سلامي وقولا له يُعدّ جيوشه ويتقدمنا فسنلحق بهِ الاثنان - سنفعل يا مولاي

الفصل الخامس المشهد الأول سهول مدينة فيليبي. يدخل أوكتافيوس وأنطونيوس بعساكرهما اوكتافيوس - ها قد تحققتْ اوكتافيوس وأنطونيوس. قلتَ إن الأعداء لا ينزلون لملاقاتنا بل يلازمون المرتفعاتِ والتلال فخاب ظنك. ها كتائبهم تقترب وغرضهم مفاجئتنا القتال قبل أن ندعوهم إليهِ أنطونيوس - اسكت. أنا في ضمائرهم وأعلم لأي غرض يرمون. يودّون لو أتيح لهم الذهاب إلى غير هذه الأماكن ولكنهم ظنوا أنهم يخيفوننا بهذه المظاهرات الهائلة فنتوهمهم على شجاعةٍ وقوةٍ عظيمتين. ساءَ ما يخمّنون يدخل ساعٍ الساعي - تهيأا أيها القائدان فالعدوُّ قادم بمظهر فخمٍ رافعاً راية حربه الحمراء فبداراً إلى العمل أنطونيوس - اوكتافيوس! تقدَّم بجيشك على مهلٍ وكن على يسار الميدان اوكتافيوس - بل سألزم الميمنة وألزم أنتَ الميسرة أنطونيوس - أتقاومني والموقف حَرج اوكتافيوس - لا أقاومك ولكني سأفعل ما قلتُ سير جنود في الخارج صوت طبلز يدخل بروتوس وكاسيوس بعساكرهما ولوسيليوس وتيتينيوس ومسلاّ وآخرون بروتوس - ها هم واقفون وأظنهم يرغبون في المداولة كاسيوس - ألبث مكانك يا تيتينيوس فسنخرج إليهم ونكلمهم اوكتافيوس - هل نبدأ القتال يا أنطونيوس؟ أنطونيوس - لا بل نلزم خطة الدفاع. تقدّم فإن قوادهم يرغبون في المداولة

اوكتافيوس - لا تتحركوا وانتظروا إشارة القتال بروتوس - الكلام قبل امتشاق الحسام. أليس كذلك بني وطني؟ اوكتافيوس - ليس لأننا مثلكم نفضل الكلام على الحسام بروتوس - الكلام الطيب خير من الضرب الخائب يا اوكتافيوس أنطونيوس - إنك تلحق ضرباتك الخائبة بكلامٍ طيب يا بروتوس فبينا أنت تنادي ليحي قيصر إذا بك تطعنه الطعنة النجلاء قلبه كاسيوس - أما شرباتك يا أنطونيوس فلم نعلم وجهتها بعد ولكننا نعلم عن كلامك أنهُ يسرق من النحل شهدها أنطونيوس - لكنه يُبقي على إبَرها بروتوس - نعم ويحرمها طنينها فأنك سرقتهُ منها وانتحلتهُ لنفسك فصرت تتهدد قبل أن تلسع أنطونيوس - أنا أنتم أيها الأنذال فلم تتهدوا قيصر قبل أن تكسّرت نصالكم بعضها على بعض في جسده. بل كشرتم عن أسنانكم كالقردة وتذللتم كالكلاب وانحنيتم تقبلون أقدامه كالعبيد بينا كاسكا اللعين كالكلب من الوراء يضربه في عنقه. يا لكم من مداهنين! كاسيوس - مداهنون؟ أحمد نفسك يا بروتوس الآن فلم يكن هذا اللسان ليسيء بمثل سللت سيفي على المتآمرين فمتى تظنونه يرجع إلى غمده؟ ليس براجع قبل أن يثأر جراح قيصر الثلاثة والثلاثين أو يسقط قيصر آخر بسيوف الخائنين بروتوس - أي قيصر إنك لن تموت بيد الخائنين إلاّ إذا كنت قد أتيت بهم في صحبتك

اوكتافيوس - صحيح فإني لم أخلق لأموت بسيف بروتوس بروتوس - لو كنتَ خيرَ من قام في عشيرتك أيها الشاب لما لقيتَ موتاً أشرفَ من موتٍ يجيئك على يدي كاسيوس - ولدٌ غرٌّ طائش لا يستأهل الشرف يصحبهُ مراء منغمسٌ في الملذات أنطونيوس - لا تزال كما كنتَ كاسيوس الأحمق السفيه اوكتافيوس - هلمَّ بنا يا أنطونيوس. وأنتم أيها الخونة إن أعجبكم القتال اليومَ فانزلوا إلى ساحتهِ أو تربصوا تى تميلَ إليهِ نفوسكم يخرج اكتافيوس وأنطونيوس وعساكرها كاسيوس - اعصفي أيتها الرياح الآن وأزبدي أيتها الأمواج ولتشقَّ السفينةُ عبابكِ. ها قد اشتدت الأنواء وصار القول الفصل للأقدار بروتوس - لوسيليوس! تعال. لي كلمة أسرّها إليك لوسيليوس - مولاي يتهامسان كاسيوس - مسلاّ مسلاّ - أمرك أيها القائد كاسيوس - اسمع يا مسلاَّ هذا يوم ميلادي. في مثل هذا اليوم وُلد كاسيوس هات يدك واشهد أني مثل بومباي قد أُرغمتُ على خوض غمار معركةٍ فاصلةٍ يتوقفُ عليها كياننا إنك تعرفيني تلميذاً لا بيقورس ولمذهبه. أما الآن فقد تغيّرتُ وصرت اعتقد بنبؤات الأشياء فأنّا عندما رحلنا عن سارديس في طريقنا إلى هنا تبعنا نَسرانِ قويّان وسقطا على قوائم راياتنا الأمامية وظلاّ يرافقاننا ويتناولان طعامهما من أيدي

عساكرنا حتى بلغنا فيليبي فطارا واختفيا عن الأبصار وجاءتنا بدلاً منهما العقبان والغربان والأصقر تحوم على رؤوسنا كأنها ترقب فينا فريسة هالكة وتمدُّ لنا من ظلال أجنحتها كنفاً مخيفاً يبيت جيشنا تحته متأهباً للموت مسلاّ - لا تصدق هذه الأمور كاسيوس - لا أصدّقها إلاّ بعض التصديق فإني عقدت النية على ملاقاة الأخطار بصدر رحيب بروتوس - وهو كذلك يا لوسيليوس كاسيوس - أي بروتوس كليّ النبل ليت الآلهة تقف في صفوفنا وننتصر فنعيش ما بقينا بسلام متحابين. ولكنَّ أعمالنا في سرّ الغيب فقد يقع لنا شؤم الانكسار وهذا آخر كلام بيننا فما الذي عزمتَ عليه أن انكسرنا بروتوس - أتمسك بالمبدأ الحكيم الذي لمتُ كاتو على مخالفته إذا انتحر , وأتدرّع بالصبر مترقباً أحكام القوى العليا في شؤوننا الدنيا لأني أرى من الجبن والدناءة تعجيل امرئ في القضاء على نفسه فراراً من وقوع ما يخشاه كاسيوس - فإذا دارت علينا الدائرة رضيت لنفسك أن يقودك المنتصرون في شوارع رومه؟ بروتوس - لا يا كاسيوس. لا يا ابن رومه. إن بروتوس لن يساق إلى رومه أسيراً. إنهُ أأبى من ذلك نفساً. اليوم خاتمة أعمال بدأنا بها في خامس عشر مارس ولست أدري إن كان يُتاح لنا لاجتماع بعد. لذلك أودعك الوداع الأخير. الوداع , الوداع يا كاسيوس. إن قُدّر واجتمعنا فسيكون اجتماعنا محظوظاً وإلاّ فأكون قد ودعتك وداعاً جميلاً

كاسيوس - الوداع. الوداع يا بروتوس إن قدّر واجتمعنا فسيكون اجتماعنا محظوظاً وإلاّ فأكون قد ودعتك وداعاً جميلاً بروتوس - هلمَّ بنا. آه لو استطعنا علم ما يكنّه لنا هذا اليوم قبل مجيئه. إنما حسبنا أنهُ سينقضي وحينذاك تعلم النتيجة. هيا بنا يخرجان المشهد الثاني ساحة القتال. صوت بوق. يدخل بروتوس ومسلاّ بروتوس - أسرع يا مسلاّ. امتطٍ جوادك واذهب بأوامري إلى الجنود المرابضة على الجانب الآخر. ليهجموا في الحال فإني ألحظ الضعف بادياً على جناح اوكتافيوس فإذا فاجأناه بصدمة قوّية تضعضع وتشتت شمله. اركب وأسرع يا مسلاّ دع الجميع يهجموا يخرجان المشهد الثالث ناحية أخرى من ساحة القتال. صوت بوق. يدخل كاسيوس وتيتينيوس كاسيوس - ويل لهم يا تيتينيوس. ويل لهؤلاء اللئام كيف ولّوا الأدبار , هاك حامل رايتي رأيتهُ يتأهب للفرار فانقلبت عدوّاً له فقتلتهُ وخلصتُ الراية تيتينيوس - لقد تسرَّع بروتوس بالهجوم وعندما رجحت كفّتهُ كفّة اوكتافيوس توغل جيشه في السلب وتخلّفوا عن نجدتنا تاركين أنطونيوس يحيق بنا. يدخل بنداروس

بنداروس - فراراً مولاي. ابتعد عن هذا المكانز أنطونيوس في خيامك أسرع أيها النبيل كاسيوس وابتعد كاسيوس - إننا بُعد كافٍ. انظر تيتينيوس. أخيامي هذه التي أرى النار مشبوبةً فيها تيتينيوس - خيامك يا مولاي كاسيوس - إن كنت تحبني يا تيتينيوس فاركب جوادي واغمد مهمازيك في جنبيهِ إلى أن يبلغ بك تلك الكتائب المقبلة. تبيَّنها وعد إليَّ واخبرني أمِن الأصدقاء أو من الأعداء هي تيتنيوس - سأعود إليك بأسرع من مرّ الفكر يخرج كاسيوس - وأنتَ يا بنداروس أرقَ قمة هذه الرابية وارقب تيتينيوس في سيره وانقل إليَّ ما تراهُ في ساحة القتال فإني لم أكن حادَّ البصر قط. يصعد بنداروس إلى الرابية ويبقى كاسيوس وحده في مثل هذا اليوم ولدتُ. دار بي دولاب الزمان دورته فحقَّ لي أن أنتهي حيثُ ابتدأتز لقد أكمل جواد حياتي شوطه. ما الخبر يا غلام؟ بنداروس - من عل الرابية آه يا مولاي! كاسيوس - ما الخبر؟ بنداروس - أرى فرساناً تسرع لتحيط تيتنيوس ولكنهُ لا يزال جادّاً نحوهم كادوا يأخذونهُ. لقد ترجل بعض منهم. ترجل هو أيضاً. لقد أسروه. اسمع. إنهم يهتفون فرحاً هتاف في الخارج كاسيوس - انزل وكفَّ عن النظر. ما أجبنَ قلبي. أأعيش لأرى أعزَّ أصدقائي يؤخذ أمامي؟ ينزل بنداروس اقترب يا غلام. إني أخذتك أسيراً في بارثيا ولكي أبقي على حياتك جعلتك تغلط لي الإيمان أن لا تخالف لي أمراً. تعال

واوفِ بقسمك الآن وكنّ حرّاً. اطعن صدري بهذا السيف الذي مزَّقتُ بهِ أحشاء قيصر. لا تتردَّد. خذْ مقبضهُ في يدك فإذا ما غطّيتُ وجهي سدّدْ ساعدك واطعن. (يطعنه العبد ها قد تُئرتَ يا قيصر الآن بنفس السيف الذي أرداك يموت بنداروس - لقد أصبحتُ حرّاً. فو اللهِ لآثرتُ العبودية لو استطعتُ عصيان أمرهِ. واكاسيوه! سيرحل بنداروس عن هذه البلاد إلى حيث لا تراه عينُ رومانيّ يخرج يدخل تيتينيوس مع مسلاّ مسلاّ - الحرب سجال يا تيتينيوس فقد قهر بروتوس اوكتافيوس وفازت جنود أنطونيوس على كاسيوس تيتينيوس - ستسرّ هذه الأنباء قلب كاسيوس مسلاّ - أين تركته تيتينيوس - في يأس شديد مع عبده بنداروس على هذه الرابية مسلاّ - أليس هو ذاك المضطجع على الأرض؟ تيتينيوس - ما هكذا تضطجع الأحياء. واهٍ يا قلبي مسلاّ - أهذا هو؟ تيتينيوس - بل ما كان هو. لم يعد كاسيوس بموجود. ايهٍ أيتها الشمس الغاربة لقد غاب كاسيوس في دمه القاني كما تغيبين أنتِ وسط أشعتك الحمراء. غربت شمس رومه وتبدّل نهارنا بغيوم وأمطار وأخطار. قضي الأمر. إن تيقّنه اندحاري دفعه إلى هذا العمل مسلاّ - بل شكُّهُ في الانتصار قد دفعه إلى هذا العمل! ويحك أيها الخطأ المبغوض يا ابن اليأس؟ لِما تضع تصورات مكذوبة في عقول الناس السليمة؟

ويحك ما أسهل مجيئك! إنك لا تغشى السرير مبشراً بميلاد مبخوت حتى تنذر بموت الوالدة! تيتينيوس - بنداروس! أين أنت؟ مسلاّ - ابحث عنه ريثما اذهب لملاقاة بروتوس أخرق أذنيه بهذا النبأ الأليم. نعم أخرق أذنيه. فوقع السيوف القاطعة والسهام المسمومة أسهل على بروتوس من خبر هذا المنظر تيتينيوس - أسرع يا مسلاّ أما أنا فسأبحث عن بنداروس يخرج مسلاّ واكاسيوس الشجاع! لما بعثتني رسواً؟ إني لقيت أصدقاءك فضفروا لي إكليل النصر أحمله إليك! أما سمعت هتاف فرحهم؟ ويحي إنك أسأت تأويل كل شيء! هاك الإكليل. ضعه على جبينك. أخوك بروتوس أمرني أن أعطيكه وها أنا منفذ أمره. تعال يا بروتوس وانظر كيف توجّتُ كاسيوس. غفرانكِ أيتها الآلهة الآن! إن واجباً رومانياً قد دعاني. تعال يا سيف كاسيوس فتش عن قلب تيتينيوس ينتحر صوت بوق. يدخل مسلاّ ومعهُ بروتوس وكاتو الشاب وستراتو وفولمنيوس ولوسيليوس بروتوس - أين أين جثتهُ يا مسلاّ؟ مسلاّ - هناك يندبها تيتينيوس بروتوس - أرى تيتينيوس مستلقياً على ظهره! كاتو - ميت! بروتوس - أي يوليوس قيصر! ألا تزال قديراً. أيطوف بنا خيالك فيحدّد سيوفنا لنمزّق بها أحشاءنا؟ صوت بوق ضعيف كاتو - لله درُّك يا تيتينيوس الشجاع! انظر كيف كلّل رأس كاسيوس

بروتوس - أبلقٍ في الرومان اثنان كهذين؟ وداعاً يا آخر أبناء رومه! إن رومه لضنينة بمثلك! أي أخواني. إني مدين لهذا الراقد بأكثر مما تروني أذرف من الدمع. سأفيك حقك يا كاسيوس سأفيكه. هلموا الآن وأرسلوا جثته تدفن في ثاسوس فإني أخشى انحلال عزيمتنا إن نحن أقمنا مأتمه بيننا. تعال يا لوسيليوس وأنت يا كاتو هلمَّ إلى ساحة القتال. أعدَّا كتائب الجيش يا لابيو وفلافيوس فإنما الساعة الثالثة الآن ولا بد من خوض غمار معركة ثانية قبل حلول الظلام يخرج الجميع المشهد الرابع ناحية أخرى من ميدان القتال. صوت بوق. يدخل جنود من الفريقين يتحاربون ثم يدخل بروتوس وكاتو ولوسيليوس وآخرون بروتوس - اثبتوا قليلاً بعد يا أبناء وطني. ارفعوا رؤوسكم وانشطوا كاتو - لقيطٌ لئيمٌ من يتخلَّف! مَنْ يتبعني؟ سأكرُّ منادياً باسمي في ساحة الطعان وأنتسب! أنا ابن ماركوس كاتو! عدوُّ الظالمين وصديقُ وطني! أنا ابن ماركوس كاتو! أنا هو! يهجم على الأعداء بروتوس - وأنا بروتوس! ماركوس برتوس أنا! بروتوس صديق رومه الحميم! اعلموا أني بروتوس! يهاجم قسماًَ من جنود الأعداء فيفرّون ويتبعهم. ويتكاثر الجمع على كاتو. يطعنهُ أحدهم فيقع ميتاً لوسيليوس - أسقطتَ يا كاتو الشابّ النبيل؟ ما أشبهَ موتك بموت تيتينيوس الشجاع! إننا سنكرمك يا ابن كاتو جندي - يهجم على لوسيليوس سلّم وإلاَّ متَّ!

لوسيليوس - إني أسلّم كي أموت. يعطينه نقوداً هذا كلهُ لك إن أنتَ عجَّلت في قتلي! اقتل بروتوس فتنال شرفَ قتله! الجندي - لا نقتله , بل نأخذه أسيراً جندي أخر - افسحوا مجالاً. بلّغوا أنطونيوس أسر بروتوس الجندي الأول - سأنقل الخبرَ. ها قد جاء القائد يدخل أنطونيوس لقد أسرنا بروتوس يا مولاي. لقد أسرنا بروتوس! أنطونيوس - أين هو؟ لوسيليوس - في حرزٍ أمين يا أنطونيوس. إن بروتوس لأمنعُ من أن يقعَ لكم. ما من عدوٍّ يستطيع أخذه حيّاً. لتحرسهُ الآلهة من مثل هذا العار العظيم فإذا ما لقيتموهُ إن حيّاً أو ميتاً تلقونهُ هو وأشبهَ الناس بنفسهِ! أنطونيوس - لجندي ليس هذا بروتوس يا صاح ولكنهُ لا يقلُّ عنهُ قيمةً. احتفظوا بهِ وقولوا له قولاً ليناً. ليت مثل هؤلاء الرجال أعواني لا أعدائي. اذهبوا ابحثوا عن بروتوس. أحيٌّ هو أم ميت. ثم تعالوا قصّوا علينا الخبر في خيمة اوكتافيوس يخرج الجميع المشهد الخامس ناحية أخرى من ميدان القتال يدخل بروتوس ودارنيوس وكليتوس وستراتو وفولمنيوس بروتوس - تعالوا يا بقيةَ إخواني نجلس إلى هذه الصخرة كليتوس - لاح لنا ستاتيليوس بمشاله ولكنهُ لم يرجع بعد فقد يكون أُسر أو مات بروتوس - لقد راج الموتِ اليوم وأصبح لفظهُ مألوفاً. اقعد يا كليتوس

وأصغ لي قليلاً يكلمهُ همساً كليتوس - ماذا؟ أنا يا مولاي؟ لا ولو أعطيتُ ملك العالم! بروتوس إذن فاسكت. اسكت لا تتكلم كليتوس - بل أوثر قتل نفسي بروتوس - اسمع يا داردانيوس يكلمهُ همساً داردانيوس - أأنا أقدم على هذا العمل؟ كليتوس - داردانيوس! داردانيوس - كليتوس! كليتوس - أيّ شرٍّ طلب منك بروتوس عمله؟ داردانيوس - أن أقتله. انظر إنهُ شارد الفكر كليتوس - لقد طفح هذا الإناء الشريفُ حزناً ففاض من عينيهِ بروتوس - تعال أيها الطيب فولمنيوس. لي كلمةٌ أقولها لك فولمنيوس - ماذا يريد مولاي؟ بروتوس - هاك ما أريد. لقد زارني طيفُ قيصر مرتين في الليل مرةً في سارديس وأخرى الليلة هنا في فيليبي. لقد جاءت ساعتي فولمنيوس - لا. لا يا مولاي بروتوس - بل أنا واثق من قربها. قد انقلب الزمانُ علينا ودحَرَنا الأعداء حتى حافةِ الهوَّة فصار الأليقُ بنا أن نثبَ نحن إليها من أن نتربص حتى نُقذفَ قذفاً. أنتَ رفيقي يا فولمنيوس وقد كنا معاً في المدرسة. فبحقِّ الوداد القديم هلاّ أمسكتَ سيفي فأرتمي عليهِ فولمنيوس - ما تلك بمهمة صديق يا مولاي صوت بوق كليتوس - الفرار الفرار يا مولاي! لا مقام هنا بعد

بروتوس - الوداع يا كليتوس. الودع يا داردانيوس. الوداع يا فولمنيوس. ستراتو! أكنت مستغرقاً في النوم كل هذه المدة؟ وداعاً لك. أي أبناء وطني! إن قلبي ليطرب عندما أراجع كل تاريخ حياتي فلا أرى رجلاً لم يكن يخلص لي ولذلك حقَّ لي الفخر هذا اليوم مع الانكسار أكثر من اوكتافيوس وأنطونيوس بالانتصار. الوداع الوداع فقد نطق لساني بكل ماضي حياتي. إن الظلام يغشى عينيَّ وعظامي تتنطلب الراحة التي كانت تسعى لنيلها صوت بوق وأصوات اهربوا اهربوا كليتوس - أهرب يا مولاي أنجُ بروتوس - اخرجوا أنتم سألحق بكم يخرج كليتوس وداردانيوس وفولمنيوس ابقَ أنت يا ستراتو بقرب مولاك. إنك لعبدٌ بارّ اصطبغت حياتك بصبغة الشرف. أدر وجهك عني وأمسك لي سيفي أقع عله \ يهِ. افعل يا ستراتو ستراتو - هات يدك أولاً. الوداع يا مولاي بروتوس - الوداع أيها الطيب ستراتو يقع على سيفه نم مستريحاً يا قيصر الآن فإني لم أقدم على قتلك بنصف العزم الذي أقدمتُ بهِ على قتل نفسي يموت صوت بوق. يدخل اوكتافيوس وأنطونيوس ومسلاّ ولوسيليوس والجند اوكتافيوس - من الرجل مسلاّ - هو عبد مولاي. أين مولاك يا ستراتو؟ ستراتو - حرٌّ من مثل العبودية التي أنت فيها مسلاّ. فلن يستطيع المنتصرون إلاّ إحراقهُ الآن فقد انتصر على نفسه ولم يدع لغيره شرف القضاء عليه لوسيليوس - وكذا كان رجاؤنا فيهِ. شكراً لك يا بروتوس فقد حققت قولي فيك اوكتافيوس - سأُلحق بي كلَّ من كان في خدمة بروتوس. أتبذلُ سعيك لي يا غلام؟

ستراتو - أقبل إذا شفع مسلاّ بي لديك اوكتافيوس - اشفع بهِ يا مسلاّ مسلاّ - كيف مات مولاي يا ستراتو؟ ستراتو - مسكتُ له السيف فوقع عليهِ مسلاّ - خذه إليك يا اوكتافيوس خذ إليك من قام بآخر خدمة لمولاي علته بقيصر العظيم لحسدٍ وغيرة. أما هو فانضمَّ إليهم ابتغاء مصلحة الأمة وإرضاءَ لمعتقده الشريف. ما أكرم حياته وما أشرف عنصره. إن الطبيعة نفسها تنادي بأعلى صوتها وتقول ذلكم رجل كامل أنطونيوس - فليكن إكرامنا له على قدر فضيلته وندفنهُ باحترام عظيم. أما الليلة فستبيتُ جثتهُ في خيمتي موضوع الإكرام العسكريَ نادوا بالجيوش تسترحْ وهلموا بنا نتقاسم مفاخر هذا اليوم السعيد يخرجون

العدد 31

العدد 31 - بتاريخ: 1 - 2 - 1913 الجمهورية الفرنساوية رئاسة ريمون بوانكاره رجلٌ من الشعب صار ملكاً. لم يصر إليهِ الملك بالإِرث عن والديه , بل صار هو إلى الملك بجدّه واستحاقه. هنيئاً للشعب الذي يفسح المجال لكلّ كفوءٍ أن يكون ملكاً. ولدت فرنسا ملوكاً عظاماً. بل لعلَّها ولدت أعظم ملوك التاريخ الحديث. ما كانت قط عاقراً , ولا دبَّ إليها العُقم في الزمن الأخير. غير أن تمدّنها كان يمشي حثيثاً إلى الكمال مشيةَ أخلاقها إلى السموّ , وعلمها إلى الارتقاء. وإن يكن قد قام فيها قَتلهُ لويس السادس عشر وماري أنطوانت , فقد قام فيها بعدهم محرّر والأمم من الرق , ومطلقو الممالك من قيود الملوك , ومعلّمو الشعوب حقوق الشعوب. هذه الحكومة التي استهلّت الأمة رئاستها برجل كتياريس لم يولد ملكاً , ولا ورث الملك وراثةً؛ ثم تنقلت بها من رئيس إلى رئيس ,

حتى وضعتها بين يدي بوانكاره إنما هي النموذج الأول لما سيصير إليه حكم الأمم في المستقبل البعيد. إن شعبناً استطاع أن يكون في يومهِ , مثال جميع الشعوب في غدها , لهو الشعب الذي يجب على العالم أن ينحني أمامه باحترام. في السابع عشر من شهر يناير ك2 الماضي انعقد المجلس الوطني الفرنساوي في قصر فرسايل على مقربةٍ من باريس , وانتخب مسيو رَيمون بوانكاره رئيس مجلس النظار وناظر الخارجية , رئيساً للجمهورية بدلاً من مسيو ارمان فاليير الرئيس الحالي الذي تنقضي رئاسته في السابع عشر من هذا الشهر. دستور سنة 1848 - كان الدستور الفرنساوي الذي سُنَّ في سنة 1848 يقضي بانتخاب رئيس الجمهورية انتخاباً شعبياًّ محضاً؛ أي أنه كان لكل فرنساوي لم يفقد صفته السياسية , حق الاشتراك في ذلك الانتخاب. غير أن هذا الشكل الدستوري كان خطراً محيقاً بكيان الجمهورية؛ فأن الرئيس الذي تجمع الأمة على ترئيسه , أو ترئُسهُ عليها بأغلبية آرائها , يتأيد بقوة ذلك الإجماع , أو بدعامة تلك الأغلبية على الأقل , تأييداً إذا عزَّزه الطمع , دفعهُ إلى قلب الحكومة من شكل إلى شكل , والاستئثار بها لنفسه , كما فعل في سنة 1851 لويس نابوليون المعروف بنابوليون الثالث. لذلك قام رجال الجمهورية على قانون سنة 1848 وأبدلوه بآخر جعلوا فيهِ الرئيس منتَخَب منتخَبي الأمة: نوَّابها وشيوخها.

يريدون بهذا إضعافَ تلك القوة المستعدة من الأمة بوضعها أولاً بين أيدي النواب والشيوخ , ثم بتدرّجها من هؤلاء إلى الرئيس. قالوا: وإن في تدرّج القوة من الأصل إلى الفرع , ثم إلى فرع آخر , تجزئةً لها , وإن في هذه التجزئة , على هذا النمط , اتقاءً للخطر المشار إليهِ؛ فالرئيس الذي يجمع عليه النواب والشيوخ أضعف شوكة , وأقل صولةً من الرئيس الذي تجمع عليهِ الأمة على بكرة أبيها. المجلس الوطني - يُطلق اسم المجلس الوطني , أو الجمعية الوطنية , على مجلسي الشيوخ والنواب , متى اجتمعنا معاً , في قصر فرسايل , لانتخاب رئيس الجمهورية. وينعقد هذا المجلس بأمر سامٍ يصدره رئيس الجمهورية قبل انقضاء رئاسته بشهرٍ على الأقلّ. فأن لم يفعل , لأمرٍ ما , انعقد المجلس لنفسه قبل انتهاء تلك المدة بخمسة عشر يوماً. على أنه إذا خلا منصب الرئاسة , قبل الأجل المقرر , وذلك إما بموت الرئيس , وإما باعتزاله وإما بخلعه بعد الحكم عليه , ويجب انعقاد المجلس الوطني على الأثر , بدعوة من رئيس مجلس الشيوخ , لانتخاب رئيس جديد. والرئيس المنتخَب حينئذٍ إنما ينتخب إلى سبع سنوات جديدة وليس لتكملة السبع التي لم تتمّ. ويئس هذا المجلس في جميع الأحول , الرئيس الأول لمجلس الشيوخ؛ فيقصر العمل على الانتخاب وحده , وتحظر المناقشة والجدَل طريقة الانتخاب - كل فرنساويّ , متمتع بحقوقه السياسية، يصحّ أن يكون رئيساً للجمهورية. ولكنّ المجلس الوطني لم ينتخب إلى اليوم غير مَن كان من أعضائه. أما الانتخاب فإلى سبع سنواتٍ ,

وبالأكثرية المطلقة , على طريقة الاقتراع السريّ. ويجوز تجديد رئاسة الرئيس وتكرارها , وإن يكن لم تجدَّدْ لأحد من الرؤساء السابقين؛ مرتب الرئيس - ليس لرئيس الجمهورية مرتّب معين يتقاضاه كموظف في الحكومة. فإن النظام الذي وضع في سنة 1875 , ولم يزل معمولاً به إلى يومنا الحاضر , أغفل هذا الأمر تاركاً لمجلسي الأمة تقريره سنوياً في ميزانية نظارة المالية. وقد جعلته هذه في العهد الأخير مليوناُ ومئتي ألف فرنك: خصّت الوظيفة منها بستمائة ألف فرنك , وعينت لنفقات القصر ثلاثمائة ألف , وتركت الثلاثمائة الألف الأخرى لنفقات الأسفار والاحتفالات. حقوق الرئاسة - إذا كانت الجمهورية في فرنسا قد قامت على أكتاف رجال الثورة , فلأن تلك الأكتاف كان قد أرهقها استبداد الحكم المطلق , وناءَ بها حمل الحاكم الفرد. وإذا كان الدستور الفرنساوي قد جرَّد رئاسة الجمهورية من معظم حقوق الملكية , فلأن الدستور يقضي أبّى كان , بأن تكون الأمة حاكمة نفسها بنفسها بكل معنى الحكم. لذلك كانت السلطة المخوّلة لرئيس الجمهورية ضيقةً , محدّدةً , تكاد تخلو من كل مسئولية , وذلك أيضاً ما اهتم لإحراز هذا المقام العالي - بعد تيارس وقبل بوانكاره - أحد الساسة النابغين. كل ما لرئيس الجمهورية من الحقوق لا يتعدى حقّاً تشريعيّاً محصوراً في قليل من السلطة على مجلسي الأمة , ويسير من التدخل في سنّ القوانين , واشتراع الشرائع؛ وحقّاً آخر تنفيذيّاً مقيداً بقيودٍ

ضيقة الحلقات يتحمل مجلس النظار كل مسئولية فيه الحق التشريعي - أناط الدستور برئيس الجمهورية حق إشغال مجلسَي الأمة؛ فهو يجمعهما للعمل أو يؤخر اجتماعهما إلى أجل. وهو يحل مجلس النوَّاب إذا وافقهُ على حله مجلس الشيوخ. غير إن الرئيس لا يستخدم هذا الحق , حسب مطامعه وأهوائه , ولكن في ا؛ وال معينة نصَّ عليها القانون؛ كأن يتعذر , على جملة وزارات متعاقبة , تسييرُ الأعمال , والقيام بالواجبات , لإصرار مجلس النواب على المشاكسة في أمرٍ ما , واستمراره على رأي رآه , لأول مرة , في ذلك الأمر ثم لم يتحول عنه. حينئذٍ يقرر الشيوخ وجوب فضّ المجلس فيعمل الرئيس بذلك القرار. وللرئيس أن يشترك بالرأي مع وزرائه في التشريع , وإن يحمل مجلس الأمة على إعادة البحث , وإطالة النظر في كل قانون طرحتهُ الوزارة في المجلس على بساط الجدل والبحث. وعلى مجلس الأمة أن يفعل بمشيئة الرئيس. الحق التنفيذي - يشمل هذا الحق الأمور التالية: 1ً أن يتوِّجَ الرئيس باسمه جميع القوانين , ويراقب تنفيذها 2ً أن يسامح وأن يعفو 3ً أن يستأثر بقيادة الجيش 4ً أن يعيّن في الوظائف المدنية والعسكرية 5ً أن يرئس المجتمعات الوطنية 6ً أن يمثل الأمة في علاقاتها السياسية الخارجية

أعطيَ الرئيس حق المسامحة والعفو معاً , ولكنَّ الدستور أطلقه في الأول وقيده في الثاني إذ جعله ميسوراً له فقط بموجب قانونٍ يصدّقه مجلسا الأمة , لأن العفو في عرف السياسة غيرُ المسامحة. هذه لا تمحو الجرم الأصلي بل تمحو جزءًا من عقابه , أو عقابه كله , وذاك يلغي الجريمة نفسها كأنه لم تكن جريمة فلم يكن عقاب. وخُولّ الرئيس قيادة الجيش العليا بمعنى أنه رئيس الحكومة الأكبر. غير أن هذا الحق لفظي لا فعلي. فالدستور الذي جعل الرئيس غير مسئول لدى الأمة , وضع كل مسئولية في أعماله على وزرائه. فمن الصعب جداً أن يعمل الرئيس بهذا الحق ناظر الحربية المسئولية عنه. بل الأصعب أيضاً أن يضع مجلس النواب ثقته في ناظرٍ يأخذ على نفسه تبعة هذا الأمر. مسئولية الرئيس - ليس رئيس الجمهورية بمسئول لدى مجلس الأمة بل المسئول عنهُ في جميع أعماله إنما هو رئيس الوزارة , ومجلس الوزراء. غير أن الدستور الفرنساوي قال بوجوب محاكمة الرئيس إذا ارتكب الخيانة الكبرى؛ ولكنهُ لم يفسر هاتين اللفظتين بل ذكرهما مجرَّدتين. ثم أعطى مجلسَ النواب حق الاتهام , ومجلسَ الشيوخ حق الحكم. ونصَّ بوجوب تطبيق القواعد نفسها في جرائم الرئيس المدنية كما في جرائمه السياسية. ريمون بوانكاره - وُلد في بارلدوك من أعمال فرنسا سنة 1860

فهو اليوم في الثانية والخمسين من مره. أما حياته فهي سلسلة جدّ ونشاط , وأما تقدّمهُ فهو السائر في مراحل الترقي بالسرعة التي يمشي بها كبار الرجال , فكانت كل درجة من درجات الارتقاء التي وطِئَها قذَّافةً بهِ إلى درجة أعلى حتى لقد أصبح في كهولتهِ في أعلى القمم التي يمكن أن يحلم بالصعود إليها إنسان: في الثانية والعشرين من عمره كان سكرتيراً لمؤتمر المحامين؛ وزيراً للمعارف؛ وفي السابعة والأربعين عضواً في مجلس نقابة المحامين؛ وفي الثامنة والأربعين عضواً في الأكاديمي؛ وفي الحادية والخمسين رئيساً لمجلس النظار؛ وفي الثانية والخمسين رئيساً للجمهورية. هذا هو ملخص حياته المجيدة , وتقدمهِ المدهش. ولا تكون مثل هذه الحياة إلاَّ لرجلٍ نابغة متفرّد بصفاتهِ. وأهمّ تلك الصفات إرادة شديدة , وفكر نيّر , وثبات في العمل , وقد زانتهُ الطبيعية بصفات قلما اتفق اجتماعها في نفس واحدة فبينا تراه كاتباً بليغاً إذا بك تراه عالماً مدققاً , وبينا تقرأه فيلسوفاً مفكراً , إذا بك تجده شغفاً بالفنون الجميلة , وبينما تسمعهُ خطيباً تهتز له أعواد المنابر , إذ بك تراه هادئاً ساكن الجأش. قال الأب مرشال أستاذه الأول وقد اتصل به صدى خطبه الرنانة: لو كنت أعلم أن بوانكاره سيستعمل لسانه بمثل هذه الزلاقة ما كنت عاقبتهُ مراراً على الثرثرة في خلا الدروس هذا وأما انتخابه لرئاسة الجمهورية فقد كان له أعظم وقع في فرنسا

خصوصاً وفي العالم كله عموماً. واستقبلتهُ الجرائد على اختلاف نزعاتها ولغاتها بكلمات الإجلال والاحترام. قالت جريدة التيمس عنهُ: إن فوزه يعدُّ فوزاً لمبادئ الجمهورية العاقلة المعتدلة. وقالت الدايلي مايلي: لم يرئس الجمهورية الفرنساوية بعد تيارس رجل ذو تفوُّق حقيقي , ومحاط باحترام عام مثل بوانكاره. وقالت عنهُ غازته ألمانيا الشمالية: إن لهُ الفضل الأعظم في حفظ لسلم في أوربا أبَّان الأزمة البلقانية اقتراح على شعرائنا - لم تترك صحف أوروبا إلاَّ ذكرته عن الرئيس الجديد. فأمامنا الآن أول مقالةٍ نشرها في الجرائد , وأول مرافعة له في المحاكم , ومأثورات جمة عن صباه وجميع أطوار حياته. ومما قراناه له أبيات شعرية نظمها يوم انتقل من حضن الحياة العائلية إلى ميدان العمل والجهاد. وهذه هي ترجمة تلك الأبيات لعلَّ بين شعرائنا من يسبكها في قالب النظم. قال بعنوان الفراق الأول إن الذي أتأسف عليهِ هنا ليس الصفاءَ ولا الراحة المضرَّة. ونفسي القلقة ما كانت لتتكدر من أجل دواعي الأفراح والملذات التي أُغادرها إن الذي أتأسف عليهِ هو نارٌ مدفئة في الشتاء , وسماءٌ صافية في الصيف إن الذي أتأسف عليه هو أخٌ وصديقٌ ووالدٌ محبوب. هو أمٌّ ساهرة أبداً على ولدها انتقضت الأيام الجميلة. فالذي أتأسف عليه - ويا له من أسف لا يجدي - لن يرجع أبداً. . .!

حرفة الأدب

حرفة الأدب للشيخ أبي السامي مصطفى صادق الرافعي لا أريد من معنى هذه الحرفة ما يتجوز به المتكلمون من إملاق أهل الأدب وسوء أثر الزمان عليهم كسوء أثره على بعض الكتب القديمة. . . ولا ما يترسلون به من جفاء الأديب واطرحه دون منزلته وتقديره بما ليس من كفايته , وذهابهم إلى أن الأقدار ما برحت تنصرف بسعادته إلى غيره , وبشقاء غيره إليه , كأنه في لغة الأقدار باب من الطرد والعكس. . . ولا ما يتمثلونه من قبح مكافأة كل أديب لنفسه , وجنايته عليها وابتغائه بها المراميَ في كل ما أجرى إليه من قصد , واستهدف له من غرض , كأنها غير نفسه أو نفس غيره , فما إن يزال ينصب ويتهالك فيما يعاني من أمر الأدب لا يرفق بها ولا يستجمّ لها , حتى تسترخيَ جوانبها , وتتناثر بما فيها من قوة , فيحتف عليها كل بلاء , ويمكّن منها لكل قضاء , وهو يرى أن لا بأس على نفسه من شيء ولو كان الموت ما دام قد استيقن أن لا بأس في لبه. لا أريد ذلك وما إليه مما عسى أن تبلغ به بلاغة القوم في تفضيل هذه الحرفة إذا هم جمعوا أطراف لبيان وأخذوا في متاحي القول؛ وإنما أشير إلى معنى الحرفة على الحقيقة , وأريد أن أصف شيئاً من أخلاق جماعة يحترفون من الأدب صناعة كسائر المهن؛ والصناعات التي بها قِوام

العيش لهؤلاء المستأكلين والمتكسبين من السوقة والمرتزقة لا على جهة ما تحتاج إليه الحرفة من نفاق السوق , وتحرّك اصناعة , وتوفير الغلّة مما تزكوه به الثروة ويستطيل النَّماء , وتتصل أسباب الفائدة , وكن على جهة الحاجة اللازمة في كل حرفة إلى الأدوات والآلات , وإلى التمرّس بالأسباب والوجوه ثم إلى نزعه اللؤم التي البدّ منها في كثير من أهل الحرف والصناعات عندما يعرض من اهتضام الحق وبخس المماكسة؛ وعند تقليب النظر في أحوال الحرفاء وما أفاء الله عليهم من خير وبسط لهم من سعة؛ وعند اهتمام القلب بكساد إن وقع في الحرفة , وقوتٍ عن فات من الربح , وضعف إن أخذ في أطراف العمل , وصداع إن ضرب في رأس المال؛ وعند نصب البدن واستفراغ الدَّرع وترميق الصبر؛ فهذا كله وما يكون من بابه ويتصل بأسبابه رأيناه بكثير من أهل الأدب الذين اتخذوا من الأدب حرفة يُعرفون بها دون أن تعرف بهم , وذهبوا يتجرون في أخلاقهم على الناس , ولعل أحدهم أن يكون اسبوا من الحمق , واذمّ من الحسد , وأقبح من الجهل؛ ثم لعله أن يكون مع ذلك أضعف مَن أنت واجد ممن يدَّعي الفهم , ويتنبل بالعلم ويتنفق بالأدب , ولكنه يمضي ممدوداً لع في غيّه , وينطلق منفّساً له في باطله , ولا يزال قد ملكه السرف ونزت به الضراوة , وبعث منه التسلط , حتى يأخذ في كل فنّ من الحمق , ويضرب في كل ناحية من السخف , زرايةً على هذا ونفاسة على ذلك وتربصاً بغيرهما. ثم هو في جماع ينزع إلى لؤم الحرفة ويتسكع في كل وجه من السفه منتحلاً ما شاء أن يتنحل

من الأسماء يصنع منها المعاذير , ويستر بها على نفسه فضيحة من الأخلاق كان الرأي أن يتوقاها قبل أن تظهر , لا أن يحاول سترها وقد ظهرت؛ فربما زعم أنه منتقد أو متصفح أو هو يصلح عيباً أو يبغي مرمة ولابدَّ في هذا ومثل هذا بزعمه من سورة حمق ونزوة غضب ومن كلمة كزجرة المؤدب , وأخرى كغمزة المثقف , ونحوها مما يكون انتقاماً ويسمى في الرجل من الحملقة وفساد الأخلاق بحيث يرى سوء الأدب أدباً , والجنف عن الحق الواضح قصداً , والتنطع فيما يجهل علماً , وبحيث لا يرى له حجة ظاهرة على أحد إلاّ في العناد وركوب الهوى والمخاطرة , لا يرى أن أحداً يقوم له في الحجاج أو يثبت معهُ في الخصام , أو يرجح بالحق عليه وعلى باطله وهو ما هو؟ غبي فَدْمٌ إلى الجفاء والغلطة وإلى السجف والغسولة وتراه على ذلك يجمع إلى ضعف الرأي قوة العجب وإلى قلة الصواب كثرة التخطئة وإلى بطء الفهم سرعة الحكم ويرى كأن الله لم يخلق لأحد من الناس عقلاً إلاَّ على قياس من رأسه. . . فإن أنت جئته بما يعلو عن فهمه ويخرج عن طاقته بادر فقطع فيهِ برأيه وجزم عليهِ بالركاكة والإِحالة والإِفساد وسوء التعبير. ولِمَهْ؟ لأنه هو لا يفهمه فلا يوجد من يفهمه البتة إذ كان ما زاد عن قياس رأسه لم يكن إلى العقل بل إلى الجنون. . . وإن أراد أن يبتَّ الرأي في كلام من الكلام ويتعسف في الجزم عليهِ بأنهُ مال لا يستقيم , فسد لا يضح , مضطرب لا يتماسك , زعم

لك بلا حياء أنهُ لا يفهم. عليك أن كون ذكيّاً بالوراثة منطقياً بالفطرة لتنتهي من هذه المقدمة المسلمة. . . إلى النتيجة الطبيعية. . . فتقطع بأن ما لا يفهمهُ هو بتةً إذ لا يوجد من يستبطن حقيقته في الجيل كله ما دام علم الهستولوجيا الأنسجة لا يقيم عليهِ البرهان بأن رأسه غير ذلك الرأس الذي نصبهُ الله في أرضهِ مقياساً للعقول. . .! وبعد فإن من لؤم هذه الحرمة أن ترى صاحبه ساقط الحرمة ذمر المرؤة , زريَّ النفس بذيئاً متعهراً فحَّاشاً في هجائه أستغفر لله بل في انتقاده. . . يضع لسانه حيث شاءَ من عرض أو خلُق أو صيغة لا يبالي في كل ذلك أن يكون صدق وبرَّ أو كذب وفجرَ , بل همهُ أن يكون قد أوجع وأمضَّ , وطبَّق المفصل الذي يحزُّ فيهِ لا ينكر من ذلك على نفسهِ نكيراً ولا يغير منهُ تغييراً. ولا بدع فإني رأيت أن أحداً من الناس لا يخلو من الفضيلة إلاَّ كان فيهِ ما يعتدُّه في رأي نفسهِ فضيلة وأن فضيلة اللئيم التي يراها أن لا يخله لؤمه دون الاستطالة والتمكن؛ فلو كذب وعقَّ وكفر النعمة , وغمط الحق , وجاءَ بكل مخزية ومندية , ثم كان له أن يستطيل ويغلب , لقام ذلك عنده مقام الصدق والمبرة والشكر والإِقرار والإحسان , لكان عند نفسهِ أفضل أهل الفضائل جميعاً؛ فهو لذلك لا يتورَّع عن قول بذيء ولا يتنزه عن فعل دنيء ولا يأبى أن يكون أسخف الناس عند الناس إذا كان من نفسهِ ما عرفت. والغرور نعوذ بالله فهو ألأم اللؤم في محترفي الأدب خاصة قلما يؤتى أحدهم إلاَّ من جهته , ولا يعرض له لشيطان إلاّ من قبله؛ وأنه

لجنون هؤلاء العقلاء إذا كان لكل امرئ شعبة من الجنون. فلو رأيت ذلك المغرور , وَرِم أنفه , أن يكون أحد أولى منه بالحق أو أحق بالصوت فلجّ في العناد , وجنح إلى الباطل , وأصرّ واستكبر استكباراً! ولو رأيته قد زيَّن له الغرور وسوّلت له نفسه الخبيثة أن يهتف بأحد هتفه مشؤمة أو يقوم فيه مقاماً مشهوداً فجعل يفتري الكذب ويصنع الباطل وينقض الحق ويحيل الصدق حتى يصف لك أفضل خلق الله فلا تراه في ألفاظه إلاّ غثاً بارداً سمجاً , وأكرم خلق الله فلا تعرفه إلاَّ كزّاً لئيماً متوقحاً , وأعلم خلق اله فلا تصيبه إلاّ جاهلاً غبياً فدْماً , وأفصح خلق الله فلا تجده إلاّ عيّاً بكيئاً حصِراً؛ وهذا لا يزال يجترئ على الله , ويمثل بخلقه هذا التمثيل , ويمسخ منهم هذا المسخ حتى لكأن الله إله المخلوقين وهذا المغرور إله الأخلاق , وكأن لله جلَّ شأنه قوة الخلق ولهذا الأحمق في معارضتها قوة الاختلاف. ولو قيل لي إن في أديب من الأدباء مائة فضيلة وفيه لغرور , لما صدّقت أن تكون فيه مع هذه الرذيلة فضيلة؛ فإن الغرور لا يكون إلاّ من سوء تقدير المرء لنفسه وتقدير نفسه للناس , وهما خصلتان لا غاية لهما إلاّ تجاّور غاية المدح وغاية الذم؛ وما أسرف امرء في مدح إلاّ كاذباً ولا أفرط في ذمّ إلاَّ كاذباً ومتى كانت مع الكذب فضيلة؟ ولولا هذا الغرور ما استنكف المخطئ أن يفيء إلى الصواب , والضال أن يثوب إلى الحق والجاهل أن ينزل إلى حيث يتعلم , والناقص أن يخرج إلى طلب الكمال من غيره وهذا كله تراه على أهوانه وأقله في عوام الناس وطغامهم

وحثالهم من لا يثبتون على الباطل إلاَّ بمقدار ما يفهمون الحق؛ ولكنه على أعظمه وأتمه في هؤلاء الذين يحترفون الأدب لأنهم أهل زلاقة ولَسَن وصنعة من الكلام , وإنما قلوبهم عند النضال في حصون من وراء أفواهم فلا تزال تصرع دون قلوبهم كل حجة , أو ترد على أعقابها مهزومة أو كالمهزومة وهيهات أن تصل إليها مطلقة , أو تنزل فيها إن نزلت إلاَّ موثقة. وصفة المغرور أن يكون لسانه فوق عقله , وتكون نفسه تحت لسانه , فكيف تراه يكون لو تمت له مع هذه الصفة قوة اللسان وشرعة البديهة وشدّة العارضة واستجابة المعاني وهي أخصّ أدوات حرفة الأدب؟ على أني يعلم الله ما رأيت كالغرور من هؤلاء الأدباء يذم لك الغرور وينتفي منه ويعتده السيئة المجترحة التي لا تكفّر عنها الحسنة بالغةً ما بلغت , ثم لا تجده إلا أشدّ الناس كلفاً بأن يكون كل ما يؤثر عن المغرورين مسند إليه , متظاهراً عنه وأن تفشوَ له بذلك فاشية في الألسنة وتذهب عنه القالة في المجالس ليكون مرهوب الجانب , متقى اللسان , مخشيَّ المعرَّة مستعاذاً بالله منه , وليُعرف أنه لا يضع جانبه لخصم , ولا يغتمز فيهِ عدوّ غميزة , وليس أحد معه أبداً إلا على خطأ , وليس هو مع أحد أبداً إلا على الصواب؛ وأنه على ذلك سريع الباردة قبيح الإزراء موجع القذع حاصد اللسان؛ وأن من حمل نفسه عليه فقد حملها على التهلكة وأخطرها لما لا يملك له دفعاً دفعاً , وطلب بها ما إنَّ المعجزة كلها في أيسره؛ وأن من أخلد إليهِ وشدَّ بهِ يده والتمس مناصرته , فذلك

كيف نقيس الزمان

الذي يضرع كل عدو إلى أمانه , ويخرُّ كل قلم ساجداً يطلب المغفرة من لسانه. إلى صفات أخرى من أمثال هذه لا يكون الغرور بدونها غروراً , ولا تكون هي في أحد إلا بخذلان من الله. فما أشأم حرفة الأدب على أهلها وعلى الناس من أهلها. . . على أنه من خير إلا وفيه جهة من الخير تحيله كله خيراً؛ فالأمور بأسبابها , والآداب بأخلاق أربابها , وقلما نبغ أديب إلا كان إنساناً فوق الإنسان , وإذا اعتبرتَ أخلاقه لا تراه إلاَّ أقرب إلى الملَك أو أقرب إلى الشيطان. كيف نقيس الزمان الزمان! ما هو الزمان؟ يمرُّ بنا ونمرُّ به , يُحيينا ونحييه , يلاشينا ونلاشيه , ولا نعرف ماهية كيانه. ويعبر جسر الحياة تاركاً بين جوانب الأحياء جروحاً , ناثراً على سواد الشَعر بياض القِدَم , طابعاً على الجباه الوضّاحة تجعدات المجاهدة والملل , دون أن نحاول إرهابه أو الاقتصاص منه: الشيخوخة قبلةُ الزمان للبشر. لكن ما هي الشيخوخة , وما هو الإرهاب , وماذا يعني العقاب؟ والزمان. . . ما هو الزمان؟ أراد لبنتز تحديده فقال فيه أنه تتابع الأشياء المتواردة. وسواءٌ

كان هذا التحديد كافياً أو غير كافِ على الإطلاق , فهو دائماً يعبر نوعاً عن أهم أحوالنا البسيكولوجية والفيسيولوجية المنقسمة إلى ثلاثة ظروف هي سلسلة حياة الإنسان: الماضي والحاضر والمستقبل. ولكلٍّ من هذه الظروف علاقة كلية بالآخر يستحيل فيها الحذف والإلغاء لأنها إن لم تكن تلاشي الظرفان وتلاشى الزمان , وهذا من ضروب المحال. فالحاضر بمفهوميتنا هو ما يقع تحت إدراك الحواس اللمسيّ أو المعنويّ , في آن كائن بين خطين وهميين كل منهما أكثر أو أقلّ وضوحاً: خط الذكرى وخط الأمل , أي خط الماضي وخط المستقبل؛ والحاضر مزيج من الاثنين , وفي الوقت نفسه لا هو هذا ولا هو ذاك. بيدَ أن العلم المجرَّد يكاد يلغي هذه الأزمنة الثلاثة , وليس الزمان في نظره إلاَّ تتابع أشياء وأوقات لا بداية فيها ولا نهاية , كما أن الفضاء مسافة لا تحدّ , ولا أعالي فيها ولا أداني وجميع أجزاء الوقت التي انعيها كساعات النوم وساعات الغيبوبة تمتزج بعضاً ببعض وتتيه في هاوية الزمان كانت فالزمان - كالمسافة - كائن وإن لم تتوارد فيهِ أشياء متتابعة ولأن ما لا نراه نحن يراه غيرنا , وما لا يراه غيرنا يستعد من الطبيعة قوةً , ويتبادل مع أنواع متشابهة متضادة حركته الحيوية الدائمة. وفروغ الزمان - كفروغ المسافة - كلمة لا تعني شيئاً , ويتعذَّر على الإنسان تصوُّر مسافة أو زمن خاوٍ خال من كل ما يقع في دائرة الحواس: فهناك دائماً

هواءٌ ونور أو ظلام؛ وذرّات صغيرة هي عالم بذاتها , ودقائق أثيرية إن هي إلاَّ جرائيم الحياة. أما قياس الزمان مجرداً كما هو فأمرٌ مستحيل لأن إدراكنا متناهٍ والزمان غير متناهٍ , فضلاً عن أن القياس يستوجب مشابهة حجم إلى حجم من نوع ثان. فكيف نقيس الماضي وهو انقضى ولم يبقى منهُ إلاَّ الذكر - أي أمانة في الحواس - بالمستقبل الذي لا نتلمس خياله إلاَّ في دوائر الرموز والتقادير؟ على أنّا وإن لم نقوَ على قياس الزمان طولاً وعرضاً فتأثيراتنا النفسانية ميزان بخله وكرمه , ولا قيمة إلاَّ بما يورثه إلينا من السعد والشقاء. أرواحنا ملك مشيثته ولا ينفك جائلاً فيها - حتى يرضى. وهل يعرف الزمان معنى الرضي؟ وهناك أقيسة علمية رياضية آلية تترتب عليها حركات الاجتماع وقد اصطلح البشر على استعماله والسير بموجب قواعدها. منذ فجر الوجود كانت الحوادث الفلكية الطبيعية أساس تقسيم الزمان , وأهم هذه الحوادث لدينا هي دورة الشمس ودورة النجوم. والأوقات في علم الهيئة السماوية ثلاثة: يوم شمسي , ويوم متوسط , ويوم نجميّ. وكلٌّ من هذه الأيام ينقسم إلى أربع وعشرين ساعة , وكل ساعة تتركب من ستين دقيقة كما أن كل دقيقة تتألف من ستين ثانية. فالوقت الشمسيّ يقاس بمرور الشمس تتابعاً في مكان غير ثابت

وهو أطول من اليوم النجميّ. وأطول يوم شمسيّ هو 23 ديسمبر , وأقصر يومٍ يومُ 16 من الشهر نفسه. والوقت المتوسط أوجده الفلكيون لإصلاح الوقت الشمسي , وذلك باختراع شمسين آليتين تدوران على محورهما. أولهما تجتاز القوس السمتية بحركة متعادلة متوازنة , بنوع أنها تصلح حركة الشمس الحقيقية المتباطئة بسيرها من البعد الأدنى إلى البعد الأقصى , المتسرعة بسيرها من البد الأقصى إلى البعد الأدنى. والشمس الثانية أو المتوسطة , تجتاز خط الاستواء السرعة التي تجتاز بها الشمس الأولى القوس السمتية , فتمران في آن واحد في خط معادلة الليل والنهار. حركة هذه الشمس المتوسطة اليومية هي اليوم المتوسط وهو أصلح جميع الأيام الشمسية على تعددها واختلافها. والوقت النجمي يقاس بمرور نجمةٍ تتابعاً في مكان واحد في ساعة معينة , والمسافة بين المروو والمرور هي اليوم النجميّ وهو أقصر قليلاً من اليوم الشمسي , ذلك لأن بينا الأرض تدور دورة تامة على محورها تتبع الشمس في القوس السمتية انحناءً ملائماًَ لحركتها الخصوصية غير انه نقيض حركة النجوم اليومية. وأعظم فرق بين اليوم الشمسي واليوم النجمي هو 23 ديسمبر وقدره ثلاثون ثانية. وأقصر فرق بينهما في 16 من الشهر نفسه وقدره 21 ثانية. واليوم النجميّ هو في 23 ديسيمبر وقدره 21 ثانية. واليوم النجميّ أقص قليلاً من اليوم المتوسط. إن كانت حركة الفلك أساس قياس الزمان فالساعات والمقاييس

تدوّن تلك الحركة. وأول آلة كان يستخدمها الأقدمون هي بناية حجرية أو خشبية تحدد الساعات وتقيس ارتفاع الشمس بموجب اتجاه الظل نحو الشرق والغرب , نحو الشمال والجنوب. ويقال أن الأهرام شيدت لهذه الغاية أيضاً. ففي أهرام مصر إذاً درس مهم من هذا القبيل. وأعقبت الساعة الشمسية هذا النوع من قياس الوقت. وأقدم ساعة شمسية يذكرها التاريخ هي ساعة أشار ملك أورشليم سنة 740 قبل المسيح وردَّد ذكر هذه الساعة صدى الأجيال ناقلاً خبر أعجوبة النبيّ أشعيا الذي أخّر الظلّ في الساعة عشر درجات. أما الآن فلا نرى أعجوبة في مثل هذا الفعل لأنه يتجدد يومياً في ساعة تنعت بالرجعية من اختراع فلاماريون في مدينة جوفسي. ووجدت أول ساعة ثمينة في أثينا في سنة 433 قبل المسيح , وأول ساعة في روميه في سنة 306 ق. م. هذه كانت أقيسة النهار. وكانوا في الليل يستعملون ساعة الماء أو الساعة الرملية وهذه الساعة عبارة عن حوض صغير وفي قعرهِ ثقبٌ يسيل منه الماء - أو الرمل - نقطة فنقطة في أنبوب ذي درجات محصاة تدلُّ الملآنة والفارغة منها على عدد الساعات. وكانت هذه المقاييس مصطلحاً عليها بين جميع فلكييّ الشرق من كلدان وصينيين ويونان. وقد أهدى هارون الرشيد إلى شارلمان ساعة ماء قيل أنها أجمل ساعات ذلك العصر. وكان ذلك بمناسبة اتفاقهما

ضدّ يونان الآستانة ومسلمي أسبانيا. وأول من أوجد حركة ساعاتنا الحالية راهبٌ عاش في القرن العاشر يدعى الأب جربر وقد صار بعد ذلك بابا روميه وسمي سلفسترس الثاني. واشتغلت الشعوب على اختلافها في تحسين الآت الساعة وضبط حركتها الدقيقة , وبرع في ذلك ألمانيا وفرنسا فأوصلتا قياس الزمان إلى حدّ قصيّ من الدقة الصناعية والإتقان الذي لا إتقان بعده. أما أشهر ساعة أوروبية فهي ساعة ستراسبورج وقد استمرّ أساتذة الصناعية على الاشتغال بها مدة جيلين ونيف وألا تزال باقية إلى أيامنا هذه. غير أن حكومة ستراسبورج اضطرت إلى تغيير بعض عقاربها وتبديل بعض آلاتها في القرن الماضي. لم يكتف زعماء التقدم الآليّ بقياس الزمان بل أرادوا قياس الارتقاء في الكون بواسطة الآلات. فما أكثر دعوى الإنسان! فقد اخترع هاينرتش شميد تلميذ هيكل ساعة لا تعدّ الساعات بل الأجيال , وتدل عقاربها إلى الدرجة التي وصلتها الإنسانية في سلم الارتقاء. كل ساعة في هذه الآلة التاريخية عبارة عن عشرين ألف عام , وكل دقيقة تمثل ثلاثة أجيال , وكل ثانية تعني خمس سنوات. فليس ما يذكر في النهار الإنساني قبل الساعة العاشرة صباحاً - أي العصور الميثولوجية. وقبل الظهر بعشرين دقيقة تدل العقارب على ظهور آثار الارتقاء الأولي في مصر وبابل. ومنذ سبع دقائق - بالنسبة إلينا - تجلت شمس

خطرات

الفلسفة اليونانية وانتشرت مبادئ العلوم. ولم يمض بعد أكثر من نصف دقيقة على ظهور الآلات البخارية , كذا ولم ننتبه غيبوبة الجهل إلى عالم المعرفة إلاَّ منذ دقيقة وبعض الثواني. هذه فكاهة علمية فلسفية. لكنها كجميع الفكاهات تضمر تهكماً ودعوى , وتمكن في أعماق معانيها مرارة في رغبة المعرفة , وألماً في استكشاف ما أغمض عن العقول في ضمير الوجود. فيا ليت شعري لماذا كانت الأيام ولماذا كنا؟ ألندوّن حركات النجوم بعقارب معدنية , أم لنقابل نبضات القلب في الصدر بحفيف الأفلاك في الأثير؟ ألنرى الزمان تائهاً في دوائره الأبدية التي لا مجال للمدارك فيها , أم لنشعر بأقدام خياله دائسة على الأرواح فتطبع عليها ما شاءت من آثار حاسة مجهولة بذاتها , نسميها ألماً أو سروراً بحسب ما تُسر به إلى أعصابنا من الاهتزازات المريحة أو المضنية. . .؟ أم كانت الأيام وكنا لنرتقي بها وتتعظم بنا. ميّ خطرات لكارمن من سيلفا - ملكة رومانيا الحالة ما يُخجل في الصبى , تُبكي في الكهولة , ويُضحك في الشيخوخة النار تغلي الماءَ والماء تطفئها؛ لا تكرم الجحود لئلا يطفئك البيت لا أولادَ فيه كالجرس لا مطرقة له! غيرة الخاطب محمدة , وغيرة الزوج إهانة الحب قويّ السلاسل , ويكسر القيود , ولكنه يقتله تثاؤب بسيط!

فر رياض الشعر

فر رياض الشعر الشعر والشعراء هل عرفتم لعاشقٍ نُظراَء ... عشقَ الأرضَّ قلبهُ والسماَء تقطعُ البَرَّ منهُ لحظةُ عينٍ ... حين يجتاز فكرُهُ الجوزاَء يُصلح الحسنُ عندَه كلَّ خلقٍ ... فيسوّي الأحياء والأشياَء شبَّ مذ شبَّ عاشقاً لا يبالي ... حكمةً كان عشقهُ أم خطاَء عشقَ الروضَ والغياضَ وأزها ... رَ الروابي والأغصنَ الخضراَء وصغارَ النجوم تبدو وتخفي ... والدراري والقبَّة الزرقاَء وفضاَء البحار والسحبُ تحكي ... سُفناً تحتها تشقُّ الماَء وسكون الدجى كأنَّ الكرى أأ ... قي عليهِ مع الظلامِ غطاَء هامَ بالغاب زانها الشجرُ العا ... لي وزانَ الفضاَء والصحراَء يسمعُ الوحشَ والطيورَ فيهوي ... كلَّ صوتٍ كأنَّ فيهِ غناَء أيُّ تاجٍ يتوِّجُ الغابَ في ك ... لّ صباحٍ يُزالُ عنها مساَء دررٌ من أشعة الشمسِ صيغت ... ملأتها مهابةً وبهاَء وإذا الشمسُ بالحجابِ توارتْ ... تكتسي الغابُ حلةً سوداَء تحتها تنضوي الطيورُ فتمسي ... دونها كلُّ جنةٍ غَّناَء إنَّ في الغاب للقوافي عروساً ... جمَّة الحسنِ تفتنُ الشعراَء تتراءى فلا يَراها سواهم ... وَهيَ ليستْ لغيرهم تتراَءى ولذا يرتجي من الزمنِ الشا ... عرُ لو أنهُ يجيبُ رجاء عيشةً في الخلاء لا عيب فيها ... غيرَ أنْ ليس يسمعُ الضوضاَء

حيثُ لا خبثَ في الهواء ولا في ال ... تربِ والماءِ يجلبُ الأدواَء حيث لا رزقَ كلما ركض المر ... ءُ مجدّاً وراَءهُ يتنادى فهوَ ما بينَ خوفِ سبقٍ وكدٍّ ... كغريقٍ يصارعُ الأنواَء لا تطيبُ الحياةُ إلاَّ لمن يه ... ربُ منها ويهجرُ الأحياَء ليت شعري متى أرى شعراء ال ... شرقِ يوماً بفضلهم أغنياَء ورثوا مَن تقدَّموهم فنالوا ... شرَّ إرثٍ مذلةً وشقاَء بين هجوٍ كالسبِّ أو هوَ أدنى ... ومديحٍ تعدُّهُ استجداَء عُوِّدوا الذلَّ فالكبيرُ كبيرٌ ... فيهمِ حينَ يسألُ الكبراَء ليس كالمال للقرائح سمٌّ ... حين يلهو بيعاً بها وشراَء إنما الشعرُ للنفوس غذاءٌ ... أفسدوهُ فصيَّروهُ هُذاَء يتبعُ الشعرُ أهلهُ فامتهاناُ ... وابتذالاً أوْ عزَّةً وإِباَء أيها الشاعرُ اتَّقِ الله واذكرْ ... أنَّ للشعرِ حكمةً علياَء كن دليلاً إلى سبيلٍ سويٍّ ... ومناراً يبدّدُ الظلماَء ثمَّ لا تنسَ موطناً كان يوماً ... لكَ كالأمّ نسبةً ونماَء فاحترم عهدَهُ وعهدَ بينهِ ... ثمَّ علّمهمُ كذاكَ الوفاَء علّم الشعبَ إنَّ للشعب ديناً ... يمنحُ النفسَ قوةً ورجاَء قلْ لهُ إنهُ كذلك حرٌّ ... يعبدُ الله مطلقاً كيف شاَء خُلِقَ الدينُ رحمةً غير أنَّ ... الناس كانوا لبعضهم أعداَء هدموهُ سرّاً وشادوهُ جهراً ... وأقاموا منهم لهُ رؤساَء فانبرى بعضُهم عدوَّا لبعضٍ ... يخدعون الجهَّال والبسطاَء

عمرَك اللهَ ليس أجب أمراً ... من رؤوسٍ تهشّمُ الأعضاء ليس هذا القريض إلاَّ حديثَ ال ... روح أوحت بنظمهِ إيحاَء فتملّكْ بهِ العواطف وأملأ ... كلَّ نفس فضيلةً وعلاَء واتخذه إلى القلوب سبيلاً ... وتلطَّفْ تصطدْ بهِ العنقاَء لا تهاجم بهِ عفافَ العذارى ... لا تُضلَّ الأحداثَ والضعفاَء لُذْ برأي الجمهور في كلّ صعب ... وَصُنِ العدلَ وارحمِ البؤساء لا تصفْ أيّ حالةٍ قبل أن تد ... رسَ منها الأفعالَ والأسماَء لا تقلّدْ فيهِ ولا تتكلفْ ... في المعاني مشقةً وعناء قلْ سلامٌ على القديم ودعهُ ... فكفانا نقلّدُ القدماء وتعلَّمْ إذا رأيتَ دعيَّا ... كيف تعمى عن أن ترى أدعياء وتجلّدْ لصنعةٍ مَنَح الل ... هُ ذويها تجلداً وعزاء لهوَى في نفوسهمْ زاولوها ... وكذا اللهُ يخلقُ الأهواء عشقوها فأسكرتهمْ زماناً ... ثم ماتوا من سكرهم فقراء فهمُ كالشموعِ تفنى احتراقاً ... وهمُ كالشموعِ تلقي ضياء رحمَ الله مَن مضى ولنفاخرْ ... أن للعلمِ عندنا شهداء نقولا رزق الله شكوى شاعر يا شميمَ الشيح إن جزتَ حمىً ... يستقي الدمعَ على البعدِ رَهاما أبلغِ المحبوب عني سلوتي ... قبلَ أن تُبلغهُ عني السلاما علّهَ يبلو أناساً بعدنا ... فيرى مَن ذا على العهدِ أقاما

ربما أعلنتَ مرضاةَ الهوى ... سرَّ من تهوي فقطَّعتَ الذماما أيها الباذِر حَبّاً في الرُّبى ... جئتَ تصطادُ فطيَّرتَ الحماما قد سكرنا فوجدنا دولةً ... وصحونا لم نجد إلاَّ المُداما وبَذرْنا العمرَ حُبّاً ومُنىً ... وحصدناهُ انشقاقاً وانقساماً ولقد عشنا كِراماً في الهوى ... فإذا مُتنا بهِ مُتنا كِراما عبد الحميد المصري نظرة بعيدة ويح العيونِ أكلّ شيءٍ أبصرتْ ... أغرى بها ألماً وهاجَ شُجونا القبحُ يقذفها وتسبلُ دمعها ... غرُّ المحاسنِ حسرةً وفتونا فانظر كأنك حين تنظرُ لا ترى ... أو عِشْ معنًّى في الحياةِ حزينا أو قلٍْ لغاويةِ العيونِ تقدَّمي ... عهدَ الملاحةِ والشبابِ سنينا إن الذي يسبيكِ سوف ترَينهُ ... قوساً ولكنْ لا تُصيبُ طعينا قد كان يُذكركِ السماء فقد غدا ... حَدِباً يحنُّ إلى الترابِ حنينا الدهرُ أغرى بالجمالِ جنودَهُ ... لولاهُ جُنَّ العاشقونَ جنونا إن أبدعتْ أيدي الطبيعة صورةً ... جاء الزمانُ فأفسدَ التلوينا فأعاد نضرتَها البهيةَ سُفعةً ... وأحالَ سوداء الغدائرِ جُونا حاشايَ أشمتُ بالجمالِ وإنما ... أجدُ الخيالَ على الخيالِ معينا عباس محمود العقاد

فرسايل

فرسايل اتخذ الإنسان الحروف , والأنغام , والألوان , والأحجار ليعبر عن أفكار عقله وعواطف قلبه. فنشأ عن ذلك فنُّ الكتابة وفنُّ الموسيقى وفنُّ التصوير وفنّ الهندسة. وكل فنٍّ من هذه الفنون يُعدُّ مظهراً من مظاهر العقل البشري , وشكلاً من الأشكال التي تجلى بها في خلال الأجيال والعصور؛ فنبغ الكتَّاب البارعون , والموسيقيون المطربون , والمصوّرون الحاذقون , والنقاشون الصانعون. وكانت درجة نبوغهم بنسبة حذقهم في استعمال المادة الأوَّلية - من ألفاظٍ وأنغامٍ وألوانٍ وأجار - في إبراز مولّدات أفكارهم وبنات قرائحهم. إن البصير المتأمل يقرا تاريخ الفكر البشري تارة مدوّناً في كتاب , وطوراً موقّعاً في لحن , وحيناً ممثلاً في رسم , وآوانة منقوشاً في بناء , حسبما كتبهُ القوم بحروف أو نغم أو لون حجر. وما أهرام مصر , وبعلبك الشام , وحدائق بابل , واكروبول آثينا , وكابيتول رومه , وإيوان كسرى , والخوزيق والسدير , وبرج إيفل , وجسر بروكلين إلاَّ صفحات كبيرة من ذلك الكتاب العظيم المدوَّن فيهِ تاريخ البشر القديم والحديث بحروف من حجارة وحديد. فنقرأ بنتاؤور وهوميرس وفرجيل وامرئ القيس وغيرهم , أو كما نسمعها في نغمات

الموقّعين ونراها في ألوان المصوّرين منذ القِدَم حتى اليوم. من أجمل فصول هذا التاريخ المكتوب بالحجر المنحوت قصر فرسايل الشهير. وإذا كانت نصف هذا القصر بأبلغ وصف إذا قلنا أنه قلنا أنه أثرٌ من آثار لويس الرابع عشر الكبير الذي ازدهرت قلماً عرفتهُ من قبل ومن بعد , حتى أُطلق عليهِ اسم الملك - الشمس وعلى عصره اسم العصر الذهبي وهذا القصر قائم في البلدة المعروف باسمها , وهي واقعة على مسافة ثمانية عشر كيلومتراً من باريس جنوباً بغرب , وقد ورد ذكرها لأول مرة في التاريخ في النصف الأول من القرن الحادي عشر. ولم تكن في بداية عهدها سوى مزرعة قائمة في ظهرانيّ العاصمة , يقصدها ملوك فرنس - وأخصهم هنري الرابع ولويس الثالث عشر - للصيد والقنص رجال الفنون والصنائع حتى أقاموا فيها ذلك الصرح الشاهق , فقام تحفّ به العظمة والجلال , ويكنفهُ الذوق والجمال , مثل كل ماتمَّ على عهد هذا الملك المجيد من الأعمال. وقد بدأ العمل في بناء العمل في بناء القسر سنة 1661؛ وظلَّ البنَّاؤون والرسامون والمصوّريون يعملون فيهِ مدة إحدى وعشرين سنة متوالية , وكان الملك يطَّلع على كل الرسوم والمقايسات ويراقب بنفسه تنفيذها. ويبتدئ تاريخ بلدة فرسايل في الحقيقة من ذلك العهد.

لأن الملك أمر أن تقام حول قصره منازل لضباط بلاطه ورجال حاشيته. وأخذ الأمراء يتسابقون لتشييد القصور لهم حتى يكونوا على مقربة من سيدهم ومولاهم. فاتسع نطاق البلدة وزاد عمارها. ولم يسمح لأحد أن يزيد بناء داره عن دور واحد. وشذَّ عن هذه القاعدة قصر كلانيي الذي أراده الملك مضاهياً لقصره رونقاً وجمالاً , وأُعدَّ لسكنى مدام ده مونتسبان؛ على أنه هُجر فيما بعد وهدم بأمر الملك سنة 1769. وظلت البلدة في عمار متواصل على عهد لويس الخامس عشر. وفي 22 فبراير شباط سنة 1787 عُقدت فيها جمعية الأعيان , فكانت بداية الثورة الفرنسوية الكبرى , لأن هذه الجمعية قررت تقسيم البلاد إلى مقاطعات تديرها مجالس محلية. وهذا أشبه باللامركزية التي يطلبها العثمانيون اليوم. وجاءت سنة 1889 فكانت فرسيال ميداناً لحوادث خطيرة يطول تفصيلها لأنها صفحة كبيرة من تاريخ الثورة. ففي 5 مايو من تلك السنة كان انعقاد الجمعية العمومية في فرسيال؛ وفي 20 يونيو اجتمع فيها مندوبو الأمة وأقسموا ألاَّ يتفرقوا قبل أن يسنّوا للبلاد نظاماً دستورياً تسير عليه؛ وفي 5 أكتوبر هجم شعب باريس على فرسيال , ودخلوا لقصر عنوةً , وعادوا ثاني يوم بالملك والملكة أسيرين إلى باريس. وظلت المدينة في هدوٍ وسكينة بعد انتقال مقرّ الحكام منها حتى سنة 1814 إذ احتلها جيش المتحالفين المهاجمين فرنسا , وقد أحلَّبها البروسيان في السنة

التالية الخراب والدمار. ولكن الملك لويس فيليب أعاد لفرسيال سنة 1837 رونقها وبهاءَها بإقامة متحفٍ فيها جامع لكل آثار فرنسا المجيدة؛ على أنه أبى أن يسكنها كما أبى ذلك أيضاً نابوليون الثالث بعد تبوّئهِ عرش الإمبراطورية , كأن ذكرى ما حلَّ بلويس السادس عشر ظلت تخيف الرؤوس المتوّجة فلم يؤمن رأس منها أن يستظلَّ سماء ذلك المكانز وفي الحرب السبعينية احتلت جيوش بروسيا مدينة فرسيال , وظلَّ معسكرهم العام فيها من 18 سبتمبر سنة 1870 إلى 7 مارس سنة 1871 وفي القصر الذي بناه لويس الرابع عشر ملك فرنسا الأكبر , نودي بغليوم الأول ملك بروسيا إمبراطوراً على ألمانيا. وبعد جلاء الجيش الألماني عن أرض فرنسا قامت في البلاد حرب أهلية , فتألفت حكومة لمقاومة الثورة وجعلت مركزها فرسيال. وفي 5 مايو سنة 1889 أقيمت في فرسيال احتفالات باهرة بمناسبة التذكار المئوي للثورة الفرنسوية الكبرى. وفي 18 أكتوبر سنة 1896 استقبلت حكومة فرنسا إمبراطوراً وإمبراطورة روسيا استقبالاً رسميّاً. أما القصر القائم في مدينة فرسيال والمعروف باسمها فهو من أفخم آثار فرنسا وأجملها. فهو فخمٌ جميلٌ بنفسه , فخمٌ جميلٌ بما جرى فيه من الحوادث , فخمٌ جميلٌ بما يضمّ الآن من الآثار النفسية وطرَف الفنون والصنائع التي يندر أن يوجد لها مثيل.

وفي الجزء الأوسط من القصر قاعة السلام , وقاعة الحرب وقاعة ديانا , إلاهة الصيد , وقاعة أبولون , وغيرها كثيرو وهناك أيضاً حِجَر الملك وفيها سريره وهو أشبه شيء بعرش للملك لا بسرير للنوم. وفي المؤخر قاعة المرائي الشهيرة وطولها 72 متراً زانها المصوّر لبرون برسوم بديعة الصنع. وإلى جانبي باحة الرخام الكبرى ينبسط جناحا القصر , كل جناح على طول 120 متراً. وكان الأيسر منها خاصاً بسكنى ماري انطونيت التي قيدت من تلك المقاصير الفخمة إلى ساحة العاب إبان الثورة المشهورة. ولا تزال إلى اليوم حجرتها الخاصة كما تركتها في ذلك العهد. وكان الجزء الأسفل مسكناً لوليّ العهد. أما الجناح الأيمن فكانت فيه مخادع الملك الخاصة. وفيها نافذة محجوبة يطلّ منها الملك على باحة الرخام الكبرى فيرى ولا يُرى. وبعد أن حوّل الملك لويس فيليب القصر إلى متحف في سنة 1837 جعل من الجناح الأيمن معرضاً لرسوم الحوادث والوقائع العسكرية ومن الجناح الأيسر معرضاً لصور ورسوم ونقوش تتعلق بتاريخ فرنسا وآثارها المجيدة. وكان في طرف الجناح الأيسر المصّلى وهو آية في جمال الهندسة ورونق الزخرفة , وفي طرف الجناح الأيمن الملعب الذي اتخذه المجلس الوطني مكاناً لاجتماعه من سنة 1871 إلى سنة 1875 ثم تحوّل إلى مجتمع لمجلس الشيوخ إلى سنة 1879. وفي سنة 1875 أعدت الحكومة في

الجزء الأوسط مكاناً فسيحاً نوّاب الأمة واليوم مجتمع المجلسين النوّاب والشيوخ عند انعقادهما معاً كاجتماعهما في أواسط الشهر الماضي لانتخاب رئيس الجمهورية , كما رأى القارئ ذلك مفصَّلاً تفصيلاً في صدر هذا الجزء. وفي جنبات القصر وفسحاته وحدائقه تماثيل عديدة من الرخام أو البرونز لمشاهير رجال التاريخ الفرنسي يتوسطها في الباحة الكبرى تمثال بأني القصر لويس الرابع عشر ممتطياً جواده. ومَن ذَكر فرسايل , فقد ذكر قصرَي التريانون بأمر من لويس السادس عشر وأهداه إلى الملكة ماري انطوانِت. أما حدائق فرسايل , فعند وصفها يقف القلم واجماً واللسان عييّاً. أهي جنة الله في أرضه؟ أم هي إحدى الجنان التي ورد ذكرها في أقاصيص ألق ليلة وليلة؟ فسماؤها وأرضها , وهوائها وماؤها , وأشجارها وغياضها , وأطيارها وأزهارها فتنة العقول والعيون , وأية من آيات الجمال والإبداع. وبعد هذا - وما هو إلاّ يسير من كثير - ألا يصلح القول بأن مثل هذه الآثار صفحات حية من تواريخ الأمم تقرأ فيها آيات مجدها , وأسفار عظمتها.

في جنائن الغرب

في جنائن الغرب ضريح الشاب للشاعر الروسي الشهير بوشكين هبّتْ سموم الحياة فأذوت وردة الربيع. قصفتها قبل أن يفوح شذاها العطر؛ نزعتها عن الغصن ووارتها التراب. حُجب , فاعتاض عن المحبة والمسرات سكوناً وبرداً مخيفين. كان يحب العذارى عندما كنَّ يجتمعنَ أيام الربيع تحت الأشجار؛ والآن لا صوت له في مجتمعاتهنَّ. كم حسدته أعين الشيوخ , وكم خفقت لمرآة قلوب العذارى؛ كم وكم تهامس الشيوخ عند مرآه كنا نحن أيضاً شباناً , وكان فينا نضارة ونشاط. ستتوالى السنون وتصبح أيها الشاب مثلنا. وآسفاه ألم يصبح مثلكم؟ إنه ذوي قبل أن يجني ثمر الحياة. لم يكد ينشأ حتى قصفته يد المنية. كان بالأمس ففقد. كما تتلاشى أنوار النجوم أمام عظمة الشمس تلاشت حياته أمام ملاك الموت. لا يزال الشيوخ في قيد الحياة وهو ذوي في ربيعها , وصديقات الشاب عاكفات على المسرات كأنه لم يكن. وقلّ إن يرد ذكره في الأحاديث. ولعلّ واحدة هنالك من اللواتي أحببنه تسكب الدمع على ضريحه. هنالك الشاب في آخر الطري - حيث نبتت السروة تتمايل أسفاً على زهرة الحياة الذابلة - عبثاً ترسل أشعتها , ويسبح البدرُ

الزهور

في أوقيانوس الفضاء , وتنساب الساقية قرب الضريح مرددةً أنينها المنسجم! عبثاً تتمايل أغصان الغابة , وعبثاً تأتي الحسناء في طلب الأثمار وتضع رجلها وجلة في المياه الباردة. . . لن يوقظه من ظلمات قبره شيء! عبده أبو حجره الزهور الزهور أحلى خلائق الله التي نسيَ أن يضع فيها نفساً ناطقة هـ. و. بتشر الزهور شِعرُ الأرض المطرب إن الزهور كتاب مفتوح قد وضعهُ الخالق لتعليم الإنسان اللطف والتسامح في كل شيء؛ وأحسن برهان على ذلك أن الإنسان يدوسها تحت قدميه , أما هي فترفع رأسها وعلى وجهها ابتسامة جميلة , وإذا أدناها من أنفهِ اشتمَّ رائحة ذكية وهذا معنى الآية {أحسنوا إلى مبغضيكم} دي مونتغميري خلق الله الزهورَ لزينة الأرض وجمالها , ولتعزية الإنسان؛ ولكنَّ أغبط البشر وأسعدَهم من يجمعُ آيات الحكمة السماوية من زهرة واحدة. وورد ورث الزهور تعزية الإنسانية , وكنز القروي الحقير رسكن إن العالم بلا زهور كوجهٍ بلا ابتسام , ووليمة لا يرحب أصحابها بالمدعوين؛ بل يقابلونهم بكل عبوسة. أليس الزهور كواكب الأرض , والكواكب زهور السماء؟ مسز بلفور الخرطوم تعريب بباوي غالي

قصر سان جيمس

قصر سان جيمس مرّ بالقارئ في غير هذا المكان شيء عن قصر فرسايل كتبناه بمناسبة الجمعية التي عُقدت فيهِ لانتخاب رئيس الجمهورية الفرنسوية. ورأينا بمناسبة اجتماع المندوبين العثمانيين والبلقانيين في قصر سان جيمس بلندن أن ننشر كلمةً عن هذا القصر كتبها خصيصاً لمجلة الزهور كاتبٌ أديبٌ فاضل زاره في العام الماضي قال: سرْ كيفما شئت في شوارع عاصمة الانجليز , لا تجد فيها من عظمة البناء ما تشاهده في غيرها من عواصم الغرب. وما ذلك إلاَّ لأن الانجليز أبعد الناس عن الأبّهة الظاهرة , وأشدهم تمسكاً بالعظمة الحقيقية. فإذا نظرت إلى قصور اللوفر وفرسايل والنويلري؛ ولكنك إذا دخلت إليها وقفت عندها حاسر الرأس خاشع الطرف , مما يتمثل لك من عظمة الملك ورفعة السؤدد. ولعلَّ الانجليز أحرص الناس على آثار ملوكهم , وقصور عظمائهم. والعبرة عندهم بما وقع في تلك القصور من الحوادث التاريخية الخطيرة. ولذلك تراهم ينظرون إلى قصر سان جيمس مثلاً , فتطربهم ذكرى ما وقع فيه وطرأ عليه. مررتُ بهذا القصر لأوَّل مرة , فوجدته ذا منظر حقير من الخارج , حتى ظننتني واقفاً أمام بيت رجل من طبقة العامة. ولولا صديق لي

كان معي ولفت نظري إليهِ ما صدَّقت أنني واقف أمام قصر من أعظم قصور الانجليز. بني هذا القصر في عهد الملك هنري الثامن الذي اتخذه مسكناً له. إلا أن ملوك انجلترا الذين جاءوا بعده لم يتخذوه مقرّاً خاصّاً حتى عهد الملك وليم الثالث. ويظهر أنه لم يبقَ اليوم من بنائه الأصلي إلا آثار قليلة , فإن ناراً هائلة التهمت معظمه في سنة 1809 , فدمرت جناحه الشرقي. ثم أُعيد بناؤه بالنسق الذي هو عليهِ اليوم. أما الدخول إليه فيقتضي طلب إذن خاص إلا في بعض المواسم التي يعرض فيها الجيش في فناء القصر إذ يستطيع الزائرون الدخول إلى الباحة الكبرى ليشاهدوا حفلة العرض. ولهذا القصر تاريخ يترنح له الانجليز لذكراه. فإن اسمه مقرونٌ عندهم بذكر ملوك وملكات وساسة وعظماء تركوا بعدهم ذكراً مجيداً. فهو القصر الذي سكنه الملك هنري الثامن وادورد السادس والملكة اليصابات. وإليه لجأت الملكة ماري عند غياب زوجها , وأقامت به حتى وفاتها. وكان هذا القصر مقرّ الملك شارلس في أهنأ أيام ملكه , وفيه ولد معظم أولاده. ولما حُكمِ عليه بالموت صلّى صلاته الأخيرة في البيعة التي في داخله , ثم خرج منها واجتز في حديقتهِ محاطاً بثلةٍ من الجند الذين اقتادوه إلى المشنقة كما هو معروف عند دارسي التاريخ. وقد ودَّعهُ أولاده في ذلك اليوم وداعاً اتخذه كثيرون من الرسَّامين موضوعاً تفنَّنوا بهِ وأبدعوا ما شاءَ لهم الفنَ. وكان القائد مونك الشهير

يعقد موآمرته السياسة في هذا الصرح ويسعى لإعادة الملك المخلوع. وفيهِ أيضاً وُلد البرنس جيمس فردرك ادورد الذي كان مطالباً بعرش انجلترا. وكان البعض يعتقدون أنهُ لم يكن ابناً شرعياً بل نقل إلى غرفة أمهِ الملكة بطريقة الخداع. ومن أدلتهم على ذلك أن السرير الذي وُجد فيهِ الطفل مقمطاً كان إلى مؤخرة الدَّرج التي في داخل القصر بعيداً جداً عن أنهِ. على أن هذا الزعم لم يبقَ من يؤيدُه اليوم في انجلترا. ومن الحوادث الخطيرة التي وقعت في هذا القصر أن الملك جيمس الثاني نام فيهِ في الليلة التي سبقت تتويجهُ. ومن هناك هرب ولم يرجع إلى انجلترا قط. ولما جاء وليم أوف أورنج اتخذه مقرّاً له ريثما يستتب له العرش. وبلغ قصر سان جيمس ذروة شهرتهِ على عهد الملكة حنة وزوجها؛ فإنهُ أصبح منذ ذلك الحين مركزاً لسائر الحفلات والمقابلات الرسمية. وسكن فيهِ جورج الأول والثاني والثالث والرابع. ولما جاءَ وليم الرابع اتخذه هو والملكة أدلائيد مقرّاً لهما؛ وأقاما كثيراً من الحفلات الرسمية؛ إلاَّ أن شمس سعده آذنت بالأفوال عند ارتقاء الملكة فيكتوريا إلى العرش فأنها أهملتهُ ووقفتهُ على بعض الحفلات الرسمية فقط. وربما كان آخر الحفلات التي جرت فيهِ حفلة اليمين التي أقسمها المرحوم الملك ادورد السابع عند ارتقائهِ العرش , ثم حفلة اجتماع المندوبين الأتراك بمندوبي البلقان للبحث في شروط الصلح كما يعلم القراء. س. ع

في حدائق العرب

في حدائق العرب الانتقاد انتقادُ الخنساءِ لشعر حسَّان بن ثابت مشهورٌ؛ والخنساءُ من شهيرات شواعر العرب , وهي تماضر بنت عمرو بنت الحارث بنت عمرو بن الحارث بن الشريد المضريّ. والخنساءُ لقبٌ غلب عليها , وكنيتها أمُّ عمرو. وقد ضرب بها المثل في حزنها على أخيها الآخر. قيل لجرير: مَن أشعرُ الناس؟ تبيّن الضعفُ فيهِ. قيل: أوَ كذلك الخنساء؟ قال: تلك فوق الرجال. أما انتقادها الذي أشرنا إليهِ فإليك خبره: أنشدت الخنساء النابغةَ قصيدةً في أحد المواسم. فقال لها إنكِ أشعر من كل ذات ثديين وكان حسَّان بن ثابت ممن أنشدوا في ذلك الموسم , فغضب من إطراء النابغةَ الخنساءَ , وقال أنا أشعر منكَ ومنها فقال النابغة خاطبيهِ يا خنساء فقال لحسان ما أجوَد بيت في قصيدتك قال: هذا البيت لنا الجفناتُ الغرُّ يلمعنَ بالضحى ... وأسيافنا يقطرنَ من نجدةٍ دَما فقالت: ضعَّفتَ افتخارك , وأنزرتهُ في ثمانية مواضع من هذا البيت؛ فقد قلتَ لنا الجفنات والجفنات ما دون العشر , ولو قلتَ الجفان لكان أكثر؛ وقلتَ الغرُّ والغرَّة بياض في الجبهة , ولو قلتَ البيضُ لكان أكثر اتساعاً؛ وقلتَ يلمعنَ واللمع شيءٌ يأتي بعد شيء , ولو قلت يشرقنَ لكان أفضل؛ وقلتَ بالضحى ولو

ثمرات المطابع

قلتَ (بالدجى لكان أكثر طراقاً؛ وقلتَ أٍسيافنا والأسياف ما دون العشرة , ولو قلتَ سيوف لكان أكثر؛ وقلتَ يقطرنَ ولو قلتَ يسلنَ لكان أكثر؛ وقلتَ دَماً والدِماء أكثر من الدم. فسكت حسان ولم يحر جواباً. ثمرات المطابع حديث عيسى بن هشام لمحمد بك المويلحي كلفتني الزهور أن أنتقد حديث عيسى بن هشام لمحمد بك المويلحي. فكرهت في أول الأمر أن أضع نفسي بين الأدباء في موضع يحقُّ لهم أن ينكروه عليَّ , لأنني ما كتبت قبل الآن فكيف بهم إن رأوني دسست نفسي بينهم لانتقد كتاباً أنشأه كبير من كبارهم , والمنتقد مكروه عندهم ولو كان ذا إطلاع واسع ومادة غزيرة. ولكنني آنست من اسم المويلحي فائدة للناس كالفائدة التي عادت علينا جميعاً من ما هنالك للمرحوم أبيه , فقرأت كتاب الابن متيمناً باسم الوالد. كنت إذا أتاني كتاب عربيٌّ أُلقي عليه نظرة لأرى حجمه؛ فإن كان غليظاً ثخيناً قرأت اسم المنشئ , فإن كان ذلك الكتاب أول عهد المؤلف بالتأليف قلت أن في الرجل بعض الغرور لأني لا أتوسم خيراً في رجل لم روّض نفسه على التأليف من قبل , ثم هو يرمي إلى القراء كتاباً

ضخماً لا يقدم عليه إلا كل محنَّك في هذه الصناعة؛ لأن الإنشاء كبقية الصنائع يجب على الإنسان إن أراد التفوّق فيه أن يمارسه كثيراً , ويجهد نفسه في كل يوم لتقويم إعوجاجه , وتصحيح هفواته. وخير طريق للمرء تبلغه ذلك , الاقتداء بكبار المنشئين , والمقارنة اليومية بين عمله وعملهم , وأسلوبه وأسلوبهم , ي مؤلفات صغيرة ينشئها من حين إلى آخر. فإن ارتاحت نفسه إلى المقارنة , وآنس منها الفلاح , جازله بعد ذلك التعرض للمواضيع الواسعة المؤلفات الضخمة. أذف إلى ذلك أن من عرّض نفسه للتأليف وجب عليه أن يضع نصب عينيه التفوّق فيه , ذلك أولاً لأن المؤلف حرّ في أن يظهر كتابه متى شاء فأحر به أن لا يظهره إلا بعد أن يكون أتم بنيانه وأحكمه , ومحص كلياته وجزئياته. فإن أظهره قبل ذلك عدَّ مغروراً أو محتاجاً , والقارئ لا يغتفر له غروره وليس عليه سدّ احتياجاته , ثانياً لأن المنشئ يعلل نفسه بأن كتباه سيعمرّ طويلاً , والعمر الطويل في البنية الصحيحة. وهناك قاعدة أخرى أشير إليها إشارة خفيفة لأنها لا تحتاج إلى بيان كبير , وهي تنحصر في أن كل مؤلف يعتمد على جهل قرائه في عدم كشف خطأِه لهو شرُّ المؤلفين. هي قواعد أولية , تكاد تكون بديهية؛ ويسؤني ويسوء كل مجتهد أن ترى بعضاً من جماعة المؤلفين العربيين أغفلوها فانكبّوا عليها. ولا غرابة

في ذلك لأن حبَّ الكمال والجمال طبيعة في الإنسان يهتز له فيسعى إليه من كل صوب. خذا أكثر الكتب العربية التي أنشئت في هذه السنين الأخيرة وأنا الكفيل لك أن ترى فيها إحدى الخلال الآتية: إما أن يكون الكتاب متين اللغة تافه الموضوع , وأما تافه الموضوع وركيك اللغة معاً , وقلما وجدت كتاباً متيناً لغة وموضوعاً. موضوع حديث عيسى بن هشام أو فترة من الزمن بسيط. وخلاصته أن عيسى بن هشام , رأى في المنام , أنه بينما هو سائر بين القبور يحدث نفسه بغرور الإنسان إذا برجّةٍ عنيفة من خلفه. فرأى قبراً قد انشقّ وخرج منه دفين كان في حياته أحد البلشاوات المعاصرين لمحمد علي باشا , وطلب إليه أن يسير معه في أنحاء القاهرة. وعند خروجهما من المقبرة تعرض لهما مكاريٌّ مكَّار وأراد خدعهما , فتشاجروا فأدَّت بهم المشاجرة إلى تداخل البوليس فقاد الجميع إلى القسم , ومن القسم إلى النيابة فالمحكمة. وبعد انتهاء المحاكمة أراد الباشا التطواف في القاهرة فسار يصحبه عيسى بن هشام وزار منتدياتها وحوانيتها ومحال اللهو فيها إلى غير ذلك. وغرض الكاتب من هذا كله انتقاد كل شيء وقع النظر عليه من الحمَّار المكار إلى الهرم الكبير. والكتاب يقع في 447 على هذا المنوال وكل ما جاء فيها رآه عيسى بن هشام في المنام.

قبل كل شيء أرى أن محمد بك المويلحي أخطأ في تسمية كتابهِ حديث عيسى بن هشام لأن عيسى بن هشام هذا يعرفهُ صغار التلاميذ وكل ناطق بالضاد أنهُ رجل بديع أزمان الهمذاني عزى إليهِ البديع رواية المقامات التي ابتدعها. وإني لأخاف أن يرى المجتهدون في هذه التسمية حيلة على ترويج الكتاب. عجبت من هذه التسمية كما يعجب محمد بك المويلحي نفسه لو رأى كتاباً لي ومن وضعي اسمهُ كليلة ودمنة أو سقط الزند. وزاد تعجبي أيضاً عندما رأيت أن المنشئ اقتصر في إهداء كتابه إلى أرواح أبيهِ الأديب , وجمال الدين الأفغاني الحكيم , ومحمد عبده العالم , والشنقطيطي اللغوي , والباردوي الشاعر , وأغفل عمداً أو عن غير عمدٍ بديع الزمان. ليس من العدل أن يؤخذ اسم رجل شهرهُ البديع حتى صار كنار على علم ويزان به كتاب توخي فيه أسلوب البديع في الإنشاء والتسجع ثم يضنّ عليهِ بهدية معنوية لا قيمة لها. حدث عيسى بن هشام أنهُ رأى في المنام القبور تفتح ويخرج منها دفين , وحمَّاراً يخدع الدفين , وشرطيّاً يحابي الحمار , ومأموراً يحابي الشرطي , ومفتشاً يحابي القاضي , وناظر حقانيه يحابي لجنة المراقبة , ومحامياً يخدع الجميع. كل هذا رغبة منهُ في انتقاد الحمَّار والعسس والمأمور والمفتش

والنيابة والقاضي ولجنة المراقبة والحقانية والمحامي ولكنهُ لم ينتقد شيئاً فيهم بل طعن عليهم , والانتقاد شيء والطعن شيء آخر. ويجب على المنتقد أن يأتي بالبرهان الصادق , والبرهان مشقة عقلية , فاختار المؤلف الطعن لكي لا يتكلف البرهان. المنتقد يصف الدواء والطاعن لا يصف شيئاً. نظامنا الحالي أرقى نظام وجد إلى الآنز فيهِ إضرار وفيهِ منافع ولكن منافعه أكثر من ضرره. فمسخهُ على هذه الصورة , وعرضهُ على الناس بهذا الشكل القبيح ليس من العدل في شيء ولا من حسن الإنشاء أيضاً. زار الباشا يصحبهُ عيسى بن هشام القسم فقلم السوابق فغرفة التحقيق فمحكمة أول درجة , فمحكمة الاستئناف فمكتب المحامي , فلم ير سوى الرشوة والإهمال والنصب والكسل والمحاباة والاغتيال والسرقة إن هذا التعميم تحامل معيب لا يصدقهُ فيهِ أحد وأني أنكره عليه وادعوه إلى دار المحكمة الأهلية يوماً لينظر بعينيه كيف يعامل المتقاضون ويسمع بأذنيهِ الأحكام التي يصدرها القضاة. وسار الباشا يصحبه عيسى إلى الحانات والفنادق وأندية المقامرين وقال فيهم ما قال مالك في الخمر. فلا أرى بأساً؛ غير أن كلامه عليهم أصبح مبتذلاً يعلمه الخاص والعام وقد ردده الناس منذ أبينا نوح أول من سكر إلى اليوم فلم يأتنا المؤلف بشيء جديد من عنده. ثم تحامل المؤلف على هيئتنا الاجتماعية تحاملا لا يبرره شيء حتى أن الباشا تعامى عن كل عمل صحيح فيها. سار الباشا ما سار وطاف ما

طاف , فلم ير خط التراموى ولا أوتوبيلاً ولا تلفوناً ولا نوراً كهربائياً , وإن رأى شيئاً من ذلك عرضاً لم يسأل عنهُ ولم يتعجب منه , ذلك أما أن يكون لضعف في التأليف وأما لغرض في نفس المؤلف لكي لا يسوقه الكلام في ذلك إلى مدح مدنيتنا التي قد لا تروقه. وسمع عيسى بن هشام ما سمع ورأى ما رأى وطاف ما طاف , في منام واحد لم يستيقظ منهُ لحظة واحدة لا فزعاً من الدفين الخارج من القبر , ولا على صياح الباعة وضوضاء المدينة , ولا من شيء آخر. وكنت قد أمَّلت أن المؤلف سيوقظه في آخر بعد 447 صفحة فخاب ما أمَّلت وأظنه لا يزال نائماً إلى اليوم. لا بل ذكر المؤلف أن عيسى بن هشام رأى في المنام أنهُ دخل إلى غرفتهِ ونام صفحة 443. تالله لم يبق للتعجب موضع. لو أردت أن أتتبع المؤلف في كل خطواته لاضطررت إلى إنشاء كتاب أضخم من كتابه انتقاداً ليه وأني ما اعتدت الكتابة إلاّ قليلاً فأحجمت عن ارتكاب خطأ وقع هو فيه. ولكني لا أختم هذه المقالة قبل أن أذكر للقراء شيئاً من حسن ذوق المؤلف في التأليف , واختياره البرهان الصحيح على ما يقدمه من المقدمات. قال: كان محمد علي باشا الكبير معجزة دهره وآية عصره في الدهاء وعلوّ وبعد النظر. . . . وإني أعرف قصة في حسن

الإجمال والإدماج وذلك أن صدر أمره إلى المرحوم حسن باشا الانجير كويلي بتعيينه حاكماً على السودان فامتنع الرجل وأظهر عجزه لجهله باللغة العربية وقال كيف يمكني أن أتولى أمور قوم لا أعرف حرفاً واحداً من لغتهم فدعاه محمد علي وقال: ليست معرفة اللغة مما تقضيه ولاية الأحكام ولا أن تكتفي بمعرفة كلمتين اثنتين في اللغة العربية يجري بهما لسانك وهما فلوس كرباج ويحه ألم يخجل من خديوينا حفيد ذلك الرجل الكبير. إنها فرية على محمد علي باشا وهو معجزة دهره وآية عصره في الدهاء وعلو الهمة وبعد النظر إن من كان ذلك الرجل لا يقول هذا القول ا. ي التصوير الشمسي والزنكوغراف - لشكري أفندي صادق ولعٌ خاص بالفنون الجميلة والصنائع. وقد أتحف قرّاء العربية بأبحاث جليلة في هذا الباب. والكتاب الذي نحن بصدده الآن يبحث في صناعة التصوير الشمسي والحفر على الزنك من الوجهتين العلمية والعملية , وهو مزين بصور ورسوم كثيرة تساعد القارئ على تفهّم ما فيه من القواعد والشرور. ولا غنى لطلاب التصوير الشمسي من اقتناء مثل هذا الكتاب الحافل بالفوائد. تاريخ الفنون الجميلة اليونانية - هذا الكتاب أيضاً للشاب

النشيط الأديب شكري أفندي صادق. ومن عرف الشأو البعيد الذي بلغته الفنون عند قدماء اليونان يعرف الفائدة التي يمكننا أن نجنيها من درس تاريخ الفنّ اليوناني الذي عبرّوا عنه بكلمة واحدة وهي الجمال فنقني على شكري أفندي الثناء الجميل ذاكرين له اعتناءَه بالفنون الجميلة على قلة المعتنين بها اليوم في الشرق. قانون الزواج - هو أكبر كتاب علمي فيسيولوجي صدر في بابه في اللغة العربية. وضعه حضرة الكاتب الفاضل إلياس أفندي الغضبان صاحب تاريخ الإنسان الطبيعي وضمَّنه نواميس الزواج الطبيعية وشروطه الصحية والأدبية وأهم ما توصل إليه العلم والاستقراء فيما يتعلق بتعليل الجنس والحمل والولادة والمولود والأمراض الناشئة من الإفراط وغير ذلك. وقد عمد حضرته في وضع هذا السفر الكبير إلى أحدث ما كتبه علماءُ الغرب في هذا الباب وإلى ما جمعه من كتب العرب مراعياً في ذلك الأنسب لعاداتنا وللمحيط الذي نحن فيه , فجاءَ كتابه ملأنا بالفوائد والملاحاظات الطبية التي يهم المتزوجين وطلاّب الزواج أن يطلعوا عليها , فيستفيدوا مما فيها من النصائح والإرشادات التي كثيراً ما يتوقف عليها هناء الزوجين مادياً وأدبياً. والكتاب مزين برسوم كثيرة وهو مكتوب بعبارة سهلة منسجمة. روض الرياحين - أو الجزء الأول مما كتبه حضرة الأديب

ظاهر أفندي الريس قبل الثلاثين. وهو مجموعة الرسائل التي نشرها في جريدة المقطم. ولما كانت هذه الرسائل تتناول مواضيع شتى من أدبٍ وسياسة وفكاهة واقتصاد , فإنها لم تفقد جدتها بفوات الحوادث التي كتبت بصددها. ولذلك يمكن القارئ أن يجد فيها لذة وفائدة لاسيما وإن كاتبها الفاضل بعيد عن الدعوى يروي الحقائق كما يراها ليستفيد منها وليشاركه غيره في الفائدة. وهذه صفة من أجلّ صفات الكتّاب والمنشئين. تاريخ الصحافة العربية - أنجز حضرة الفاضل الفيكونت فيليب دي طرازي كتاب تاريخ الصحافة العربية ومثل للطبع على ورق صقيل بحجم كبير. وهو يبحث عن مجمل أخبار صحافتنا الشريفة وآدابها منذ ظهورها حتى الآن في العالم كله. ويشتمل أيضاً على حوادث كل جريدة أو مجلة أو نشرها موقوتة بلا استثناء واحدة منها مع رسوم أصحابها والمحررين فيها. وقد أضاف إلى ذلك تراجم مشاهير الصحافيين حرصاً على صيانة آثارهم وتنويها بفضلهم وتخليداً لذكرهم في القرون اللاحقة. ولا شك أن مثل هذا العمل المجيد قد اقتضى من حضرة الكاتب عملاً شاقاً , وجلداً كبيراً. فنحن نثني على همته كل الثناءِ , ونتمنى لكتابه الرواج الكبير. الصحة والآداب - كتاب وضعه الدكتور بول جود من أطباءِ البحرية الفرنساوية وعرّبة حضرة الأديب الفاضل فريد أفندي يوسف

مواليد شهر فبراير شباط

بزري. وقد عرف العلماءُ مزية هذا المؤلَّف فنقلوه إلى لغات شتى وجعلوه بين أيدي الناشئة ليتعلموا منه ما يجب عليهم لحفظ صحتهم وآدابهم فللمترجم الأديب الشكر الوافر. مواليد شهر فبراير شباط يزعم الكثيرون أن لليوم والشهر اللذين يولد فيهما الإنسان تأثيراً في أخلاقه وحياته. وها نحن ناشرون على سبيل الفكاهة شيئاً من ذلك عن شهر فبراير شباط 1 منه ثوريّون يحبون الحرية وينزعون إليها 2 منه من عشاق الثوب العسكري , تطربهم فخفخة الألقاب وصليل السيوف 3 منه سيئو الأخلاق , محرمون من لذة المعيشة العائلية 4 منه يحبون التنقل في الأعمال , ويوفّقون في الغالب إلى وجودها 5 منه معسرون في شبابهم وعزوبتهم ويثرون بزواجهم 6 منه أفكارهم سامية , ويميلون إلى الاجتماعات 7 منه أخلاقهم شيئة ويحبون الانفراد 8 منه كبار العقول مفكرون ولهم بالمصائب أعظم درس ويميلون إلى الأشغال الرياضية 9 منه ذوو رزانة وحزم , بطيئو الحركة , معتدلون في طلباتهم 10 منه حسَّاد كسالى , يتمنون ولا ينالون 11 منه حمقاء يحبون الخصام سريعو الغضب سريعو الرضي 12 منه سيئو الإدارة معرضون دائماً إلى خطر الفقر

13 منه قساة القلوب , متصلبوا الرأي عديمو الحركة أمام مصائب الزمان 14 منه ذوو أمزجة حادة , يتأثرون لأقلّ الأمور وينظرون لكل شيء بعين الاستغراب 15 منه يطرون الانتحار ويلجأون إليه متى تعسرت أمورهم 16 منه يميلون إلى الاشتغال بالزراعة , وأمامهم مستقبل حسن 17 منه طائشون تتملكهم العادات الشريرة ولا ينجون منها إلاَّ بصعوبة في أيام كهولتهم 18 منه سريعو الخاطر , جريئون ويفوزون بالمناصب العسكري 19 منه ذوو أفكار عالية وآراء صائبة وينالون الشرف والثروة 20 منه لينو العريكة ذوو صدور رحبة يوفقون إلى سعادة المعيشة العائلية 21 منه بطيئو الحركة يجلبون لأنفسهم الخسائر المالية 22 منه ميالون إلى الأشغال الإدارية ويصلحون للمراكز السامية 23 منه سعداء في حياتهم قانعون بما يلغوا إليهِ 24 منه ضعفاء العقول متقلبو الرأي مع شيء من الحمق 25 منه يُحيطهم الشقاء كيفما اتجهوا ولكنهم صبورون ويفوزون في النهاية 26 منه يتزوجون من غير جنسهم طمعاً بالثروة ويعيشون بهناء 27 منه أسفارهم محفوفة بالمخاطر 28 منه مهددون بالخراب ويوقفون لتربية أبنائهم تربية صالة فيسعدون بهم. أ. غ

رأي في اللغة

رأي في اللغة قلنا كلمة في جزء سابق عن حديث القمر وهو الكتاب الذي وضعه حضرة الكاتب المجيد مصطفى أفندي صادق الرافعي. وكان إن انتقد المؤلف أحد الكتاب وآخذه ببعض ألفاظ قال أنها من استعمال العامة. فنشر الرافعي رداً على ذلك نقتطف منه ما يأتي , قال:. . . كأننا لا نزالُ نحتاجُ كلّ حرفٍ ووضع كل كلمة إلى نصوص هؤلاء أصحاب الصحاح واللسان والقاموس وكأنّ هذه اللغة لا تجري على قواعد يمكن أن تنزل منزلة السنن الطبيعية في الحياة , بحيث لا تأبى في عصر من العصور أن يُضافَ إليها شيءٌ من المستحدثات الزمنية. وإلاَّ فكيف وضعها العرب إذن , وكيف تبسطوا فيها حتى بلغت بهم ما بلغت بهم من السعة , كيف جاء القرآن الكريم من ألفاظهم نفسها وأجراه فيما لم يستعملوه ولا هم بهِ عهد , وهو مُعجزة القوم , وكيف فصحت الألفاظ المولَّدة وأسماء المستحدثات العلمية حتى ألحقت بمادة اللغة؟؟ إنَّ القول بأن هذه فصيحة , وهذه مولّدة قد مضى زمنه. فإنما كان الباعث عليهِ قرب عهد الرُواة من فصحاء الأعراب في الصدر الأول , ثم تقليد علماء اللغة من المتأخرين لأولئك الرواة تحقيقاً بشروط هذا العلم الذي يحملونهُ وبآدابه التاريخية إذا كنَّا في كلّ نقول: نصَّ الجوهري وابن مكرم والمجد وفلان وفلان , ونغفل عما وراءَ ذلك مما تنصُّ عليهِ طيعة اللغة من أوزانها وقواعدها وطُرُق الوضع والاستعمال فيها , فما نحن بأهل هذه اللغة ولا بالقائمين عليها , ولا هي لغة عصرنا , إنما هي لفة الجوهري وابن مكرم والمجد وفلان وفلان. لستُ أتردّد في القول بأن سبب الضعف الذي طرأ على هذا اللسان إنما هو في هذه العقول الضعيف الذي طرأ هذا اللسان إنما هو في هذه العقول الضعيفة التي تقوم عليهِ أسوأ القيام , لا بالنظر ولكن بالتقليد الأعمى , فلا نزال نرجع بكل لفظة إلى حدود البادية , كأنَّ هذه البادية العربية هي جغرافية اللغة , وإنما يستقيم مثل هذا إذا كانت اللغة , وإنما يستقيم مثل هذا إذا كانت اللغة ميتة ليس فيها قوة النموّ كهذه العقول التي يغني عنها كلها كتابٌ واحد كلسان العرب. أبو السامي الرافعي

العدد 32

العدد 32 - بتاريخ: 1 - 3 - 1913 السنة الرابعة للزُّهور يبتدئ في هذا الشهر فصل الربيع، فتتفتّح الأزهار، وتتزَّين الطبيعة بأبهى حلُاها، وفي هذا الشهر أيضاً تبتدئُ الزهور السنة الرابعة من حياتها، ولزهور الأدب أسوة بأزهار الرياض. وها نحن اليومَ آخذون، مع أنصار هذه المجلة من أفاضل الكتاب والشعراء، بجمع باقةٍ جديدة نقتطفها للقراءِ من جنان الأدب والمعارف، لتُضمَّ إلى أخواتها السابقة. ونحن على رجاء أننا قد أحسنّا في عملنا الماضي، وعلى أمل أن نحسنَ العمل في الأتي.

القسطنطينية

القسطنطينية بناها قسطنطينُ على أنقاض بيزنطية. كانت عاصمةً لمملكة الرُّوم الشرقية، كما كانت رومة قاعدةً للإمبراطورّية الغربية، أختان تشابهتا بالعزّ، وعاشتا زمناً، لكلٍّ مجدها المؤثل، وجلالها المهيب. وهي كرومة قائمة على سبع تلالٍ مرتفعات، في مثل شبه جزيرة مثلَّثة الزوايا يحيطُ بها الماء من جهاتٍ ثلاث: تطلُّ على بحر مرمره من الجنوب، وتُماشي البُسفور من الشرق، وتلمس خليجَ قرن الذهب من الشمال، ثمَّ ينبسط إليها من الغرب سهلٌ يقف حذاءَها، متهيّباً جلالها، فتُشرف عليهِ من مكانها العالي كالنسر باسطاً جناحيهِ. حصَّنها الرُّوم منذ القِدَم ردّاً لغارات الأعداء، وعزَّزها الترك على أثرهم صدّاً لهجمات الطامعين. فبني الأوَّلونَ سورها وأبراجها، وشادَ الآخرون حصونهم وقلاعها. ولكن الطبيعة بزَّت أولئك وهؤلاءِ في كل ما بنوهُ وشادوهُ، فمنَّعت موقعها بالهضاب المتسلسلة، والبواغيز الضّيقة، فإذا هي كعقاب الجوّ، لا تؤخذ، وإذا هي، كحلقِ الليث، لا تباح أرادها العرب، يوم كانوا يستطيعون ما يريدون، ففشلوا، وحاصروهم حين لم تكن مدافع ولا قنابل، فارتدّوا عنها عاجزين، وظلت تردُّ بمنعتها غوائل الأعداء، وتدافع بعزَتها كوارث الأيام؛ الملك عزيز بها، وسلالة بانيها تتوارث مجدها وتتنعَّم بجاهها، حتى دبَّ الضعف إلى الرُّوم، وتغلغلَ الوهَن في نفوسهم، يوم أبطرتهم نعمة العيش،

وأسكرتهم غبطة السلطان، فمشى عليها محمد الفاتح، وحاصرَها من البحر والبرّ، ثم أخذها عنوة واقتدراً في سنة 1453. محمدُ! كسرتَ جناحَ النسرِ، فأهوى من سمائه، واقتلعتَ ناب الليث، فاستبحتَ حماه! بناها قسطنططين، واستأثرتَ بها أنت؛ كانت للرُّوم فصيَّرتها إلى الترك؛ ما خفق عليها الصليب، حتى رفعتَ فوقها الهلال؛ بينا هي قاعدة الإمبراطورية، إذا بها دار الخلافة! فتحتَها ببأسك، وصنتها بحولك ومجدك، ثمَّ تَوارثها أبناؤُك من بعدك! ما نمتَ عنها ولكن نامَ بنوك! عجباً نام الترك، وعيون الروم يقظى عليها! أمغتصبَ الروم ملكهم، قمِ انظر إلى بقايا ملكك العظيم النسرُ الذي اصطدتَهُ قد استنسرت أفراخهُ؛ والليث الذي اقتنصتَهُ قد استأسدتْ أشبالُه، البلغارُ على أبوابِ فروق، والرومُ أمام الدردنيل!! ليست فروقُ عروسَ الشرق وحدَه، بل هي عروس الدنيا جميعها. خُلقت صورة مكبَّرة للجمال، ومثالاً مصغرَّاً لجنان النعيم! هي إنجيل الطبيعة أُنزلت فيهِ آيات الحسن، ونمَّق الدهر صفحاتهِ

بطراز البديع! فيهِ وحيُ الحب , وإلهام الشعر؛ وكلّ لفظةٍ يحتويها , تحتوي ألف مغنىً من معاني العظمة والجلال! فَرُوقُ درَّة في فمِ البُسفور , ولؤلؤة في عُنق الدردنيل؛ هي عقد من الماسِ يصل بحر مرمره بالبحر الأسود؛ هي تاجٌ من الجوهر على مفرقِ آسيا وأوروبا؛ هي كوكب وقَّاد أطلعتهُ الطبيعيةُ بين الشرق والغرب! ربِّ إن سمحتَ بأن نَعْبُدَ الجمال فلِفروق السجودُ والعبادة! وقفتُ على البوسفور حيث تمشَّى من البحر الأسود , وماشيتهُ إلى حيث التقى ببحر مرمره , فلم أجد منظراً أعظم تأثيراً في النفس , من مشية ذلك البوغاز الضيق , العميق , الطويل , المتلوّي في مسيره , كما تتلوّى الأفعى في زحفها. أحاطت بهِ من على ضفَّتيهِ: الأسيوية والأوروبية , ربوع خضراء زاهية , ومغانٍ مشجَّرة تعانِق سهولها الماءَ في ذلك الوادي , ثم تتدرَّج في الصعود حتى تراها تلالاً عالية , قريبة المآخذ , متصلة الرؤوس بالكعاب كالزمح أنبوبٌ على أنبوب. وأطلَّت مآذن الجوامع على قرنهِ الذهبي فتماوجت خيالاتها سابحةً في مُياههِ الرائقة؛ وتراكضت أشعة الشمس إليهِ , فانعكست عنهُ إلى جانبيهِ , فتلهَّى النسيم يلعب بها , كما يتلهَّى وليدٌ يلعبُ بانعكاس النور عن المرآة. ورأيتهُ , ليلةَ عيد الدستور , في أوائل الصيف , وقد راق الجوُّ

وصفا أديمُ السماء , وتلألأت الأنوار على ضفَّتيهِ , ومشت فيهِ البواخر مشعشعةً بالأضواء , ونزلت إليهِ نجوم الفلك تغتسل فيهِ إلى جانب الأشعة المتحدرة إليهِ من برَّي آسيا وأوروبا , في وسط الأنوار المتدفقة عليهِ من تلك البواخر السارحات والرائحات؛ فأخذ هذا المنظر بمجامع قلبي , وسكتُّ مخافة أن يشغلني الكلام بوصفهِ , عن التمتع لحظةً بجمالهِ؛ غير أني أسررتُ إلى نفسي هذه الكلمات: طوبى لمن دفنهُ عبد الحميد في البُسفور فقد ذهب إلى الجنة من أقرب طريق! أكان البسفور طريقَ الأحرار إلى الجنة , كما كان طريقَ وليّ الدين بك يكن إلى سيواس؟؟؟ لست أدري! غير أن وليَّ الدين نفسهُ يقول في وداع فروق يوم نفيَ منها:. . . وإذا نحن نسير بين منظرين ما تفتحت الأعين على أحسن منهما: شطَّي آسيا وأوروبا , يتناغيان بالمصابيح. عاشقان ضنَّت عليهما الأقدار بالتلاقي. مررنا بهما أم مرَّا بنا. لا أعلم. صحائف أجاد الحسن فيها منمقهُ. نشرت فانطوت. زلت عنها الأبصار وضاقت عنها الفهوم. فرائيها متخيّل وعارفها متوّهم. ما شكَّ ناظر إلى السماء وإليها أن تلك المصابيح كواكب سقطت عليها. عهدي بها في حالتيها , بينا هي عرين إذا بها كناس. يخالط فيها كل زئير ليث عندلةُ عندليب. تتجاور بها مسارح آرام ومصارع كرام. تسقي من ماء معين , ومن دم مهراق. تطالعها

وجوه ضاحكة , وأخرى مجهشة. تقسمتها مواسم الصبا فهي تارة مشتىً , وآوانةً مصيف , وحيناً مربع. جنة يحرسها حارس جهنم. فروق يا ظلوم. خذي روحي فما هبطت عليَّ إلاَّ فيكِ. كان بكِ مهدي. وأريد أن يكون بكِ لحدي. الوداع الوداع يا فروق. وسلام الله عليكِ وعلى بنيك كلهم. هذا طريد جديد. مظلوم يلحق بمظلومين. يخرجونني منكِ ليلاً لأراك في ثوب حدادك. أمن أجلي كل هذا؟ كلا. بل حدادكِ على أختكِ الغزالة. أنا أضْيَعُ فيك من دمعة على خد مهجور. أنا أهون على الدهر من ذرّة من ذراتك ضلّت بين ثنيات الأثير. . . ما هذهِ بلاغة الواصف , إنْ هيَ إلاَّ حقيقة الموصوف! رويداً رويداً أيها الدَّهر! ترفَّقْ بفروق؛ أقصر خطوَبكَ عنها. فروقُ بنت الأجيال الطويلة؛ مدينة الإمبراطرة , وكرسيّ السلاطين. أفي كلّ يومٍ نكبةٌ تروعها , وفي كلّ ساعةٍ كارثة تساق إليها؟ بنوها يتآمرون على بنيها؛ وشعوبها تقاتل الشعوب دفاعاً عنها. لوثوا محاسنها بالدمِ المسفوك على مذابح المطامع والأنانية؛ ضجَّت الأرض لهول ما تلقاهُ من فظائع حربهم , واتخمت ذئابُ الفلاةِ من أشلاءِ قتلاهم! رويداً أيها الدهر! هل أتعب مرورُ الأجيال كاهل بيزنطية؟ خذ بيدها! إن أنقاضها تتحرّك تحت فروق!!

مدينة المصريون الأقدمين

مدينة المصريون الأقدمين تقتطف الصفحات التالية من كتاب في تاريخ مصر القديم والحديث لحضرة الكاتبة الفاضلة السيدة هند كريمة سعادة اسكندر عمون بك المحامي الشهير. وقد بحثت حضرتها بحثاً دقيقاً في مدينة مصر , في أزمنتها الأولى , فتكلمت عن الديانة والشرائع والعلوم والآداب والصنائع والكتابة كلاماً كثيراً الفائدة ولكننا اقتصرنا على نقل ما ورد فيهِ عن ديانة المصريين وشرائعهم. قالت: سبق قدماءُ المصريين شعوبَ العالم قاطبةً في مضمار التمدُّن والترقي , وأدركوا من العلوم والمعارف والآداب ما لم تبلغ إليهِ أُمةٌ في تلك الأعصر الخوالي , حتى أنه ليصحُّ أن تُعدَّ المدَنيةُ المصرية أمّاً لمدَنيات شعوبٍ كثيرة أخذت عنها واقتدت بها. وقد خلّف لنا المصريون من الآثار المجيدة ما ينطق بما كانوا عليهِ من التقدُّم الأدبي والمادي والصناعي؛ ولا يزال علماءُ العاديات يكتشفون في أيامنا هذهِ أدلةً على ازدهار المدَنية المصرية القديمة. وفي ما يلي شيءٌ مما كانت عليهِ حالةُ مصر الدينية والأدبية والمادية: الديانة المصرية - كان قدماءُ المصريين من أشدّ الأمم تمسكاً بالدّين؛ يدلُّ على ذلك المعابد والهياكل الكثيرة التي لا يزالُ معظمها قائماً حتى يومنا. وأصلُ دينهم مجهول , ولعلهم أتوا بهِ من آسيا عندما هاجروا منها إلى مصر. وكانوا في بداية أمرهم موحدين يؤمنون بإلهٍ واحدٍ أزليّ مبدع الأرض والسماء , تعجز العقول عن إِدراك جوهرهِ. ثم أَخذوا

يعبدون ذلك الإلهِ في مظاهرهِ المتعدّدة؛ فرمزوا إلى كل صفة من صفاتهِ بتمثالٍ أو حيوانٍ أو نباتٍ أو غيرِ ذلك؛ فأدّى بهم هذا الشركِ والوثنية؛ وقسموا الآلهة إلى ثلاث طوائف: آلهة الموتى , والآلهة الشمسية , وآلهة العناصر. ومن أعظم آلهة الموتى أوزيريس إلهُ الخير ورمزُهُ النيل , ووإيزيس إلاهة الخصب والحياة ورمزُها التربةُ السوداءُ , وأنوبيس حافظ الموتى ورمزُهُ ابن آوى. ومن أعظم الآلهة الشمسية رع الإلهُ الأكبر ورمزهُ الشمس , وتم إلاهة الغروب ورمزها العجل منيفس. أما آلهة العناصر فأعظمها نو إلهُ الماءِ ورمزُهُ المحيط , وتيفون إلهُ الشر والفاقة ورمزُهُ الصحراءُ. وقد تختلف أسماءُ هذهِ الآلهة باختلاف الأعصر والأماكن التي عُبدت فيها. وكان قدماءُ المصريين يعتقدون أن آلهتهم تتزاوج , وتتألم , وتموت , وترعى حقوق الجوار , وتأكل وتشرب , فكانوا يقرّبون لها القرابين والضحايا من الحيوان والحبوب والأثمار. وكانوا يعتقدون أيضاً أن مقام الإلهِ بالنسبة إلى سائر الآلهة هو مقام البلد المعبود فيهِ بالنسبة إلى سائر البلدان؛ فعندما سيطرت طيبة مثلاً على وادي النيل , جعلت إلهها أمون سيداً لجميع الآلهة. ولما دالت دولتها , أصبح أمون في المرتبة الثانية بين الآلهة. . . ومن أشهر الرموز التي أُلّهت وعبدت ابن آوى رمز أنوبيس , والعجل أبيس والجُعَل وكلاهما رمز فتاح وغيرها من الحيوانات كالقرد والهرّ والتمساح وفرس الماءِ والبازي والجعَل أي الجعران. وكانوا يعبدون العجل مدة 25 سنة فإذا لم يمت بعد هذهِ المدة أخذوهُ في مهرجان عظيم

وأغرقوه في النيل , ثم أخرجوهُ وحنَّطوه ودفنوهُ في مدفن العجول بقرب سقارة ولبسوا عليهِ شعائر الحداد إلى أن ينتقوا لهم عجلاً آخر يعبدونهُ. وكانوا يحزنون حزناً شديداً عند هبوط منسوب النيل ويقدمون لهُ القرابين استرضاءَ. وفي إبّان فيضانهِ كانوا يطرحون فيهِ فتاة عذراءَ يسمونها عرس النيل وقد بقيت هذهِ العادة متّبعة حتى نسخها عمرو بن العاص لدّن فتح مصر. وعيد وفاءَ النيل من المواسم التي يحتفل بها حتى اليوم في البلاد. ولما دخل مصر اليونانيون ثم الرومانيون أخذ كل فريق عن الآخر بعض معبوداتهِ؛ وصار المصريون يؤمنون بوحي أبولّون ومينزفا وديانا وجوبيتر المشتري ومارس. ثم ظهرت النصرانية وانتشرت في العالم فاعتنقها فريق من المصريين. وظلت تنشر في البلاد حتى أصبحت دينها الرسمي , واضمحلت الوثنية في مصر بنهي طيودوسيوس عنها. وفي سنة 641 فتح عمرو بن العاص مصر فدخلها معهُ الإسلام. وقد اعتقد قدماءُ المصريين بالخلود والثواب والعقاب. وكان الإِلهُ الديان أوزيريس , وكانت مملكتهُ الجديدة حقول الفول إشارة إلى خصبها. وكان قومهُ هناك متمتعين بالسعادة التامة والملذات على اختلاف أنواعها , يطوفون مع الإله الشمس في زورقهِ ولا ينالهم أذًى. ولم يكن ينمكن من الوصول إلى مملكة الأموات هذهِ إلاَّ من حنّطهُ وأقاموا له بعض الطقوس الدينية. فمن تمَّ لهُ ذلك بُعث من

قبرهِ وسافر إلى حقول الفول , فإن كان عاقاً شجاعاً تغلب على ما يلاقيهِ من المصاعب , وبلغ سالماً مملكة الأموات حيث يمثل بحضرة الديان أوزيريس وأعضاء مجلسهِ الاثنين والأربعين. فيسمع المجلس اعترافهُ , ثم يزن الإِلهُ توت قلبهُ بميزان الحق , فإن كان صالحاً أجازوا لهُ الإقامة معهم وإلا حكموا عليهِ بالنفي المؤَبد والتعذيب الأليم. وكان المائل بحضرة الديان ينفي عن نفسهِ أولاً ارتكاب المحرَّمات , فيقول: لم أُعذّب الأرملة , ولم أخدع أحداً , ولم أكذب قط , ولم أعبث بالحق , ولم أعرف الخيانة ولا الكسل ولا التعجرف , ولم أُدنس الأشياءَ المقدسة , ولم أسعَ إلى ضرر العبد لدى مولاهُ , ولم أُبكِ أحداً , ولم افتك بأحد غدراً أو ظلماً , ولم أحمل أحداً على ارتكاب اللبن من فم الرضيع , ولم أشهد زوراً , ولم أسرق خبز المعابد , ولم أُحرز مالاً حراماً الخ ثم يعدّد بعد ذلك الحسنات التي أتاها فيقول: لقد عشت بالعدل , وتغذيت بالحق , ونشرتُ الأفراح في كل صوب , وأطعمتُ الجياع , وسقيتُ العطاش , وكسوت العراة , ومددتُ للغرقى يد النجاة شرائع المصريين وآدابهم - من أمعن النظر في الذنوب والآثام التي تتنصل منها الموتى وفي الصالحات التي تدَّعيها يوم المعاد , أدرك ما كان عليهِ المصريون من الأخلاق الراقية والمناقب الحميدة. وقد عثر الباحثون في الآثار المصرية على كتابات عن شرائع المصريين وآدابهم نقتطف منها ما يلي:

كان يُعاقَب بالقتل كلُّ من يحلف يميناً كاذبة أو يحنث بيمينهِ؛ ومن يرى رجلاً يعتدي عليهِ معتدٍ ولا يغيثهُ وهو قادرٌ على ذلك؛ فإن لم يقدر ولم يرفع أمر المعتدي إلى أولياء الأمر عوقب بالجلد ومنع عنهُ الطعام ثلاثة أيام. ويُعاقب بالقتل أيضاً كل من يرفع إلى قاضٍ وثيقةً كاذبة؛ ومن يقتل عمداً سواءٌ كان المقتول عبداً أو حرّاً؛ وكذلك من يقتل حيواناً مقدساً. وكان يعاقَب بقطع اللسان كل من نُفشي أسرار الحكومة للأعداء؛ ومن لم يكن لهُ عملٌ أو حرفة يحترفها لتحصيل رزقهِ؛ ومن شرائعهم أيضاً أن ناكر الدَّين يُصدَّق بيمينهِ إذا لم يكن عند المدَّعي سندٌ يؤيد دعواهُ؛ وإن للدائن حقّاً على ممتلكات المدين لا على شخصهِ , فلا يجوز للدائن أن يسجن المدين أو يمسَّهُ بأذى لأنهُ تابع لوطنهِ يخدمهُ في الحرب والسلم. ولم يكن يجوز لأحدٍ أن يحترف حرفةً غير حرفة أبيهِ فكانوا بذلك يتوارثون الصنائع والحرف. وكانت المرآة المصرية حرة كنسائنا اليوم , نصيبها من الإرث نصيب الرجل , وقد أباح لها شرعهم أن تتصرف بإرثها بعد زواجها كيف شاءَت , ولقبوها وهي مزوجة بسيدة البيت هند عمون

انتقام النسيم

انتقام النسيم من أرباب النظيم لسعادة سليم بك عنحوري الدمشقي شهرة واسعة في الأدب. فهو شاعر قدير وكاتب مجيد , وله من الآثار في هاتين الصناعتين ما تناقلته المجلات والصحف العربية من كل مكان. وقد أراد حضرته - وهو نزيل مصر اليوم - ألاّ يحرم الزهور من نفثاته , فبعث إليها بالمقال التالي. قال: لستُ أدري وأبيك ما سرُّ هذه الصحبة القديمة القائمة بين الشعراء والنسيم منذ عهد امرئِ القيس فآتياً , ولا ماهية تلك العلاقة الرابطة بين هذه النسمات الرقيقة , بين رصفائي أمراء الكلام , فإنه لم يكفهم , وهم أرباب الذوق , وسادة اللطف , بل هم وحدهم الناس على مذهب شاعر الأمير الذي يقولك جاذبتني ثوبي العصيَّ وقالت ... أنتم الناس أبها الشعراءُ أنهم يتنسمون النفحات الهابة من مواطن الأحبة , فيتبردون بأنفاسهم التي توليهم طيباً , وهم يكسبونها من زفراتهم المتوهجة بالوجد شرراً ولهيباً. ولهم يرضهم إن يتخذوا النسيم بريداً ورسولاً يحملونه السلام , ويستقضونه لبانات الغرام , وهم يكلمونهُ بصيغة الأمر كأنهُ بعض الخدَّام كما فعل صاحبنا ابن زيدون في قوله يتغزل بولادة الأندلس: ويا نسيم الصَّبا بلّغ تحيتنا ... من لو على البعد حيَّا كان يُحينا بل يعرّضونه بسبب هذه الرسائل السمجة للخزي والطرد والحجاب كما فعل ابن ماني , بحسب إقراره عن نفسه إذ قال:

حجبوها عن الريا لأني ... قلتُ يا ريح بلّغيها السلاما لو رضوا بالحجابِ هانَ ولكن ... منعوها عند الوداع الكلام فإنهُ لولا رسالتهُ تلك ما حجب الرياح أحد عن الاستمتاع بملامسة ذلك المحيَّا الفتان , ولم يقنعهم إنهم يبثّون تلك النسمات الشكوى , فتقاسهم البلوى , وتشاطرهم الكمد , وتعتلّ لاعتلالهم , وترثي لحالهم , ما جرى لابن هاني القائل: ومرَّ بيَ النسيمُ فرَقَّ حتى ... كأني قد شكوتُ غليه ما بي أي نعم , لم يكفهم ولم يغنِهم كل هذا حتى زادوا - على ما اشتهر من رقتهم - غلطةً , وتمادوا بفضولهم حرصاً وأنانية , فطفقوا يسومون تلكم النفحات الطيّبات حملَ ما تتقاصر دونهُ هممُ الرجال وتنوءُ ببعضهِ قلل الجبال. فقد زيَّن , للوزير مجد الدين الطغرائي , الغرورُ بما نال من شرف الوزارة , مضافاً إلى مزية اللسن , وحلاوة النظم , وشدة العارضة , أن يسخّر الريح لتي يلوح من تضاعيف كلامهِ أنهُ طالما استخدمها في قضاء أغراضهِ الغرامية , وحاجات نفسهِ السرية , بأن تقيم بين الأصداغ والطرر وتشوشها , وتنتهز الفضلات , وتتحين الفرص لتحوم حول الثغور وتقبّلها. ثم تسلك بين الأجسام والغلائل , وتستبضع من ذلك الحانوت الحافل بكل شائقٍ رائق , ما يطيب بهِ خاطر الوزير , وترفرف عليهِ أمانيُّهُ , ثم تأتيه على مهلٍ , مستترة بأجنحة الليل الهادي , فتنبههُ من نومهِ اللذيذ الهنيء وتنتفض عليهِ انتفاضاً , لعل نفحة الطيب المستمدة من ذلك البدن خصيب الرطيب تقضي لبانات فؤادهِ المعنى الكئيب. وإن كنت ,

أيهذا القارئُ اللبيب , في شكٍّ مما أقول توهماً منك أن رجلاً كالطغرائي الذي يقولك أصالة الرأي صانتني عن الخطَلِ ... وحلية الفضل حلّتني لدى العطلِ لهو أعقل وأدهى وأمتن وأرصن من أن يسترسل على مثل هذا الهذر والفضول , فإليك أبياتهُ بحرفها الواحد تقرأها فتزداد يقيناً: بالله يا ريح إن مُكّنتِ ثانيةً ... من صدغهِ فأقيمي فيهِ واستتري وراقبي غفلةً منه لتنتهزي ... لي فرصةً وتعودي منه بالظفرِ وباكيري وِرد عذبٍ من مقبّلهِ ... مقابل الطعم بين الطيب والخصرِ ولا تمسّي عذاريهِ فتفتضحي ... بنفحة المسكِ بين الوِرد والصدرِ وإن قدرتِ على تشويش طرَّتهِ ... فشوشيها ولا تبقي ولا تذرِي ثم اسلكي بين برديهِ على مهلٍ ... واستبضعي وانثني منهُ على قدرِ ونبهيني دون القوم وانتفضي ... عليّ والليل في شكٍّ من السحرِ لعلَّ نفحة طيب منكِ نائبةٌ ... تقضي لبانة قلب عاقرِ الوطرِ ولقد صار - جنابهُ العالي - مثالاً حسناً جرى عليهِ بعدهُ كثيرون , وفي جملتهم المرحوم فرنسيس مراش الحلبي. بل زاد هذا على طنبوره نغمة أخرى إذ قال: نسيم الصبَّا عن سرتِ بين نهودها ... خذي ليَ غرفَ الياسمين وعرّجي وإن ترفعي ذاك اللثامَ فتلثمي ... لماها فبالله اذكري قلبيَ الشجي ومن العجيبِ أنَّ أحد هؤلاء المتنطسين تمادى في تمادى في تحامله , وزاد في غلوائهِ , حتى أتهم تلك النمساتِ الطيبات بارتكاب الجنايات إذ قال: خطراتُ النسيم تجرحُ خدَّي_هِ ولمسُ الحرير يُدمي بنانَهْ

كأنَّ الرياح ذات سيوفٍ ورماح , تجرح من تحبُّ , وتقتل من تريد بلا حساب , وما عليها من جناح. بل أضاف بعضهم على ذلك فحسبها ممن يحبلنَ ويلدنَ فقال: قد رقَّ حتى خلْتُهُ ... بحشي النسيم تخلَّقا فهل سمعت بربّك أو رأيت مثل هذه الصقاعة والرقاعة؟؟؟ والانكى من كل هذا أن تلك الحالة على بردها وثقلها , وانتقادها الشديد على أصحابها , قد لجّ بنا داعي التقليد والحرص على التحدي , أن نتلبس بها , ونزاولها فقلنا , ونحن نتوب إلى الله من هذه الوصمة: يا نسيماً يأوي الغداة جنانا ... حُورها العِيْن يستلبنَ الجَنانا مازَجتْهُ أجسامنا وهي قَتلى ... فاستردَّت أرواحها موتانا وسرى في مسامّ صرعي الغواني ... فاغتدى الكلُّ ناشطاً جذلانا هل تموَّجتَ فوق سوسَن خدٍّ ... ضمّ ورداً يجاور الأقحوانا أو لمست النسرينَ حول جبينٍ ... ألبستهُ ألبابنا التيجانا أو تسللتَ بين بُردٍ ونهدٍ ... فوق صدرٍ رمَّانهُ قد رمانا أو تطرَّقتَ الأعضاد تمشي الهوينا ... وحللتَ العروش والأيوانا وسرقتَ الشذا المعّطرَ منه ... وانتشقتَ الخزام والسيسبانا وأتيتَ الرفاقَ تختال عُجباً ... ثملاً من أنفاسها نشوانا تتهادى ما بين نفحٍ وطيبٍ ... صيَّر العقل صاحياً سكرانا؟ أي وربي فعلتَ هذا وإلاّ ... من تراه أولاك ما أحيانا؟ ثم انظر ناشدتك الله إلى التحكم البادئ من شاعرٍ آخر يخاطب نسيماً جاءَهُ من نجد:

أقوال في المرأة

ألا يا صبا نجدٍ متى جئتَ من نجدِ ... لقد زدتني واللهِ وجداً على وجدِ ومن تراهُ خوَّل الشعراءَ هذا الحق فيسألون النسيم كيف راح , ومتى جاءَ , ثم يقترحون عليهِ أموراً , ويتهمونهُ بأمور , ويعنتونهُ أعناتاً طالما شكا إلى الله منهُ في هذا العصر , عصر الحرية والنور , وهم عنهُ متغافلون , وفي طغيانهم مستدرجون. وهل يعجب أهل مصر بعد هذا اليوم - وهي كعبة الشعراء ومنبت البلغاء - أن يأتيهم النسيم في شهر ابريل نيسان سموماً , لا بارداً ولا كريماً , فيجعل جناتهم جحيماً , وماءَ نيلهم حميماً , وهو موتور من أهل النظام , مظلوم يطلب الانتقام؟؟ سليم عنحوري أقوال في المرأة المرأة أكمل المخلوقات كنفوشيوس المرأة تعلّمنا الظرف والأدب فوليتر ليس لروايات شكسبير أبطال بل بطلات رسكن المرأة أفقدتنا الفردوس وهي وحدها قادرة أن تعيدنا إليهِ هوتير تكون المرأةُ على أكملها عندما تكون على أتمتها تأنثاً غلادستون المرأة آخر من بقي عند الصليب , وأول من أسرع إلى القبر باريت المرأة الجميلة جوهرة. والمرأة كنز سندي تجد المرأة في بدء كل شي دمرتين أعذبُ ما في الحياةِ تحية الزوجة المحبة ولز أيُّ شِعرٍ يفوق عيني المرأة في السحر شكسبير إن السماء لا تعرف شيئاً أرقَّ من قلب المرأة الذي تسكنهُ الشفقة لوثير

الأدب في العراق

الأدب في العراق السيد محمد سعيد حبّوبي العراقي ولد في النجف , وبها نشأ وحصل. وقضى شطراً من شبيبته في بلاد نجد حيث تشتغل أسرته بالتجارة. ثم هو في النجف يعد في صدور العلماء المجتهدين , وعمره ستون سنة ونيف. تأثير الإقليم - للإقليم ولنوع المعيشة أثر كبير في تكوين أخلاق الإنسان وملكاتهِ النفسية. وإذا التفتنا إلى من تترجم اليوم رأينا الشاهد على ذلك. الوسط الذي وُجد فيهِ الرجل , أول ما وُجد , كان مباءَة علمٍ وأدبٍ وشعور , والسماءُ التي رمقها , أول ما رمق , وضَّاءَة جميلة , الحرارة شديدة الوقع , ولون النور ناصع بياضه. فأهّلهُ ذلك , فوق ما في فطرتهِ من الاستعداد , لأن يكون ملك الشعر والشعور , وربَّ الفصاحة والبلاغة , الساحر بيانه , الفاتن عيانهُ. ولم يكن ذلك كلَّ ما جعل الرجل كذلك؛ بل إنه وُجد في مهد البساطة , وتمكنت من نفسه آداب الفطرة الصحيحة , فصفا ذهنه , واتَقد خاطرهُ , وقد انتشق نسيم بلاد العرب الجافّ المعتدلة حرارته , وشاهد الأودية والجبال والشعاب النضرة , فانعكست في لوح باطنهِ صوَر تلك المشاهدات الغريبة , وطالع رياض الجزيرة وأرباضها , فأجال طرفه هناك في بساتين الطبيعة العامرة؛ هناك في موطن الحب والعواطف , موطن الدموع , وفي مهبط الشعر والعشق والحياة الخفيفة

الهنية , وفي محطّ رحال الكلَف والهيام , والضلال والحيرة. في النجف وُلد , وفي نجدٍ والحجاز وُجد؛ فجاءَ آيةً في الشعراء الحقيقيين الذين لم يوجدوا إلاَّ ليكونوا أمثلة للروح الإِلهية المقدسة , وأشباحاً للنفس الملكوتية الطاهرة. أولئك هم أنوار العالم , وهم متمّمو نقصان الوجود. كلمة في شعره - فسدت معاني الشعر العربيّ , قبل فساد ألفاظه , بزمنٍ طويلٍ عهدهُ , فخرج بالشعر كثير من ذوي القرائح عن غايتهِ , وانقلبوا خرَّاصين قوَّالين ما لا يفعلون , غالينَ في المدح , وتأليهِ العظماء , وإكبار الجبَّارين. وقد أكتسبهم بالمال عشّاق الشهرة والمجد الباطَلين , فأفسدوا فطرتهم. على أنه لم تخلُ تلك الفَتَرات من نبيٍّ للشعراء يرسل كأبي العلاء ابن المعرّة. وقد كانت ألفاظ ذلك الشعر عامرةً على فساد معانيه. ثم جاءَ دور الألفاظ فأفسدها ابن نباتة والقيراطي وابن حُجة والصفدي والحّلي صفي الدين , بصناعتهم اللفظية؛ فعاد الشعر العربي , من جهة المعاني , مدحاً ورثاء كلهما كذب وإغراق , ومن جهة الألفاظ , كلماتٍ مهملة أو معجمة , يتأمل كيف يضع الشاعر بعضها إلى بعض , أو كيف يقابل بعضها ببعض , ناسياً أن ليس الشعر إلاَّ لحناً جميلاً تؤلفهُ الأرواح الشاعرة , أو أنهُ ليس إلاَّ روحاً تبعثها ألحان الضمائر , وهي منقطعة إلى مناجاة الله والطبيعة. ويمتاز شعرُ مَن نحن بصددهِ , برجوعهِ إلى حقيقة الشعر في الأكثرِ إن من جهة الألفاظ , وإِن من جهة المعاني. أما الألفاظ فإنها السهلة

الجزلة , تجمع إلى الرقة المتانة , ونظمها يحوز إلى فخامة التأليف , وجلال التركيب , جمال الأساليب. وأما معانيهِ فإنها في الأغلب وصفٌ وتصوير , وتجسيمٌ للخواطر , ونعت الطبيعة , ولهجة شديد في العشق , وفي الحب والأحباب. وإذا تصفحتَ مجموع شعره رأيتَ سفرَ دموعٍ وعواطف , ووجدت ثمة ديانة الشعراء , وأهازيج الأرواح , وتهليلاً وتسبيحاً يتضاعد من عالم النفس , إلى عالم الحس؛ ويشهد على سلوكه ومذهبه في المحبة الخالصة مثلُ قوله: والحبّ من دون البريةِ كلّها ... ديني الذي وشجتْ عليهِ عروقي وقوله: إني اتخذتُ هواهمُ حَسبَاً ... أُعزى إليهِ , وحبَّهم شَرعا وقوله في موشح: ليت دين الحبّ لما عرَفا ... لم تقُم بيعتُهُ في عُنُقي وقوله: لستُ أنسى عهدكَ الماضي وإنْ ... مرَّ بالعينِ خيالاً لستُ أنسى طفتُ سَبعاً حولَ مغناك كما ... قمتُ أقضي الصلواتِ الخمس خمسا فها أنت ترى نوعاً من عبادة السالكين الذين تجردوا عن الاتصال بالمادَّة , وأصبحوا أرواحاً محصنة حائمة حول سراج الحقيقة , حيامَ الفراش على النار. ولماذا تودّ اللحاق بالحقيقة؟؟ لأنها للحقيقة خلقت , ومن الحقيقة بدأت , وإلى الحقيقة تعود. ولست أدري ماذا كان يلمُّ بهذا الشاعر حين ينقطع إلى التأمل في

جمال الطبيعة؛ أكانت الطبيعة تنقطع إلى شهوده , فتجدهُ مظهراً من مظاهرها الجميلة , وتكاشفهُ , فتفيض أسرارها الغامضة على لسانه؟ بلى! وأنهُ لسانٌ ناطق للطبيعة , فقد كان مرأى الأزهار يؤثر فيهِ , وخطرانُ الغصون الميس يعبث بلبّه , فيحملهُ على أن يقول: يا بانة الجزعِ , لا والنازلين بهِ , ... ما كنتِ عارفةً لولاهمُ الهيفا ويقول: مالتْ فقلتُ لها يا بانةُ اعتدلي ... وإن جُبلت على التعطافِ والميَلِ ويقول: وذكرت في ذي البان ميسَ قدودِهم=فطفقتُ من شغفٍ أضمّ غصونَهُ ويظهر من لهجتهِ في شعره , إنهُ كان شديد التمسك بمبدإهِ الحب تمسكاً يمثّل له أن الهلاك والحيرة منجاة وهدًى فيهِ , وإن طغيانه عليهِ عدل وإنصاف تلزم معهما الطاعة. فتراه يقول: منَح الصبابةَ أضلُعاً وفؤادا ... وعصتُهُ سلوة مُقصرٍ فتمادى وطغى عليهِ الحبُّ وهو أميرهُ ... فأطاعَ جامح قلبه وانقادا وربما أصيب , كدأب الحائرين من هذه الطائفة المعذبة , بمن لا عاطفة , بل لا قلب له , فيطعن في سلوكهِ , فيضطران أن يواجه هؤلاء بمثل قوله: يا عاذِليَّ في الهوى تورَّعوا ... واطَّرِحوا نفسي ومَن تيَّمها قالوا الغرام مهلكٌ قلتُ لهم ... ما عيشتي إن لم أكن مغرمَهَا وقوله: يا لائميَّ ليومَ في حُبّهِ ... مهلاً فما شانكما شأني

هاموا هيامي فيكَ لو أنهم ... قد عرفوا مَعناكَ عُرفاني شعره - وقد آن لنا أن نُثبت شيئاً من شعره؛ فهو الذي يقول: لُح كوكباً , وامشِ غصناً , والتفتْ ربما ... فإِنْ عداكَ اسمُها لمَ تعدكَ السيما وجهاً أغرَّ وجيداً زانهُ جيَدٌ ... وقلمةً تخُجلُ الخطّيَ تقويما يا مَن تجلُّ عن التمثيلِ صورتهُ ... لأنتَ مثَّلتَ روحَ الحسنِ تجسيما لو أبصرتك النصارى في كنائسها ... مُصوَّراً ربَّعتْ فيكَ الأقانيما نطقتُ بالشعر سحراً فيكَ حين غدا ... هاروتُ طرفكَ ينشي السحرَ تعليما إذا سفرتَ تولّى المتقي صنماً ... وإن نظرتَ توقّى الضيغمُ الريما من لي بألمي , نعيمي بالعذاب بهِ ... والحبُّ أن تجد التعذيبَ تنعيما ألقى الوشاحَ على خصرٍ توهَّمهُ ... وكيف وشّحَ بالمرئيِّ موهوما أشيمُ برقَ ثناياه فيوهمني ... تألّق البرقِ نجديّاً إذا شيما يا نازلي الرمل من نجدٍ أُحبكُم ... وغن هجرتم ففيما هجركم فيما هل توردون ظماَء عذبَ مائكم ... أم تُصدرون الأماني حُوَّماً هيما لي بَينكم , لا أطالَ اللهُ بينكُم , ... غضيضُ طرفٍ يردُّ الطرف مسجوما أنا رضيعُ هواهُ منذ نشأتهِ ... ونشأتي لن تروني عنهُ مفطوما يا جائراً وعلى عمدٍ أحكّمهُ ... أعدلْ وجُرْ بالذي ولاّك تحكيما حرَّمتَ وصلي كما حلَّلتَ مقتلتي ... صدَّقتُ شرعكَ تحليلاً وتحريما ولهُ: دموعي وهيَ حمرٌ مُرسَلاتُ ... وشت بي عند أهلِكَ لا الوشاة أتنكرُ يا أخا القمرين لثمي ... وفي شفتيكَ من شفتيِ سماتُ فلو نزعتْ لحاظُك عن قسيٍّ ... لما اختارتْ سواهنَّ الرماة

فسلْ كبدي ففي كبدي سهامٌ ... بأهدابِ الجفون مُرّيشاتُ وسلْ عطيفكَ كم طعنا فؤادي ... إذا علمتْ بموقعها القناةُ أتحكي السمرُ قدَّك باعتدال ... وما ثُقّفتَ وهيَ مثقَّفاتُ وله: يا غزالَ الحِمى , وقلتُ غزالاً , ... حين أبصرتُ في ضلوعي كناسا حسبوا غنجَ مقلتيكَ نعاساً ... ومن الغنج ما يكونُ نُعاسا مَن كسا خدَّك الشقيق كساني ... من بَهارِ الضَّنا عليكَ لباسا فاسقني , لا عطشتَ , ثغراً وريقاً ... يومَ تسقي النديمَ خمراً وكاسا وارعَ لي ذمةً لديكَ وعهداً ... يومَ تنسى العهودَ أو تتناسى هبْ جميع الورى أحبّتك حبي ... غير أني قاسيتُ ما لا يقاسي وله: خطرتْ فجدَّ وشاحُها بخفوق ... فكأنها اتشحتْ بقلب مشوقِ وعلى الدلالِ تماسكتْ فتلاعبتْ ... كفُّ الصِبّي بقوامِها الممشوقِ شربتْ بوجنتِها دمي واستخدمتْ ... لخضاب أنملها دَمَ الراووقِ قمنَ الولائدُ إذ تهبُّ من الكرى ... من حولِ واضحةِ كنارِ فريقِ وضفرنَ جثلاً من أثيتِ عتاكلٍ ... نُضّدنَ فوق المتن نضدَ عذوقِ الحسنُ حوزتُها ولكن غيرُها ... بالمستعار أتى أوِ المسروقِ والحبّ من دون البريةِ كلّها ... ديني الذي وشجت عليهِ عروقي يا أسمَ جادكم السحابُ إذا سرى ... متجلّلاً برواعدٍ وبروقِ جون إذا احتلب المهبّ ضروعَهُ ... هدرتْ رواعدُهُ هدير فنيقِ إني وثقتُ بحبكم فتكاثرت ... عللٌ تُقلّلهُ فقلَّ وثوقي

وله: شمس الحميَّا تجلّت في يَدِ الساقي ... فشعَّ ضوءُ سناها بين آفاقِ سترتُها بفمي كي لا تنمَّ بنا ... فأجَّجت شعلةً ما بين آماقي خُذْها كواكب أكوابٍ ويشفعُها ... ما يحتسي الطرفُ من أقداحِ أحداقِ وبتُّ أُسقي وباتتْ وهيَ ساقيتي ... نحسو الكؤوسَ ونسقي الأرض بالباقي ضممتُها فتثّنت وهي قائلةٌ ... بالغنج مهلاً لقد كسَّرتَ أطواقي مسودَّةُ الشعر لولا ضوءُ غُرّتها ... لما هدتني إليها غيرُ أشواقي يهدي غليكَ بمرآها ومسمعِها ... جمال يوسف في ألحانِ إسحاق وقال: للهِ يومَ وداعِهم من عُصبةٍ ... وقفتْ وقد سَرتِ الجمالُ وخادا وَقفتْ بهم أقدامُهم إن يركضوا ... أثرَ النياقِ فاركضوا الأكبادَا فوق الركائبِ أنجمٌ لا تجتلي ... ورياض حسنٍ تمنعُ الرُّوادا عَربٌ , معاطفُ غيدِهم ورماحهم ... سيَّانِ , كلٌّ ينثني ميَّادا بعثوا الخيالَ , وما رقدتُ , وليتَهم ... بعثوا إليَّ مع الخيالِ رُقادا أُحيي الدُّجى أرَقاً كأنَّ نواظري ... خُلقتْ محاجرها قذى وسُهادا بذمامِ ذيَّاكَ الغزالِ حشاشةٌ ... أُسرتْ ولم يَقبل فدىً فتُفادى يا غارساً بالجزع روضة حسنهِ ... ومخيفَ رائدها قناً وصعادا كَنّيتُ عنكَ بمن سواك مُوريّاً ... بهوى سعادَ وما هويتُ سُعادا أعرضتَ عني وادَّعيتَ مودّتي ... أرأيتَ إعراضاً يكون ُ ودادا إني لأسترُ عِفتي بخلاعةٍ ... وأرومُ فيما أنتحيهِ مُرادا والضدُّ قد يبدو بمظهرِ ضدِّهِ ... أوَ ما ترى نورَ العيونِ سوادا يا رَبعَ لذَّاتي ومربعَ جيرتي ... حيَّا معاهدَك الغمامُ وجادا

لا أبتغي للوصلِ فيكَ نهايةَ ... أبداً ولا للعيشِ فيك نَفادا لا والذي سَمَكَ السمواتِ الغلي ... وأقامهنَّ وما أقامَ عمادا لا أرتضي غيرَ الأكارم معشراً ... يوماً ويوماً ولا غير العراقِ بلادا وقال: ومودّعٍ للركب ودَّ بأنهُ ... لو قد أسألَ عن الفؤادِ شؤونَهُ لم تقطع الإظعان ميلاً في السُرى ... إلاّ وكحّل بالسُهادِ جفونَهُ قطعتْ بهم سهلَ الغميم وَحزَنهُ ... فسقى الغميمُ سهولَهُ وحزونَهُ فترى الدموعَ تخالُها بحراً طمي ... وترى الحمولَ تخالهنَّ سفينهُ يا قلبُ حسبكَ بالغرامِ رهينةً ... شطَّ الغريمُ ومما قضاكَ ديونهُ فلأُنهكنَّ القلبَ من حسراتهِ ... يوم الترحّل أو يُجنَّ جنونهُ قالوا أشابَ البينُ مفرقَ رأسهِ ... كلاّ ولكن قد أشابَ عيونهُ وذكرتُ في ذي ألبان ميسَ قدودِهم ... فطفقتُ من شغفٍ أضمُّ غصونهُ وقال: يا ساكني الزوراءِ حسبُكُم النَّوى ... فلقد وهي جلدي بكم وتجلّدي أمُرَ ضْتموني بالبعادِ وإنما ... أقصى شقائي أن أراكم عُوَّدي كثرتْ عليَّ النائحاتُ صوارخاً ... إن لم أكثّرْ في هَواكم حُسَّدي موَّهتُ عنكِ بلَعلعٍ وبحاجر ... ولأنتِ من تلك العبارة مقصدي فليحلُ بالزوَراء عيشُكِ سائغاً ... إني أغصُّ بكلّ عيشٍ أرَغدِ وليهنِ أعينَكِ الرُّقادُ فإنَّ لي ... عيناً إذا رَقد الملا لم ترقدِ إِن أسلمتكِ يدُ الغرام فإِنني ... مُلقىً بقبضتهِ أروحُ وأغتدي وله من قصيدة: أجدّك علّمني لوصلك حيلةً ... فأنتَ الذي علَّمتني الهيَمانا

وهبْ أنَّ سمعي قانغٌ بحديثكم ... أللعينِ مَعنىً أو تراكَ عيانا إلى النزوانِ العيسُ تلوي أعنَّةً ... وهيهاتِ ليست تملكُ النَّزوانا وليست تشيم البرقَ من أبرق الحمى ... بلى! قد تشمُّ الشيح والعَلَجانا فيا أخويَّ المدَلجينِ كليهما ... إذا جزتما الجرعاء فانتظرنا ويا صاحبي لا تلوِ عنها مُعرِّجاً ... هلمَّ لنَلقى من نحبُّ كِلانا وقمْ نجتلي النارَ التي قال خابطٌ ... من الناس حسبي أن رأيتُ دخانا وإن لمعتْ فاقصد لمشرقِ ضوئها ... وأمَّ شروقَ الضوءِ لا اللمَعانا وله: وإن أقضي بحبكِ مستهاماً ... فكم قبلي قضى صبٌ معَّنى قضى القيسَانِ قبليّ: قَيسُ ليلى ... من الهجِ الطويلِ وقيسُ لبنى هذا وقد أثبتُّ كل ما مرّ إشارة بذكر أديب دقَّ خطرُه , وتطلَّس أثرُه , لنبوغه بين قومٍ لا يحتفون بنابغة , ولا يحتفلون بنبيل , فحَمله استخفافهم بالشعر وذويه على الإشاحة عنهُ بوجهه , ودعاهُ اهتضامهم للأدب وأهله , إلى الإضراب عن معاناته , فانصرف منذ عهدٍ بعيد عن قرض الشعر , لولا ذلك لعُدَّ اليوم في صفّ المتفوّقين من غواة هذا الفنّ الجميل , وقليلٌ ما هم النجف محمد رضا الشبيبي الزهور رأى القراء في شعر الشيخ الحبوبي وفي ما نشرته هذه المجلة سابقاً عن أدباء العراق أن تلك الأصقاع شعراء مجيدين يذكروننا بأسلافهم فحول شعراء العرب. فنشكر لكاتب هذه المقالة أنه عرّف على أدبائنا اليوم واحداً من هؤلاء الشعراء النابغين.

الزهور

الزهور المرء روح خفيٌّ لست تنظره ... إلاَّ بمرآتهِ من هذه الصوّرِ غن المرء ظاهره عنوان باطنه ... فهاكُم عن فؤادي أصدقَ الخبرِ عبد الحميد الزهراوي للسيد عبد الحميد أفندي الزهراوي شهرة في الأدب لا تقلَ عن شهرته في السياسة. ولئن كانت سوريا قد عرفته سياسياً ماهراً , ومبعوثاً غيوراً على مصلحتها , فإن مصر عرفته من قبل كاتباً مجيداً , وصحافياً قديراً. على أن شواغل السياسة لم تصرفه عن الكتابة فقد طالما أنشأ المقالات الضافية , وكتب الفصول الشائقة في جريدته الحضارة الغراء. ولقد اغتنمنا فرصة وجوده في هذه الأثناء في مصر , فسألناه أن يزين بعض صفحات الزهور بفصل يكتبه خصيصاً لهاو فتفضل بالمقال التالي , قال:

رغبتم , أيَّد الله بكم دولة العلم والأدب , أن أضع بين زهوركم ورقة يتمثل عليها شيء من تفكراتي , ولو أطلعتم على قلبي , وعرفتم كم أقدر الزهور حق قدرها , وكيف أتهيَّب أن أضع بينها مثل هذه الورقات , لما سمحت مكارمكم الأدبية أن تضعوني بين مشكلَين من تلبية هذه الرغبة الشريفة , والأحجام عنها. أما وقد قضى حظّي أن تخفي عليكم حالي , مع وضوحها وقوة فراستكم , فإن الأقدام رجح عندي على الأحجام , وشجعني على ذلك أنَّ فوضى الأقلام قد تستطيع تعاريجها أن تخفي مثل هذه الورقات فلا تنفذ إليها أعين الحذاق. ولا أكتم عنكم أن ما شغل الأفكار هذه الأيام من هبوب عواصف السياسة من الغرب على الشرق , ومن الشرق بعضه على بعض , قد حال بيننا وبين مجالات الكتابة؛ لأن المجال إن كان في السياسة , فهي قاضية أن ليس كل ما يعلم فيها يقال , وإن كان في الأدب , فمعلوم أنه لا محل للموسيقى حين تكون المدافع قائمة بدورها على أبواب البلاد , وإن كان في الفلسفة , فلها رجال لا أرى غني من طبقتهم , ولا تسمح نفسي إن تحشر في زمرة الطبقة التي لا تستحق في نظر الناس إلاَّ أن توسم بالتقليد؛ فلأجل هذا كله وقفت طويلاً أمام تكليف صديقي صاحب الزهور وقفة الحائر , ثم انطلق لساني يقول: كيف الخلاص من الزهور. ولما قلت هذه الكلمة وجدت ضالتي؛ فإن ذهني انتقل إلى موضوع يصح أن نسميهُ جليلاً. ذلك أن لاحت لي العلاقة العظمى التي البشر والأزهار , ورأيت أن هذا النوع بأجمعه غير مستغنٍ عن الأزهار. فلما

رأيت الناس تربطهم بها هذه الرابطة العظمى , بحيث لا ينفكّون كلهم عن طلابها , والخضوع لتجلياتها - لما رأيت هذا المرأى الغريب الذي يقلّ التنبه له , هان عليَّ عدم إمكان التخلص والتملص من أمره الزهور وسهل عليّ الدخول في موضوع قد يصح ن يأوي إلى هذه الرياض لأنه متعلق بالزهور. العلاقة التي بيننا وبين الأزهار قلت أن العلاقة بيننا وبينها عظيمة والآن أزيد فأقول: هي عظيمة جداً. وهذا أراه يحتمل شرحاً كثيراً , وأبدي أسقي على أني لم أجد من الوقت , ومن تفرّع الفكر ما استخدمه في هذا الشرح على مقدار ما يحتمل الموضوع , فأنا أكتفي بإشارات قليلة فإني لا أخال أن للزهور قرّاء من غير الأذكياء , وأولئك تكفيهم الإشارة. إن العلاقة بيننا وبين الأزهار هي علاقة التربية؛ أي أننا نحن نرّبيها وهي تربينا , وهي مساعدة في حفظ نوعنا , ونحن مساعدون في حفظ أنواعها. ولما كان من حكمة ذي العناية أن يكون طلبنا لما نحتاج إليه من الأشياء الضرورية بسوائق طبيعية , وضع فينا سوائق جمة متنوعة بتنوع ما نحتاج إليه؛ وأعظم السوائق حبّ الجمال. ووضع سبحانه فيما نحتاج إليه , ويحتاج إلينا , جواذب جمة متنوعة أعظمها الجمال. ففي الأزهار قوى تجذبنا , ووفينا قوى تسوقنا إلى محبتها. ولست أدري أشاعرة تلك الحبائب بهؤلاء المحبين , وأتربّينا لجواذب فينا تجذبها ,

وسوائق فينا تسوقها إلى ذلك؟ نعم لا أدري هذا فتركه لسبح خيال بعض الفلاسفة. . . كيف تربّينا الأزهار أما تربة الأزهار إيانا فعلى أساليب شتى , بعضها شديد الظهور. فمن ذلك: تربيتها أبداننا؛ ذلك أن قسماً عظيماً من أغذيتنا يتمثل في أهم أدواره زهراً , ثم ينقلب حَبّاً , أو فاكهةً , أو لبّاً. ولا ينبغي أن ننسى أن الأعشاب هي الأساس في تربية أبدان جمهور الحيوانات؛ لأن أو أكل اللحوم منها , إنما تتغذى بلحوم أو أكل الأعشاب في الغالب , ولأنها أعني أو أكل اللحوم إذا وجدت في اللحوم غذاءها , لا تجد فيها شفاءها إذا أصابها مرض , بل تلتمسه في الأعشاب كما ينقله المشاهدون. وإذا كانت الأعشاب هي الأساس في التغذية , ومن الحبوب والفواكه والألباب قسم كبير من الأغذية والأدوية , كان واضحاً معنى تربية الأزهار أبداننا. أما تربيتها لأفكارنا وعواطفنا فهذا الذي يحتاج إلى الشرح؛ ولعله يكفي أن نقول: أن أعظم أسباب رقيّ الإنسان إنما هو حب الجمال وأن أعظم حامل للواء الجمال هي الأزهار التي لا يستطيع أبلغ البلغاء أن يدخل في تفاصيل بهائها وازدهارها وتشكلها بالألوف من الألوان التي يفرق بعضها عن بعض امتيازات في غاية الدقة. فكلما ألف الإنسان المزيد من التمتع بجمالها وعُني بتربيتها وترتيبها ازداد ذوقه سلامة , وطبعه لطفاً , وروحه نشاطاً.

وهناك أسلوب آخر من تربيتها إيانا يذوقه الصوفيون , والفلاسفة الروحيون؛ فلا نتعرض له ههنا. كيف نرّبي الأزهار هذا المطلب من الموضوع نترك بعض جهاته لعلماء الزراعة , ونأخذ نحن بجهة واحدة منه؛ وهي أن التقليد الذي يدخل في كل شيء قد دخل أيضاً في تربية الأزهار التي اعتاد الناس أن يزينوا بها حدائق البيوت. ذلك أننا رأينا أكثر الحدائق إنما تحتوي على أصناف من الأزهار معهودة عند الكل في الغالب , في حين أن الأزهار التي تحتوي عليها أرض الله الواسعة تكاد لا تحصى. هذا التقليد قد يذكّرنا بجمود أكثر الأفكار على ما عرف الأولون , من غير تأمل , في ذلك الذي عرفوه خطأَ أو صواباً؛ وإذا انتقل الفكر من الجمود في تربية الأزهار , إلى الجمود في تربية العقول والنفوس , يرجف القلم ويستعفي من الخوض فيه؛ فليعذره القارئ إذا أراد أن لا يترك لذة الوقوف مع الزهور , وقفة الذاكر جميلها وجمالها , المتعلم من حكمة التي تتجلى لي كلما رأيتها تزين الرياض والحدائق , وهي أن تسبيح بديع الأكوان كلها يكون بالروح والجنان , كما يكون باللسان , وإنْ مِنْ شيءٍ إلاَّ يُسَبّحُ بحَمْدِهِ ولكنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحهُم. عبد الحميد الزهراوي

أي الرجال تفضله النساء

أي الرجال تفضله النساء من كان طويلاً القامة , قوي البنية , جميل الطلعة , ذا ذكاء لا يباهي به , لين العريكة , متسامحاً بالجزئيات , غيوراً في الحب , رؤوفاً بالضعيف , يركن إليه في كل الأحوال ويمكن خداعه أحياناً. وإني وإن كنت أرى صعوبة التعميم في أمور كهذه , فلا ريب عندي أن أكثر النساء يملنَ إلى الرجل الذي يستأثر بالسلطة , وإن يكن بعضهنَّ يفضلن الاستبداد على الإهمال , لأن المستبد شرس الطباع , مكروه في الغالب وردت هذه الجملة في آخر رواية كتبتها آدا ليفرسون , فلفتت نظر مدير مجلة الستراند , فاتخذها موضوعاً اقترحه على أديبات الانكليز فوردته الأجوبة التالية: لا يصح التعميم في قضية كهذه؛ فإن لكلٍ من الناس في الحبّ مذهباً ولولا ذلك لساد في الأرض الشقاء. وأنا أوافق السيدة ليفرسون على كره الرجل المستبدّ , وحب الرؤوف. أما رأيي الخاص فإني أقدّم الحيطة والرعاية على باقي الصفات , إذ لا شيءَ عندي أبغض من الإهمال وعدم الاكتراث. ولستُ أُعلّق على المنظر الشخصي كبير أهميةٍ , فإني أعشق في الرجل أخلاقهُ لا أسنانهُ البيض وشاربهُ المفتول. مود. أنسلى إن وصف آدا ليفرسون يصدق بالإجمال على النوع الذي تفضّله النساء. غير أنَّ بعضهنَّ يفضّلنَ ذا النفس الكريمة , ولو كان قبيح الصورة , والقويَّ على الضعيف. أما المستبدُّ الشكِس الطباع فلا يُطاق. وقد أصاب هزلت في قولهِ: عن المرأة تعشق الرسم الذي اعتادت تصويرهُ في مخيلتها. أدلا بيد أرنولد ليس أبغضُ لديَّ من الشاب الجميل. غير أني اشترط في من أحب إن يكون منظرهُ مقبولاً. ذا عينين لطيفتين , وذقن تدلُّ على القوَّة , وإن لا يكون

في وجهه ما يدلُّ على الدناءَة؛ يحب الأولاد والكلاب قادراً على استمالتهم إليه. وأفضّل من زادَ على هذا الذكاء , وسعة الإطلاع , وكرم النفس , والقوة الحقيقة. فإنَّ القويَّ لا يظلم ولا يستبد. وإكراهُ الجبان الغيور. ومن الحكمة أن لا تفحص المرأة عن ماضي رجلها. وإن تثق بهِ كل الثقة. مسز اسكيو إنّ الاستبدادَ في الرجل كثيراً ما يكون عنوان الضعف؛ فالمرأة الحكيمة تعرف كيف تحصل على السلطة الحقيقية , بإظهارها الطاعة واللين , ويمكنها الفوز بأكثر رغائبها إذا تظاهرت بعكس ما تروم. أما الرجل الرؤوف الذكيّ , الثقة , فهو عطية الآلهة. وإني استغرب ممن تفوز ببعلٍ كهذا يخطر لها خداعه في بال كاترين بايتس يستحيل على امرأة واحدة أن تجيب على هذا السؤال المهم؛ فإن لكلّ امرأة ميلها. وبصفة كوني عظواً من الجنس اللطيف أجيب: أنني أفضّل الرجل الذي ينزع للسلطة , وإكراه الرجل الضعيف النفس , كما تكرهُ الكثيرات منا ضعيف البنية , واحتقر الرجل البسيط الذي يُخدع. أما الخصال التي لها الميزة عندي فهي الشجاعة والذكاء والمواساة وخفّة الروح. وإن أضفت إليها دماثة الخلق والكرم بلغت حدّ الكمال. مارجري بون إن قلنا إننا نفضّل الرجل الطويل الجميل الذكيَّ القوي , فلا نضلّ؛ إذ نكون قد اخَترنا أفضل النوع المذكر. ومن منا لا تميل إلى الرجل المتسامح في صغائر الأمور؟ غير أني أرى اللواتي يفضّلنَ محبَّ الأثرة , على ضلالٍ مبين؛ فهنَّ يستحسنَّ منهُ مظاهر القوة في زمن الخطبة , ثم لا يلبثنَ أن يسمينها استبداداً مشيناً بعد الزواج. ومما لا يُعارض فيهِ أنَّ المرأة تحبُّ الغيرة في الرجل , لأنها لا تريد أن يُشرك فيها. وأما من يمكن خداعهُ أحياناً فهذا شرط يستغني عنهُ لأنَّ الرجل الذي لا تقدر المرأة على خداعهِ لم يولد حتى الآن. صوفيا كول

إن الزمان الذي كانت تميل المرأة فيهِ إلى ذوي السيادة والأثرة من الرجال قد مضى مع الجيل الغابر , فإننا بنات القرن العشرين نودُّ أن نرى في الرجل العصريّ المجاملة والمروءة التي ينبغي أن تكون بين القوي والضعيف؛ أما إذا وجدت المرأة رجلاً نقدر أن تثق بهِ ثقةً دائمة , فينبغي أن تخجل من أن تُقدِم على خداعهِ. مسز كرسبيني إن رأي مسز ليفرسون هو رأي ناضج ناشئٌ عن خبرةٍِ وتدبر. وهذا لا يتم إلاَّ لمن قضت في الزواج أو العزوبة عقداً طويلاً. أما الفتيات اللواتي يهمهنّ في الدرجة الأولى , ما نحن في صددهِ , فإنهنَّ يملنَ مع القلب وليس مع العقل. وإني أرى الصفة الفضلى في ما يسمونهُ بالسمر والغزَل؛ فإن كل بنات جنسنا مهماكنَّ متعقلات يُرضيهنَّ من أزواجهنَّ أمور في الحقيقة صغيرة كمثل نظرةٍ أو قبله عند الوداع , أو حديث رقيق , أو لمسة تحبب , أو باقة زهر. والرجل الذي يحسن هذه المجاملات البسيطة تغتفر لهُ المرأة ذنوباً كثيرةز ويسرُّها أن ترى الغيرة فيهِ ما دامت ترى فيهِ آثار الحب الصادق إذ لا تقدر أن تعيش بلا حبيب. ماي أرجنتون ليس لي رأي خاص في هذه المسئلة سوى أني اعتقد أن جنسنا ينقسم إلى قسمين كبيرين: قسم يميل إلى التحكُّم , وقسم يرغب في أن يكون محكوماً. ولكل منهما فئةٌ تقابلهُ من الجنس الآخر. واعتقد أيضاً بالمبدأ القائل شبيهُ الشكل منجذبٌ إليهِ وإن شذَّ بعض الأحيان. ألينور غلن لو عُرض الأزواج في السوق كالبرانيط الجديدة ما ترددت النساء في اختيار أجملهم صورةً , وأطولهم قامةً , وأقواهم بنيةً. ولكنها ترى في من تحب الكمال ولو كان على عكس ذلك. ومما يدهش أن بعضاً من الرجال الذين تفتتن بهم كثيرات من النساء , ليسوا على شيءٍ من المواهب الطبيعية. وأنا أحتقر المرأة التي ترضى باستبداد زوجها , ولا أحب الغيور فهو لا يطاق كرفيق العمر؛ ومن كان هذا طبعهُ فلا يسهل عليهِ تغييرهُ. وإليك ما أفضّلهُ في الرجل: أن يكون محباً

سليم الذوق , كريم الطباع , سريع الفهم , خفيف الروح , محباً للمجون. فإن المجون يخفف أثقال الحياة. مسز بنروز تختلف النساء في الذوقِ اختلاف الرجال فيهِ؛ وما يقضي بالعجب أن صنفاً من النساء والرجال لا نرى فيهِ من الميّزات ما يكتفي بأن يجعله الفائر بالشهرة في الحب. إنما السر أن هذا النوع لا يشعر بالحب الحقيقي؛ وهو ذو العواطف الهادئة , من إذا رأى امرأة تعرض عنهُ يقدر أن يظهر لها وكأنه يقول أني أستغني عنكِ أنتِ بكل سهولة لأن من يهزّه الحبُّ الصادق لا يمكنهُ أن يعلق بأكثر من شخصٍ واحد. وإذا تصفحتَ التاريخ تجد أنَّ الرجال الذين اشتهروا بشدةِ سلطتهم على قلوب النساء , والنساء اللواتي كنَّ يلعبنَ بقلوب الرجال , كانوا بلا استثناء , فاتري العاطفة , شديدي الأنانية. مسز بايلي أميل إلى من كان يرمي إلى غرضٍ معلوم في الحياة , وهو قويٌّ ثابت؛ من يتكلُ على نفسهِ , ويقتصر في مظاهراتهِ الخيبة على ما يكفي أنهُ يفهِمَ زوجته أنهُ يُحيها. وأريدُه طويل الأناة دِمتَ الأخلاق أن مُعظم النساء يعبد القوة , ويكرهُ في الرجل التأنُّث. ولذا فلا يهمّ الجمال هذا الفريق؛ لأن الرجل الجميل يغلُبُ أن يكون معجباً بجمالهِ , وهو محتقر ومرذول من النساء. يلذُّ للمرأة أن ترى الغيرة في من تحب , ولا تكره سلطة الرجل , وإن كانت لا تعترف بذلك جهرا حتى ولا لنفسها. مسز ستانلي كصديق أفضلُ الرجل المجوني الحلو الطباع , المتوسطَ الذكاء , من يقدران يجعل المرأة تعتقد بأنها أجمل وجهاً , وأبهج عشرةً , وأفخر زينةً من كل امرأةٍ سواها , فتصيدّقهُ وترضي عنهُ ولو قال نفسَ الكلام لكثيرات غيرها. ولكن كحبيب وزوج أشتهي المفكّر في غيره الرؤوف الرقيق. مَن يحب الأولاد والحيوانات إليكم ومَن يَحسُن الاتكال عليهِ دائماً مود يارلي ع. ع

الرسميات

الرسميات لم يكَدْ انتخاب المسيو يَذيع حتى أعلن رغبتهُ في خلع نير الرسميَّات وميله إلى حرية المعيشة. فهو يريد أن يؤمَّ هذا المكان , أو يختلف إلى ذلك الموضع بغير عين ولا رقيب. وهو يبتغي أن يثابر على مشاطرة المجمع العلمي الفرنساوي أعمالهُ. وأن يتناول الطعام عند أصدقائهِ إيانَ شاءَ دون أن يحاذر لومة لائم على مخالفتهِ لقواعد العادات المرعية في الرسميات. إن الرغبة التي أبداها المسيو بوانكاره على أثر انتخابهِ لرئاسة الجمهورية الفرنساوية تدلُّ على عواطف ديموقراطية حقيقة كامنة في صدر ذلك الرجل العظيم الذي أجمعت الكلمة على استحسان انتخابهِ لذلك المنصب الرفيع. وهي لعمر الحق عواطف لا يسع كلَّ ذي عقل سامٍ إلاَّ إطراؤها. أجل أن الرسميات المقضي على رئيس الجمهورية الفرنساوية التقيّد بها في هذه الأيام , لم تعد معدودة شيئاً مذكوراً بالنسبة إلى الرسميات الكثيرة التعقيد التي كان العمل جارياً بموجبها في العصور الماضية في قصور ملوك فرنسا. ومع ذلك فإن المسيو بوانكاره أنف من الخضوع لها. وهبْ سلّمنا بوجوب العمل بمقتضي قواعد الرسميات في بعض الحفلات التي تقتضي تصدُّر رئيس الجمهورية فها , كالأعياد العمومية واستقبال رؤساء الحكومات الأجنبية وسفرائهم , فلا يمكننا التسليم بضرورة بقاء ذلك الرئيس مقيداً بتلك القواعد في معيشتهِ البيتية. ففي جلسة عقدت في 21 سبتمبر أيلول سنة 1792 اقترح مانويل أن يقيَّد زعيم الجمعية العمومية بقواعدَ رسميات تُعيد إلى الذهن ذكرى بعض القواعد التي كانت مرعية في عهد الملكية الملغاة. فللحال ارتفعت أصوات الاعتراض على اقتراحه وأُقيم النكير عليهِ بالصوت الحيّ. وكان من جملة مقال تاليان في ذلك الصدد: إني ليدهشني تباحثكم في أمر الرسميات. فلا يمكن أن يوضع موضع المناقشة

استئثار رئيس الجمعية بميزةٍ خاصة حين لا يكون مزاولاً لأعمال منصبهِ. وهو حين يكون خارج هذه الردعة يعتبر فرداً من جملة أفراد الأمة وكأننا بالمسيو بوانكاره يرغب , حين هو لا يزال أعمال الرئاسة في أن يكون حرّاً يتصرف في أعماله كفردٍ بسيط من أفراد الأمة. فكأن روح أجدادهِ قد تقمصت فيهِ فدعتهُ إلى إجراء ذلك العمل الذي استوجب له الثناء. يرجع أصل الرسميات في فرنسا إلى الملك فرنسيس الأول 1494 - 1547 وقد كان ملوك فرنسا قبله على غاية من البساطة في معيشتهم. فأراد هذا الملك أن يفتدي بُمناظرهِ العاهل شارل الخامس في الأبهة والعظمة الموروثتين عن أجدادهِ دوقات برغونيا. هذا كان بدء إدخال الرسميات إلى بلاط فرنسا. وقد زادها هنري الثالث تعقيداً. وأما هنري الرابع فإنهُ بذل المجهود لجعلها بسيطة. وعالج مناوأتها غير مرة. غير أن ماري المديشية زوجتهُ كانت من قوم شديدي الاستمساك بأهداب الرسميات فانتصرت لها , وزادتها تعقيداً على تعقيد. وكانت الرسميات ف بلاط لويس الرابع عشر من أصعب الأمور المقضي على الإنسان العمل بها. فلم يكن الملك يُجري حركة أو إشارة إلاّ ويبادر إلى قضاء أمره شخص من الأشخاص المعينين لتلك المهمة بموجب قانون الرسميات. فإذا نهض الملك من السرير , قضت الرسميات على بعض الأشخاص إن ينهضوا بأعباءِ خدمتهِ. فهذا يقدّم له قميصهُ , وذاك سراويلهُ. وإذا جلس إلى المائدة , قام على خدمتهِ جمهورٌ من رجال البلاط يقدمون له بالتناوب ألوان الطعام وأنواع الشراب. فكانوا يأتونهُ بالشواءِ في حفلة منظمة؛ فيسير في المقدمة جنديان يحمل كلٌّ منهما رمحاً على كتفهِ. ويتلوها خادم يحمل الشواءَ يتبعهُ أربعة من الحراس يحملون البنادق على أكتافهم. وكل ذلك لأجل قطعة من اللحم المشوي. ولو كانت هذه

الحفلة تزيد في لذة الطعام لكانت مغتفرة. ولكنها كانت تذهب بلذتهِ لأن الطعام كان يبرد في أثناء ذلك. وظلت تلك الحفلات الرسمية المستهجنة معمولاً بها حتى اتقدت نيران الفتنة الكبرى فأخذت الملكة ماري انطوانت , زوجة الملك لويس السادس عشر , منذ قدومها إلى الديار الفرنساوية , تتذمر من تلك الرسميات برسائل كانت تخطها إلى والديها. ولما زُجّت في السجن بعد الثورة قالت: إني استفدتُ شيئاً من الثورة فقد تخلصتُ من الرسميات فليحكم القارئ من الحادثة الآتية عما إذا كانت الملكة مصيبة أو مخطئة في قولها هذا: حدث ذات يومٍ من أيام الشتاء أن الملكة ماري انطوانت كانت تغيّر ملابسها وقد تعرّت , وأوشكت أن تلبس قميصها. وكانت عقيلة كامبان قيّمة غرفة الملكة حاملة القميص مطويّاً. فدخلت إحدى نساءِ الشرف , ونزعت قفازيها , وتناولت القميص من القيّمة - ولا بدَّ من أن يعلم القارئُ أن الرسميات كانت تقضي على كل شخص يقدّم شيئاً ما إلى الملك أو الملكة بأن يكون عاري اليدين - فأخذت سيدة الشرف القميص وهمت بإعطائهِ إلى الملكة. وإذا بالباب يُحكُّ - وينبغي للقارئ أن يعلم أيضاً أنهُ لم يكن يجوز لأحد أن يقرع باب الملك أو الملكة , بل كانت الرسميات تقتضي أن يُحكُّ الباب قبل فتحهِ - فتح الباب ودخلت دوقة أورليان - وهنا تبدو صعوبة أخرى وهي أن قواعد الرسميات كانت تقضي بأنهُ إذا دخل على الملك أميرٌ من الأسرة المالكة , أو دخلت على الملكة أميرة من بيت الملك , حين يكون الملك أو الملكة يلبسان ثيابهما , كان من حقّ الأمير أو الأميرة أن يقوم مقام السيد أو السيدة المنوط بهما أمر تقديم الملابس للملك أو الملكة. دخلت دوقة أورليان ونزعت قفازيها , وهمت بأخذ القميص من سيدة الشرف. ولكن الرسميات لم تكن تجيزه لهذه السيدة إعطاءَها القميص فأعادتها إلى

عقيلة كامبان وهذه ناولتها للأميرة. وبينا هنَّ على تلك الحالُ حكَّ الباب مرة أخرى , وولجت كونتة بروفانس؛ ولما كانت هذه الأميرة سلفة الملكة كان لها الأفضلية على دوقة أورليان فسلمت القميص إليها. وفي أثناء ذلك كانت الملكة العريانة ترتجف من شدة البرد. وكل ذلك كان لئلا تتخطى حدود قواعد الرسميات. ولما رأت عقيلة كامبان أن الأمر قد طال. وأنهُ يُخشى أن تصاب الملكة بزكام من ذلك البرد , وإن قواعد الرسميات لا تدفع عنها غوائله الذميمة , تناولت القميص وبادرت إلى إلباس الملكة دون أن تنزع قفازيها , ودون أن تحترم قبّة الشعر العالية المبنية فوق رأسها. فتبسمت الملكة لعمل عقيلة كامبان , وإن يكن قد ساءَها من جهةٍ خرق حرمة الرسميات. قال الكاتب بولس لويس كوريه: إن الرسميات تصيّر الملوك عبيداً للبلاط. ولقد أصاب وايم الحق هذا الكاتب في قوله , لأن أولئك الملوك لم يكونوا يستطيعون أن يخطوا خطوة واحدة , أو يبدوا أدنى إشارة , دون أن يتدخل للحال في أمرهم إنسان ليس منهُ فائدة. ومما هو أغرب من ذلك أن هذه الرسميات مع صرامتها في بعض الشؤون العادية كانت في غالب الأحيان مهملة في أمور كثيرة عظيمة الأهمية. كان للملك لويس الخامس عشر عدد كبير من الخدام القائمين على خدمته في لبس ثيابهِ وعلى المائدة وغير ذلك. ولكنهُ لم يكن لديهِ خادم يوقد النار في غرفتهِ ليدفئها. وقد قال لعقيلة دي باري أنهُ كان غير مرة في فصل الشتاء يضطرّ بذاتهِ إلى إيقاد النار في غرفتهِ ليصطلي عليها. أقبح ما في الرسميات أن المقرّبين من الملك كانوا يضربون حولهُ نطاقاً يحول دون وصول الحقائق إليهِ؛ فيبقى بينهُ وبين الشعب حاجزٌ حصين , فالرسميات التي كانت تحجب حاجات الشعب وأمانيهُ عن علم الملك , كانت داعياً إلى إضرام نيران الفتن. فقد حدث في اسبانيا من الفتن ما لم يحدث في غيرها من البلدان

ويعزى ذلك الأمر إلى الرسميات التي يُعمل بها في تلك المملكة أكثر مما يُحافظ عليها عند سواهم من الشعوب. وقد نظم فيكتور هوغو الشاعر الفرنساوي المشهور عقد رواية حسناء سماها روي بلاس أدار رحى الكلام فيها على قطب الرسميات , وما يتخللها من العادات التي يمحُّها الذوق السليم , دون أن يركب مركب المغالاة , أو يتمادى في المبالغ بهذا الموضوع. ولما كان بالشيءِ يذكر , نورد هنا نكتتين لطيفتين تأتيان مصداقاً لما نحن في صددهِ: أمر ملك اسبانيا في خالي الحين أن يقدّموا للملكة جياداً من كرام الجياد الأندلسية لتختار منها فرساً كريماً. فانتقمت منها جواداً مطهماً وركبتهُ. ولم تكد تمتطي صهوتهُ حتى جعل يرفس , فهوت إلى الأرض وبقيت رجلها معلقة بالركاب. فأجفل الحصان جامحاً , وجرّ وراءَه الملكة. وكان ذلك الأمر في عرصة القصر والملك ينظر من الشرفة , والاضطراب والقنوط بالغان منهُ. وكان في العرصة عدد غير قليل من الخفراءِ ورجال البلاط ينظرون إلى الملكة ولا يجسرون على الدنو منها لتمليص رجلها من الركاب لأنهُ كان محظوراً على أيٍّ من الناس أن يمسّ شخص الملكة ولاسيما رجلها. وكان ثمت فارسان اسبانيوليان , فدفعتها الحمية إلى إنقاذ الملكة ولو سامهما ذلك الأمر إلى اقتحام غمرات الحمام. فقبض أحدهما على لجام الحصان وأوقفهُ , وملص الآخر رجل الملكة من الركاب. ثم أنهما برحا القصر لساعتهما مسرعين إلى منزلهما , وأسرجا جوادين , وتركا المدينة هاربين من غضب الملك. وفقد في اسبانيا أيضاً أحد الملوك حياتهُ بسبب تمسكه رجال بلاطهِ بالرسميات. وذلك أنهُ كان للملك فيليب الثالث موقد في غرفتهِ أضرمت فيه النار وارتفع لهيبها. فاندلع لسانها اندلاعاً كاد يحرق وجه الملك. وحدث أن الشخص الموكول إليه أمر العناية بتلك النار كان غائباً. فلم يدر في خلد أحدٍ من الحضور في حضرة الملك أن يقوم مْقامهُ. وظن الملك أن كرومة مقامهِ تمنعُ الابتعاد عن تلك

النار أو أبعادها عمهُ. ولذلك ظلّ قاعداً على عرشهِ حتى أثرت بهِ النار تأثيراً أحرق وجههُ , وكان سبباً لوفاتهِ بعد بضعة أيام. أما الملكة فكتوريا الانكليزية فقد كانت أعقل من ملك اسبانيا من هذا القبيل؛ فإن في عملها والكلمات التي فاهت بها في الحال التي سنبينها , انتقاداً مرّاً لتلك الرسميات التي ما أنزل الله بها من سلطان. كانت الملكة فكتوريا ذات ليلةٍ جالسة في ردهة من ردهات قصرها وقد التفَّت حولها عصابة من الأمراء والأميرات وكبار رجال المملكة. فجعل المصباح يدخّن. فنهضت الملكة وخفضت الذبالة. وكان من وراء عملها هذا دهشٌ شديد استولى على الحاضرين. فصاحت إحدى سيدات الشرف: أو مثل جلالتك تتنازل بذاتها. . . فأجابتها الملكة: نعم فلو إني قلت أن القنديل يدخّن , لكانت سيدة من سيدات الشرف قالت للحاجب: ألا ترى يا حضرة السيد أن قنديل الملكة يدخّن؟ وحينئذٍ كان هذا الأخير ينادي خادماً لإصلاحهِ. ولا يخفي أن هذا الأمر يستغرق وقتاً من الزمان يمكن أن يلتهب القنديل في خلاله. ولذا قد آثرت تولّي إصلاحه بذاتي. . . وقد انتسخت الرسميات أو كادت في عصرنا نت قصور الملوك في بلدان أوروبا الشمالية. ففي كوبنها أو ستوكهولم أو كريستيانا لا يتعجب أحد من رؤيتهِ الملك يتنزه وحدهُ في الشوارع حاملاً عصاه بيده , أو يركب الترامواي كأنهُ من سوقة الناس. وأما الرسميات في بلدان أوروبا الجنوبية فإنها لا تزال مرعية كما كانت في الماضي. وهي تعتبر إرثاً اتصل بالشعوب اللاتينية من بيزنطة. وعندنا أن أفضل شيء هو ما جرى عليهِ القوم في أوروبا الشمالية من البساطة في المعيشة. والتحرر من قيود الرسميات الثقيل. ورحم الله مرمونتل القائل فلنهزأ بالرسميات , وبالتربة التي أنبتها. إلياس طنوس الحويّك

يوسف شكور باشا

يوسف شكور باشا أيها السادة! عادة الاعتذار عن التقصير أصبحت من مبتذلات العادات في مستهلّ كلام الخطباء. غير أنكم تغتفرون لخطيب اليوم أن يجري عليها , إذ لا يرى مندوحة عنها , فيسألكم المعذرة إذا بقيَ دون المقام الذي يجب أن يكون فيهِ. كيف لا ويحقُّ لأيّ دون المقام الذي يجب أن يكون فيهِ. كيف لا ويحقُّ لأيّ خطيبٍ أن يتهيَّب هذا الموقفَ أمام مثل هذا الحفل الحافل بوجوه البلاد أدباً وعلماً ومقاماً. ويُحجمَ إزاءَ الموضوع الخطير الذي دُعيت للكلام فيهِ. بل إنني أمام

هذا الجمع الموقَّر , وفي تكريم فقيدنا الجليل , لا أرى أجدر من ذلك الفقيد نفسهِ بالوقوف مؤبناً وخطيبً , يجول جولاته المعروفة , ويتدفق بفصاحتهِ المشهورة. على أنه إذا كانت يد الموت قد عقلَتْ ذاك اللسان الزلق , وأخمدت ذلك الصوت العالي , وأبلت ذيّاك الصدر الرحب , فلا أقلَّ من أن تسمعوا الهممَ صوتاً - ولو ضعيفاً - يندبُ تلك المناقبَ الغراء , ويرثي هاتيك الهممَ الشماء , فيترامى هذا الصوت الضئيل إلى مسامعكم , كما يترامي الصدى محمولاً على تموجات الهواء. أيها السادة عقدت الجمعية الخيرية هذه الحفلة , ودعتكم إليها , قياماً بالواجب عليها نحو رجل تفتخرُ بأن تعدَّه من أعضائها , وإحياءً لذكر فردٍ تعتزّ أمتهُ بأنهُ كان من أفرادها. ولستُ أدَعي الإتيان على سرد حياة فقيدنا الكبير , وحياته كانت حياةً عمومية عرَفها القاصي والداني؛ كما أنني لا أبغي تعدادَ مناقبهِ وخلاله , وأنتم أعرَف بها , وما فيكم إلاَّ القريب والصديق والرفيق. ولكنَّ في إعادة ذكر السلف تنشيطاً للخلف , وفي تمجيد فضائل السابقين إرشاداً وعظة للاَّحقين. وما أحوَجنا , شبيبة اليوم , إلى مثل هذه الأمثال الناجعة , تستفزُّ هممنا ساعة الخمول , وتبعث فينا روحَ الإِقدام وقتَ اليأس , وتضيءُ طريقنا إبَّان الظلام , وترفعُ رؤوسنا إلى العلى في عصر الماديات. وما أجمل المثل الذي يتجلى لنا من هذا القبيل في حياة ابن شكور , وهي الإخلاص والنزاهة , وعفة

النفس ورحابة الصدر , والإِقدام والذكاء والهمة العلياء. تاللهِ! إِن من كانت هذه حياته , يحق لأسرتهِ , بل لأمته , أن يعظُم في عينها مماته , فتقدرَهُ حقَّ قدره , وتذرف العبرات على قبره. وهذا ما تفعله اليوم أسرته , وطائفته , وأمته. بل يبكيه وطناه: وطن سلالته , ووطن شأته. فيحقُّ أن يُقال فيهِ ما قال شوقي في موت أحد نوابغ رجالنا: حلَّ بالأميتن خطبٌ جليلُ ... رجلٌ مات والرجالُ قليلُ أيها السادة! من الصفات الكثيرة التي عُرف بها فقيدنا , يلذُّ لي أن أقف عند اثنتين وهما: نزاهتهُ وهمته اللتان لم يختلف فيهما اثنان. وقد ورث هذه المناقب عن النبعة الكريمة التي يتحدَّر منها , وسهر على هذا الإرث الأدبي الثمين سهرَ الحريص على درهمهِ. فلم يسمح بأن تمتد إليه يدٌ , أو أن تشوبه شائبة. فجمع بين تليد ذووه من قبله. فإن جده الأكبر , شكور كنعان , هاجر من جبل لبنان - وكم أنبت هذا الجبل الأشم من الفروع الكريمة! - وجاء مصر مع أخيه يوسف كنعان شكور. فدخل هذا في خدمةِ الطبيب الذكر الخالدِ الأثرِ , محمد علي باشا الكبير. فعرف ذلك النابغة قدر ابن شكور اللبناني - ومن أعظم مزايا كبار الرجال معرفة قدر الرجال - فدرَّ عليه نعماءه , وولاَّة إدارة دار الضرب , ثم

عهد إليهِ تنظيم جمارك دمياط , ولا تزال آثار همته ونزاهته مدوَّنة في تاريخ مصر. وقد توارث أبناؤه تلك الهمة والنزاهة؛ وياما أجملَ ما تجلتا بهِ في شخص حفيدهِ - فقيدنا , منذ درج من مهده , حتى أُدرج في لحده. فكان هماماً نزيهاً , وهو يوسف شكور التلميذ؛ وكان هماماً نزيهاً , وهو يوسف أفندي شكور الموظف بالمالية؛ وكان هماماً نزيهاً , وهو يوسف بك شكور المراقب في الأموال غير المقرّرة؛ كما عرفه الجميع هماماً نزيهاً وهو يوسف بشا شكور مدير بلدية الإسكندرية؛ كما ظلَّ هماماً نزيهاً في خطبه وكتاباته: خلتان عرف بهما يافعاً وشاباً وكهلاً وشيخاً. وغنيٌّ عن البيان أنّ هاتين الخلتين لا تنتجان إلاَّ عن فضائل جمة مستكنة في الصدر؛ كما أنهما تُنتجان فضائل جمة تتجلى بها النفس: فالنزاهة تفرض الإخلاص وسلامة النية وطهارة الطوية؛ والهمة تفرض الذكاء وعزة النفس والميل الغريزي إلى الأمور السامية. ومن هذه وتلك يتولد شرف المبدأ والترّفعُ عن الدنايا والرمي إلى عظائم المقاصد. وقد برهن فقيدنا الكريم على ذلك في كل طورٍ من أطوار حياته وشهد له بذلك كلُّ من عرفه من رئيس ومرؤوس. ففي مدرسة ليون الكبرى , حيث تلقي دروسه , كان آيةً في الذكاء والاجتهاد , حتى بزَّ أقرانه , ونال قصبات السبق في لغة الأجانب على أبناءِ تلك اللغة , فعاد مكللاً بأكاليل الغار , حاملاً شهادة البكالوريا العلمية. وفي نظارة المالية , أظهر من المقدرة على العمل والدراية في الأمور ما لفت غليهِ نظر رؤسائهِ , ففتحوا له باب التقدم سريعاً. فولجه , وهو

على تمام الاستعداد , وأخذ يصعد في درجات الترقي قفزاً , حتى صار مراقباً في الأموال غير المقررة. وعرف رياض باشا ونوبار باشا الطيبا الذكر قدر ذلك الموظف النزيه النشيط , فولّياه أمور مالية صعيد مصر. ولما صحت العزيمة على إنشاءِ بلدية الإسكندرية المختلطة سنة 1890 , رأت الحكومة أن تعهد بهذه المهمة إلى رجل كفوءٍ للقيام بها , فوقع اختيارها على يوسف شكور بك. فنظّم تلك البلدية أحسن تنظيم , واشتهرت مقدرته ودرايته بين الوطنيين والأجانب , حتى رأت الحكومة أن تعين مديراً لأول بلدية مصرية دولية ذاك الذي أنشأها ورتب شؤونها. فذلل ما كان هناك من الصعاب , وأزال ما كان من العقبات. وظلّ في تلك الوظيفة عاملاً مجتهداً , مدة اثنتي عشرة سنة. وخرج منها طاهرَ الذيل , ناصع الجبهة , مخلّفاً في تلك المدينة - وهي مسقط رأسه - مآثر غير دوائر تنطق إلى الأبد بجليل عمله وعظيم نزاهته وإخلاصه. وقد يطولُ بي تعداد ما أتاه هناك من الأعمال الخطيرة والإصلاحات الجليلة , حتى بات لا يذكر اسم الإسكندرية والإصلاح فيها إلا ويُقرن باسم شكور باشا. وقد رأت تلك البلدية بعد موتهِ أن تُطلق على أحد شوارع المدينة اسم رجلها الكبير ومصلحها العظيم. ويا نعم ما فعلت! وفي سنة 1903 غادر خدمة الحكومة نهائيّاً. على أن تلك النفس الكبيرة الناهضة أبت التمتع بالراحة التي استحقتها بعد جهادٍ طويل؛ فتولى شكور باشا إدارة شركات مالية مختلفة. أزهرت على يده وأثمرت؛ وكانت برهاناً جديداً على علوّ همة الرجل , ومضاءِ عزمه , وثاقب فكره.

ورأى من الواجب عليهِ أن يخدم مصر , حتى آخر رمق من حياتهِ؛ فعكف على خدمتها بقلمه ولسانه. فكان ذلك لا يباري. فشغل ساعات فراغهِ بتحبير تلك المقالات الشائقة في مواضيع اقتصادية وعمرانية ومالية. وكم كان له في هذا الميدان من الجولات الصادقة , والآراء الصائبة , التي تناقلتها صحف البلاد. وكم سمعناه في المحافل العمومية قارعاً أعواد المنابر يتدفق كالسيل الجارف , بفصاحته السلاّبة , وبلاغتهِ الخلاّبة. فكانت شباة قلمه كنصل الرمح أو أقوى , وحدُّ لسانهِ كحدِّ السيف أو أمضى. وقد أخلص في خدمته سموّ أميرنا العباس , كما أخلص جدُّه من قبل في خدمة جد الأسرة الخديوية الكريمة. شهد له بما سردتُ وعددت من جليل الأعمال وباهر الصفات كل من عرفه - وما هم بالنزر اليسير من وطنيين وأجانب. وقد ذكره الورد كرومر في تقاريره الرسمية أكثر من مرة بالخير والثناء. ومما قاله فيه - ومثل هذه الشهادة لا يستهان بها: إن مدير عموم بلدية الإسكندرية , يوسف شكور باشا , رجلٌ سوري ذو نشاط كبير ودراية عظيمة. ولا شك في أن إصلاحات خطيرة قد تمت على عهده في مدينة الإسكندرية , ويجب عليّ أن أجاهر بأن تحريات لجنة التحقيق لم تتمكن من وجود ما يشين نزاهة شكور باشا. على أن تلك النزاهة لم تكن قط موضوع الريب هذا قليلٌ من كثير , أيها السادة , مما عرف به فقيدنا الكريم.

النهر

ولكنت استوقفكم طويلاً , لو شئت أن أدرس حياته كموظف وكرجلٍ وكمفكر. ولذلك أكتفي بأن أقولَ بالإجمال: أن تلك الحياة كانت صفحة ناصعة البياض , لم تخط فيها إلاَّ سطور الهمة والنزاهة والشهامة والمرؤة. وإني لأذكر أبداً آخر مرة قابلته فيها , وكان يُعد مقالاتٍ ضافية في بعض المواضيع الاقتصادية الوطنية , ولا أزال أرى ذاك الذكاءَ اللامع , ومع ذلك الإخلاص المجسَّم , وهو يشرح نظريته ورأيه في ذاك الموضوع الحيوي. كما أنني لا أزال أذكر آخر مرةٍ سمعتهُ فيها خطيباً , وقد وقف يؤبن أحد عظماء رجالنا , فكان ينادينا بأعلى صوته إلى العلى! إلى العلى. . .! وكأني الآن بروحه الطاهرة تشرف علينا من الأخدار العلوية وتنادي بنا إلى العلى! إلى العلى. . .! إلى العلى! يا سادتي. فلتكن هذه الكلمة شعاراً لنا. . إلى العلى! يا شبيبة الشرق الناهضة. فلتكن هذه الآية السامية العظة التي نستخلصها من حياة ذلك الرجل الكبير. إلى العلى , في أقوالنا وأعمالنا! إلى العلى , في مقاصدنا وآمالنا!. . . . النهر ونهر حالَفَ الأهواَء حتى ... غدا طوعاً لها في كلّ أمرِ إذا سرقتْ حُلى الأزهارِ ألقتْ ... إليهِ بها فيأخذُها ويجري عبد العزيز الأنصاري

ثمرات المطابع

ثمرات المطابع ديوان الكاشف - أحمد أفندي الكاشف شاعرٌ من شعراءِ

مصر المعدودين , يشهد له حافظ إبراهيم بأنه مستقلٌّ في بيانهِ ومبدأهِ ووجدانهِ ويرى شوقي في شعره روح الإخلاص كما يرى إسماعيل صبري أن في ذلك الشعر ما يستحقُّ أن يقف له القارئ إِعجاباً وإجلالاً , ويقول خليل مطران أن الكاشف يلقي إليك أبياتاً شائقة اللفظ , شريفة المعنى , متينة القوافي ويرى السيد المنفلوطي أن الكاشف الشاعر الوحيد الذي عرف الناس من أمره أنه إذا نطق فإنما ينطق بلغة نفسهِ , وإذا حدّث فإنما يحدّث عن حسهِ وينعته أحمد محرّم بأنه صادق الأسلوب , واضح السنن , صافي العبارة ويقول فيهِ صاحب المنار أنه ينظم الشعرَ للذة نفسهِ وإمتاع وجدانه وقد شهد للكاشف بذلك كل من قرأ شعره , ودرس نظمه. ولكننا أوردنا أقوال مشاهير شعرائنا وكتّابنا لنزيد القراء معرفة بالشاعر الذي ننشر اليوم رسمه بمناسبة إهدائهِ إلينا الجزء الثاني من ديوانه. وقد امتاز الكاشف على معظم الشعراء بأنه يرمي في قصائده إلى تأييد آراء خصوصية ومذاهب له في السياسة والدين , فهو يدعو إلى الجامعة الإسلامية , وتحرير الشرق , وتأييد الخلافة في بني عثمان , وقد يحدو بهِ ذلك أحياناً إلى الغلوّ والتشيع , مما يجعله شاعر فئةٍ مخصوصة , يطربُ لشعره بعض الأفراد , لا شاعراً اجتماعيّاً تهتزّ لأقواله أمة بأسرها لما تتضمنه من الدروس العمرانية , والأبحاث النفسية كما هي حقيقة وظيفة الشاعر. ولكن في إخلاص الكاشف لأكبر شفيع له. وهو من هذه الوجهة أكبر وأسمى في القسم الثاني من ديوانهِ منهُ في القسم الأول

وقد أهدي الكاشف ديوانهُ إلى سمو عزيز مصر , فكانت هذه الهدية من جملة الأدلة على إخلاصه المأثور للأريكة الخديوية التي طالما نظم فيها القصائد الغراء. علم الاقتصاد - الثروة ركنٌ من أهم أركان المدنية الحديثة , بل قاعدة من أثبت القواعد التي قامت عليها أمم اليوم وعليها طبّقت قوانينها ونظاماتها. ولذلك أصبحت حياة البلاد في علم الاقتصاد الذي يبحث في تلك الثروة وكيفية استحصالها وتقسيمها وتداولها واستهلاكها. ولا يزال هذا العلم الذي وجّهت إليه أوروبا عنايتها متقهقراً بل معدوماً في بلاد الشرق , مع ما يتعلق عليه من الفوائد الجلّي. وقد سرّنا أن رأينا حضرة الحقوقي الفاضل رفيق أفندي رزق سلوم يتناول هذا الموضوع

الجليل ويدرسهُ درساً جليّاً وافياً في كتابٍ وضعهُ لهذا الغرض , أورد فيه زبدة أقوال العلماء الاقتصاديين وأرائهم فيما يتعلّق بالثروة والتجارة والصناعة والزراعة ورأس المال والعمّال والاحتكار والشركات الخ. وأننا نبتهج بأن نرى ناشئتنا التي تتلقى العلوم العالية في أوربا تعود ينا وهي حاملة بذور العلم الصحي فتبذره في ربونا لتعدّ للغد حصاداً طيباً. فهنيء رفيق أفندي ونثني على عمله واجتهاده. والكتاب مهدي إلى حضرة السيد عبد الحميد أفندي الزهراوي. التربية والتعليم - مهما كثرت الأبحاث في هذا الموضوع الجليل لا نزال في حاجة إلى المزيد , ولاسيما إلى ما كان منها وافياً بالمقصود قائماً على نظرية صحيحة ومن هذا النوع كتاب التربية والتعليم لحضرة الباحث الفاضل محمد أفندي أمين , وقد شخّص فيه علّة امة ووصف لها الدواء الناجع ف جميع أطوارها: في البيت , وفي المدرسة , وفي المجتمع. والتربية البيتية هي أساس التربية. وعماد البيت المرأة ومن أقوال المؤلف: أرأيت بيتاً يتلألأُ ضوءُ السعادة بين حيطانهِ , وتحطّ السكينة والطمأنينة بين جدرانهِ , ويبزغُ نور الهدى من خلال بنيانهِ , وتحفُّ بهِ لملائكة صفاً صفاً , ثمَّ لم يكن مركز دائرتهِ امرأة صالحة! ونحن نشكر لمحمد أفندي أمين توفيقهُ في هذا البحث المفيد , ونرجو لمؤلَّفهِ كل رواج. ومقدمة الكتاب مدبّجة بيراع حضرة الأستاذ أحمد لطفي بك السيد مدير الجريدة. مذكرات حي - هي صفحة من حياة أحد شبان العصر المتألمين , لصاحبها الأديب إلياس أفندي منسي , وقد أملاها عليه قلب جريح يشكو من الزمان وأهلهِ مرّ الشكوى , وكتبها بقلم كثيراً ما مزج الدموع الحارة بمدادهِ , فجاء الكتاب من أوله إلى آخره زفرات متصاعدة , وأنفاساً متحرّفة , وأنيناً مؤلماً. على أنه إذا كانت القلوب قلقة في الصدور في سن الشباب , لأنها تتغذى بالأحلام التي يصعب تحقيقها , أو لأنها تنبض خفّافة كلما مست يدُ المصائب أوتارها , فلا يحسن بها أن تستسلم إلى اليأس , وتضيع في وهاد القنوط. بل يجب أن يكون للعقل سلطة

أزهار وأشواك

على العواطف فلا تجمح بصاحبها جموحاً قد يضرّ به. ونحن نأمل لمذاكرات حيّ إقبالاً من القراءِ يمهد لمؤلفها السبيل إلى نشر مذكرات أخرى تكون ثورة العواطف فيها قد سكنت واضطراب الفؤاد قد هدأ. ذكرى الحبيب - هي مجموعة المرائي التي قيلت في الأديب المرحوم حبيب الجمّال , وقد جمعها أخوه الآسف حضرة القانوني الفاضل إبراهيم أفندي جمّال صاحب جريدة؟ الحقوق وأودعها شيئاً مما نظمه وكتبه في فقيدهِ الحبيب , فنسال لرصيفنا العزاء ولشقيقه الرحمة. الزَّهرات - للأستاذ يوسف أفندي الفاخوري مقام كبير بين حَملَة القلم سوريَّا. فهو كاتب شاعر عُرف بالإجادة في هاتين الصناعتين. والزهرات , وهي مختارات من نظمهِ ونثرهِ تؤلف باقة جميلة جمعت من روضة أدب غضّ. أزهار وأشواك درس في الجغرافيا قرأت الفصل الجغرافي الآتي في جريدة البيان النيويركية , أورده كما هو , تاركا لذكاء القارئ معرفة البلد المقصود. قال الكاتب:. . . . بلاد من بلاد الله يحدَّها شمالاً بحر حب الوظائف؛ وجنوباً مملكة الذُّل؛ وشرقاً نهر التعصب؛ وغرباً جزيرة الزعامة؛ وفيها بحيرة تدعى بحيرة الأحزاب؛ ويخترق تلك البلاد جبال شامخة تدعى

جبال المواربة؛ وفيها سهول اختلف الجغرافيون في تسميتها فبعضهم يسميها سهول الخبث , والبعض الآخر يطلق عليها اسم سهول الخداع , ومن مدن هذه البلاد مدينة الكذب والتدليس , والخضوع للحاكم. تجارة تلك البلاد النفاق والشقاق - ولكن الأهلين وجدوا أن هذه التجارة كادت تذهب بأموالهم فتركوها , وهم الآن يتجارون بالحرية والمساواة والصدق - وأصبح عندهم بورصة هي بورصة الحب والسلام. أما مزروعات هذه البلاد فمخصبة جداً؛ زرعوا في الماضي الجهل فحصدوا الاختلافات , هم الآن يزرعون العلم لأنهم وجدوا أن غلالهُ أجود غلة ومبيعاته في الداخل كثيرة وللخارج أكثر. وفي هذه البلاد معادن كثيرة , منها معادن اللطف والظرف والجمال , ومنها معدن العفاف والكرم , وقد بدأوا باستخراج هذه المعادن من عهد قريب. المرأة والمرآة لي حديثٌ اتجاذب وقارئي أطرافه وذيولهُ من حين إلى حين , فتارةً يرضيهنَّ , ويُغضبهنَّ تارةً , وأنا على كل حال أجدُ فيهِ بعض اللذَّة , لأن معاكسة الأصدقاء , أو مداعبة الصديقات - تحلو كما تحلو المسامرة والمجاملة. وهذا الحديث هو عن المرأة. - وحديثها أو حديثٌ عنها يطربني. حديثي عن المرآة والمرآة - ولو كنت من علماء الاشتقاق والنحت لوجدت بين اللفظتين قرابةً لغوية فوق القرابة المعنوية.

والمرأة بطبيعتها ميَّالة إلى المرآة , وقد اختراعها منذ عهدٍ بعيد. فإنَّ أُمنا حوّاءَ - عليها أشرف السلام - قد اتخذت لها من مياه النهر الصافية مرآةً تستشيرها في معاني جمالها ودلالها , وكذلك فعلت بناتها وحفيداتها , قبل أن يخترع علماء الكيمياء - إرضاءً للمرآة - ذلك الطلاء الذي طلوا به الزجاج فجعلوه يعكس ما يُعرَض أمامه من الصوَر. والمرأة أمينة لمرآتها , ثابتة على صداقتها. ودليلي على ذلك الإحصاء الذي وضعهُ أحد الثقات قال , والأرقام لذلك الرجل الثقة , والتعليق لي: تقضي الفتاة بين السادسة والعاشرة من عمرها 7دقائق كل يوم أمام مرآتها؛ وبين العاشرة والخامسة عشر 15دقيقة؛ ثم تشتدّ روابط الصداقة بين هذه تلك , فتقضي الصبية بين الخامسة عشر والعشرين 22 دقيقة , وتزداد هذه العاطفة بين الخامسة والعشرين والثلاثون , فتبقى في المرأة يومها أمام المرآة نصف ساعة؛ ثم تأخذ العلاقة بالتراخي , فتنزل الجلسة اليومية أمام المرآة إلى 24دقيقة بين الثلاثين والخامسة والثلاثين , وإلى 18 دقيقة بين الخامسة والثلاثين والأربعين وإلى 6 دقائق فقط فيما بعد حتى الستين. فمن هذه الدقائق من حياة المرآة أمام المرآة يتألف مجموع 349574 دقيقة , أي 242 يوماً ونيف. أليس في هذا الثبات أكبر تفنيد لمن يتهم الأنثى بعدم الثبات , وينسب إلى بنات حواء التقلب في أميالهنَّ وعدم الأمانة. . .؟

العدد 33

العدد 33 - بتاريخ: 1 - 4 - 1913 أدرنه هيَ عاصمةُ التركِ الأولى في أوروبا. آخر أثر في البلقان لمجد بني عثمان. أخذها فردينانُ بالأمس كما أخذها مرادُ الأول من قبل كلاهما بذل في سبيلها ثمناً غالياً من مالٍ ومن رجال. روضةٌ غنُّاءُ في منبسطٍ ريَّان الصدر , مخضرّ الأديم. تترامى حولها سهول فسيحة يتسلل فيها نهر أردَهْ وينساب في غياضها نهر تُوندجه , حتى إذا هما بغاها لأقامها أمامها نهر ماريتزا فعانقاهُ وتمشَّى الثلاثة معاً إلى خليج إينوس. هيَ بنتُ القِدَم , وأمُّ الحوادث الجسام. بناها أدريان إمبراطور الرُّومان , بناءً مثلَ همَّتهِ وطيداً , فكانت من بعدهِ معقِلَ الملوك , وأبعد غايات الجيوش , وأجلَّ هموم الفاتحين. هيّ رواية التاريخ: مرَّت بالأجيال الوسطى وشهدت مطامع أقوامها.

كم خميسٍ لَجَبٍ صادَمها , وكم ملكٍ همام زحف عليها. لا هيَ ناسيةٌ وقائع قسطنطين وليسينيوس , ولا مجازرَ الغوط وقومِ. الإمبراطور فالانس مَلِكان تلاقيا أمامها وتَناجزا على مرأًى منها طمعاً فيها. فلمَّا تغلَّبَ قسطنطين فتحت لهُ صدرَها , ومدَّت إليهِ ذراعيَها. وشعبانِ تطاحنا عندها رغبةً في حيازتها , فلما قهر الغوط فالانس نبذت هذا , وأباحت حماها لقاهريه. هي تحبُّ الغالب , وتزدري المغلوب! ثم حاضَرَها البلغار , ورموها بالحجارة والنار , فدفعتهم بمنعتها وردَّتهم عنها خاسرين؛ حتى إذا ضيَّقوا عليها الخناق , وأرهقوها بالجوع , تمكَّنوا منها , فدخلوها مهلّلين مكبّرين. مَن استطاع أخْذَها عنوةً فقد استطاع شبهَ المستحيل. هيَ سبيلُ الغربِ إلى الشرق: آوتِ الصليبيين في طريقهم إلى بيت المقدس , والطريق إليهِ يومئذٍ نار ودم , وجمعت في ذراها إمبراطور الروم , وفردريك بَربَروس , فتعاهدا تحت ظلِّها وتحالفا , وكانت لهما الشاهدَ العدل. ثم مشى بها الدهر أو ماشتهُ. لا صروفهُ هيّنة , ولا عزائمها واهنة. كما أنشبَ فيها ظفراً أنشبت فيهِ ناباً وظفراً. لاقت بهِ طاغية عتيَّا. ولاقى بها صبوراً حمَّالةً للخطوب. قوَّتان متكافئتان. هي الحلقة الأولى من سلسلة الفتوحات العثمانية في أوروبَّا. فتَحها

مراد الأول واتخذها عاصمة للسلطنة. متى تغلَّب فاتحٌ عليها فقد تغلَّب على سائر البلقان. ربَّ حلَقةٍ إذا سقطت , سقطت وراءها حلقات. حينئذٍ مدَّ النصرُ لها يدهُ فصافحتهُ بيدِ بايزيد الأول , ثم حالفَتهُ بيد مراد الثاني؛ فتمشَّت هيبتها في طليعة جيوشها , فملَك قومها مقدونيا وبعضَ بلاد الروم , واكتسحوا ألبانيا , ودوَّخوا الفَلاخَ , وفتحوا بلغراد. ثم مشى منها محمد على فروق حيث بنى عرشهُ على بقايا عرش قسطنطين , ووطَّد الخلافة على أنقاض الإمبراطورية. أسعدَها بنو عثمان يوم كان نجمهم زاهراً ملء دائرته في سمائه , والهلال خفَّاقاً بالنصر على رؤوس الترك؛ فبني فيها سلُيم الثاني جامعهُ الشهير رافعاً قبَّتهُ على أعمدة من المرمر مباهياً بنها قبة آيا صوفيا في على أربعين هي وقبورُ بعض السلاطين كلُّ ثروتها من الآثار. عزٌّ مضى ومجدٌ تولَّى. لا حالٌ إلاَّ تحول , ولا دولةٌ إلاَّ تدول. عجباً لها! بينا هي سبيل السلاطين إلى الغرب , إذا هي طريق القياصرة إلى الشرق: مرَّ بها سليمان الثاني إلى فِيَنَّا , ومرَّ بها اسكندر الثالث إلى فروق! كُرَةٌ لصَوالجة الفاتحين يتراماها ملوكٌ , ويتلَقَّفُها ملوك. ما دخلها القائد بوسكيه أبَّانَ حرب القرم حتى خرج منها عقيبَها. تؤخذ اليوم

بالسيف , وتنتزع غداً بالسياسة. فتَحَها جورجو قائدُ الروس , وانتزعتها منهُ معاهدةُ سان استفانوس! جوَّادةٌ بما لا تملك. لم تتحرَّر قط , ولكنها وهبت الشعوب الحرية , ولم تنعم بالاستقلال حقبةَ من الدهر , ولكنها أنعمت بهِ على جاراتها. لو استطاعت لأخذت مثل ما وهبت! سِجِلٌّ يكتبُ فيهِ القلم كما يكتبُ فيهِ السيف. لهذا صفحة تنطوي على دمٍ وعلى نار , ولذاك صفحة تنفتحُ على عهودٍ ومواثيق. ما كانت الأولى غير أسبابٍ , وما كانت الأخرى سوى نتائج. كذلك وقَّع فيها السلطان محمود معاهدةَ صلحهِ مع قيصر الروس , تلك المعاهدةَ التي وسعَّت منطقة روسيا في آسيا , وكتبتْ للسرب ورومانيا فاتحة عهدها بالاستقلال , وكذلك دُوّنَ فيها اعتراف التركِ بتحرّر الرُّوم , ذلك الاعترافُ الذي أعزَّ هؤلاء , وأطلقهم من ربقة الاستعباد. مَيدانٌ للحرب , لا ميدانٌ للعقل. ضرَبت فآلمتْ , وقاتلت فقتلتْ , ما أنكر أحدٌ بأسَها , ولا استخفَّ ملكٌ حملها. ليتها كانت ربَّةَ رأيٍ مثلما كانت ربَّة حسام. للقوَّةِ شأنٌ , وللسياسةِ شأن. ما وفَّقت بينهما , ولا استفادت من جمعها. فالبلادُ التي أغارت عليها عادت إليها مكتسحةً مُغيرة , والقومُ الذين أراقت دماءَهم , قويَ ساعدهم عليها فأراقوا دمها. وإنما الدهر يومان: يوم لك ويوم عليك. مَن استفاد من نِعَم الأوَّل هوَّن عليهِ شرورَ الثاني.

أدِرْنَه أخت بلافنا. كلتاهما كانت عريناً للأسود , ومعقلاً لأبطال لتاريخ أختانِ شقيقتانِ حمى عرضَيهما أخوانِ شريفان. ما تسلَّم قيصرُ الرُّوس الأولى إلاَّ مغموسةً بدماء الألوف من عساكرهِ , ولا بلغ قيصر البلغار الأخرى غلاَّ مشياً على جثثِ جنوده. ملكانِ ابتليا بملِكَين. ذانِكَ أعزَّهما تاجاهما , وهذان شرَّفهما سيفاهما. رَبَّ سيفٍ ردَّهُ فردينان إلى شكري احتراماً وإكراماً. غازيان لكلٍّ حقهُ من الشرف والجاه. لتعتزّ أدرنه بفاتحيها. أسودٌ اقتنصتها من أسود! أيها الفاتحون أدِرنه المغتصبون حماها. هل فتحتم مدينةً أعزَّ أمِ اغتصبتم حمىً أجلَّ. أما واللهِ لو لم تكونوا لها أهلاً , ما ملكتم منها قِيدَ شبر , ولا تطلعتم إلى أسوارها إلا عن كثب. لم يبعها الترك رخيصة القدر , ولا اشتريتموها بخسة الثمن. فإذا وقفتم بقبور السلاطين فيها , قفوا خاشعين لذويها. الكريم مَن يعرف قدر الكريم. أولئك ملوك كبار أجلَّهمُ من قبلكم ملوك كبار. مَن ذا يقول لهم عنَّا: سلامٌ عليكم سلاطين عظاماً , وسلامٌ عليكم فاتحين أعزَّاء. هذا آخرُ عهدنا بكم. لتبقَ قبوركم مزارَ الأبطال وذكرى خالدةً لمجدكم الخالد. مباركةٌ هي تلك القبور , ومباركة حولها قبورُ حماتها البواسل. في ذمَّةِ البلغار ما في أدِرنه من رفات كريمة!! سلامٌ عليها وواهاً على عهدنا بها!!

الجريحة الأبدية

الجريحة الأبدية قطرةُ الندى العالقة بغض الشجرة , عندما تنعكسُ عليها أشعةُ الشمس المشرقة تكون أشبه شيء باللؤلؤة الصافية. تلك القطرةُ اللؤلؤية , إذا هبَّ عليها النسيم الخدَّاع فأسقطها إلى الحضيض , امتزجت بالتراب , فتحوَّلت إلى وحلو ولكن يكفي أن يُصيبها شعاعٌ من الشمس المنعشة , حتى يُبخرها فيطهرها مما لحق بها من الأقذار , ويعيدها إلى صفلئها الأول. . . كذلك قل عن المرأة الطاهرة. فإن قلبها هو أشبهُ شيءِ بتلك اللؤلؤة الجميلة قبل سقوطها من على الغصن , بل هو أبهى وأسنى , فإذا هبَّت عليهِ لوافح الشهوات والأهواء , أسقطتهُ إلى وهدة الرذائل , فمرَّغتهُ في حمأة الدنايا , ولكن يكفيهِ شعاعٌ من الحب الطاهر حتى يخلصهُ من كل شائبة ويعيده إلى ما كان عليهِ من الجمال والبهاء. مسكينة المرأة , وتِعس حظّها في هذه الحياة. نفحتها قريحة الشعراء بألطف الأسماء , وجادت عليها مخيّلة العشاق بأجمل الألقاب: سموها الشمس والقمر , وهي مسكينة المظلمة الفؤاد رأوا فيها الغزال الشارد , وهي الرازحة المثقلة بتقاليد هذه الحياة شبهوها بالزهرة النضرة , وهي المهشمة القلب الدامعة العينين في بلائها الشديد لقّبوها بالحمامة البيضاء السابحة في الفضاء , وهي العصفور المقصوص الجناحين في قفص الحديد

صوَرٌ وتشابيه , وأسماء وألقاب , هيهات أن تنطبق على حقيقة الواقع وواقع الحال. وليس من اسم ينطبق على هذا المسمى المسكين أحسن من الاسم الذي وضعهُ ميشله المؤرّخ الفرنسوي الشهير لما سمى المرأة الجريحة الأبدية كيف لا وهي جريحة ابنةً وزوجةً وأماً. . . .؟ بل كلها جروح دامية إذا تناولها إعصار هذه الحياة فتلاعب بها كما يتلاعب بأوراق الخريف , وطرحها أخيراً في مواخير البغاء , فتصبح ثغراً ضحوكاً باسماً , وقلباً خفوقاً دامياً؛ تغازل بالعين , وتبكي بالأخرى؛ وتداعب باليد , وباليد الثانية تسند فؤاداً تُصدّعهُ الذكرى. جمع أحد مشاهير المصوّرين حياة إحدى هذه التعيسات في خمسة رسوم بديعة الوضع والصنع. ففي الأول: صورة فتاة طاهرة ساذجة عند وصولها من قريّتها إلى المدينة؛ وفي الثاني: وقوعها بين مخالب أحد الذئاب البشرية؛ وفي الثالث: نزولها إلى بيوت الفحشاء؛ وفي الرابع: نزولها في السجن , لأن الفاقة ساقتها إلى السرقة؛ وفي الخامس: امرأة ناحلة جرداء , عليها أسمال بالية , وهي تمدُّ يدَها إلى المارّين تستعطيهم هاتفةً: أعطوني حفظ الله أبناءكم من بناتي. . .! هذه هي صورة أكثر النساء اللواتي وُصمنَ بوصمة العار وهي صورة غنية عن الشرح والتعليق. ولكنَّ هناك فرضاً واجباً يتحتم علينا قضاؤه. فقلب هذه المرأة المسكينة كان ضحية الهيأة الاجتماعية. فعلى الهيأة الاجتماعية أن تضمد جرحه , وهي أدمتهُ؛ وتداوي قرحة , وهي أحدثتهُ. فتسكب عليهِ بلسماً , لا خلاًّ يزيده ألماً. قال فيكتور هوغو: أيها الرجل - وكلنا هذا الرجل - لا تحتقر أبداً امرأة سقطت , لأنك لا تعرف تحت أي حمل ثقيل رزحت نفسها المسكينة

أقوال مأثورة

أجل لا يليق بالإنسان أن يزدري تلك المخلوقة التي أعيتها أثقال هذه الحياة فسقطت إلى الحضيض , بل يجب عليهِ أن يمدَّ إليها كريمة فينتشلها من سقطتها ويرفعها من كبوتها. في فرنسا جمعية يرئِسُها الموسيو ليون بورجوا الوزير الفرنساوي السابق , هي أفضل من الجمعيات الخيرية , وأسمى غاية وأنبل مقصداً من سائر الأعمال المعروفة بالأعمال الإنسانية؛ خصص أعضاؤها ذواتهم بزيارة تلك المنازل النتنة التي دُفنت فيها الأنفس الحية فصارت تشبهُ القبور المكلَّسة: ظاهرها الرونق والبهاء , وداخلها التعاسة والشقاء. يزرون تلك الخبايا المظلمة , فيزورها معهم شعاع الحياة والرجاء فينعش الأفئدة الذابلة ويحيي القلوب المائتة. يزرون تلك المنازل فيأخذون من طُرح فيها من سفالة البشرية , ويضعونهُ في كير التنشيط ويدنونهُ من نار الأمل , فتُطهره ويصوغون منهُ نفساً جديدة طاهرة لا عيب فيها ولا دنس. ونحن في حاجة ماسة إلى مثل هذه الجمعية التي تخدم البلاد أجلّ خدمة فتعلّم السعيدات ما هي الشفقة والرحمة , وتعلّم التعيسات ما هو الصبر والرجاء. أقوال مأثورة كن على حذر من الكريم إذا هوَّنتهُ. ومن الأحمق إذا مازحتهُ ومن العاقل إذا أغضبتهُ. ومن الصديق إذا أفشيت بسرّه ابن عبد ربهِ قال بعضهم: انظر إلى المنتصح فإن أتاك بما لا ينفعك ويضرُّ غيرك فإنهُ شرّير. وإن أتاك بما ينفعك ويضرُّ غيرك فإنهُ طامع. وإن أتاك بما ينفعك ولا يضرُّ غيرك. فأصغِ إليه وعوّل عليهِ الراغب الأصفهاني

روسيا وبنو رومانوف

روسيا وبنو رومانوف سبق للزهور أن نشرت صورة الشيخ يوسف الخازن صاحب الأخبار المحتجبة. وهو الكاتب المجيد الذي طالما طرب القراء لمقالاته الشائقة وأبحاثه الدقيقة. ويسر أن تقدم اليوم لقرائنا المقالة التالية منه , قال: في أوائل الشهر الماضي خُتِم القرن الثالث لجلوس مخائيل رومانوف على عرش روسيا , وهو جَدُّ الدولة المالكة فيها اليوم , فاحتفل الروسُ بذلك احتفالاً باهراً توفّرت فيه مظاهرُ الأُبهة والعظمة على ما يليق بالدولة التي تظلّلُ رايتها سدس بلاد الله مساحةً وعُشر عباده عدداً. فحجَّ القيصر إلى بيت جدهِ في موسكو , حيث يُحفَظُ المهد الذي ضمَّهُ واللعَب التي لها بها وسائر الذخائر المتروكة عنهُ , مما يحفظهُ الأبناءُ برّاً بالأبناءِ وافتخاراً بهم؛ وأقيمت الصلوات الحافلة في عاصمة روسيا تذكاراً للأموات ودعاءً للأحياء , بحضرة ستة عشر مطراناً يتقدَّمهم بطريرك أنطاكية , وقد جيءَ به خصيصاً من الديار الشامية لهذه الغاية؛ ووزّعت الصدقاتُ وأطلق السجناءُ وعفي عن كثيرين من المنفيين , ووردت على القيصر التهانئ من الملوكِ وروساءِ الحكومات وذوي الحيثيات , على ما فصََلت ذلك الجرائد اليومية. ولا غرابة إذا احتفلت روسيا مثل هذا الاحتفال بذكرى مخائيل رومانوف فإن لأبنائهِ فضلاً عظيماً عليها , ومآثر عديدة تخلّدُ ذكرى كثيرين منهم في التاريخ وتسوّغ الافتخار بهم: فإنهم تولّوا روسيا , ومساحتها ثمانية ملايين كيلومتر مربع بما فيها سبيريا؛ والبحران البلطقي والأسود مقفلان في وجهها , فلا منفذ لها إلاّ على البحر الأبيض حيث الجليد يكاد يجعل كلَّ منفذ والهواء سواء؛ وأسوج على كتفها قوية الساعد شديدة البأس , تضطرها إلى التنازل لها عن بعض الولايات؛ وبولندا حاجز قويٌّ بينها وبين دول الغرب تعزلها عنها , ولا تدع لها رأياً في مجالسهنَّ؛

وفتوحات الترك تقصر نصيبها من إرث السلطة الرومانية الشرقية على لقب وشعار؛ والعنصر السافي , بوجه الإجمال , ضعيف الشأن , خامل الذكر لا يُعبأ بهِ , ولا يكترث له. وها هي الآن بعد ثلاثة مئة سنة من حكمهم على ما ترى: فإنهم ما اكتفوا بالمحافظة على ما ورثوه واسترداد ما اضطرّتهم الأحوال إلى التنازل عنهُ في بداية ملكهم , بل زادوه كثيراً بما ضموا إليهِ من الأملاك الواسعة في أوربا وآسيا وأميركا. على أنهم عادوا فباعوا ولا يتهم الأميركية للولايات المتحدة , كما باعت فرنسا من قبل ولاية لويزيانا , ومع ذلك فمساحة روسيا الآن تناهز ثلاثة أضعاف ما كانت عليهِ في أوائل القرن السابع عشر , عدا الإمارات المستظلة بظلها والمناطق الداخلة في نفوذها. ومما يزيد هذه المساحة قيمة كونُها قطعة واحدة من الغرب إلى الشرق. فإن روسيا , من هذا القبيل , لا يضارعها سوى الصين والولايات المتحدة. أما الصين فانحطاطها لم يدع لها شأناً بين الدول ولسنا نظن أن مستقبلها يكون خيراً من ماضيها إذا اقتصرت عوامل الإصلاح على تغيير هيئة الحكومة ونظاماتها فإن مثل هذا التغيير ما كان يوماً دواءً شافياً لأمراض الضعف والانحطاط. وكفى بمصير البلاد العثمانية اليوم شاهداً. وأما الولايات المتحدة فمساحتها تسعة ملايين كيلومتر حال كون مساحة روسيا اثنين وعشرين مليوناً. نعم أن الولايات المتحدة مزية عظيمة على روسيا بالنظر إلى الموقع الجغرافي ووحدة الأمة وقابلية البلاد للعمران ولكن ما دامت دفة السياسة في يد أهل القارة القديمة فشأن روسيا أعظم وأرجع. أما البحر الأسود فقد أصبح بحيرة روسية لا ينازعها فيهِ منازع بفضل كاترين التي بسطت يدها على ساحله , ونقولا الذي دافع عتهُ دفاع الجبابرة , واسكندر

الذي فك القيود وجدد فيهِ المعاقل والحصون رغم الأنوف. وما قيل عن البحر الأسود يقال عن البحر البلطيقي وقد قامت عاصمة الروس على ساحلهِ تفاخر رصيفتها الأسوجية فتفخرها على حداثة عهدها وترسل إليها مع كل موجة ذكرى بطرس الأكبر قاهر كرلوس الثاني عشر ومؤسس عظمة الدولة السلافية على أنقاض الدولة السكندينافية. أما بولندا فقد أمّحت من سجل الدول وكاد الانتصار لها لا يتعدَّى حركات كحركة المسيو فلوكه الصائح في وجه الإمبراطور اسكندر الثاني على سبيل الاحتجاج عند زيارتهِ باريس: لتحي بولندا يا مسيو! على أن فلوكه هذا هو نفسه الذي تغدى فيما بعد على مائدة الإمبراطور نقولا الثاني في بطرس برج ناسياً بولندا والبولنديين. لكن كيف كانت الحال فالأولى بالاحتجاج أن يوجّه إلى النمسا لأنهُ إذا كان اغتصاب الروس لبولندا ينم على الطمع فاغتصاب الساسة النمسويين لها لا ينم عن الطمع فقط بل عن قلة الوفاء ونكران الجميل أيضاً فإنهُ لا يخفي على أحد أنهُ لولا بولندا لباتت فيانا مرتعاً لخيل الترك ونالها منهم ما نال غيرها من العواصم التي فتحوها , ولا يزال النمسويون يحفظون حتى اليوم في بعض متاحفهم جمجمة يزعمون أنها جمجة قره مصطفى وهو الوزير الذي وقف عند وعيده لولا المعونة التي جاءتهم من بولندا. وقد أكبر النصارى كلهم يومئذٍ عمل البولنديين وتغنّوا بهِ في كل مكان وكلَّف البابا نقّاشاً من خيرة النقاشين ان يخلد ذكراه على الرخام ويزّين بهِ كنيسة ماري بطرس في رومية. أما الترك فقد حقدوا على بولندا من أجل ذلك فكانوا أو من فكَّر في تقسيمها واقترحوه على روسيا قبل أن يخطر ذلك ببالها ولم تقدم عليهِ إلاّ فيما بعد بإلحاح النمسا وبروسيا. أما الهواجس التي جاءت من جانب الترك فما لبثت حتى زالت وتلاشت ولم

يبقَ لها أثر في الصدور. نعم أن الترك أحرجوا بطرس يوماً فاضطر إلى توقيع معاهدة بروت على شروط لا ترضيهِ ولكن خلفاءَه انتقموا له أيما انتقام: وهذو معاهدة قينارجه - وقد أبت كاترين أن يوقعها الروس إلاَّ في مثل اليوم الذي وقعت فيهِ معاهدة بروت - ومعاهدة أدرنة ومعاهدة سان ستفانو كلها تشهد بأن نجم بني رومانوف كان أعلى من نجم بني عثمان وتبين الأسباب التي جعلت كلمة روسيا في الأستانة فوق كل كلمة. أما العنصر السلافي فقد كان ارتقاء روسيا وصعود نجمها في العالم السياسي خير منشط لهُ فدبت فيهِ روح جديدة وأخذ أبناءُ السلاف في كل مكان يحولون أنظارهم إليها والاتحاد معها وأن الاستظلال بظلها وأثبتت الأيام أنهُ لا تقوم لهم قائمة إلاَّ بالانضمام إليها والاتحاد معها وإن خالف ذلك منهم عاد بصفقة المغبون. وما كان بنيامين السلاف ليقف وقفتهُ اليوم ويخاطب النمسا ومن يشد مشدَّها بلهجة تحجم عنها الدول الكبرى لولا أن روسيا من ورائهِ تثبت عزمه وتشدّ أزره , وبيض القطا يحصنهُ الأجدلُ. والحق أن روسيا قد فعلت في سبيل أبناءَ جنسها ما لم يفعلهُ غيرها في القرون الحديثة وربما كان السبب في ذلك أن أبناءَ جنسها أكثر حاجة من سواهم إلى المساعدة والتعضيد. ولم تنحصر عناية الروس بأبناءَ السلاف فقط بل تناولت جميع الذين على مذهب الأرثوذكسية أيضاً فكان لليونان والسوريين حظ وافر منها والمشهور أنهُ لولا الروس ما قُرع جرس في سوريا ولا ارتفع صليب في جنازة مسيحية ولذلك كنت ترى المسيحيين العثمانيين بوجه الإجمال ضالعين مع روسيا في حربها مع اليابان ولم يخرج عن هذه القاعدة سوى نفر من تلاميذ المدارس الأميركية لم تبلغهم عبر الماضي أو ظنوا أن الانتصار لدولة غير مسيحية على دولة مسيحية يعد دليلاً على

الارتقاء وسعة الحلم والتنزه عن التعصب. على أن الارتقاء الاجتماعي في عهد بني رومانوف لم يبلغ في روسيا شأوَ الارتقاء السياسي وربما كان السبب الأكبر في ذلك أن الارتقاء السياسي يكفي للقيام بهِ أفراد معدودون تتوفر لهم الأسباب اللازمة وجلها مادية وذلك ميسور في كل آن حال كون الارتقاء الاجتماعي لا بدَّ له من ارتقاء الأمة نفسها وهو أبعد بأوقات معينة قلما يمكن تعجيلها بلا ضرر. لذلك إذا صحَّ أن ينسب فضل الارتقاء السياسي إلى بني رومانوف لا يصح أن ينسب إليهم التأخر الاجتماعي. ومع ذلك فقد أخذت روسيا تخطو خطوات واسعة في ترقية الشؤون الاجتماعية نظرياً وعملياً. هذا ما صارت إليهِ روسيا في عهد أربعة عشر قيصراً وأربع قيصرات تولوها مدة ثلاث سنة وقل منهم من لم يترك مأثرة يعرف بها في التاريخ: فمخائيل رومانوف منظم الشؤون الداخلية , وألكيس ضابط القوانين ومنقح الكتب المقدسة , وفيودور ممهد سبل الاتفاق برفع أسباب النزاع والشحناءَ بين الأعيان والأمراءَ , وبطرس الأكبر مؤسس روسيا الحديثة , وكاترين الأولى منقذة زوجها وجيشه برباطة جأشها وحسن فطنتها , واليصابات ماحية عقوبة الإعدام جابة لنداء المروءة , وكاترين الثانية الملقبة بسميراميس الشمال , واسكندر الأول صديق نابليون وخصمهُ , ونقولا الأول أمين الملوك على حقوقهم الإلهية , واسكندر الثاني محرر الفلاح , واسكندر الثالث حليف فرنسا. على أننا إذا رجعنا إلى التاريخ نجد أن العائلة المالكة اليوم في روسيا ليست من بني رومانوف حقيقة ولا بربطها بها إلاّ رابطة الرحم فأنها من سلالة بطرس

الثالث وهو أمير الماني ارتقى عرش روسيا بعهد من حالته القيصرة اليصابات وقد انقرضت بها دولة رومانوف في روسيا كما انقرضت بسميتها دولة ثيودور في انكلترا , وكاترين نفسها ليست من بني رومانوف ولا هي روسية مطلقاً. فالعائلة المالكة في روسيا من هذا القبيل كالعائلة المالكة في النمسا فإنها تنسب إلى بني هبسبورج مع أنها ليست منهم إلاَّ من جانب النساء فلن جدها الإمبراطور فرنسيس الأول من بيت لورينّ ولكنهُ تزوج ماريا تيريزا ابنة الإمبراطور كرلوس السادس آخر بني هبسبورج وبواسطتها اتصل الملك بزوجها وأولاده منها ولكنهم ظلوا ينتسبون إلى عائلة أمهم. فروسيا والحالة هذه من جملة الممالك التي تحكمها دولة ألمانية كأنكلترا وبلغاريا ورومانيا. ويتصل نسب بني رومانوف من جانب النساءَ أيضاً ببني روريك وهم الدولة التي تولّت روسيا منذ أواسط القرن التاسع للميلاد وقد أدركوا في عصرهم شأناً عظيماً وصاهروا بني بليولوج أصحاب الأستانة وبني كآبه أصحاب فرنسا. ومن النوادر التي تذكر عن مصاهرتهم لملوك فرنسا أن بسببها سمي ابن هنري الأول ملك فرنسا فيليب: وذلك أن امرأة هنري الأول كانت من بني روريك وكانت تتصل بني بليولوج من جانب النساء وهم يزعمون أنهم من سلالة فيليب المقدوني فسمت ابنها فيليب أحياءً لاسم أبي الاسكندر جدها المزعوم. ومما يجدر ذكره أيضاً عن بني رومانوف في هذا الباب أنهُ بينما كانت معظم الدول الأوروبية تتهافت على نابليون الأول لتزوجه بناتها بعد تطليقه جوزفين أبي بنو رومانوف أن يصاهروه. نعم أن نابليون لم يطلب مصاهرتهم صريحاً ولكن بدا من سفيرهِ في بطرس برج ما يدل على رغبة مولاه في أخت اسكندر الأول فبادرت والدتها وزوجتها زوجاً آخر حتى تسد السبيل في وجه نابليون. ولا يبعد أن يكون ذلك من الأسباب التي زادتهُ حنقاً على روسيا.

المرء ودنياه

ومن عادة بني رومانوف أنهم يشترطون بقاء بناتهم على المذهب الأرثوذكسي إذا تزوجنَ بغير أرثوذكسي ويشترطون عند زواجهم بغير أرثوذكسية أن تدخل زوجتهم في المذهب الأرثوذكسي أولاً وهي عادة تدل - بقطع النظر عن العقيدة - على رفعة الأخلاق وكرامة النفس فإن الدين كالعرض لا يتاجر بهِ. يوسف الخازق المرء ودنياه عرف القراء أننا نرمي في ما ننشره لكتاب مختلفين من أصقاع مختلفة إلى جعل هذه المجلة مرآة تتجلى فيها حالة اللغة والأفكار في جميع الأمصار العربية. وفي مقالة الآتية التي جاءتنا من دار السلام وفي نشرناه قبلها لكتاب الزهور في العراق ما يصح أن يكون نموذجاً للأسلوب الإنشائي والحركة الفكرية في تلك الربوع التي عاشت اللغة العربية فيها عصرها الذهبي: حياة المرءِ في دنياهُ ركبٌ ... يجوب الأرضَ في طولٍ عرضِ فتغويرٌ لهُ في أرض قومٍ ... وتعريسٌ له في غير أرضِ وأيام الشهور هي المطايا ... تحثُ السيرَ بعضٌ إثرَ بعضِ وما عيشُ الفتى إلاّ غرورٌ ... كظل زائلٍ أو خفق ومضِ يعيش ابن آدم في الدنيا وهو مغرور بزهوها , وزهرتها. مشبوب الفؤاد بحبها , طائر القلب إليها , مشغول الخاطر بقطعها ووصالها؛ يطلب منها الوفاء وهي تغدر بهِ ويتوسل إلى قربها بكل وسيلة وهي تخدعهُ , وتمنّيه بالوعد. وما مواعيدها إلاّ الأباطيل! ولو علم الإنسان - أن الدنيا غادة عطبول , وعاشق ملول. إن وصلت قطعت , وإن أعطت منعت. نعينها بؤس , وحلوها مرٌ , وراحتها تعب , وبقاؤها فناء , وعمارها خراب , وأهلها في خطر منها - ما ركن إليها بكله , وما سعى لها كلَّ

السعي , وما بات وليس له من شغل شاغل سواها , ولا ذكر إلاّ ذكراها. . . أيها الإنسان الذي غرّه من الدنيا زخرُفها , وأطمعته أمانيُّها , واستغوته زينتها وطلاوتها , وانطلى عليهِ محالها. أصخ السمع , وعِ القلب , إلى وصف حال الدنيا وسيرتها مع أهلها ولا أظنك بمصغٍ ولا بواع! أيها الإنسان إن الدنيا كما جاء وصفها في القرآن المجيد ولا أبلغ من ذلك الوصف شيء كما أنزلناه من السماء , فاختلط بهِ نبات الأرض , فأصبح هشيماً تذروه الرياح؛ وكان الله على كل شيء مقتدراً بينما تراها مقبلةً عليك بنضرتها , وبهجتها , ليس لها بعل غيرك , ولا دار سوى منزلك , ولا نظرة إلاّ إليك , تراها بأسرع من لمح البصر قطعتك الوداد , ومنحتك الصد والبعاد , فانقلب سرورك حزناً , وحلو عيشك مراً , وصفو شرابك رنقاً كدراً , وتركتك وحيداً فريداً , في مفازة من ضنك العيش , ووحشة الفقر , لا مؤنس لك ولا متوجّع , ولا ناصر لك ولا معين , كمن جاءه الموج من كل مكان , جفاك بجفائها الأصحاب , وأنكرك الأقارب والأباعد والأهل والجيران. وصارت كل خلة كانت لك في الغنى مدحاً ذماً. فأضحى الذي يوّد أن تكون لك حاجة عنده , فيتقرب إليك بها وبتشرف بقضائها يتشاغل عن ردِّ سلامك إذا ما سلمتَ عليهِ لا لشيء هناك بل وفاءً منك بالودّ له! فهو يترك واجباً ويفعل محرماً , حذراً من أن تقول له قد بتُّ البارحة أنا وزوجي لنا سوى الماءِ والهواء , فهل لك أن تكرم عزيز قوم ذلّ , وشريفاً حسبه الجاهلون غنياً من التعفف؟ وأمسى الذي يوسط الواسطات إلى الحضور بين يديك أكره شيء في عينه النظر إلى وجهك. ولو في ليل ادلهمَّت دياجيره , كأنما ينظر إليك بعينين غير عينيهِ الأوليين.

وبات الذي كان يفتخر بمجالستك , ومنادمتك في سفرك ومحاضرتك يستنكف من جلوسك إلى جنبهِ , ولو في قفز من الأرض لا رائح فيهِ ولا غاد. وعاد الذي كان يسعى في حسن خدمتك من قبل , أقبح شيء يراه حسن خدمتك له , فتراه يتأمر عليك , ويتذمر منك , ويحكم فيك حكم السادة على العبيد , ولا يرى حقاً لنعمتك التي أسبغتها عليهِ فيما مضى كأن لم تكن شيئاً مذكوراً! وراح الذي كان يتبرّك بلباس ثوبك الخلق , يفرّ منك فرار السليم من الأجرب وصار الذي كان يستنجدك في الملمات , ويلجأ إليك في المهمّات , يتربص لك الدوائر وينصب لك المكايد , ويؤلّب عليك إذا استنجدته في الخلاص من ورطة وقعت فيها , فإذا الذي يستنصرك بالأمس يستصرخك. أيها الإنسان الذي غرّه من الدنيا ظواهرها , وخفيت عليهِ بواطنها , فقام لها على قدم وساق , وشمّر لها عن ساعد الجد والاجتهاد , وأحبَّها حباً أعشى بصره عن مساوئها , وأعمه قلبه , وخامر عقله ولّبه , حتى استحوذ عليهِ شيطانها , وأخذت مجامع قلبه شهواتها. ويا أيها الإنسان الذي يتفانى في حبّ الدنيا ولا يلهج إلاَّ بذكرها , ولا ينشد إلاّ ضالتها , ولا يعرف إلاّ إياها , ولا ينظر إلى سواها , هلاّ اعتبرتَ بما عاملتْ بهِ تلك الدنيا آباءَك المتقدمين , وأجدادك السالفين , أهل القرون الأولى والقوم الجبارين؟ فكم أفنت من دول , وكم أبادت من الملوك الأُول , أرباب السطوة والسلطان , والأسرّة والتيجان , الذين عمروا فيها عمر نوح , وملكوا ملك سليمان , وبنوا بناء الاسكندر , وطغوا طغوّ قارون , وصالوا صولة النمرود , وحكموا حكم القياصرة , وعاشوا عيش الأكاسرة: أين أين الملوك أين الرعايا ... أين أين القوّاد للأجنادِ أين أين البناةُ أين المباني ... أين من شيّدوا كذات العمادِ

أين اسكندرٌ وأين هِرَقْلٌ ... أين نمرود أين ذو الأوتادِ أين قارون أين فرعون موسى ... أين كسرى وقيصر ذو الآدِ أين من كتّبوا الكتائبَ للحر ... ب وصالوا بالمرهفات الحدادِ أين من كانوا يحرصون على الما ... ل ومن كان كعبةَ القصَّادِ هذه دورُهم تجيبك عنهم ... لو يجيب الجمادُ صوت المنادي صرعتهم كأسُ المنون ولّما ... يستفيقوا حتى ليوم التنادي وغدوا يُحملون من بعد عرش ال ... ملك في موكب على الأعوادِ وغدا ما لهم وما جمّعوهُ ... للأعادي إرثاً وللحسَّادِ وجفاهم أخوانُهم وبنوهم ... وجميع الحجَّاب والقوّادِ وثووا في القبور من بعد ما كا ... نوا بعالي القصور كالأطوادِ واستقروا في ضيّق اللحد يا س ... عدَ مقرّ السيوف في الأغماد ورضوا بالتراب بعد فراش ... من حريرٍ مؤثرٍ ووسادِ جمعتهم دارُ المنونِ جميعاً ... وهمُ من قبائل وبلادِ فغدا الضدّ يألف الضدّ طوعاً ... وغريبٌ تآلف الأضداد ومليك الزمان منهم له الدو ... دُ نديم بعد الحسان الخرادِ فإذا كان هذا مسير الإنسان ومصيره , فينبغي للعاقل أن ينظر إلى الدنيا نظر معتبر , وإن يجعل مقامه فيها مقام مسافر , نزل دارها اليوم ويرحل عنها غداً. وإن يحاذر منها كل الحذر , لأنها عدوّ في ثيابِ صديق , وإن يبذر فيها ما طاب غرسه , وزكا أصله , ونما فرعه , وأينع ثمره , وحلا ذوقه , واعذوذب طعمه. لأنها مزرعة الآخرة , والمرء يحصد ما زرع. وإن لا يحزن على شيء فاته منها , ولا على شيء انقطع عنه بعد ما أصابه منها , بل ينبغي له أن ينزل ما أصاب منها , منزلة ما لم يصب. لأن جوهرّها عرض زائل , وكسبها خسران مبين. وإن لا يتزوّد من الدنيا إلاّ

بقدر ما تمسّ الحاجة إليهِ. وأن يقنع بالشيء اليسير منها , إذ لا شيء أغنى من القناعة. ومن هضمَ دنياه وزهدَ فيها لآخرته , لم يحرمهُ الله بذلك نصيبه من الدنيا؛ ولم ينقصه من سروره فيها وأن لا يبيع آخرته بدنيا غيره حتى ولا بدنياه. وينبغي للعاقل أن يستقرئ أخبار السالفين وأعمالهم , فيأخذ بالإحسان منها عملاً , ويترك القبيح , ويذهب مذهب من سلك طريقاً هداه إلى الحق , وإلى الصراط المستقيم , ويتجنّب منهاج قوم يجرُّ ناهجه إلى الضلال , وسوء المنقلب. وإن لا يكون غير ذي دين , فإن الدين رابطةُ الإنسان بحلاله وحرامهِ , وإن لا يظن إلاّ حسناً , ولا يكون شيء الاعتقاد في الناس , فإن سوء الاعتقاد في الناس , فإن سوء الاعتقاد روح الفساد. وينبغي للعاقل أن لا يُبغّض إلى نفسه عبادة ربه , وإن يساوي بين معاشهِ ومعاده , وإن لا يترك مجالاً لنفوذ أحدهما على الآخر. وأن يعمل فيها عمل من يأمل أن يموت هرماً , وعمل من يرجو أن يموت غداً. وأن لا يفرح بالكثير من المال إذا ناله , لا يحزن لقلته إذا فقد الكثير منه. وإن يصنع المعروف مع كل فردٍ من أبناء جنسه. وإن يجود على الناس بما وسع الله عليه من الرزق , وينتهز فرصة نعم الله عليهِ , فيتفضل بها قبلَ زوالها. لأن الغد وراء الغيب , والمرءُ لا يعلم من نفسه إلاّ ماضيها وحاضرها. فهو في مستقبله كالأعمى المسالك طريقاً وعراً في ليلة ليلاء , لا يدري أينَ يضع قدمه , في النار أم في البحر. وينبغي للعاقل أن يكون جلداً صبوراً إذا ما انتابته نوائب الزمان , وطوارق الحدثان. وإن لا يترك حاسديه يشعرون بما أصابه من المصائب. وأن يكون ذا حزم وإقدام , وأن لا يصدّه أدنى عائق يعيقه عما يحاوله من صعاب الأمور. وأن لا يتهاون بصغار الأشياء ولا يستعظم في عين كبارها. فإن الصغار يلدن الكبار. ومن هاب الشيء العظيم خسر ما دونه. وينبغي للعاقل أن ينظر على عيب نفسه , قبل أن ينظر إلى عيب غيره. وأن

يغض طرفه عن عيب أخيه ولا يفاتحه بهِ مخافة أن يفاتحه بمثله. وأيّ الرجال المهذب وينبغي للعاقل أن يتعلم العقل من المجنون , والحلم من رأي السفيه , وحسن الأخلاق من سيئها , والعلم من الجاهل , والأدبَ من السافل , والدين من الكافر. وأن يأخذ الوفاء عن غدر اللئيم , والعبرة عن الدهر. واللبيب من اتعظ بغيره. وينبغي للعاقل تهذيب نفسه وتعويدها فعل الخير وكل ما ينفع الناس عامّة , ورفض ما يضرُّ بهم. وينبغي للعاقل أن يكون صادق اللهجة , حسن العشرة طلق المحيا في سرائه وضرائه. خفيف الطبع وقوراً وفيّاً , تصدق أقواله وأفعاله. وأن يكون أميناً محبَّا للفضل وأهله , منصفاً يتبع الحق حيث كان , ويطلبه حيث وُجد. وينبغي للعاقل أن يكون سليم القلب واسع الصدر سمحاً صفوحاً , محبّاً للسلم مبغضاً للحرب لأن الحرب داء قتال , يفتك بالنفوس فتكاً ذريعاً. وأن لا ينبغي على أحد , لأن البغي شر والشر يورث الدماء , وأن لا يعادي أحداً , ولا يضمر سوءاً لأحد , لأن المرءَ قليل بنفسه كثير بأصحابه. وينبغي للعاقل أن لا يحتقر صغيراً لصغره , ولا يوقّر كبيراً لكبره , إذ المرء بأصغريه أو كما قال أبو الحسن علي: المرء مخبوءٌ تحت طيّ لسانه لا تحت طيلسانه. وان يأخذ الحكمة ولو نطق بها مجنون ويأخذ ما يوافق رأيه من قول غيره , ولا ينتقد ما يخالف رأيه منه كونه خالفه. فلكل فردٍ من البشر رأي والكمال لله وحده. بغداد كاظم الدجيلي

في رياض الشعر

في رياض الشعر أنتَ يَا مَن أنتَ في عي ... ني وفي قلبي مصوَّرْ لك أهدي صورتي فان ... ظر إليها وتذكّرْ نقولا رزق الله

عرس في معركة نظمت في سنة 1902 عقيب ثورة البكسر في الصين وَففَا للوداعِ ذاتَ عشيّهْ ... هُوَ يبكي كالطفل وهيَ شجيَّهْ وقفةً كلٌّ منهما ودَّع الآ ... خَرَ فيها مستقبِلا للمنيَّةْ حالَ دونَ العناق بينهما كت ... مانُ تلك المحبةِ السرّية ففُؤآدانِ يخفقانِ ولحظٌ ... يتناجى ولوعةٌ عذريّةْ بينما كان والدها إلى الفل ... ك يؤمَّان مركباً حربيّهْ وهْيَ فيها مَسُوقةٌ مثلما كا ... نت تُساقُ الذبائح البشريّة وهديرُ الأمواج يدوي وقلْبُ ال ... صبِّ عند النوى يهابُ دويّهْ وصفيرُ البخارِ يُنذرُ بالبي ... نِ وغوغاءُ عصبةٍ نوتيّهْ رشقتهُ بنظرةٍ ثمَّ قالت ... لستُ أنسى هواكَ ما دمتُ حيَّهْ لي حُبّي الذي عرفتَ ووجدي ... ولكَ العهدُ والوفاءُ وصيّهْ نشأا عاشَقينِ طفَلينِ كلٌّ ... منهما يحسَب الغرامَ سَجيّهْ حفظا في الطريق والبيت والكُ ... تَّابِ سرَّ الهوى وفي البريّةْ شهدَ الناسُ أنَّ بين الصغيري ... نِ ائتلافاً وصحبةً أخويّهْ ثمَّ شُبَّ الهوى كذاكَ رويداً ... وكذا للهوى نكونُ المزيّهْ وقضى اللهُ بالنوى حين جدَّ ال ... وَجدُ بين الفتى وبين الصبيةْ إذ قضى الدهرُ أن يكون أبوها ... كاتباً في السفارةِ الصينيةْ نازحاً عن معاهدٍ مرَّت الغُب ... طةُ فيها بسرعةٍ برقيّهْ من بلادِ الألمان موطنِ قومٍ ... عُرفوا بالجهادِ في الوطنيّةْ

وهيَ أرضٌ يعيشُ تحتَ سماء ال ... علمِ فيها من شاَء والمدنيّةْ سارَ عنها لكي يجاورَ أقوا ... ماً تساوَوا في الجهلِ والهمجيّةْ صحبتهُ زوجٌ لهُ وابنةٌ عذ ... رآءُ كانت كأنها مسبيّهْ نبذت داعيَ الغَرامِ وقامت ... بفروضِ المحبّةِ البنويّةْ قبل عهدِ التاريخ في الصينِ أقوا ... مٌ أقامت مجهولةَ الذريّةْ من بني آدمٍ إذا كان حقاً ... والداً للسُلالةِ البشريّةْ جهلوهُ وأنكروا كلَّ دينٍ ... غيرَ ما أشركت بهِ الوثنيّةْ كلُّ شيء لديهمِ قدَّستْهُ ... روحُ رب تجول فيهِ خفيّةْ يجدُ الباحثُ المؤرخُ فيهم ... أمماً ميتةً وتُحسَبُ حيّةْ وقفتْ بين أن تموتَ وتحيى ... وقفةً خيلَ أنَّها أبديّةْ وأبى الغربُ أن تظلَّ كسدٍّ ... في سبيلِ الحضارةِ العصريَّةْ فصلاَها حرباً يشبُّ لظاها ... بينَ عصرِ العلوم والجاهليَّةْ وهيَ حربٌ في الصينِ قامت لأ ... نَّ الصينَ تهوى بقاءها صينيّةْ وترى كلَّ دولةٍ دونها شأ ... ناً وبطشاً ونجدهً وحميَّةْ والحديث المصنوعَ ألعوبةَ الطف ... ل تراهُ أو بدعةً وحشيَّةْ والعدوَّ اللدودَ كلَّ غريب ... فهي تقضي بقتلهِ أمنيَّةْ مَن يَمتْ في قتالهِ من بنيها ... نال حظَّ الشهيدِ في الأبديّةْ سنَّةٌ ناصبوا بها الشرقَ والغر ... بَ عِداءً والعلمَ والحريَّةْ وتداعوا فقامَ كلٌّ ينادي ... اقتلوا الأجنبيَّ والأجنبيَّةْ لا تظنُّوا مالاً نهبتم حراماً ... لا تظنُّوا نفساً قتلتم بريَّةْ

بينما كانت الشوارعُ في با ... كينَ تُكسى بحلّةٍ قرمزيَّةْ نسجتْها أعضاءُ ميتٍ قتيلٍ ... أو جريحٍ مستهدفٍ للمنيَّةْ ومرائي السماء سوداءُ يغشا ... ها دُخانُ القذائف الناريَّةْ برزت للعُداةِ بكرٌ رداحٌ ... تتجلَّى كأنها حوريَّةْ تقذفُ النارَ من يديها فيرتدُّ ... ونَ عنها بأوجه مشويَّةْ وهي تلك التي وصفنا جَواها ... ووصفنا شؤونها الحبيَّةْ كانَ في قلبها بقيةُ صبرٍ ... ثم زالت باليأسِ تلك البقيَّةْ أغضبتْها الحياةُ كالحلمِ تمضي ... وديارُ الحبيبِ عنها قصيَّةْ ورأت أنَّ قومَها بين حصرٍ ... وإسارٍ أشدَّ منهُ أذيَّةْ والمنايا إليهمِ تتمشى ... عابساتٍ لكنْ خُطاها بطيَّةْ فارتمت تقحمُ العدى وتنادي ... أيُّها الموت خذْ ياتي الشقيَّةْ ثم دمّرْ مني سفينةَ يأسٍ ... بينَ أمواجِ دهرِها مرميَّةْ رُبَّ صبٍّ قضى شهيدَ هواهُ ... وشجاعٍ في الحربِ ماتَ ضحيَّةْ قال منهم مقدَّمٌ فتنتهُ ... مذ رآها ألحاظُها البابليَّةْ لا تمدُّوا يداً إليها بسوءِ ... بل خذوها أسيرةً أو سبيَّةْ وإذا صائحٌ يصيحُ فِراراً ... يا رجالَ الديانةِ البوذيَّةْ داهمتكم مدافعٌ مهلكاتٌ ... وجنودٌ على الجنودِ قويَّةْ نجدة لو دفعتموها لخلَّتْ ... دُورَ باكينَ من بنيها خليَّةْ ثمَّ وافى من الفرنجة جندٌ ... هو عنوانُ وحدةٍ دوليَّةْ فلغاتٌ في النُطقِ مختلفاتٌ ... ونفوسٌ لم تختلفْ في النيَّةْ فوقَها كلُّ رايةٍ أنزلَ المج ... دُ عليها آياتهِ الحربيَّةْ

نظّمتهُ ممالكُ الأرضِ جيشاً ... تتباهى بمثلهِ الجنديَّةْ يتمنّى الجُنديُّ لو أنّهُ الج ... ثَّةُ في بعضِ رايةٍ مطويّةْ وغَدا فارسٌ يشقُّ غبارَ الح ... ربِ بين الكتائبِ البكُسريّةْ وقعت عينُه على غادةٍ تُس ... تاقُ للسبيِ وهيَ غضبي عصيَّةْ بين قومٍ صفرٍ إذا الحربُ ثارت ... نفروا كالنعامِ في بريّةْ سامَ فيها حبيبةً سامَه طو ... لُ نواها والوجدُ كلَّ بليّةْ هيَ كانت مناهُ لمَّا تردَّى ... برضاهُ الملابسَ العسكريّةْ فدنَا لا يَرى قيادةَ غيرِ ال ... حبّ بالطوعِ والخضوعِ حريّةْ ونجا بالفتاةِ من ربقة السب ... يِ إلى حفلةِ الزواجِ الهنيّةْ فاستظلاَّ منها برحمةِ أيدٍ ... شأنها الرفق أنها والديّةْ سُرَّ ذاك الزواجُ غير العروسَيْ ... نِ أباً صالحاً وأمّاً تقيّةْ ورفاقاً في الحرب كانوا جنودا ... ثم صاروا من بعدِها جمعيّةْ تسأل اللهُ أن يبارك عِرساً ... قامَ بين المعاركِ الدمويّةْ نقولا رزق الله بين الشريف وصبري سمع إسماعيل صبري باشا بيتي الشريف الرضي , وهما: أرى بعد وردِ الماءِ في القلبِ غلَّةً ... إليكِ , على أني من الماءِ ناقعُ وإني لأقوى ما أكونُ طماعةً ... إذا كذبتْ فيكِ المُنى والمطامعُ فقال مجاراة لهُ: يا مورِداً كنتُ أغنى ما أكونُ بهِ ... عن كلِّ صافٍ إذا ما بات يُرويني عندي لمائكَ , والأقداحُ طوعَ يدْي ... ملأى من الماءِ , شوقٌ كاد يُرديني

في سبيل الشرق لم يبقَ لي إلاّ الشبابُ , وأنهُ ... ديباجةٌ ضمن الأسى أخلاقَها نزلتْ بثهلانَ الهمومُ فلم يُطقْ ... حتى نزلنَ بكاهلي فأطاقها وكرهتُها , ومن الغرائبِ أنني ... لشديدِ ألفتها كرهتُ فراقها أشتاقُ أطّرحُ الهمومَ ويقتضي ... ظمأى على الآلام أن أشتاقها ولربما عرف المحبُّون التي ... تجني الشقاء فأصبحوا عشَّاقها شأن الفراشةِ واللهيبِ فإنها ... تغشاهُ وهو مسببٌ إحراقها يشكو الصبابةَ كلّ يوم مُدَّعٍ ... وأحقُّنا دعوىً بها من ذاقها لو نصفتْ تلك الحمامة لوعتي ... نضتِ الخضابَ ومزَّقت أطواقها يا هذهِ , حتى الغصونُ لما بها ... نثرَتْ على وجه الثرى أوراقها مثلَ التي لَزِمَ الخفوقُ جناحَها ... أصبحتُ مرتكضَ الحشا خفّاقها داءٌ تحاماه الطبيبُ , وعلّةٌ ... طلب العليلُ فلم يجد أِفراقها مرَّتْ بنا الأممُ الطليقةُ , وانثنتْ ... أخرى تُعالج أسرها ووثاقها هذي الجياد , فمن تعاطي شأوَها ... يا شرقُ فيك ومن أراد سباقها؟ يا مشرقَ الشمسِ المنيرةِ , أنها ... وأبيكِ شمسك فارقت إشراقها أما لياليكَ التي قد أقمرتْ ... فلقد طوت لكَ محوها ومحاقها فاقت وبزَّتْ أمةٌ غربيَّةٌ ... من بزَّها في المشرقين وفاقها وإذا أراد اللهُ رقدةَ أمَّةٍ ... حتى تضيعَ , أضاعها أخلاقها ملّك الضلالُ زمامها , فإذا حبت ... أو أمسكت سببَ المعالي عاقها رأت العدالةَ لا تروقُ لعينها ... فتلمَّستْ في الليل ظلماً راقها عجلت على البلوى فساقت نفسها ... للموت , أو عجل البلاءُ فساقها

ما عذرُ طائفةٍ أضاعت مصرها ... أن لا تُضيعَ شامها وعراقها برزتْ وقابلها الزمان بسيفهِ ... فأطنَّ ساعدها وعرقبَ ساقها أين الذين إذا اكفهرَّتْ أوجهٌ ... هبُّوا لنا طُلْقَ الوجوه عتاقها للهِ أطماعٌ أصابت خُلفها ... فيهم وآمالٌ رأتْ إخفاقَها نظرتْ إلى الحُلم الجميل فهاجها ... ورنت إلى الطيفِ الملمِّ فشاقها أو ما تشوقُكَ يا خيالُ بقيةٌ ... في أنفسِ لك كابدتَ أشواقَها؟ محمد رضا الشببي رائع الشيب دَبَّ قتيرُ الشيبِ في مفرِقي ... سبحانَ من طرَّز هذا الشعارْ طار الغرابُ الجونُ من فرعهِ ... ما لغرابٍ فوق فرع قرارْ قد كنتُ من فودَيَّ في ليلة ... يا ليت لم يطلع عليَّ النهارْ أغضَبني الشيبُ ملمّاً وقد ... اعذرُهُ لو يكتفي بالعُذارْ سحابةُ الشعرِ إذا صرَّحت ... بالبرقَ فاضت بالدموع الغزارْ مُلْكُ النجاشي في نواحي الورى ... ليس سوى بعضِ ليالٍ قصارْ يسودُّ بختي بالبياض الذي ... بان على الهامةِ بعد السرارْ جفَّ رطيبُ الجسمِ يا عاذلي ... فصرتُ أخشى فيهِ وقعَ الشرارْ تأمل النسرين في لمتي ... قابلَ في الوجنة لونَ البَهارْ قد ضحكَ الشيبُ برأسي وقد ... ضحكتُ لما قيل هذا الوَقارْ نسيب ارسلان

مصارع الأدباء

مصارع الأدباء بلغ من بغضيَ للشعر أن صرتُ أعرض عن سوانح معانيه في لوامع قوافيه. القاعد بالجدود عن منازل الشرف , المتواكل بالعزمات عن بلوغ نهايات الأرب. إحدى فتن الخيال. تجري بها البدائة فتتلقَّاها مسامعُ بالقبول , وتتلقاها مسامعُ بالملل أبعدْ به وبطلاّ به. يتهادى أمراءُ الذَّهب بين شوار وبين سبلندِدْبار تُساقِط أعطافهم الجنيهات , ويطوفون حول معاهد الصبوة في عواصم الغرب من مُنْتْ كارلو إلى مُنْتْ كارلو. ثم يأوون إلى بيوتٍ كثرت فيها الديكة والحمائم , ثمَّ يصبحون في لزباتهم يهبون المال في دعاوي ومخاصماتك فطلاق وزواج وميراث وشركة يتخلل ذلك كله لعب الورق واستشارة الوكيل وإدلال الكاتب , وما أدراك ما الكاتب , وبيع الأطيان واقتراض المال. بدرانٌ تفيض العسجدَ , وتنفجر عن ذوب اللُّجين , والشاعر يريد أن يبيع ديوانهُ بقرصٍ من الطعميّة فلا يجد مشترياً , والكاتب يعرض دفاتره مجَّاناً فلا يرى قارئاً فسبحان الله! عَلَمٌ من أعلام العراق. هو أبو القصائد المحبَّرة والقوافي المحكمة. نزيلٌ بمصر , مقيمٌ في دار حزنه يعالج أيامهُ , ويعاني شدائدها وليس بمصر مَن يقول له أين أصبحتَ أيها الأديب العظيم؟ أحمد مفتاح رجلُ البلاغة , يموت ويدفن ولم تكتب خبر وفاته جريدة من الجرائد فيما علمت. ومحمد إمام العبد وهو شاعر مجيد يوُسّدُ بالأمس التراب , ولا يتقدَّم أحد ليقيم له ليالي مأتمه. وفي بلاد الغرب يصنعون التماثيل للشعراء , ويسمّون بأسمائهم الشوارع والدوارع , ويجعلون لميلادهم ولموتهم أياماً في كل سنة هي بمنزلة أيام الأعياد. ويقولون بمصر: الدستور والجلاء والمؤتمر , وتكتب الجرائد ليحيَ وليسقط. من يحيى ومن يسقط أيها المساكين؟

لكل أمريء في هذه الأمة موضع يميّزه؛ والناس في درجاتهم متقاربون. وليس رجلٌ ينكره معارفه , ويتجافاه أقرب أقاربه إلاّ الأديب. فهو إذا برَّز على أقرانه حسدوه , وإن أقصر عنهم حقّروه , وإن ولج جمعاً جالت فيهِ أبصار المستهزئين. وله في خلقه أناسٌ يفخرون بملابسهم , وليست بصنع أيديهم , ولا أنسجتها من نسجهم , ولا أثمانها من كسبهم , ولا زينتُها تجمل ما قبح من أشكالهم. أولئك يطاؤون الهامات , ويذلّون الرقاب , ويتهادون في كل مزدحمٍ , تهاديَ الكواعب الرُّود في الوشي والبرود. طواويسُ الرجال يقضون طوال الأعوام في ديوان الحياة , ثم يخرجون منهُ كما تخرج الأنعام من تحت السقائف , لا متزودين ولا مستخلفين. إلى حيث ألقت رحلها! ننظر إلى الكتاب المطبوع بإحدى اللغات الأجنبية فنرى مكتوباً على جلدهِ: الطبعة العشرون والطبعة الخمسون وأكثر من ذلك. وقد يكون عدد نسخ الكتاب , في الطبعة الواحدة , عشرة آلاف على الأقل , وليس في الشرق كتاب طُبع مرَّتين إلاّ نادراً أو ما كان متضمناً للمجون. وجرائدنا يأكل مشتركوها أثمان اشتراكهم فيها , ويكتفي قرّاؤها بنسخٍ يأخذوها من المشتركين , أو يقرأونها في القهوات. قرأها أشهراً وأياماً. وأغرب منهم من جاءته جريدة الجامعة العثمانية وهي جريدة كانت تنشرها الجامعة العثمانية وهي بيروت , وتعطيها من دون ثمن , ويُكتب على غلافها مجاناً فردَّ الرجل الجريدة بعد أن كتب على غلافتها بالعربية والفرنساوية مرفوضة. رفضَ الفضل ورفض الكرامة. لا طال ذنب زمانه! ولم يخجله كرَمُ الذين أحسنوا بها عليهِ إحساناً لم يقع على مستحقّهِ ومثل هؤلاء المخلوقات كثير بيننا ولا فخر!

يموت أدباؤنا , وتُطفأ أنوار المعاني في عقولهم , وتبقى بيوتهم خاليةً وأجدائهم دائرة , وليس فينا من تحدّثهُ نفسهُ بأن ينقّبَ عن آثارهم , وينشرَ للأمة ما طويَ من معارفهم إقراراً بفضلهم , وتخليداً لذكرهم , واستفادة من آثار قرائحهم. ونحاول بعد ذلك أن نجاري الأمم أو أن نُشبه عباد الله. ما أكبرَ جهلنا بأقدارنا , وما أبعدنا عن مواضع الأنصاف. لا أديبُ العراق أجدتهُ فرائده , ولا الأستاذ مفتاح هنأته بلاغته , ولا أمام العبد أغناهُ شعره. وأنَّ نسخة من قصة القاضي والحرامي أو قصة دليله المحتالة لأحبُّ إلى عامّتنا , وأشهى إلى خاصبّتنا من درر هؤلاء العظماء وجواهرهم , وأدعى للشجون ثم أبعثُ للطرب من قصائدهم وقصولهم. سقاهم الله! رعاهم الله! عاشوا مظلومين. وأودعتْ بطون المقابر كنوزاً يتباهى بأمثالهم ملوكُ الأرض. يروى أنَّ بعض الانكليز يقول لو خُيّرنا بين أن نخسر الهند كلها أو نخسرّ شكسبير لاخترنا خسارتنا للهند , ولأبقينا شاعرَنا عوضاً عنها ونحن ماذا نقول؟ نقول لتحيَ الديكة والحمائم , أم نصيح ليحيى الدستور؟؟ أنا لنطمعُ اليوم في أن ننال ما لا يتاح نا إلاّ بعد خمسين عاماً فمَثلنا مَثل جماعة من العميان قيل إنّهم ركبوا أحدَ المعابر القوارب ليعبروا النيل. فقال قائلهم: هل لكم في الخروج من المركب من غير أن تدفعوا أجراً؟ قالوا بلى. قال: إذن فاسمعوا لما أقول. إذا قارب المعبرُ الشاطئَ صاح النوتي. فلّق. فثِبُوا هنالك وثبةَ رجلٍ واحد , وتفرَّقوا هرباً , واعلموا أنهُ لا يترك معبرَهُ ويعدو وراءكم. فقبلوا المشورة. وكان النوتيُّ يسمع المؤامرة وهم لا يشعرون. فلما توسّط النهر صاح. فلّق فوثبَ العميان فوقعوا في البحر وغرقوا. وأني لأخشى أن ينادينا الغرورُ نداءَ النوتيّ فنغرق غرق العميان. الأمة في حاجة إلى نوابغها غرباءُ بينها , والصوت الأرنّ والقول

المسموع ما يهتف بهِ قوم صمتت ألبابهم , ونطقت ألسنتهم. هم المسيطرون وهم الزعماءُ حَسْبُ الأديب في الشرق نعوتاً تكال له كبلَ الحشف. فهو الأديب الفاضل , والشاعر البليغ , والكاتب البارع , واللودغيّ والألمعي وغير ذلك. وليت هذهِ النعوت تحي لمن تصدق فيهِ , أو فيمن تكاد تصدق فيهِ. ولكنهُ مشارك فيها مشاركة الغبن. أهل البلدة كلهم أدباءُ فضلاءُ بلغاءُ فصحاءُ , ما سلم من ذلك ملكٌ ولا سوقة. وأظنُّ هذه هي المساواة التي يطلبها مجانين الدستور , لا المساواة في الحقوق التي يثني عليها أهل الأنصاف. ألا مَن مبلغٌ عني كلَّ أديب في الشرق أنهُ أديب وأنهُ فاضل , وأنهُ لوذعي , وأنهُ ألمعي , وأنهُ فصيح , وأنهُ بليغ وأنهُ عند الناس وجودُهُ مثل عدمهِ , وأنهُ أهون على أمراءِ الذهب من ديك من ديكة الهند , أو من حمامةٍ من حمائم اليمن. كنت ذات يوم راجعاً من دار البريد وفي يدي سيكارةٌ هي أخرى أخواتها. فمرَّ بجانبي رجلٌ يسرع في مشيتهِ , فاستطارها من يدي حتى وقعت على الأرض! وكان اليومُ شديدَ الهاجرة لافحَ الحر. فلما توسطت الشارع رأيت عربةً نظيفة فيها رجلٌ من رعاع القوم , وأمامه اثنانِ من الإوزّ. ثلاث رفقةٍ في خير عربةٍ , يقودها جوادانِ مطهَّمان. فرفعت طرفي إلى السماء وقلت: يا ربّ تُلهمني الشعرَ , وتُجري يراعيَ بما يستطيعُ من النثر , وتجعلُ عبادك يدعونني بالأديب إن صدقاً وإن كذباً , ثمَّ أرى أني أحقرُ من الإوز في هذا الشرق؟؟ ثم انصرفت صابراً. هذا ميدان واسع , يتعب الجائل في أرجائهِ. ولولا حقوقٌ للأدب وأهله ما سطّرتها. ثلاثة إخوانٍ: مكروبٌ ودفينان. أما الرثاء فبعضُ ما يجب ولن يفوتني ما استطعت منهُ , وأما النحيبُ فأني سوف انتحي. فَمن لي بمَن يساجلني الدمعَ , ويشاركني في الشكاية. أما أنّا لمظلومون!! ولي الدين يكن

تأثير الدين في المدينة

تأثير الدين في المدينة أهمُّ المبادئ التي تسير عليها الأمم , وتُعتبر منار التاريخ وعماد الحضارة , المبادئ الدينية؛ وقد كانت الدوام أهمَّ عنصر في حياة الأمم , وهي لذلك أهمُّ عنصر في تاريخها. فأكبر حوادث التاريخ التي أنتجت أعظمَ الآثار هو قيامُ الديانات وسقوطُها. وأوّلُ المسائل الأساسية , في الأزمان الغابرة وفي الأزمان الحاضرة , المسائلُ الدينية. ولو أن الإنسانية رضيت بموت جميع آلهتها لكان هذا الحادث أعظمَ الحوادث التي تمَّت فوق وجه ارض منذ ظهرت المدنيات الأولى. لا ينبغي لنا أن ننسى أنَّ جميع النظامات السياسية والتدبيرات الاجتماعية قامت , منذ بداية التاريخ , على معتقدات دينية , وأن الآلهة هي التي لعبت أكبر دور في الحياة الإِنسانية , وأنَّ الدّين أسرع مؤثر في الأخلاق لا يدانيهِ مؤثر اللهمَّ إلاَّ الحب؛ والحب دينٌ , إلاّ أنهُ دِين ذاتيٌّ غير دائم. وإذا أردت أن تعرف على أي حال تكون الأمة التي اهتاجها خيالهُا فانظرْ إلى فتوحات العرب والحروب الصليبية والاضطهاد الأندلسي وحال انكلترا أيام البوريتيين وسانت بارتلمي في فرنسا وحروب الثورة الفرنساوية. إلاّ أن للأوهام سحراً مستمرّاً شديدَ التأثير يتغير بهِ المزاج العقلي تغيراً كلياً. خَلَقَ الإنسان الآلهة ولكنها ما لبثت أن استعبدتهُ. وأنها بنتُ الأمل لا بنتُ الخوف كما وصفها لوقريس لذلك كان تأثيرها سرمديّاً. لقد كان من تأثيرها فيهِ أن جعلت عقله متشبعاً بفكرة السعادة فامتازت بذلك على كل مؤثر سواها , وقصرت الفلسفة عن إدراك هذه الغاية حتى الآن. نتيجة كل حضارةٍ إن لم نقل غايتها , وكلِّ فلسفة , وكلِّ دين , تكوينُ حالات عقلية خاصة , بعضها يقتضي السعادة , وبعضها لا يقتضيها. وترجع السعادة

إلى أحوال النفس أكثر مما ترجع إلى الأحوال الخارجة عنها. فلربما كانت الضحايا فوق مواقدها أسعد من قاتليها. وكم فالح أرض بيديه يقضمُ الكسرة مفروكةً بالنوم أسعدُ بكثيرٍ من موسر متدفق الثروة تكاثفت حولَهُ الهموم. ومن دواعي الأسف أنَّ الحضارة في هذا الزمان خلقت للإنسان جمعاً من الحاجات , ولم تُعطهِ وسائلَ دَفعها , فتولَّدَ من ذلك عدمُ الرضاء في النفوس. قالوا الحضارة بنت الرقيّ. نعم وهي أمُّ الاشتراكية وأمُّ الفوضى. وهما صوتان مربعانِ تصيح بهما جموعٌ قلَّ إيمانها فاستولى اليأس على قلوبها. أين حال الأوروبي الذي تولاّه القلق , وهاجت أعصابهُ وأصبح غير راضٍ بحظهِ , من حال الشرقي الراضي بما قدر له. إنما الفرق بينهما في حالة النفس دون سواها. وإنما يُغيّر الأمة مَن يُغيّر من تَصوّرها , ويجعلها تفكّرُ وتعمل غيرَ ما عملت. يجبُ على الهيئة أن تسعى في إيجادِ حال عقلية يكون فيها الفرد سعيداً وإلاّ فأجَلُ الأمة قصير. فما قامت الأمم حتى الساعة إلاّ متكئةً على خيال فيهِ قوَّةُ اجتذاب النفوس , وما سقطت واحدة منها إلاّ بزوال سلطان هذا الخيال. من أكبر خطأ هذا الزمان اعتقادُ الناس أنَّ النفس تجدُ السعادة في الأشياء الخارجة عنها. قل أنَّ السعادة فينا ونحن الذين نوجدُها. وشذَّ ما كانت بعيدة عنا. أنّا هدمنا خيال العصر الماضي فصرنا نرى انهُ لا حياة لنا من بعد هذا الخيالو وأنا إذا لم نوفق إلى الاستعاضة عنهُ فأنا هالكون. أكبرُ المحسنين لبني الإنسان الذين يجب على الأمم أن تُقيمَ لهم أفخم التماثيل من الذهب الوهاج , هم أولئك السحَرة القادرون الذين خلقوا لها الخيالات. أولئك يولدون أحياناً بين البشر , ولكنهم لا يولدون إلاّ قليلاً. أقاموا أمامَ سيول الآمال الفانية - وهي الحقائق التي لا قدرة للإنسان على معرفة غيرها , وفي وجه هذه الدنيا العبوس الجامدة - حجاباً من الأوهام القوية فسروا عن الإنسانية , وستروا ما في

الحياة من غضاضة ومَضض , وخلقوا جناتِ النعيم فنيطَ بها الرجاء وتوالت الأحلام. وإذا رجعنا على الجهة السياسية علمنا أيضاً كيف كان تأثيرُ المعتقداتِ شديداً. والسببُ في قوة الدين العظيمة كونهُ العاملَ الوحيدَ الذي تتوحَّد بهِ وقتاً ما منافع الأمة ومشاعرها وأفكارها. فيقوم المبدأ الديني بذلك دفعة واحدة مقامَ غيره من العناصر التي يتكوَّن منها روحُ الأمة والتي لا تنتج هذه النتيجة إلاّ إذا أربت وتمَّ نضجها بالوراثة. نعم لا يتغير مزاج الأمة العقلي بمجرَّد استيلاء دين على قلبها؛ غير أنَّ جميع القوى تتَّجه نحو غاية واحدة هي الانتصار للمعتقد الجديد , وفي ذلك سرّ قوتها العظمى. لذلك تجد أن قيام الأمم بأعظم الأعمال كان في عصر هذا التطوُّر الوقتي أعنى عصرَ تديّنها , وتأسيس أكبر الممالك لتي أدهشت العالم كان في عصر تدينها. كذا اتحدت بعض قبائل العرب بفكرة محمد صلى الله عليهِ وسلم فاستطاعوا قهر أمم كانت لا تعرف منهم حتى الأسماء. وشادوا تلك الدولة الكُبرى. وعليهِ يتضح أنهُ كان للدّين شأن كبير في سياسة المم لأنهُ هو العامل الوحيد سريعُ التأثير في أخلاقها. نعم أن الآلهة ليسوا خالدين , ولكنَّ المبدأ الديني باقٍ لا يزول. يغفي زماناً , ثم ينشط متى ظهر ربّ جديد. وهو الذي استطاعت بهِ فرنسا وحدَها منذ قرن أن تقاوم أوروبا كلها. فعرف البشر مرَّة أخرى درجة تأثير المعتقدات الدينية. لأن الأفكار التي امتلكت العقول في ذلك العصر كانت في الحقيقة ديناً جديداً نفخَ في الأمة من روحهِ فأنعشها. لكنَّ الآلهة التي برزت من خلال تلك المعتقدات كانت لطيفة المادة فلم تدم إلاَّ قليلاً؛ على أن سلطانها , مدَة وجودها , كان سلطاناً كبيراً. بعد ذلك نقول أن قدرة الديانات على تغيير روح الأمم قدرة فانية. فقلما تدوم المعتقدات على قوَّتها الأولى زمناً يكفي لتغيير الخلق تغييراً تاماً. سببهُ أنَّ قوَّة الأحلام لا تلبثُ أن تفتر ويرجع المأخوذُ بسكرتها بعض الرجوع إلى اليقظة فتظهر حقيقة الخلق العتيق.

يظهر على الدوام خُلق الأمة حتى وسلطان الدين في منتهى شدته فتراه في الصبغة التي أنصبغ بها الدين عند الأمة التي اعتنقتهُ , وفي المظاهر التي تنشأ عنهُ. انظرْ إلى الفرق العظيم بين المعتقَد الواحد في انكلترا واسبانيا وفرنسا تجد أنهُ كان من المستحيل ظهور البروتستنتية في اسبانيا أو رضي انكلترا بإقامة الاضطهاد محكمة التعذيب بين ربوعها؛ ل تأمل حال الأمم التي دانت بالبروتستنتية تظهر لك أخلاقها الأساسية الأولى بادية عليها , وأنها بالرغم من افتتانها بمعتقداتها , لا تزال محتفظة بميزاتِ مزاجها العقلي , أعني الاستقلالَ ومضاءَ العزيمة وتدبّرَ الأمور قبل الأخذ بها وإباءَ الخنوع والاستذلالَ لسيّد يصدر في أمره عن الهوى. يتولّد تاريخ الأمم السياسي والأدبي والفّني من معتقداتها؛ إلاّ أن هذه كما تؤثر في الخُلق تتأثر أيضاًَ بهِ. فمفاتيح حياة الأمة خلقها ودينُها. والأول دائم من حيث صفاته الأولى , وعدمُ تغيره هو السبب في حدة تاريخ كل أمة واطراده. أما المعتقدات فقابلة للتغير. وتغييرُها هو السبب في أنَّ التاريخَ يحكي كثيراً من الانقلابات في الأمم. اليوم تميل الأمم القديمة على السقوط. فهي تهتزّ من الوهن , ونظاماتها تتداعى واحداً إثر واحد. وعلة ذلك فقدانها كل يوم شيئاً من إيمانها الذي قامت عليهِ حتى الآن. فإذا فقدتهُ كله قامت حتماً مقامهُ حضارةٌ جديدة مؤسسة على معتقد جديد. لأن التاريخ يدلنا على أن الأمم لا تحيا طويلاً بعد اختفاء معبوداتها , وأنَّ الحضارات التي جاءَت مع تلك المعبودات تذهب بذهابها. ألا لا شيءَ أفعل في التخريب من أثرٍ معبودٍ يموت. أحمد فتحي زغلول وكيل نظارة الحقانية

في جنائن الغرب

في جنائن الغرب أنشودة روسية من العادات المتبعة في روسيا أنه يحق للقيصر أن يطلق امرأته ويبعدها إلى أحد الأديرة إذا لم تضع له ولياً للعهد. وقد عثرنا على أنشودة يتغنى بها القرويون في روسيا تصف حالة القيصرة عند تركها القصر الإمبراطوري , فأحببنا أن نترجمها لقراء الزهور كلٌّ حزينٌ في موسكو , لأنَّ القيصر غضب على القيصرة وأبعدها عن عينهِ أرسلها إلى هناك , إلى ما وراءَ جدران الدير. وبينما كانتِ الأميرةُ تمرُّ بالقصر , أخذت تنوحُ وتبكي قائلةً: أيها القصرُ الأبيض المفروش بالمخمل والحرير , أما من عودةٍ إليك؟ أما من عودةٍ إليك , فأروّحَ النفس بين جدرانك , وفي رياضك الغنّاء! أما من عودةٍ إليك , فأرى سيدي القيصر , وأسمعَ كلامهُ العذب؟ كلٌّ حزينٌ في موسكو , لأن القيصر غضِب على القيصرة , وأبعدها عن عينيهِ خَرَجت القيصرة من القصر , وقفتْ في السلّم , فتنهدت وقالت للحرس بصوت متقطّع , والعَبَراتُ تخنقها: أسرجوا الخيلَ للرحيل , فقد أزفت ساعةُ الفراق , سيروا رويداً , وأخرجوني على مهل من موسكو عسى سيدي أن يرقَّ , عساهُ أن يرثي لحالي وكان جواب الحرَس عساهُ أن يرقّ , عساه أن يرثي لحالكِ! لكنَّ قلبَ القيصرِ كجدران قصرهِ صَلْبٌ , لا يرقُّ ولا يلين في الدير , تقرع الأجراس حزناً لاستقبال القيصرة الحزينة كلٌّ في موسكو حزينٌ , لأن القيصر غضب على القيصرة وأبعدها عن عينيهِ!

الدموع أنِست بسمعي حنين دمع الفتاة؛ وكئِبتُ في نفسي لذرف دمع العذراء. ورشفت بيدي كأس دمع الفؤاد. فأحزنني الأول ساعةً ذكرتها العمر؛ وسهّدني الثاني ليلةً سقمت بعدها الشهر؛ وأسكرني الثالث مدةً آلمتني الدهر. ما هاجت أشجان الروح إلاَّ وسالت من الأنامل على الأوتار دموعاً؛ وما امتلأ إناءُ النفس إلاَّ وفاض من المقل على الخدود دموعاً. ما اشتدَّت لوعةُ الفؤاد إلاَّ وانسكبت في الصدر دموعاً. الدموع أنشودةُ النفس مع تسابيح الملائكة همسُ القلب في أذن الفضاء حديثٌ بلسان الحمام النائح الدموع أكليلٌ , أزهاره الكآبة الصامتة , ينثرها اليأس على ضريح الأمل قريض تنظمه العيون عبير العنبر المحترق أشواك ورد الهوى أزهار العاطفة , تنبتها المحبة , ويسقيها الحنان , فيجنيها الجوى بنات الشهور , يحب لبها الألم , وتتمخض بها النفس , فتلدها الحسرة فديتُ بنفسي عواطف تتحرَّك في الصدر فتئنُّ لها الجوامد. تذرفها الروح دموعاً من الأنامل فتكفكفها الملائكة بأنفاسها وتجففها بحفيف أجنحتها لتصعدها إلى العرش الأعلى كبخور العفاف أو كبخار ذبيحة الطهر دموعٌ ليست عبرات فردي إلاَّ أبردها ناراً , وأخفها ألماً

الصداقة

والهف قلبي على شعائر شواعر , يثيرها الشجن فتحمّر الخدود , ثم تنصبُّ في المحاجر كما يصبّ الصبح الندى في أفواه الصدَف لتتحوَل إلى قطرات لا تبلغ لآلئ العالم يأسرها عشر ثمنها ويح الحشا من قطرةٍ. لو سقطت على الحجر القاسي لرقَّ وذاب حرقةً أما الفؤاد الذي كان نصيبه من الجهاد لهفةً ودموعاً , فليشرب الكأس حتى الثمالة. عساها أن تبرّد بمرارتها لهيباً أشعله الوجد , ونفخت فيهِ الصبا. ليبكِ بدمع المداد وبمقلة الغمام , مع الصفصاف المستحي والزهرة المائلة إلى الذبول , والنجم السائر إلى الأفول. والقدّ المائل على النحول ليكفّرَ بدمعه عما جناه بحبهِ فكان عليهِ عوضاً عن النعمة نقمة , وعن العذوبة عذاباً. لعل النحيب يروي غليله ويشفي عليله لو لم تخفف الدموع أشجان الروح , وتسكّن أحزان النفس , وتبرّد حسرة الفؤاد. لذابت معها الحياة , وذوت في ربيعها زهرة العمر حلب يوسف توتل الصداقة قال عليّ بن أبي طالب لابنهِ الحسي: ابذلْ لصديقك كلَّ المودّة , ولا تطمئن إليهِ كلّ الطمأنينة , وأعطه كلَّ المؤاساة , ولا تفشِ إليهِ كل الأسرار قال المأمون: الأخوان ثلاث طبقات. طبقة كالغذاء , لا يُستغني عنهُ , وطبقةٌ كالدواء يُحتاجُ إليهِ , وطبقةٌ كالداءِ الذي لا يحتاج إليهِ.

في حدائق العرب

في حدائق العرب حبُّ الوطن قال عُمر بنُ الخطّاب: لولا حبُّ الوطن لخرب بلدُ السوءِ. وكان يُقال بحب الأوطان , عمرت البلدان وقال جالينوس: يتروَّحُ العليل بنسيم أرضهِ , كما تتروَّحُ الأرضُ الجدية ببلّ المطر وقال بقراط: يداوي كلُّ عليلٍ بعقاقير أرضهِ , فإن الطبيعة تنزعُ إلى غذائها. ومما يؤكد ذلك قول إعرابي وقد مرض بالحضر , فقيل لهُ: ما تشتهي؟ - فقال: مخيضاً رويّاً , وضبّاً مشويّاً وقيل: أحفظ أرضاً أرسخك رضاعّها , وأصلحك غذاؤها , وارعَ حمى اكتنفك فناؤه وقيل: من علامة الرشد أن تكون النفس إلى أوطانها مشتاقة , وإلى مولدها توَّاقة وحدّث بعض بين هاشم , قال: قلت لإعرابي: من أين أقبلت؟ - قال من هذه البادية. قلت: وأين تسكنُ منها؟ قال: بساقط الحمى , حمى ضرّية , ما إن لعمر اللهِ أُريد بها بديلاً , ولا ابتغي عنها حولاً , حفّتها الفلوات , فلا يملولحُ ماؤها , ولا تحمى تربتها , ليس فيها أذى ولا قذى ولا وعكٌ ولا موم؛ ونحن بأرفه عيشٍ , وأوسع معيشة , وأسبغ نعمة؟ قلتُ: مما طعامكم؟ قال: بخ بخ الهبيد والضباب والبرابيع مع القنافذ والحيَّات , وربما واللهِ أكلنا القد , واشتوينا الجلد , فلا نعلم أحداً أخصب منا عيشاً؛ فالحمدُ للهِ على ما رزق من السعة , وبسط من حسن الدعة.

خواطر

وقيل لأعرابي: كيف تصنع بالبادية , إذا انتصف النهار , وانتعل كلُّ شيء ظلَّهُ؟ فقال: وهل العيش إلاَّ ذاك , يمشي أحدنا ميلاً , فيرفض عرقاً كأنهُ الجمان , ثمَّ ينصبُ عصاهُ ويلقي عليها كساهُ , وتقبل الرياحُ من كل جانب فكأنهُ في إيوان كسرى. وقيل لآخر: ما الغبطة؟ قال: الكفاية , ولزوم الأوطان , والجلوس مع الإخوان , وقيل: فما الذل؟ قال: التنقٌّل في البلدان , والتنحي عن الأوطان. وكان يُقال: الغريب عن وطنهِ ومحل رضاعهِ كالغرس الذي زايل أرضهُ , وفقد شربهُ , فهو ذاوٍ لا يُثمر , وذابل لا ينضر. . . والجالي عن مسقط رأسهِ كالعير الناشر عن موضعهِ الذي هو لكل سبعٍ فريسة , ولكل كلبٍ قنيصة , ولكل رامٍ رمية وقال الشاعر: نقّلْ فؤادك حيث شئتَ من الهوى ... ما الحبُّ إلاَّ للحبيبِ الأولِ كم منزلٍ في الأرض يألفُهُ الفتى ... وحنينُهُ أبداً لأول منزلِ عن الجاحظ المتوفي سنة 255هـ=868م خواطر لكارمن سليفا ملكة رومانيا الحالية سيمّون غالباً سليم الطويّة مَن ليس بذي عقل نبيه! متى وُجد المر في حالة محزنة ومركز حرِج غلبت على لسانه الترَّهات. ألا ترى أن الكلب يعوي متى خاف ذوو العقول يحجبهمٍ ذوو العظمة كما تُحجَب النجوم أمام الشمس!

أندية الأدباء الحرة

أندية الأدباء الحرة نعت الماتين إلى قرائها , في أحد أعدادها الأخيرة , قهوة من قهوات باريس المعدودة وهي القهوة الانكليزية وقالت أن أعضاء الجوكي كلوب حضروا احتضارها واحتفلوا تحت رئاسة البرنس يواقيم مورات بتابيتها وعزى بعضهم البعض على تصرم أنفاسها ثم ودعوها الوداع الأخير بأن شربوا مئات من زجاجات الخمور التي طال عليها القدم منها ما يرجع عهد عصيره إلى سنة1874 وإلى سنة 1865 وإلى سنة 1858. ومن غريب الاتفاق , أنني بعد مطالعة هذا النعي , أتاني صديق من زبائن الاسبلندد بار وقال: البقية في حياتك! فقد عزمت شركة استين على استئجار نصف عمارة الخاصة الخديوية المشرقة على شارع كامل فتصبح الاسبلندد بار , وهي محط رحال الأدباء ورجال القلم , أثراً بعد عين!! فأخبرت صديقي بنبأ الماتين عن القهوة الانكليزية وقلت له: إذا صحَّ خبرك فليست الاسبلدد بار أول نادٍ حر للأدباء تذهب بهِ الأيام أو ينطوي ذكره ولا يخلد له خبر. وربما لا يوجد الآن في مصر عشرة يذكرون قهوة انطون وهي قهوة خشية كانت مجمعاً للأدباء والمشتغلين بالسياسة والفلسفة في أواخر أيام إسماعيل. ففيها جلس جمال الدين ومحمد عبده وسليم تقلا وتحت ظلال أشجارها غرست أول بذرة لفك الشرقيين من قيود الاستعباد الفكري. وبقيت ملتقى لذوي الأفكار الناضجة حتى عهد الثورة العرابية. ثم تحوَّلت ندوة للمغنى والرقص البلدي وأنشئت في مكانها عمارة بنك الكريدي ليونيه الحاضرة. ورغب الكثيرون من أهل الأدب , بعد الاحتلال الانكليزي , عن السياسة وتفرغ رجال النهضة الأدبية إلى الأدب الخالص فاتخذوا قهوة كتكوت بشارع

المشهد الحسيني محبطاً لرحالهم فكنت ترى في هذه القهوة البلدية الشيخ الشنقيطي الكبير , والشيخ حسن الطويل , وسلطان بك محمد - أيام كان شيخاً معمعماً - والشيخ محمد النجار , ومحمد أفندي أبا الفضل , والشيخ أحمد القوصي , والشيخ عبد الرحمن قراعة , والشيخ سيد المرصفي وغيرهم. وكانت مجالسهم الليلة في هذه القهوة مجالس أدب راقية يتناشدون فيها الشعر وينثرون درر النثر , ويتنقلون في رياض الأدب والتاريخ والمنطق من القديم إلى الحديث. ثم فرقت بينهم أيدي الحدثان فمات البعض واشتغل البعض بشؤون الحياة وأصبحت قهوة كتكوت وقد خلت جوانبها من ذوي الألباب والفطن. وانشقّ أساتذة مدرسة دار العلوم وطلبتها عن إخوانهم طلبة الزهر الشريف فتألفت من أولئك حلقة جديدة في قهوة باب الحلق كان رعماؤها الشيخ أحمد مفتاح والشيخ الحملاوي والشيخ محمود أبو النصر والشيخ محمد المهدي يحيط بهم عدد من الأنصار والمريدين من تلاميذ المدارس العالية وطلبة مدرسة المعلمين الناصرية. ثم تغلب الاشتغال بالسياسة على النظر في الأدب فكانت عمارة متاتيا الواقعة إلى جانب لبوستة والمحكمة المختلطة مثابةً لرجال القلم. فكان يجلس في طرفها المدعو القهوة العمومية الشيخ عبد القادر المغربي وعبّد الحميد أفندي الزهراوي والمرحوم حسين وصفي رضا - أخو صاحب المنار - وأمام العبد والشيخ محمد الشرباتلي وعهدنا بالأخر ليس بعيداً: فقد كان يحرّر في القهوة كل يوم أربع أو خمس جرائد أسبوعية فيأتيه صاحب إحدى هذه الجرائد ويدفع له الأجرة فيقوم بعد ساعة ومعهُ كتابة تزيد على حاجة جريدته. واحتلَّ القسم الأوسط المسمى قهوة جراسمو المرحوم إبراهيم بك المويلحي وإلى جانبه أحمد أفندي فؤاد صاحب الصاعقة وحافظ بك إبراهيم - قبل أن يضع رواية البؤساء ومحمود أفندي واصف. واستأثر بقهوة اسطنبول - في عمارة متانيا أيضاً - كتّاب الترك الأحرار

الذين نفتهم الحكومة العثمانية في عهد عبد الحميد ففيها كتب محمد أفندي قدري - الكاتب التركي العربي الشهير - وأحمد بك سيد - ناظر الضربخانة العثمانية سابقاً - وصاحب ميزان أبلغ رسائلهم التي هزّوا بها أركان السلطنة العثمانية وفيها بدأ السيد عبد الرحمن الكواكبي يبث آراءه الحرة في إصلاح الشرق وأهله. واتخذ بعض الأدباء السوريين قهوة مصوبع بالفجالة محلاً مختاراً لاجتماعهم وكان يرأس هذه الاجتماعات الأستاذ إبراهيم أفندي الجمال ويحضرها المرحوم ميشيل الحكيم وإبراهيم أفندي النجار والمرحوم خليل الجاويش وأخوه نجيب أفندي الجاويش فيقصون ساعة ظهر كل يوم إلى جانب البنك فيتناولون الابريتيف ممزوجاً بما رقَّ وراق من بدائع المنثور والمنظوم. وراقت قهوة الشانزيليزيه في عيني حضرة العالم الفاضل صاحب الهلال ولكنهُ أبي أن يختلط بزبائنها فألف له حلقة من الأدباء وبعض كبار موظفي الحكومة الذين يميلون إلى الأدب والأدباء. فكان يحضر جلستهم كل ليلة سليم بك باخوس مدير الأموال المقررة في محافظة مصر وعزيز بك أبو شعر الموظف في نظارة الأشغال وحبيب بك دبانة من كبار موظفي المالية سابقاً ونعوم بك شقير مدير قلم التاريخ في نظارة الحربية. وكان يتردَّد إليهم من حين إلى آخر الشيخ يوسف الخازن ونجيب أفندي مشعلاني وأخوه تسيب وأنطوان الجميّل وأمين تقي الدين وولي الدين بك يكن وسليم أفندي سركيس. ومع أن القهوة عامة فإن الغرف التي حجزت لهذه الفئة المباركة لم يكن يجسر على ولوجها غير أصدقائهم ومن يدعونهم لمشاركتهم في مباحثهم الأدبية الرائقة. وكانت المحروسة بار معروفة لسنوات خلت بأنها مؤتمر عصبة شاعر امير أحمد بك شوقي. وكان شوقي نقطة الدائرة ويزين المكان بجانبه خليل المطران ويحيط بهم عشرات من أدباء المصريين ورجال القلم الفرنسويين وفي مقدمتهم كاستنر وكولورا وغيرهما فيقرعون الكاس بالكاس ثم ينصرف كلٌّ إلى مكتبته

ويمتشق قلمه لمحاربة زميله الذي شرب معهُ المدامة سائغة!! وزهت دولة التمثيل والممثلين تحت زعامة المطرب المبدع الشيخ سلامة حجازي فعمدوا إلى باربريكلي أمام مرسح اسكندر أفندي فرح فلم تكن تقع العين في هذا البار إلاّ على ملحن ينشد دوراً أو ممثلة تراجع فصلاً أو مترجماً ينقل رواية جديدة ففي ناحية فهيم وأبو العدل وعلى مائدة مريم سماط وميليا ديان. وفي منعرج إلياس أفندي فياض وعبد الرزاق بك عنايت وفي غرفة اللعب جماعة آخرون ممن ضايقنهم جلبة زملائهم ففضلوا عليهم كسب أو خسارة بضع قروش في لعبة السبعة ونصف. وأنشأ المسيو اندريا في شارع عابدين قهوة خصصها لطلبة مدرسة الحقوق الخديوية وعنونها باسم مدرستهم فتهافتوا عليها وانضم إليهم جماعة من طلبة مدرسة القضاء الشرعي وبعض طلبة المدارس العالية الذين يسكنون في حي عابدين. فكن الجالس في هذه الندوة لا يسمع إلاّ اسم فوستان هيلي ودالوز ومناقشات فتيان القضاء في الشؤون الأدبية الحاضرة وأحوال السياسية الداخلية. ولبثت هذه القهوة زاهرة بأهلها حتى أنشئ نادي المدارس العالية وعنيت الحكومة بمراقبة التلاميذ ومنعهم عن الاشتغال بالسياسة قم سميت قهوتهم قهوة الحزب الوطني فقهوه وبار القمر ولا يزال الكثيرون من المحامين ورجال النيابة والقضاة الشبان يحنون إلى هذه القهوة ويذكرون بها أحلى أيامهم التي قضوها فيها مشتغلين بالأدب ودرس القانون. وقد اندرست هذه الأندية الحرة بتحوّل الأدباء عنها ولم يبق غير الاسبلندد بار التي يهددوننا بزوالها بعد أن رنت في ساحتها أصوات الأدباء وأهل السياسة عشرين سنة متوالية ولم ينصفها أحد بكلمة قبل حضرة الكاتب الفاضل اسكندر أفندي شاهين رئيس المحرّرين في جريدة الوطن أو بعده إذ كتب عن جمعيتها مقالة في مجلة سركيس منذ سنة هي كل ما أُرخت بهِ هذه الندوة السياسية الحرة. توفيق حبيب

ثمرات المطابع

ثمرات المطابع ما كان أهنأني وأسعدني ... لو كان ينفعُ معشري قلمي أنا لي فؤادٌ لا أُنزّهُهُ ... لكن يراقبُ ما يقول فمي ولي الدين يكن التجاريب - كتابٌ عني بطبعهِ ونشرهِ حضرة الفاضل فؤاد أفندي مغبغب , وهو مجموعة مقالات اجتماعية خطّها يراعُ أديبٍ من خيرة أدباءِ العصر ,

وأنزههم قلماً , وأمضاهم بلاغةً , عنينا به ولي الدين بك يكن الكاتب المشهور , وصديق قرّاء الزهور. التجاريب تكاد تكون صفحةً من الصحائف السود ولم ينسَ القرّاء ما في الصحائف السود من تنهدات وزفرات تأخذ بمجامع الفؤاد , وتحرّك كامن العواطف. في هذه وفي تلك , كما في المعلوم والمجهول أنّهُ رجلٍ حرّ صادق , يردّد صداها قلم شاعرٍ ملَكَ أسرار البلاغة واستسلمت له عرائس المعاني. ولكنَّ الشاعر في التجاريب كثيراً ما يشفُّ عن الوطني الذي يتألم مما آل إليه وطنهُ المفدَّي , ويحاول أن ينزل إلى ميدان السياسة ليناضل عن حوزتهِ. ما جرى قلم وليّ الدين قط إلاَّ بما خفق بهِ قلبهُ وتحرَّك له لبُّهُ , وهذا سرُّ تأثير كتاباتهِ. أقرأ مقدمة مؤلفهِ الجديد تفهمَ بعض ما يخالج ذلك الصدر. وهاك المقدمة مكتوبة بخط يده. مقدمة المؤلفَّ بخط يده كل ما يتعلمه المرء من حوادث الأيام تجربة. وما يستفيد التجربة مستفيدها إلا وقت امتلكها بشيء يخسره من الأمل. ولو كنا نعني بتقيد الغطات وهي أقمع ما بقي مفاضت من الكتب الضجة وسالت. ولكن ما يسلم من النسيان قليل وفي ذاك القليل ذكرى إذا استعادها المرء وجد راحة في استعادتها. هذه آلام مصورة وشكاوي متجسدة. هذه هدية العداد المطروح إلى الأفئدة المقروحة. أن للأفئدة منجيا تتفارق في تتألف إذا لم تنفع اليوم تنفع عدا.

فنشكر صاحب التجاريب على هديتهِ , ونحن واثقون أن فيها النفع الجزيل لكلّ من يطالعها , وأن كلّ أديب يحبُّ الأدب وذويه سينافس بإقتنانها وهي خير مقتنى. سرّ تطوُّر الأمم - إذا سألتَ عن إفراد رجال القانون والقضاء والتشريع في مصر , يُذكر لك في مقدمة من يُذكر سعادة أحمد فتحي باشا زغلول المحامي فالقاضي فوكيل نظارة العدل. وإذا سألت عن نخبة المؤلّفين والكتّاب الاجتماعيين الذين أفادوا بلادهم بما كتبوا وسطّروا , يُورد لك , في طليعة الأسماء اسم أحمد فتحي زغلول , صاحب سرّ تقدم الانكليز السكونيين وروح الاجتماع وسرّ تطوُّر الأمم الخ. وعندما سألنا , في السنة الماضية , جمهور القراء عن نوابغ مصر الأحياء , ورد ذكر فتحي زغلول في جملة هؤلاء النوابغ. فكلُّ ذلك ينبئ عن قدر الرجل وفضله واجتهاده , وعن تقدير الأمة والحكومة لخدماتهِ الجليلة ولصفاتهِ العالية. وآخر أثرٍ أتحف بهِ سعادتهُ عالم المطبوعات هو كتاب سرّ تطوُّر الأمم لواضعهِ الكاتب الاجتماعي الدكتور جوستاف لوبون وقد تناول فيهِ أبحاثاً خطيرة وموضوعات جليلة فبحت في مذاهب المساواة في العصر الحاضر وروح التاريخ , وطباع الشعوب النفسية , وظهور أخلاق الأمم في عناصر مدنيتها , وتاريخ الأمم باعتباره مشتقاً من أخلاقها؛ وتحوُّر صفات الأمم بتأثير المبادئ والمعتقدات الدينية , وتحلُّل الخُلق وسقوط الأمم إلى غير ذلك من الأبحاث الاجتماعية التي باتت تشغل الخواطر وتستوقف أبصار المفكّرين. وقد نشرنا في غير هذا المكان من هذا الجزء فصلاً يدلُّ على نمط الكتاب وأسلوب المترجم.

قال حضرة الكاتب المفكّر أحمد لطفي بك السيد في فصل كتبه في الجريدة عن الكتاب الذي نحن بصدده أنهُ عاد فتحي باشا في منزله وقد أبلَّ من انزعاج ألمَّ بهِ فوجده في مكتبهِ بين أوراقهِ ومحابره مشتغلاً بوضع شرح للقانون المدني المصري , فسأله: أيهذا ترتاض يا سيدي الباشا؟ فقال: هذه رياضتي وأشار إلى كتاب سرّ تطوُّر امم. فرجلٌ هذه رياضتهُ وهو على ما يعرفهُ الناس في مركزٍ يشغل معظم وقتهِ ويستغرق عمله الجهد العظيم لجديرٌ باحترام الأمة التي يخدمها بأمانةٍ وعقلٍ ونشاط. تاريخ الصحافة العربية - من الأعمال الشاقة على المؤرخ كتابة تاريخ صادق عن الصحافة العربية. وقد طالما بحث الباحثون في هذا الموضوع ولكنهم لم يفوهُ حقهُ , ولا محَّصوا أخباره , لكثرة ما اعترضهم من المصاعب فإن الصحف التي ظهرت في بدء النهضة الحالية قد أمست اليوم نسياً منسيّاً ومات أكثرها بموت أصحابها فلم تحفظها مكتبة , ولا أَّخرها أديب. لذلك حاول حضرة الوجيه الفاضل الفيكونت فيليب دي طرَّازي أن يكتب هذا التاريخ غير مكترث لتلك العقبات فنقَّب كثيراً وبحث مُجدّاً حتى توفَّق إلى معرفة ما فات غيره من الحقائق فوضع التاريخ المذكور وهو يحتوي على أخبار كل جريدة وكل مجلَّة عربية ظهرت في العالم حتى يومنا الحاضر , مع جملة حسنة من صوَر أصحابها ومنشئيها وكتَّابها , وشفع ذلك كله ببيانات وافية عن حياة كل جريدة ونزعتها السياسية أو خطئها الأدبية فكان مؤلَّفه هذا أشبه بقاموس يُرجع إليهِ , ويستفاد بهِ. وبين أيدينا الآن الجزء الأول منهُ وهو يقع في 150 صفحة مطبوعة طبعاً جميلاً. فنثني على الكاتب أحسن الثناء ونتمنى أن يقدّر الأدباء عمله قدره فيكون لكتابه ما يستحقه من الرواج.

القواعد الجلية في علم العربية - هذا الكتاب لواضعهِ المفضال حضرة الأب حبرائيل أدّه اليسوع من أشهر الكتب المدرسية في علمي الصرف والنحو. وقد درس فيهِ قواعد العربية عددٌ كبيرٌ من الناشئة وعرفوا سهولة أسلوبهِ وحسن ترتيبهِ. وقد أعاد طبعهُ الآن حضرة العالم الأب خليل أدّه وأبرزه في حلة جديدة من حيث التقسيم والضبط فزاد في جلائهِ وضبطهِ وزقّهُ إلى تلاميذ الصفوف المختلفة في ثلاثة أجزاء جميلة الشكل , متقنة الوضع , مثل كلّ ما تصدره مطبعة الآباء اليسوعيين. دمعة القلم - جمع تحت هذا العنوان حضرة الفاضل حنا أفندي نقّاش ما قاله الأدباءُ ونظمهُ الشعراء في رثاء الوجيه المحسن المرحوم جورج كرم أحد أعيان السوريين في الإسكندرية وكلها تدلُّ على ما كان للفقيد الكريم من المكانة والمنزلة السامية في قلوب عارفيه على اختلاف طبقاتهم. من أمير إلى سلطان - رسالة قدَّمها المغفور له البرنس مصطفى فاضل باشا إلى السلطان عبد العزيز سنة 1866. وهي تتضمن آراء في إصلاح المملكة العثمانية مبنية على نظريات صادقة واختبارات شتى ترجمها إلى العربية سعادة أحمد فتحي باشا زغلول ونشرتها مطبعة المعارف. وهي من الرسائل التي يجدر بالقراء مطالعتها في الآونة الحاضرة. ثلاثة تُكبّر الإنسان عما هو: الرزانة والكرم والعفو وثلاثة تُبقي الإنسان على ما هو: التشبث بالرأي , والاحتفاظ بالفوائد , والبعد عن النصيحة وثلاثة تصغّر الإنسان عما هو: البخل والأنانية واللؤم.

أزهار وأشواك

أزهار وأشواك مصائب قوم قرأتُ في الجرائد أنّ فريقاً من أقارب غرقي الباخرة تيتانيك التي يذكر القراء خبر غرقها منذ مدة في لجج الأوقيانوس ينوون أن يقاضوا الشركة أمام المحاكم ويطالبوها بالتعويض المالي. ويبلغ مجموع ما يطلبون ثمانية ملايين ريال أو أكثر. وفي مقدمة المطالبين بالتعويض - بل المطالبات لأن الأكثر نساء - مسز هريس فإنها تطلب 200 ألف جنيه مقابل غرق قرينها و 5500 جنيه قيمة الأمتعة التي فقدتها هي وفي جملتها عقد من اللؤلؤ ثمنه ألفا جنيه. ومنهنَّ مسز كاريزا تطالب بمبلغ 35 ألف جنيه ثمن ما فقدت من الملابس والحلي: بينها ماسة قرنفلية اللون قيمتها أربعة ألاف جنيه , ودبابيس لبرنيطتها قيمتها مئة جنيه , وجونلاَّ بيضاء قيمتها 19 جنيهاً!! ومنهنَّ مسز ملْت تطالب بمبلغ 20 ألف جنيه ثمن قرينها المفقود. ومسز فوتريل تطالب بمبلغ 60 ألفاً ثمن قرينها أيضاً وبمبلغ 20 ألفاً ثمن صورة بالزيت تمثّل جركسية في الحمام وبمبلغ 11 ألف جنيه ثمن 110 ألاف قدم من الرقوق التي تطبع الصور المتحركة عليها. ومنهنَّ الكونتس روذس تطالب بألفي جنيه مقابل أمتعتها الشخصية منها خاتم ماس ثمنه 200 جنيه. وبين أصحاب القضايا رجل وامرأته يطالبان بمبلغ 30 ألف جنيه عن ابن فقد هو وقرينته وأولاده كلهم. صدق والله الشاعر القائل: بذا قضتِ الأيام ما بين أهلها ... مصائب قومٍ عند قومٍ فوائدُ

من وليّ الدين بين ولي الدين بك يكن وصاحَبي الزهور ألفةٌ بلا كلفة. وقد دارت بينهم مراسلة لطيفة منذ سافر ولي الدين إلى الثغر الإسكندري. واعقاد صاحب المعلوم والمجهول في رسائلهِ أن يجعل مدير هذه المجلة شخصاً واحداً بأن يشتقَّ لهما اسماً من شطرٍ من اسم هذا وشطرٍ من اسم ذاك. ولعلَّ في هذا الاشتقاق خير ردٍّ على الدكتور وغيرته. ومن محاسن الاتفاق أن وقعت بيدي آخر رسالةٍ كتبها ولي الدين , فأحببت أن أضمها إلى أزهاري لما فيها من عرف الإِخلاص وأريج المودّة الصادقة , قال: رمل الإسكندرية - محطة مظلوم باشا في 7 مارس سنة 1913 أخي انطوان تقي الدين أنا أسير الفراش من منذ آخر كتاب أنفذته إليك. وهذا الكتاب أسطّره على ذلك المضجع الخشن. طال أمد السقام وأوحشتني الصحة. ويا ليتني إذ لم أفز بالصحة فزت برقدة يستريح الجسم فيها. لا هذه ولا تلك. أفٍ لأحكام المقدور. قصارى الانتصاف أن أكون لديه صاغراً. مضت لياليَّ كلها في سهادٍ مطّرد. ما عالجتُ النوم مرّة , قرَّبته مني قيد شعرة. أضطجعُ على سريري , وآخذ الكتاب من الكتب أقرأهُ حتى آتي على آخرهِ. ولقد أقرأهُ وأنا لا أفهم ما فيهِ. تلك استعانتي على أهاويلِ الدياجي , استعانة الضعيف بأضعفِ الحيَل. ولقد صبَّحتني اليوم زهورُك وأنا على سريري قائمٌ كأنف عبد الحميد على وجههِ. فإذا الزهور تبشّرنا باستهلال سنتها الرابعة - أطال الله عمرَ الزهور

وعمرَي كاتبيها وصاحبيها. الآن وجبت التهنئة. ولكن هيهات! لا يهبط الإلهام على الشاعر الموجع. أمَّا وصفك لفروق ونوحُك عليها , فقد هزّا روحي هزّا. رعى الله فروق ما أفتنها. هي أوَّل ثغرٍ بسم لوجهي بعد ثغرَي الوالدين. ثمَّ لم ألقَها بعد ذلك إلاَّ باكيةً وباكياً. ائتلفت العناصر فقامت بها الأشياءُ. وقامت فروقُ من عنصر واحدٍ لست أُدري ما هو , ولكنُّهُ عنصر يُظلم عنده الراديوم. كنت أشتاق إلى فروق لمضياع غير أن فروق ناشز لا تدوم على ودّ. ليتها م تكن. وليتها إذ كانت في دون هذا الجمال. عفا الله عنك! أثرتَ شجوني , وأنا أكاد أعجز عن إجالة القلم ضعفاً. ولقد قلت: ما لهذا السقام لازَمَ جسمي ... حَلّ مني ما بينَ عظمي وجلدي كلَّ يومٍ أذوبُ شيئاً فشيئاً ... ولقد ذابَ قبلَ ذلك كبدي فإذا صرتُ في التراب دفيناً ... خبّروا الشعرَ أنهُ ماتَ بعدي تعبتُ وكنت أودُّ أن لا أتعب , لأحدّثك طويلاً , لأُساجلك الدموع. وأنَّ أمامي لثلاث قصائد كاملة هي هديتي للزهور ولكني لا أستطيع نسخها , وخطها مشوّش. فاصبر , عسى أن تراجع الحياة شاعرها , فيصدقك روايتها , سلامٌ عليك وشكر لك على ما تولبني من العناية. ليس بشاعر. ولكنهُ رصّاص سرَّاق وهو ينسج على منوال الطبقة السافلة من أمثال ابن الفارض من الشعراء الحشَّاشين أو شعراء البديع. وما زال يعانق غصنَ ألبان والأراكِ حتى لواهُ - لواهُ الله! أكرر سلامي وتحياتي. وافِني بأخبارك سلامتك أخوك ولي الدين يكن

ثروة هائلة

خمسة جنيهات للرافعي بيتان من الشعر أُعجب بهما الشيخ أحمد آل إبراهيم أحد سراة الهند , فأحب أن يعرف شاعرهما , فسأل عنهُ وديعاً البستاني سميرَه الأديب , فخانتهُ الذاكرة , فسأل صديقتهُ مجلة الزهور فلم توفّق أكثر منهُ , فحوّلت السؤال بدورها إليَّ , فكان حظي من الشاعر حظ من سُئل قبلي , فطرحتُ بالسؤال على قرّائي في جزء سابق , فلم تخب آمالي , لأنّ بين قرَّائي نخبة الأدباء المتضلّعين , وجاءَني الجواب الشافي من أبي السامي مصطفى صادق الرافعي وقد نشرته ص: 494 سنة 3 وضمنتُ له حينئذٍ جائزة من آل إبراهيم. فُحقّقت آمالي للمرة الثانية , وكان حظي من قرّائي الأغنياء حظي من قرّائي الأدباء. فما لبث يريد مصر إن حمل إلى الهند ذلك الجواب حتى وافاني بريد الهند بكتابٍ تضمن الجائزة المؤمَّلة , وهي حوالة بخمسةٍ من الذهب , أدفعها للرافعي حين الطلب. . . بورك في آل إبراهيم الكرام , وبورك في البستاني الصغير , وبورك في الرافعي الأديب , بركة شملتهم جميعاً ولم ينلني منها لا خيرٌ ولا أذى , وإنما حسبي من أبي السامي الرضي. . . حاصد ثروة هائلة تقولُ العربُ في أمثالهم أغنى من قارون. ولكن التاريخ لم ينبئنا عن مبلغ غنى الرجل , لنقابل بين ثروتهِ وثروة ملوك المال في عصرنا هذا: توفي في الشهر الغابر المثري الأميركي الشهير ببير بونت مورغن عن ثروةٍ قلما اجتمعت لرجلٍ , وقد قدَّرتها الدايلي تلغراف بمبلغ يتراوح بين العشرين مليوناً والمئة مليون جنيه , وقالت أن السبب في هذا الاختلاف الكبير في التقدير كون مورغن يملك كثيراً

من التحف القديمة التي دفع بها أموالاً طائلة كالصورة التي اشتراها بمبلغ 100 ألف جنيه. فإذا أريد بيعها لم يشترها أحد بذلك المقدار. وقالت أيضاً أن ثروته الخصوصية دون ثروة المسترروكفلر والمستر كارنيجي بكثير ولكن قيمة الشركات والأعمال المالية التي كان يتولاها مورغان تفوق كل ماتولاه إنسان قبله. وقد قدرتها التيمس بمبلغ ألفي مليون جنيه وهو قدر يبلغ عشرة أضعاف الغرامة الهائلة التي دفعتها فرنسا إلى ألمانيا بعد حربها المشهورة. على أن كاتباً في الديلي تلغراف قدَّر تلك القيمة بمبلغ 1300 مليون جنيه وقال أن هذا القدر يزيد 200 مليون جنيه على الدخل السنوي لأمم الأرض الكبرى وعدتها 43أمة. وهو يزيد 400 مليون جنيه على جميع ما في الأرض من الذهب المسكوك نقوداً وغير المسكوك. ولو بدأ إنسان يعد هذا المال من ساعة ولادته على نسبة جنيه في الثانية وبقي يعد ويحسبّ الأيام كلها بلياليها من غير انقطاع لانتهى من العد وهو ابن 63سنة. على أن أعظم من هذا القدر هو قيمة الأعمال المالية التي كان مورغن يتولاها وللمستر روكفلر سهم كبير فيها. ففي السنة الماضية عين مجلس النواب الأميركي لجنة لتحقيق ما لهذه الشركة من التأثير في شؤون البلاد المالية والصناعية. وبعد تحقيق دام عدة أشهر وضعت اللجنة تقريراً قالت فيهَِ أن في أيدي الرجلين 36 بالمئة من ثروة أميركا المتداولة بين الأيدي ومصادرها الطبيعية وقدَّرت قيمة ما تمتلكه هذه الشركة بمبلغ 7950 مليون جنيه. منهُ نحو 3000 مليون قيمة أعمال صناعية. ونحو 3400 مليون قيمة سكك حديد. ونحو 800 مليون قيمة بنوك وغيرها من المعاهد المالية. و2 مليون قيمة مناجم من بترول وغيره. ونحو ذلك قيمة أعمال أخرى. ولبيان عظم هذا القدر تصوَّرْ أن رجلاً شرع يعدُّه على نسبة جنيه في الثانية من عهد موت كرومويل في انكلترا ومزاران في فرنسا لانتهى من عدّهِ في هذه السنة الجارية بفرض أنهُ عاش هذه المدة كلها وطولها نحو 250 سنة. ولو شرع في عدّه من الآن لانتهى سنة 2163.

ولما توفي مورغن أوقفت بورصة نيويورك الأعمال حداداً عليهِ خمس دقائق وهذه أول مرة أوقفت البورصة أعمالها هذه المدة الطويلة!! منذ نشأتها إكراماً لرجل من الناس. كان مورغن قليل الكلام كثير الكلف بالإيجاز. قابل إمبراطور ألمانيا فقال: قابلت الإمبراطور فأحببتهُ. أما الإمبراطور فقال فيهِ: لم أجد في حديثهِ دليلاً على أنهُ مدرك تمام الإدراك ما في العالم التجاري من أسباب الائتلاف والاختلاف. وقد أدهشني جهله لتقدم الأمم التاريخي والفلسفي. وليس في سياستهِ الاقتصادية أو اقتصاده السياسي محل للاهتمام بالاشتراكية التي ستصبح عن قريب أعظم المسائل حيثما كان. وقد اعترف بأنهُ لم يهتم بها إلى حد أن يعرف حقيقة ماهيتها تزوج مرتين. ففي الأولى قصد باريز سنة 1859 لرؤية خطيبته وكانت مريضة بل مسلولة فامتنعت عن الزواج طبعاً فأقنعها مورغن بأن تتزوجه وقال: أني أدور بك الأرض لتعود إليكِ صحتكِ. فاقترن بها سنة 1861 وانقطع عن الأعمال وتفرَّغ لعمل كل ما يُحسن صحتها. ولكن ذلك كله لم يجدِ نفعاً , فتوفيت بعد زواجهما ببضعة أشهر. وعاد فأكب على أعماله كعادته ولم يتزوَّج ثانية إلاّ بعد مضي ثلاث سنوات على زواجه الأول. كان مورغن لا يضنّ بدفع الرواتب الهائلة عند الحاجة. وأكبر راتب دفعهُ هو أو غيره إلى مستخدم , ما عدا رواتب الملوك , هو مبلغ خمسين ألف جنيه للمستردوكنيس وكيل المالية المصرية سابقاً والسير كلتون دوكنس فيما بعد. فإنهُ لم يكد يستعفي من مصر ويعين عضواً مالياً في مجلس والي الهند حتى عرض عليهِ مورغن خدمة عنده بالراتب المذكور وضمن له الراتب. فقبل ولكن لم تطل مدة خدمته عنده لأنهُ مات بعد سنوات قليلة من فرط الجهد وتراكم العمل عليهِ.

دروس

دروس يجب أن نأخذها من النحلة تعلمنا النحلة: 1 المثابرة على العمل , لأن النحلة لا تتخلّى عن عملها قط 2 الإخلاص والطاعة , لأن النحل يحب ملكتهُ ويطيعها 3 محبة الأوطان , لأن النحلة لا تترك بيتها إلاّ للضرورة ولوقت قصير 4 النظافة , إذ لا أنظف من بيت النحلة وخليتها 5 الرفق والعطف على الآخرين , فالنحلة لا تترك رفيقة لها في ضيق 6 وجوب الاستيقاظ باكراً 7 وجوب التمتع بالهواء النقي 8 المسالة والمودَّة , فقلما تشاجر النحل وصايا الحكماء أيام الدهر ثلاثة يوم مضى لا يعود إليك. ويوم أنتَ فيهِ لا يدوم عليك. ويوم مستقبل لا تدري ما حاله ولا تعرف من أهلهُ الأبشيهي اسمان متضادَّان بمعنى واحد: التواضع والشرف. وقيل إذا ارتفع الشريف تواضع وإذا ارتفع الوضيع تكبَّر القيرواني سُئل سقراط: لماذا لا تتكلم أجاب: خلق لي أذنان وفم واحد لكيما يسمع الإنسان أكثر مما يتكلم قال رجلٌ: أصعبُ الأشياء أن ينال المرءُ ما لا يشتهيهِ. فسمع كلامهُ بعض الحكماء فقال: أصعب من ذلك أن يشتهي ما لا ينالهُ العاملي

العدد 34

العدد 34 - بتاريخ: 1 - 5 - 1913 شاعرية خليل مطران على راية الفرقة يعلّق القائدُ شارةَ المجد والشرف , عندما يبلي أفراد تلك الفرقة البلاء الحسن في مواقع القتال. . . وفي ميدان النهضة الأبية الحديثة أبلى شعراؤنا بلاءً حسناً , فكأن سمو أفندينا المعظَّم قد علَّق تلك الشارة على رايتهم إذ وضعها على صدر شاعرنا خليل مطران. . . فليهنأ الخليل لواءَ الشعر العصري؛ وليهنأ النيشان الذي حلَّ على صدر يحوي الدرَّ والجوهر؛ وليُحمَد مليكُ البلاد على آلائه وليُشكر. . . . أما بعد. فقد رأيت أن خير ما يصاغ من التهاني في مثل هذا الاحتفال الزاهر هو حديثٌ أُطار حكم إياه , أيها السادة , عن المحتفَل بهِ وعن شاعريته. فأقول: منشدٌ للغرامِ لم يشدُ إلاّ ... كان إنشادُهُ نواحاً شجيَّا

شاعرُ كان عمرُهُ بيتَ تشبيبٍ ... وكان الأنينُ فيهِ الرويَّا إنَّ في نظمهِ لحسّاً لطيفاً ... باقياً منهُ في السطورِ خفيَّا هي أبيات كتبها خليل مطران على الصفحة الأولى من ديوان الشاعر الفرنسوي ألفرد ده موسه ولا يسع من ينظر فيها إلا أن يقابل بين حالَتيْ الواصف والموصوف , وشعر الأول والثاني , فيجدها تنطبق أتمّ الانطباق على الاثنين: كأن الشاعرَ العربي وصف حاله لما وصف حال الشاعر الإفرنجي. . . من المعروف أن لحياة الكاتب , والمحيط الذي ينشأ ويعيش فيهِ تأثيراً كبيراً في كتابته. ويرى على ذلك دليلاً واضحاً في شعر خليل: دبَّ شاعرنا وشبَّ تحت سماء سوريا الجميلة , بين جبالها وقممها البيضاء , أمام بحرها الصافي وأمواجه الزرقاء , فجاءَ شعره رقيقاً لطيفاً. . . ترعرع وكبر في وادي النيل بين آثار المدينة القديمة وصروحها العظيمة , فكان إنشاده فخماً عظيماً. عاش تارة في القرى والجبال , فتشرَّب حب الفضيلة والطبيعة , فأسمعنا الشعر زاهراً طاهراً؛ وعاش طوراً في المدن , فراعه ما فيها من التعاسة والشقاء , فألقى علينا إنشاده مبكياً زاجراً. قال في مقدمة ديوانه أن القارئ يدارجهُ مدراجةً تمثِّلهُ لديهِ في كل حالة مرَّ بها ولقد أصاب في ذلك , فإن شعره بالحقيقة رسمٌ تمثَّلت لنا فيهِ كل أطوار صاحبه , وارتسمت بين أبياتهِ كل عواطف قلبه , وتأثرات فؤاده. وهذا سرُّ محاسن شعره العديدة. وصف لنا خليلٌ حياته في صبا , بين آثار بعلبك , فتمثلناه:

نَزقاً بينَهنَّ غرّاً لعوباً ... لاهياً عن تبصُّرٍ واعتبارِ مستقلاً عظيمها مستخفّاً ... ما بها مِن مهابة ووقارِ نتبارى عَدْواً كأنا فراشا ... روضة ما لنا من استقرارِ ثم بعد أن كبر وخاض معترك هذه الحياة نلقاه: في هجرةٍ لا أنسَ فيها ... للغريب ولا صفاء تتقاذفُ الآفاقُ بي ... قَذْف العواصف للهباء وتُحيطُ ب يلججُ الصروف ... فمن بلاءِ في بلاء وهكذا يمكننا أن ندرس حياة خليل شطراً شطراً , من مطالعة ديوانه سطراً سطراً. قلنا أنه عاش بين جمال الطبيعة ومظالم البشر؛ وهذا ما قوَّي فيهِ الخيال والشعور. ومعروفٌ أن هاتين القوّتين هما جناحا الشاعر يحلّق بهما إلى أعلى سماء الشعر؛ ويأمن تهشمهما إذا كان العقل رائدهُ في حياته العلوية. وقد قال في مقدَّمة ديوانهِ إنّ شعره هو شعر الحياة والحقيقة والخيال أي أنَّ الذي أوحاهُ هو الحسُّ والعقل والمخيَّلة. وهذا هو التقسيم الذي نتبعه في درس شعره: 1 - الخيال: هو أقوى قوانا العقلية لأنه وحده القوة الفاعلة الموجدة , وسائر القوى , كالحس والحافظة والعقل , ليست إلا قوى مفعولة تتأثر وتعمل بما يطرأ عليها. وإذا كان الشعر كما حدَّه مرمونتل صورة تتكلم أو كلاماً

يصوِّر وهو كذلك , يكون الخيال شرط الشاعرية الأول. وقد قيل: الشعر هو ابنُ البكر. وبفضل هذه القوَّة يفوق الشاعرُ المصوِّرَ , لأنه بكلمة واحدة كثيراً ما يمثِّل لنا مشهداً يقتضي تصويره ألواناً مختلفة وتفاصيل متعددة. وكثيراً ما رأينا خليلاً أدقَّ تصويراً وأبلغ رسماً من أمهر المصوّرين , فإذا وصف مثلاً الجنديّ الجريح وقائده يقلّدُهُ وساماً , قال: . . . . فقلَّده وساماً ... وكلُّ جراحةٍ فيهِ وسامُ وإذا كانت نفسهُ مثقلةً بالهمّ , يرى ذلك الهم . . . . كبحرٍ ... ضمَّ في جوفهِ البعيد غريقاً وإذا شكت عينهُ المسَّهدة طول الليل , فهي: تحسب السرجَ في حشاهُ قروحاً ... وترى الشهبَ في سماهُ حروقا وهذا بيتٌ تكاد تكون كلُّ كلمةٍ فيهِ صورةً حسية وإذا تبسم أمامه عبدٌ يرى ابتسامهُ ... . . . . . مثل وميضٍ في حالكٍ مسودّ ويرى الليلة الجميلة: أشبهَ بالجاريةِ الغراءِ ... في حلةٍ شفافةٍ سوداءِ وإذا تمثَّل الشمسَ منيرةً في كبد السماء , تصوِّر له مخيلتهُ المتقدة هذا المنظر تصويراً يعجز عنه قلم المصوّر , فيقول: تبعثُ الشمسُ باهرات شعاعٍ ... تغتدي بانحدارِها شبهَ رُبدِ فهي في الأفق تارةً مسحاتٌ ... من بهارٍ وتارةُ نثرُ وردِ

وهي بين الغصون نسج دقيقٌ ... من نضارٍ يشفُّ عن لازوردِ وإذا خاطب الغادة الحسناء , قال لهما: أنتِ ابتسامٌ صيغ في قطرةٍ ... من الندى في قَبَسٍ من صباح وإذا رأى قرطين حلقاً في أُذن تلك الحسناء تصوَّرهما دُرّاً جرى من صَدَف وإذا رآها مكللةً بزهر الفل أعجب بالورد يحمل فلاَّ وإذا كانت تلك الغادة مقبلة رآها: . . . . كالغصنِ أثقلهُ الجني ... فمال قليلاً واستوي متقوّما وإذا وصف الصبية اللعوبَ الطروب , قال فأبدع وصفاً وتشبيهاً: ضحّاكةٌ كالنَورِ في الزهَرِ ... رقاصةٌ كالغصن في الوادي كرَّارةٌ كنسيمة السحرِ ... ثرثارةٌ كالطائرِ الشادي وهل تكون مثل هذه الفتاة إذا نزل بها همٌّ إلاَّ: كطائرٍ راقَهُ غديرٌ ... فرقَّهُ جانحاً وطارْ وإذا عبث لهواء بشعرَها قال: وتناثرت ضُفرُ الفتاةِ غمائماً ... سترت عن الأبصار طلعة نجمها وإذا وصف الولد الذي لا يقرُّ له قرار. قال: كزهرة روض تمرُّ بها ... فتقلقها النُسُمُ السائره وإذا تكلم عن السفن الحربية المائسة على ظهر البحار وصفها كالجنّ في جدِّ العواصف تلعب وإذا وصف سلطة الملك صاحب الشوكة والاقتدار , قال:

أنت الرجاءُ فأي شيء ترتجي ... والروعُ أنت شيء ترهبُ والملكُ جسمُ أنت فيهِ هامةٌ ... ويداك مشرقُ شمسهِ والمغربُ أو قال أيضاً فأجاد: وكأنَّ درَّة سيفهِ عينٌ ترى ... ما تحت قائمِ سيفهِ آجالا فما أبلغ هذه الاستعارات والتشابيه وما أجمل! وإذا وصف جبلا مزحلقاً صوَّره: كثيرَ الثلوم كأنَّ الفتى ... إذا زلّ يهوي على مبردِ وهو بيتٌ من قصيدةٍ عصماء عنوانها فتاة الجبل الأسود فيها من الوصف الفتان ما شاء الخيال وشاءَ التفنن. من ذلك أنه عندما يصف جمال الفتاة وهي بارزة إلى ساحةِ القتال لا يصفهُ كما وصف جمال غيرها من الحسان , بل يراعي مقتضى الحال , ويستعير كل صوره من التعابير الحربية , فيقول: لهيبُ الحروبِ على وجنتيهِ ... والنقعُ في شعره الأسودِ وفي عينهِ مثلُ برقِ السيوفِ ... وظلُّ المنيّةِ في الأثمدِ وعندما تنكشف حقيقة هذا الفتي - أو بالأحرى هذه الفتاة - فتكشف عن صدرها أمام قائد الأعداء , يُبدع خليل في وصفها أيما إبداع إذ يقول: وأبرز نهدَي فتاةٍ كَعابٍ ... بطرفٍ حّيي ووجهٍ ندي كَحُقَيْ لُجيَنٍ بقفلَي عقيقٍ ... وكنزين في رَصَدٍ مرصدٍ فكبَّر مما رآهُ الأميرُ ... وهلّل كلٌّ من الشُهَّدِ

وراعَهَمُ ذانك التوأمان ... وطوقاهما من دم الأكبدِ ورثبُهما عند ما أُطلقا ... إلى ظاهر الدرع والمجسدِ كوثبِ صَغار المها الظامئاتِ ... نفرْنَ خفاقاً إلى موردٍ ويطول بنا المقال لو جئنا على ذكر كل ما توحي المخيلة إلى شاعرنا من لطائف الابتكار. وله قصيدة شهيرة في وصف بعلبك هي مجمع الصوَر وملعب الخيال. وقد جعلتهُ بحقٍّ يسمى شاعر بعلبك والأهرام وبالإجمال فإن خيال خليل يزين ويحسن ويحلي كل ما تقع عليهِ أبصاره , فيحقُّ له أن يقولَ كما قال لعروس شعره: وأبدلُ نور الشمس ما شاءتِ المنى ... عقيقاً وتبراً ساكباً ونضارا وأنظمُ من زُهر الدجى لكِ خاتماً ... وتاجاً وعقداً فاخراً وسوارا وأصنعُ نوطاً باهراً من هلالها ... وأنسج من غزل الضياء دثارا وهذا الذي وضع خليل في مقدمة شعراء الطبقة الأولى في الوصف. أما في الشعر القصصي والخطة التي اختطها للنظم العربي في هذا الباب , فاقرأوا عين الأم ونابوليون الأول وليمون يوسف أفندي وحكاية شاعر وشهيد المرؤة والعصفور والعقاب ومقتل بزرجمهر والطفلة البويرية وحكاية عاشقين والجنين الشهيد الخ تروا المقام المرء شاعراً. إذ يكون نظمهُ والحالة هذه بارداً جامداً , نرتاح إليهِ ونجد فيهِ بعض البهجة , لكنهُ لا يحرّك فينا ساكناً ,. ولا يثير شعوراً كامناً , كما نرى ذلك في شعراء الوصف؛ فإن هناك ركناً آخر يقوم عليهِ بيت الشعر وهو الحس أو الشعور.

2 - الشعور قال خليل مطران في مقدمة ديوانه: وليس أكثر شعري هذا بين الطرس والمداد إلاَّ مدامع ذرفتها , وزفرات صعَّدتهاو وقطع من الحياة بدَّدتها؛ ثم نظمتها فتوهمت أني استعدتها. وهكذا يتحقق لنا قوله الأول أن شعره ليس فقط شعر خيال. بل هو أيضاً شعر حياة ومن القول ما يؤثر في النفس وأنّ خلا من كل صورة , لأنهُ صورة الحياة الحقيقية. وفي شعر خليل الشيء الكثير من هذا القبيل. كقوله مثلاً في مشاكاة وهي من أوليات قصائده: أرى مثل سهديَ في الكوكبِ ... أحلَّ بهِ مثلُ ما حلَّ بي يهيمُ هياميَ من وجدهِ ... ويهربُ من مهدهِ مهربي ونجتازُ من هذا الفضاَء الرحيبَ ... إلاَّ بنا فهو لم يرحبِ فيا نجمُ ما النارُ تُفني حشاكَ ... وما سيلُ مدمعك الصيّبِ أسِرَّ هواكَ إلى صاحبٍ ... يؤاخيك في همك المنصبِ أما كلُّ ذي كلفٍ متعب ... شريكٌ لذي الكلفِ المتعبِ فهذه أبيات كلها رقةٌ وشعور على خلوّها من الصوَر وأساليب البديع. وأن في المواضيع الشعرية المبتكرة التي طرفها خليل لبرهاناً واضحاً على شعورٍ كبير مقرون بخيال حادّ. فالحادثة البسيطة تُهيج عواطفَهُ وتثير أشجانهُ. فينظمها ويجيء نظمُها محرّكاً عواطف قارئهِ مهيجاً أحزانه. اسمعهُ يتكلم عن مهد الطفل تظنهُ الأم الحنون:

ويهزُّهُ خفقُ الفؤادِ ... على مناجاةِ الضمير وإذا سمع ذاك الطفل يناغي في مهده , فضَّل مناغاته على هديل الطيور وتغريد البلابل: . . . . . . . . . . . فكلما ... أنشدَ علّم الطيورَ النغما وجمعَ الأملاك حول المهدِ ... يُسمعها شدوَ المنى والسعدِ هو يشعر بالألم فيصوّر لنا الفؤادَ المتألم: كشلو بأنياب الهمومِ مبضَّعِ ويدري أي تأثير يصيبُ القلب المجروح فيمثّل عواطفهُ المكسورة كجرحٍ قد ألطّفُهُ بلمسي ... وإن هو مسَّهُ غيري أُضامُ هو يفهم قيمة الدمعة التي قال لامرتين أن فيها من الشعر أكثر مما في دواوين الشعراء , فيمثّل لنا الدموعَ غاسلة كل إثم , مطهرة من كل دنس. وهو ذاق من الحب حلوهُ ومرَّهُ فيمثّل لنا الحب تارة غاية الحياة , وطوراً الباعث على كل أمر عظيم: والحبُّ ألزمُ للأرواحِ ما عظمت ... ود يكونُ لها أدعي إلى العِظَمِ أما تحديده للحب فهو: الحب في المعنى العميم الكامل ... معنى المراحم والفداءِ الشامل يعرف أن قلب الإنسان يعيش ويفنى من هذه العاطفة في وقت معاً فيقول: اسكريني على الدوام وأفني ... مهجتي أدمعاً وعزمي حريقا

وينصح أخوانه إذ يقول: أحباي إني مذ أفقتُ من الهوى ... شقيٌّ فكونوا الدهرَ فيهِ سكارى أما الذي لم يُدرك هذه العاطفة فهو لم يُدرك سرَّ هذه الحياة: من لم يُحبّ فما الصفاء لهُ ... صفوٌ وما أكدارُهُ كدرُ ويرى الحياةَ ولا يعيش كما ... مرَّت على مرآتها الصوَرُ ويقول عن قلبه وهو يعني كل قلبك: يبغي الشفاء من الولوعِ ... ولا شفاء مع الولوعْ ألف الصبابةَ فهي أمٌّ ... مُرضع وهو الرضيعْ والطفلُ يشقى بالفطامِ ... فكيفَ يقبلُهُ مطيعْ لا متسع لدينا أيها السادة لذكر كل ما يجول في صدر شاعرنا الرحب العواطف , كحنينه إلى الوطن , وعطشهِ إلى ذلك المنهل الصافي الذي روى صباه , ووفائه لأصدقائه ونزوعه إلى كل أمر نبيل. فإن هو الغصن الرطب يميل بهِ كل نسيم , أو وجه البحيرة الصافي يحرِّكه كل ريح. وهو القائل عن نفسه: والذي درعُهُ فؤادٌ رقيقٌ ... فجريحٌ إن يقتحَمْ أو يقاجم فمسكين ذو القلب الرقيق في معترك هذه الحياة إذ يبيت وفي الجسم نارٌ يلذعُ القلبَ وقدُها ... وفي القلبِ نارٌ مثلها تلذعُ الجسما وإذا كان صاحب القلب الرقيق شاعراً من طبقة خليل فهو يصيح: أنا الألم الساجي لبعد مزافري ... أنا الأملُ الداجي ولم يخبُ نبراسي

أنا الأسدُ الباكي أنا جبلُ الأسى ... انا الرمسُ يمشي دامياً فوق أرماسِ رقَّت حواشي مهجته وشفَّت عن محرّكات نفسهِ , فسمعنا خفوق قلبه , ورأينا ذلك القلب كما يصوّره: وقلبي مسموعُ الخفوق معلَّقٌ ... بمنهدمِ الأركان أجوفَ معتلّ بل ما أبلغ التصوير وما أشدّ التأثير عندما ينادي: الله في صدر وهي ... وتقوَّست منهُ العظامْ خاوٍ كجوف الغار تم ... لأُهُ المخاوف والظلامْ إلاّ سراجاً حائلاً ... فيهِ يُنير بلا ابتسامْ روحٌ تضيء على ضر ... يحٍ في صميم القلب قامْ المجال واسع لكتابة درس من أبلغ الدروس النفسية في شعور الشاعر يُقتبَسُ من شعر الخليل بل أن في قصيدته المساء التي أنشدها وهو عليلٌ في مكس الإسكندرية كفاية. فمن يطالعها يرى قلباً أذابته الصبابة والجوى ويسمع الشاعر يشكو اضطراب خواطره إلى البحر وهو: ثاوٍ على صحر أصمَّ وليت لي ... قلباً كهذي الصخرة الصماء ينتابها موجٌ كموجِ مكارهي ... ويفتها كالسقمِ في أعضائي والبحرُ خفَّاقُ الجوانب ضائقٌ ... كمداً كصدري ساعةَ الإمساء تغشى البريةَ كدرةٌ وكأنها ... صعدت إلى عينيّ من لحشائي ومن كانت هذه حالته يرى في غروب الشمس دمعة تذرفها الطبيعة على موته فيخال تلك الشمس المؤذنة بالزوال:

مرَّت خلالَ غمامتين تحدُّراً ... وتقطَّرت كالدمعةِ الحمراءِ فكأنَّ آخرَ دمعةٍ للكون قد ... مُزِجَتْ بآخر دمعي لرثائي فمن منا لم يشعر يمثل هذه الكآبة. ولكن قليلٌ من له مثلُ هذه المقدرة على إبراز هذه العواطف في ذلك القالب الفتان. يتمنى شاعرنا أن يكون له قلبٌ كالصخرة الصماء ونحن نتمنى أن يبقى قلبه رقيقاً , ليأتي بمثل هذه الآيات البيَّنات. فكما أن الشجرة لا يسيل ماؤها إلاّ من جراحها فكذلك قلبُ الشاعر لاّ يسيلُ شعره إلا من جراحه. او كما أن العنقود لا يجود بعصيره الطيب , ما لم تضغطهُ يد الأحزان والشقاء. . . . قال اسكندر دوماس بعد مطالعته ديوان فكتور هوغو , وفيهِ ما فيهِ من توجُّع فؤاده: فليتبارك الربُّ الذي يُرسل لنا مثل هذه المصائب , ليخرج من صدرنا مثل هذا الهتاف البديع. . .! 3 - العقل أيها السادةز رأينا في شعر خليل عمل القوَّتين الأساسيتين في الشعر - أي الخيال والشعور؛ وهما قوَّتان قد تشردان إذا لم يكن هناك قوة ثالثة - وهي العقل - تخفف من غلوائهما. وقد أصاب قدماءُ اليونان إذ صوَروا الشاعر في مركبة يقودها جوادان جامحان - هما الخيال والشعور - وجعلوا زمامهما في يد العقل لئلا يطوّحا بالشعر على الهاوية. وهذا ما قصده أيضاً من حدَّد الشعر بأنهُ الفلسفة

تحمل زهراً وهذا ايضاً ما أراده خليل , لما قال إن شعره شعر خيال وحياة وحقيقة. فهو الشاعر الفيلسوف الذي يمعن النظر في حوادث هذا الكون وعللها ومعلولاتها , ويستنتج منها العبَر والحكم. وفي شعر خليل الشيء الكثير من هذا القبيل. شهد الفيلسوف جول سيمون احتفالاً أُقيم إكراماً لنابليون الثالث , فنظر إلى الشعب المتجمهر الهاتف هتاف النصر نظرة غضب وازدراء , وقال لمن حوله هكذا يخلقون الظُلاَّم. . .! هذا ما قاله الفيلسوف الإفرنجي , فإليكم ما قاله شاعرنا العربي عن كسرى وقومه: هم حكّموهُ فاستبدَّ تحكُّماً ... وهمُ أرادوا ان يصولَ فصالا والجهلُ داءٌ قد تقادمَ عهدهُ ... في العالمينَ ولا يَزالُ عضالا لولا الجهالةُ لم يكونوا كلُّهم ... إلاّ خلائقَ أخوةً أمثالا لكنّ خفضَ الأكثرين جناحَهم ... رفعَ الملوكَ وسوَّد الأبطالا وإذا رأيتَ الموجَ يسفلُ بعضُهُ ... ألفيتَ تاليَهُ طغى وتعالا نقصٌ لفطرةِ كلّ حيٍّ لازمٌ ... لا يرتجي معهُ الحكيمُ كمالا فهذه أبيات كلها حكمة وفلسفة اجتماعية. ولا يشنّ شاعرنا الغارة على السلطة بل يريدها مبنيةً على العقل والتروي , ألا وهو القائل والحكم أعدلُ ما يكون جدالا ولكن هو الاستبداد يملي عليهِ مثل هذه الأبيات: نعم هي دارٌ للملوكِ عتيقةٌ ... ولكن غَدَتْ للفحش داراً وبئسما بناءٌ بمالِ الناسِ جبايةً ... ولو ذوّبوا تذهيبهُ لجرى دما

كذلك هو يشجب الأعمال الجائرة أينما رآها. اسمعوه يخاطب ملوك مصر بناة الأهرام: لم يُغنِكم منهُ البناءُ عاليا ... والأرضُ نهباً والملوك أعبُدا وكان يُغنيكم جميلُ الذكرِ لو ... خفضتمُ اللحدَ وشدتم بالهدى وهو القائل أيضاً: معرَّةُ الظلمِ على مَن ظلْم ... وحُكم مَن جَارَ على مَن حكَمْ كل هذا لأن الخليل فهم مهمة الكاتب , ولاسيما الشاعر , وهي مناصرة الخير ومناهضة الشرّ؛ فإذا رأى القويّ يعبث بحقوق الضعيف يهتف: فيمَ احتباسك للقلْم ... والأرضُ قد خُضبت بدمْ سدِّدْ قويمِ سنانهِ ... في صدرِ مَنْ لم يستقمْ اليوم يوم القسطِ قد ... قامَ الأُلى ظَلَموا فقمْ ثم ينبه قومه للنهوض من ثبات الجهل فيقول: تمنا على جهلٍ وقد ... عاشَ الكرامُ ونحن لمْ فإذا انقضت آجالنا ... فمن الرُّقادِ إلى العَدَمْ وإذا بُعثنَا بعدها ... فكأنها رُؤيا حلمْ يرى الخليل أجيال الناس تجيء وتنقضي يرى الممالك تشيد بالصوارم وتفنى بالمعايب. فبعد ذلك يقول: ولم أرَ شيئاً كالفضيلة ثابتاً ... نَبَتْ عنهُ آفاتُ البلى والمعاطبُ ثم نراه , وقد كادت المصائب تصرعه , يصيح من قلب مكلوم:

غلبتني صروف دهري على صب ... ري وأفنته نارُها في الملاحم الأمان الأمانَ ألقيتُ سيفي ... وطويتُ اللواء تسليمَ راغم ولكن إِن هيَ إلا نفثة مصدورها , لا يلبث بعد تفريجها أن يعود فيظهر مظهر الجلد: شأني مكافحةُ الخطوب إذا دجا ... نقعُ الحوادثِ في الليالي السودِ وفي شعر مطران قصائد كثيرة تتطلب درساً مستقلاًّ لما جاءَ فيها من المبادئ الاجتماعية يضطرنا ضيق المقام إلى التنويه بذكرها فقط مثل وفاء والعقاب وحكاية عاشقَين والجنين الشهيد والطفل الطاهر الخ. كل ما ذكرناه من المختارات بهي جميل - وهناك أيضاً غير ذلك محاسن عديدة. وبدائع شتى - وهي على ما رأيتم فيها من الجمال والسناء كالجواهر كانت أجمل وأسنى لو رأيتموها منظومة في عقدها لا منثورة مستقلة كما أوردتها. وقد عرف شاعرنا أن يستفيد من لغات الأجانب دون تقليد , وينهج نهج قدماء العرب دون تقييد؛ فاحترس بصبغة العرب في التعبير. وادخل أساليب الإفرنج في التأليف والتفكير. فكانت نتيجة ذلك أنه أرغم الشعر العربي على أداء الحاجات الجديدة دون أن يتخطى ما سنَّ له من القواعد القديمة. قلنا بلا تقييد ولا تقليد لأن خليلا نزوع إلى الحرية في كتاباته كما هو شغف بها في حياتهِ.

اليمين

هذا بعض الشيء عن شاعرية خليل مطران وعبقريته. وقد رأيتم أيها السادة الخطة الجديدة التي اختطها للشعر العربي - وهي خطة المستقبل. فحق لنا بعد ذلك أن تعده أستاذاً علّماً في هذا الفن. وحق لعصرنا أن يفاخر به وبأمثاله من شعرائنا النابغين أبهى عصور اللغة العربية. أجل يا سادة , جال الشعراء في عصر العباس جولة وصلوا بها حبل النسب بين العصرَين الزاهرَين , والعهدَين الناضرَين: عهد بها الرشيد والمأمون , وعهد عباسنا الميمون. فعقدت في هذا لشوقي في ذلك الألويةُ لابن الوليد وابن هانئ. وعقدت في هذا لشوقي وصبري وحافظ ومطران. فوضع مولانا - حرسه الله - بيده الكريمة آية رضاه على صدر علَمها الخفاق فوق رأس فارسها السباق. كما يضع القائد شارة الفخر على لواء النصر - ولفرسان البيان أسوة بفرسان الميدان. اليمين إنما يحملُ الرَّجلَ على الحلف إحدى هذه الخِلال: إما مهانة يجدها في نفسه وضرَعٌ وحاجةٌ إلى تصديق الناس إيَّاه؛ وإما عيٌّ بالكلام حتى يجعل الإيمان لهُ حشواً ووصلاً؛ وإما تهمةٌ قد عرَفها من الناس لحديثهِ فهوَ يُنزل نفسهُ منزلةَ مَن لا يُقبَل منهُ قولٌ إلاَّ بعد جهد اليمين؛ وأما عبثٌ في القول , أو إرسال اللسان على غيرِ رويَّةٍ ولا تقدير. ابن المقفع

خواطر

خواطر في الخيرات والشرور ترك الأوَّلون من البشر للإخلاف كثيراً من الخيرات , وخلَّفوا لهم وافراً من الشرور؛ وقد مرَّ الدهرُ تلوَ الدهرِ , وجاءَت أجيال خلف أجيال , وتلك الشرور ثابتة لم تزحزحها العقول , ولم تمتنع عليها النفوس؛ بل كأنَّ السعيد الفائز من الإخلاف , هو المحتفظ الضنين بذلك التراث , فإذا ما تأملنا في أبديَّة هذه الأسواء وشبهِ إزاليتها , وجب علينا أن لا ننظر إلى محافظة الأجيال على تلك التركة المباركة بنظر التهاون , وأن لا نجعل علَّتها التصادف , بل يجب أن نحني الرأس قليلاً أمام ما هنالك من المجهولات التي اقتضت هذا الأمرَ , عسى أن يُفتحَ لنا بابٌ من أبواب العلم بعد تأدية هذه السجدة سجدة الاعتراف بوفرة أسرار الكون وعظمتها , وليس ما يخفي على أكثر البشر إلاّ من الأسرار. ولقد اختلف كثيراً نظرُ المفكرين في الموازنة بين الخير والشرّ , ومآل الأقوال كلها إلى ثلاثة: من يرى أن البشرّ أكثر , ومن يرى أن الخير أغلب , ومتوسط يرى أن بين الخير والشر تعادلاً مع رجحان خفيف لجانب الخير. يقول مغلّبو الشر: ألم ترَ أيها الإنسان إلى كثرة الأمراض , ووفرة الأحزان , وشدة العدوان , وغلبة الحرمان , وشيوع الشكوى , وعموم البلوى؟. . . ألم ترى كيف يقلُّ أولو اليسار حتى يستطاعَ عدُّهم , وكيف

يكثر المعسرون حتى يفوقوا العدّ , ويعيَ عن لحاقهم المقدار؟. . ألم ترَ كيف يشبع الجهل حتى يصعد كل تلعة , ويهبط كل واد , ويدخل كل بلدة , ويزور كل بيت , ويحلّ كل دماغ , وكيف يتقاصرُ العلم , ويتقلص ويختبئ وينطوي حتى تُشَدَّ إليهِ الرحال , وتُحملَ في سبيله الأثقال , وتُبذل في التفتيش عليهِ الأموال , وتُنفق فيهِ السنون الطوال , حتى إذا ما اهتدى الطالبون إلى جنابه , وجدوا حوله طائفة من الحواجز , فيرجع بأكثرهم الملل والضجر واليأس , وما يفوز باقتحام تلك الحواجز إلا قليل من الطالبين , وما الطالبون بكثير. . . ألم ترَ إلى العقول السليمة - على قلَّتها - كيف يؤذيها الجهل المُجذِر بما اخترع من حكايات وتهاويل , وكيف يسمُّها العلم الأبتر بما وضع من شروح وتآويل؛ وإلى النفوس الكريمة كيف يقزّزها ظهور القبيح وإذاعته , وكيف يؤلمها خفاء الجميل وإضاعته؟. . . وانظر إلى الشهوات كيف تطغى ولا تقف عند حد , وكيف قضت علينا بالاستمرار في النصب؛ وانظر إلى قلة من تألفه النفس , وإلى كثرة ما يحول مع هذا بينها وبين إلفها , وإلى ما يصيبها بعد هذا كله من سهام الفراق , وما يعروها بسببه من الجوى؛ وتأمل في قصر الآجال مع طول الآمال , وقلة المعاضدين مع كثرة المعاندين , وضعف الوسائل مع قوة الرغائب , وتهجم الظلمات مع تحجب النور؛ وارمِ ببصرك إلى كثرة الزمني والمبرسمين وأرباب العاهات , ولا تتغافل عما يرافق العجز والاحتياج من المهانة , وللإحساس بالمهانة آلام

عظيمة , وقل لي بعيشك ما أكثر العجز والاحتياج في هذه الحياة؛ بل قل لي أي الناس شيء من العجز وشيء من الاحتياج؟ هبك مليكاً , ألا ترى أنك عاجز عن كثير , ومحتاج إلى كثير؟ فماذا يخامر قلبك كلما وجد طعم العجز , وماذا تجده نفسك كلما ذاقت الاحتياج , وما هذا الدنيا التي لم يسلم من آلامها صغير ولا كبير , ولا جليل ولا حقير , ومتى يكون خيرها أكثر من شرّها إذا كان هذا شأنها من ادّخار الآلام لكل ذي روح على اختلافٍ وتفاوتٍ بينهم في المقادير فقط؟؟ ويقول مغلّبو الخير: لقد جعل الفاطر لنا البصرَ لنرى بهِ كلّ محسوس , وأكرمنا بالبصيرة لنطّلع بها على ما وراءَ المرئي , وقد ملأ السمواتِ والأرض بما لا يُعدُّ ولا يحدُّ مما يبهج النفوس ويسرُّها , فلماذا تعمى الأبصار والبصائر عنها كلها , ولا ترى إلاَّ الأمراض وآثارها؟ أفننسى نِعَم الشمس , أم آلاء الأرض؛ أتسخير البحر ننسى أم استخدم البرّ , أنغفل عما يُفيضهُ التعاون البشريُّ العام من بركات العقول , وثمرات الهمم والنفوس , أم عما توحيه الفطرة الإنسانية من تعاطف القلوب , وما تؤتيه من لذيذ العلاقة بين المحبّ والمحبوب؟ يا للعجب كيف تقعُ الأبصار على بعض الأقذاء , وتعجز عن أن تسمحها بالتقانة إلى روضة فيها. أطيبُ الأقوات للسمع والشم والبصر؟ أين ذهب عن الأبصار جمال هذه القبة الزرقاء وقد طرحت عنها جلبابَ الغيوم , وحسرت لئام الدجون , فأشرق محيَّاها , فقابلته الأرض راقصةً تترنَّح أعطافها الأغصان , وتصفّق أكفّها النسائم , وأين ذهب عن البصائر جمال الحيّ

القيوم الذي نفخ من روحهِ في والد هذه الذرّية المباركة الحاملة لواء خلافته في الأرض نعني النوع الإنساني ألا ترزق البصيرة تجليّاً من تجلياتهِ تضيء بهِ الدنيا كلها لها فلا يبقى إلاّ مسابح نور , ومسارح آمال ورجاء وسرور. لو صحَّ أن الشرّ في هذه الدنيا هو الأغلب , لكان سير هذا النوع الإنساني إلى ما هو أنهُ أقبح وأنقص , لا إلى ما هو أجمل وأكمل , مع أن المشاهد هو أنهُ كان طول دهره سائراً إلى التكّمل , وآخذاً بالتغلي والتجمّل , فلقد كان الإنسان كهذه الحيوانات السارحة في القفار , أليفَ آجام وحليفَ أوجار , يدور يلتمس لمأكله ورقاً وعشباً , ويردُ الغدران والأنهار فيعبّ منها عبّاً , لا يزرع ولا يصنع , ولا يقني ولا يجمع , لا أداة لديه ولا ماعون , ولا عهد عنده ولا قانون , ثم قفز من بيئتهِ تلك قفزةً إذ ألهمه الفاطر أن يتخذ شيئاً من الأداة , فاصطنع من الحجارة قواطعَ وقواشرَ ونواحت , وفصَّل بهذه الأدوات الحجرية ما شاء أن يفصّل من أعواد الشجر على حسب ما هدته إليه الحاجة. فعمل من الأعواد مِخيَطاً ومسماراً , ومخرزاً ومحفاراً , ومقياساً ومعياراً , وظلَّ كذلك يتدرّج بهذه الصناعات الابتدائية حتى توصَّل إلى الحديد , وهُدِيَ إلى معرفة التصرُّف فيهِ فيومئذٍ دخل في دور جديد فصله عن الأدوار الأولى , ومن بعد ذلك بدأ يأتي بالبدائع والطرَف من الصناعات حتى أصبح بيته وماعونه وآنيته وأكسيته وأثاثه ورياشه وسائر طُرَف زينته أشياء لا نقف عند حدّ! وقد تحسنت عند ذلك سحنتهُ وبنيتهُ ,

وتهذّبت طباعهُ , وانقلب شتاتهُ اجتماعاً , وفوضاه نظاماً , وبلغ من العلم حظاً تقصر كل مبالغة عن وصف عظمه؛ وما الجهل الباقي بشيء يصح أن يسمى عقبةً في سبيل سلطان العلم الماضي الحكم لأن كثير الجهل قليل , فألفُ ألف جاهل مثلاً يستطيع أحد العقلاء أن يجعلهم تابعين لكلمته كما تتبع الغنم صوت راعيها. . . هذا وما نحن بمنكرين كثرة الشرور , ولكنَّا مع كثرتها قلما رأينا شيئاً منها إلاَّ ورأينا أمامه قوىً بها يحتمل الناس شدائدها. فإذا صح أن نسمي كلَّ شيء من الشدائد مثلاً شرّاً لزم أن يصح تسمية ما يقابلها من القوى خيراً على أنه ليس من الحق أن نُطيَّر بالشدائد , ونتبرَّم بها , وننقم عليها في حين أن كثيراً منها مربيات ومرقيَّات للأفراد والجماعات , ويا لله كيف يكون طعم الهناء لولا العناء؟ وكيف كنا نستطيع أن نعرف سائر الأنواع المسماة خيرات لولا ما يقابلها من أضدادها إذ لولا المرض , لقال قائلٌ: ما هي نعمة الصحة , ثم ما هي الفضيلة لولا الرذيلة , وما هو الانبساط لولا الانقباض , وما هو الذكاء لولا البلادة , وما هو المجد والرفعة لولا المهانة؟ فكأن هذه الشرور إنما وجدت ليكمل بها حظنا مما هي أضدادها. يشكو معلّبو الشرّ من الأمراض وبديهي أن صحة أكثر الأفراد هي الأغلب فإن مرض أحدهم في العمر مرة أو مرتين أو أكثر كان ذلك لتتضاعف لذته يوم يرجع إليهِ بعد الهجر حبيّبه العظيم الذي هو العافية؛ وإن كانت نهاية بعض الأمراض الموت فذلك - والموت محتوم - خير من اختطافه خطفة واحدة على حين غرة , ولوقوع موت الفجأة في بعض

الأحيان تعرف فضل المرض الذي به يتمكن المرءُ من وضع بعض الوصايا ومن التهيؤ لاستقبال الأبدية بنفس مطهرة بالندم على بعض الزلات , وبه يتمكن أهله من حسن توديعه فيزودون نفسه بأثمن شيء عند النفس وهو شذى الإخلاص , ويتزودون من مرآه برؤية أعلى شيء وهو إباء الحبيب أن يفارق احبَّاءَه , فهو والحالة هذه ينشدهم بلسان الحال: ولو نُعطى الخيارَ لما افترقنا ... ولكنْ لا خيارَ مع الزمانِ وهم ينشدونه: إذا ترحَّلتَ عن قوم وقد قدروا ... أن لا تفارقهم فالراحلون همُ ويشكو مغلّبو الشرّ من الجهل , ولو فقهوا لدروا أن ليس كل جهلٍ يُعَدُّ شرَّا , فإنه لو أصبح كل الناس فلاسفة لحلَّ بالدوران البشري ما يحلُّ بهِ إذا أصبحوا كلهم أغنياء. على أن من يمعن النظر كثيراً يجد في غباوة كثير من البشر فائدة ليست بأقلّ من الفائدة التي يجدها في ذكاء بعض الأفراد , وحسبك من فوائد الغباوة لأصحابها أنهم أقلّ تذمراً وامتعاضاً , فهم لا يذوقون الآلام التي يذوقها النبهاء من مشاهدتهم عيوب مجتمعهن وتقصيره عن غيره مثلاً. وحسبك من فوائد تلك الغباوة للمجتمع أن أصحابها لهم مما يدورون حوله من رحى الأعمال التي عرفوها شغل شاغل عن إحداث الفتن والمشاغبات التي توجع الرأس أحياناً على قلة نفع. وتلك الأعمال التي أشرنا إليها قلَّ أن يصبر عليها سواهم مع أنها قد تكون مما تشتدُّ إليها حاجة الجمهور. وبعد فأيَّ شيء ينقمون مما يسمونه الشرور , وهي إمَّا من اللاتي

تعمُّ فيهوّنها ذلك العموم , وأمَّا من اللاتي يقلُّ وقوعها , فتمرُّ وتنقلب إلى خير أحياناً. تأمَّل مهما تعاظم مُصاب أهل بيت بميتهم , تجد كلَّ واحدٍ يستطيع أن يهجم على نيران حزنهم برشةٍ من التسلية التي يدور محورها على كون هذا الموت أمراً محتوماً , وشيئاً طبيعيّاً , وأنه سبيل الأحياء أجمعين , وأنه ما من أهل بيت إلاّ وقد أصيبوا بمثل هذا على أنَّ الفوائد التي يعرفها العقلاءُ في الموت يمنعهم عن إدخاله في زمرة ما يسمى الشرور. ينظرون إلى الحاضر ولا يتفكَّرون في العواقب. فتعظم بمثل هذا شكواهم , تأمَّل كم من فقير قد ألمه فقرُهُ , فساقهُ حثيثاً إلى السعي والاكتساب فلم كان فقرهُ السابق شرّاً أم كان باعثاً لتحصيل لذَّة الغنى المكتسب التي تفوق لذَّة الغنى الموروث. . . وتأمل كم من مريضٍ أزعجهُ المرضُ وأخافهُ , فتذكَّرَ ما كان أهمله في الصحة , فلما أتيح له عناق العافية هبَّ نشيطاً للأخذ بما كان قد أهمله؛ فهل كان مرضه شرّاً , أم كان باعثاً لتحصيل لذّة عمل الواجب بعد إهماله , ومولّداً للذة عناق العافية بعد الصدود. . . وتأملْ كم من عاجزٍ قد أقعده عجزهُ عن كثير مما يأتيه أُولو الأشر والبطر , فأحدث له ذلك صيتاً حسناً , وآتاه حسنُ الصيت قوةً أصبح قادراً بها على نيل بعض ما كان محروماً منه؛ فهل كان عجزهُ شرّاً أم كان موجداً للذاتهِ من حسن الصيت ثم القوة ثم الفوز. . . لعمرك ليس الشرُّ أن لا تكون الآن قويّاً , فإنك قد نقوى وتجد لذةً عظيمة؛ وكم من ضعيف

قوي , وإنما الشرُّ أن تكون قوياً فتفقد هذه القوة. وكم من قوي قد ضعف , فما كثرة الضعفاء العتيدين أن يقووا سوى كثرة أبواب الأم الذي هو روح الحياة وباعث النشاط , والخير كل الخير في هذا , وما قلة الأقوياء المعرَّضين لفقد القوة سوى قلة أبواب الوجل الذي هو باعث الغمّ والانقباض , والشر كل الشر في هذا. فسبحان من هذا نظامهُ وأثر حكمته ورأفته , والله رؤُف بالعباد. ويقول المتوسطون: إن أعجب ما في الخيرات والشرور أنك تراها متقابلة كفريقين من العسكر قد وقف أمام كل صف آخرُ مثله في الجانب المقابل كأنما قد وُكل إليها أن لا يألوكلُّ فريق منها جهده في حفظ القلعة التي هو قائم عليها. بيد أن الجيوش التي نعهدها لا تلبث ساعة أو بعض ساعة من الدهر , حتى يقرع أحدها الآخر ويفلَّه , وأما جيشنا المنن والمحنَ فإنهما ما برحا متوافقين منذ أولية هذا النوع , ولعلهما سيظلاَّن مكانهما ما دار بنا المدار , ولكن من سير الإنسان نحو التكمل نفقع أن ثمَّةَ رجحاناً لجانب الخير على جانب الشرّ إلا أنه رجحانٌ خفيف جداً جداً إذ لولا ذلك لما كان الخطو إلى التكمل بطيئاً بهذه الدرجة. كل هذا قاله المفكرون. وقد أكثر مغلّبو الشرّ من ترداد شواهدهم والتغني بفلسفتهم , كأنهم وجدوا المجال واسعاً , والنغَم مؤثراً , إذ لا أوقع في نفس المفجَّعين من إظهار التألم مثلهم , وذمّ الدنيا التي هي مثار فجائعهم , ومدار محَنهم , وكثير من أهل هذا الرأي كانوا شعراء قد ضاقت عليهم مذاهب المعاش , فأشبعوا دنياهم ذمّاً وهجواً وملأوا الأسفار بوصف

شرورها من مثل قول حريريهم: إيَّاك والدنيا الدنَّية إنها ... شركُ الردى وقرارة الأكدارِ دار إذا ما أضحكت في يومها ... أبكت غداً تبَّا لها من دارِ أما مغلّبو الشر فلم نرَ لفلسفتهم كثيراً من الشروح الضافية , وإنما وقفن على قليل منها في أخبار وآراء بعض الصوفية والفلاسفة. وقد رأينا بعضهم لا يكتفي بتغليب الخير , بل يذهب إلى أنه لا شرّ على الإطلاق , وأن الكون كله خيرٌ محضنٌ من خيرٍ محض. وما اختلاف المفكرين والفلاسفة وأصحاب الأديان بتعريف الخير والشرّ , وتعيين أنواع كل واحد منهما بأقلّ من اختلافهم في الموازنة بينهما. كلاَّ , بل هو أكثر بكثير. وإذا ما نحن استطعنا أن نُرجع إلى ثلاثةٍ عددّ مذاهب المختلفين في الموازنة فإننا لا نستطيع أن نُرجع إلى عدد معيَّنٍ مذاهبَ المختلفين في التعريف وتعيين الأنواع. ولا يدري مقدار عذر هؤلاء في استلافهم هذا إلاَّ من جال نظره طويلاً في ميادين الطبيعة البشرية وسبر كثيراً أحوال الأفراد والجماعات , وتأمل مليّاً فيما يقعُ فيهِ الحسُّ والعقل من الأغلاط , وعرف جيداً ما للعادات والتقاليد من النفوذ والتأثير , وما لها من المنافع والمضارّ , فرجل أوتي هذا النصيب العظيم من الخبرة يعرف أنه ليس من البديهيّ معرفة ما هو الخير , وما هو الشرّ. فلا يهزأ حينئذٍ بكثرة اختلاف المختلفين فيهما من أهل الأديان والفلسفات , ولا يتكهم على أقوام رأوا الخير كل الخير في تعذيب الأديان والفلسفات , ولا يتهكم على أقوام رأوا الخير كل الخير في تعذيب النفس وحرمانها من الشهوات الحيوانية , ولا على آخرين ضادّوهم كل

الحب

المضادَّة فرأوا أن الخير كل الخير في اللذات وإنالة النفس كل ما تشتهيه. وكذلك لا يعجب من قد وصفنا حظه من الإطلاع لأَقوام يبكون , لكثرة ما يضحك الناس , وآخرين يضحكون من كثرة ما يبكون , فسبحان من خلق بين هؤلاء البشر جذور الائتلاف والاختلاف , وجعل هذا التباين في الأفكار , آيةً خالدة قاضية بمزيد التبصر والاعتبار. عبد الحميد الزهراوي الحب بين شوقي ووليّ الدين تراءَت لهُ على مستشرف حجرتها صبحاً , حين لم يلقِ عن أعطافهِ ثيابَ الكرى , والصبحُ كبسمةِ الرضي على الثغر الألمى , والروضُ كالأمل الغضّ في الفؤاد الفتيّ. فلمَّا اعتدلت في نظرهِ جانست محاسنُها محاسن الوجد بين الروحين على أجنحة الزفرات تبعثُ حنيناً وأنيناً وهياماً شديداً؛ فذلك حيث يقول شاعر الشرق شوقي بك: نظرةٌ. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ثم توالى كرورُ الإصباح , وكما تكبُر الأجسادُ تكبُر الأرواح , وكما تكبُر الصبابات؛ واللواعجُ ثمارٌ تُسقي مغارسُها بالدموع , والسبابُ خضبُ تنضج به اللواعجُ , ونسائم السَحر تُغري الأشواق ,

ووجهُ الربيع يزيد الجرأة على الفتنة. وإذ طال تعارُضْ الوجهين , وتقابُلُ النظرَين , جاءَت طمأنينةٌ تمسكُ الروح ساعة اضطرابها , فتألّقَ لها على الشفتين بارقٌ افترَّ عن مثل الدرّ المنظم؛ فذلك حيث يقول شاعر الجمال: . . . . فابتسامةٌ. . . . . . . . . . . . . . . . . ثم استمرَّ الغرامُ , وتراضي القلبان , وإذنَ كلٌّ لصاحبهِ بما أذن , فكانت حاجة إلى الإِعلان , فارتفعت يمينٌ كورَقة الآس , أُمرَّتْ على جبين كنفس الطفل , وإذا في الوجهةِ المقابلةِ رأسٌ ينخفضُ إجلالاً وخشوعاً وكذلك يضرع المطيعُ للمطَاع؛ فذلك حيث يقول شاعر الخيال: . . . . . . . فسلامٌ. . . . . . . . . . . . . . . ثم نما الهوى وارباهُ التراضي , فاشتاقت الأذانْ إلى مثل حظّ الأعين , ولا بدَّ لما يُسَرُّ من الإِعلان؛ فتَساجلَ الشكايةَ صريعاها , وقام اللسانان سفيرَين عن القلبين. هنالك حلاوةٌ تمازجُها المرارةُ , وراحةٌ يتخللها التعب , وللوجدِ بيانٌ لا تركّبهُ ألفاظٌ , ولا تؤديه عبارة فبهما فاض ماء النفسِ من الثغرين المتباعدَين؛ فذلك حيث يقول شاعر البيان: . . . . . . . . . . فكلامٌ. . . . . . . . ثم تعارضت في الروحين قوَّتان من السلب والإيجاب , وقعت شرارتهما على الحسّ فاضطرَم. غير أن الحكمة أطفأت ذاك الأُوار , والصبرُ في أوائل الصبابة يغلُبُ عليها , فتعالَجَ المحبَّانِ بالأمانيّ وما زالا يتواصيان بالرأي حتى غلبا عليه , فاستثار الشوق كمينَ النفسين , فاتفقتا

الزهر

على التداني؛ فذلك حيث يقول شاعر الحُبّ: . . . . . . . . . . . . . فموعدٌ. . . . فلمَّا بلغَ الأمرُ أقاصيَهُ , وعصفت شرّةُ الشباب بالرأي والجَلد فاستطارتهما , ضربَ الصبَّانِ على سلاسل الأسر فتساقطت حلقانهما في صلصلةٍ تصمّم الآذان , وانطلقَ سهيلٌ يطلب الثُّريا , وضمَّ الروحَين عناقٌ هو خاتمة السعادة والشقاء. لله أنت يا شوقي بك؟ إذ تقول: نظرةٌ فابتسامةٌ فسلامٌ ... فكلامٌ فموعدٌ فلقاءُ هذه روايةُ الغرام في بيت واحد , لو نطق به الدهر لتاهت به صروفه. وليّ الدين يكن الزهر رأيت صباح اليوم أزهار الربيع على أكمل ما تكون , إِمَّا في أكمامها , وآثار الصحة بادية عليها؛ وأمَّا زاهية قد مزقت أكمامها وأسفرت من حجابها بينَ بين. لاهُنَّ نواشز خالعات العذار , ولا هنَّ متخذات ستوراً من الأكمام والأفنان. أسفرنَ فكلهنَّ قرة للعين ولذة للشم ومبعث لحركات العواطف. لا أعرف عن طريق اليقين الوجه في جمال هذه الزهور ولكنها في الواقع جميلة. كذلك لا أعرف الصلة الخفية بين رؤية الأزهار وشمَّها وبين آيات الحب. جلَّت حكمة الله أن تتناولها عقولنا. ولكن الاستقراء دلَّ

على أن هذا النوع الأنساني منذ نشأ على اليوم يتعشق الزهر , ولا يطيب له مجلس لهوٍ إلا إذا كان للزهر فيه المقام الأول منثوراً ومنظوماً صحباً أو أشتاتاً. بل كلنا يود أن يكون له بستان فيه زهر. ومن لم يجد هرع وقت فراغه إلى الحدائق العمومية. ومَن لم يجد من الفلاحين أعجبه كثيراً أن يقيم وقتَ أنسه على قرب من زهر الفول. ومن لم يجد اتخذ له صورة بستان أو خيال بستان من الزهر في آنية الفخَّار يضع فيها القرنفل والورد في شبابيك داره. بل أصبح من القضايا البديهية أن الدلالة الوضعية على رقي أمة عنايتها بالزهر واستمتاعها به. وما هذا الاستقراء التام إلا جاعل نسباً ثابتاً بين الزهر والأنس ومسارح العواطف وحركات القلوب. لقد يسمج التعليل المنطقي في موضوع كهذا خفيفٍ بطبعه لا يحتمل ثقل المنطق ورصانة الدليل. ولكني أستأذن القارئ أن أستدل بهذا الاستقراء على أن الزهر من دواعي التقريب بين القلوب , ومن عوامل الائتلاف بين الجنسين. وقد كان دائماً مفتاحاً تستفتح به هدايا الوداد. بل اتخذت ألوانه المتنوعة وأنواعه المتعددة علامات على المشاعر المختلفة التي لها علاقة بذلك المعنى المعروف بآثاره المجهول بكنهه وهو الحب. وإذا كان الزهر من دواعي الحبو وكان الحب داعية حفظ النوع , وكان الربيع خير الفضول في وقرة زهره وجماله , فهل يستطاع الأمل بأن هذا الربيع يدعو اللواة المماطلين من أبنائنا وبناتنا إلى فكّ الاعتصاب الذي لزمهم أو لزموه هذه السنين الأخيرة عن أكبر واجب حيوي؟ فينزل

أقوال مأثورة

كل منهم عن المثل الأعلى في خياله إلى ما دونه من الأمثلة. ولا يتشدَّد في التمسك بالاعتبارات الإضافية كفقر الزوج أو مركز أبيها في الحكومة. . . الخ وأن يتساهلوا بعض الشيء ولو في بعض الشروط المعقولة عندهم غير المقبولة عندنا نحن الآباء لا بحجة العقل ولا الدين ولكن بحكم العادة الطويلة. هل يستطاع الأمل بأن هؤلاء المماطلين المعتصبين يخففون عنا كابوس الخوف من قلة النسل في الفرقة المتعلمة من الطبقة الوسطى؟ أنهم لو ذاقو تلك السعادة الزوجية , وشملهم سلام العيشة العائلية , وشعروا بلذة عواطف الأبوَّة لما احتاجوا إلى ألحافنا في المسئلة , ولندموا على ما ضيعوا من ربيع الحياة. أحمد لطفي السيد أقوال مأثورة قال لقمان لابنه: لا يكوننَّ الديك أكيسَ منك ينادي وقت السحر وأنت نائم. عاتب أخاك بالإحسان إليه , وأردد شرَّ بالإنعام عليه قيل لحكيم: أيُّ الملوك أفضل: ملك اليونان أم ملك الفرس؟ فقال: من ملك غضبهُ وشهوتهُ فهو أفضل ما رأيت أحداً إلا ظننتهُ خيراً مني , لأني من نفسي على يقين منهُ على شكّ العاملي لا تفرح بالغني والرخاء , ولا تغتمّ بالفقر والبلاء؛ فإنَّ الذهب يجرَّب بالنار والمؤمن يجرَّب بالبلاء الإمام علي

في رياض الشعر

في رياض الشعر ذكرت الهوى ذكرتُ الهوى أيامَ يصفو فنحتسي ... ويضفوا لصبى عن جانبَيهِ فنكتسي نقضّي مُنانا من رياض وأوجهٍ ... ونشفي صَدانا من شفاهٍ وأكؤسِ لذاذاتُ عيشٍ صالحٍ كُنَّ أنعماً ... فأعقبنَ من حدثانِ دهرٍ بأبوسِ طوينا بقاياها ففاضت من الأسى ... بقايا قلوبٍ جازعاتٍ وأنفسِ خلت أرُبع الأهواءِ إلاّ من البلى ... يعّفي بها آثارَ ملهى ومجلسِ تعوّضتُ عنها بالياً بعد مُونقٍ ... وبُدّلتُ منها موحشاً بعد مؤنسِ ألا هل لأيامِ الشبيبةِ رجعةٌ ... فأطمعَ في ماضٍ من العيشِ موئسِ تمتعتُ من دهري بظبيٍ مرتبٍ ... فقد عاد يرميني بسيدٍ عمَلَّسِ أقول لنفسي والأسى يستثيرُها ... مكانكِ أن النفسَ بالنفسِ تأتسي ألم تعلمي أنَّ الزمانَ بأهله ... يدورُ وأنَّ الصفوَ نغبةُ محتسِ؟ متى تطلبي ما ليسَ للدهر شيمةٌ ... تُعاقي عن الأمر المرومِ وتحُسبي أجدّك هل تقضين كلَّ لُبانةٍ ... بطول التمّني أو بطولِ التلمُّسِ إذا الحاجُ لم تُقدَرْ فليس بنافعٍ ... تقحّمُ أصليتٍ وإقدامُ مُدعسِ صرفتُ رَجائي عن مطالبَ جمّةٍ ... وليس الذي يرجو المحالَ بكتسِ وعفتُ الدنايا فاحتفظتُ بمنصبي ... وأبقيتُ عرضي طاهراً لم يدنسِ سجيّةُ حرِّ النفسِ لا متعرّضٍ ... لعوراَء يبغيها ولا متمرّسِ كريمٍ متى ما يَعْدُ كفّيه منفسٌ ... يُدلَّ بأغلى منهُ قدراً وأنفَسِ وما فاتني غُنمٌ إذا عفَّ مطمعي ... وعُرّيَ من سوءِ الأحاديثِ ملبسي

إذا ضرّس اللؤمُ الوجوهَ فشأنَها ... بقيتُ ووجهي وافرٌ لم يضرَّسِ وما راعني إلاّ حسودٌ يعيبني ... على ما يرى من طيبِ عودي ومغرسي لقد عجمتني الحادثاتُ فلم يلنْ ... مجسّي على بؤسِ الحياةِ وملمسي أخوضُ الخطوبَ السودَ غير منكّبٍ ... وألقى المنايا الحمرَ غير معبّسِ وأسمو إلى العاني أُفرّجُ همَّهُ ... إذا ما عنتهُ كريةٌ لم تنفّسِ ولم تُخزني في مشهد ألمعيَّتي ... ولا خانني رأيي وصدقُ تفرّسي ولست كساعٍ بالأباطيلِ والرَّقى ... إلى الناسِ يُزجيها بضاعةَ مفلسِ متى أقلْ قولاً فلستُ بكاذبٍ ... أصادي بهِ نفعاً , ولا بمدلّسِ تعوَّدَ مني الدهرُ شيمةً فاضلٍ ... وما اعتدتُ منهُ غير شيمة مومسِ كلانا على ما آستنَّ جارٍ ومن يُقَدْ ... إلى الشيمةِ العسراءِ يُعصَ ويشمسِ وأعلمُ أني ما حييتُ مقلّبٌ ... فؤادي وعيني في ضياءِ وحندسِ أحمد محرم فؤاد حافظ يا خافقاً قُلْ لي متى تسكنُ ... للهِ ما تُخفي وما تُعلنُ يا ليتَ شعري عنك في أضلعي ... ماذا تقاسي أيُّها المُثخَنُ وما الذي أبقاهُ من مهجتي ... ومن حياتي داؤكَ المزمنُ يا ثغرَهُ من ذا الذي يحتسي ... بَرد ثناياك ولا يؤمنُ يا قدَّه هذي قلوبُ الورى ... معروضةً طوبى لمن تطعنُ يا لحظهُ مُرْنا بما تشتهي ... كلّ محالٍ في الهوى ممكنُ حافظ إبراهيم

زهرة ورد أممتُ الحديقةَ عند السحَرْ ... أشمُّ نسيمَ الصبَّا والزهَرْ وقد نشرَ الفجرُ أسلاكَهُ ... فدبَّ بجفنِ النيامِ الشررْ وأنشدَتِ الطيرُ آيَ الصباحِ ... فأيقظتِ الزهرَ مثل البشرْ ومرَّ النسيم بيقظي الرُّبي ... فبشَّ بهِ كلُ ثغرٍ عطِرْ وكانت إلى جانبي زهرةٌ ... بثوبِ الكرى والندى المنهمِرْ فأيقظتُها وهي في كِمتها ... كبكرٍ ببُرد الحيا تستترْ فهبَّت , وفي جفنها فترةٌ ... وفي خدّها حمرةٌ , تعتذرْ وفي شفتَيها الندى مالكٌ ... عليها الكلام كثغرٍ حصرْ فمالت إليَّ كأني بها ... تسائلُ عن حالتي والخبرْ فقلتُ: أراكِ بأسر الكرى ... كأنكِ مغرمةٌ بالسَّمرْ فهل أنتِ مثليَ مفتونةٌ ... بَما في الطبيعة يَسبي البصرْ فقالت: وقد طار عنها الندى , ... أيُعذَلُ صبٌّ يُطيل السهرْ فما أنتَ منا بأسمى شعوراً ... وليس الهوى فيكمُ محتكرْ فقلتُ: وأنّى لمثلكِ قلبٌ ... خفوقٌ بنار الجوى يستعرْ نشدتكِ لا تدَّعي بالغرامِ ... ففاهِمُ أسرارهِ قد ندَرْ يضنّون في حبّهم بالقشورِ ... ولبُّ الهوى عنهمُ مستترْ وهل يتمشى الهوى في النباتِ ... وبعضُ قلوبِ الورى كالحجرْ فقالت: أما زنتَ صدر حبيبِ ... فؤادك في باقةٍ كالزُهُرْ أنا زهرةُ الوردِ رمزُ الغرامِ ... حياةِ النفوسِ وروحِ الفِكَرْ عشقتُ الطبيعة روحَ الجمال ... وحسبيَ في شمسِها والقمرْ

تبثُّ الحياةَ بهذا الوجودِ ... فتُقرأُ آياتُها في الصوَرْ وأما الغرامَ فلا ندَّعي ... وليس لنا منطقٌ للهذَرْ وأنّا علِمنا من الحكماه ... بأنَّ السكوتَ وعاءُ الدُررْ فنحن سُكوتٌ وفي صمتنِا ... لَننطقُ في معجزات السوَرْ وإذا جاَء دوري الجوابِ ... أتت هندُ في الموعد المنتظرْ فعرَّفتُ بينهما ناشراً ... لِطيِّ حديثٍ شذاهُ انتشرْ وحكَّمتُها بيننا بالرضي ... فقالت وقد بادلتني النظرْ هي الجاذبيّةُ بين النفوسِ ... تدسُّ الغرامَ بسلكِ البصرْ هي الجاذبية بين العناصرِ ... إن تَعْدُ منظومها ينتثرْ وفي عالم الزهرِ تمشي الحياةُ ... وما من شعورِ لها أو وطرْ فقلتُ: وأتى لها مثلَنا ... شعورٌ نغذّيه منذُ الصِغَرْ عشقتكِ ما فتنتني العيونُ ... ولا ثغركِ الممتلي بالدُرَرْ ولكن بنفسكِ لي جاذبٌ ... هو الكهرباءُ فأين المفرْ هو الحبُّ يحيا بروحِ الجمال ... ولا تستبيهِ الحِلي والحِبَرْ وأنتِ الجمالُ فمَنْ عاذري ... إذا لم أكن فيهِ ممن شَعَرْ فجودي على شاعرٍ بهواكِ ... بآي السني حليةً للفكَرْ فما الشعرُ دونكِ مهما علا ... بأكثر من طَللٍ مندثِرْ وذي زهرة الورد رمزُ الهوى ... أزفُّ إلى صدركِ المزدهرْ فكلٌّ تلفَّتَ بي شاكراً ... وبشَّ بصاحبهِ وافتخرْ وجاَء الضحى ناثراً عقدَنا ... إلى الملتقى في رياضِ السحرْ لبنان أحمد تقي الدين

إذا ذهب الربيع أطلتِ تدلُّلاً وأطلتُ صبراً ... كلانا باذلٌ ما يستطيعُ لقد أودعتِ قلبكِ ما بقلبي ... فضاعَ وكنتُ أحسبُ لا يضيعُ رددتِ تضرُّعي ورددتِ دمعي ... فليس يُجاب عندكِ لي شفيعُ فيا ويلاهُ من قلبٍ عصيٍّ ... يذوبُ بحبهِ قلبٌ مطيعُ ويا لهفي على أملٍ مباح ... يدافع دونه يأسٌ منيعُ ويا حزني على هذه الأغاني ... أردّدُها وليس لها سميعُ أسيدتي الرفيعةَ إنَّ روحي ... يقرّبها إليكِ هوى رفيعُ وأيام الصفاءِ وإن توانت ... يُطاردُ ركبها نأيٌ سريعُ إذا ذهب الربيعُ ولم أُمتَّعْ ... بنضرتهِ فلا عاد الربيعُ ولي الدين يكن شاعر يسلو مَن مبلغُ الغيدِ عني قصةً عجباً ... تَبكي وتَضحكُ منها الغيد في حينِ إني سلوتُ فلا هجرْ فيهدمني ... بهِ الغرامُ ولا وصل فيبنيني فلتلبسِ الغيد من نسج الضحى حُللاً ... ولتعلم اليوم أني غير مفتونِ وليُمتعِ النفسَ غيري في خمائلها ... وليقطفِ الورد من تلك البساتينِ وليَهتَصِرْها أفانيناً مُهدَّلةً ... وليجنِ رمَّانَ هاتيكَ الأفانينِ تلك الغصونُ وكم لوَّيتها بيدي ... وبتُّ أحصي جناها بالموازينِ حين المحبةُ تحت الكرم تُرضعنا ... والسحبُ ترضعُ أولادَ الرياحينِ عبد الحليم المصري

الإنشاء المترهل

الإنشاء المترهل شرح الدكتور شميل يطبع كتابه حوادث وخواطر وأتيح لنا أن نقف على مقدمته فاقتطفنا منها الكلمة الآتية في انتقاد هذا النوع من الإنشاء الذي ضاع فيه فريق من كتاب العصر قال: عنيتُ في الصيف الماضي 1912 بتقييد بعض حوادث مما مرَّ عليَّ , وتَعليق بعض خواطر مما يعنَّ لي , عسايَ أن أجد فيها ما أشغل بهِ أوقات الفراغ. وأفرّج كُرب العزلة. حتى إذا كاد الصيفُ ينقضي نشبتِ الحرب البلقانية , فوقفتُ في تلك حيث وقفت , وعلَّقت على هذه ما علَّقت. ثم ضممتُ إلى ذلك بعض ما تيسر لي العثور عليهِ من مطويٍّ لم يُنشر , ومنشورٍ مبعثر. وجمعتُ الكل في هذا الكتاب , فجاءَ من كل حرش عصا أو من كل نبتة زهرة على ذوق القارئ. وسمَّيتهُ حوادث وخواطر حوادث هي بعض مذكَّراتي في حياتي القليلة الاختلاط الكثيرة الاعتزال. إن لم تتسع للرواية فقد تستوقف بدقة التحليل؛ وإن أقفزت من القديم المأنوس فقد يكون فيها شيءٌ من الجديد الطليّ؛ وأن كثر فيها الجدُّ فقد لا تخلو من الفكاهة؛ وإن كثرت فيها المعلَّقات الخصوصية فلم أُهمِل من خلالها المرامي العمومية. حوادث لم أنقلها عن يومية مدوَّن فيها كلُّ ما كان يعرض لي كما يفعل البعض , ولاسيما الإفرنج في مذكَّراتهم , ولكنني اعتمدتُ فيها على ذاكرةٍ قلما تخونني في الوقائع , وغن كانت كثيراً في التاريخ. وخواطر هي بعض أفكاري أُطلقها تجول في ما حولي , وتمرُّ بي حتى أعماق نفسي , وتنطق عن نظري الخاصّ ولو خالفت أحكامي أحكام سواي. وإن لم أدَّعِ لها العصمة فإني أربأُ بها أن تميلَ مع الهوى ولو لَقيَتْ ما لَقيَتْ من عواصف

العواطف الغالبة حتى الساعة على أفعال سائر الناس , والمتمكنة فينا أكثر من سوانا على نوع خاصّ. حوادث وخواطر سردتها سرداً كما جاءَت غير متَّبعِ فيها نهجاً مخصوصاً. ولم أتعَّمل فيها غالباً لئلاّ يجمح بي جواد المبنى فيخرجني عن جادَّة المعنى. فهجرت الوحشيَّ الفحليَّ , ولم أقع في الحضريّ المترهّل , وتقرَّبتُ كثيراً من العامة , عسى أن تكون البلاغة في ما كان أدنى إلى تبليغ المراد. قلت الحضريّ المترهّل لأني أرى اليوم مَيلاً كبيراً للتباري في نهج من الإنشاء إن أجاد فيهِ البعض فقد قلَّ فيه المفلحون. وإن حلا في بعض المواقف فمن المُصاب ما يُغثي. يترقق فيهِ اللفظ حتى لا يكاد يغشى السمع. يطوف على الأزهار ويناجي نفوس الكواكب , ويستمطر دموع الملائكة , ويثير أشجان القلوب. ولكن يحار الجنان في فهمهِ إذا تقَّصاه إلى لبّه. فلا هو نشيد الأناشيد , ولا هو مراثي أرميا , ولا هو مصابرة أيوب , حتى ولا هو تسبيح داود على قيثارتهِ. أو هو خليط منها يتلألأ ولكن كالبرق الخلَّب. ولا يبقى من جيّده في الذهن إلا أثر النسيم على صفحات الماء , ومن رديئةِ إلا أثر الكابوس في الحالم. وشأنهُ في الحالين شأن الماس الكاذب , فلا هو حليةٌ للتنافس , ولا هو الفحم النافع باعتبار أن الماس الحقيقي فحم متبلور. كأننا لم نهجر التقعر الجاف إلا لنقع في الرقيق المائع. وبينهما ضحايا الفكَر مقتولة على مذبح هيكل العواطف الثائرة أو الذابلة. ولكم عرض لي وأنا أسمع هذا الشعر الجديد المنثور , أن تذبل عيناي , وتتدلى يداي , ويتهادى ذراعاي , كأنهما جناحان هبَّا بي للتصفيق ولكنهما هبَّا متكسرين كأني بهما الطير الواقع. وما الناس بحاجة إلى هذا التنويم المخدّر بعد ذلك أني تنزَّلت إليهم , بل أريد أني تحديثُ الأسلوب الذي ينفتح للجميع على حد سواء , بدون أن يُضطرَّ فيهِ إلى تعمُّل يوجبه التأنق في الإنشاء , كثيراً ما يذهب بجهد الكاتب , وقد يستمهل

فهم القارئ حيث يجب أن يُستحثّ , ونحن إن لم نكن في عصر بالقياس إلينا فإلى عصر بالقياس إلى سوانا الوقت فيه ثمين , عسانا أن لا نبقي مقيدين في الأغلال على الأجيال. واستعملتُ كثيراً من ألفاظهم التي تعبر جيداً عن المراد , والتي إن وجد بعد العناء في معجم اللغة ما يقوم مقامها , فقد يعزُّ حتى على الأديب مغزاه حتى يتقصاه مكانه , والمقصود من الكتابة ليس الإغلاق. كما أني أثبتُّ كثيراً من كلامهم الجاري مجرى المثل , لأن الأمثال حكمة الشعوب التي تعبر عن أحوالهم وَمجرى أفكارهم في كل أطوارهم. ونهجت نهج الأمم الراقية من متقدمين ومتأخرين , ونهج العرب أنفسهم في أبَّان حضارتهم في مستحدثات الصناعة ومستنبطات العلم , فلم أتحوّل عن مسمياتها في لغاتهم , إلاّ حيث أمنت اللبس ولم أخشَ التشويش , ولاسيما في هذا العصر الكهربائي الذي يتدفق فيه المستجد كل يوم تدفق السيل , حتى صار التحوُّل عنهُ إلى أوضاع الاجتهاد خروجاً عن المأنوس المدرك إلى الوحشيّ المغلَق , متبعاً في كل ذلك سنّة التحوُّل التي تتناول كل شيءِ في الطبيعة والإنسان في العمران , والتي لا يقوى عليها حتى ولا الجامدون المتمكنون من جمودهم مهما جمدوا. حوادث وخواطر لم أدارِ فيها ولم أحابِ , وإن أغضب ذلك النفوس التي لم تألف إلا الهدهدة. وإذا كنت أُكثر فيها الانتقاد أطلقهُ على ما حولي وأتناول بهِ حتى نفسي فلأن الانتقاد يبعث على التفكير. عسى أن يغلب علينا ما لا نحبَّ مما يُحمد فنحسَّ بفكرنا لا أننا نفتكر دائماً بشعورنا وقلما تنجح أعمال العقل إذا غلبته العواطف. ولا أخشى حملات العقلاء , فاحترام كل فكر ضروري لحياة الفكر. والإصغاء إلى كل نظر واجب. وأدفع حملات سواهم متستنصراً عليهم أبناءَهم من أصلابهم فهم الذين يثأرون منهم. يثأرون الإفراد المجنيّ عليهم والمجتمع الذي يسيئون إليهِ. وسرعان ما يكون هذا الاثئار اليوم. الدكتور شميل

نهضة اللغتين

نهضة اللغتين العربية والتركية حياة الأمم في آدابها العالية , وبيانها الخالد , بها تنهض , وتسمو , وتماشي الدهر , وبها تستعزّ؛ ولكَم من أمة كفل لها بيانُ لغتها بعثَها بعد أن طوى جهلُ حكامها صحيفة وجودها؛ وفي بعث هذه الأمم التي ناهضت الترك وتناهضهم اليوم في سهول تراقية والروملي خير دليل وبرهان , فلئن هبّ علماءُ الغرب وشعراؤه سنة 1820 لنجدة الأمة اليونانية فهم إنما أرادوا بإحيائها إحياء لغة اليونان. فقد ضمنت أقلام كتبة آثينا الذاهبين الخالدين هذا الوجود الحاضر لمن استخلفوهم على لغتهم في ديارهم. فهم بما كتبوه منذ ألفي سنة بعثوا أمة اليونان منذ تسعين سنة. للّغات كالأمم أدوار عزةٍ وانكسار , ولقد زهت لغتا العرب والفرس في أعزّ أيام دولهما؛ فكانت اللغة العربية في القرنين الثالث والرابع للهجرة في أوج عظمتها ورقيّها , وفي مثل ما نرى فيهِ اليوم لغات باريس ولندن وبرلين. فكانت تغصّ أروقة حلقات الدرس في مدنها وهي أشبه شيء بجامعات مدن الغرب الكبرى في يومنا الحاضر بمئات الطلاب القادمين إليها انتجاعاً للعلم , كما تكتظ مدارس عواصم الغرب في هذا العصر بطلاَّب الشرق , ولم أرَ أمة شذّت عن هذه القاعدة غير الأمة التركية لأسباب تضيع في شرحها وتعليلها آراءُ علماءِ الاجتماع. مرت الأمة التركية بدور عزّة وعظمة لم ينقصا في شيءٍ عن عزّة وعظمة أرقى الأمم التي مشت قبلها على وجه هذه البسيطة. فلقد جاءت عشائرها مئات من جبال الأورال في الشمال واجتمعت ملايين عند أسوار فينا. فكانت ككرة الثلج تزداد في تدحرجها ضخامة إلى أن ضعفت فاضمحلت بفعل النواميس الطبيعية , كما اضمحلت

الأمم التي تقدمتها بفعل هذه النواميس نفسها. ولقد بلغت الأمة التركية هذا المبلغ من الرقي والنهوض , ولغتها في الحضيض , لا شعر , ولا بيان , ولا آداب سامية , فكأن تلك الحروب والفتوحات جرفت الأمة كلها في سيرها إلى الموت والفناءِ. إلا أن الباحث المدقق يجد أن الأمة التركية كانت كلها منذ بدءِ الفتح تشغل مناصب السيادة الملكية والعسكرية فلا تعرّض مقاتل أفرادها على الهلاك إلاّ على قَدَر. وما كان أولئك الذين فتحوا الديار وهاجموا الأسوار إلا أبناءُ هؤلاء الأسرى الذين سقطوا في حروبهم مع الترك بين أيديهم فاعتنقوا الإسلام ووقفوا أجسامهم على خدمة الحرب , فسار أبناؤهم على آثارهم إلى أن اضمحلت أجواق الانكشارية التي قادت أعلامها خافقة إلى النصر في كل مكان فكان في استطاعة الترك في أيام عز دولتهم أحياءُ بيان لغتها وضربها على أعناق الدهر خالدةً خلود جميع اللغات التي تقدمتها والتي جاءَت وستجيءُ بعدها. غير أنه لم يكن شيءٌ من ذلك. فلقد مالت شمس عظمة تلك الدولة إلى الأفوال والغروب وشمس نهضة لغتها لم تبزغ بعد؛ وهذا الحادث الغريب , الشاذّ , من أغرب الحوادث التي يسطرها التاريخ في صحائفه لأبنائه الآتين. بدأت نهضة اللغة التركية الحديثة منذ خمسين سنة مضت فأخذت ترتقي وتنمو برغم الحوائل التي حالت دون نموّها في الثلاثين سنة التي مرَّت بها من حكم عبد الحميد. فكتب أدباؤها , وترجموا جلّ مؤلفات كتّاب الغرب وعلمائهم في العلوم والفنون , والشعر والأدب. وساعدهم على ذلك وجود حكومةٍ لهم منهم تمدّهم بعضدها , ومدارس في كل نوع من أنواع العلوم. في العلوم الحربية والبحرية , وفي التاريخ والحقوق والاقتصاد وعلوم التجارة والزراعة , فامتلأت مكاتبهم بآثارهم وأخذت لغتهم في الزهو والإشراق , والحكومة في أحرج أدوار حياتها تنتقل من انكسار إلى انكسار , ولعلّ السبب في إقبالهم على النهوض بلغتهم في هذا الدور والعصر هو الانتفاع بها كسلاح لمقاومة الفناءِ. فاشتغلوا بإحياء اللغة لفوائدها

لا لذاتها , كما فعل غيرهم من الأمم. فقد انصرف العرب عن الاشتغال بالمُلك إلى الاشتغال بالأدب , وانصرف الترك إلى الاشتغال بالأدب , طمعاً باستبقاءِ المُالك. ولقد ماشيت اللغة التركية في فروق خمسة أعوام رأيتها فيها سائرة بقدم الجبّار إلى الانتشار والاعتزاز , فعمل لها أبناؤها في خمسة أعوام مثل ما عمل لها آباؤهم في خمسين سنة إن لم أقل أكثر. وكفاني دليلاً على اتساع الحركة الفكرية في الآستانة أن أقول أن عدد مطابعها بات أربعة أضعاف ما كان عليهِ منذ خمسة أعوام. وإن أجرة المرتّب التي كانت لا تتجاوز خمسة عشر غرشاً مرَّ عليها دور بلغت الستين غرشاً في اليوم. وقد رأى أدباءُ الترك أن لا مفرٌ لهم من إنشاءِ نادٍ يجمع شتاتهم , يشتغلون فيهِ بإيجاد الألفاظ ونحت المعاني وبعث اللغة , فانشأوا نادياً لهم أطلقوا عليهِ اسم فجر آتي لم يَخلُ من فائدة في نهوضهم فكان غرَّة مطلع ذلك الفجر. وعملوا مجدّين في ما أرادوه فكانت هذه الأعوام الخمسة التي مرَّت بهم سنوات بركة وإسعاد في اللغة فقط. وإذا نظرنا إلى كتَّاب اللغتين العربية والتركية في هذه السنوات الأخيرة نجد الآخرين أغزرَ مادة , وأصحّ سنداً , وأقوى بياناً. ليس مَن ينكر نهضة الآداب العربية الكبرى منذ الربع الأخير من القرن الماضي إلى هذا اليوم؛ فلقد بلغت دولة الشعر والأدب فيها مبلغ أزمانها الراقية في أيام العرب الأولى الزاهرة , إلاّ أن الحركة العلمية وما يلحقها لا تزال ضعيفةً من كل وجه , فكتب التاريخ والعلوم قليلة لا تروي ظمأ الوارد , ونظام العمل على النهوض بها مفقود , فكم من كتاب ثمين بدأ ذووه بهِ وطووه. وهذه مجلدات دائرة المعارف وكتاب آثار الأدهار لا تزال تنتظر أناساً يكملون ما بدأ بهِ السلف الصالح. ففي مصر وسوريا والعراق حركة أدبية كبرى اليوم لا نظام لها ولا رابطة تربط ذويها , على أن حصولها سهل , وإحداثها غير بعيد المنال. وفي نظارة المعارف

عهود الغادات

رجل كحشمت باشا دلّت سوابق أياديهِ على اللغة العربية على أن يديه لا تنكمشان عن مساعدتها. ففي قليل من عناية أمراء هذه النهضة يُحقق الأمل ويتم الرجاء. وأول حلقة من حلقات هذا النهوض إنشاء ندوة للمشتغلين بالأدب يسنّ لها نظام يربط أبناءَه في مصر وسوريا والعراق حتى والمهاجر الأميركية. فتكون هذه الندوة أشبه شيءٍ بغرّة الفجر الآتي العربي , ونجمة هذه اللغة التي تهدي بنيها إلى أفضل السبل للنهوض العربية ففي تنظيمها وتسييرها في سبلها خير ضامن لها بالبقاء. فإلى العمل والنهوض أيها الأدباء مصر إبراهيم سليم نجار عهود الغادات صديقتي العزيزة أنيسة إليك مني هذا النبأ الغريب. أنه لنبأ غريبو لأنهُ كان في اعتبارك واعتباري غير محتمل الوقوع. ولكن صدق القائل لا مستحيل على وجه الأرض. تودّين أن تعرفي هذا النبأ في الحال. ولكني أقول لكِ أحزريه. ربما تظنين أني صرت غنياً عظيماً كأني اكتشفت كنزاً , تحسبين أن الحكومة عينتني وزيراً , أو غير ذلك من الأمور الغريبة. ولكن أمثال هذه الأمور وإن تكن غير منتظرة أقرب في اعتبارك واعتباري مما سأقوله لكِ , لأنكِ لن تحزريه. وليس ذلك لأنهُ لا يحدث مثله كلَّ يوم وكلَّ ساعة بل لأنهُ كان عندنا غير محتمل الوقوع. أقول لكِ بلا تطويل في المقدّمات أن أمينة قاطعتني , وكنت أود أن أراكِ وأنتِ تترددين في تصديق هذا النبأِ , بل أن أرى دهشتك وقد تحققتِ صحته لأشاهد أبلغ حالة من حالات الانذهال والتعجب. ولكن لا صبر لي على كتمان هذا

الحادث عنكِ إلى حين اللقاء. نعم أن أمينة نسيت أو تناست ذلك الحبَّ الشريف الشديد المتبادل الذي كان يربط روحينا برابطٍ كنتُ أظن أن ما من قوة في الوجود تقدر على قطعة حتى ولا الموت. فهل تصدقين هذا النبأ. أنتِ صديقتها الحميمة ومستودع سرّ فؤادها. أنتِ التي طالما رأت الوجد يُسيل من مآقيها العبرات , وطالما سمعت الهوى يصعّد من صدرها الزفرات , وطالما رنّت في آذانك أقسامها المغلظلة بأن أتوس هو حبيبها الوحيد الدائم , وأنها إنما بحبه تحيا. أنتِ التي تعرفين كلَّ ذلك. هل تصدقين أنني صرت لديها كغريب , كأنَّ لم يكن شيء مما كان. نعم هكذا حصل والأدهى أنها لا تريد أن تقدم سبباً لهذه المقاطعة سوى إن هذا الحب لا حاجة إليه ولا فائدة. لكَم قلت لها - وأرجوكِ عذراً وصفحاً - إن قلوب النساء متقلبة , وإنها بقدر تسرُّعها في الميل تتسرع في الانحراف؛ فكانت تقول لي لستُ من تلك النساءِ إن حبي لكِ لهو دمي الذي يجري في عروقي؛ فحياتي هي البرهان على دوام وجوده. وها هي الآن تحيا وتزداد يوماً عن يوم عافية ونضارة. يقولون أن جسم الإنسان مجموعٌ مؤلف من خلايا حيوية صغيرة جداً دائمة الفناء والتجدد. فهل تظنين أن هذا الناموس الطبيعي - أي الفناء والتجدد - يغيّر هوية الشخص فيصيّره اليوم غير ما كان منذ سبع سنين. إن أميال النفس المختلفة - وسيدها الحب - لا توجد في الإنسان عفواً , بل لا بدَّ لها من سبب. ولا أنكر أن هذه الأميال تتغير أو تضمحل , ولكنها كما وُجدت بسبب , فزوالها يجب أن يكون لسبب أيضاً , وبقدر ما يكون الميل شديداً , يكون سببه عظيماً. فزوال هذا الميل الشديد يقتضي أن يكون سببهُ عظيماً أيضاً. فهل تستطيعين أن تستخرجي لي من أعماق صدرها سبب هذا الانقلاب العظيم

أنتِ تعرفين تاريخ حبنا كلهُ وتقدرينه قدره من الاعتبار لأنهُ حبٌّ روحي كنا بكل جرأة نباهي بهِ ونفاخر. ولكني لا أعلم إذا كنتِ تعرفين كيف نبت هذا الحبّ ونما , فاعلمي يا أنيسة أنني أنا الذي كنت ضحية هذا الحب بلا ذنب. كنت يوماً أتنزه مع نسيبةٍ لي , فالتقينا اتفاقاً بأمينة تتنزه مع قريب لها , وكان بيني وبين تعارف سابق , وبينها وبين نسيبتي مثله , فتبادلنا التحيات واجتمعنا نتحدث في شؤون مختلفة , فما انتهت جلستنا حتى شعرت بأني نزلت من فؤاد أمينة منزلاً حسناً. ثم تلاقينا فمدَّت إليَّ يد التوّدد , فمددت لها يد الترحاب , وكل منا يعجب بسجايا الآخر , وهكذا نما الحب واشتد وتمكن مني. لم أتعشقها من نظرة كما يقولون , ولا سعيت في جذب قلبها نحوي بالنصبي , وهي خالية الذهن مني , ولا سبقتها ببث الحب. بل لطالما عملتُ على إطفاء ما كان يتقد في نفسها من الشغف بي اتقاءً لمبادلتها هذا الوجد خشية أن تنقلب عليَّ يوماً , ويكون ولعي بها قد أزمن , فلا يبقى إلى الشفاء سبيل فأشقى وتسعد , وأتألم ولا تبالي؛ ولكنها كانت قادرةً , فلقحت دمي بمكروب هواها , وتركتني هازئة , ولسان حالها يقول: أشفَ أن قدرت. هل أقول أن مظاهرها تلك كانت تفنناً في اختلاب الألباب واستهواء العقول. إنكِ لا توافقيني على هذا القول , وأنا لا أجسر على الجزم بهِ. إنكِ تعرفين منها أنَّ حبها كان حقيقياً كحقيقة وجودها , ولكن يمكنني الآن أن أكرر قولي لكِ - ولو ساءَك - أكرره ولا أقبل فيهِ جدالاً , ولا بضده اقتناعاً أن قلب المرأة سريع الميل سريع الانحراف. أن حبّ المرأة فجائي الحدوث فجائي الزوال ولعلها في هذا الخلق أسعد حظاً من الرجل , فلا تأسف على هناء ضاع ولا تذكر حباً كان , في حين أن ثبات الرجل في حبٍ لا أمل له فيه ولا عزاء , إنما هو كل الشقاء. أن الراويات الموضوعة التي تمثل وفاء المرأة وخيانة الرجل في الحب , إنما هي

تخيلات يٌقصد بها التأثير على طبع المرأة الفطري لجعلها وفية ولو خانها الرجل , ولكن عبثاً يتعب هؤلاء القصاصون. لقد أطلتُ القول وأنتِ تنتظرين أن تعرفي كيف صارت هذه المقاطعة. نعم , وإليك البيان: تعلمين أنا كنا نتقابل ونتكاتب , فزرتها يوماً فوجدتها غائبة عن منزلها , فكتبتُ إليها فلم آخذ جواباً , فكتبت ثانية فجاءَني منها الكتاب الآتي نصهُ: 10 ابريل حضرة الفاضل الكريم المحترم تشرفت بكتابيك الأول والثاني , المؤرخين في 7و9 الجاري , وها أنا أجاوب حضرتك عليهما معاً , فأقول: لقد رأيت بعد التفكر الطويل أن علاقتنا القديمة لا حاجة إليها ولا فائدة منها؛ ولذا أرجوك أن تعذرني على عدم تمكني في المستقبل من مكاتبتك ومقابلتك , بيدَ أني أبقى ذاكرة على الدوام مكارم أخلاقك وحسن شمائلك؛ ولا أزال اعتبر نفسي الصديقة المخلصة. أمينة دهشت من هذا الكتاب , ولم أفهم ما أقرأ لأول وهلة , فكررتُ القراءة على مهل , ويداي ترتجفان , وعيناي تحدقان في هذه الحروف المرسومة , لعلي استنتج من أشكال رقمها حالة الانفعال النفسائي التي كانت أمينة عليها عند كتابتها؛ فوجدتها متناسقة جميلة , على أحسن ترتيب , مما يدلُّ على أن الكاتبة كانت على أتمّ ما يكون من الرواق والارتياح؛ وجعلت أفسر هذا الكتاب الوجيز كما يفسرون طلمساً مبهماً , فأخذ تفسيره عندي ما لو كتب لملأ مجلداً. صرت بعد العزيز والحبيب حضرة الفاضل الكريم المحترم نعم ما دام أن قلبها قد انقلب , فقد صار حبنا لا حاجة إليه ولا فائدة منه. على أنهُ قد كان ذا فائدة , وإليه حاجة فيما مضى , قد كان الدم الذي بهِ تحيا. والمرء يحب الذكرى اللذيذة؛ فأخذت مجموعة رسائل أمينة وجعلت أقلب في

صفحاتها , فوقع نظري للحال على كتاب سأنقل إليكِ بعضاً منهُ. قالت: الوقت الآن نصف الليل. الناس نيام والطبيعة هادئة ساكنة. لا صوت , ولا حركة. لم أستطع النوم فقمت إلى الحديقة لأناجيك. جلست على المقعد وتخيّلتك واقفاً بجانبي ترنو إليّ بتلك النظرات وتبسم لي. نسيم لطيف يمرّ إليك قولي أحبك دائماً. تنشق هذا النسيم فإن روحي صائرة معه إليك. ولا يخلو كتاب من كتبها من مثل هذا المعنى قلت لها مرة؛ بل غير مرة: يا أمينة تحدثني نفسي بأن حبك هذا لا يدوم , ويا لشد ما أخشى زواله , فقالت: بل يدوم إلى الأبد. قلت: اسمعي. لا ينشأ الحب عبثاً , بل لابد أن يكون في المحبوب مزية أو مزايا راقت في نظر المحب فأب صاحبها , وإذا كنتِ قد رأيت بي مزية تحبينها , فلست متفرداً بها وحدي , بل أنها توجد في غيري , وربما بصورة أعظم وأجلّ. وقد يوجد من يتخلى بمزايا ومحاسن متعددة , والقلب يميل إلى الأفضل. قالت لقد رأيت كثيراً ولم أرَ مثلك. قلت سترين في المستقبل. قالت لن يوجد مثلك أبداً. راجعت ضميري فلم أجدني أتيت سبباً يوجب هذا الانقلاب. وأنت تعلمين أنها حرّة بفؤادها وسلوكها , فالسلطة الأدبية لا تؤاخذها على حبها هذا الشريف ولا سلطة شرعية عليها تحول دون استمراره وإعلانهِ. فليس إذاً هنالك سبب خارجي دعا إلى هذا الانقلاب والسبب منها ولا شك. فما هو؟ لقد صح إنذاري. ورأت من هو أفضل مني حاولت الجمع بين حبين , ولكن غيرة الحبيب الجديد قطعت صلة الحبيب القديم. هي تظنني أجهل هذا السبب فدعيها مطمئنة إلى ظنها. . . هنيئاً لها. . .! أنوس

ثمرات المطابع

ثمرات المطابع دليل لبنان وسوريا - صدر الجزء الأول من هذا المؤلف الذي يهتمُّ بوضعهِ حضرة الكاتب الفاضل الشيخ بولس مسعدو وقد تناول فيه البحث جغرافية سوريا الطبيعية والاقتصادية والسياسية وما يتعلق بتجارة تلك البلاد وصنائعها وفنونها وأديانها وطوائفها ولغاتها وحضارتها إلى غير ذلك من الأبحاث التي تدلّ على اجتهاد عظيم وتنقيب كبير لجمع المعلومات والمستندات اللازمة وإبرازها في أحسن قالب والكتاب مقدم إلى دولة الأمير محمد علي باشا شقيق الجناب العالي الخديوي الذي عرف السوريون قاطبةً أياديه وأيادي الأسرة العلوية عليهم وعلى بلادهم. ولا نشك في أن الإقبال سيكون عظيماً على هذا الكتاب لاسيما في مطلع فصل الصيف حيث يكثر عدد مرتادي لبنان وسوريا انتجاعاً للعافية فيجدون في دليل لبنان وسوريا كل ما يبتغون من الفوائد عن البلاد التي يقصدونها. وقد اهتمَّ الأجانب كثيراً بوضع مثل هذا الدليل لبلادهم تشويقاً للسائحين وتسهيلاً للمسافرين. فلم يكن بدٌّ من تأليف مثله عن لبنان وعدد المصطافين فيه يزداد عاماً فعاماً. فنشكر لمسعد أفندي خدمته هذه ونثني على جده ونشاطهِ. الترجمان الطلياني - عنيت إدارة المكتبة العمومية المشهورة بما لها من الآثار الطيبة في عالم المطبوعات بوضع هذا الترجمان الطلياني باللفظ العربي , فجاء شاملاً وافياً بالغرض المقصود. وهو مصدَّر بملحوظات مفيدة عن اللغة الطليانية وكيفية النطق بحروفها , يليها معجم وافٍ في مفرادتها مرتبة حسب المعاني , ثمّ فصول عديدة للتخاطب في مواضيع متنوّعة. وقد وُضع بعد كل كلمة أو جملة معناها العربي وكيفية التلفُّظ بها بحروف عربية حتى أنهُ ليسهل على الراغب في اللغة الطليانية أن يتعلّمها وحده لفظاً وفهماً بدون مساعدة أستاذ.

الحفلة الإكرامية

الحفلة الإكرامية لخليل أفندي مطران حُيّيتَ يا وطناً القلوبُ إلى ... أرجائهِ وبهِ الأرواحُ تغبطُ شمسُ المعارفِ في علياهُ جامعةٌ ... أطرافَهُ وهي فيما بينها وَسَطُ ففي ذرى الأرْزِ حبلٌ من أشعَّتها ... يُلقى وحبلٌ على الأهرام منبسطُ إبراهيم اليازجي في الحفلة التي أقامتها مجلة سركيس في الرابع والعشرين من الشهر الماضي , احتفالاً بالأنعام على خليل أفندي مطران بالمجيدي الثالث , تجلَّت هذه الشمس بأجلى مظاهرها , وألقت من قرصها الذهبي المتقد أشعة الحبّ والوئام والصفاء على مصر وصوريا اللتين كان يمثلها في دار الجامعة نخبة الأدباء والفضلاء والوجهاء في القطرين الشقيقين.

المحتفَل بهِ رجلٌ عرفهُ عشراؤه بالمرؤة ودمائه الخلق وسعة الصدر وعفة اللسان والوفاء للصديق , فأحبه الجميع. وكأن الشاعر عناه بقوله: إذا كنتَ من كل الطباع مركّباً ... فأنتَ إلى كل القلوب حبيبُ هذه بعض صفات الرجل؛ أما الشاعر الذي في بُرْدَي خليل , فقد عرَفتهُ النفوس خلاَّباً ساحراً , والأفئدة محرّكاً مستفزّاً. شهدت له بكلّ ذلك نبضات قلوب قرَّائه , كما شهد له إخوانه في الأدب بقوَّة بيانه , وذكاء جنانه , فاسمع ما قالوا فيه في تلك الحفلة , وشهادة مثل هؤلاء حجة. قال حافظ بك إبراهيم: قد سمعنا خليلكم فسمعنا ... شاعراً أقعد النهى وأقاما وطمعنا في شأوهِ فقعدنا ... وكسرنا من عجزنا الأقلاما نظمَ الشامَ والعراقَ ومصراً ... سلكُ آياتهِ فكان الإِماما فمشى النثر خاضعاً ومشى الشع ... رُ وألقى إلى الخليل الزمانا فعقدنا له اللواَء علينا ... واحتفلنا نزيدُهُ إكراما وما أبلغ هذه الشهادة إذا جاءت تزكيتها من حفني بك ناصف القائل: يا شعر مطران لعب ... تَ بلبّنا ونفثتَ سحرَكْ للهِ ما أحلاكَ يا ... سحرَ البيان وما أمرَّكْ إن ملتَ يوماً للثنا ... ءِ نثرتَ في الأسماعِ دُرَّكْ وإذا استفزَّك عابثٌ ... يوماً كفانا اللهُ شرَّكْ وإذا هويتَ خلبتَ مَنْ ... تهواهُ واستنزلتَ بدركْ وقال نقولا أفندي رزق الله: تأمّلْ كرافائيلَ وارسمْ فهذهِ ... أمامَك دنيانا وأنتَ المصوِّرُ

صفِ الجوَّ والأفلاكَ والأرضَ والسما ... وما تُظهِرِ الأيامُ منها وتُضمرُ ترنّم ببتِ الشعرِ تُنعِشْ نفوسنا ... فنحنُ ومن في الشرقِ نُصغي ونكبرُ وقال نعوم بك شقير: ويبدو كما شاَء في شعرهِ ... فطيرُ الأراكِ وليث الأجمْ إذا رامَ ذمّاً فجمرُ الغضى ... وإن رامَ مدحاً فزهرُ الأكَمْ فقلتُ: أشاعرُ هذا الزمانِ ... خليلٌ؟ فقال الزمانُ: نعمْ! وقال أحمد أفندي نسيم: قوافٍ , لو أنَّ الحسنَ صاغَحروفها ... بعقدٍ , لكانت لؤلؤاً وزبرجدا ولو سمعتها الطيرُ في وكناتِها ... لقالت هديل الشعرِ عاد وغرَّدا ففي شعرهِ روحُ المهلهلِ تارةً ... وآوانةً روحُ الوليدِ إذا شدا وقال أسعد أفندي داغر: أمير القوافي الذي صيتُهُ ... كشمسِ الضحى عمَّ تسيارهُ فرنّت قصائدُهُ في العراقِ ... وجابت تهامةَ أشعارُهُ وفي مصر ديوانُهُ عامرٌ ... ورهط البلاغةِ نظّارُهُ كل هذه الشهادات الثمينة سجَّلها لمطران أستاذُ الشعر في هذا العصر إسماعيل باشا صبري إذ قال: قلمٌ تصدرُ الحقائقُ عنهُ ... حالياتٍ في أجملِ الأبرادِ ولسانٌ يمسي يُدّبرُهّ فك ... رٌ كبيرُ النهى كبيرُ المرادِ وكان رئيس الحفلة وهلالها الساطع دولة الأمير الخطير البرنس محمد علي باشا شقيق مليك مصر , فجاءت شهادته لوحدها جامعةً لشهادة الأدباء

والأصدقاء , والشعراء والقرَّاء فقال من خطبته النفسية: ولقد سمعتُ منذ زمانٍ طويل بشهرة ذلك الشاعر الطائر الصيت , فاتهجتُ بما وصل إليَّ من أفكاره السديدة التي تنبئُ عما هو عليهِ من علوٍّ في الهمة , وثبات في الرأي , ووفور في العلم. ولم يكن إعجابي بهِ لما أوتيهِ من المواهب الجليلة في دولة العلم فقط , بل لما تحلّى بهِ أيضاً من الأخلاق الكريمة التي تحمله دائماً على سلوك طريق الاستقامة , وتباعد بينه وبين التحقير للغير , حتى صار بذلك محبوباً مرموقاً بعين الإجلال والاعتبار , متأهباً لنيل المجد والفخار. . . ولستُ أدَّعي أن أقدّم لقراء الزهور في بضع صفحات كل ما قيل في هذه الحفلة النادرة وقد كلَّف سركيس جمعُهُ مئة وستين صفحة من مجلتهِ , ولا أن أصف في سطور قلائل ما شهدتُ ورأيت في دار الجامعة وقد تقصر عن ذلك الصفحات الطوال. غير أنه لا يسعني إلاَّ أن أخصَّ بالذكرِ إخواننا أُدباء لبنان وسوريا , فإنهم أحبوا اغتنام هذه الفرصة لأحكام الروابط الأدبية لمتينة التي تربط الأمتين , فأوفدوا أدبيهم الكبير وشاعرهم البليغ شبلي بك ملاَّط ليمثلهم في هذه الحفلة , فقام بمهمتهِ خير قيام , وأنشد قصيدة عصماءَ اهتزَّ لها السامعون طرباً , كما يحقُّ لموفديهِ أن يهتزُّوا لها عجباً , وقد أكرمت مصر في شخصهِ الكرم أدباءَ المصريين للضيوف الأدباء حدّث ولا حرج. . . . أعود إل الحفلة فأقول: وقد أراد فريقٌ من أصدقاءِ خليل مطران

والمعجَبين بهِ أن يقدّموا له شيئاً غير الشعر غير الشعر الثمين والنثر الغالي؛ فأهدت إليهِ السيدة النبيلة مدام تقلا باشا والدة صاحب الأهرام ديوانه مجلداً في غلافٍ نفيس من الفضة المحلاَّة بالذهب فكانت الهدية غايةً في الذوق اللطيف , وأهدي إليهِ سعادة عبد الله باشا صفير قلماً ذهبياً , رمزاً إلى التبر الذي يسيل من قلم الشاعر , وقدَّم إليهِ عزتلو حبيب بك لطف الله النيشان المجيدي المنعم عليهِ بهِ. وحمل إليه مندوب سوريا من سعادة سليم بك أيوب ثابت ساعةً ذهبية جميلة. وأهدت إليه السيدة الفاضلة لبيبه هاشم صاحبة مجلة فتاة الشرق أبياتاً من الشعر في إطار جميل كتبتها بخطها الظريف. وقدَّمت له الكاتبة الشهيرة الآنسة مي باقةً جميلة - في شكل خطبة غراء - جمعت أزهارها من رياض الخيال , ورياحينها من حدائق الشعور , فعطَّر شذاها الأرجاء وأنعش الأرواح. هذا بعض ما جمعتُه لقرائي عن تلك الحفلة التي تحدَّثت بها أنديتنا ومجتمعاتنا الأدبية كل هذه الأيام. أما صديقي سليم سركيس فكل ثناءٍ عليهِ يظلُّ همته وتفانيه وكفاه بنجاح فكرته مدحاً وتقريظاً. ولئن كان الخليل أهلاً لكل ثناءٍ قيل فيه فإن السليم الذي كان زنبلك كل هذه الحركة يستحقّ أيضاً حظّاً وافراً من الثناء. وقد بتنا نتوقع له نصيباً من إنعامات أمير النيل لنعقدّ له حفلة لم ترَها عين , ولم تسمع بها إذن , ولا خطرت على قلب بشر.

عصا حافظ وجزمة الشميّل حافظ إبراهيم وخليل مطران يشتغلان الآن معاً بترجمة كتاب علم الاقتصاد للكاتب الفرنسوي ليروى - بوليو؛ فتراهما يروحان ويجيئان بين المكتبة والمطبعة , ويبحثان وينقّبان عن لفظةٍ عربية تؤدّي معنى الاصطلاحات الأفرنجية. وليس ذلك دائماً بالأمر السهل؛ وسأعود إلى زيارة التفصيل عن هذه المساًلة في جزءٍ آتٍ. ولم أذكر اليوم كتاب علم الاقتصاد إلاّ عَرَضاَ فقط , لأنهُ جمعني في 6 أبريل الماضي بأحد نصفي المعرّب حافظ بك إبراهيم , فلمحتُ في يدهِ عصا عليها شارةٌ نُقِشَ فيها تاريخ إهدائها إليهِ , فإذا هو 6أبريل 1907. اتفاقٌ غريب! وأغربُ منهُ أن تلك العصا قد رافقت حافظاً ستة أعوامٍ كاملة , سلمت فيها من البيع والرهن والسرقة. عجباً له فظ العنانَ بأنملٍ ... ما حفظُها الأشياَء من عاداتها ولعلّي أدركتُ السرَّ في بقائها , فهو يهشُّ بها على غنمهِ ولهُ بها مآرب أُخرى: فبها يضربُ القوافي فتتفجّرُ لَهُ سحراً حلالاً , كما كان موسى يضربُ بعصاهُ الصخرَ فيتفجّرُ لهُ ماءً زلالاً. أو لعلَّ عصا حافظ لها منزلة من نفسهِ كمنزلة جزمة الدكتور شميّل , وقد أودعها كلّ ضروب الفلسفة. وحكاية هذه الجزمة أنني زرتُ يوماً الدكتور الحكيم برفقة رهطٍ من الأدباء , فوجدناه في غرفة عيادتهِ جالساً إلى مكتبهِ , وهو في ملابس البيت؛ فحادَثَنا وحادثناهُ مدةً؛ ثم اشتدَّ الجدالُ على مسألةٍ من المسائل , فقال الحكيم هازلاً دعوني أشدّ جزمتي , فأكون أقوى حجةً , وأكثر استعداداً للمناقشة قال , ونهض إلى مخدعهِ , وعاد على تمام الأهبة بعد أن شدَّ جزمتهُ , فقلت له: قد أدركتُ سرَّك يا حكيم , وعرفتُ مواطن الضعف فيك , فإنَّ منزلة هذه الجزمة

من كل حديقة زهرة

منك منزلة شعر شمشون منهُ , فضحك الشميّل ضحكتهُ المعتادة , فزدتُ جرأةً وقلت: متى اشتدَّ تقريعك لنا في جلسات سبلندد بار سنعمد إلى جزمتك , وننزعها من رجليك , فندعك أعزل بلا سلاح. . .) أما وقد عرف القرَّاءُ سرَّ حافظ والشميّل , فلينزعوا من الأوَّل عصاه , وليسلخوا من الثاني جزمتهُ , إذا أرادوا أن يستريحوا من فلسفة هذا وشعر ذاك. على أنني أخشى , وقد بحتُ بالسرّ , أن يتحوَّل القراءُ إلى جزمجية وحطّابين , حتى يتمتعوا طويلاً بذلك الشعر الرّيق , والنثر الشيّق. حاصد من كل حديقة زهرة ابتدع أحد الأطباء الأميركان طريقةَ لخدمة المرضى , وهي أنه رَّبى كثيراً من الحمام الزاجل وجعل أوكار هذا الحمام إلى جانب صيدليته. فإذا ما دُعي لمعالجة مريض , حمل معه بعض الحمام فيكتب الوصفة , ويعلّقها بعنق الحمامة , ثم يُطلقها إلى الصيدلية , فيتناول الصيدلي الوصفة , ويركّبها , ويرسلها إلى المريض مع راكب درَّاجة. دعا مدير سجن سنت كوانتن في سان فرنسيسكو الممثلة سارة برنار لتمثل أمام 1900 سجين في ملعبٍ أقامه في فناءِ السجن. وبعد التمثيل ناط المسجونون بواحدٍ منهم تلاوة خطاب باسمهم وجَّهوه إلى الممثلة الشهيرة. وحدث في سجن ريفرهرد أن سجينة شكت مدير السجن لأنه يعاملها معاملة سيئة. فأظهر التحقيق أن السجَّانين يقيمون حفلات رقص وغناء داخل السجن للنساءِ والرجال , فالسجَّانون ومديرهم كانوا يفضّلون الرقص مع الفتيات الأصغر عمراً من الشاكية التي أربى عمرها على الخامسة والأربعين.

وأنشأ الأميركان في نيويوك سجناً للأزواج المطَّلقين الذين يأبون دفع النفقة لنسائهم جعلوه نادياً يلعب فيه المسجونون ويأكلون ويستحمون ويتعاملون كأنهم في أحد لاندية. وقد دلَّ أحصاءُ السجون الأميركية وميزانيتها على أن هذه الحكومة تنُفق على السجين من هؤلاءِ في كل عام 18500 فرنك. يعرفُ علماءُ الفراسة أخلاقَ الإنسانِ من أسرَّةِ وجهه وتقاطيع رأسه. ويعرفُ فريقٌ منهم هذه الأخلاق والأميال والأهواءَ في الإنسان من خطوط يدهِ. وقد ظهر في أوروبا مذهبٌ جديدٌ , وهو أن الإنسان يُعرَفُ من تركيب رجلَيهِ وقدميه. وأصحاب هذا المذهب يقولون الرِّجْلُ هي الرَّجُلُ واشتهرت الكونتس دي روشفو كولد في ذلك وألفت في هذا الفن كتاباً. سنّت ولاية ايلينوا الأميركية قانوناً للصحافة يقضي بالاّ يُسْمح لأحدٍ بتعاطي الحرفة الصحافية في تلك الولاية دون أن يكون حاملاً الشهادة بذلك بعد أن يقضي أربع سنين في تلقي هذا الفن. ولا يعطي الشهادة إلا إذا امتُحِنَ أمامَ لجنةٍ تثبّتُ قدرتهُ وأدربهُ وطيب أخلاقهِ. ومن راسل جريدة دون أن يكون حاملاً الشهادة يغرَّم من دوار إلى خمسة دولارات وتغرَّم بمثل ذلك الجريدة نفسها. سئل كثيرون من كبار الفرنسويين رأيهما في تخويل المرأة حق الانتخاب كالرجل؛ فكانت الغالبية من المنكرين على المرأة هذا الحق. ولكنَّ فريقاً منهم استثنى من ذلك المرأة التي لا يمثّل عائلتها أحدٌ في الانتخاب. فهذه تخوَّلُ حقَّ الانتخاب. أما المتزوجة فيرى أن زوجها ينوب عنها أمثال الصينيين في الزواج أن الزواج قلعةٌ محاصرة: من كان خارجاً عنها , يودُّ الدخول إليها؛ ومن كان فيها , يودُّ الخروج منها

العدد 35

العدد 35 - بتاريخ: 1 - 6 - 1913 معاهد التعليم في مصر وقعت إلينا نسخةٌ من كتاب الإحصاء السنوي العام للقطر المصري وهو الكتابُ الذي أخذتْ تنشرهُ منذ أربع سنوات إدارة الإحصاءِ الأميرية. فوقفنا فيهِ عند الفصل الذي يبحث في المدارس وما يتعلَّقُ بها , لأنَّ الأذهان منصرفة في الآونةِ الحاضرة إلى معاهد التعليم؛ وأفكار التلاميذ ووالديهم حائمةٌ حولَ الامتحانات التي جرت أخيراً لنيل الشهادتين الابتدائية والثانوي؛ والجميع يتسقَّطون أخبار النتيجة النهائية , إذ أن مستقبل الفريق الكبير من الناشئة متوقفٌ على تلك النتيجة. طالعنا الفصل المذكور مرتاحين إلى ما أظهرتهُ لنا الأرقام الموجودة فيهِ من دلائل التقدُّم والتحسين المستمرّ في معاهدنا العلمية , من حيث ترقيها وازدياد عددها , وتكاثر الطلاَّب المقبلين عليها. وقد طالما سمعنا في المدَّة الأخيرة إطناباً جماً في ارتقاءِ المعارف في ربوعنا , وثناءً وافراً على

النهضة الأدبية في مصر , على أننا لم نرَ , للدلالة على هذه النهضة وذلك الارتقاء , أبلغ برهاناً وأنصع بياناً من الأرقام التي جمعناها عن مدارسنا وعددها وعدد أساتذتها وتلاميذها؛ وها نحن نعرض على القراء نتيجة بحثنا على الصورة الآتية: نوع المدارس عددها عدد أساتذتها تلاميذها مجموع التلاميذ مدارس الحكومة 70 1014 14222 751 14973 مدارس الأوقاف 19 977 17877 182 18059 مدارس مجالس المديريات ومدارس تساعدها الحكومة 74 646 7501 1741 9242 مدارس حرّة 428 2510 45996 10527 56523 كتاتيب الحكومة 146 507 9901 5268 15169 كتاتيب حرّة 3556 7414 191687 18758 210445 مدارس أجنبية 479 2769 33591 21074 54665 المجموع 4772 15837 320775 58301 379076 فيؤخذ من هذا الجدول أن عدد المدارس في القطر المصري بين أميرية وحرّة , وأهلية وأجنبية , يبلغ 4772. وفيها الكتَّابُ والمدرسة الثانوية والابتدائية , والمدارس الصناعية , والمدارس العالية للطب والحقوق والزراعة والتجارة الخ. ويبلغ عدد المختلفين إليها 379. 076 تلميذاً وشاباً يردون فيها موارد العلم الصافية , ويستقون منها مناهل الآداب العذبة , حتى تنمو في صدورهم ثمار المعارف والفضيلة , فيكونوا لبلادهم وأمتهم فخراً ومجداً.

هذا عدا الذين يتلقون العلم في جامعات أوربا وكلياتها الكبرى سواء كان في أرساليات الحكومة , أو على نفقتهم الخاصة , وليس هؤلاء بالعدد القليل. وبمثل هذا الجيش من الطلبة والشبيبة المتعلمة يتعزّز مقام الأمم , وترفع رايتها , ويزداد عمرانها وفلاحها. أما عدد الأساتذة فقد بلغ 15. 837. وكفانا لبيان خطورة المهمة الملقاة على عاتقهم أبراد ما قالهُ بسمرك داهية الألمان أثر انتصارهِ على فرنسا في حرب السبعين: أننا غلبنا جارتنا بمعلم المدرسة. فعلى الحكومة والحالة هذه أن تمهد لبلادها سبل الانتصار في معترك هذه الحياة بانتقاء أساتذة المدارس الأميرية من نخبة الرجال أدباً وفضلاً وعلماً , وأن تعني بوضع قانونٍ يضمن توفر هذه الشروط في أساتذة المدارس الحرَّة. ومما يراهُ القارئ أيضاً في الجدول الذي قدّمناهُ أن للأجانب 479 مدرسة في القطر المصري يدرس فيها 54. 665 طالباً وطالبة. وهذا العدد هو تقريباً سُبْعُ مجموع التلاميذ في مصر , وهي مأثرةٌ تذكر للأجانب مع الشكر الوافر. أما إحصاءُ هذه المدارس الأجنبية من حيث عددها , فأن للأميريكان منها 188 مدرسة , وللفرنسويين 152 , وللإيطاليين 49 , ولليونان 42 , وللانكليز 30 , وللنمسويين 8 , وللهولنديين 2 , و3 لأمم مختلفة. وأما من حيث عدد التلاميذ فإن المدارس الفرنسوية تأتي في مقدَّمة المدارس

الأجنبية , إذ أن عدد تلاميذها 21. 019 , وتليها مدارس الأميريكان وعدد تلاميذها 14. 749. هذه حالة معاهدنا العلمية مثبتة بالأرقام المأخوذة من أوثق المصادر. وقد رأينا تكلمةً للفائدة أن نقارن بينها وبين ما جمعنا من الأرقام عن حالة تلك المدارس منذ أربع سنوات ليتبين القارئ درجةَ الترقي والتقدُّم التي بلغتها في هذه المدّة من الزمن. وإليك المقابلة بينَ الحالتين: السنة المدرسية عدد المدارس عدد التلاميذ ذكور أُناث 1907 - 19084094294. 937 253. 923 41. 014 1911 - 1912 4772 379. 076 329. 076 320. 775 85. 301 ومن هذا الجدول يُستدلُّ أنَّ عدد المدارس زاد في أربع سنوات 678 مدرسة , بمعدَّل 169 أو 170 مدرسة جديدة في السنة. وهذه نتيجة تبهج وتسرّ. ومن المعلوم أن من يفتح مدرسة يقفل سجناً. أما مجموع عدد التلاميذ , فقد زاد في المدة نفسها 84. 139 أي بمعدَّل 21. 035 تلميذاً في السنة وهو عددٌ لا يستهانُ بهِ ترك جيوش الجهل لينضمّ إلى جيش النور والعرفان. وإذا أخذنا عدد التلاميذ منذ أربع سنوات نجد أن نسبة الطالبين إلى المجموع هي نسبة 13. 91 إلى 100. أما في السنة المدرسية 1911 - 1912 فإن نسبة الطالبين هي 84. 62 إلى 100 ونسبة الطالبات هي 15. 38 إلى 100. فيظهر من هذه المقابلة أن

نسبة التلميذات إلى مجموع التلاميذ قد زادت بعض الزيادة. على أنها لا تزال قليلة جدّاً؛ فكأنهُ ليس عندنا مقابل كل 85 تلميذاً على وجه التقريب إلاَّ 15 تلميذة. وهذا نقصٌ في إدارة التعليم عندنا يجب التذرّع بأنجع الوسائل لملافاتهِ , لأنه لا يخفي ما يترتب على هذا الفرق البّين من الأضرار. فإننا إذا أعددنا فتياناً متعلمين , يجب أن نهيئَ لهم فتياتٍ متعلمات يفهمنَ أفكارَهم , ويُدركنَ عواطفهم , فيشاركنهم في الحياةِ مشاركة حقيقية. وشأن المرأة في تدبير المنزل وتربية العائلة معروف لا حاجة بنا إلى تفصيله في هذا المقام. ولا شكَّ في أن هذا لتقصير في تعليم البنات هو السبب الأكبر لإعراض شباننا عن الزواج أو للبحث عن شريكة حياتهم بين الأجنبيات. والنساءُ نصف الأمة. فهل تُعَدُّ الأمة متعلمةً راقيةً إذا علّمنا نصفها , وأهملنا - أو كدنا - النصف الآخر. هذا , وإذا ظلَّ التقدّم في معهدنا مطّرداً على هذه النسبة , أي بزيادة 170 مدرسة و 21. 035 تلميذاً في السنة , فأنَّهُ لا يمضي على مصر زمنٌ طويل حتى تصبحَ في مصاف البلاد الراقية في آدابها ومعارفها وعلومها , ولاسيما إذا لاحظنا العناية بتنقيح برنامج الدروس شيئاً فشيئاً وتطبيقهِ على حاجات الزمان والمكان. وقد رأينا من وزير معارفنا المفضال أحمد للوصول إل هذه الغاية الجليلة في هذا العصر , عصر المنافسة في مضمار العلوم والآداب.

أمام مهدها

أمام مهدها كتبها ولي الدين في طفلة له رآها تحتضر وهي في الشهر الثالث من عمرها أَقصرتْ عنكِ وسائلُ العناية , وخابت في استبقائكِ آمال القلبين المشفقين اللذين طال خفوقها عليكِ في الليالي الطويلة. وها أنتِ اليوم على وشك التوديع. لم تتعلمي ما يقولُ المودّعون , لأنكِ لم تبلغي سنَّ القول. ولستِ تفهمين ما يُقال فيكِ , لأنكِ لم تصلي إلى زمن الفهم. أشفقتُ عليكِ من أُوجاع تُحسّين بها ولا تُدركينها. ثلاثةُ أشهرٍ , كثلاثِ طرفاتٍ بالجفن , مضت وكأنها لم تكن. ليت الشفاهَ التي لامست قبلاتها تينك الوجنتين الذابلتين جفّت قبلَ أن تكونَ ممرّاً للتأوُّهِ. . .! وليت تلك الأنفاس التي سرتْ على وجهكِ الغضّ التهبت في أحشائنا قبل أن تنقلب زفرات. . .! أعددتك ذخراً , وإذا بكِ مسلوبة. ظننتكِ لي , فإذا بكِ للثرى. لهفي عليكِ إذ تذهبين , ولم تري من سطوري ما يكون لكِ عظةً من بعدي! بل لهفي علىَّ إذْ أَستندي عيونَ النيّرات بمصراعٍ ارتجلهُ , وأنا أطلبُ اليومَ فيكِ كلامَ الرثاءِ , فلا تساعفني المعاني. إن يخطئكِ الحمام , وهيهات ما أظنهُ فاعلاً! فقد أبقى لي الدهرُ أملاً كاد يزمع الرحيل. وإنْ يأخذكِ كما أخذ أجدادَكِ وجدَّاتكِ من قبل , فقد أسرعتِ في قطع طريق يتظالع في قطعها الخلائق.

الأغاني في الحروب

أتيتِ نقيةً , وتذهبين نقية , كتقطرة الطَلّ على ورقةٍ من الورد , تلمعُ بكرةً , ولا تلبث أن تُستطار بخارأً. بين نوحات الثاكلات , وترجيع الحمائم بالأسحار , وبكاءِ السماءِ , وابتسام الأرض تضادٌّ يغيظ الموجَع. لا أشكو بثي فيكِ؛ ولكني استبقيه لأعتصرَ منهُ ذوبَ الشجون , ولأخاطبَ بهِ نفسي ناصحاً كلما غلبت عليها غفلات هذه الدار , وكادت تكون لها فتنة. لا أستطيع دفعاً لشيء يسوقهُ المقدور , ولكني وفيٌّ أضمن لكِ ألاَّ يلتام جرح يومك هذا. تزولين أنتِ وتبقى ذكراكِ. كذاك الحياة , تزول الهيولى وتبقى الصوَر. . . ولي الدين يكن الأغاني في الحروب ذهب فريق من العلماءِ على أنَّ منشأ اللغات الغناءُ. لأن الغناءَ في عرفهم هو صورة الخيال الواقعة تحت الحس , أو استفاضة مما في النفس عند امتلائها. وفي تاريخ الأقدمين أن امفيون باني أسوار طيبة كان يدفع العمال إلى العمل بجد ونشاط بالغناءِ والأناشيد , ألا تراهم في مصر يفعلون ذلك حتى الآن؟ وفي أساطير اليونان أن الشعب انتصر في معركة سلامين بأغاني سولون , فنجي البلاد بعد سقوطها. وفي التوراة أن الإسرائيليين كانوا إذا خرجوا لحربٍ يسير مغنوهم أمامهم. وفي التاريخ لحديث أن الفرنساويين لما سمعوا أنشودة المرسيلييز سنة 1792 , وقد

اجتاح العدوُّ بلادهم , وقبض على ناصية أرضهم , تولتهم الحماسة , وهزَّتهم النخوة , فألفوا صفوفهم الممزَّقة , وقوَّتهم الضائعة؛ فبرز ضعافهم أشداء , وجبناؤهم شجعاناً , ومتطوعتهم منتظمة , فانتصروا. وفي وصايا بولس رسول النصرانية رتلوا وغنوا الصلاة. وفي الآيات القرآنية: {ورتلِ القرىن ترتيلاً} وفي التوراة نشيد الأناشيد , وفي أخبار داود أنه ما كان يزيل كربته إذا ذكر أمرُ شاوول إلاّ الغناء. وفي أخبار السحرة والعرّافين أنه ما استأثروا الألباب ولعبوا بالعقول إلا بعد ترويضها بالغناء. ويؤكد هوارس أنّ مصر تقدَّمت غيرها من أُمم الأرض بالمدينة والحضارة , لأنها تقدَّمت غيرها بالغناءِ. وفي أقوال أحد شعراء الفرنساويين: إذا تآخت الأَصوات , دنت القلوب من الوئام وإذا اجتمع الناس لأمرٍ , لا تنفق عواطفهم ولا تتحد أميالهم إلاّ إذا اتحدت أصواتهم بأنشودةٍ واحدة. وكان الأطباء يداوون المرضى بالأغاني. وروى هوميروس وبلوتارك أن القدماءَ كانوا إذا جلسوا بعد الأكل والقصف يغنون فيفثأون من ثمولهم. ومن أقوال لوبز في الغناء أنهُ في الكلام كاللون في الصور. ومن الأغاني ما يبكي ويرقق , وهو لما كان من الشعر في الغزل والشوق إلى الوطن والبكاء على الشباب والمرائي والزهد. ومنها ما يطرب , وهو لما كان في نعت الشراب , وذكر الندماء والمجالس والصبوح والدساكر. ومنها ما يشوقُ وترتاح إليهِ النفس كصفة الأزهار والأشجار

والمنتزهات والصيد؛ ومنها ما يسرُّ ويُفرح ويحث على الكرم والجود , وهو لما كان في المديح والفخر وصفة الملوك. ومنها ما يشجّع وهو لما كان في الحرب وذكر الوقائع والغارات والأسرى والنصر والفوز والفخر. ولكل أمة أغانيها وأناشيدها , ومن هذه الأناشيد والأغاني تعرف عاداتها وأخلاقها وتاريخها وأطوارها. وتتوارث السلالات ذلك جيلاً بعد جيل , وقرناً بعد قرن , حتى أن نوتية المراكب في نيل مصر يغنون اليوم رعمسيس توارثاً وتقليداً بقولهم وهم يجذّفون يا رمسو يا رمسو وفي سوريا يلقبون أغاني الحرب والقتال بالحوربة , ويشقون منها فعل حورب كما أنهم يلقبون أغاني الفرح بالهوربة ويشقون منها فعل هوبر ولربما ورثوا هذه اللفظة من هورا الرومانية والإغريقية , فضلاً عن الحدو الذي ينشدونهُ عند السير والمشي لا وراءَ القوافل والظعن فقط , بل في كل سير سريع يتطلّب الحماسة والنشاط. وكان غزاة العرب الذين دوّخوا المشارق والمغارب إذا خرجوا لغزوةٍ أو لقتالٍ أو لحرب , تغنوا بأشعارهم الحماسية , فيفور الدم في عروقهم وتهيج أعصابهم وتحمى نفوسهم , ويدفعهم الفخر إلى إتيان العجائب. وكانوا إذا اشتبك الأبطال بالقتال , وكفوا عن التغني بالأشعار يوقفون نساءهم يغنينهم , وفي يد الواحدة منهن مقرعة تضرب بها الفارين , وفي يدها الأخرى قارورة ماء تسقي منها الجرحى. وهذه العادة لا تزال عادتهم في حروبهم وهي أيضاً من عادات الأرناؤوط وشعوب البلقان , حتى قال

أحد الضباط الأوروبيين الذين شهدوا المعارك البلقانية أن الأناشيد والتغني بحكايات الأبطال كانت من أقوى العوامل في فوز البلقانيين. والشعوب السلافية تلقت هذهِ العادة عن الشعوب الشرقية الحربية كالعرب منذ أربعة قرون. والأغاني والأناشيد هي التي صانت قومية البلقانيين من الضياع وصانت لغاتهم من النسيان؛ فهم منها حفظوا تاريخ أسلافهم ومجد أجدادهم وأسماءَ أبطالهم. وقد تفرَّد في نظمها العميان إذ كانوا يطوفون القرى والدساكر , وينشدون هذهِ الأناشيد على توقيع الرباب والقزلة. وإذا ذكرنا نحن أشعار عنترة والمهلهل , عرفنا كيف يكون تأثير هذه الأناشيد في نفوس الأمم وعصابات الشبان وطوائف الجند. وتاريخ الإفرنج طافح بمثل ذلك بما رووهُ عن غيليوم تل والسيد ورولان. وفي حكايات الصربيين والبلغاريين حكاية بطلٍ من أبطالهم في القرن الخامس عشر يسمونهُ ماركو قره لجيفيتش , كان يلبس جلد الذئب , ويتسلَّح بخنجرٍ مرصع بالذهب والفضة , ويركب جواداً يسمّى شاراتز , ولهم فيهِ القصائد والأناشيد التي يحفظها كبارهم وصغارهم , ويتغنون بها في البيوت والمنازل والأفراح والمآتم والحقول والمتنزهات , حتى أنهُ لا يوجد طفلٌ واحدٌ بلقاني لا يتمنى أن يكون ماركو. وإليك ما يقولون عنه: إذا ضرب ماركو بسيفهِ ترك خصمهُ شفعاً بعد أن كان وتراً إذا طعن ماركو برمحهِ أطار خصمهُ إلى ما فوق رأسهِ

وإذا دار ماركو دورتين فلَّ الجيش بدورانه ومن قولهم فيه , في تخليصه الأسرى: يا غابتي الخضراء , ما أذبلكِ , ويا مروجي الزهراء ما أبيسكِ , أصابك الزمهرير فأيبسك , أم اتقد فيك السعير فأحرقك؟ فردت الغابة على ماركو بصوت خافت: يا بطلي المفدّى , وأشجع بطل! مرَّ بي عربيٌّ أسود , وبيده سلاسل الأسر الثلاث: في واحد الفتيات , وفي الأخرى العرائس , وفي الثالثة الزوجات وفي قصيدة أُخرى تخاطب ماركو جدَّته بهجر القتال إلى الحرث والزرع , فيصغي إلى نصيحتها ويأخذ بزرع الحقل على جانب الطريق , إلى أن يهبط محصلو الأعشار على الفلاحين فيسلبوهم أموالهم ومزارعهم فيترك ماركو المحراث إلى السيف ويخلّص المال من سالبيه , ثم يحمله إلى أصحابهِ وهو يخاطب جدتهُ بقولهِ: انظري أني لحارث , لا الحقول ولا المزارع ,

بل طريق الملك والسلطان وروت إحدى صحف بلغراد أنه أثناء معركة بريليب ضعف الصربيون وجنبوا وأخذوا بالتقهقر , فصاح ضابطٌ منضباط الفرقة: هناك مقام ماركو وهنا وطنه فاهربوا , اهربوا إلى جدار منزله وبالقرب من محل القتال كان موطن ماركو على ما جاءَ في حكاياتهم. فارتدَّت الفرقة إلى الهجوم وقاتلت حتى انتصرت. ومن أناشيد الأروام: لن تصير تركية تلك الهضاب التي ينزلها الأرناؤوط , فاتناريوس حيٌّ يهزأ من الباشوات , فما دام الثلجُ يكسو الأكام , وما دام زهرُ الربيع يكسو المروج , وما دامت الأودية تغصُّ بالماء , لا نخضع ولا نستكين , ولنجعل مغاور الذئب مساكننا , ولنترك العبيد يسكنون الدور محنيي الظهور وفي أغاني البلغاريين إن يوجانا الفتاة البلغارية رأت موكباً لكريمة الفتاة التركية؛ فهجمت على خفر الموكب فمزّقتهُ , وقالت لكريمة شعراً: لم يبقَ إلاَّكِ يا كريمة في المركبة المذهبة فاخرجي رأسك الأبيض

لأقطعه بحد الحسام ومنذ عشرين سنة ألَّف ملك الجبل الأسود روايةً سماها إمبراطورة البلقان ومن أشعاره فيها: فلتبقَ أرض البلقان , أرضاً لشعبنا! ولتخرج أرض البلقان , حرَّةً من قيد الغريب! وإلاَّ فالموت للبلقانو خيرٌ من الاستبعاد! وقس على ما نذكر ما لم نذكر من قصائدهم وأشعارهم وأناشيدهم التي أثارت الحمية في رؤوسهم أثناءَ القتال , وحفظت تاريخهم وجنسيتهم وأملهم وشجاعتهم قبل الحرب , بل أعدَّت نفوسهم لثورات كما أعدَّتها للنصر. ونحن العرب الشرقيين عندنا كثير من هذه الأناشيد والأشعار الملأى بها الأسفار. ولكنَّ الأغاني في مجالسنا تُثبّط اليوم هممنا , وتضعف نفوسنا. فهي عبارة عن ندبٍ وبكاءٍ ونواح للوصال , وذلٍّ في الليل وصَغار في النهار. فهل يريد المغنون والمنشدون والناظمون والسامعون أن يخرجوا من الذلة وضعف النفس على الفخر والحماسة والمجد؟ لقد آن لنا أن نعرف أنَّا شعبٌ حيٌّ ذو تاريخ وأبطال وأقوال بل أفعال. وهذه الأغاني التي درج عليها المغنون العرب نُقِلت عن مغنيي الخلفاءِ في بغداد , بعد أن أخذهم الترف وتولاَّهم النعيم , وانصرفت نفوسهم

الجامعة المصرية

إلى اللهو والزهو والخلاعة , كالرومان في آخر عهدهم. فنقلها عنهم الحضر وسكان المدن. ولكنَّ أَهلَ البادية والجبال ظلُّوا على ما كان عليهِ آباؤهم , ولا يزالون على ذلك حتى الآن في غنائهم وعيشتهم وتقاليدهم وفخارهم وشجاعتهم. فإذا أردنا العود إلى مجدنا فلنعد إلى صلب الشعب في بواريهِ وقفاره , حيث نجد الكرّم والجود والشجاعة والحماسة والنبل والشرف والعزّة والآنفة. داود بركات الجامعة المصرية في خمس سنوات في اليوم الأخير من شهر سبتمبر سنة 1906 نشر مصطفى بك كامل الغمراوي , أحد أعيان مديرية بني سويف , دعوة على صفات الجرائد المصرية سأل فيها سراة المصريين وأفاضلهم التعاون على إنشاء مدرسة جامعة. وختم دعوته بقوله أنني اكتتب لهذا العمل الخطير بمبلغ 500 جنيه ثم حضر إلى العاصمة وخاطب بعض الأفاضل وذوي الرأي في المسئلة فلقي منهم كل رعاية وانعطاف. وكان في طليعة منشطيه سعادة سعد باشا زغلول - وكان يومذك مستشاراً في محكمة الاستئناف - فدعا إلى منزله في حي المنيرة الراغبين في إتمام أمنية الغمراوي بك فاجتمعوا لأول مرة في الأسبوع الأول من شهر أكتوبر سنة 1906.

وكان أول عمل فكروا فيهِ هو إبعاد المشتغلين بالصحافة عن المشروع وانتخبوا سعادة سعد باشا زغلول وكيلا للرئيس - الذي يكونون قد اتفقوا عليه فيما بعد - وقاسم بك أمين سكرتيراً , وأصدروا أول منشور باسم الجامعة جاء فيهِ: إن المقصود هو إنشاء مدرسة علوم وآداب لك طالب مهما كان جنسه ودينه بدون مداخلة في السياسة. ويقتصر فيها على إلقاء دروس أدبية وعلمية وفلسفية تنوّر عقول الطالبين وتربي ملكاتهم وتهذب عواطفهم وتبلغ بهم الكمال في أنواع ما يتلقونه بها من العلوم. مضى على هذه الجلسة شهران ولا شاغل للأقلام إلاَّ الجامعة وتنشيطها؛ ونهض لمعاكستهم نفر قالوا أنه لا يجب الإقدام على العمل ولا التشجيع عليهِ إلاَّ إذا صبغت الجامعة بالصبغة الدينية. ولكن هذا الرأي لم يصادف هوى من قلوب المشتغلين بالمسئلة. ثم عقدت الجلسة الثانية وأعلن فيها سعادة باشا زغلول تخليه عن المشاركة العملية في لجنة الجامعة لتعيينه ناظراً للمعارف وأكد أنه لا يفتر عن تعضيد المشروع. وألقى المرحوم قاسم بك أمين خطبة ضمنها خلاصة ما تم للمشروع في شهرين وهو: أولاً - اهتم كثيراً في البحث يرئس اللجنة من الأمراء فلم يفلح ولذلك وقفت حركة الاكتتاب. ثانياً - خاطب أحد أمراء البيت الخديوي في ن يكون رئيساً للجامعة فلم يقبل ولم يرفض

ثالثاً - طلب مساعدة الحكومة فلم تقبل لأنها تعتقد أن مشروعاً كبيراً كمشروع الجامعة لم يأتِ الوقت المناسب لأن تقوم بهِ الأمة. رابعاً - إن سمو الخديوي أظهر ارتياحاً إلى المشروع والقائمين بهِ وانتخب قاسم بك أمين رئيساً , وانتدب حضرة محمد بك فهمي. وسارت اللجنة في أعمالها بهمة ونشاط ولم يعترها كلل ولا ملل مع وفرة ما صادفتهُ من العقبات وتثبيط العزائم , فاكتتب له الكثيرون - وفي مقدمتهم سمو الخديوي - بمبالغ طائلة من المال. ووقف له بعضهم مساحات واسعة من الأراضي. وكان في مقدمة الواقفين المرحوم حسن باشا زايد أحد أعيان مديرية المنوفية حيث وقف مئة فدان , ثم عوض بك عريان المهدي من أعيان بني سويف وقد وقف لها 83 فداناً. ويقدر ثمن أطيان الجامعة كلها بمبلغ 170 ألف جنيه وبلغ ريعها في السنة الماضية 861 جنيهاً و615 مليماً. وقبل صاحب الدولة البرنس أحمد فؤاد باشا أن يكون رئيساً للجامعة. وكان أول عمل أتاهُ إرسال عشرة من الشبان المصريين الحاصلين على الشهادة الثانوية وبعض ديبلوات المدارس العالية إلى أوربا لدرس العلوم العالية حتى إذا أتموا دروسهم عادوا إلى مصر للتدريس في الجامعة المصرية. وفي أول مايو سنة 1908 سمي سعادة أحمد باشا زكي مدّرساً لتاريخ التمدن الإسلامي وأحمد بك كمال لتدريس تاريخ الشرق القديم. وتقرر أن

يلقي أساتذة ثلاثة: فرنساوي وانكليزي وإيطالي محاضرات في آداب لغاتهم ثم تترجم إلى العربية بعد إلقائها. واستؤجر معمل سجائر جناكليس بائع الدخان اليوناني الشهير , في قصر النيل فمحي اسمه من على واجهتها المبنية على الطراز العربي الأنيق , وأُبدل باسم الجامعة المصرية وتاريخ إنشائها مكتوباً باللغتين العربية والفرنسوية. وفتحت أبوابها لإلقاء المحاضرات في أول أكتوبر سنة 1908 ثم أُعلن افتتاحها رسميّاً بعد ذلك بشهر واحد تحت رئاسة سمو الخديوي المعظم. وانعقدت الجمعية العمومية للجامعة يوم 29 ابريل الماضي وقدَّم مجلس الإدارة تقريراً للأعضاء عن حالة الجامعة جاء فيهِ أنهُ لم يمضِ سوى أربع سنوات منذ حظيت الجامعة برعاية سمو الأمير مولانا الخديوي المعظم عباس حلمي الثاني وهي فترة لا تعد شيئاً في عمر الجامعات إذ لو راجعنا تاريخها وم لزم لتكوينها من الوقت الطويل لوجدنا أن الجامعة المصرية خطت خطوات واسعة في هذا الزمن القصير ولا جدال في أن القائمين بأمر الجامعة وفي مقدمتهم دولة الرئيس لم يفتروا ساعة واحدة عن ترقية هذا المعهد الكبير. وفي خلال السنوات الأربع الماضية كان دولة الرئيس يقضي فصل الشتاء في مشاركة الأعضاء في الإِشراف على جميع أعمال الإدارة , فإذا حل الصيف يمضي معظم أوقاتهِ وهو بعواصم أوربا في مفاوضة بعض العلماء في الحضور إلى مصر

للتدريس في الجامعة , ويخاطب وزراء المعارف ورؤساء الجامعات بفرنسا وانكلترا وألمانيا في مساعدة تلاميذ الجامعة المصرية بأوربا على تلقّي العلوم في المعاهد العلمية الكبرى , ويحث هؤلاء التلاميذ على الجدّ والاجتهاد في التحصيل حتى يشرّفوا أمتهم بعلمهم. ولكن هذه المجهودات لم تثمر الثمرة المنتظرة منها فإن المتأخّر من الاكتتابات لم يُدفع منهُ شيء للجامعة. ولم يكتتب لها أحد بشيء في السنة الماضية , وامتنع أحمد بك الشريف عن أن يدفع للجامعة دخل المئة الفدان التي حبسها عليها فاضطر مجلس الإدارة إلى النظر في أمر مقاضاتهِ ورأت الإدارة أن الإِقبال على حضور محاضرات التاريخ القديم والاقتصاد الزراعي فألغتهما. وكذلك ألغت الفرع النسائي ريثما توفَّق لوضع برنامج الخطة التي تتبعها فيهِ بحيث يكون موافقاً لحاجات السيدات المصريات وكان عدد اللائي يحضرن هذه الدروس 41 سيدة. وأصبحت العلوم التي تلقى في الجامعة قاصرة على الآداب وتاريخها والفلسفة وتقويم البلدان والتاريخ الإسلامي. ويدرّس آداب اللغة العربية الأستاذ الشيخ محمد الخضري. ويدرس آداب تاريخ هذه اللغة المسيو جاستون فيت. ويدرّس تاريخ الأمم الإسلامية الأستاذ الشيخ محمد الخضري. ويدرس الفلسفة العربية وعلم الأخلاق الأستاذ الشيخ طنطاوي جوهري. ويدرّس تاريخ المذاهب الفلسفية الأستاذ لويز ماسنيون.

ويدرّس تاريخ آداب اللغة الانكليزية الأستاذ برسي وايت. ويدرّس تاريخ آداب للغة الفرنسوية الأستاذ لويس كليمان. وقد عني اثنان من طلبة الجامعة منذ أربع سنوات بجمع المحاضرات وطبعها في مجلة خاصة. ولكنهما لم يجد شيئاً من الإقبال عليها فعطلاها. وأخذ مجلس الإدارة على عاتقه طبع هذه المحاضرات في كتب مستقلة فبلغ ما أنفقه على طبعها في السنة الماضية 336 جنيهاً و961 مليماً. وكان عدد الطلبة الذين قيدوا أسماءهم في السنة الأولى نحو 300 طالب منهم عدد كبير من طلبة المدارس العالية والأزهر , ثم أخذ عددهم يتناقص شيئاً فشيئاً , فكان في السنة الماضية 123 طالباً , وفي هذه السنة 75 طالباً فقط. وتدل الأنباء الواردة من أوربا عن حالة إرسالية الجامعة أن أعضاءها قد برهنوا بما أبدوه من مثابرتهم جدّهم في تحصيل المعارف على أنهم أهل لأن تعتمد عليهم الجامعة في خدمتها خدمة خالصة. وعهد مجلس الإدارة إلى سكرتير الجامعة في ترتيب المكتبة على النسق المتبع في مكاتب أوربا العمومية , وينتظر إتمام هذا الترتيب بعد سنة , ثم تُفتح أبواب المكتبة للجمهور. وفي جلسة الجمعية العمومية الأخيرة طلب دولة الأمير فؤاد باشا إقالته من رئاسة الجامعة. فقبلها الأعضاء آسفين وقرروا إسناد رئاسة الشرف إليه , ودوَّنوا هذا القرار في خطاب حمله إليه وفد مؤلف من أصحاب

السعادة حسين رشدي باشا وأحمد شفيق باشا وعبد الخالق ثروت باشا. ثم قرروا باتفاق الآراء أن يعهدوا في الرئاسة إلى البرنس يوسف كمال باشا والرئيس الجديد خير خلف لخير سلف. فهو منشئ مدرسة الفنون الجميلة , وصاحب الأيادي البيضاء على الجامعة ونادي المدارس العالية. فقد وهب الجامعة مئة فدان , وأعطى النادي قطعة أرض مساحتها 1200 متر في الجيزة , وتبرع بمبلغ ألفي جنيه لبناء دار للنادي في هذه الأرض , وتعهد بإنشاء مكتبة للنادي عهد في ترتيبها لحضرة حيدر بك فاضل شناسي. وقد أعلن خبر هذه المنحة السنية سعادة أحمد باشا زكي على ملأِ من الأدباء والأفاضل في جلسة عقدت بنزل الكونتيننتال , وختم خطبته بقوله أن الأمير يوسف كمال أصبح بعطيته خليقاً بأن يلقب بحامي المعارف والآداب , ونصير الأساتذة والطلاَّب ولا تزال الحكومة ثابتة على رأيها الذي أبدته منذ سبع سنوات , وصرّح بهِ فخامة اللورد كرومر في أحد تقاريره وهو أنه لم يحن الوقت الذي يكون فيهِ للمصريين مدرسة جامعة وقد تناقلت الألسنة إشاعة فحواها أن فخامة اللورد كتشنر خاطب دولة البرنس فؤاد في ضم الجامعة إلى الحكومة أو جعلها تحت إشراف نظارة المعارف. فلم يوافقهُ الأمير على هذا الطلب. ولكن الكثيرين يؤكدون أنه لابد من ضم هذا المعهد العلمي الكبير إلى الحكومة آجلاً أو عاجلاً , فيصبح على جانب مدارس الطب والحقوق والهندسة والزراعة مدرسة للعلوم الأدبية يتخرَّج منها أدباء بديبلومات!! توفيق حبيب

في رياض الشعر

في رياض الشعر بين شاعرين في الشهر الماضي انتخب أهالي دير القمر حضرة الفاضل داود بك عمون مندوباً عنهم في مجلس إدارة جبل لبنان , وقد برح مصر لهذا الغرض , فاذكرتنا هذه المناسبة مراسلة شعرية كانت قد جرت بينه وبين صديقه حافظ بك إبراهيم في سنة 1902 , وكان داود بك مصطافا في لبنان , فرأينا أن ننشرها لقراء الزهور وهي من خير ما قاله شعراء العصر: كتب حافظ إلى عمون: شَجَتنا مطالعُ أقمارِها ... فسالت نفوسٌ لتذكارِها وبتنا نحنُّ لتلك القصورِ ... وأهلِ القصور وزوَّارِها قصورٌ كأنَّ بروجَ السماءِ ... خدورُ الغواني بأدوارِها ذكرنا حماها وبين الضلوعِ ... قلوبٌ تَلَظّى على نارِها فمرَّت بأرواحِنا هِزَّةٌ ... هيَ الكهرباءُ بتيَّارِها وأرضِ كستها كِرام الشهورِ ... حرائرَ من نسج آذارِها إذا نقّطتها أكفُّ الغمامِ ... أرتكَ الدراري بأزهارِها وإن طالعتها ذُكاءُ الصباحِ ... أرتك اللّجينَ بأنهارِها وإن دبَّ فيها نسيم الأصيلِ ... أتاك النسيمُ بأخبارِها وخلٍّ أقامَ بأرض الشامِ ... فباتت تدلُّ على جارِها وأضحت تتيهُ بربّ القريض ... كتيهِ البوادي بأشعارِها وللنيلُ أولى بذاك الدلالِ ... ومصر أحقُّ ببشَّارِها فشمّرْ وعجّل إليها المآبَ ... وخلِّ الشامَ لأٌدارها

فكيف لعمري أطقتَ المقامَ ... بأرضِ تضيق بأحرارِها وأنتَ المشمّرُ إثرَ المظا ... لمِ تسعى إلى محوِ آثارِها ثأرتَ الليالي وأقعدتها ... بمصقولِ عزمِك عن ثارِها إذا ثُرتَ ماجت هضاب الشام ... وباتت تَرامي بثوَّارِها ألستَ فتاها ومختارَها ... وشبلَ فتاها ومختارِها إذا قلتَ أصغت ملوكُ الكلام ... ومالت إليكَ بأبصارِها أداودُ حسبك أن المعاليَ ... تسبُ دارك في دارِها وأنَّ ضمائرَ هذا الوجودِ ... تبوحُ إليك بأسرارِها وأنك إمَّا حللت الشامَ ... رأيناك جذوةَ أفكارِها وغن كنتَ في مصر نعم النصير ... إذا ما أهابت بأنصارها حافظ إبراهيم فكتب إليهِ عمَّون: أمِنْ ذكرِ سلمى وتذكارِها ... نثرتَ الدموعَ على دارِها وعفتَ القصورَ لأجلِ الطلولِ ... تطالعُ طامس آثارها وقفتُ بها ليلتي ناشداً ... عساها تبوحث بأسرارِها وللدارُ أنطقُ آياتها ... من الروايات وأخبارِها تعيدُ عليكَ ليالي الحمى ... بأنجمها وبأقمارِها سلالمٌ عليكَ زمانَ الشبابِ ... ربيعَ الحياةِ بآذارها لأنتَ مخفّفُ أحزانِها ... وأنتَ مسوّعُ أكدارِها ولولا الشبابُ وذكرى الشبابِ ... لعاشَ الفتى عمرَه كارها قطعنا الحياةَ بهِ حلوةً ... وقد جاء إبَّانُ إمرارِها

أطوّفُ في الشرقِ علّي أرى ... بلاداً تطيبُ لأحرارِها فلم أرَ إلاّ أموراً تسوءُ ... وتصدعُ أكبادَ نظَّارِها فظلمٌ بتلك وذُلٌّ بهذي ... وجهلٌ مُغشٍّ لأبصارِها تعقُّ مراحمَ رُعيانها ... وترعي الولاء لجزَّارِها إذا شاَء قاسمُ رفعَ الحجابِ ... تسمَّيهِ هاتِكَ أستارِها فلا قولَ إلاّ لجهَّالها ... ولا رأيَ إلاّ لأغرارِها يدبُّ التراخي على تِرْبها ... ويجري الخمولُ بأنهارِها منالُ الترّقي بإرغامها ... ومَرجى الفلاحِ بإخبارِها أهذا الذي أورثتْ أهلَها ... بلادُ العلومِ وأنوارِها عدمتُ حياتي إذا لم أقِف ... حياتي على نفعِ أقطارِها أحافظُ هذا مجالُ العُلى ... فشمّرْ سبقِ بمضمارِها أشوقي أحافظُ طالَ السكوتُ ... وتركُ الأمورِ لأقدارِها فصوغا القوافيَ مصقولةً ... وشِقّا الجلودَ ببتّارها عساها تحرِّكُ أوطاننا ... وتنشرُ ميّتَ أفكارِها أقولُ وأعلمُ أني سأُرمي ... بأني محرّكُ ثوَّارِها وأني الدخيلُ وأني الغريبُ ... وأني النصيرُ لقُهَّارِها أحبُّ بلادي على رُغمها ... وإنْ لم ينْلني سوى عارِها ولست بأوّلِ ذي همّةٍ ... تصدَّى الزمانُ لإنكارِها داود عمون

الأنفة في الحب من حيد الشعر وأطيبه القصيدة التي ننشرها هنا وقد رأيناها في بعض الجرائد على أشكال مختلفة: فالبعض أغفل اسم شاعرها جهلاً به , والبعض اقتضب أبياتاً منها , وغيره أبدل الأربلي أصلاً ومنشأ , البحراني أني مولداً , المتوفي في سنة 585 للهجرة وقد مدح بها بعض الأمراء فانتصرنا منها على النسيب لرقته , قال: رُبَّ دارٍ بالغضى طالَ بَلاَها ... عكف الرَّكبُ عليها فبكاها درسَتْ إلاَّ بَقايا أسطرٍ ... سمح الدَّهرُ بها ثمَّ محاها كان لي فيها زمانٌ وانقضى ... فسقى اللهُ زماني وسقاها وَقَفتْ فيها الغوَادي وقفةً ... ألصقتْ حَرَّ حياها بثراها وبَكتْ أطلالَها نائبةً ... عن جفوني أحسنَ اللهُ جزَاها قلْ لجيران مواثيقهُمُ ... كلَّما أحكمنُها رثَّت قواها كنتُ مشغوفاً بكم إذْ كنتمُ ... شجَراً لا تبلغُ الطيرُ ذُراها لا تبيتُ الليلَ إلاّ حَولها ... حَرسٌ ترشحُ بالموتِ ظباها وإذا مُدَّتُ إلى أغصانها ... كفُّ جانٍ قُطعتْ دون جَناها فتراخي الأمرُ حتى أصبحتْ ... هَمَلاً يطمعُ فيها مَن يَراها تُخصبُ الأرضُ فلا أطرقُها ... رائداً إلاَّ إذا عَزَّ حِماها لا يَراني اللهُ أرعى روضةً ... سَهلةَ الأكنافِ مَن شاَء رعاها وإذا ما طمعٌ أغرى بكم ... عرَضَ اليأسُ لنفسي فثناها فصباباتُ الهوىَ أوَّلُها ... طمعُ النفسِ وهذا مُنتهاها لا تظنُّوا لي إليكم رجعةٌ ... كشفَ التجريب عن عيني عماها إن زين الدين أولاني يداً ... لم تدع لي رغبةً فيما سواها

ذكرى الشباب تُمسي تذكّرنا الشبابَ وعهدَهُ ... حسناءُ مرهَفةُ القَوام فنذكرُ هيَفاءُ أسكَرَها الجمالُ وبعض ما ... أوفى على قدرِ الكفايةِ يُسكرُ تَثِبُ القلوبُ إلى الرؤوس إذا بدت ... وتُطلُّ من حَدَقِ العيونِ وتنظُرُ وتبيتُ تكفرُ بالنحور قلائدٌ ... فإذا دنت من نحرها تستغفرُ ويزيد في فمِها اللآلئُ قيمةً ... حتى يسودَ كبيرَهنَّ الأصغرُ إسماعيل صبري سكر صبابة أبتَ الصَّبابة مورداً ... إلاّ شؤونك وهي شكري يا ساقيَ الدمع الذي ... من مقلتيهِ يسيلُ خمراً لا غروَ أن بدت الصبا ... بة وهي في عينيكَ سكري خليل مطران دمعة على الشباب ضحكاتُ الشيبِ في الشَعَرِ ... لم تدع في العيش من وطرِ هنَّ رسلُ الموتِ سانحةٌ ... قبلّهُ والموت في الأثرِ يا بياضَ الشيبِ ما صنعت ... يدُك العسراءُ في الطررِ أنت ليلُ الحادثات وإن ... كنتَ نورَ الصبح في النظرِ ليت سوداَء الشبابِ مضتْ ... بسوادِ القلبِ والبصرِ فالصبى كلُّ الحياة , فإن ... مرَّ , مرَّتْ غبطةُ العمرِ مصطفى لطفي المنفلوطي

مجدلية أخرى

مجدلية أخرى لم تكن أوَّلَ من أساءَ إليها الرجلُ فإنَّ أمثالها كثيراتٌ ممن دفعهنَّ الجهلُ إلى ارتكاب ما ارتكبنهُ , وإلقاء تحيَّة الوداع على الفضيلة والعفاف. أليست أزقّتنا مزدحمة بأقدام هؤلاء البائسات؟ أليست المدن الكبرى قائمة على أطلال بابل , والرذيلة تمثّلُ أفظعَ أدوارها في زواياها المظلمة؟ أَليس السين والتاميز وارثَين لماء للتيبر الذي شربته رومية الفاجرة , وماء الفرات الذي ارتوت بهِ نينوى الزانية؟ أليست شوارعنا مسارح لتمثيل تلك الأدوار التي تقشعرُّ لها الأبدان , وتتململ لها العظام التي في القبور؟ أَهذهِ مدنيَّتك أيها العالم , وهذهِ فضيلتك أيها الإنسان؟ مستبدٌّ أنت؟ إن كنت ملكاً فكن عادلاً؛ وإن كنت بشراً فكن عاطفاً؛ وإن كنت غنيّاً فأنفق ثروتك في غيرِ الزوايا المظلمة. لماذا تحفر هاويةً لسقوط المرأة؟ كفى ما أوصلتها إليهِ من البؤس والشقاء تائهة في باريس! في تلك المدينة العظيمة؛ في ذلك الأوقيانوس المتلاطم؛ وحيدة لأبيتَ لها فتأوي إليه , ولا سقف تحته. للطيور أوكار , وللبهائم زرائب. وأما هي فليس لها أين تسند رأٍسها. الرواية القديمة! باعت نفسها لرجل سامها في عرضها. أعطتهُ قلباً

مملوءاً إخلاصاً. فنقدَها ثمنهُ خزياً وعاراً. فتحت لهُ صدراً رحيباً , فحفر لها مهواةً أرحب. تركت العالم من أجله فترك لها كل مذلة وهوان. رحماك! إلى أين تقذف بي أيها الإنسان؟ اصرخي ما شئت أيتها البائسة؛ أَغبتِ أَبويكِ فطرداكِ؛ أَغضبتِ العالم فنبذك؛ أَغضبتِ اللهَ فأدار وجههُ عنكِ. اصرخي ما شئتِ. قولي لذلك الجالس على كرسي العدل , الرابض على عرش الرحمة: الهي الهي لماذا تركتني؟ أَلستِ مرفوعةً على صليب الهوان , وتحت قدميكِ هاوية الأبدية أللإقرار لها. علمَ تلومين البشر؟ هلا بعتِ عفافكِ إلاَّ للوحوش الضارية؟ هلاَّ ساومتِ في عرضكِ إلاَّ على قوارع الطرق؟ ألم تعلمي أن الأزهار التي يفترسها لكِ الإنسان الوحش , وأنتِ في ثوب العفاف , تنقلب أشواكاً متى خلعتِ ذلك الثوب؟ هو ذا الأحلام التي كنتِ تعللين بها نفسكِ قد انقلبت إلى خيالات مرعبة فهي تصوّر لكِ الآن ظلمات الأبدية وتمثّل لعينيكِ هاوية الشقاء أللإقرَار لها الدير!. . . . وهل تمادى بكِ الغرورُ حتى زعمتِ أن الدير مأوى الساقطات؟ هل توهّمتِ أن السقف الذي يظلل بنات الله الطاهرات يظلل أمثالكِ من الفتيات اللواتي لسنَ عذارى ولا أُمهات؟

أيكون الدير مأوًى لراحاب وهيروديار ومرغريت وفرناند؟ الدير؟. . . هل يكون الدير ملجأً للواتي كسرنَ وصية الله القائل لا تزنِ؟ هل يكون الدير مأوًى لمن هجرنَ العفاف وأسأنَ إلى المجتمع العمراني وآثرنَ منعطفات الطرق على الهياكل والمعابد؟ هل الدير ملجأ لكل امرأةً يطاردها العالم لينزل بها العقاب على ما أتتهُ من الشرور والمآثم؟ أجل! إن لم يكن الدير ذلك فيجب أن يكون كذلك؛ يجب أن يكون أوَّل محطة على الطريق إلى السماء تائهة في باريس!. . . بيت أبيها موصدٌ في وجهها؛ وباب الدير موصد في وجهها؛ وباب السماء موصد في وجهها فإلى أين تأوي؟ هنيئاً لكِ يا خالعة ثوب العفاف. ألم تنتعمي بالسعادة التي كنتِ تحلمين بها؟ فماذا تطلبين بعد؟ مبيتاً؟. . . هو ذا قوارع السبل! هو ذا مهاوي الشقاء! هو ذا القبر!

ووراء ذلك القبر وحشة الأبدية اللاَّنهاية لها , وحجاب الظلمة يكتنف النفس فيزيد في عذابها , كلّ لحظة قرون وأحقاب مملة. رحماك اللهم! إن عرشك ليس عرشَ العدل فقط بل عرش الرحمة أيضاً. فانظر إليَّ من فوق عرشك هذا دون عرشك ذاك. واذكر إنك جبلت المرأة على الضعف , وقذفت بها بين برائن الرجل المستبد. رحماك اللهم! إنك تؤدَّب ولكنك أنزه من أن تنتقم. فقاصصْ ولكن أجمل مع القصاص متَّسعاً من الرحمة. عاقبو ولكن اجعل مع الشدة منفذاً. إنك ارحم من أن تبخل على شقية مثلي بنظرة شفقة وإحسان. إلى أين اذهب يا الله؟ ألم تجعل للطيور أعشاشاً , وللثعالب أوكاراً , وللبهائم زرائب؟ فأين أسند رأسي في هذا الليل الحالك - في هذه المدينة المظلمة - في هذا الأوقيانوس المتلاطم؟ ألم تعفُ عن راحاب وتغفر للمجدلية؟ ألم تقل لتلك البائسة التي شكوها إليك: ولا أنا أدينك. اذهبي ولا تخطئي بعد؟ ألم تقل أن الإعلاّء هم الذين يتاجون إلى طبيب؟ يا لك من عصرٍ شديد النحسِ ... ضاعت بهِ الرحمة تحتَ الشمسِ لم تلق مأوى فيهِ غيرَ الرمسِ ... وغيرهُا ممتَّعٌ بالأنس في عالم أحلامُهُ غرورٌ سليم عبد الأحد

أسباب الحرب البلقانية

أسباب الحرب البلقانية من الكتب المائلة للطبع في الآونة الحاضرة كتاب الحرب في البلقان لحضرة الكاتب البليغ يوسف أفندي البستاني وهو جامع لجميع أسباب الحرب وحوادثها ونتائجها , ولنحو أربعين رسماً من رسوم رجالها , ولأُهم آراء الكتاب الحربيين والمؤلفين في هذا الموضوع. وقد اقتطفنا من كلامه عن أسباب الحرب الفصل التالي. قال: من رام أن يقف على حقيقة تلك الحرب الهائلة ويدرك أثرها العظيم في الشرق والغرب يلزمه أن يعرف أسبابها وحوادثها ونتائجها. وأنّا بادئون بذكر تلك الأسباب واحداً فواحداً مع الإيجاز , ومعتمدون على نخبة من أقطاب لسياسة إلاّ مشهداً كبيراً فاجعاً من رواية تلك المسألة التي تعددت فيها الفصول وأدمت مشاهدها العيون يخلق بنا أن نحسب رأس الأسباب ما انطوت عليه الضلوع , وغلت به الصدور من الحقد القديم والضغينة الكامنة بين الأتراك والأمم الأربع المتحالفة فإن كل أمّة منها جعلت تربية الحقد في صدور أبنائها على دولة آل عثمان فرضاً مقدَّساً وآيةً من آيات الوطنية. فإذا ورد ذكر التركي على أحد أساتذتها جعلهُ عنواناً للظلم , ومثلاً للقسوة , وعدواً أبدياً يجب على كل فرد أن يرضع بغضه مع حليب أمِه. انظر إلى اليونان تجد الأساتذة والوالدين والوالدات وكلّ عجوز بالية يردّ دون ذكر مجدهم القديم , ويعدّون التركي مغتصباً لأرضهم هدَّاماً لدولتهم , هضّاماً لحقوقهم , ويمزجون ما يحويهِ تاريخهم من الحقائق الجارحة بخرافات وحكايات نظمها لهم أساتذتهم وشعراؤهم ليربّوا فيهم كراهة التركي , ويحملوهم على التفكير المستمرّ في استرجاع ما وقع في قبضته من ملكهم القديم , ويجعلوا طلب الثأر نصب

أعينهم على أن يأتي وقته. ثم تراهم يهتمون اهتماماًَ خاصاً بأخبار أبطالهم والمنظومات الحماسية لشعرائهم القدماء وفي طليعتهم هوميروس صاحب الإلياذة الخالدة , ويردّدون على الأخصّ , من الحوادث الغابرة , قصة يسمونها حكاية علي باشا في يانيا فيعزون إليهِ من الفظائع والأهوال ما يشيب الطفل في مهده , ويزعج الميت في لحده. وهم يجعلون فيها القطرة بحراً والصفر سفراً ويرتبونها كما يشاء الخيال , إذ لا يهمم منها إلاّ أن تجيء في شكل يُبكي النساء والأطفال , ويُثير قلوب الرجال. قال كاتب فرنساوي كبير يمكننا أن نقول ولا نخشى الخطأ أنَّ حكاية يانيا حضَّت الأمة اليونانية على الجهد الذي بذلتهُ في الحرب الأخيرة حضّاً كبيراً وأثرت فيها تأثيراً شديداً. فإنك تجد كل قرية وكل دسكرة في الجزر اليونانية تأخذها الرعدة من تذكار يانيا. وترى النساء ينقلنَ تلك الحكاية إلى أولادهنَّ ويذكرنَ ما أتته بعض اليونانيات من الأعمال في مجال القتال. وما من أثر أبقى في النفوس وأقوى في القلوب من حكايات وطنية تعيدها الأم وهي جاثية أمام سرير ولدها وأضفْ إلى حوادث التاريخ القديم والمتوسط حادث لفشل الكبير الذي حلَّ بهم في حرب سنة 1897. فإنهم لبثوا بعدها يتطلعون إلى الثأر واستقدموا جماعةً من الضباط الفرنساويين فنظَّموا لهم جيشهم , وجددوا مدافعهم. وكان يزيدهم حقداً على حقد أنَّ الحكومة العثمانية ظلّت واقفة لدى الحكومة اليونانية ويدُها على مقبض السيف لتوقع الرُعب في قلبها وتمنعها من ضمّ جزيرة كريت إلى أملاكها. وكانت جرائد الأستانة تنذر اليونان في كل يوم بالزحف على أثينا إذا قبلوا المندوبين الكريتيين في البرلمان اليوناني كما طلب أهل تلك الجزيرة. وإذا رجعنا إلى تاريخ البلغاريين وجدنا أنَّ الحقدَ ينمو في قلوبهم منذ سنة 1393 أي السنة التي سقطت فيها الدولة البلغارية في قبضة تركيا. وإذا أراد

القارئ أن يعرف مبلغ بغضهم للتركي - وكلّ موظفٍ عثماني هو تركي عندهم - فحسبُهُ أن يقرأ شيئاً مما يلقونهُ على أولادهم أو يسمع ما يقوله الشيوخ والعجائز منهم. ذكر لي صديقي حقي بك العظم أنهُ زار صوفيا , عاصمة البلغار , منذ بضعة أعوام , وذهب يوماً مع نسيبٍ له كان معتمداً عثمانياً سامياً في مركبة الوكالة العثمانية إلى بعض أحياء لمدينة؛ وبينما كانا مارّين أمام بيت إحدى العجائز , خرجت هذه وبيدها قدرٌ من الأقذار المختلفة وقذفت بهِ على طربوشيهما وملابسهما العثمانية. وليس يدلنا على اعتنائهم الشديد بتربية الحقد على الأتراك وزيادة النفور منهم مثل أمر مأثور. وهو أنهم تركوا مجلةً صغيرة في عاصمتهم على أسوأ حال لتكون عبرةً لكل بلغاري فيتذكر على الدوام ما كانت عليهِ بلادهم في عهد الحكم التركي. والواقع أن تاريخ البلغار منذ سقوط دولتهم سنة 1393 إلى سنة 1877 كان تاريخ ذُلٍّ وهوانٍ فإنهم كانوا أرّقاء تلعب الأكفُّ التركية في رقابهم , وإذا شكوا حكمتِ السيوف في هاماتهم. ولبثوا سنواتٍ عديدة على أثر سقوط ملكهم يحسبون الأتراك من محقدٍ أشرف من محتدهم حتى صَّحت فيهم حكمة القائل أن الاستعباد يُفقدَ الشعوبَ فضيلة الرجولية على أنهم كانوا مثل كل شعب مغلوبٍ على أمره وله تاريخ قديم , يذكرون استقلالهم الذي تغلغل في طياتِ الزمان ويحنّون إليهِ وهم في روايا بيوتهم , ويشكون بصوتٍ خافت من حكامهم. ولبثوا على تلك الحال من الجبن والمسكنةِ حتى سنحت الفرصة لانفجار حقدهم الكامل قُبيلَ معاهدة برلين. وكانت عوامل إيقاظهم ثلاثة: أولها أنَّ ولاة أمورهم غلوا أشدَّ غلوٍّ في الضغط عليهم فكانت نتيجة هذا الضغط انفجار ذاك الحقد؛ والثاني أن روسيا العدوَّة القديمة لتركيا كانت تحضهم وتعدهم بالعون والمدد؛ والثالث أن تحريرهم من قيد الكنيسة اليونانية أنشأ فيهم روح الاستقلال.

بقيت تلك العوامل الثلاثة تعدّ نفوسهم للثورة ونزيد حقدهم المتأجج حتى هبوا ينفضون عنهم غبار الذُلّ العتيق. ولما ثارت البوسنة والهرسك سنة 1875 رأى ذوو الإِقدام منهم أنَّ الفرصة كانت موافقة للثورة وشفاء النفوس من الضغينة. على أنهم لم يكنفوا بالخروج على الحكومة بل ارتكبوا جناية ذبح المسلمين في بعض القرى. ولم تكن ثورتهم وقتئذ عامة لأن قسماً كبيراً منهم كان لا يزال خائفاً من سادته الأتراك. وما ترامى خبر فتنتهم على الباب العالي حتى عقد العزيمة على تأديبهم وكان التأديب واجباً. إلاَّ أنهُ أخطأ الطريقة المثلى فأطلق عليهم ألوفاً من الجنود غير المنظمة بدلاً من أن يسير إليهم جنوداً نظامية تحت امرأة قائد عاقل يضع اللينَ في محلهِ والشدة في موضعها. وروى قنصلاً فرنسا وانكلترا في تقاريرها الرسمية إن عدد ذبحتهم تلك الجنود من رجال ونساء وأطفال يبلغ ما بين 15 و20 ألف نفس فكان لذاك الحادث صدى عظيم في أوربا , وهبّ غلادستون فألقى خطبهُ الشهيرة عن تركيا والأتراك وأنسى الأوروبيين أن البلغاريين فتكوا هم أيضاً بالمسلمين الآمنين. ولا غرو فإن الحادث الأكبر ينسي الحادث الأصغر؛ وهناك سبب آخر وهو أن شعور كل فئة بنكبات أهل دينها أشد من شعورها بأرزاء الآخرين , وهذا طبيعي تجده عند جميع الأمم والملل ولا يتغير ما دام الإنسان إنساناً. وقليل هم لسوء طالع الإنسانية أولئك الذين يضعون الحق فوق كل شيء. على أن هذا كلهُ بعضُ ما جرى بين العدوّين وهو يكفي للدلالة على أن الجيش البلغاري لم يزحف وحدهُ من صوفيا بل زحف هو وحِقدُ خمسماية سنة!. . . وليس حقدُ الصربيين وأهل الجبل الأسود على الأتراك بأخفّ من حقد اليونانيين والبلغاريين. فإنهم مثل حلفائهم يربّون في أبنائهم محبة الثأر من تركيا ,

ولا ينسون انتصار الأتراك عليهم وفتكهم الذريع بهمز ذكر البير مالي الأستاذ الكبير في التاريخ السياسي أن المؤرخ الصربي ليوبا كواتشفيتش وقف يرثي ابنه الذي قتل في إحدى معارك الحرب البقانية فقال: يا بنيَّ ننم بسلام فقد أوفيتَ دينك للوطن. وقل لدوشان ولا زار بل قد لجميع شهداء قوصوه أن أمتهم ثأرت لقوصوه. . . ولقد دلت الحرب على أن الثأر الذي أشار إليهِ هذا المؤرخ الصربي هو أمنية كل فرد من أمته , وأنَّ الحقد على الأتراك شامل لطبقاتها. قال أيضاً الموسيو البير مالي أن معارك قوصوه - التي حدثت من نحو 500 سنة - ما زالت تذكر عندهم كما تذكر حوادث رب السبعين عند الفرنساويين , وما برحوا يرددون تذكار القيصر دوشان والقيصر لأزار حتى الآن. ثم روى الأستاذ نفسه دليلاً على احتفاظ الصربيين بما يُضرم الضغينة في قلوبهم على الأتراك قال: أن ألفاً من الصربيين كانوا سنة 1809 محصورين في أحد المعاقل على مقربة من مدينة نيش , فرأوا أن الأتراك أوشكوا أن يستولوا على م وقعهم عنوةً؛ فاختاروا أن ينسفوا معقلهم بما كان عندهم من البارود على أن يقعوا أحياء في أيدي أعدائهم؛ ثم جاء الأتراك بعد نسفه وفصلوا رؤوسهم عن ذاك البرج محفوظاً على شكله؛ فرفعوا الجماجم ودفنوها في مقبرةٍ وابقوا البرج ليراه الأبناءُ والأحفاد , ولقبوهُ ببرج الجماجم , وأصبح أمره موضع قصص العجائز والوالدات في البيوت والأساتذة في المدارس. وليس من غرض هذا الكتاب أن نفيض في شرح الوقائع التاريخية التي أشعلت نار ذاك الحقد. فأنا تختم الكلام عن هذا السبب الأول من أسباب الحرب بما تضمنهُ قانون أصدرتهُ حكومة الجبل الأسود سنة 1484 ليكون دليلاً آخر على

سفراء الدول

الحقد القديم في صدور أهل ذاك الجبل أيضاً وهو: إذا نشبت الحرب بيننا وبين الأتراك فلا يجوز لأحد من أل الجبل أن يترك ساحة القتال إلا بأمر رئيسه. وكلّ من يفرّ أمام الترك يفقد شرفه إلى الأبد ويُصبح محتقراً منبوذاً من آلهِ , ثمَّ يُلبس ثوب امرأة ويُعطى مغزلاً ليشتغل بهِ مع النساء , وتعمد النسوة أنفسهنَّ إلى طرده كما يطرد الجبان الذي يخون وطنه وهنا ندع القارئ يفكر في الحالة النفسية التي كان فيها أعداء تركيا يوم ساروا إلى الحرب وهم يؤملون النصر. يوسف البستاني سفراء الدول يلعب السفراء في الآونة الحاضرة دوراً خطيراً في الحوادث التي تشغل الآن العالم قاطبة. وبهذه المناسبة ننشر للقراء المقالة الآتية التي كتبها خصيصاً للزهور حضرة الكاتب المجيد اسكندر أفندي شاهين صاحب الرأي العام ورئيس تحرير الوطن قال: إذا كان لك على الزمان قضية وفي صدرك الكريم من أهل الزمان غلة لأنهم لم ينصفوك أو لأن عامتهم نسبت فضلك إلى سواك فاعلم أن لك في هذا الظلم شركاءَ يقومون بكبير الأعمال ويُمدح غيرهم من سراة الرجال. هم السفراءُ ينوبون عن ملوك الأرض وشعوبها وينجزون المهام العسيرة على نعهلٍ , ويحلّون المعضلات من وراءِ الحجاب فلا يدري الجمهور بما فعلوا ويزعم الأفراد أن الفضل في الحل لمعاشر الملوك والوزراءِ. ولطالما تغنَّت الأقوام بمدح ملك وردّدت ذكر ذكائهِ الشديد ورأيهِ السديد مع أن الملك لم يكن إلاَّ عاملاً برأي سفيرهِ , ولو ترك الأمر لهُ لبقيت الحالة كما كانت أو ساءَت وتغيَّر تاريخ بني الإنسان. وربما وقع الوزير في

خطأِ يحمله على الخروج من منصبهِ وتحمُّل مرارة وسخط المواطنين , أو رأي الناس يكتبون التاريخ مقلوباً على عادتهم من قدم , وينسبون إليهِ الغلط في السياسة والتدبير وهو مع ذلك بلا ذنب يوجب الملام غير أنهُ وثق بأحد السفراءِ , وعمل برأيهِ أو تحمَّل تبعة غلطهِ الكبير. فالسفير في هذه الممالك هو القوَّة الكامنة وراءَ العرش وهو المحرّك خفيَ عن الأبصار يدير المسائل , ويقضي في الأُمور بالنيابة عن الملوك والوزراء ولكن عامة الخلق لا تفطن إلى وجودهِ في كثير من الأَحوال ولا تنصفه حين توزّع مدائحها على جليل الأَعمال. ما سمعت بسفير نال حقّه ثناءِ الجمهور إلاَّ حين عُقد مؤتمر السفراءِ في لندن وعهدت الدول إلى أعضائهِ الحاليين تسوية المشاكل والبتّ في معظم ما يتعلق بحرب البلقان ومستقبل الشرق القريب. قلت أن السفير نائب للملك أو للدولة في البلد التي يندب لأنتيابها فهو أكبر من الوزير مقاماً يتقدَّمهُ في المحافل الرسمية وقد يتقدَّم بعضَ الأُمراءِ أيضاً فما يعلوهُ في موضع عمله غير ملك البلاد أو الرئيس. وراتب الوزير على الجملة أقل من راتب السفير لأَن وزراءَ الغرب يقتضون حوالي خمسة آلاف جنيه في السنة وأما السفراءُ فرواتبهم من ستة آلاف إلى عشرة في العام. وربما كان سفير الجمهورية الفرنسية في لندن أعظم الأقران راتباً لأنهُ ينال من مال بلادهِ 260 ألف فرنك أو أكثر من عشرة آلاف جنيه؛ ولهُ في عاصمة الانكليز قصر منيف ومقام عظيم. ولا يقلّ السفراءُ في العواصم الكبرى مقاماً عمن ذكرت ولو أن الراتب

أقل ألفاً أو ألفين فإن السفير واحد في الكرامة سواء كان في لندن أو في غيرها من العواصم التي يُعرف فيها وكلاءُ الدول العظمى باسم السفراءِ وهي باريز وبطرسبرج وبرلين وفينا ورومية والأستانة وواشنطون وتوكيو وبكين. وأما الدول الثانية مثل اسبانيا والبلجيك وبقية هذه الممالك والجمهوريات فإن مندوبي الدول فيها يعدّون وكلاءَ سياسيين ورواتبهم تختلف ما بين ألف جنيه في السنة وسبعة آلاف وهو راتب وكيل الدولة الانكليزية في مصر ودريد وريودي جانيرو عاصمة جمهورية البرازيل. وليس يعدّ هذا الراتب كبيراً على السفير أو وكيل الدولة لأنهُ ينبغي لهُ أن يعيش عيشة الملوك وأن يحيي الليالي الراقصة ويؤلم الولائم ويكون في مقدمة أهل البذل والعطاء. وقد كان السفراء قبل هذه الأيام يأخذون معهم من بلادهم جيشاً جرَّاراً من العمَّال والصنَّاع والخدَمة والأطباء وسواهم حتى يكون كل ذي علاقة بقصر السفير من أهل بلادهِ وتعد سفارتهُ مملكة ثانية لملكهِ في عاصمة الدولة الأخرى ولكنهم قللوا من هذا الإسراف في الزمان الأخير. وما زالت السفارة في كل بلاد تعدّ جزءاً من أرض المملكة التي جاء منها السفير: فسفارة الروس في باريز قطعة من أرض روسيا تسري فيها الأحكام الروسية ولا سلطة لفرنسا وقانونها على من دخل أرض هذه السفارة وقس على هذا ما جرى مجراه. يذكرني ذلك بما كان من أمر ملك الانكليز وإمبراطور النمسا في إحدى السنين الماضية فإن الإمبراطور كان قد وعد بزيارة الملك في لندن قم رأى أنَّ الكبر أقعد همتهُ وصيَّر

السفر خطراً عليهِ فعدل عن تلك الزيارة ولما ذهب ملك الانكليز بعد ذلك إلى فينا قام الإمبراطور لاستقباله للسلام عليهِ في السفارة الانكليزية وتعشى فيها ليقال أنهُ زار قرينهُ في أرض انكليزية وهي سفارة انكلترا في عاصمة النمسا. ويذكر من هذا القبيل أيضاً أن رئيس جمهورية الولايات المتحدة لا يدخل سفارة أجنبية لأن قانون الجمهورية يحظر عليهِ السياحة في الأقطار الخارجية مدة الرئاسة , والسفارة عندهم أرض أجنبية كما تقدم البيان فمقام السفير مقام ملك ولهذا تراهم يهتمون غاية الاهتمام لانتقاء السفراء وقد يتنازل رئيس الوزارة عن كرسيه حتى يذهب سفيراً إلى عاصمة من العواصم الكبيرة وتعرض الوزارة من حين إلى حين على بعض السفراء فيأبونها مثل المسيو وادنتون سفير فرنسا السابق في لندن كان رئيس الوزارة الفرنسية ومثل اللورد دفرن سفير انكلترا السابق في باريز عرضت عليهِ الوزارة مراراً فلم يقبلها ولقد قال اللورد بامرستون يوماً وهو أحد وزراء الانكليز المشهورين أنه ليس في كل عشرة ملايين رجل أكثر من واحد يصلح للسفارة. وقوله صحيح لما أن السفير يدير سياسة الدولة التي ترسله والدولة التي تقبله على السواء فهو في يده السلم والحرب إذا كان قليل الميل إلى السلام كان إضرام الحرب على يده من أسهل الأمور. ولما كان هذا المقام السفير وهذا شأنه فهم قد خصُّوه بامتيازات شتى حتى جعلوه مساوياً لملك البلاد التي يقيم فيها وإذا شاء السفير أن يخاطب القيصر أو الملك رأساً في كل أمر فلا سبيل إلى إرجاعهِ عما يريد. ولكن

السفراء وهم دهاة الأمم وجبابرة العقول يؤثرون الوصول إلى غايتهم بطرق اللطف والمجاملة فلا يصرّون على حق لهم يولد الجفاء أو يدعو إلى النفور. وقد بدأوا بإعطاء لسفير حقوق الملك من نحو 185سنة. وكان منشأ هذا الامتياز في لندن إذ حدث فيها أن بعض المتآمرين وأصحاب الدسائس قبضوا على سفير روسيا في لندن وخطفوهُ من وسط المدينة , وأودوا به لأسباب تتعلق بسياسته في داخلية روسيا. فكبر الأمر على حكومة الانكليز وأصدرت أمراً باعتبار سفراء الدول الكبيرة مثل ملك انكلترا في الامتيازات والحقوق حتى لا يبقى سبيل إلى الاعتداء عليهم كما حدث لسفير الروس. واجتمع بعد ذلك مؤتمر للدول في باريز رأى أعضاؤه أن انكلترا أصابت في منح هذه الامتيازات للسفراء , فأجمعوا على تعميم هذا المبدأ في جميع العواصم على السواء. وعلى هذا فإن السفير مثل الملك فوق القانون يمكنهُ أن يأتي ما شاءَ من المنكرات ولا حرج عليهِ ولا سلطة تقوى على رده؛ فكل ما يمكن فعله في هذه الحالة أن الدولة ترجو دولة السفير المذكور إقالته أو نقله من بلادها. ولكن هذا لا يحدث من السفراء وهم رجال الأدب الباهر واللطف المشهور والعقول الكبرى في كل زمان. كذلك عمَّال السفارات وأقاربهم يعدون من أصحاب الامتيازات لا سلطة للحكومة المحلية عليهم بقوة هذا الامتياز وقد تجري محاكمته داخل السفارة حسب قانون بلاده الأصلية. ولكن هذا لا يحدث أيضاً إلا فيما قلّ. وأكثر السفراء يتنازلون عن حق

سفارتهم فيما لو حدث أمر يخالف قانون لبلاد من أحد عمَّالهم ويسلمون ذلك العامل للحكومة المحلية احتراماً لها ولقانونها. حدث مثل هذا من عهدٍ غير بعيد في لندن إذ اعتدى روسي على أحد الأهالي وصفعه على وجهه في قارعة الطريق فلما علم السفير الروسي بما جرى أمر عامله في خدمة السفارة فأثر الرجل عدل انكلترا على ضياع المركز وحكم عليهِ بغرامة مع أنه كان يمكن إنقاذه من العقاب. ومن هذا القبيل أن سفير الأمير كان في باريز صدمت عربته عاجلة صغيرة لأحد الأهالي فحطمتها ولما رأى السفير ذلك عرض على الرجل أن يعوض عليهِ ما فقد في الحال ولكن الرجل كان ذا نزق فلم يكلم السفير وأقام عليهِ قضية وكان كاتب المحكمة جاهاً مثل صاحب القضية فقبلها وأرسل إنذاراً إلى السفير كأنما السفير تحت سلطة القانون. فأعرض السفير الأميركي عن الإنذار وأرسله إلى وزارة الخارجية وكانت النتيجة أن الإنذار الغي في الحال والكاتب عزل وحقوق الرجل ضاعت بقوة الامتياز الذي خصَّ بمعاشر السفراء ويحق لنساء السفراء ما يحق للملكات لأن السفير يتقدم وزراء الأمة التي يقيم في أرضها ولزوجته حق التقدم أيضاً على كل نساء المملكة ما خلا الأميرات. وقد حدث أشكال بسبب امتياز النساء هذا في روميه من بضعة أعوام لأن إحدى الأميرات دعت عليَّة القوم إلى ليلة راقصة فلما انتهى الرقص دعت الأميرة بعض صاحباتها وقريباتها للطعام ولم تدعُ زوجة السفير الفرنسي ولا زوجة السفير الانكليزي إلى المائدة فخرجت

السيدتان من قصر الأميرة مغتصبتين. وأنكر السفيران فعل الأميرة وطلبا من حكومة إيطاليا أن تحملها على الاعتذار وكانت حكومة الطليان في أو الأمر مستخفة بالحكاية فلما كثرت عليها المسائل والرسائل من لندن وباريز اضطرت على العدول عن رأيها وأرضت السفيرين. ويعفي السفراء من الضرائب المحلية والعوائد ورسوم الجمارك حتى أن الأشياء الواردة باسم السفير أو أحد عماله من الخارج ترسل بلا تفتيش ولا تنقيب. وربما ذكر القراء ما حدث في الإسكندرية من زمان قريب بشأن هذا الامتياز فإن قنصل روسيا وقع في مشكلة ورأى عمال الجمرك أن الصناديق التي ترد باسمهِ أو بأسماء مختلفة لترسل على يده إلى من يشاء كثرت فيها المهربات فأفضى الأمر إلى أن الحكومة الروسية عزلت قنصلها أو نقلتهُ من الإسكندرية ولكن حكومة مصر لم يكن لها سلطة عليه مع أنهُ أهانها وهرَّب الممنوع إلى بلادها على طريقة كان لها دوي كبير. على أن السفير لا يجوز له شيء واحد لقاء كل هذه الامتيازات هو التدخل في السياسة الداخلية المتعلقة بالبلاد التي يقيم فيها فإذا عرف عنبهُ تداخل من هذا القبيل ولو كان صغيراً سقط من مقامهِ العالي واضطرّ إلى الرحيل. وقد يحدث من هذا القبيل ما يوقع السفير في حيرة وعقدة لا حلَّ لها مثل أن يكون حزب الأحرار في انكلترا مخالفاً لحزب المحافظين في عقد المخالفة مع روسيا فإذا سئل سفير الروس رأيهُ يوماً وهو يعلم أن عقد المحالفة يفيد بلاده لم يجز له أن يمدح حزباً ويذم حزباً

في البلاد ولا أن يعضد فريقاً بقول له أو رأي لأن أقل إشارة بهذا المعنى تعدّ تدخلاً في السياسية الداخلية لا يجوز. وهذا أيضاً قليل حدوثه. اعلمُ من قبيله حادثة واحدة قديمة جرت في لندن حين تدخل سفير النمسا في سياسة الأحزاب الداخلية تدخلاً لو تمَّ المراد منهُ لأدى إلى سقوط وزارة الانكليز. وقد كان صنيع هذا السفير يومئذٍ شاذاً إلى الغاية القصوى وموجباً للغضب حتى أن حكومة الانكليز أعرضت عن المجاملة وامتياز السفراء وقبضت على هذا السفير وأمرت بمحاكمته فحكم عليهِ القاضي بالحبس. ولما علمت النمسا ببيان ما فعل سفيرها في لندن تبرأت منهُ ورضيت بمحاكمتهِ ومعاقبته فلم ينشأ أشكال ولا حرب. واذكر حادثة أخرى قريبة العهد من هذا النوع هي أن رجلاً من الأميركيين أرسل إلى سفير انكلترا في واشنطون كتباً يسأله فيهِ رأيه عن أي الرجال أصلحهم لرئاسة الجمهورية الأميركية وكان الرئيس يومئذٍ المستر كليفلاند وهم يسعون في إعادة انتخابه فكتب السفير - واسمه اللورد ساكفيل - رداً إلى صاحبه الأميركي يقول أن كل أميركي يحب الخير لبلاده يجب أن يسعى في بقاء المستر كليفلاند رئيساً لجمهوريتها. ونشرت بعض الصحف الأميركية هذا الكتاب فهاج الجمهور ولاسيما الحزب المخالف لكليفلاند وعدوا تدخل السفير الانكليزي في أمورهم الداخلية إثماً لا يغتفر حتى أن المستر كليفلاند اضطر إلى طلب إقالته وأعاد إليهِ أوراق تعيينه فكان لتلك الحادثة صدى ودوي من نحو عشرين سنة وكادت تؤدي إلى وقوع الحرب بين الانكليز والاميركان

الأندلس الجديدة

لأن اللورد سولسبري وهو يومئذٍ وزير الانكليز عدَّ فعل الرئيس إهانة لسفيره فلم يعيّن سفيراً بدله حتى انتهت الانتخابات الأميركية وخرج كليفلاند من منصب الرئاسة. هذا الذي لا يجوز للسفراء وأما الذي يجوز فأكثر منهُ كما رأيت وليس في الأرض فئة أخرى تتنعم بكل هذه النعمة وهذا الامتياز في ديار المتدنين. اسكندر شاهين الأندلس الجديدة ننشر لقراء الزهور في الصفحات التالية قصيدة عصماء في رثاء مقدونيا وخروجها من يد الدولة العثمانية بعد عقد الصلح في مؤتمر لندرا. وهذه القصيدة من أبدع ما جاءت به قريحة شاعر عربي , فقد جمعت من جزالة اللفظ ومتانة السبك وسمو الخيال وبلاغة الإرشاد ما يستغفر القارئ طرباً عند كل بيت من أبياتها , ويستوقفه معجباً بكل معنى من نعانيها. أما ناظم دررها الغوالي فيحق له أن يجلس على عرش دولة البيان ويلقب بأمير الشعر في هذا العصر , كما يسلم بذلك كل من يطالع هذه القصيدة النفسية , وإن كان يؤاخذ شاعرها بأنه مزج الدين بالسياسة ولا دين للسياسة. فها هي الدول التي كانت معادية لتركيا بالأمس تكاد اليوم تشهر بعضها على بعض حرباً طاحنة وهي على دين واحد ومعتقد واحد: يا أختَ أندَلسُ عليكِ سلامُ ... هوَتِ الخلافةُ عنكِ والإِسلامُ نزلَ الهلالُ عن السماءِ فليتَها ... طُويت وعمَّ العالمينَ ظلامُ أزرى بهِ وأزالَهُ عن أوجهِ ... قَدَرٌ يحطُّ البدرَ وهو تَمامُ جرحان تمضي الأمَّتانِ عليهما ... هذا يسيلُ وذاك لا يَلتامُ بكما أُصيبَ المسلمون َ وفيكما ... دُفنَ اليراعُ وغيّبَ الصمصامُ لم يُطو مأتمُها وهذا مأتمٌ ... لبُسوا السوادَ عليكِ فيهِ وقاموا ما بين مصرعها ومصرعكِ انقضت ... فيما نحبُّ ونكرهُ الأيَّامُ

خلَت لقرونُ كلَيلةٍ وتصرَّمت ... دولُ الفتوحِ كأنها أحلامُ والدهرُ لا يألو الممالكَ منذراً ... فإذا غفلنّ فما عليهِ مَلامُ مقدونيا , والمسلمونَ عشيرةٌ ... كيف الخؤولةُ فيكِ والأعمامُ؟ أتراهموا هانوا وكانَ بعزّهم ... وعلوِّهم يتخايلُ الإسلاُم؟ إذ أنتِ نابُ الليثِ , كلُّ كتيبةٍ ... طلعت عليكِ فريسةٌ وطعامُ ما زالتِ الأيامُ حتى بُدّلت ... وتغيَّر الساقي وحالَ الجامُ أرأيتِ كيف أُديلَ من أسُدِ الشرى ... وشهدتِ كيف أُبيحت الآجامُ زعموكِ همّاً للخلافة ناصباً ... وهلِ الممالكُ راحةٌ ومنامُ ويقولُ قومٌ كنتِ أشأمَ موردٍ ... وأراكِ سائغةً عليكِ زحامُ ويراكِ داَء المُلك ناسُ جهالة ... بالمُلكِ منهم علّةٌ وسقامُ لو آثروا الإصلاحَ كنتِ لعرشهم ... ركناً على هامِ النجومِ يقامُ وهمٌ يقيّدُ بعضُهم بعضاً بهِ ... وقيودُ هذا العالمِ الأوهامُ صُوَرُ العَمى شتى وأقبحُها إذا ... نظرتْ بغير عيونهنَّ الهامُ ولقد يقامُ من السيوفِ وليسَ من ... عثراتِ أخلاقِ الشعوبِ قيامُ ومبشّرٍ بالصلح قلتُ لعلَّهُ ... خيرٌ عسى أن تصدقَ الأحلامُ تركَ الفريقان القتالَ وهذهِ ... سلمٌ أمرُّ من القتالِ عقامُ ينعي إلينا المُلكَ ناعٍ لم يطأ ... أرضاً ولا انتقلت بهِ أقدامُ برقٌ جوائبهُ صواعقُ كلُّها ... ومن البروقِ صواعقٌ وغمامُ إن كان شرٌّ , زارَ غير مفارقٍ , ... أو كان خيرٌ , فالمزارُ لمامُ بالأمس أفريقا تولَّت وانقضى ... مُلكٌ على جيد الخضّمِ جسامُ

نظم الهلالُ بهِ ممالكَ أربعاً ... أصبحنَ ليس لِعقدهنَّ نظامُ من فيتحِ هاشم أو أميَّة لم يضعْ ... أساسَها تترٌ ولا أعجامُ واليوم حُكمُ الله في مقدونيا ... لا نقضَ فيه لنا ولا إبرامُ كانت من الغربِ البقيةُ فانقضت ... فعلى بني عثمانَ فيهِ سلامُ أخذَ المدائنَ والقرى بخناقها ... جيشٌ من المتحالفينَ لهامُ غطَّت بهِ الأرضُ الفضاءُ وجوهَها ... وكست مناكبَها بهِ الآكامُ تمشي المناكرُ بين أيدي خيلهِ ... أنَّى مشَى والبغيُ والإجرامُ ويحثّه باسم الكتابِ أقسّةٌ ... نشطوا لما هو في الكتاب حَرامُ ومسيطرون على الممالكِ سُخّرت ... لهم الشعوبُ كأنها أنعامُ من كلِّ جزّارٍ يرومُ الصدرَ في ... نادي الملوكِ وجدّهُ غنَّامُ سكّينهُ ويمينهُ وحزامهُ ... والصولجانُ جميعُها آثامُ عيسَى سبيلُك رحمةٌ ومحبةٌ ... في العالمينَ وعصمةٌ وسلامُ ما كنتَ سفَّاك الدماءِ ولا امرأً ... هانَ الضعافُ عليهِ والأيتامُ يا حاملَ الآلامِ عن هذا الورى ... كُرت عليهِ باسمكَ الآلامُ أنت الذي جعلَ العبادَ جميعَهم ... رَحماً وباسمكَ تُقطع الرحامُ أنتِ القيامةُ في ولاية يوسفٍ ... واليومَ باسمكَ مرتين تقامُ كم هاجَهُ صيدُ الملوكِ وهاجَهم ... وتكافأَ الفرسانُ والأعلامُ البغيُ في دينِ الجميعِ دنّيةٌ ... والسلم عهدٌ والقتالُ ذمامُ واليومَ يهتف بالصليبِ عصائبٌ ... همُ للإله وروحهِ ظُلاَّمُ

خلطوا صليَبك والخناجرَ والمُدى ... كلٌّ أداةٌ للأذى وحِمامُ أوَ ما تراهم ذبَّحوا جيرانَهم ... بين البيوتِ كأنهم أغنامُ كم مُرضَعٍ في حجر نعمتهِ غدا ... ولهُ على حدِّ السيوفِ فطامُ وصبيةٍ هُتكت خميلةُ طهرها ... وتناثرت عن نَورهِ الأكمامُ وأخي ثمانينَ استبيح وقارُهُ ... لم يُغنِ عنهُ الضعفُ والأعوامُ وجريحِ حربٍ طامي وأدُوهُ لم ... يعطفهمو جرحُ دمٍ وأوامُ ومهاجرينَ تنكَّرت أوطانُهم ... ضلّوا السبيلَ من الذهولِ وهاموا السيفُ إن ركبوا الفرارَ سبيلُهم ... والنطعُ إن طلبوا القرار مقامُ يتلفَّتون مودّعينَ ديارَهم ... واللحظُ ماءٌ والديارُ ضرامُ يا امةً بفروقَ فرَّقَ بينهم ... قَدرٌ تطيشُ إذا أتى الأحلامُ فيما التخاذلُ بينكم ووراءكم ... أممٌ تُضاعُ حقوقُها وتضامُ الله يشهد لم أكن متحزّباً ... في الرزءِ لا شيَعٌ ولا أحزامُ وإذا دعوتُ إلى الوثام فشاعرٌ ... أقصى مناه محبةٌ ووئامُ من تُضجرُ البلوى فغايةُ جهدهِ ... رُجْعَى إلى الأقدار واستسلامُ لا يأخذنَّ على العواقب بعضكم ... بعضاً فقِدْماً جارتِ الأحكامُ تقضي على المرءِ الليالي أو لهُ ... فالحمد من سلطانها والذامُ من عادةِ التأريخ ملءُ قضائهِ ... عدلٌ وملءُ كنانتَيهِ سهامُ ما ليس يدفعهُ المهنَّدُ مصلَتاً ... لا الكتْبُ تدفعهُ ولا الأقلامُ إنَّ الآُلي فتحوا الفتوح جلائلاً ... دخلوا على الأسُدِ الغياضَ وناموا هذا جناه عليكمو آباؤُكم ... صبراً وصفحاً فالجناة كرامُ

رفعوا على السيف البناء فلم يَدُمْ ... ما للبناءِ على السيوف دوامُ أبقي الممالكِ ما المعارف أسُّهُ ... والعدل فيهِ حائطٌ ودعامُ فإذا جرى رشداً ويمناً أمرُكم ... فامشوا بنور العلم فهو زمامُ ودعوا التفاخرَ بالتراث وإن غلا ... فالمجد كسبٌ والزمان عصامُ إن الغرور إذا تملَّك أمةً ... كالزهر يُخفي الموت وهو زؤامُ لا يعدلنَّ المُلك في شهواتكم ... عَرَضٌ من الدنيا بدا وحُطامُ ومناصبٌ في غير موضعها كما ... حلَّت محلَّ القدرة الأصنامُ الملكُ مرتبة الشعوبِ فإن يفتْ ... عزَّ السيادة فالشعوب سوامُ ومن البهائم مُشبَعٌ ودلَّلٌ ... ومن الحرير شكيمةٌ ولجامُ وقف الزمانُ بكم كموقف طارقِ ... اليأس خلفٌ والرجاءُ أمامُ الصبر والإِقدام فيهِ إذا هما ... قَتلاَ فأقتلُ منهما الإِحجامُ يُحصي الذليلُ مدى مطالبهِ ولا ... يُحصي مدى المستقبَلِ المقدامُ هذه البقية لو حرصتم دولةٌ ... صال الرشيد بها وطال هشامُ قِسمُ الأئمةِ والخلائف قبلكم ... في الأرض لمن تُعدَل بهِ الأقسامُ سرَت النبوَّة في طهورِ فضائهِ ... ومشى عليهِ الوحيُ والإِلهامُ وتدفَّقَ النهرانِ فيهِ وأزهرت ... بَغداد تحت ظلالهِ والشامُ أثرتْ سواحله وطابت أرضهُ ... فالدرّ لجٌ والنُضار رغامُ شرَفاً أدِرنَهُ هكذا يقف الحمى ... للغاصبين وتثبت الأقدامُ وتردُّ بالدمِ بقعةٌ أُخذت بهِ ... ويموت دون عرينهِ الضرغامُ والمُلك يؤخذُ أو يُرَدُّ ولم يزل ... يرث الحسامَ على البلاد حُسامُ عِرضُ الخلافةِ ذاد عنهُ مجاهدٌ ... في الله غازٍ في الرسول همامُ

نستعِصمُ الأوطانُ خلف ظباتهِ ... وتعزُّ حول قناتهِ الأعلامُ عثمان في بردَيه يمنع جيشهُ ... وابن الوليد على الحمى قوَّامُ علم الزمان مكان شكري وانتهى ... شكر الزمان إليه والإِعظامُ صبراً أدرْنهُ كل ملكٍ زائل ... يوماً ويبقى المالك العلاَّمُ خفَتَ الأذانُ فما عليكِ موحّدٌ ... يسعى ولا الجُمَع الحسان تقامُ وخبت مساجدُ كنَّ نوراً جامعاً ... تمشي إليهِ الأسد والآرامُ يدرجنَ في حرم الصلاة قوانتاً ... بيضَ الإزار كأنهنَّ حمامُ وعفَت قبور الفاتحين وفُضَّ عن ... حفرِ الخلائف جندل ورجامُ نُبشت على قعساء عزَّتها كما ... نُبشت على استعلائها الأهرامُ في ذمة التاريخ خمسةُ أشهر ... طالت عليكِ فكل يوم عامُ السيف عار والوباءُ مسلطُ ... والسبل خوفٌ والثلوج ركامُ والجوع فتَّاكٌ وفيكِ صحابةٌ ... لو لم يجوعوا في الجهاد لصاموا ضنُّوا بعرضِكِ أن يباعَ ويُشتري ... عِرضُ الحرائر ليس فيهِ سوام ضاق الحصارُ كأنما حلقاتهُ ... فلكٌ ومقذوفاتها أجرامُ ورمى العدى ورميتِهم بجهنَّمٍ ... مما يصبُّ الله لا الأقوامُ بعتِ العدوَّ بكل شبرٍ مهجةً ... وكذا يباع المُلك حين يرامُ ما زال بينك في الحصار وبينهُ ... شمُّ الحصون ومثلهنَّ عظامُ حتى حواكِ مقابراً وحويتهِ ... جثثاً فلا غبنٌ ولا استذمامُ

أزهار وأشواك

أزهار وأشواك نقل رفات اليازجي أمضي وتبقى صورتي فتعجَّبوا ... تمضي الحقائقُ والرسومُ تقيمُ والموت تحلبهُ الحياةُ فلو حوى ... روحاً لمات الهيكلُ المرسومُ الشيخ ناصيف اليازجي لا يحقُّ لنا بعد الآن أن نقولَ أن الشرق لا يزال يجهل قدر أُدبائهِ ونوابغهِ. فإن الحركة التي رأيناها في هذه السنة لإكرام الإحياءِ من أدبائنا وكتَّابنا , وتخليد ذكر الدارجين منهم تدلُّ على نهضةٍ مباركةٍ في

النفوس وترقٍّ محمود في الأخلاق. أقول ذلك بمناسبة الحفلة المؤثرة التي أُقيمت على أحد أرصفه. أنت في الدنيا كضيف نازلٍ ... حلَّ في الأحياءِ حيناً وانصرَفْ فاحيَ بالذكرِ إذا العمرُ انقضى ... واجعلِ الرسمَ من لجسمِ خَلَفْ الشيخ إبراهيم اليازجي محطة مصر في الرابع من الشهر الجاري وداعاً لعظامٍ بالية كانت تحييها بالأمس روح نابغة من نوابغ كتَّابنا , وقد أتى جمهورٌ من الأدباءِ والوجهاء

والفضلاء في مصر يشيعون تلك العظام بتجلة وإكرام كما يُشيَّع الأمراءِ والملوك , واحتشدوا يبكون سليل الأسرة اليازجية ويعدون فضلهُ ومناقبهُ. افتتح التآبين والمرائي سعادة أحمد باشا زكي سكرتير مجلس النظار فأطنب في مدح الفقيد وغيرتهِ على لسان العرب ورثاهُ باسم مصر بكلام فصيح بليغ , ونحا نحوهُ حضرة رفيق بك العظم , فأتى في خطاب جامعٍ على لمحةٍ من تاريخ اللغة العربية ونهضتها منذ نصف قرن على يد أمثال البستاني والنقاش واليازحي والأسير والشدياق. وتكلم على الأثر الدكتور خليل بك سعادة موجّهاً الخطاب إلى الفقيد الكريم وقد أخذ التأثر منهُ ومن الحاضرين مبلغه. ثمَّ ألقى خليل مطران قصيدةً من شعرهِ المعروف بسموّ الأفكار وابتكار المعاني , قال في مطلعها: أحننتَ من شوقٍ إلى لبنانِ ... وارحمتا لكَ من رميمِ عانِ شوقٌ تكابدُهُ ويثوي منكَ في ... مثوى الرُّؤَى من مهجةِ الوسنانِ جسُّوا مظنَّةَ حسِّه , أفنابضٌ ... فيها فؤادُ متيّمٍ ولهان واستطلعوا الرسمَ المحبلَ فهل بهِ ... يومَ المآب الفرّة عينانِ وقال في ختامها مخاطباً نعش الفقيد: أبلغْ وديعتَنا إلى أحبابنا ... واحمل تحيّتنا إلى الأوطانِ كنا نودُّ بك المصيرَ إلى الحمى ... وتأسّيَ الإِخوانِ بالإِخوانِ لكن عدانا البينُ دون عناقِهم ... فتولَّ وليتعانقِ الدمعانِ وأنشد أسعد أفندي داغر أبياتاً جميلة استنهض بها سوريا لتستقبل الوديعة الثمينة التي تردّها إليها مصر اليوم.

ثمَّ صفر البخار مؤذناً في الرحيل وقطر العجلة الخصوصية التي تقلُّ رفات فقيد اللغة وقد كُسيت بأكاليل الزهر والريحان. وسارت وراءَها الأبصار والقلوب تشيعها من القطار إلى الباخرة ومن الباخرة على ثغر بيروت حيث يستقبلها أدباءُ سوريا كما ودَّعها أدباءُ مصر لتُضمّ هناك عظام إبراهيم إلى عظام أبيهِ ناصيف , وشقيقهِ , خليل في مدفنٍ واحد وقد كتبت عليهِ تلك الأبيات التي تصدق في الوالد والولد وهي من نظم الفقيد: هذا مقامُ اليازجيِّ فقف بهِ ... وقُل السلامُ عليكَ يا علَمَ الهدى حَرَمٌ تحجُّ إليهِ أربابُ الحجي ... أبداً وتدعو بالمراحمِ سَرمدا هو مغربُ الشمسِ التي كم اطلعت ... في شرقِ آفاقِ البلاغة فرقَدا فخرُ النصارى صاحبُ الغُرر التي ... ضرَبتْ على ذكرِ البديع وأحمدا هذا عمادُ العلم مال بهِ القضا ... فأمال ركناً للعلوم مشيَّدا أمسى تجاهَ البحر جانب تربةٍ ... هي مجمع البحرين أشرف محتدا فعليك يا ناصيفُ خيرُ تحيةٍ ... طابت بذكرك حيثُ فاح مردّدا لو أنصفتك النائبات لغيَّرت ... عاداتها ووقَتكَ حادثة الرَّدى تتنزلُ الأملاكُ حولك بالرضي ... ويجودُ فوقك باكراً قطرُ الندى وجميلُ حظّك في المماتِ برحمةٍ ... أرّخ وفضلكَ في الصحائف خُلّدا هذا بعض ما يسمح لي المقام وقاراً بذكرهِ عن حفلة مساء يوم الأربعاء على محطة مصر. وقد زاد الموقف وقاراً وخشوعاً وجود أخت الفقيد السيدة وردة اليازجي الشاعرة المجيدة وهي متشحة بالسواد , مكسورة الفؤاد. نظرتُ إليها عن بعد محترماً حزنها , وراثياً لمصائبها , ولم أتمالك من سكب دمعة عند منظر هذه الخنساء الجديدة. حاصد

ثمرات المطابع

ثمرات المطابع شرح القانون المدني - هذا كتاب لم يوجد في مصر باللغة العربية من قبل اليوم؛ وربَّ كتابٍ واحدٍ يعدل جملة كتب. وضعهُ سعادة المفضال أحمد فتحي باشا زغلول وكيل نظارة الحقَّانية؛ وكفى بذكر اسم

ذلك الرجل دليلاً على فضله. وقد رمى سعادته بنشر هذا المؤلَّف النفيس إلى ثلاثة أغراض: أولها تقريب قواعد القانون المدني من أذهان الكافة تسهيلاً لمعرفة أحكام المعاملات؛ وثانيهما إفادة طلية الحقوق في درسهم بما يجدونه فيهِ من المرشد إلى المعلومات التي يحتاجون لمراجعتها فيكون لهم منهُ متنٌ يذكرّهم بما تلقّوه؛ وثالثهما استنهاض همة القانونيين إلى الاشتغال بالقانون المدني ووضع ما يحتاجه من الشروح باللغة العربية ليكون لنا من وراءِ عملهم مؤلفات تغنينا عن ألتماس علم القانون من غيرنا على الدوام. فالكتاب سوى المشتغلين بعلم الحقوق من طلَبةٍ ومحامين وقضاة. فإن القانون المدني المصري إنما أُخذ في معظمهِ عن وجوه شتى , فلا جرَم أن يكون قد مشقَّات جلَّى , حتى تسنّى له أن يُخرج للناس هذا المؤلَف المفيد. وغلى هذا أشار سعادتهُ بقوله: أتعبني النصُّ الفرنساوي بإيجازه المخلّ وتشويش ترتيبه الذي يشتت الذهن ويضيع الوقت؛ ولكنَّ النصَّ العربي أعياني أعياءَ. وقد قسم الكتاب إلى أربعة أقسام هي: قسم الأشخاص والأموال وما يترتب عليها من الحقوق؛ وقسم التعهدات والالتزامات؛ وقسم العقود المعينة والتأمينات؛ وقسم الأدلة. واعتمد في ذلك جميعه الرجوع إلى أشهر المؤلفين باللغتين العربية

والفرنساوية فجاءَ الكتاب الذي بصدده مرجعاً يُرجع إليه , ومورداً سائغاً يُستقى منه. فشرحُ القانون المدني حلقة جديدة أُضيفت إلى سلسلة ذهبية مما ألَّفهُ وترجمهُ أحمد فتحي زغلول تلك السلسلة التي تعلّق اسم هذا الرجل المفضال إلى جانب أسماء الرجال الذين عملوا حقيقةً على إفادة الأمة المصرية , وخدموها أجلَّ الخدمات , فحفظ لهم التاريخ الذكر الطيّب والجميل العظيم. محاسن الطبيعة - للمرحوم الللورد افبري شهرة واسعة بين أهل العلم والأدب لا يجهلها أحد ممن وقف على مؤلفاتهِ الكثيرة وآرائهِ الشهيرة. وقد نُقلت مؤلفاته إلى معظم اللغات الأوروبية وغيرها وكان للغة العربية حظ بأربعة منها عني بنقلها غليها حضرة الكاتب الأديب وديع أفندي البستاني وهي: معنى الحياة ومسرات الحياة والسعادة والسلام ومحاسن الطبيعة. وقد ظهر الكتاب الأخير حديثاً فإذا بهِ كسائر مؤلفات ذلك الرجل العظيم آية من آيات السحر الحلال إذ بحث فيهِ المؤلف في عالَمي الحيوان والنبات ثمَّ تناول وصف المناظر التي يتألف منها عالم الشهادة كالبحور والأنهار والبراكين والجبال والأودية والأفلاك على اختلاف أنواعها. فوصف محاسن كل منها بما لم يبقَ معهُ مطمع لمستزيد , ونسَّق كلامهُ أحسن تنسيق بحيث يأخذ بمجامع الفؤاد فلا يكاد القارئ يفرغ من قراءَة وصف حتى يتشوّق إلى

غيره , وهذه إحدى مميزات هذا الكتاب. ولا شك أن اللغة العربية في افتقار شديد إلى أمثال هذه المؤلفات الأدبية مع أنها غنية بالكتب التي كان يجب أن تكون غنيةً عنها. ويسرنا أن نرى اليوم للّغة من ورائها حياة جديدة. ولا يخفي أن مقياس ارتقاء كل أمة هو مؤلفاتها الأدبية فبقدر انتشار هذهِ المؤلفات تكون رفعة شأنها ومبلغ عظمتها. والمجال أضيق من أن يتناول إسهاباً في وصف كتاب محاسن الطبيعة المشار إليهِ فهو حافل بفوائد تضيق هذه السطور عن تعدادها ويكفي القول بأنهُ من الكتب التي قد اهتمت مطبعة المعارف المعارف بنقلها ونشرها مع ما هو معروف عن هذه المطبعة من الحرص في نشر الكتب الجزيلة النفع بين أبناء اللغة العربية. ومما يزيد في قدر الكتاب الذي نحن بصدده أنهُ صدر بيننا على أثر وفاة مؤلفهِ اللورد افبري؛ فقد نعه إلينا البرق منذ أسبوع بعد أن ناهز الثمانين من عمره. فذهب مبكيّاً عليهِ وترك وراءهُ ذكراً يبقى ما بقي العلم والأدب. لسان العرب - مجلة تاريخية اجتماعية عليمة أدبية يصدرها في الأستانة مرَّة في كلّ شهر حضرة الفاضل أحمد عزت أفندي الاعظمي. وقد تصفحنا ما ورد علينا منها فراقنا ما احتوائهُ من المواضيع ورجونا لها سعة الانتشار.

العدد 36

العدد 36 - بتاريخ: 1 - 7 - 1913 الرئيس بوانكاره في بلاد الانكليز ثلاثةٌ من رؤساءِ الجمهورية الفرنسوية زاروا عاصمة بريطانيا العظمى في السنوات العشر المنقضية: زارها مسيو أميل به سنة 1903 , وكانت الدولتان لا تزالان في مناظرةٍ شديدة , فأُبرم في السنة التي تلت الاتفاقُ الانكليزي الفرنسوي الذي قلب سياسة العالم , وغير موقف دول أوروبا تجاه بعضها بعض. وزارها مسيو أَرمان فاليير سنة 1908 , وكانت الدولتان العظيمتان قد أدركتا فوائد اتفاقهما , وشعر العالم بنتيجة اتحادهما؛ وجاء المعرض الانكليزي الفرنسوي الذي أُقيم في لندرا محكماً تلك الروابط الجديدة بين أبناءُ السين وأبناءِ التاميز. وزراها مسيو ريمون بوانكاره في الشر الفائت. فبالغ الشعب

البريطاني في إكرامهِ والاحتفاءِ بهِ. وتجلَّى اتفاق فرنسا وانكلترا بأبهى مجاليهو وأسنى مظاهره. قال أحد كبار الساسة الانكليز منذ نصف قرنٍ ما اتفقت فرنسا وانكلترا على أمر , إلاَّ وكان ذلك الأمر لخير الإنسانية وتابيد العدل والآن نسمع شعوباً كثيرة تئنُّ , وأُمماً عديدة تشكو. ونرى من جهةٍ ثانية فرنسا وانكلترا متصافحتين متفقتين. فهل يكون هذا الاتفاق لخير تلك الأمم الشاكية , وإنصاف هاتيك الشعوب المظلومة. . .؟ هذا ما يرجوهُ المتعطشون إلى العدل , الراغبون في الحرية , التائقون إلى الحياة. أكرمت بريطانيا العظمى في شخص زائرها الكريم دولة الحرية والمساواة والإخاءِ , تلك الكلمات الثلاث التي ستعيّد لها الأمة الفرنسوية في الرابع عشر من هذا الشهر , والتي نحاول كلُّ أُمةٍ من الأمم المتدينة أن تجعلها شعاراً لها. أكرم الانكليز في شخص رئيس الجمهورية ممثّل صديقة اليوم , وحليفة الغد , ونصيرة النور والعرفان. وأكرموا فيهِ فوق ذلك الرجل الممتاز بصفاته العالية وأخلاقهِ السامية , الخطيب المفوّه , والكاتب التحرير , والسياسي القدير الذي أجمع الجميع على احترام شخصيته. فقال لهُ ملك بريطانيا وإمبراطور الهند في خطبة الترحيب , ما لم

نسمعه في الخطب التي يتبادلها رؤساء الحكومات وأصحاب التيجان , قال: أنا سعيدٌ بأن أرى في ضيافتي رجلاً ممتازاً بخدمة ِ الجليلة , ذا شهرةٍ بعيدة , ليس فقط في عالم السياسية , بل أيضاً في تلك الجمعية الأكاديمية التي هي موضوع مجدٍ لفرنسا منذ ثلاثة قرون تحسدها عليهِ أوروبا جمعاء هذا ما قالهُ جورج الخامس الذي لا تغيبُ الشمس عن أملاكهِ لابن الشعب الذي توصَّل بجده واجتهاده إلى أعلى مقام يحلمُ بهِ الإنسان. أمّا الأمة الانكليزية فقد عبَّرت عن إعجابها وابتهاجها , كما يُعبّر الشعب , بلا تصنُّع ولا تكلُّفٍ. فكان هتاف التحية والنصر يتصاعدُ من كل الصدور , لفرنسا ولرئيسها وللحرية! ولم ينسوا في هتافهم اللورين , أم الرئيس , وابنه فرنسا المفقودة! وكان الرجالُ والنساءُ حاملين الأزهار الزرقاء والبيضاء والحمراء: ألوان الراية الفرنسويةز وفي أحد الشوارع سُمع صوت الفوتوغراف يحيي الرئيس وينشد المرسلييز , كما سمع صوت الببغاءِ يحيي أغسطوس قيصر عند دخوله رومه. . . . ثلاثة أيام قضاها بوانكاره في عاصمة الانكليز بين مجالي الابتهاج ومظاهر الحفاوةً: عند وصوله يَّاهُ الأسطول الانكليزي بإطلاق المدافع؛ وعند سفره شيَّعتهُ ست طياراتٍ محلقةً فوق البارجة التي تقلّه. وهكذا أرادت انكلترا أن تحيي فرنسا وطن فنّ الطيران.

وقد كان للطيارين شأن يذكر في هذه الزيارة. فإن جريدة الماتن سألت كبار رجال السياسة والأدب رأيهم في زيارة الرئيس لانكلترا وطبعت من العدد الذي نشرت فيه الأجوبة ثلاث نسخ على الحري , فلم ترسلها في البريد بل سلمتها إلى أحد الطيارين الفرنسوين؛ فحملها طائراً من باريس إلى لوندرا , ودفع نسخةً منها إلى الملك جورج , نسخةً إلى الرئيس , ونسخةً إلى محافظ لوندرا. ولم تنقض هذه الزيارة دون أن نسمع صوتاً للشعراء - صوتاً واحداً - ولو كان ذلك عندنا لسمعنا ألف صوت. . .! شاعر انكلترا الكبير روديرد كيبلنغ حيَّا الرئيس بقصيدة وجهها إلى فرنسا , قال: أنت التي عرفت كلّ شقاء معروف وتغلبت عليه لأنكِ تحملين في صدرك حب الحياة السليم: وهو درع بلاد غاليا ففي مغامر النعمة لا تعرفين حداً. وفي مواطن الجهد لا تعرفين ضعفاً أنت الرهيبة بقوةٍ تستمدينها من تربةٍ لا ينفد غناها تحكمين أشدّ الأحكام على قدرك وشأنك. وأنتِ الأمة الرؤوفة بالغير أنتِ الأولى في إتباع الحقيقة الجديدة , والأخيرة في ترك الحقائق القديمة أنتِ فرنسا التي تحبها كل نفس عطوفة إلى حب الناس أتذكرين إننا قبل مولدنا كنا جنباً على جنب نضطرب , كنا معاً في حجر رومة متحرجين لنبدأ بالعراك ,

قبل أن يعرفوا تباين لغاتنا كانوا يعرفون مستقبل مهمتنا كل واحد من هذين الشعبين كان في آن واحد يهيئ مستقبله , ويرتّب مصير أخيه فلهذا هززنا نحن الاثنتين الإنسانية إلى أن صارت الأرض كلها أرضنا! ومن أقصى العالم إلى أقصاه أثارت منازعاتنا السلطات وشيدت عروشاً وقوضت عروشاً وذلك لكي يسد الواحد منا الطريق في وجهِ الآخر تلك شعوب اتخذن لها مقدَّماتٍ لنا. فكانت أجيرات سخطنا وغضبنا لهذا ملانا البحار عواصف , واجتزنا أبواب العالمين الجديدة دون أن نعرف من منا نحن الاثنين كان السابق أتذكرين؟ ويد كل واحد منا على قائم سيفه. وكلنا مستعد ليضرب. وكلنا واثق بأن الملتقى , مهما كان , أثل إلى المعركة. كنا شاكي السلاح , لا يخطو أحدنا خطوة إلاّ أوقفته قوة الآخر , أو دفعته إلى الأمام. لقد اجتزنا طول العصور والأحقاب وقطعنا عرض البحار كلها فأين تقهقرتِ أمامنا؟؟ ومتى تقهقرنا أمامكِ؟؟ سلي أمواج البحار: كل موجة منها قد عرفت إحدى معاركنا أجل حالت بيننا أحياناً شعوب أخرى. لكننا كنا نتركها لنعاود الكرة على بعضنا بعض , لأننا كنا نلذ جميعاً بتعادلنا في الجلاد كان كل واحد منا للآخر سراً وجزعاً وحباً , كنا نتقابل بشعارنا فأية معركة كانت تشرّف أحدنا بالعراك كمعاركنا ونحن الخصمان الباسلان كان أحدنا ينتزع من حلق الآخر شهادة له ببسالته , وهتاف إعجاب به وكلانا صب في جام أخيه دمه ممزوجاً بدمعه: أفراح البأس , والآمال بلا حد , والأشجان الشديدة.

وكل ما لوَّت الحياة , وكل ما رفعها وأعلاها منذ ألف عام , أعمال تنوءُ بها القوى , ومعارك تحت كل شمس وسماء: هذه هي أفعالنا المشتركة يا فرنسا الصديقة! متعانقين الآن تحت عب. واحد من الذكرى والندم أصبحنا نتوق إلى الراحة , ضاحكين من الخدع القديمة التي صرنا الآن نزاها ألا عيب. وننظر إلى إقبال سنين جديدة متسائلين هل يمكن أن تثور عواصف أشد من التي أثرناها. والآن نسمع أصواتاً جديدة تتعالى وتتساءل وتتفاخر وتنادي كما كنا ننادي صاخبين , عندما تتدفق جماهيرنا , أتذكرين؟؟ حباً بالحياة ذاتها كان أحدنا يتفحَّص حسام الآخر , فأي دمٍ وأي حسام يفعلان أكثر مما فعلنا؟؟ فيا لها من مدرسة صارمة تعلمنا فيها أن يعرف الواحدُ منا الثاني نحن الذين تغازينا سواحلنا وتناهبنا منازلنا من يوم رنّ سيفُ برنّوس وهو واقع في ميزان رومه! ونحن اليوم نتماسك ثانية جسماً لجسم لصون سلام الأرض بالسهر عليه نقياً من كل دم فكان لهذه القصيدة أعظم وقعٍ في النفوس , وتناقلتها صحف الأمتين معلقة عليها الكلمات لما تضمنتهُ من الشعور الصحيح والخيال الراقي. انبرى لردّ التحية الشاعر الفرنسوي فرنان غريك , ونحن نقتطف من قصيدته بعض مقاطعها: أجل أيها الرفاق! كلانا أبلى في القتال بلاءٍ حسناً

كان أسطولانا يجوبان البحار , ويطرقان المواني , يبحث الواحد عن الثاني كان أسطولكم ضخماً قويّاً متغلباً على ثبَج البحر وكان أسطولنا رشيقاً فتَّاكاً مزيناً بالأعلام وكلاهما ملك البحر والهواء رآهما العالم من بريطانيا العظمى إلى أميركا يتقاتلان في أماكن لا اسم لها ولا ذكر وقد أصبحت مشهورة بعد معاركنا. . . والآن , وقد أطرحنا الحقد , يمكننا أن نقص على بعضنا بعض تاريخ مواقعنا الهائلة دون أن نخجل من الماضي أما جان درك ونابوليون فإن احترامكم وتمجيدكم لها الآن يمحو كلَّ ذكرٍ سيء. . . بلى بقال عنا معشر الفرنسويين أننا نملأ الأرضَ ضجيجاً , ونصمّ الآذان بمناداتنا بالحرية والمساواة والإخاءِ بلى ولكننا كثيراً ما نجتزّ رؤوس بعضنا بعش من أجل هذه الكلمات , وذلك ليستفيد العالم! فلنأتلف يا انكلترا ذات العقل الشريف واليد القوية فنقوى حينئذٍ على تسكين آلام وسدّ ينابيع الدمّ.

عطلة الصيف

عطلة الصيف هذا هو الجزءُ الأخير الذي يصدر من مجلة الزهور قبل عطلة الصيف. وموعدنا والقراءُ الكرام أوَّل أكتوبر القادم. أصدرت إدارة هذه المجلة في سنتها الأولى , بعنوان مصر وسوريا عدداً كبيراً ممتازاً جمعت فيه أقوال الكتَّاب والشعراءِ قديماً وحديثاً في القطرين الشقيقين , كان لهُ أحسن وقع في عالم الأدب. وقد عزمت في هذه السنة أيضاً على إصدار عددٍ ممتازٍ في موضوع خاص شأن المجلات الكبرى في أوروبا. ولما كانت الزهور لم تفتأ منذ نشأتها تواصل السعي في إيجاد صلة تعارفٍ بين أدباءِ الأقطار العربية , رأت - إتماماً للفائدة , وإِجابة لرغبة الكثيرين من القرّاء - إن تجعل موضوع ذلك العدد الخصوصي. مراكش والجزائر وتونس وطرابلس وسنتجمع فيه خلاصة ما يهم القرّاء معرفتهُ عن تلك البلاد العربية , وحالتها الأدبية والاجتماعية , ومشاهير كتَّابها وشعرائها , ومدارسها وصحافتها وأنديتها , إلى غير ذلك من الشؤون المتعلقة بها. وسنسعى إلى الحصول على الصور والرسوم اللازمة زيارة في التفكهة والفائدة. ونحن نرغبُ إلى قرائنا أن يمد بآرائهم , ويواعدنا بما لديهم من المعلومات عن هذا الموضوع , لتكون هذه الهدية التي نعدُّها لهم أكثر فائدة , وأتمَّ رونقاً.

زواج ابنة غليوم الثاني

زواج ابنة غليوم الثاني أو مصالحة أُسرتي هانوفر وهو هنزُلرن 24 أيار 1913 كثر عدد الذين خافوا على الإمبراطور الألمانية من سنة 1913. وذهب القوم في تأويل هذا الخوف وتعليله مذاهب شتى. وقد رووا لنا - وكانت مجلة الزهور في جملة الراوين - ما تنبأ بهِ بعضهم للإمبراطور غليوم الأول من أن سنة 1913 ستكون سنة شؤمٍ وبؤسٍ على أُسرة هو هنزلرلمان , وأنهُ يخشى فيها على الإمبراطورية الألمانية من الانقراض. وها قد مضى من هذه السنة نصفها , ولم نرَ فيها ما يُنذر بتحقيق تلك النبوة , بل إنَّ عامنا هذا لم يحمل حتى الآن في طيات أيامهِ ولياليهِ إلاَّ ما سرّ له الألمان وابتهجوا. فقد وقع فيهِ تذكاران مجيدان كانا داعيةً لإقامة الأفراح والأعياد في ألمانيا عامةً وفي بروسيا خاصةً: أولهما تذكار مرور مئة سنة على قيام الشعوب الألمانية ونهضتها في وجه الفاتح الإمبراطور غليوم الثاني على عرش مملكة بروسيا وإمبراطورية ألمانيا , فاحتفل في الشهر الفائت بالعرس الفضي لملكهِ , كما احتفل بالعرس الفضي لزواجه. وقد شاءَت الأقدار إن تزداد أفراحُ الإمبراطورية الألمانية والسلالة المالكة بحادثٍ لم يكن منتظراً , لا بل كان بعيد الإمكان , ألا وهو مصالحة سلالة هو هنزُلرن المالكة مع سلالة ملوك

هانوفر المعروفة باسم برنزويك. فرأينا بهذه المناسبة ذكر لمحة تاريخية عن هذا الحادث الذي علَّقت عليهِ الصحف أهمية كبرى فنقول: لا يخفي أنَّ إمبراطورية ألمانيا الحالية حديثة العهد , نادى بها المتحالفون الألمان وقت سكرهم بخمرة الانتصار على فرنسا , وهم مجتمعون في قصر فرسايل في بداية سنة 1871 وحيَّوا كبيرهم وعميدهم ملك بروسيا بلقب إمبراطور ألمانيا , وذلك انتقاماً لشعوبهم من الفرنسويين إذ كان نابوليون الأوَّل قد ألغى بمعاهدة برسبورغ لقب إمبراطور ألمانيا وذلك في أواخر سنة 1805. وكانت إمبراطورية ألمانيا الأولى التي ألغاها نابوليون قد تأسَّست سنة 962 ميلادية وقد أكملت ترتيب نظامها الأساسي والإداري في أواسط القرن الرابع عشر فكان يرئسها إمبراطورٌ كاثوليكي المذهب تعترف له الشعوب المسيحية الغريبة بميراث ملوك الغرب الرومانيين. وكان ينتخبهُ سبعة أمراء ألمان: أربعة من العلمانيين , وثلاثة من علية الاكليروس. وكان يطلق على كل من هؤلاء الأمراء السبعة لقب المنتخِب , ولكن لما ظهرت الانقسامات الدينية منذ بداية القرن السادس عشر , وكثرت لما ظهرت الانقسامات الدينية منذ بداية القرن السادس عشر , وكثرت الاضطرابات والحروب والمداخلات الأجنبية , أصبحت سلطة الإمبراطور وهمية وشرفية أكثر مما هي فعلية؛ وصار كلُّ واحدٍ من الأمراءِ يعتبر ذاته مستقلاًّ , حتى أنه لما حدثت الثورة الفرنسوية , كان في الأراضي المعروفة باسم الإمبراطورية الألمانية ما لا يقلُّ عن 350 مملكة وإمارة ودوقية ومدنية حرّة تدّعي كل منها الاستقلال التامّ. وكانت تقسم إلى ثلاث طبقات.

1ً - طبقة المنتخبين وهي فوق سائر الطبقات , وكانت مؤلفة من رئيس أساقفة مايانس , ورئيس أساقفة كولونيا , ورئيس أساقفة تريف ومن الكونت بالأتين وملك بوهيما والدوق دي ساكس وأمير برندبورج. وكان قد أُضيف غليهم منتخبان وهما الدوق دي بافاريا في سنة 1624 , والدوق دي هانوفر في سنة 1692. فصار الأمراء المنتخبون تسعة. ثمَّ إن الإمبراطور ضمَّ لقب بوهيما إلى ألقابه , وصار أمير برمدبورج ملكاً على بروسيا في سنة 1701 , والدوق دي هانوفر ملكاً على انكلترا سنة 1714 وانقرض فرع بافاريا سنة 1779. فأصبح لقب منتخب محصوراً في الواقع بخمسة أمراء يعترفون بتابعيتهم للإمبراطور. وبعد حروب الثورة الأولى منح الإمبراطور لقب منتخب لكلٍّ من دوق ورتمبرغ , وأميرهس كاسيل تعويضاً لهما عما خسراه من اراضي التي أخذتها فرنسا. 2ً - طبقة الأمراء وفيها أكثر من 290 أميراً من الأكليروس والعلمانيين , وأول هؤلاءِ الأمراءِ حامل لقب أرشيدوق دوتريش وقد ارتقى صاحب هذا اللقب أريكة الإمبراطورية منذ سنة 1274 , وحصر المنتخبون الملكَ في سلالتهِ فعلياً منذ سنة 1439. 3ً - طبقة المدن الحرّة , وعددها 51 مدينة , أشهرها فرنكفورت حيث كان يصير انتخاب الإمبراطور. هذه هي الإمبراطورية الألمانية التي ألغاها نابوليون سنة 1805. ولما سقط هذا العاهل وأتت الدول المنتصرة ترتب هيئة أوروبا في مؤتمر فينَّا سنة 1815 , أصبحت ألمانيا أو البلدان الجرمانية تؤلف تحالفاً

أو اتحاداً الاتحاد الجرماني يحتوي على 39 دولة ودويلة , في مقدمتها إمبراطورية النمسا وممالك بروسيا وبافاريا وهانوفر وورتمبرج وساكس. وكانت النمسا تفضّل بقاء هذا الترتيب لأن إمبراطورها كان حاصلاً على رآسة هذا الاتحاد , وسلطتها كانت ممتدَّة على شعوب غير ألمانية كالمجر وشمالي إيطاليا وبوهيما وبولونيا. أما بروسيا فإنها كانت متضايقة من هذا النظام أولاً لبقائها تابعة للنمسا وبنوع ما تحت سيادتها , وثانياً لأن أملاكها وولاياتها كانت منفصلةً عن بعضها بعض , ومتفرقة إلى أقسام متباعدة الأطراف , وكان فريدريك الثاني أكبر ملوكها قد قضى مدة ملكه الطويلة بالحروب رغبةً في الحصول على توحيد حدود مملكتهِ , فلم يدرك إلاَّ بعض غايتهِ. وعليهِ كان جلّ همّها تغيير الحالة الموجودة في سنة 1815 والتوثب عى جيرانها الألمانيين لتسوية حدودها بضمّ ما هو موافق لأملاكها. وكانت مملكة هانوفر أهم العقبات في سبيل تلك الغاية وكانت مساحتها نحواً من 39 ألف كيلومتر وسكانها أكثر من ثلاثة ملايين. وكان دوقها قد نال لقب منتخب منذ سنة 1692 , وهو المنتخب أرنست أغوستوس؛ وتوفي في 1698 , وفي سنة 1714 صعد ابنه المنتخب جورج على عرش انكلترا فعرِف بالملك جورج الأوَّل , ذلك لأن أقرب نسيب بروتستاني للملكة حنة ستوارت المتوفاة بدون عقب. فجمع بشخصه السلطة على انكلترا وعلى هانوفر. وجعل مؤتمر فينا هانوفر مملكةً سنة 1815. ولكن لما كانت هذه المملكة تحت سلطة ملوك

انكلترا لم يكن ملوك بروسيا ليتجاسروا على التحرش بها. فلما توفي وليم الرابع الانكليزي سنة 1837 آلت نوبة في انكلترا إلى فيكتوريا ابنة أخيه. وأما في هانوفر فلما كانت الشريعة تحرّم جلوس النساءِ على العرش آل الملك إلى أخيهِ أرنست الأوَّل حتى سنة 1851 حيث توفي وورثه ابنه جورج الخامس. وفي عهده حدثت حروب فرنسا وسردينيا ذد النمسا ففشلت هذه وخسرت أكثر أملاكها في إيطاليا , كما أن حرب القوم كانت قد أفقدتها ثقة روسيا. فاغتنمت بروسيا هذه الحوادث وعملت بتدابير بسمارك الداهية الدهماء فاضطرت النمسا إلى إتباع سياستها في الوثوب على مملكة الدنمرك وافتتاح ولايتي سلسفيك وهولستين ودوفية لوينبورغ. ولكنَّ اتفاقهما لم يطل فوقع الاختلاف بين المنتصرين وحاول كلٌّ منهما اتخاذ مجلس الاتحاد آلة بين يديه. ولكنَّ الأكثرية انضمت إلى النمسا وفي مقدمتها ملك هانوفر , ودوق ناسو ومنتخب هسّ كاسل. فشهرت بروسيا الحرب عليهم , وما لبث جنودها أن اقتحمت حدود خصومها. وفي أقل من ثلاثة أشهر انتهت الحرب بانتصار بروسيا التام على النمسا وجميع محالفيها؛ وأشهر مواقع هذه الحرب موقعة سادوفا تموز سنة 1866. وعقد الصلح بين بروسيا والنمسا , فقبلت هذه بخروجها من التحالف وبكل ما تجريه بروسيا في جرمانيا. فأعلنت بروسا ضمَّ مملكة هانوفر ودوقية ناسو وإمارة هسّ كاسّل ومدينة فرنكفورت إلى أراضيها , فأصبحت جميعها ولايات بروسية عادّية ثم أرغمت

بروسيا أمراء وملوك الواقعة شمالي نهر المين على الانضمام إليها بتحالف دعي بتحالف دعي تحالف ألمانيا الشمالية. وهكذا أصبحت أراضي مملكة بروسيا كلها متصلة بعضها ببعض لا يحتللها أرض مملكة غريبة. فاحتيج جورج الخامس على سلب مملكته وضمها لبروسيا بمنشور أرسله من فينا إلى جميع ملوك أوروبا. لكن احتجاجه لم يجدهِ نفعاً إذ أن نسيبتهُ وابنة عمهِ فيكتور يا ملكة انكلترا كانت حماةً لولي عهد بروسيا فلم تحرّك ساكناً. وكان احتجاجه سبباً لغيظ ملك بروسيا الذي ضبط حينئذٍ أملاك جورج الخامس الخصوصية وحجز على دخلها ووضعت هذه الأموال في صندوق دُعي بمال أسرة كولف ولما انتصرت بروسيا على فرنسا وتألف من البلدان المنتصرة إمبراطورية جامعة لخمس وعشرين مملكة وإمارة ومدينة حرَّة ولولاية الالزاس واللورين احتج أيضاً جورج الخامس على هذا الانضمام. وفي سنة 1878 توفي جروج الخامس فخلفهُ ابنهُ الوحيد ارنست أغوست المولود سنة 1845 , فأعلن الملوك والحكام وفاة ولدهِ وجلوسهِ بعدهُ معيداً ومكرَّراً احتجاجه على كل ما أجري في ألمانيا منذ سنة 1866 وأنه يكتفي مع حفظ حقوقه بمملكة هانوفر بأن يدعي دوق دي كمبرلند وهو لقب جده في انكلترا قبل أن يكون ملكاً على هانوفر ودوق دي برنزويك ولونبرج. وفي السنة نفسها اقترن بثالثة بنات خريستان التاسع ملك الدنمرك فصار عديلاً لولي عهد انكلترا أدوار السابع وولي عهد روسيا اسكندر الثالث. ولما انقرض فرع أسرتهِ

المالك على برنزويك بوفاة غليوم بدون عقب سنة 1884 , كان يجب أن يصير هو دوقاً على برنزويك التي هي إحدى ممالك وإمارات ألمانيا المتحدة ولكن الإمبراطور وكمجلس التحالف رفضاً إعطاءهُ هذه الدوقية ما لم يقبل بضم الهانوفر ويستعيد منشورات اعتراضه السابقة , فرفض؛ وبقيت دوقية برنزويك تحت ولاية وصيٍّ إلى اليوم. وفي العام الماضي 1912 , لما توفي فردريك الثامن ملك الدنمرك فجأةً في همبرغ وتعين ميعاد دفنه في 24 أيار في كوبنهاغ , توجه ابنُ أختهِ وهو بكر الدوق أرنست المذكور في أتوموبيل مجتازاً ألمانيا ذاهباً إلى الدنمرك لحضور المأتم. فحدث اصطدامُ الأتوموبيل , وسقط الأمير الشاب قتيلاً وهو في الثانية والثلاثين من عمره ونقلت جثته إلى كوبنهاغ فاحتفل بدفنه مع خاله بوقتٍ واحد فكان لهذا الحادث المكدر تأثير سيءٌ في كل العالم لاسيما وأنه كان قد جرت مفاوضات سرية ليتنازل الدوق أرنست عن حقوقهِ لابنه هذا وهو يخضع لما جرى في ألمانيا فيصير دوقاً مالكاً على برنزويك. فسعى الأقارب والأمراء بين الإمبراطور وهذا الدوق التعس الحظّ حتى نجحت مساعيهم بواسطة الحب لأن الابن الوحيد للدوق ارنست , واسمهُ كأبيه , أرنست أغوست , رأى ابنة الإمبراطور وعلق بحبها فتصالحت الأسرتان وخطبت الأميرة للأمير. وفي 24 أيار احتفل بزواجها في برلين في حفلةٍ شائقة سار فيها الإمبراطور مع الدوقة ثم الدوق مع الإمبراطورة , ثم سائر الملوك والأمراء الألمان المتحالفين وأمراء من كل الأسر المالكة. وبلغت التحف والهدايا المقدمة إلى العروسين 12

حكمة قاض

مليون فرنك. وهكذا عاد الصفاءُ بين السلالتين منذ نحو 50 سنة , وعادت دوقية برنزويك إلى أمرائها الأصليين؛ ولم يبق في انكلترا أمراء من الدم الملكي القديم. بل عادوا إلى ألمانيا , وهي مسقط رأسهم الأوَّل. ولم يعد باقياً أثر للعداوات والمناوآت القديمة التي كانت بين بروسيا ومخاصمها في ألمانيا لأن الإمبراطور الألماني أضحى على وفاق تام مع جميع الذين غلبهم جدُّه ووزيرهُ بسمارك. سليم خطار الدحداح حكمة قاضٍ من أغرب الأحكام الصينية أن أربعةً من تجار القطن خافوا أن يسطوا الفأر على قطنهم فابتاعوا هرّاً بأن دفع كل واحد منهم ثمن فخذ. فحدث أن الهرّ جرح بفخذٍ من أفخاذه فربط جرحه بالقطن وبلَّ بالغا. . فقضت الصدفة التعسة بالتهاب الضماد وفرار الهرّ إلى أكداس القطن فأحرقها. فأقام أصحاب الأفخاذ الثلاث السليمة الدعوى على صاحب الفخذ الجريح. فأصدر القاضي حكمهُ بأن الفخذ الجريح لم يحمل الهرّ إلى القطن ولكن الأفخاذ السليمة هي التي حملته. فعلى أصحابها أن يدفعوا ثمن قطن صاحب الفخذ الجريح. ثلاثة لا يعرفون إلاَّ في ثلاثة مواضع. لا يعرف الشجاع إلاَّ عند الحرب. ولا الحكيم إلاَّ عند الغضب. ولا الصديق إلاَّ عند الحاجة إليه. للمستعصمي

الحركة الصهوينة

الحركة الصهوينة الحركة الصهوينة حركة ملية اجتماعية ذات قواعد مقرَّرة يرمي بها فريقٌ من بني إسرائيل إلى إيجاد وطنٍ خاص لشعبهم تحقيقاً لما ورد في نبؤات أرميا ويوئيل من أنهُ تأتي أيام يردُّ الله فيها سبي شعبه إسرائيل فيقمون مدنهم الخربة , ويسكنون بها , ويغرسون كروماً , ويشربون خمورهم وقوله بلسان عاموس النبي: واغرسهم في أرضهم , ولن يقلعوا بعد من أرضهم التي أعطيتهم وقوله بلسان أشعيا وميخا: إن الخلاص يأتي من صهيون؛ والقدس تكون المركز الذي تصدر منه الشريعة ثم ما جاء في التلمود وغيره مشيراً إلى أن المسيا بن يوسف يجمع بني إسرائيل حوله ويزحف على القدس , ويتغلب على قوة الأعداء ويعيد العبادة إلى الهيكل , ويقيم ملكه. وقد طفق القوم يفكرون في هذا الموضوع , ويحاولون تنفيده بعد أن خرَّب طيطس هيكل سليمان في سنة 70 للمسيح. ولكن لم يتجاوز تفكيرهم حد الكتابة شعراً ونثراً حتى دعاهم إلى العمل شبتاي زيبي في القرن السابع عشر , فلبّاه بعضهم؛ إلاَّ أنه لم يفلح في ما أراد. ثم حاول غيره الاقتداء بهِ فتألفت العصابات وأُنشئت الجمعيات , ورمى القوم بأبصارهم على أميريكا تارة وغلى فلسطين طوراً. وجدّ الكتَّاب في التذكير والحض وتكوين رأي إسرائيلي عام. وكتب سلفادور المؤرخ اليهودي رسالة في سنة 1830 قال فيها: إن مجرَّد عقد مؤتمر في أوروبا يعيد فلسطين

إلى اليهود. فتألفت جمعية الأليانس الاتحاد الإسرائيلي وبدأ القوم باستعمار فلسطين فأنشأوا مدرسة مكوى إسرائيل على مقربة من يافا. ثم ظهرت كتب ورسائل مختلفة في الموضوع أهمُّها كتاب واجبات الأمم في أن يُعيدوا إلى الشعب اليهودي قوميته ورسالة إعادة القومية اليهودية وفي هذه الرسالة التي نشرت سنة 1868 صرَّح فرنكل لأوَّل مرة بإعادة تشييد حكومة يهودية في فلسطين وذلك بشراء البلاد من تركيا وقال - من باب الاحتياطّ الكلي -: أنه إذا لم يكن ابتياع فلسطين ميسوراً فلنطلب وطناً معيناً في جهة أخرى من الكرة الأرضية لأن الغاية الوحيدة هي إن يكون لليهود وطنٌ وأن يكونوا أحراراً فيه وألَّف المسيو موريتس ستينشيدر حوالي سنة 1840 جمعية من طلبة المدارس الإسرائيلية لنشر فكرة استعمار فلسطين. ثم أُلِّفت سنة 1866 الجمعية الفلسطينية العمومية وجمعية الاستعمار السوري الفلسطيني. وخاطب المستر (0لورانس الفانت الحكومةَ العثمانية في مدّ خطٍّ حديدي في وادي الفرات لإسكان مهاجري اليهود على جانبيه وإنشاء مهجر لليهود في نواحي السلط فلم يُجب له طلب. ولكن القوم لم ينثنوا عن سعيهم في جمع المال وتأليف الجمعيات هنا وهناك حتى تمكنوا في سنة 1874 من إنشاء أول مستعمرة إسرائيلية في فلسطين. وبينما هم جدٍّ واجتهاد ظهرت في أوربا حركة الانتيسيميتزم أي مضادة اليهود فصرفت فريقاً كبيراً منهم عن التفكير في مسئلة الاستعمار وطفقوا يحاربون أعداءهم بقوة القلم حيناً وبقوة المال حيناً آخر. ولكن

هذه الحركة اتسع نطاقها وأخذت حكومات عديدة ترغم اليهود على الجلاء عن بلادها فزاد تشبثهم بإيجاد ذيَّاك الوطن المنتظر لجمع شملهم وتحريرهم من عبودية الحكومات المتفننة في إيذائهم. ونشر المسيو هرتسل العالِم الإسرائيلي النمسوي في سنة 1895 كتابه اليودنستات (0الوطن اليهودي وقال فيه: إن الانتيسيمتزم خطر لا يُهدّد اليهود فقط بل العالَم بأسره , ولا يمكن اجتنابه لأن اليهود شعب يتعذَّر امتزاجه بمن حواليه في الحياة الاجتماعية؛ فلا بدَّ من تملكهم متسعاً من الكرة الأرضية يكفيهم لأن يجتمعوا فيه ويقيموا لهم وطناً خاصاً بهم ثم اقترح تشكيل لجنة تقوم بالأعمال الأولية العلمية والسياسية وشركة أللاستعمار يكون رأس مالها خمسين مليون جنيه انكليزي لامتلاك الأرجنتين أو فلسطين وإدخال اليهود إليها بطريقة منظمة. فتقبَّل اليهود وجمعياتهم رأيه بالرضي والارتياح وعينوه رئيساً للجمعيات التي اشتركت في تنفيذ اقتراحه فدعاها إلى مؤتمر عام عقدوه في مدينة باسّل وحضره 204 أعضاء يمثل بعضهم جمعيات مختلفة وقرروا فيه ترويج تعليم اللغة العبرانية وإنشاء لجنة خصوصية للآداب اليهودية وتأسيس صندوق مالي للإعانة وتأليف جمعية عاملة تنفذ اقتراحات المؤتمر فألِّفتْ هذه الجمعية واشتغلت بطبع خطب هرتسل وماكس نوردو وأعدَّت ما يلزم لتأليف نقابة استعمارية إسرائيلية. وانعقد المؤتمر الثاني في أغسطس سنة 1898 بمدينة وقرر تأليف النقابة وجعل اللسان العبراني لغة قوم موسى وتربية الإسرائيليين

بحسب قواعد التهذيب الحديثة. ثم انعقد المؤتمر الثالث في 18 أغسطس سنة 1899 بمدينة باسل وقرئت فيه عدَّة تقارير دلَّت على نجاح الجمعيات الصهوينة وتكاثر عدد المنتظمين في سلكها , واقترح بعضهم استعمار قبرص فرفض طلبه بدون مناقشة فيه. وانعقد المؤتمر الرابع في 16 أغسطس سنة 1900 بمدينة لندن. وتمكن هرتسل من مقابلة السلطان عبد الحميد مرَّتين فأنعم جلالته عليه بالنيشان المجيدي. ثم انعقد المؤتمر الخامس في مدينة باسل في يوم 26 دسمبر سنة 1901 وتقرَّر فيهِ عقد المؤتمر مرة كل سنتين وأن تنعقد في الفترات الواقعة بين المؤتمرات اجتماعات يحضرها أعضاءُ الجمعية الكبرى. ولاحظ زعماء الإسرائيليين أنهم غير ناجحين في استعمار فلسطين فخاطبوا فخامة اللورد كرومر في استعمار العريش فلم تجبهم الحكومة المصرية جواباً يحسن الوقوف عنده. ثمّ خاطبوا الحكومة الانكليزية في استعمار إحدى الجهتين وقال المسيو هرتسل: إن شرقي أفريقيا ليست صهيون ولا يمكن أن تكون كذلك وقال الأستاذ ماكس نوردو: لو أمكن إحداث مثل هذا المقر - يعني أقريقيا الشرقية - فهو لا يكون إلا دار عزلة مظلمة وتوفي هرتسل في 3 يوليو سنة 1903 فوصفتهُ دائرة المعارف

الإسرائيلية بقولها: إنه السياسي اليهودي الوحيد الذي كرَّس حياتهُ لخدمة قومه واستطاع أن يقوم بما لم يستطعهُ فرد ولا جماعة في سبيل إعلاء شأن الصهوينة وتثبيتها؛ فقد كانت هذه المسئلة في بدئها مسئلة خيرية زراعبة , فصيرها هرتسل اقتصادية سياسية وانتخب الأستاذ ماكس نوردو الفليسوف الألماني المعروف خلفاً لهرتسل في رياسة المؤتمرات والجمعية العاملة؛ فرأس المؤتمر السابع الذي عقد في 27 يوليو سنة 1905 وصدق على قرار خلاصته أن الهيئة الصهوينة تبقي ثابتة لا تتحول عن إعداد وطن لليهود في فلسطين. ولا تزال المؤتمرات الإسرائيلية تعقد مرة كل سنتين في عاصمة من عواصم أوربا والجمعيات الصهوينة تنتشر في جميع الأقطار الشرقية والغربية ويتسع نطاقها فبلغت ألوفاً واشترك فيها مئات الألوف من الإسرائيليين على اختلاف طبقاتهم يمدونها بالآراء ويساعدونها بالمال كلٌّ على قدر طاقته؛ فتمكنوا من إنشاء المصرف اليهودي الاستعماري ثمَّ صندوق الذخيرة الوطنية الإسرائيلية والمقصود بهذه الذخيرة المال الذي يجمعهُ اليهود لاسترداد أرض فلسطين وجعلها مقراً لليهود المتشتتين في أنحاء المعمورة المعرضين لاضطهادات الحكومات المختلفة وازدرائها بهم. ومركز رياسة اللجنة العاملة لصندوق الذخيرة في مدينة كولونيا الألمانية. وقد بلغ رأس ماله 120 ألف جنيه انكليزي في سنة 1901. وللقوم في جمع المال طرق مختلفة أبانوها في منشوراتهم المطبوعة

بالفرنسوية والانكليزية والألمانية؛ وأهمها طريقة الصناديق الخصوصية وهي صناديق مقفلة ذات ثقب منهُ النقود , ويرسل منها صندوق لكل من أراد فيضيع فيه ما يفيض عن نفقاته أو ما يقرّره على ذاته أسبوعيَّا أو شهريّاً ثم يأتي مندوب الجمعية في وقتٍ معيّن ويفتح هذا الصندوق ويأخذ ما فيه ويقفله. وتقول الجمعية في نشراتها أن الادّخار في الصندوق الخاص هو خير وسيلة لتدريب الصغار على معرفة الواجب عليهم نحو شعبهم. ومنها طوابع البريد والتلغراف وتذاكر التهنئة والتعزية: وهي أوراق خاصة يبتاعها الصهويونيون ويستخدمونها في مكاتباتهم الخاصة. ومنها الكتاب الذهبي: وهو سفر مطبوع على ورق صقيل ومجلد تجليداً مزخرفاً فخماً يشتمل على اسم مَنْ يدفع للجمعية 10 جنيهات. ومنها دفاتر المذكرات: وهي تحتوي على قلم رصاص وتقويم وكمية من ورق الكتابة تخصص لتدوين ما يتبرع الصهونيون بهِ في الاحتفالات العامة والخاصة لتنفيذ فكرة الصهيوينة. ومنها أشجار الزيتون. فكل من يدفع 20 غرشاً تُغرَس باسمه شجرة زيتون في إحدى مزارع الاستعمار الصهيوني. ومنها تسجيل الأراضي باسم أهل الخير. فكل من يدفع جنيهين يشتري باسمهِ - حساب الجمعية - دونم وترسل إليه حجة تملكه. ولا تفتر جمعية الذخيرة يوماً عن إيجاد طرق جديدة لحث الإسرائيليين على البذل. وقد تمكنت بأن تأتي بما جمعته بأعمال خطيرة جليلة أهمّها شراء

ستة آلاف دونم من الأراضي على مقربة من بحيرة طبريا , وإنشاءُ مزرعتين كبيرتين للزيتون في حولدا وبن شامن وعدة حدائق لزراعة البرتقال والليمون والاترنج في شدراح وجنينة صامويل. أما المدارس الصناعية والزراعية والعالية التي أنشئت بمال الذخيرة في حيفا ويافا والقدس لتربية النشء الإسرائيلي وتعليمه فحدّث عنها ولا حرج. وهكذا قل عن المستعمرات الزراعية وبيوت العمَّال التي أنشئت في أنحاءِ فلسطين فتحوّل بها القفر البلقع إلى روض أزهر. وقد أتاحت لي الظروف التعرف إلى جماعة من المشتغلين بهذا الموضوع في القاهرة والاختلاط بهم فعلمت أن لهم مندوباً خاصاً يتردّد على بعض المدارس الابتدائية ويلقي على تلاميذها دروساً يبين فيها حقيقة الصهيوينة وما يجب على كل إسرائيلي عمله لتنشيطها ومسعدتها ولهم مجلة فرنساوية شهرية اسمها النهضة الإسرائيلية يوافيها أئمة الكتاب الصهيونية وأنصارها. وقيمة اشتراكها السنوي ثلاثة فرنكات. ولهم نادٍ خاص كبير في حيّ الإسماعيلية. ونحو عشر جمعيات تشتغل بجمع المال وإرساله إلى اللجنة الرئيسية في كولونيا. ويعني صهيوني , مصر بمطالعة كل ما يردُ عنهم في الجرائد المحلية ويعقبون عليه. وقد انعقدت الجمعية العاملة للصهيونيين في مدينة فينا يوم 10 يونيو مقدمة للمؤتمر الذي سينعقد في شهر سبتمبر القادم المسائل المعروضة عليه يأخذ في تنفيذها بقوة مالهِ ورجالهِ توفيق حبيب

أثر عرابي ثمين

أثر عرابي ثمين في مبحث الصوت , وأسباب حدوث الحروف ممَّا يقولُهُ بعضُهم في الموازنة بين علم الشرق في الزمن الغابر , وعلم الغرب في الوقت الحاضر , أنَّ تقدُّم العلم الغربيّ مسيَّرٌ في الغالب بيد الصناعة , وأن للغاية الاقتصادية تأثيراً على مبدئه. فهو مثلُ الحضارة الغربية عمليٌّ أكثر منهُ نظريّ , وإلى الماديّ أقربُ منهُ إلى الأدبيّ. أمَّا العلم الشرقيّ فإنّ مدينة الشرق لم تنحُ بهِ نحواً خاصاً. ولذلك كان ينمو مع المدارك البشرية على قدرها. ولو أتي له الاستمرار في طريقهِ حتى يُدرك عصرَ الطباعة فالبخارِ والكهرباءِ , لكان لهُ في المستقبل شأنٌ غيرُ شأنهِ في الماضي. هذا ما يقولُهُ بعضهم في الموازنة بين العلمين؛ ويقولون زيادة على ذلك إنَّ العلمَ النظريَّ لم يبلغْ في أوربا اليومَ المنزلة التي بلغها في آسيا من قبل. ولعلّ الخاطرَ الأوّل الذي خطر لي عند إطّلاعي على رسالةِ الرئيس أبي عليّ الحسين بن سينا في أسباب حدوث الصوت والحروف كان من هذا القبيل , فقد قلتُ في نفسي ساعتئذٍ: لماذا تفيضُ الفلسفةُ الطبيعية الحديثة في بيان أشكالِ النور وألوانهِ وتحلُّله وتركّبهِ عند في بيان أشكال الصوتِ وأوصافهِ عند مرورهِ بالحنجرة وعبث اللسان بهِ في أطراف الفم , كما فعل ابن سينا قبل تسعمائة سنة في الكتاب الذي هو موضوعُ بحثنا الآن؟ نبهّني إلى كتاب ابن سينا عالمٌ جليلٌ محقّق , فرأينهُ من أنفس مدّخرات خزانة العالِم الفاضلِ أحمد تيمور بك , ولكنهُ واأسفاه! قد تناولتهُ يدُ التحريف والتصحيف حتى لا يكاد الإنسانُ يثقُ ببقاء جملةٍ منهُ على أصلها. فزادني هذا الأمرُ شوقاً إلى نشره وإحيائهِ تعريفاً للخلفِ بمآثر السلَف , وإعلاماً بما للعرب

من فضيلة السبق في تحقيق أسباب حدوث الصوت , وخدمةً للّغة بلفْت الأنظار إلى مبحثٍ آخر من مباحثها , وهو أسباب حدوث الحروف وكيفية حدوثها. واصلنا البحث عن نسخة ثانية من هذا الأثر العربيّ الثمين , واستعنا بكثير من الإخوان , إلى أن عثر صديقي المسيو ماسينيون أستاذ تاريخ مذاهب الفلسفة العربية في الجامعة المصرية على اسم هذا الكتاب في فهرس المكتبة البريطانية في لوندرة ثمَّ أراد أن يكون عملهُ أكملَ فكتب إلى من أخذ لنا نسخةً فطوغرافية منهُ؛ فإذا هي لا تقلُّ عن النسخة الأولى تحريفاً , إلا أنَّ معارضة النسختين ومراجعة الكتب التي نقل أصحابها عن رسالة الحروف لابن سينا مثل كتابي المواقف والمقاصد , وكتاب التفسير الكبير للفخر الرازي , ومبحث تشريح الحنجرة واللسان من قانون ابن سينا , قد صححت لنا الأغلاط التي يظهر أنها هي التي حالت دون عناية المستشرقين بنشر الكتاب: فظهرت لنا من كليهما نسخة تغلب الصحة عليها , ويطمئنُّ القلب إليها. الرسالة اسمها أسباب حدوث الحروف وهي في ستة فصول هذا بيانها: الفصل الأول - في سبب حدوث الصوت , الفصل الثاني - في سبب حدوث الحروف , الفصل الثالث - في تشريح الحنجرة واللسان , افصل الرابع - في الأسباب الجرئية لحرفٍ حرفٍ من حروف العرب , الفصل الخامس - في الحروف الشبيهة بهذه الحروف وليست في لغة العرب , الفصل السادس - في أن هذه الحروف من أي الحركات غير النطقية قد تُسع يقول ابن سينا في سبب حدوث الصوت: أظنُّ أنَّ الصوتَ سببهُ القريب تموُّجُ الهواءِ دفعة وبقوة وبسرعة من أيّ

سبب كان. ثم ذلك الموج يتأدّى إلى الهواء الراكد في الصماخ فيموّجه فتحسّ به العصبة لمفروشة في سطحه. والذي يُشترط فيهِ من أمر القرع عساه أن لا يكون سبباً كليّاً للصوت , بل كأنهُ سببٌ أكثريّ؛ ثم إن كان سبباً كليّاً فهو سبب بعيدٌ , ليس السببَ الملاحق لوجود الصوت , والدليل على أن القرع ليس سبباً كليّاً للصوت أن الصوت قد يحث أيضاً عن مقابل القرع وهو القلع. فإذن العلة القريبة - كما أظن - هو التموّج فالتموّج نفسهُ - كما يقول ابن سينا - هو الذي يفعل الصوت وأما حال التموّج من جهة الهيئات التي تستفيدها من المخارج والمحابس في مسلكه فتفعل الحروف. وتعريف الحرف في كتاب ابن سينا هو هيئة للصوت عارضة لهُ يتميز بها عن صوت آخر مثله في الحدّة والثقل تميزاً في المسموع والحروف بعضها - من حيث الصوت - مفردة؛ وبعضها مركبة. فالمفردة تحدث عن حبسات تامة للصوت - أو للهواء الفاعل للصوت - تثبعها أطلاقات دفعة , والمركبة تحدث عن حبسات غير تامة لكن تتبعها أطلاقات. والمفردة تشترك في أن وجودها وحدوثها في الآن الفاصل بين زمان الحبس وزمان الإطلاق , وذلك أن زمان الحبس التام لا يمكن أن يحس فيه بصوتٍ حادث عن الهواء وهو مستكن بالحبس , وزمان الإطلاق لا يحس فيه بشيء من هذه الحروف لأنها لا تمتد في الزمان الذي لا يجتمع فيه الحبس مع الإطلاق. ويقول ابن سينا في تشريح الحنجرة أنها مركبة من غضاريف ثلاثة: 1 - الغضروف الدرقي , وهو موضوع إلى قدّام ويناله الحبس في المهازيل

عند أعلى العنق تحت الذقن. وشكله شكل القصة , حدبته إلى خارج وإلى قدام وتقيعره إلى الداخل وإلى خلف 2 - عديم الاسم , وهو خلف الدرقي مقابل سطحه , 3 - الغضروف الطهر جاري , وهو كقصعة مكبوبة على الغضروفين السابقين ويقول في تشريح اللسان أنه مركب من ثماني عضل: اثنتان تأتيان من الزوائد السهمية التي عند الأذن يمنةً , ويسرة , وتتصلان بجانبي اللسان , فإذا تشنجتا جذبتا جملة اللسان إلى قدام فتبعها جزء منه وامتد وطال. واثنتان من العضلين السالفين من أضلاع هذا العظم تنفذان بين المعرضين والمطولين ويحدث عنهما توريب اللسان. واثنتان موضوعتان تحت هاتين وإذا تشنجتا بطحتا اللسان. هذا ملخص الفصول الثلاثة الأولى؛ وكلها مقدمات لبيان كيفية حدوث كل حرف من الحروف العربية والحروف الأخرى التي توجد فيما عرفه ابن سينا من لغات آسيا المنتشرة يومئذٍ في فارس وما يليها. وهو يقول مئلاً في بيان كيفية لفظ حرف الخاء أنهُ يحدث من ضغط الهواء إلى الحدّ المشترك بين اللهاة والحنك ضغطاً قويّاً مع إطلاق , تهتزّ فما بين ذلك رطوبات يعنف عليها التحريك إلى قدَّام , فكلما كادت تحبس الهواء زوحمت , وقسرت إلى خارج في ذلك الموضع بقوَّةٍ. والقاف يحدث حيث تحدث الخاء ولكن بحبس تامّ. وأما الهواء فمقداره ومواضعه فذلك بعينه. ويقول في كيفية لفظ الجيم أنهُ يحدث من حبس تام بطرف اللسان وبتقريب للجزء القدّم من اللسان من سطح الحنك المختلف الأجزاءِ في النتوءِ والانخفاض مع سَعة من ذات اليمين واليسار وإعداد الرطوبة , حتى إذا أطاق نفذ الهواءُ في ذلك المضيق نفوذاً يصفر لضيق المسلك , إلا أنهُ يتشذب لاستعراضهِ ويتمم صفيرهُ خللُ

الأسنان وتنقص من صفيره وترده إلى الفرقعة الرطوبةُ المندفعة فيما بين ذلك متفقعة , ثم تتفقأ , إلا أنها لا يمتد بها التفقُّع إلى بعيد ولا تتسع , بل تفوقها في المكان الذي يطلق فيه الحبس. والشين تحدث كما يحدث الجيم بعينه ولكن بلا حبس البتة , فكأنما الشين جيم لم يحبس وكأن الجيم شين ابتدأت بحبس ثم أطلقت. ويقول في كيفية لفظ الصاد أن الذي يفعله هو حبس غير تامّ أضيق من حبس السين وأيبس وأكثر أجزاء حابس طولاً إلى داخل مخرج السين وإلى خارجه حتى يطبق اللسان أو يكاد يطبق على ثلثي السطح المفروش تحت الحنك والمنخر ويتسرَّب الهواء عن ذلك المضيق بعد حضر شيء فيه من وراء ويخرج من خلل الأسنان , وأما السين فتحدث عن مثل حدوث الصاد إلاَّ أن الحابس من اللسان فيه أقلّ طولاً وعرضاً فكأنها تحبس العضلات التي في طرف اللسان , لا بكليتها بل بأطرافها. ويقول في وصف الفاء التي تكاد تشبه الباء ف - أنها تقع في غلة الفرس عند قولهم فرندي9) تفارق الباء لأنهُ ليس فيها حبس تام. وتفارق الفاء بأن تضييق مخرج الصوت من الشفة فيها أكثر وضغط الهواء أشد حتى يكاد يحدث بسببه في السطح الذي في باطن الشفة اهتزاز. ومن ذلك الباء المشدّدة ب - الواقعة في لغة الفرس عند قولهم ببروزي وتحدث بشد قوي للشفتين عند الحبس وقلع بعنف وضغط الهواء بعنف. وأما الفصل الأخير فهو من أغرب المباحث وألطفها وأكثرها حاجة إلى الدرس

والبحث والتدقيق لأن ابن سينا حاول أن يأني فيها لكل واحد من الحروف العربية بما يشبهه من الحركات الغير النطقية , مثل صدور صوت يشبه حرف القاف عن شق الأجسام وقلعها. والغين عن غليان الرطوبة في أجزاء كبار تندفع إلى جهة واحدة. والكاف عن قرع كل جسم صلب كبير على بسيط آخر صلب مثله. والشين عن نشيش الرطوبات وعن نفوذها في خلل أجسام يابسة نفوذاً بقوة. والطاء عن تصفيق اليدين بحيث لا تنطبق الراحتان بل ينحصر هنالك هواءٌ له دويٌّ. والتاء عن قرع الكف بأصبع قرعاً بقوة. والفاء عن حفيف الأشجار. وبعد فإن الذي يطالع الرسالة كلها يظهر له أن ابن سينا كان جديراً بأن يقول في آخرها: إني قد بلغت الكفاية , وعبّرت عن المقداد الذي تبلغه مني المعرفة. وقد أهداها إلى الأستاذ أبي منصور محمد بن علي بن عمر الخيَّام وهو الذي اقترح عليه تصنيفها , ولا يقل أن يكون أبو منصور هذا حفيد الخيام الخراساني صاحب الرباعيات لأن الخراساني كان معاصراً للرئيس ابن سينا وتلميذاً له. وعلى كل حال فهذا الكتاب الصغير نموذج للعلم الشرقي الذي لو أتيح له الاستمرار في طريقه حتى يدرك عصر الطباعة فالبخار والكهرباء لكان له شأن غير شأنهِ. القاهرة محب الدين الخطيب لا يتعادل الحبُّ بين اثنين؛ بل يكون قويّأً في إحداهما , وهذا الذي يتألَّم , وضعيفاً في الآخر , وهو الذي يضجر. إرباً بنفسك أن تكون الحبيبَ الذي يلي حبيباً جار أو ظلم؛ لأن الثأر يؤخذ منكَ وأنت يرىٌ من الذنب

في رياض الشعر

في رياض الشعر وعشنا على بؤسٍ ليالي , أبلي من همومي وجدّدي ... لكِ الأمرُ , لا تَقوى على ردّه يَدِي فما أرتجي والأربعون تصرَّمت ... ولا عيشَ إلاَّ ينتهي حيثُ يبتدي سكتُّ سكوتاً لا يَربكِ امتدادُهُ ... فلا خاطري باقِ ولا الشعر مُسعدي ولا فيَّ من روح الشبابِ بقيةٌ ... ولستُ بمشتاق ولستُ بموجدِ حزنتُ على الماضي ضلالاً ومنْ يَعشْ ... كما عشتُ لم يحزنْ ولم يتجلَّدِ وماليَ منهُ خاطرٌ غير أنني ... عدلتُ فلم أفتكْ ولم أتعبَّد سقى الله داراتِ القرافةِ ديمةٍ ... ترفُّ على قوم هنالك هُجَّدِ تعوَّدَ كلٌّ بؤسها ونعيمَها ... وعشنا على بؤسٍ ولم نتعوَّدِ أحنُّ إلى تلك المراقدِ في الثرى ... ولو استطيعُ اليومَ لاخترتُ مرقدي فأنزلتُ جسمي منزلاً لا يملّهُ ... يكونُ بعيداً عن أعادٍ وحُسَّدِ وما يتمنّى الحرُّ في ظلّ عيشةٍ ... تمرُّ لأحزارٍ وتحلو لأعبُدِ كأنَّ بها وقراً على كلّ كاهلٍ ... فمن يتكبَّدْ حمَلهُ يتكبدٍ لقد أتعبني , والمتاعب جمةٌ ... مسيرةُ يومي بين أمسَي والغدِ ألما يئنْ أن يستريح مجاهِدٌ ... ألما يئنْ أن يبلغَ المنهلَ الصَّدِي تزهدتُ في وصل المعالي جميعها ... ومن يَطَّلبِها كاطلابيَ يزهدِ وبتُّ تساوت في فوأدي مناهجٌ ... تُؤدّي لخفض أو تؤدي لسؤدُد

وإنيَ في بيتٍ صغيرٍ مهدَّمٍ ... كأنيَ في قصرٍ كبيرِ مشيَّدِ عنا اللهُ عن قومٍ أتانيَ غَدْرُهم ... فربَّ مسيءِ لم يُسئ عن تعمُّدِ وكم من نفوسٍ يستطيلُ ضلالُها ... ولكن متى ما تُبصرِ النورَ تهتدِ فزعتُ من الآمالِ باليأس عائداً ... فإِن تَدْنني منها اللُباناتُ أبعدِ فلا ترتعي مني بقلبٍ معذَّبٍ ... ولا تنجلي مني لطرفٍ مسهَّدِ فيا ريحُ إن يعصفْ بيَ الشجو سكّني ... ويا غيثُ إن يُضرْمنيَ الوجدُ أخمد ويا ساكناتِ الطير في دولة الدُّجى ... أرى , إن دعاكِ الصبحُ , أن لا تغّردي لديَّ شكاياتٌ وأنتِ شجيَّةٌ ... فإِن تستطيبيها لشجوكِ أنشدي ولا تحسَبي التقليدَ يذهبُ حسنَها ... فكم حسناتٍ قد أتت من مقلّدِ تركتُ الغنى لا عاجزاً عن طلابهِ ... وأنزلْتُ نفسي من منازلِ محتدي وهذي بحمدِ الله مني براَءةٌ ... فيا أفقُ سجّلها ويا أنجمُ اشهدي وليّ الدين يكن إلى الله يا ربِّ أين تُرى تقامُ جهنَّمُ ... للظللين غداً وللأشرارِ لم يُبقِ عفوُكَ في السماواتِ العلى ... والأرضِ شبراً خالياً للنار يا ربّ أهلْني لفضلك واكفني ... شَطَطَ العقولِ وفتنةَ الأفكارِ ومرِ الوجود يشفَّ عنك لكي أرى ... غضبَ اللطيف ورحمةَ الجبَّارِ يا عالِمَ الأسرارِ حسبيَ محنةً ... علمي بأنك عالمُ الأسرارِ أخلقْ برحمتك التي تسَعُ الورى ... ألاَّ تضيقَ بأعظمِ الأوزارِ إسماعيل صبري

لكنَّ مصراً ناظم هذه القصيدة شاعر مطبوع , عرفته مصر يوم كان ينشر في صحفها باكورة ثمار قريحته. ثم نشر هنا ديوانه , فتوسمنا فيه سليقة شعرية ما زالت تنجلي في كل ما نظمه بعدئذ. وقد أرسل إلينا من الولايات المتحدة - حيث هو يقيم الآن - القصيدة الآتية يحيي بها مصر ويحن إلى وادي النيل: أشقى البرية نفساً صاحب الهمم ... وأتعسُ الخلق حظاً صاحبُ القلمِ عافَ الزمانُ بني الدنيا وقيّدَهُ ... والطيرُ يُحبَسُ منها جيّدُ النغَمِ وحكّمت يدُه الأٌلامَ في دمِه ... فلم تصنهُ ولم يعدل إلى حكمِ لكلّ ذي همةٍ في دهرهِ أملٌ ... وكلُّ ذي أمل في الدهرِ ذو ألمِِ ويلُ الليالي لقد قلّدنني ذرياً ... أدنى إلى مهجتي من مهجةِ الخصمِ ما حدثتني نفسي أن أحطّمَهُ ... إلاَّ خشيتُ على نفسي من الندمِ فكلما قلتُ زهدي طارد كلَفني ... رجعتُ والوجدُ فيهِ طاردٌ سأميِ يأبى الشقاءُ الذي يدعونهُ أدباً ... أن يضحكَ الطرسُ إلا إن سفكتُ دمي لقد صحبتُ شبابي واليراع معاً ... أودي شبابي. . . فهل أبقي على قلمي؟ كأنما الشعراتُ البيضُ طالعةً ... في مفرقي أنجمٌ أشرقنَ في الظُلمِ تضاحك الشيبُ في رأسي فعرّض بي ... ذو الشيب عند الغواني موِضعُ التُهمِ فكلُّ بيضاء عند الغيدِ فاحمةٌ ... وكل بيضاء عندي ثغرُ مبتسمِ قل للتي ضحكت من لَّمتي عجباً ... هل كان ثمَّ شبابٌ غير منصرمِ قد صرتُ أنحلَ من طيفٍ وأحير من ... ضيفٍ واسهرَ من راعٍ على غنمِ وليلةٍ بتُّ أجني من كواكبها ... عقداً كأني أنالُ الشْهبَ من أمّمِ لا ذقَ طرفي الكرى حتى تظلَ يدي ... ما لا يفوزُ به غيري من الحلُم

ليس الوقوفُ على الأطلال من خُلُقي ... ولا البكاءُ على ما فاتَ من شيَمي لكنّ مصراً وما نفسي بناسيةِ ... ملكية الشرق ذات النيلَ والهرمِ صرفت شطرَ الصبي فيها فما خشيت ... رجلي العثارَ ولا نفسي من الوصمِ في فتيةٍ كالنجومِ الزُهر أوجهُهم ... ما فيهمَ غير مطبوعٍ على الكرمِ لا يقبضونَ مع اللأواء أيدَيهمُ ... وقلما جادَ ذو وَفر مع الأزمِ في ذمة الغربِ مشتاقٌ ينازعهُ ... شوقٌ إلى منهبطِ الآياتِ والحِكَمِ ما تغرب الشمسُ إلا أدمعي شفقٌ ... تنسى العيونُ لديهِ حمرةَ الغيمِ وما سرت نسماتٌ نحوها سحراً ... ألا وددتُ لو أني كنت في النسمِ ما حالُ تلك المغاني بعد عاشقها ... فإِنني بعدها للسُهد والسقمِ بين الجوانحِ همٌّ ما يخامرُني ... ألا وأشرقني بالباردِ الشمِ جادَ الكنانة عني وابلٌ غَدِقٌ ... وإن يكُ النيل يغنيها عن الديمِ الشرقُ تاجٌ ومصرٌ منه درَّتهُ ... والشرقُ جيشٌ ومصر حاملُ العلَمِ هيهات تطرفُ فيها عينُ زائرها ... بغير ذي أدبٍ أو غير ذي شمم أحنى على الحرّ من أمٍّ على ولدٍ ... فالحرُّ في مصرَ كالورقاء في الحَرمِ ما زلتُ والدهرُ تنبو عن يدي يدُهُ ... حتى نبتْ ضلةً عن أرضها قدمي الولايات المتحدة إيليا أبو ماضي مكارم الأخلاق سلوتُ بحمد اللهِ عنها وأصبحت ... دواعي الهوى من نحوِها لا أجيبها على أنني لا شامتٌ إن أصابها ... بلاءٌ ولا راضٍ بوجهٍ يعيبها شيخ النحاة

عشرون عاما

عشرون عاماً في أواسط الشهر الجاري يغادر مصر حضرة الكاتب المعروف اسكندر أفندي شاهين رئيس تحرير جريدة الوطن قاصداً الديار البرازيلية وحضرته من الكتَّاب المجيدين في اللغتين العربية والانجليزية فأحببنا بهذه المناسبة أن ننشر للقرّاء صورة هذا الصحافي القديم , وإن تُشيّعهُ بكلمة وداع باسم الصحافة التي خدمها زهاء ربع قرن , سائلين له في غربته كلّ توفيق ونجاح. وقد نشرنا في الصفحات التالية كلمته في وداع مصر , قال:

في مثل هذا اليوم من عشرين سنة مضت - في اليوم الأوَّل من شهر يوليو سنة 1893 - رأيتُ أن أبتاع من بعضهم جريدة أسبوعية اسمُها الرأي العام كنت أطبعُها لشابَّين سوريَّين لم يتفقا على تحريرها , ولكنهما اتفقا على تركها لي؛ فاشتغلتُ بها من ذلك اليوم , وجعتُ أغيّر ما بها على مهلٍ , وأحرّرها من رقِّ الرياء , لأنها نشأت على عبادة السلطان عبد الحميد ومدح أبي الهدى , وما بقيَ من أساليب الوطنية التي كانت شائعةً في ذلك الزمان , حتى جعلتها الرأيَ العام المعروف في أوائل هذا القرن وأواخر القرن الماضي. وتدرَّجتُ منها إلى الاِشتغال بتحرير الجرائد اليومية , وبغير هذا من فنون القلم إلى أن بلغتُ هذا النهارَ من عمريَ الصحافي , وذكرتُ ذيَّاك العمرَ الطويلَ وهاتيك الحوادث الكثيرة والعبر المتوالية؛ فقلت إني آنَ لي أن أستريحَ قليلاً من عناء حرفةٍ لم تفارقني ولم أخن عهدَها في كلّ هذه السنين؛ لعلَّ الراحةَ تجدّد القوى وتنسي بعض الذي مرَّ من متاعب التحرير والتحبير. وماذا أقول وما الذي أسطّر هنا من خزانةٍ وعت أموراً تضيق بها المجلدات , وذاكرةٍ طالما أغنتني عن بعيد الكتب وعزيز المؤلفات؟ لعمرك لو أنني أسطرُ عشرَ الذي يجول الآن في ذهني بينا أنا أخطّ هذه السطور لأغنيتك عن مطالعات أسبوعٍ أو شهرٍ من الزمان. أٌول ذلك لأنني ذاهبٌ إلى أبعد القارَّاتِ عن هذا القطر لأقضي فيها أشهراً , وليس يدري غيرُ الله كيف يكون الختام. أنا النفسَ ألفت بلاداً قضيت فيها زهرةَ العمر وجئتها من نحو 29 عاماً؛ فعسيرٌ عليها أن تحنَّ إلى وادٍ

غير وادي النيل , أو أن تطلبَ اللقاء بخلاَّنٍ غير الذين عاشرتهم كل هذا العمر الطويل. فسواءٌ جرت سفينة الأرزاق بما تشتهي نفسي وتتمنى جوارحي , أو سارت الأقدار بي في سبيل آخر , فلأذكرنَّ عهد الولاء إلى آخرِ العمر. والهُ يفعل بعباده ما يشاء. ولقد ساءَني أناسٌ مدةَ هذه السنين وساءَ ظنهم بي فكانوا يتهموني في أوَّ الأمر بخيانة الدولةِ وعداءِ السلطان؛ ثم رجعوا إلى رأيي بعد أن طال عهد الجفاء. واتهموني بعد ذلك بمصانعة الدولة الانكليزية لأنتفعَ بأموالها؛ ثم ظهر أن التهمةَ أبعد عن الصدق مما بين القطبين. وقالوا أني كنتُ مفرّقاً بين طوائفِ المصريين , فثبت نقيضُ الذي قالوا بعد أن تغيرت بعضُ الخواطر على حين. وقد مضى الآن زمان هذه المزاعم ومضى تأثيرها , فكان على الجملة كما أتمنى , وبقيَ في الأذهان عامةً حقيقة أعدُّها أثمنَ من المال المكنوز؛ ألا وهي أنني خدمت الحقَّ في كل حياتي الصحافية خدمةَ الذي يقدِّم الحقَّ على كل مصلحة أو شأن. وعرفتُ بالصدق لا يختلفُ ضميري عن لساني , ولا تخون نفسي الحقّ في حال من الأحوال. هذا هو فخري وهذا جزائي من الناس بعد الاشتغالِ عشرين سنة بالكتابة والتحرير؛ ونعم الجزاءُ ونعم الأجرُ الكبير وليس يؤخذُ مما تقدَّم أنني العصمةَ والكمال؛ بل إن خطتي كانت خطةَ الصراحة والصدق. فسواء صدقت آرائي في هذه المسائل العديدة التي كتبتُ فيها أو أخطأت , فإنَّ القولَ كان صادراً عن اعتقاد بصحته , وعن عزم على إيراد الحقيقة وإهمال كل مصلحة يفيد فيها

الكذب والرياء. فإذا قدّر لي أن أعودَ إلى هذا القلم رجعتُ إليهِ ولم ارجع عن المبدأ الذي أفخر بهِ وقد رأيته أنفعَ من مبادئ الذي يتقلبون مع الأهواء , ويبدون في كل يوم بشكل جديد. وأسأتُ في ما مضى إلى كثيرين أيضاً ربما كان معظمهم من الزملاء الذين يقضي اختلافُ نفساً بقصد إيلامها ولا تهجمت على رجل بالطعن , وأنني كنتُ أحزنُ لما يصيبُ الخصمَ الصحافي ولا حزنَ أصحابه والأخصاء الأقربين. على أن المطاعنَ الصحافية كلها خطأ قبيح , ولابدَّ أن يكون قلمي قد زلَّ مراراً وأغضبّ بعض الرفاق فاسألهم الصفحَ والمعذرة , وأرجو أن يكون عامنا الحالي آخرَ أعوامِ التجريح والمشاتمة في عالم التحرير. قلتُ أن الذي تعي ذاكرتي من حوادث هذا العمر الصحافي والذي يعنُّ لي إيرادهُ شيء كثير. فإذا شاء قراء الوطن أن أوافيهم بشيء من أذوق الراحة أياماً. وأمَّا اليوم فاكتفي بشكرٍ عام أرسلهُ إلى كل صديق كريم وذي وداد طلب لي الخير فيما مضى؛ وأسأل الله أن يوفق كلًّ منا إلى الغرض الذي يطلبه , وأن يديمَ أيامَ الصفاء والهناء لجميع الأخوان الذين عرفتهم في وادي النيل. اسكندر شاهين

صاحب البرق

صاحب البرق عشت شقيّاً ولم أبالِ ... ولم يمرَّ الهنا ببالي أعلّلُ النفسَ في نهاري ... وألزمُ الدرسَ في الليالي رقَّ شعوري فرقَّ جسمي ... ورقَّ ديني ورقَّ مالي بشارة خوري إذا قلتَ في تعريف البرق: إِنها جريدة اجتماعية أدبية انتقاديه - كما هو مكتوب في صدرها - فإنك لم تخصصها بهذا القول؛ ولكنك إذا قلتَ فيها: إِنها جريدة يحبّها النشء السوري المتأدب , وإِنها

في سوريا جريدة السوريين المهاجرين في الأقطار الأميركية فقد ميزتها حينئذٍ بصفتين خصيصتين بها. نشأت في بيروت على أثر إعلان الدستور في تركيا , ولم يكن لها رأس مالٍ ماديّ قط , ولا معنويّ سوى أدب منشئها ونشاطهِ , وسوى تلك الفوضى الهائلة التي انتشرت في البلاد يومئذ. على أنها ما برحت سائرة في طريقها يدفعها نشاط الشباب إلى الأمام , وتحببها حرية القلم إلى القرَّاء حتى بلغت اليوم السنة الخامسة من حياتها وقد بلغت معها شأواً كبيراً من النجاح. هذه هي جريدة البرق التي اثني عليها حضرة الكاتب الشهير سليم أفندي سركيس ذلك الثناء الطيّب في حفلة إكرام خليل أفندي مطران الشاعر المحبوب؛ فإنَّ البرق دعت أنصار الأدب في سوريا إلى الاشتراك في تكريم شاعر القطرين وأرسلت إليهِ باسم أولئك الأدباء هدية جميلة اعترافاً بفضله ونبوغهِ. أما صاحب البرق , بشارة أفندي الخوري , ففي ما دون الثلاثين من العمر. وهو ذكيُّ الفؤاد , عصبي المزاج , سريع التأثر. إذا كتب راضياً سالت كلماتهُ رضيً وصفاءً , وإذا كتب غاضباً قطر قلمهُ سّماً زعافاً. وهو شاعر مجيد ليس للصناعة أثرٌ ما في شعره وإن كان أثرها يظهر على الغالب في نثره؛ ذلك لأنهُ يقول الشعر عفواَ الخاطر غير مغضوب عليهِ , ويكتب على الأكثر محمولاً على الكتابة إما بحكم السياسة وإِما بحكم الأحوال. ولقد أُتيح للزُّهور أن تنشر شيئاً من شعره في بعض

أجزائها السابقة - والزُّهور كما يعهدها القرَّاء لا تنشر من الشعر إلاَّ الجيّد المختار - فكن في الذي روته لهُ , على قلّتهِ , دليلٌ على الإجادة والمقدرة. على أنَّ ذلك القليل لم يكن كافياً لإظهار الشاعر بمظهره الحقيقي من الشاعرية فرأينا أن نختار اليوم مما وقع إلينا من شعره ما لعلَّه أن يكون أدلَّ على فضلهِ , وأفصح عن بيانهِ وأدبهِ: قال من قصيدة: يا هندُ قد الِفَ الخميلةَ بلبلٌ ... يشدو فتصطفقُ الغصونُ وتطربُ هوَ شاعرُ الأطيارِ لا متكبّرٌ ... صَلِفٌ ولا هو بالإمارةِ معجَبُ تتعشَّقُ الأزهارُ عذْبَ غنائهِ ... فإذا شدا فبكلِّ ثغرٍ كوكبُ والغصنُ - والأوراقُ آذانٌ لهٌ - ... ماذا تُرى فيها النسيم يتبتبُ؟ وإذا الضُحى لمعت بوارقُ ثغرهِ ... نادي بأجناد الطيورِ تأهبوا فسمعتَ للأطيار موسيقي على ... نغماتِها يأتي النهارُ ويذهبُ والصوتُ موهبةُ السماءِ فطائرٌ ... يشدو على غصنٍ وآخرُ ينعبُ هي للهزارِ مكانةٌ من أجلها ... دبَّت بأفئدةِ الحواسدِ عقرَبُ فتألبوا من حولِ أشمطَ أشيبٍ ... يحدو به للشرّ أشمطُ اشيبُ فإذا همُ حولَ الغرابِ عصابة ... بأحطَّ من أخلاقها تتعصَّبُ فشكوا لبعضهمِ الهزارَ وجذوةً ... بفؤادِ كلٍّ منهمُ تتلهبُ وتشاوروا فإذا الوشايةُ خيرُ ما ... شَرَكٍ به يقعُ الهزارُ فيُعطبُ فسعوا بهِ فإذا الهزارُ مقفَّصٌ ... والبومُ منطلِقُ الجوانحِ يلعبُ يا هندُ إني كالهزارِ فإن يكنْ ... هو مذنباً فأنا كذلك مذنبُ

وقال من قصيدة: أيهِ لبنانُ والجداولُ تجري ... فيك برداً فتنعش الظمآنا أيهِ لبنانُ والنسيمُ عليلاً ... يتهادى فيعطف الأغصانا حبذا السفح معبداً لصغار ال ... طير تشدو لربها الالحانا خافقات الجناح للشمس آناً ... خافقات الفؤاد للحب آنا آمنات في السفح كاسرة الج ... وِّ فلا تأتلي بهِ طَيرانا فترفّ الأديمَ تختلس الح ... بَّ وتظمى فتقصدُ الغدرانا وإذا الشمس ودَّعت ودَّعت تل ... ك السواقي والزهرَ والأفنانا واستقرَت في وكرها آمناتٍ ... كلُّ قلبين يخفقان حنانا مطبقات الجفون يحفظها الأم ... ن كما الجفن يحفظ الإنسانا أيّها ذي الطيور مَن قسم الح ... ظَّ ومَن قال للشقا كن فكانا أيّها ذي الطيور حسبكِ في السف ... ح انطلاقاً جوانحاً ولسانا أتجيدينهُ البيان على الأفنا ... ن والناس لا تجيد البيانا وتعيشين والرجال بلبنا ... ن يموتون شقوة وهوانا إن كفَّا تفصل الثوب للعر ... سِ لكفٌّ تفصّل الاكفانا ولهُ في بكاءِ والده: وقفتُ حيالَ القبر ما أنا بسٌ ... بشعرٍ ولكن مقلتي تنبس الشعرا وهل كنتُ عند القبر غيرَ قصيدةِ ... بواكي قوافيها تُرى دون أن تُقرا فتىً دامع العينين مضطرب الحشا ... يكفكف باليمنى ويسند باليسرى وفي عينه ما يعجز الوصفَ بعضهُ ... وفي صدره ما بعضهُ يُحرج الصدرا

وله من قصيدة ضمّنها حكاية قال: فتىً يتعثَّرُ في لؤمهِ ... كما يتعثرُ في جهلهِ نواظرُهُ تحت أقدامهِ ... كباحثةٍ ثَمّ عن أًصلهِ لتسقِطُ أمُّ الجنين ابنّها ... إذا حلمت بفتىً مثلهِ ولو أبصرت عينهُ وجهَه ... لقلتُ العفاءُ على نسلهِ ولهُ وقد طالما جلس إلى الكأس حزيناً فما زال بها حتى سُرّيَ عنه وفارقها يتهادى انبساطاً: تبسمُ وشعشع لي السلافة في الكأسِ ... فثغرك في ليل الحوادث نبراسي ولا تلمَس الكأس التي قد رشفتها ... أخاف على كفَّيك من حرّ أنفاسي يقول ليَ الآسي فؤادك موجعٌ ... فَمن أنبأ الآسي بفعلك يا قاسي وينصحني الأخوانُ بالخمر إنها ... عى زعمهم تشفي من الآلم الراسي فها أنا أستشفي بها كلَّ ليلةٍ ... ألم ترَني استتبعُ الكأسَ بالكأسِ وأعجبُ من نفسي ودائي بمهجتي ... أعالجهُ بالخمر ترقى إلى رأسي وله من قصيدة في وصف أرز لبنان الشهير: جبالٌ على شكل الهلال محيطةٌ ... بمفرق قاديشا تناجي الغواديا قوائمُ حول الأرز منّاعةٌ له ... إذا صادمته الحادثات عواديا وما الأرز إلا آية اللهِ في الورى ... فبوركَ ضخمَ الجزع ريّانَ ناميا أو ليس في هذه المختارات القليلة ما ينمُّ عن شاعرية فطرية تُحلّ صاحبها منزلةً عالية بين الشعراء المجيدين؟ أنَّ المستقبل بسَّام لصاحب البرق والوسائل متوافرة لديه من ذكاء عزم وتوقّد فكرة ونشاط شباب.

ثمرات المطابع

ثمرات المطابع خواطر في الحقوق والأدب - هذه مجموعة تلك امقالات الغراء التي كان ينشرها في جريدة الأخبار حضرة الكاتب الفاضل سامي أفندي الجريديني المحامي المشهورز وإنَّ الأدباء ليذكرون مقدار التأثير الذي كانت تؤثرهُ مباحثهُ الطليّة في النفوس , وصدى لاستحسان الذي كانت تجده كل مقالة منهاز جمعها حضرتهُ ضنّاً بفائدتها وحرصاً عليها فجاءت كتاباً شاملاً أبحاثاً دقيقة في مواضيع شتىَّ كالربا والطلاق وحقوق الملاَّك وحقوق الحياة ونظريات صادفة في آداب اللغة العربية مفرغة جميعها في قال لطيف رشيق العبارة سهل المأخذ لا يبعد عن الإفهام , مؤيدة وذوق سليم في الانتقاد. وقد عرف قراء الزهور مقدرة سامي أفندي في الكتابةو وأجادته في التعبير من ترجمته لرواية يوليوس قيصر التي نشرت متسلسلة في هذه المجلة فكان لها وقع حسن جداً في النفوس واتخذها تلاميذ المدارس معواناً لهم على تفهَّم شكسبير واستيعاب أغراضه ومعانيه. فنثني على حضرّته كل الثناء. الإسعاف الأوّلي - لم يعجب أحدٌ من عارفي فضل الدكتور محمد عبد الحميد ونشاطهِ في خدمة العلم من وجود اسمهِ في الشهر الفائت مدرجاً بين أسماءِ الذين أنعمت عليهم الحضرة الفخيمة الخديوية بلقب

البكوية , بل قابل الجميعُ هذا الأنعام بالاستحسان التامّ بالنظر إلى ما لحضرة هذا الطبيب المجتهد من الخدم الجليلة في سبيل العلم. فإن كتبهُ الطبيبة التي يتابع نشرها باللغة العربية أصبحت تؤلف مكتبة قائمة بنفسها وآخر كتاب أتحفنا بهِ هو كتاب الإسعاف الأولي الذي يتضمن ما يجب أن يعرفهُ الجميع. ولا يخفي ما في هذا الموضوع من الفائدة. فنثني على همة الدكتور عبد الحميد بك ونرجو لمؤلفاتهِ النفسية كل رواج. تاريخ الحرب البلقانية - يحملُ إلينا البريد أكداساً من الكتب الأفرنجية الموضوعة في تاريخ الحرب التي تأججت نيرانها هذه السنة في شبه جزيرة البلقان. وقد رأينا فريقاً من كتاب العربية طرقوا أيضاً هذا الموضوع , مما دلَّنا أن المؤلفين عندنا أخذوا أيضاً شضعون الكتب في الحوادث الجارية لفائدة القراء , ومن هذا النوع تاريخ الحرب البلقانية لكاتبه المنشيء المتفنن سليم أفندي العقاد الصحافي البيروتي المعروف. وقد تنول فيه لمحةً من تاريخ الدول البلقانية وجغرافية بلادها ومقدمات تلك الحرب الطاحنة وما جرى فيها من المواقع , وما دار من المفاوضات كلّ ذلك بعبارة طلية منسجمة تنمّ عن عهد مكين بين الكاتب والقلم. والكتاب مزين بأربعة عشر رسماً وخريطتين حربيتين. رجال المعلّقات العشر - كتابُ تفيس وسفرٌ جليل أهدنهُ

إلينا مكتبة المنار الشهيرة في مصر. وقد وضعهُ حضرة الأستاذ الفاضل الشيخ مصطفى الغلاييني مدرّس اللغة العربية في الكتب السلطاني والكلية العثمانية في بيروت , وضمّنهُ تاريخ شعراء المعلقات العشر وأنسابهم ونفيس أشعارهم وما اتفق لهم من الحوادث مما يجدُ القارئ فيه لذةً وفائدة كبيرتين. وقد ضبط الشعر بالشكل الكامل وشرحهُ شرحاً وافياًَ لمساعدة المطالع على تفهّم المفردات والمعاني. وصدّر الكتاب بمقدمتين جليلتي النفع ضافيتي الذيول: الأولى تتضمن خلاصة تاريخ العرب قبل الإسلام , والثانية تشتمل خلاصة تاريخ أدب اللغة العربية من لدان العصر الجاهلي حتى الزمن الحاضر. ولم يدّخر المؤلف وسعاً في مراجعة الدواوين وكتب الأدب القديمة والحديثة , حتى جاء عمله متقناً وافياً بالغرض. ولا نشك في أن الإقبال سيكون عظيماً على هذا الكتاب الجميل في إبان النهضة العربية الحاضرة. منتخبات الشيخ أمين الحدَّاد - قلنا في الزهور سنة 3 صفحة 307 كلمةً في المرحوم الشيخ أمين الحداد من حيث هو كاتبٌ وشاعر , فلا حاجة بنا اليوم إلى زيارة القراء تعريفأً بهِ. إنما يسرّنا أن نعلن محبي النظم الرائق والنثر الطلي أنهُ صدر في عالم المطبوعات كتابٌ نفيس جمع بين دفَّتيهِ مئتين وثلاثين موضوعاً من المواضيع التي جال فيها قلم الفقيد. والفضل في نشر هذا الكتاب عائد لحضرة الأديب المشهور الشيخ سلامة حجازي الذي أراد أن يطبعه على نفقتهِ الخاصة تخليداً لمآثر أبناء الحداد وتذكاراً لإشتغاله مع المرحوم الشيخ نجيب بفن التمثيل

العربي الذي بلغ على يدهما مبلغاً بعيداً من الإتقان. صحيفة طفل - الآنسة أوليفيا عبد الشهيد الأقصرية كاتبة يحقُّ أن يقال فيها أنها تغمس قلمها عندما تكتب في دموع عينيها أو دم فؤادها لأن كتابها النفيس العائلة المصرية زهور سنة 3صفحة 325 كله حسّ وشعور أما كتيّبها الجديد فهو صحيفة فتاةٍ , ابتسامة جميلة تترقرق في خلالها دمعة مؤثرة. آداب المراسلة - كتابٌ وضعهُ حضرة العالم الفاضل الخوري بطرس البستاني , وضمّنه كلَّ ما يجب على الطالب معرفته من أًصول المراسلة وقواعدها وأنواعها المتعددة , وشفعهُ بأمثلةٍ كثيرة تمرّن التلميذ على تطبيق تلك القواعد. وفي ذيل الكتاب مواضيع شتى ليتوسع فيها الطالب فتتقوَّى فيهِ ملكة الإنشاء. كل ذلك بأسلوبٍ جليّ واضح , مما يجعل لهذه الكتاب فائدة كبرى. حديث القلوب - عرّفنا القراء بالكاتب الشهير لأمينه في الزهور سنة 2 صفحة 293 يومَ نشرنا فصلاً له ترجمه لهذه المجلة الأديب حنا أفندي صاود. وقد أكمل حضرتهُ ترجمة الكتاب برمتهِ ونشره لقراء العربية فجاءَت الترجمة سلسة العبارة فصيحة الأسلوب.

التصريف الملوكي - هذا كتيّب في التصريف من صنعة أبي الفتح عثمان بن عبد الله ابن جنّي النحوي المشهور عنيَ بتصحيحهِ وشرحهِ السيد محمد سعيد بن مصطفى النعسان الحموي وطبعته شركة التمدن الصناعية. وهو كتاب حريّ بطلبة قواعد اللغة وأصولها أن يطالعوه بامعان وتدقيق لما فيه من الفوائد. زهرة الشباب في لغة الأعرب - جاءَنا الجزء الأوَّل من هذا الكتاب لمؤلفهِ الأديب السيد عثمان أفندي لطفي من المدرسين بمدرسة سعيد الأوَّل , وهو يشتمل على قواعد النحو على طريقة السؤال والجواب , ويلي كلّ درس تمرين على القواعد التي مرّ شرحها. فنشكر للمؤلف غيرته على لسان العرب. تربية الطفل - للدكتور سروبيان طبيب مستشفى لادي كرومر وطبيب ملجأِ الأطفال اللقطاء في مصر عناية خصوصية بنشر الكتب الطبيَّة المفيدة التي لا غنى عن الرجوع إليها. ومن هذه الكتب كتاب تربية الطفل وهو على صغر حجمه جامع لفوائد جلّى إذا نشئ الطفل بحسبها نشأ قويَّ البنية جيد الصحة. فنوجه أنظار الأمهات خصوصاً إلى هذا المؤلَف المفيد ونتمنى له الرواج.

جناية شبرا

جناية شبرا مررت مُبكراً في الصباح بوليس الأزبكية في ميدان باب الحديد , ودخلت على حضرة المأمور أروم محادثتهُ لعلّي أن استفيد منهُ خبراً ما لجريدتي الأيام التي أنشرها في مصر منذ بعيد. وكانت بيني وبين هذا الموظّف النشيط صداقة قديمة العهد لم يكن يمنعني من أجلها شيئاً يجيزهُ لهُ القانون. وفيما نحن نتحدّث سمعنا ضجيجاً عالياً في باحة الدائرة , وصارخاً يصرخ ملء فيه: أين المأمور؟ أين المأمور؟ فالتفتَ إليَّ صاحبي وقال: أنَّ خلف هذا الصياح أمراً جللاً. فتبسمت وقلت: ذلك ما جئت إليك من أجله. ولم أكد ألفظ الكلمة الأخيرة حتى دخل علينا رجل فوق الخمسين من العمر تدلُّ ملامحهُ على القلق والخوف. ولم يتمهّل ريثما يسألهُ صاحبي عما يريد من مفاجأتهِ لنا على تلك الصورة بل قال: تفضَّل يا حضرة المأمور إلى منزلي نمرة 13 بشارع سلامة في شبرا , فقد ارتُكبِت الليلةَ فيهِ جناية فظيعة. إنَّ يداً أثيمةً امتدَّت إلى ابنتي في سريرها فقتلتها شرَّ قتلة. . . مسكينة أدماء! واهاً عليك يا أدماء! فقال المأمور وقد مدّ يدهُ إلى التلفون: ومَن القاتل؟ فأجاب الرجل: لا أعرفهُ ياسيدي. أننا أطلنا السهرَ الليلة البارحة إذ كنَّا نعدُّ المعدَّات لحفلات هذا النهار , فقد كان اليوم موعداً لزواج أدماء بابن عمّها ووارثي الوحيد بعدها , ونمنا على أن نبكّر إلى العرس فبكَر إلينا المأتمز وفيما كان الرجل يتكلم , كن المأمور قد أخذ يخاطب بالتليفون وكيل النيابة العمومية. ولم تمضِ إلاَّ دقائق قليلة حتى وقفت بنا العربات أمام المنزل المعيَن. وكنتُ

قد استأذنتُ صديقي في مرافقتهِ فركبت إلى جانب والد أدماء , وفاتحتهُ الحديث قائلاً: ألا تشرّفني بمعرفتك يا سيّدي؟ أما أنا فاسمي: وسيم الريّان صاحب جريدة الأيام ورئيس تحريرها فقال: وأنا فرج الله خوري مصوغات وجواهر في لخان الخليلي. وكانت باحة المنزل حين وصولنا قد كادت تغصّ بايأس يتهامسون بينهم؛ فأمر المأمور رجالهُ بتفريقهم , ثمَّ دخل ودخلنا وراءَه فلقينا الخادمة تبكي بمرارة وتنأرّه على سيدتها. وكان هنالك أيضاً شابٌ في نحو الثلاثين من العمر يروح ويجيء قلقاً مضطرباً , ولم يكن في عينه أثر للبكاء قط؛ غير أنَ بياض المقلتين كان قد تحوّل إلى احمرار قرمزيّ كأن الدم جال فيهما بدَلَ الدمع. ثمَّ سأل المأمور صاحب الدار عن مكان وجود الجثة , فمشى أمامنا إلى غرفة في أقصى المنزل وقال: هنا. . . . هنا غرفة أدماء. ودخلنا فأبصرنا على سرير في إحدى الزوايا فتاةً شاحبة اللون , وإحدى يديها ملقاة على جانبها الأيسر حيث تدفق الدمُ قضرَّج ملابس نومها البيضاء وأغطية فراشها. وهي ما تزال في السرير كأنها نائمة نومةً طبيعية , ممّا دلّ على أن قانلها فتك بها في خلال رقادها. وكانت على الأرضو حذاء السرير , سكّين حادّة من السكاكين التي تُستعمل في مطابخ البيوت؛ وهي ملوثة بالدم أيضاً. أما الجاني فلم يكن أحد يعرف شيئاً عنهُ؛ غير أنّ خفير الحيّ شهد بعدئذ بأنهُ أبصر في المنزل المقابل غرفةً بقيت مُنارةً معظم الليل , وخيال شابٍّ كان يروح ويجيء فيها حيناً بعد حين. ثمَّ انطفأ نورها في نحو الساعة الثالثة صباحاً. وأثَّر فينا جميعنا منظر الجثة وعلى مقربة منها الآلة القاتلة فارتعشنا واقشعرّت أبداننا. وكان الطبيب قد دخل الغرفة حينئذٍ؛ فجسَّ نبض الفتاة , ثمَّ انحنى بإذنه على صدرها يتسمّع خفقان قلبها. وكأنما خامرَهُ شكّ في موتها فأخذ مرآه وأدناها من فمها برهة , ثم تأملها فأبصر عليها شبه غشاوة مما دلهُ على أنهُ لم تزل في ذلك

الجسم بقية من الحياةز فالتفت إلينا وقال: هي حية لم تمت بعد! وكأن لفظة الحياة نبهّت خطيب الفتاة فأجفل وتفدّم خطوة إلى السرير محملقاً في الطبيب كمن فوجئ بما لم يكن يوّقع. أمَّا الأب فترامى على أقدام الطبيب وهو يقول لهٌ: أحيها. . . بربّك أحيها. ثمَّ جثا يصلّي. ورأيت في تلك الساعة ما لم أرَهُ من قبل: أباً جاثياً يدعو الله وملء نفسه خشوع ورجاء وملء ناظرَيه ذلّة وحزن؛ وعاشقاً تتنقّل نظراته من السرير إلى الطبيب إلى السكين؛ ورجالَ حكومة واجمين ينظرون بلهفة وأمل؛ وطبيباً أحدقت به القلوب كأنَّ كهربائية انتقلت منها إلى يديه فحركتهما على ذلك الجسم المسجّى بدون حراك. ورأيتني وحدي في ذلك الموقف ثابت الجأش أرى وألاحظ , وأعي غير ذاهل , حتى لقد ظنتني اسمع خفقة كلّ قلبٍ في كلّ صدر , وأحسّ دبيب كلّ خاطرٍ في كلّ ضمير. حينئذ أشار الطبيب فخرج الجميع من الغرفة , وأقام هو وحده يعالج الفتاة. وبثَّ المأمور رجاله في المنزل وحواليه , ثمَّ أخذ في التحقيق الأوّليّ فعرف أنّ ربَّ البيت يسمَّى فرج الله خوري وأنّه يتَّجر في الخان الخليلي بالمصوغات والحجارة الكريمة , وأن ابنته وحيدة لهُ واسمها أدماء وقد توفيت والدتها وهي في نحو الخامسة من عمرها فربّها أبوها وأدّبها في المدارس ولم يشأ أن يتزوج ثانية حبّاً بها وغيرة عليها. أمّا الشاب خطيب أدماء فاسمه سليم خوري وهو ابن أخٍ للخواجا فرج الله؛ هاجر بعد وفاة أبيه إلى الترانسفال وأقام فيها نحواً من عشر سنواتو ثمَّ جاء القاهرة للتزوّج بأدماء والإقامة في هذا القطر. وفي نحو التاسعة جاء وكيل النيابة العمومية وشرع في التحقيق الدقيق فلم يلبث أن توصّل على معرفة الجاني؛ فإن الخادمة أطلعتهُ على علاقات أدماء بفتىً يدعى فؤاد اليافي يسكن منزلاً مجاوراً. وكان كثيراً ما يحادث أدماء من النافذة

متى خيّم الليل ونام الخواجا فرج الله. وكانت الخادمة تنقل رسائله على سيدتها وتحمل أجوبتها إليه؛ قالت وأن آخر رسالة جاءت بها منه كانت في نفس الليلة التي ارتكبت فيها الجناية وقد ناوَلها إياها بيدٍ مرتجفة وفي نظراتهِ معنى الاضطراب والغضب. . . وعثر وكيل النيابة على تلك الرسالة تحت وسادة أدماء فإذا هي هذه: وعدتِ ثم أخلفتِ. ويلٌ لكِ يا ظالمة! أعقبي حبّنا إن تكوني زوجةً لسواي؟ تالله لن يكون ذلك أبداً. ليس والدك الذي ارادو بل أنتِ التي اثرتِ ابن عمك عليَّ. كذبتِ في غرامكِ , كما كذبتِ في عهودكِ. أمَّا أنا فلن أكذب في عزمي. آليتُ ألاَّ يسعد ابن عمَّكِ بك , وأشقى أنا بدونك. الويل لي إذا كان المأتم غداً بدلاً من العرس!! فؤاد ثمَّ طرق رججال البوليس منزل فؤاد اليافي وقد اقتنع وكيل النيابة كلّ الاقتناع بأنَّ فؤاداً هو الجاني لا غيره , وبأن الذي دفعه إلى ارتكاب الجريمة إنما هو الغيرة والغرور. ومما أيَّدَ هذا الاقتناع أن فؤاداً لم يبت ليلتهُ كلَّها في منزلهِ؛ فقد جاء في نحو الساعة السابعة مساءًو وخلا بنفسهِ في غرفتهِ الخاصة دون أن يتناول طعام العشاء. ولما افتقدَه أهله في الصباح لم يجدوه , ولكنهم وجدوا رسالة منهُ على مكتبهِ. فأنَرَ وكيل النيابة بها فإذا فيها ما يأتي: إلى والديَّ العزيزين ليس في استطاعتي أن أشهد غداً عرس جارتنا أدماء لأن الغيرة تأكل قلبي. لذلك أنا ذاهبٌ اسلاعةَ إلى حيث لا أدري. ومتى شفِيَت نفسي من آلامها عدتُ إليكما. ساِمحا زلَّتي , وترقَّبا أخباري. فؤاد ودقَّقت النيابة في استجاء حقيقة العلاقات بين فؤاد وأدماء , فوقعت على رسائل كثيرة في حوزة الفتاة أزالت كلَّ شبهة عن غرام فؤادٍ وغبرته. واتصلت بها من شهودٍ كثيرين أمور تافهة في حدّ ذاتها , ولكنها إذا أضيفت إلى مجمل القرائن

كنت دلائلَ قوية على ثبوت الجريمة على ذلك الشابز ولما توافرت الأدّلة على هذا الشكل أمرت النيابة بتعقّب الجاني , وضيّقت عليهِ سُبُل الفرار من القطر لمصري بما بثتهُ من العيون والأرصاد. وفي ذلك النها نفسهِ ورد على نيابة مصر تلغراف من بوليس الاسكندرية يُفيد إلقاء القبض علىالمتهم وهو يتأهب للسفر إلى أوروبَّا على إحدى البواخر. فجاء هذا دليلاً جديداً على أنَّ فؤاداً هو الجاني , لأنَّ سفرَه الفجائي لم يكن إلاّ بَغية الفرار من وجه القضاء والعدل. واتّصل خبرُ الجناية بصحف العاصمة فنشرتهُ , كعادتها في أمثاله , مقتضباً ومذيّلاً بكلمات الثناء على مهارة النيابة العمومية , وتيقَّظ رجال البوليس. أما أنا , وقد رأيتُ بعيني , وسمعت بأذني , فإني رويت الحادث في الأيام مسهباً في تفضيل وقائعهِ كلَّ الإسهاب. ثمَّ قلت في ختام كلامي: إنَّ على النيابة أن لا تغشى عينيها الأدلّة من نحو الشذوذ في الاتفاق فيكون فؤاد بريئاً من التهمة التي أصقها بهِ نكد الحظّ. لم أقل ذلك عفوَ الخاطر أو من قبيل التفلسف في الأمور؛ وإنما بنيت قولي على توافرِ عقائد في نفسي حسبتها براهين تجيزُليَ نفيَ التهمة عن فؤادِ , والقاءها على عاتق سواه. فعزمت على أن استكشفَ الحقيقة مهما اقتضيتهُ من عناءٍ ومال , لأنّ الصحافي الماهر هو مَن بذل جهدهُ لمعرفة الحقائق , ثم سبق إلى نشرها؛ وإنما بهذين اشتهرت الأيَّام ومشت في طليعة الجرائدِ العربيَّة الكبرى. أمَّا شكوكي فبدأت حيث بدأ اقتناع النيابة العمومية. هي كانت ترى كلُ شيءٍ إيجاباً في حين كنت أراهُ أنا سلباً. فغيرة فؤاد وتهديدهُ , وسهرهُ وقلقه , ورسالتهُ إلى والديهِ , وسفرهُ إلى الاسكندرية , وعزمهُ على مغادرة القطر , كانت جميعها

دلائل وقرائن عليهِ في نظر عليهِ في نظر مَن يأخذ الأمور بظواهرها. غير أنَّ النيابة ذهب عن بالها أن تبحث , في الدرجة الأولى , عن الطريق التي سلكها فؤاد إلى الغرفة النائمة فيها أدماء حتى تمكن من ارتكاب الجنلية. أمَّا أنا فلم أغفل هذا الأمر قط , فقد عرفتُ أنَّ الخواجه فرج الله أقفل بيدهِ باب المنزل قبل أن نام , وترك المفتاح في ثقب الغال من الداخل. ثمَّ علمت أنَّ الخادمة , لمَّا أفاقت في الصباح , وجدت الباب مفتوحاً فاستنكرت ذلك كما استنكرهُ سيدها والخواجة سليم أيضاً. ولو تنبَّه رجال التحقيق إلى أنَّ الغال لا يمكن فتحهُ بمفتاحٍ من الخارج , ما دام أن َّ المفتاح متروك في ثقبهِ من الداخل , لأدركوا مثليَ أنَّ الجاني إمَّا أن يكون غريباً , وإمَّا أن يكون بعض أهل أدماء. فإن كان الأوَّل اقتبضى أن يكون لهُ شريك ممَّن في المنزل فمكَّنهُ من الدخول؛ وإن كان الآخر وجب أن يكون أحد اثنين: إمَّا الخادمة , وإمَّا الخواجة سليم. وأمَّا أن يكون الجاني قد دخل البيت من غير بابهِ فمما لم يكن معقولاً قط لأن العلوَّ شاهق جدّاًو والبيت مطلٌّ من جميع جهاتهِ على الشوارع المنارة حيث الخفراء والمارّة لا يبرجون بين رواحٍ ومجيء. أضِفْ إلى هذا كلهِ أنَّ البرد كان قارساً في تلك الليلة , وأن النوافذ جميعها بقيت مقفلة حتى الصباح. ولما تشبَّعت من هذهِ الحقائق بحثت عن سيرة الخادمة مُنقباً نستقصياً فعرفت أيها قديمة العهد في منزل الخواجه فرج الله , وأنها اعتنت بأدماءِ بعد وفاة والدتها , وحنَت عليها كما لو كانت أمَّها الحقيقة , وأحبَّبتها بإخلاص شديد , فكانت لها خادمةً وأمَّا وصديقة معاً. أوَ بعد هذا ما يستوقف شبهاتي عليها؟ ولكنني وقعت حينئذٍ في حيرة شديدة: فلا ظنوني بواقفة عند الخواجه فرج الله , ولا شكوكي بمنتقلةٍ إلى الخواجه سليم. ذلك والدٌ وهذا خطيبٌ وابن عمّ. فمن الجاني إذاً؟ أشيطانٌ من جهنم , أم ملكٌ من السماء؟؟ ولقد حاولت كثيراً أن أذهب مذهب النيابة العمومية في اتهام فؤاد اليافي فلم

أستطع. وزادني تشبثاً في رأيي هذا أنَّ فؤاداً لم ينكر الجريمة كلَّ الإنكار فقط , بل بكى بُكاءً مرّاً حين درى بها إشفاقاً منهُ وحناناً على أدماء. وقد جرَّب إقناع رجال التحقيق بأنَّ تهديدهُ لحبيبتهِ لم يكن إلاَّ تهديداً كاذباً حاول أن يتعلَّق بهِ , وهو آخر سلاح كان قد بقيَ لهُ , كما يحاول الفريق التعلُّق بالطحلب في الماءو وأن عزمهُ على السفر لم يكن إلاَّ يأساً وقنوطاً لأن نفسه لم تكن تطيق أن يرى أدماء لسواه. على أنَّ كل ذلك لم يفدهُ شيئاً , بل أحالتهُ النيابة العمومية على محكمة الجنايات ليحاكم أمامها كقاتل متعمد. وراجعتُ نفسي مراراً في إتهام الخواجة سليم خوري فما ازددتُ إلاَّ اعتقاداً بكونهِ الجاني الأثيم. فقد تبيّنتُ أموراً جديرة بالاعتبار , أغفل وكيل النيابة بعضهاو وحملَ بعضها الآخر على محامل شتى. من ذلك: أنَّ الخادمة عرفت السكّين التي طُعنت بها أدماء أنها سكّين مطبخها , مما دلَّني على أنَّ اليد التي استعملها وصلت إلى مكانها بدون عناء. وهل يُعقل أنَّ قاتلاً متعمداً يجيء ليقتل , تحت جنح الليل , فيجيء بدون سلاح على نيَّةِ أن يجد لهُ سلاحاً ما في المكان الذي نوى الجناية فيهِ؟ ومن ذلك أنَّ الجاني كان على يقين من أن أدماء لا تقفل بابها من الداخل في الليل. وأنَّي لغريبٍ عن المنزل أَن يكون على بيّنةٍ من هذا الأمر؟ ومن ذلك ايضاً أنَّ سليماً كان يحسب الطعنة قاتلة؛ فلما فأجاهُ الطبيب بقوله إنَّ أدماء حيَّة لم تمت , أجفل في مكانهِ إجفال مؤملٍ بوغِتَ بضياع أملهِ. ومن ذلك أخيراً تبدو عليهِ في أقوالهِ وحرركاتهِ جميعها. فكلَّ ذلك قوَّي اعتقادي بأنَّ اليد التي جنت إنما هي يدُ سليم دون سواه. ولكنَّ إقدامي على إتّهام الرجل في الأيام كان مجفوفاً بالخطر. فالبيّنات على خطورتها كن يمكن دحضها بمثلها. ولذلك عوَّلت بعد التفكير الطويل على كتمان شكوكي في نفسي , مع مواصلة التحرّي الدقيق. وكان أوَّل خاطر خطر لي أن أبحث عن ماضي سليم وتاريخهِ في

الترنسفال. فأرسلت رسالة برقية إلى زميلي صاحب جريدة جوهسبورج دايلي نيوز في مدينة جوهنسبوج اطلعتهُ فيها على دخائل نفسي وطلبت إليهِ , بما للزميل على الزميل من الحقوق , أن يوقفني على حقيقة سليم؛ فجاءَني تلغراف منهُ بعد أيام قصيرة محتوياً على هذه الكلمات شكوك في محلهاز التفصيل مع البريد وكانت أدماء في خلال هذه المدة قد تماثلت لشفاء , وأخذت تعاودها العافية على مهل. أما شهادتها لدى وكيل النيابة العمومية فكانت قاصرة على أنها بادلت فؤاداً المحبة ووعدتهُ بالزواج , ولكنها أكرهت على النكث بعهدها أمام إرادة والدها وإلحاحهِ الشديد وقد أطلعت خطيبها سليماً عى علاقاتها السابقة بفؤاد ولم نكتمهُ شيئاً منها. ولما جاءتها رسالة التهديد بم تحفل بها كثيراً. ثم نامت ولم تدرِ ما جرى كيف جرى. وأقمتُ انتظر بريد الترنيسفال وأنا على مثل الجمر حتى وردت عليَّ بعد مضيّ شهر الرسالة التي نبّثت به تلغرافيَّا , فنشرتها في الأيام وعلَّقت عليها خواطري وظنوني وخلاصة هذه الرسالة منذ عشر سنوات لم يأتِ في خلاها عملاً نافعاً قط بل كان على العكس من ذلك فاسد السيرة , سافل الأخلاق. وقد حكمت عليهِ محاكم جوهنسبورج ثلاث مرَّات لثلاث جرائم ارتكبها كانت خاتمتها سرقة قضى أربع سنوات محبوساً من أجلها , ولما أخرج من السجن علق بفتاةٍ روميةٍ مجهولة النسب فتزوَّجها. وكان يُحبّها حبّاَ عظيماً ورزق منها ابنتين وولداً ذكراً. هذا مجمل ما حوتهُ الرسالة. أمَّا النيابة العمومية فاستدعت سلماً إليها على أثر ما نشرتهُ الأيام ولم تزل بهِ حتى أقرَّ بأنهُ هو الذي ارتكب الجناية التي اتهم بها فؤاد أفندي اليافي. قال أنهُ نكب في الرنسفال بالفقر المدفع ولم يكن يعلم أنَّ عمّة بملك ثروة كبيرة في مصر. وقد كتب عمّه اليهِ في الزمن الأخير ملحَّا عليهِ بأن

يجيء القطر المصري فيزوّجهُ بابنتهِ الوحيدة فتتحوَّل إليه ثروة طائلة. فحار في أمرِه بين أن يأبى وأن يقبل فإنَّ زواجهُ السابق في جوهنسبورغ يحول دون زواجهِ الآخر في مصر وأنَّ حبّهُ لزوجته وأولادهِ يمنهعُ من التخلّي عنهم رغم ما كان يمكن أن يعقب تخلّيهِ من الحوادث والمشاكل. ورأى من جهة أخرى أنهُ إذا لم يأتِ مصر حرم مالاً وفيراً كان في أشد الحاجة إليه. لذلك وجد أنَّ الطريقة المثلى أن يحتال على ثروة عمّهِ بكلّ أنواع الحيل فإن لم تسعده هذه ارتكب الحناية غير هيّاب ولا وجل. وساعده على تحقيق أمانيهِ وجودُ العلاقات الحبيّة بين أدماء وفؤاد اليافي وتجاور بيتيهما. فأقام يترصد فرصة مناسبة لاغتيال الفتاة بدون أن يكون موضعاً للشبهات ولكنه أحجم أكثر من مرَّة عن ارتكاب الجناية حتى كانت ليلة الزواج وقد أطلعتهُ أدماء على رسالة فؤاد التهديدية فلم يجد خيراً من تلك المناسبة؛ فأشار على ابنة عمهِ بوجوب الاحتفاظ بالرسالة , على نية أن يجعلها مرشدا لرجال التحقيق , ودليلاً يصرف شبهاتهم عنه إلى فؤاد , وقد فتح الباب ليوهم دخول القاتل منهُ , وهو يحسب أن رسالة التهديد وفتح الباب دليلان كافيان لإثبات التهمة. واشتهر بين الناس فضلى باستكشاف حقيقة هذه الجناية فأكبر الجميع عملي , وأعلن ولاة الأمر شكرهم لي أما أنا فلم يسرَّني هذان الإِكبار والشكر بقدر ما سرَّني زواج فؤاد أفندي اليافي بأدماء كريمة الخواجه فرج الله خوري. وكان ذلك على أثر صدور الحكم على سليم الجاني بالأشغال الشاقة. وسيم السريَّان صاحب جريدة الأيام ورئيس تحريرها

العدد 37

العدد 37 - بتاريخ: 1 - 10 - 1913 فردي رواية عائدة الأوبرا الخديوية نبغ في إيطالية طائفة من رجال الفنون الجميلة شرَّفوا اسم بلادهم , وأعلوا مقامها بين الأمم , فأولوها فخراً لم تنله هي ولا غيرها بالحروب والفتوحات الجسام. ولقد ينقلب وجهُ العالم السياسيّ فتبيد دولٌ وتُشاد دول , ويبقى لإيطالية المجدُ المؤثّل والعزُّ الوطيد , ما دام للشعر والموسيقى والتصوير دولةٌ ورجال , ودولة هذه الفنون الجميلة دائمة ما دام للإنسان قلبٌ يخفق ونفسٌ تتعشَّقُ الجمال. تحتفل تلك البلاد في هذه السنة بعيد فردي أحد نوابغها المشهورين في عالم الأتغام , بمناسبة مرور قرن كامل على ولادتهو ولا تسلْ عن معالم الأفراح وحفلات التكريم التي تُقام في هاتيك الربوع احتفاءً بذاك اليوم السعيد. وهكذا الأمم الحيَّة الراقية تكرم ذكرى رجالها النوابغ , فتبعث في صدور أبنائعا روح النشاط والهمة.

ليس فردي بالرجل الغريب عنا حتى ندعَ عيدهُ يمرُّ دون أن نقول فيهِ كلمة , ونطرح على ضريحهِ باقةً من الزهر أسوة بسائر الأمم التي هبت لتكريم ذكرهِ. فهو مؤلف عائدة وعائدة أول رواية ملحّنةٍ ظهرت على مسرحنا الوطني الأكبر الأوبرا الخديوية وضعها بناءً على طلب خديوي مصر الأسبقو وجعل وقائعها في مصر , ومثِّلت لأول مرة في مصر , ولا تزال الأجواق الاوربية التي تجيء البلاد في كل شتاء تمثّلها بنجاح عظيم؛ لذلك رأينا أن نقول كلمةً في الرجل وأعمالهِ وروايتهِ وعلاقتهِ بنا. ولد فرنسيس يوسف فردي في العاشر من شهر أكتوبر سنة 1813 في إحدى قرى دوقية بأرمه التي كانت تابعةً في ذلك العهد لإِحدى مقاطعات فرنسة؛ وكان والداهُ يُديران فُندُقاً صغيراً يُساعدهما دخلهُ على تربية أولادهما؛ فأظهر منذ حداثة سنةِ ميلاً إلى علم الأنغام والتوقيع. فكان يقصد في كل صباح كنيسة القرية فيخدم القَّداس ويتمرَّنُ مقابل ذلك على الضرب على أرغن قديم كان في الكنيسة. ولكي للبث أن أتقن كل الأنغام الدينية والترانيم الطقسية فعُهد إليهِ بإدارة جوقة الكنيسة. وكان مستخدما عند أحد باعة الخمور لقاءً راتبٍ يمكنهُ من القيام بحاجتِ معيشتهز وظلَّ على هذه الحالة حتى الثامنة عشرة من عمره. وكان صاحب الحانة نفسه مولعاً بالموسيقى فرأى في الفتى استعداداً لهذا الفن الجميل , فوالاه بمساعداته تى مهّد له السفر إلى مدينة ميلانو والبقاء فيها ثلاث

سنوات كامة يأخذ الفنَّ عن مشاخير أربابهِ. وقد اقترن في غضون ذلك بابنة مساعدهِ بائع الخمرو فكانت له خير شريكة في حياته. ولمَّا أنس فردي من نفسه الإِستعدادَ اللازم , أخذ يضع قطعاً موسيقية , ويؤلِّف روايات ملحّنة من المعروفة عند الإفرنج بالأوبرا. فلاقى نجاحا يذكر , وعُرف اسمه بين كبار الموسيقين. ولم تكن العقبات التي لاقاها لتُضعف عزيمته , أو تخمد نار همته؛ بل كان يواصل الدرس والعمل ليصلح من أسلوبه , ويصقل أنغامه. فلحَّن في خلال سبع عشرة سنة عشرين رواية أشهرها: نبوكد نصَّر , وأورشليم , وهزناني , ومكبث عن شكسبير , وريجولتُّوا عن رواية مضحك الملك لفكتور هوغو وترافياتا عن لأدم أو كاميليا لدوس. وعظمت شهرتهُ على أثر تلحينه رواية مكبث فإنهُ تمكّن من أن يبرز بالألحان والأنغام تلك العواطف المتنوّعة التي عبَّر عنها شكسبير ببيانه السحريّ. ففي الليالي الثلاث الأولى لتمثيلها كان المسرح مكتظاً بالحاضرينو وقد أخذ الطرب منهم كلَّ مأخذ , فكانوا يطلبون المؤلف كل ليلة فوق الثلاثين مرة , وأركان القاعة تكد تتفوَّض من شدة التصفيق وهتاف الإِعجاب. وكانوا في ختام التمثيل يطوفون به المدينة ويرافقونه إلى منزله مهللين مكبرين. ورأى مواطنوهُ وجوب تكريم عبثريته فقدَّموا له أكليل غار من الذهب إشارة إلى تبوّئه عرش الموسيقى. ومن ثم نجاورت شهرة فردي حدود وطنه وعظم اسمه في أوربة , فمثِّت رواياته في أكثر العواصم والمدن الكبرى.

وكما أن المصاعب التي لا فاها لم تقعد بهمته فكذلك لم يُسكره نجاه الباهر , بل ظل عاملاً مجد يرتقي من الحسن إلى الأحسن. وهذا شأن النابغين. وكانت مملكه سردينيا في ذلك العهد تسعى إلى إنشاء مملكة إيطالية الجديدة بخلع نير النمسة وتأليف الوحدة الوطنية الإيطالية. فلعب فردي دورا خطيراً في تلك الحوادث السياسية , وكان ينتمي إلى الحزب الإِستقلالي فجاهد في سبيلهِ جهاداً مذكوراً. وكان الشعب يرى في رواياته تلميحاً ظاهراً وإِشارة بيّنة إلى الأماني الوطنية التي كانت تشغ أفكار ذلك الجيل؛ فساعد ذلك على بعد صيتهِ وانتشار شهرتهِ. وكان شعار حزب الاستقلال فيكتور عمانوئيل ملك إيطالية ` ومن غرائب الإتفاق أنك لو أخذت الحرفَ الأوَّل من كل كلمة من هذه الكلمات لكان لديك اسم فردي وهكذا ظلَّ اسمهُ مدةً شعاراً لطلاب استقلال المملكة الإِيطالية , فكانوا ينادون به في جميع الاحتفالات القومية والمظاهرات الشعبية. وعلى أثر تأليف مجلس النوَّاب الإِيطلي , انتخب فردي عضواً فيه سنة 1861 وفي نوفمبر سنة 1874 انتخب عضواً في مجلس أعيان المملكة. ولما احتفلت إيطالية سنة 1889 بيوبيلهِ الماسي , أرادت الحكومة أن تنعم عليهِ بلقب مركيز فأبى قبول هذا اللقب

وكانت وفاته سنة 1901. ومن أشهر رواياته عائدة التي سبقت الإشارة إليها في صدر هذا المقال وضعها بناء على طلب المغفور له الخديوي إلاَّ سبق سماعيل باشا , وكانت أول روايةٍ مُثِّلت في الأوبرا الخديوية دسمبر سنة 1871 ولا يزال الكثيرون في مصر يذكرون تلك الحفلة الشائقة. ولا تزال رواية عائدة عروس المسارح وموضوع إعجاب محبي الموسيقى , وقد ترجمها إلى اللغة العربية المرحوم سليم نقاش , وهي من الروايات التي يمثلها الشيخ سلامة حجازي. أما موضوعها فنلخّصه في ما يأتي:

وقعت عائدة ابنة ملك الحبشة أمونسرو أسيرةً في يد فرعون مصر. فأهداها إلى ابنتهِ أمنريس لتكون من وصيفاتها. وكانت على جانبٍ عظيمٍ من الجمال والظرف فنالت حظوة لدى مولاتها. وصارت في وقتٍ قصير صديقة حميمة لها بل أختاً محبوبةز ورآها رادامس كبيرُ قوّادِ فرعونو فأحبّها؛ وأحبتهُ لبسالته وكرم أخلاقه. فلم يلبثا أن تعاهدا على الود الدائم. وكانت امتريس ابنة فرعون تكتم في فؤادها لرادامس حباً شديداً فخامرها ريبٌ في أمرهما وأخذت تُراقبها سرّاً لتقف على دخيلة الأمر وقد آلت على نفسها أن تنتقم من عائدة إذا ما أيقنت من حبها لرادامِس. وفي تلك الأثناء زحف أمونسرو ملك الحبشة بجيوشه على مصرَ , واستولى على طيبة فنهب وسبا , فخرج عليه رادامِس من مَنفْ بجيوش جرّارة وهزمهُ شرَّ هزيمة , ودخل طيبة منصوراً مثقلاً بالغنائم ومعهُ عددٌ كبيرٌ من الأسرى. وكان بينهم ملك الحبشة نفسهُ متخفياً بلباس ضابط. ثمَّ عاد القائد الظافر إلى منف حيث جرى له استقبالٌ باهر , ووضعت على رأسه أكاليلُ الغار , وأقيمت الحفلات الدينية في الهياكل شكراً للآلهة. وسأل رادامس فرعونَ مصر أن يعفو عن الأسرى , فأجابهُ إلى سؤله , وأطلق سراحهم جميعاً ما عدا أمونسرو فإنهُ أبقاهُ أسيراً مع عائدة وكان قد عرف أنهُ أبوها

وأراد فرعون أن يُجزل لرادامس المكافأة فعرض عليه أن يزوّجهُ ابنتهُ أمنريس على أن القائد كان لا يزالُ أميناً على عهد عائدة وقد عقد النية على الاقتران بها كيف كان الحال. فأوعز إليها أن توافيه ليلاً إلى مكان قرب هيكل إيزيس. وكان أمونسرو قد عرف في مدة أسره شغف قائد المصريين بابنته , فرأى أن يستخدم هذا الحبّ للتغلُّب على مصرو لاسيما وغن الحبشان كانوا يتأهبون لاستئناف القتال. فكمن للحبيبين قرب الهيكل , وهكذا تمكن من أن يسمعَ القائدَ المصريّ يتفق مع عائدة على الهرب ويعين لها الطريق الذي سيسيران فيه لئلا يلتقيا بالجيوش المصرية الزاحفة لمقابلة الجيوش الحبشية. ولما ظهر من مخبإِه ذُعر رادامس وأدرك أنه خان

بلادهُ لأن عدوها أطلع على خطة الجيش. واتفق أن امتريس كانت في تلك الأثناء في هيكل إِيزيس , وبينا هي خارجة مع الكاهن رأت المجتمعين وسمعت بعض حديثهم. فلم ير رادامس إلاَّ أن يسلم نفسه كخائن لوطنه , وفاز امونسرو مع ابنته بالهرب أما رادامس فحكم عليه بأن يدفن حيّاً , فعرضت عليه ابنة فرعون عفو أبيها إِن هو أعرض عن عائدة فأبى؛ ولما أُزل في القبر المعدّ لهُ وجد أن عائدة قد سبقتهُ إليه: فدُفنا معاً. وقد وقفنا على العقد الذي وضع بشأن رواية عائدة فأحببنا أن نطلع القراء عليه , والأصل محفوظٌ في سجلات الأوبرا الخديوية وهذه ترجمتهُ: بين الموقعين أدناه: مسيو أوغست مارييت بك باسم وإِذن سمو إسماعيل باشا خديوية مصر من جهة , ومسيو جوزف فردي مؤلف موسيقيّ من جهة ثانية تم الاتفاق على ما يلي: يتعهد مسيو فردي بتأليف موسيقي رواية ملحنة أوبرا مؤلفة من أربعة فصول عنوانها عائدة التي قبل بموضوعها مع حفظ حق التعديلات التفصيلية التي قد يوافق إِدخالها تُمثل هذه الأوبرا في تياترو الأوبرا الخديوية في القاهرة خلال شهر يناير سنة 1871.

ينظم أشعارها الإِيطالية شاعرٌ يختارهُ مسيو فردي , ولا يكلف مسيو فردي الحضور إلى القاهرة لمراقبتها وحضور مراجعاتها , بل يمكنهُ أن يرسل من قبله شخصاً يختارهُ لإِرادته العمل وإِعداده حسب رغائبه إذا وجد ذلك ضرورياًز بعد تمثيل عائدة في القاهرة يحقُّ لمسيوج فردي أن يمثلها في أوروبة على المسرح أو المسارح التي يختارها. يختار مسيو فردي في جوقة التمثيل الإيطالية الموجودة في القاهرة الممثلين الذين يقومون بأدوار الرواية. الموسيقي والكلام في رواية عائدة يكونان في مصر ملكاً تامّاً لسموّ الخديوي. يحفظ مسيو فردي لنفسه ملكية الكلام والموسيقى في سائر أقطار العالم يرسل مسيو فردي إلى مصر , أو يسلم في باريس في الوقت المناسب , إلى مندوب سمو الخديوي نسخة ملحنة من موسيقى عائدة يتقاضى مسيو فردي مقابل هذا العمل مبلغ 150 ألف فرنك. يُدفع هذا المبلغ على قسطين: خمسين ألف فرنك يوم توقيع الاتفاق , ومئة ألف فرنك يوم يسلم مسيو فردي أو يرسل إلى سمو الخديوي موسيقى عائدة. كتبت من هذا العقد نسختان في باريس في 29 يوليو 1870. مقرٌّ بما فيه الأمضاء: ا. مارييت

إلى القراء

أقبل هذا العقد مع التعديلات الآتية: أوّلاً: الدفع يحب أن يكون ذهباً ثانيّاً: إذا حدث حادث غير منتظر مهما كان ولا علاقة لي أنا بهِ أعني لغيرِ تقصير مني فلم تمثّل الأوبرا في القاهرة خلال شهر يناير من سنة 1871 , يكون لي الحق في تمثيلها أينما شئت بعد مضيّ ستة أشهر من ذلك التاريخ الإمضاء: جوزبي فردي إلى القراء كان في النية كما وعدنا القرَّاء أن نخصّص هذا الجزء من الزهور بأبحاث أدبية اجتماعية عن حالة مراكش والجزائر وتونس وطرابلس الغرب كما خصصّنا الجزئين 6 و7 من السنة الأولى لهذه المجلة بموضوع مصر وسورية وذلك رغبة منّا في زيادة القراء معرفة بالأقطار العربية وأخبار نهضتها الفكرية. على انهُ لم يتسير لنا تهيئة جميع المعدات اللازمة بالنظر إلى صعوبة الحصول على المعلومات التي يقتضيها الموضوع. فرأينا , من أجل ذلك , أن نؤجلَ إصدار الجزء الموعود بهِ. ريثما تصلنا التفاصيل والمعلومات التي طلبناها من أنحاء مختلفة , فتتوافر لدينا المعدَّات اللازمة لجعل البحث مستوفياً يُرضي القراء ويفيدهم؛ وسيتمُّ لنا ذلك عن قريب , إِن شاء الله.

تجاه البحر

تجاه البحر ذهبتْ إلى الاسكندرية أصطاف. . . أستغفر الله! كبُرتْ كلمة الاصطياف بواسع معناها على ما يمكنني من سوانح الفراغز بل ذهبت لقضاء أيام ألتمسُ فيها راحةً من عناءِ الأعمال. فلمّاً بلغتُ النَزْلَ كان أوَّل مطلبِ لي أن أرى البحر؛ فتمشيت إليهِ , وحاذيت إِفريزَه الجديد , متخطراً على رَسلي , حتى انتهيت إلى حدّ الرصيف غرباً فعمدت إى صخرة وثويت عليها. ثويت مفترجاً متخلّياً متروّحاً غير أنني لم ألبث أن وجدتُني قد أُخِذت أُخذْت بمحاسن ما أرى , واغتربتُ عن نفسي ساعةً. فلمَّا عدتُ من غربتي , حسبتنُي هيكلاً يتلهَّب بين تلك البسطةِ المائيَّة التي تُحيطُ بي لم يكن إلاَّ أن رسوت بجسمي مطلاًّ على ذلك الفضاء المتحشرج الليّن , المتضرّب المتلوّن , حتى مضى نظري طافياً فوق اللجج , طاوياً أبعادها , ملمّاً بآفاتها. وتدافعت خواطري متخذةً من أشعة النظر أسباباً ترتقي عليها أو سفائن تستقلُّها. فارْقَتٌ جسمي كما تفراقُ النحلْ الخليَّة , وانصرفت أشتاتاً بين السماء والماء. إنَّ للخواطر جنى عذباً تجنيهِ من آيات الماء الملِحْ. . . جنى معهُ

التعب , وتعبهُ هو الراحة , على حدّ قول القائل: إنما الراحة تبدي ... لٌ لنوع التَعَبِ والتداوي نصَبٌ ... يُشفى بهِ من نصَبِ ما صفةُ ذلك الجنى. . .؟ لا تكلّفوها شاعراً قديراً , ولا كاتباً تحريراً , ولا حكيماً خبيراً؛ بل ليسأل كلٌّ منكم نفسهُ عما أحسَّ وتصوَّر حين جلسَ إلى البحر مثل تلك الجِلْسَةِ. جنيت من تلك الرحلة الفكرية تعباً مرُيحاً , وأردت تدوينَ ما كسبهُ ذهني من محصولها , فعجزت عن أقلّهِ , ولم يسعني سوى أن أتنفس الصعداءَ بهذا النداء: أيها البحر الشائقُ المهيب: ماذا يبلغ علمُ إِنسانٍ جاهلٍ ضعيف من أسرار جلالك وجمالك؟ إذا طغَتِ الموجةُ من أمواجك فاستجمَعَت خضراءَ , وانحذفت رابية شماءَ , تأخذ العنان بعفُرتها البيضاء , فأيّ فكرٍ يُكبرُها إِكبارَها , وإن هي منك إِلاَّ أُلعوبة تتجدُّدُ كلَّ ثانيةٍ , وأعجوبة بينا هي الأولى إذا هي الثانية. فإذا ملك النفسَ وملأَ الحسَّ إِعظام تلك الآياتِ , فما الذي تفعله الرَّوعةُ بالمتطلّع حين تهبطُ الرابية , وتنفعر لها الهاوية , فتقصف وهي متداعية , حتى تَنِشَّ نشيشاً , وقد تكسّرت إلى ألوف أجزاءٍ من الماس

أين أقام في مصر

المتشعّب واللؤلؤء والمختلف النضار الساكب أو المتبسّط والجمان المصوغ أو المُتناثر. فإذا التمس العقلْ مزيداً وتعمَّق إلى مضطَرَب الذُّرَيراتِ فما حَيرتهُ ودهشتهُ لدى كل قطرةٍ , وفي القطرة جُزيئاتٌ لا تُعّدُّ: هذه تبسمُ وردية , وتلك ترقص لازوردية؛ إِحداها تحجلُ محمرّة , وأختها تزحف مخضرَّة؛ بعضها ينظرْ باللجَين شزراً , وبعضها يُضمرُ النار ويصفو مفترّاً أيها البحر الشائقُ الجميلً! تُجاهك لا يحسن إلاَّ التعجُّبُ والسكوت؛ وأنَّ مع السرور برؤيتك لأسفاً دويّاً من أنك أنت أيضاً حيٌّ وأنت أيضاً ستموت. خليل مطران أين أقام في مصر العلماء الذين صحبوا نابليون بونابرت كان مسيو جورج لجران قد قدَّم إلى المجمع العلمي المصري في شهر مارس سنة 1913 درساً عن منزل في القاهرة عاش فيهٍِ فريقٌ من العلماءِ الذين رافقوا بونابرت إلى مصرو وهذا المنزل لا يزال محفوظاً إلى اليوم وهو قرب ميدان الناصرية في شارع الكومي عند آخر حارة حسن كاشف الواقعة بين مدرسة الناصرية ومكتب البوستة. وكان في سنة 1798 إبان الحملة الفرنسوية مُلكاً لإبراهيم السناري الأسود , وهو اليوم ملك الأوقاف. وقد تمنى مسيو لجران على المجمع العلمي المصري أن يتخذ الطرق اللازمة لحفظ هذا الأثر من الدمار. فاجبيت أمنيتهُ وعينت لجنة حفظ الآثار العربية مبلغاً من المال للشروع

في ترميم المنزل. وفي آخر أغسطس الماضي اجتمع في المنزل نفسهِ فريقٌ من الجالية الفرنسية يتقدمهم مسيو فوشه وكيل فرنسة ومسيو كرترون قنصلها في مصر فألقى عليهم مسيو ليجران خطاباً تلخصهُ في ما يأتي: هذا المنزلُ القديم الآن كان حديث البناءِ عندما فتح القائد بونابرت مصر سنة 1798. فإن البنائين والرسَّامين كانوا قد أتموا تشييده ونقشهُ منذ مدة يسيرة. وهذه المِطفرة الناشفة الآن كانت تُلطّف الهواءَ؛ والطنافس لثمينة تفرش هذا الرخام الأبيض , والمقاعد ول هذه القاعة تنتظر سيّد المنزل , وهو إبراهيم السنَّاري الأسود وكيل مراد بك الشهير الذي كان ينازع إبراهيم بك الكبير سيادة مصر في ذلك العهد. وكان إبراهيم السناري الأسود كما يدلُّ اسمهُ قاتم اللون أمَيل إلى السواد منهُ إلى السمرة. ويؤخذ من تاريخ الجبرتي أنهُ ولد في دنقلع حوالي سنة 1770؛ فهجر بلاده وهو يافع , ونزل النيل حتى بلغ القاهرة. فلم يجد فيها سبيلاً لكسب معاشه , فتابع السير حتى المنصورة حيث اضطر أن يكون بواباً في أحد المنازل. على أن إبراهيم كان على جانبٍ من الذكاء فتعلم القراءة والكتابة ثمَّ التركية والحساب. وانصرف من ثمَّ إلى الفنون السحرية , فأصبح أشهر من قال البخت أو أعدَّ الطلاسم والتعاويذ. ونال حظوةً في عيني المعلوك الشابوري , فاستصحبهُ إلى الصعيد , حيث توصل إبراهيم إلى التقرُّب من مراد بك. فكان ذلك بداية افترار ثغر الدهر لهُ. ولم يلبث

أن أصبح صديق سيده وموضع ثقتهِ , فغمرهُ هذا بالهدايا والنعم. ولمَّا نزل مراد في الجيزة في السراي التي قامت محلها اليوم إصلاحية الأحداث على طريق الأهرام عُيّنَ السناري وكيلاً له في القاهرة. فكان إبراهيم يفلوض امراء المماليك باسم مولاه , وصار منذ ذلك العهد مسموع الكلمة بعيد النفوذ. وكان له في القاهرة أبنية عديدة عندما صحّت عزيمتهُ على بناء هذا المنزل الذي نحن فيهِ , ولم يدّخر وسيلةً في توفير أسباب الهناء والرخاء في منزله الجديد , ويمكننا أن نتثبَّت ذلك بالعيان ممَّا بقي أمامنا من الآثار , وإن كان قد ذهب معظمها ولعبت بهِ يدُ الدهر التي لا تُبقي ولا تَذّر. ولو قدرت هذا الجدران على الكلام لإفادتنا أنهُ عند انتشار خبر وصول الفرنسيين إلى القطر بقيادة الجنرال بونابرت واستيلائهم على الاسكندرية , ترك مراد بك مزاحِمَهُ إبراهيم بك يحشد رجاله بالقرب من بولاق , وجمع هو جموعهُ وزحف لمقابلة الفاتح وفي 14 يوليو 1798 تقابل الفريقان في شبراخيت , فولى المماليك الأدبار. وبعد ثمانية أيام نازلهم بونابرت في أنبابة حيث توجد الآن المحطة الحالية. وفي مساء ذلك اليوم نام بونابرت في سراي مراد بك عدّوهِ المغلوب. أما مراد بك ففرَّ إلى الصعيد؛ ولحق إبراهيم السناري بسيدهٍ ولم يفارقهُ مدة الثلاث سنوات التي ظلّ يناوش الفرنسيين أثناءَها. وهكذا ترك السناريّ المنزل الذي نحن فيهِ. وعهد بونابرت بعد انتصاره هذا إلى الجنة في أن تختار منزلاً له

ولأركان حربهِ. فوقع اختيارها على منزل محمد بك الألفي وكان قد تمَّ بناؤه منذ ثلاثة أسابيع فقط , وكان هذا المنزل قائماً شمالي ميدان الأزبكية بين فندق شبرد والنادي الفرنسي الحاليين. ولا صحة لما يُروي عن أن في القاهرة اليوم منازل عديدة قد سكن فيها بونابرت. ولكن المرجح أن القائد الفرنسي ذهب إلى الديوان الأكبر الذي لا يزال منهُ بعض حجر في شارع الرّويعي وشارع البواكي فوق محل سبيرو؛ وقد زار بونابرت أيضاً منزل الشيخ السادات والشيخ البكري , ولكني لم أجد قط ما يدلّ على أنهُ اتخذ لسكنه محلاً غير منزل ألفي بك. أمَّا الحاشية العسكرية والملكية فقد اتخذت لسكناها سرايات البكوات والمماليك حول الأزبكية , وقد درست آثارها كلها. وكان مع الحملة العسكرية بعثة علمية مؤلفة من 135 عضواً ولم يكن بدٌّ من إيجاد منازل لهم وللمجمع العلميّ المصريّ الذي ألَّفوه. فوقَّع بونابرت أمراً صريحاً بهذا المعنى يقضي بإسكانهم بقرب المعسكر العام بالأزبكية. ولا ندري ما الذي حال دون تنفيذ ذلك الأمر. على أن المقرّر أن مونج وبرتوله وكافارلي قصدوا إلى السيدة زينب؛ واحتلوا منازل عديدة كان قد تركها المماليك أنصار مراد بك. وكان أجمل هذه البنايات منزل حسن بك الكاشف الذي قامت على أنقاضهِ مدرسة الناصرية الحالية. وكان تجاه هذا المنزل قصرٌ فخم لقاسم بك حيث يوجد الآن مكتب البريد الجديد , ومن الجهة الثانية للشارع كانت حديقة متسعة الأطراف وإلى جانبها سراي لعلي بك وقد

محا معوَل الهادمين كل هذه الآثار , ولم يبقَ إلاَّ منزل إبراهيم السناري الذي نحن فيهِ الآن. هذه هي المنازل التي سكنها أعضاءُ لجنة العلوم والفنون التي رافقت الحملة الفرنسية. فاتخذ قصر حسن بك الكاشف مقرّاً للمجمع العلمي , وحوّلت حديقة قاسم بك معرض للتاريخ الطبيعي , فجمع فيها العالم جوفري سانتهيلير عدداً كبيراً من الحيوانات , واستنبت البذور التي قد استحضرها من فرنسة. وكان هناك أيضاً مكتبة عمومية يرتادها من يشاء , ومعامل كيماوية كان يُجري فيها العالم برتوله تجاربهُ ويلقي دروسه , فأمّها الكثيرون من الوطنيين وأخذوا يدرسون مدنية الغرب. وأقام كونته إلى جانب المعامل ورشاً أخرجت للمستعمرة الجديدة كل ما تحتاجهُ من آلات وأدواتٍ ومعدّات. وكان قصر قاسم بك من نصيب المغني فيلّوتو الذي درس أصول الموسيقى العربية على أربابها , وألّف فيها وصنّف. وسكن سائر علماء الحملة من فلكيين ومهندسين ومستشرقين وغيرهم حول تلك البقعة. أما منزل السناري هذا فوضع تحت تصرُّف المصوّر رغو لأن هذه القاعة الفسيحة كانت في غاية الموافقة. وكان بونابرت قد عهد إلى ذلك المصوّر في تصوير أعيان البلاد ووجهائها. وفي هذا المكان رسمت صور الشيخ السادات والشيخ البكري وغيرهما من أعيان الديوان الكبير والديوان الصغير. وكان نابوليون وهو منفيٌّ في جزيرة القديسة هيلانة

يذكر الرسوم البديعة التي زين بها المصوّر ريغو سراياه في الأزبكيةز وحدث لريغو في هذا المنزل حوادثه متنوّعة فكان السذَّج ينظرون إليهِ كأنهُ ساحرٌ ويشيعون أن أعضاء بشرية معلقة إلى حائط القاعة التي يسكنها مشيرين بذلك إلى الصور العديدة التي كانت عنده. واتفق يوماً أنهُ أراد تصوير أحد النوبيين القادمين إلى مصر , فرضي النوبي بذلك ولما جلس المصوّر أمامهُ , ومزج الألوان , وأخذ يرسم على القماش تقاطيع الرجل وهيئته , قام هذا مذعوراً وخرج مستجيراً من شرّ إبليس. وكان جماعة العلماء يعيشون في راحةٍ وصفاء منصرفين إلى أبحاثهم ودروسهم , إلى أن حدثت فتنة القاهرة في أواخر أكتوبر سنة 1798 , فوجدوا أنفسهم منفصلين عن المعسكر العام. وكان عندهم شيءٌ من السلاح للدفاع , على أنهم كانوا قليلي الخبرة في استعماله؛ ففكّروا هنيهة في أن يتركوا مقرَّهم ويلجأُوا إلى الأزبكية , ولكنهم خافوا على المكتبة والمجموعات العلمية من أن تذهب فريسة الثائرين , فأثروا البقاء حيث كانوا وإِن عرّضوا حياتهم للخطر , وتحصنّوا في المنازل وأقاموا الخفراء عند مدخل شارع حسن كاشف وقرب سبيل السيدة زينب , إلى أن تمكّن الجنرال لأنّ من نجدتهم وإعادة المياه إلى مجاريها. وبعد سكون الفتنة رجع العلماءُ إلى أعمالهم حتى يناير سنة 1800 فسافروا إلى الاسكندرية على نية الرجوع إلى فرنسة بموجب اتفاقية العريش. فحال دون ذلك نقض الاتفاقية. ثم حدثت موقعة المطرية ,

وثورة القاهرة الكبرى وعودة إبراهيم بك إلى لعاصمة فاضطراه إلى مغادرتها لمعاودة القتال. وهكذا رجع العماءُ ثانيةً إلى المنازل المتقدّم ذكرها , ولكنَّ إقامتهم هذه المرة كانت أشبه شيءٍ بالمنفى. وجاءَ الطاعون فزاد موقف الفرنسيين حرجاً. ولما غُلبَ القائد مينو وتقهقر إلى الاسكندرية , أصدر القائد بليار نائبة في القاهرة الأمر إلى العلماء بأن يوافوه إلى القلعة حيث يكونون بمأمنٍ من الطوارئ. فرفضوا بتاتاً لأنهم كانوا يشعرون بأنهم بين أصدقائهم الوطنيين في حرز حريز. ولم يذكر العلماءُ قطّ أنهم وجدوا بين المصريين رجلاً واحداً أساء إليهم أو لم يحسن معاملتهم. وظلوا كذلك إلى أن جلت الحملة الفرنسية نهائياً عن الديار المصرية. أما إبراهيم السناري فإنه عاد منزله هذا , ولكنهُ لم يذُق فيهِ الراحة طويلاً , لأن القائد العثماني لم يدّخر وسعاً في إِبادة سلطة المماليك وتوطيد سلطة الباب العالي في مصر , وقد روى لنا الجبرتي مقتل السناري في الإسكندرية. ولكان هذا الرجل اليوم نسياً منسيّاً لولا أن فريقاً من العلماء احتلوا منزله , وهم الذين عرّفوا مصر القديمة إلى العالم , وذلك لخير العلم والإِنسانيةز سئُل أعرابيٌّ: هل لك في الزواج؟ فقال: لو استطعتُ لطلقتُ نفسي

عظة الحسون

عظة الحسون عشيَّةَ يومٍ وقد أخذت عين الشمس المحمرَّة تغمض وتذبل , وقف الحسون على غصت صفصافةٍ قد تدلَّت أغصانها فوق جدول ماءٍ صافٍ؛ حيث اصطفت على ضفتيهِ الطيور على تباين أشكالها واختلاف أجناسها قال الحسون وقد سرَّهُ ائتلاف إِخوانه الطيور حول ذاك الجدول , تستقي من مائهِ , ومن ثمَّ تتفيأُ بظلّ تلك الصفصافة دون أدنى حسد أو تنازُع: إخواني , كنت ظننتُ أن تفاوت طبقاتكم وأجناسكم يحدث بينكم شيئاً من القلاقل والمشاغب , ولكني والحمد لله رأيت خلاف ما ظننت , فكأن تعدد مشاربكم , وتشتت جماعاتكم , وتباعد مساكنكم , كل هذا لم يكن إلاَّ دافعاً لكم لتسلكوا سبيل الألفة والمحبة , فضلاً عن أنكم سمحتم لمثلي أنا ابن الشعب الصغير فيكم بأن أعظكم كأنني عظيمكم , فالمولى يوفقكم وينميكم ويرزقكم بُرّاً وماءً. أما عظتي التي أعددتها لمثل هذا الاجتماع لتلقي على مسامعكم في أوَّل هذا الفصل فهي: ترون ولاشك أن الربيع قد برز بحلته وظهر بحسن طلعته؛ وأخذت أنفاسه المنعشة تمرُّ مقبّلةً مباسم الزهور , وزهور الثغور. وأخذتم أيضاً تشعرون بالواجب عليكم , وأنه يقتضي علينا أن نمزّق جماعاتنا المتحدة أفواجاً ونتفرَّق اثنين اثنين؛ بحيث نتألف أزواجاً تصفيق أجنحة

وتغريد ألسنة أرى أن السرور قد استفزَّكم وأنا أعذركم على هذا , إِذ ليس أشهى من قرب الأحباب , ولا ألذّ من العزلة لعشيقين افترقا مدةً فذاقا الأمرّين. أجل , إِننا سنفترق الآن لنجتمع غداً. نفترق الآن اثنين اثنين , لنعود أربعة وخمسة؛ نفترق الآن لكي نعشش فنعتاض مما أفقدتنا تعديات البشر القساة؛ نفترق لنعلّم الإنسان كيف يجب عليهِ أن يسعى لأولاده , ويجتهد بمساعدة زوجته. نفترق لنصير أزواجاً أصحاب عمل وأرباب بيوت فنكون أعضاءَ عاملين في محيطنا الأدبي والمادّي. نذهب الآن ليفتش كل عصفور منا على عصفورة تناسبه وتعجبهُ , فيحبها وتحبهُ , ويتعاونان على تربية أفراخها الصغيرة. إِياكم أن يعتدي أحدكم على عصفورة صاحبه؛ لأن ذلك يؤدي إلى الخصام والمقاتلة. وقد قال الكيم الغيرة قاسية كالموت والمحبة عميقة كالهاوية. إِياكم أن يبقى أحد منكم دون حليلة , لأنهُ يكون عرضة للانتقاد وإلقاء الشبهات , والويل لمن تقع الشكوك عن يده , ويقود أخاه إلى عمل الإِثم. إخواني أن الزيجة واجبة لازمة لاسيما وأنها لا تكلفنا شيئاً نحن جماعة الطيور بيت من القش اليابس , وحبة حنطة من الحقل وقطرة ماء من النهر هذا كلّ ما نتكلفهُ , فلا نحتاج القصور , لأن قصورنا الجدران العالية والأشجار الباشقة , ولا نطلب الرياش , فكل ما في الطبيعة من تلك التي لم يلبس سليمان كواحدة منها هو لنا , ولا نطمع بالحلى , فإن ملابسنا لا تتغير فهي ثابتة مثل قلوبنا.

تناسلوا وتكاثروا. وعيشوا اثنين اثنين طول هذا الفصل بمحبة وأمانة؛ وليرعَ بعضكم بعضاً , وليكن كلٌّ منكم أميناً على عهد زوجته , لا تخونوا لأن الخيانة من طباع اللئام. أوصوا فراخكم بأن يحبوا فراخ سواكم لأننا بدون محبة ووفاق لا يمكننا أن نعيش ونحفظ كياننا. قبل أن نفترق إلى أعمالنا ألفت أنظاركم إلى شيء مهم. وهو أنهُ غداً يأتي الأولاد , فيخربون بيوتنا ويسرقون أفراخنا ويأكلونهم؛ ولو كنت ممن يميلون إلى فعل الشرّ لقلت لكم: أفقأوا أعينهم! ولكن لا. فهذا يضرُّ بنا لأن ابن آدم حقود , فتجنبوا البشر كثيراً , لأنهم إذا كانوا يقتلون ويأكلون بعضهم بعضاًو فكيف تكون حالهم معنا؟ لا تتمثلوا بهم , إذ يأتون إليكم وبينهم المسيحي والنيّ واليهودي , وكلهم قد اتفقوا على الشرّ والاعتداء عليكم. أقول لكم اتحدوا , ولكن على الخير لا على الشرّ , فكما أنهم يتحدون على الشرّ دون الخير كذلك أنتم اتحدوا ولكن على الخير لا على الشرّ. غداً يؤمُّنا الصيادون. فلنهرب! أتعرفون إلى أين؟ إلى مكان لا تظنونهُ موافقاً وأميناً ولكنهُ على عكس ما تظنون. غداً بعد ما يتم نتاجنا , ويجتمع شتيتنا , وتلئم أسرابنا , نقصد بلاد البلقان هناك يلهو عنا الإنسان بقتل أخيهِ الإنسان. مراد أبي نادر ليس لكذوب مرؤة, ولا لضجورٍ رياسة , ولا لملول وفاء , ولا لبخيل صديق.

الفضيلة

الفضيلة وجدتني يوماً من أيام هذه الحياة في عاصمةٍ من عواصم هذا العالم استفزتني فيها مشاهد متباينة أضحكنَ وابكينَ؛ وظللتُ متجولاً في مشارعها وشوارعها , وأنديتها وأوديتها , كأني ناشد ضالةً وهل تنشد في ظلمات هذه المدينة إلاَّ الفضيلة الضائعة لا بل الضالة لأنها هبطت من المحل الأرفع وهوت من الفضاء إلى ثرى الغبراء ومن عالم النور والسيَّارات والشموس , إلى عالم الظمة ظلمة الفضاء والعقول والنفوس , ونزلت من السماء سماء الصمت والسكون والراحة الأبدية , إلى حضيض جلبة الإنسان , وعجيج الحيوان , فضلَّت هذه الفضيلة وأضلَّت. ضلَّت حين لم تجد سكناً تأوي إليهِ في جديد مُستقرٍّ اختارته , وعرفت أنها التاثت بحمأة الخطيَّة , وأضلَّت لأنها تركت الفلاسفة والشعراء كحاطبين في الظلام. أضلَّتهم لأنها ربة عَبَدها الناس , لا جميع الناس , ولكن عبدها الشاعر والفيلسوف , وسجد لها الأدبيون والأخلاقيون وهم لا يدرون أين يضعون لها شطر الوجوه , فضلَّوا وأضلُّوا كما فعلت الآلهة من قبل فيا لضلال العابد والمعبود! ضائعة أنت أيتها الفضيلة وأنتم أيها الفلاسفة والشعراء وأركان الحكمة والآداب كل منكم فضيلةٌ أرضية ضائعة ضياع فضيلة السماء في الأرض؛ كل منكم فضيلة ضائعة ولكن يست بأرضيةٍ كما قيل , لأنكم أرواح سماوية , وجواهر مجرَّدة , هبطت مع الآلهة إلى الأرض, فضاعت

آلهتكم وضعتم معها أنتم في ثنيَّات القرون. حقيقة كشفتموها ومَثَلٌ ضربتموه هو أن الأرض الخبيثة لا ينبت فيها الطيَّب بل الخبيث. الأرض الخبيثة تبخلُ على الزهرة بشيءٍ من قواها الحيوية فتخرجها ضعيفة القوام لا تقوى على الفواعل. تتأُر حتى من النسيم البليل , وتحرقها حتى حرارة شمس الخريف المعتدلة , ثم أنها تُودّع الحياة غير شبعانةٍ من الأيام كأنها أمل في صدر الفتاة ما عتم القضاء أن رماه باليأس فأطفأ نوره أما الأشواك فلها من التربة السوداء كل حياةٍ تجعلها راسخة الجذور رسوخ حب الأثرة في نفوس الجبَّارين , وتبرزها محدَّدة الرؤوس كأنها حراب الجنود المسخَّرة لتدمير الشعوب الضعيفة , وتكوّنها جاثيةً على الرمال كأَنما هي رؤوس الأرواح الشريرة نافرةً من بطون الأَرضين على وجه البسيطة. الفضيلة تلك الزهرة الضعيفة القوام لا تلبث أشواك الاجتماع أن تقضي عليها , لأن نفوس البشر تربة خبيثة لا تغذّي الأزهار ولكنها تغذّي الأشواك السامة , تبسطها على طريق المصلحين فتدمي أقدامهم , وتملأ بها سبيل التعسء فتزيد آلامهم , فيا تعست تلك التربة الخبيثة وتعس من ورائها الجناة الآثمون! الفضيلة زهرة عطرة لا تحبُّ أن تخرجها الأرض , لا بل لا تحب هي أن تخرج من الأرض , لأنها لا تُريد أن تتغذّى بعناصر أشقياءِ هذا العالم تدكّهم عروش الظالمين , وتحشرهم في الأجداث المظلمة , فتحلهم الطبيعة غذاءً لها , فبئس غذاء الأشواك لا غذاء الورود , وبئست تلك

الهياكل المحنَّطة التي أنفوا عليها حتى من فعل الطبيعة , والتي تحبّ الكبرياء حتى وهي أجداثها العميقة , والتي أقامت من الأهرام دليلاً على الجبروت. الفضيلة زهرة لا تحبّ أن تستمد من هواء هذه الأرض لأن هذه أنفاس وتلك حسرات ممتزجة بجواهره الفردة. نفثات صدورٍ وآلام , وحسرات كرام , لا تحب أن تنمو عليها تلك الزهرة الطاهرة , لأنها لا تريد أن تجتذب من الهوء آلام البشر وحسرات الإنسانية الشقية , ولا تحب أن تعيش في محيط تلك الأمواج الاثيرية التي يبعثها أنين المظلومين , وعجيج الفقراء , وأصوات الحزاني. حقاً أن الزهرةة قصيرة مدى الحياة لأنها شاعرة حسَّاسة ذات ضمير ووجدان في ظواهر هذه النفوس البشرية , فلذلك تتأثر وتتألم وتذبل تموت. فسلام على الزهرة! ما أشبه تلك الزهرة بالفضيلة , ما أشبهها بتلك التي تخالج صدر الأديب وتعالج نفس الفيلسوف , تريد أنتنمو لتكون فيَّاضة الوجود عى العالم بأسره , فتمنعها الرذيلة فيموت حاملها وتموت قصيرة مدى الحياة بموتهِ , فيا لرزية الإنسانية بفقدكِ أيتها الفضيلة! النجف محمد رضا الشببي

في رياض الشعر

في رياض الشعر إلى الأمير عمر باشا طوسون تألفت في مصر جمعيتان لمدّ يد المساعدة للدولة العثمانية وتخفيف ويلات القتال في الحرب الطرابلسية والحرب البلقانية , وهما جمعية إِعانة الدولة وجمعية الهلا الأحمر وقد ترأس الأولى دولة الأمير عمر باشا طوسون , والثانية دولة الأمير محمد علي باشا , فطاف الأميران البلاد مستنهضين الهمم , مستنديين الأكفّ , فبذل المصريون المال وكل أنواع المساعدة بكرمٍ وسخاءٍ , فاستطاعت جمعية جمع الإِعانات إِمدادَ الدولة بما فرَّج كربتها وسهّل عسرها , وتمكّنت جمعية الهلال الأحمر من تضميد جروح المقاتلين وإِسعاف المنكوبين ومؤاساتهم , مما رفع قدر مصر في عين الإِنسانية , وخلّد ذكر أُمرائها الفخام وأبنائها الكرام , وجعلهم مضرب مثل إِذا ما ذُكر الكرم والمرؤة. ولقد كان أبسط الجميع كفّاً , وأكرمهم يداً , وأبعدهم عزمةً دولة الأمير الخطير البرنس عمر باشا طوسون , فجاد بالمبالغ الطائلة من مالهِ الخاصو وبذل ما له من النفوذ البعيد وما عُرِف بهِ من الهمة العلياءِ لجمع الإِعانات للجيش العثماني , حتى أُعجب الجميع بسخائهِ وحميّتهِ , وإِن كانوا قد عرفوا دولة الأمير سبَّاقاً إلى كل مكرمة وتعوّدوا أن يروا له في كل مأثرةٍ يداً. وقد اعرب عن هذه العواطف كبير شعرائنا وأستاذهم - سعادة

اسماعيل صبري باشا - بأبياتٍ كالذهب الأبريز رونقاً وجلاءً , فسألناه أن نحلّيَ بها جيد الزهور اعترافاً بمأثر الأمير , وحفظاً لهذا الشعر الجميلو فأجاب ملتمسناو وهذه هي الأبيات: لك الإِمارةُ , والأقوام ما برحت ... بكلّ عالي الذري في الكون تأتمرُ لو لم تَرثها لما ألقت أعنتها ... إلاَّ إليك خلالٌ كلها غررُ يا ابن الأُلى لو أطلُّوا من مضاجعهم ... يوماً عليك لقالوا: إيهِ يا عُمَرُ أعدتَ أيامهم في مصرَ ثانيةً ... حتى توهَّم قومٌ أنهم نُشروا وسرتَ سيرتهم حى كأنهمُ ... إذا خطرتَ بأرضٍ مرةً خطروا للهِ درُّك كم نبَّهت من هممٍ ... تثني على أهلها الآصال والبكرُ وكم تعهدتَ جرحى من أسودِ وغىً ... أن يكشرِ الدهرُ عن أحداثهِ كسروا مستندجداً من بني مصر أُلي شممٍ ... إذا رأوا ثلمةً في حوضهم جبروا مستهيماً هامياً والنيلُ في وجلٍ ... من أن تجودَ بهِ أيمانكم حذِرُ حتى تفاهمت الأرحامُ وادَّكرت ... ما بينها الأهلُ والخلانُّ والاسرُ وآذن البرُّ بالسقيا وما فتئت ... منهمْ ومنك صنوفُ البرّ تنتظرُ وحرَّكت كلَّ كفٍّ بالندى مِقَةٌ ... حتى تعجبتِ الأنهارُ والغدُرُ والناسُ أن قام يستسقي الكريمُ لهم ... سحائب الفضل , بشّرهم فقد مُطروا أبي علاءُ سعيدٍ أن يشابههُ ... إلاَّ ابنُ دوحتهِ إن قام يفتخرُ ما زال يحمدهُ رائيك مُدَّكراً ... والأصل بالفرعِ إن حاكاهُ يُدَّكرُ إسماعيل صبري

رثاء فردي نشرنا في صدر هذا الجزءِ كلمةً عن فردي وحياتهِ وروايتهِ عائدة , ونتحف القرَّاءَ الآن بأبيات غراء , نظمها أمير الشعر والإلهام في رثاءِ أمير الأنغام , قال: فتى العقل والنغمةِ العالية ... مضى ومحاسنه باقية فلا سوقةٌ لم تكن أنسهُ ... ولا ملك لم تزنْ نادِيهْ ولم تخلُ من طيبها بلدةٌ ... ولم تخلُ من ذكرها ناحيه يكاد إذا هو غنَّى الورى ... بقافيةٍ يُنطقُ القافيه يتيه على الماس بعضُ النحاس ... إذا ضمَّ ألحانهُ الغاليه وتحكم في النفس أوتارُهُ ... على العود ناطقةً حاكيه وتبلغ موضعَ أوطارها ... وتغشى سريرتها الخافيه وكم آيةً في الأغاني لهُ ... هي الشمس ليسَ لها ثانيه إذا ما تنادى بها العازفون ... قل البرق والرعد من غاديه فإن همسوا بعد جهر بها ... فخفق الحليّعلى الغانبه لقد شاب فردي وجاز المشيب ... وعَيدا شبيبتها زاهيه تمثل مصرَ لهذا الزمانِ ... كما هي في الأعصر الخاليه ونذكر تلك الليالي بها ... وننشد تلك الرؤى الساريه ونبكي على عزّنا المتقضي ... ونندب أيامنا الماضيه فيا آل فردي نعزيكمُ ... ونبكي مع الأسرة الباكيه فقدنا بمفقودكم شاعراً ... يقلُّ الزمانُ لهُ راويه شوقي

شاعرة تهاجرُ شاعرا تُمسين ناسيةً وأُمسي ذاكرا ... عجباً أشاعرةٌ تهاجرث شاعرا فهل الملائك كالحسانِ هواجرٌ ... إن الملائك لا تكون هواجرا إن كنتُ لا أسعى لداركِ زائراً ... فلكم سعى فكري لدارِكِ زائرا وأخو الوفاءِ يصونُ منهُ غائباً ... أضعافَ ما هو صانَ منهُ حاضرا يُصيبك طيرُ في ترجيعهِ ... يا ليتني في الروض أصبحُ طائرا ويهزُّ منكِ الزَّهرُ في زفراتهِ ... نفساً تظلُّ لها النفوسُ زوافرا قد عشت دهرَكِ بالمحاسن صبَّةً ... وقضيتُ دهري بالمحاسن حائرا هذا اتحادٌ في الرغائبِ والهوى ... أبداً ترينَ من المشاهد ما أرى أنَّا اقتسمنا السحرَ فيما بيننا ... لله ساحرةٌ تساجلُ ساحرا لابدَّ في هذي الحياةِ من الهوى ... أنَّ الهوى يهب الحياةَ نواظرا ولقد تهبُّ عليهِ يوماً سلوةٌ ... فتُنيمُ ساهرةً وتترك ساهرا يا ويحَ ذي قلبٍ يناجي مثلهُ ... يدعوه مؤنسهُ فيبقى نافرا قلبان: ذو صبرٍ يعاني هاجرا ... أو هاجرٌ ظلماً يعذّبُ صابرا متوافقانِ على الشكايةِ في الهوى ... كم جائرٍ في الحبّ يشكو جائرا إن كان قلبي في التصبرِ مذنبا ... فليُمسِ قلبكِ في التصبر عاذرا سيعود ذاك الودُّ أبيض ناصعاً ... ويصير هذا أخضر ناضرا ولي الدين يكن

الليالي الماضيات نشرنا في الجزء الأخير من السنة الماضية في معرض الكلام عن رئيس الجمهورية الفرنسية الجديد - مسيو ريمون بوانكاره - ترجمة أبياتٍ صحيفة 536 نظمها يوم انتقل من حضن الحياة العائلية إلى ميدان الجهاد والعمل؛ واقترحنا على شعرائنا أن ينظموها شعراً عربيّاً. فكان خير ما جاءَنا من هذا القبيل الأبيات التالية وإن كان ناظمها قد توسَّع في المعنى وتصرَّف بالأصل , قال: هي الأيامُ سلسةُ الحياةِ ... وماضي العيش منها غيرُ آتِ وقد جعل المهيمن من قديم ... مصيرَ العالمين إلى المماتِ وليس بخالدٍ للناس شيءٌ ... سوى حسناتهم والسيئاتِ وأعمالُ الفتى إن مات كانت ... ممثّلةً لهُ إحدى الصفاتِ يكرّرُ ذكرها التاريخ دهراً ... وترويها أحاديثُ الرواةِ رغيداً عيشهُ ما دام حيّاً ... وأيُّ فتى كذلك أو فتاةِ إليكِ يا دنياي عنّي ... فإِني قد سِئمتُ من الحياةِ وما أسفي على عيشٍ رغيدٍ ... ولا وقتٍ صفا من حادثاتِ ولا أسفي على كسلٍ مضرٍّ ... يسمَّى راحةً عند الوُناةِ ونفسي لم تكن إن غادرتني ... دواعي البشر تأسى للفواتِ ولكني أسفت على سماءٍ ... صفت في الصيف من كل الجهاتِ

ونارٍ أصطليها في شتاءٍ ... ودفءٍ في الليالي البارداتِ وإخوان صفوا وأبٍ ودودٍ ... وخلٍّ ذي وعودٍ صادقات ذوائبَ أسرة قومٍ ... وأخوة شدّةٍ وبني ثقات وأمٍ من ذوات العَطف تحنو ... على طفلٍ حنوَّ المرضعاتِ تبيت الليل ساهرةً عليهِ ... ونام من العشيّ إلى الغداةِ وأيامي الجميلةُ قد تقضَّت ... وولّت بالشبيبة مديراتِ على أنَّ التأسّفَ ليس يُجدي ... على تلك الليالي الماضيات كاظم الدجيلي استبداد واستبداد يكرمُ المرءُ مستبدّاً بخصمٍ ... حيث لاقى كفؤاً لهُ فاستبدَّا فإذا ما استبدَّ يوماً بخصمٍ ... غير كفوءِ لهُ اعتدى وتعدَّى خليل مطران تحت صورة شمسية سرقتِ بحيلةٍ يا شمس رسمي ... فأشرقَ زاهياً غضَّ الإِهاب إذا وافى المشيبُ أقولٌ فيهِ: ... على رُغمِ الزمان أرى شبابي! حليم دموسي

الصحافة

الصحافة الصحافة صناعة الصحف. والصحف جمع صحيفة وهي قرطاس مكتوب. والصحافيون القوم ينتسبون إليها ويشتغلون فيها. والمراد الآن بالصحف أوراق مطبوعة تنشر الأنباء والعلوم على اختلاف مواضيعها بين الناس في أوقات معينة. فإنَّ فيها من تواريخ الأُول وأخبار الدول وفكاهات الروايات وغرائب الاكتشافات وأسعار التجارة وفنون الصناعة وضروب الانتقاد وشؤون الاقتصاد وأخلاق الغرباءِ وعادات البعداء ما يغني عن التوجه إلى بلادهم ومخالطة شعوبهم والوقوف على أحوالهم. ولذلك عوَّل الفضلاء على إِنشاء الصحف , بحيث أصبح سكان أقاصي المشرق يصل إليهم خبر أقاصي المغرب بأقرب حين , بعد إن كانت الأنباء تتجاوز الأيام العديدة للوصول من مكان إلى مكان آخر مجاور لهُ. فتأتي مختلفاً فيها لا يكاد الباحث عنها يعلم الحقيقة. وأوَّل من استعمل لفظة الصحافة بمعناها الحالي كان الشيخ نجيب الحداد منشئ جريدة لسان العرب في الإسكندرية وحفيد الشيخ ناصيف اليازجي. وإليهِ يرجع الفضل في اختيارها , فقلّده سائر الصحافيين من بعده. وكانت تسمى الصحف في أول عهدها الوقائع ومنها جريدة الوقائع المصرية كما دعاها بهِ رفاعة بك الطهطاوي. وسمُيت أيضاً غزتة نسبة إلى قطعة من النقود بهذا الاِسم كانت تباع الصحيفة بها فعُرّفت كذلك. وقيل أيضاً أنَّ أول صحيفة ظهرت في

البندقية سنة 1566 كانت تسمى غزتة فشملت هذه التسمية كل صحيفة بلا استثناء. ولما نشأت الصحافة العربية أُطلقت عليها لفظة غزتة لأنَّ هذه الصناعة كانت حديثة العهد عند الناطقين بالضاد ولا أثر لها لدى كتابهم الأقدمين. ولما أنشأ خليل الخوري سنة 1858 حديقة الأخبار في بيروت أطلق عليها لفظة جرنال وهي كلمة فرنسية معناها يومي أي المنسوب إلى اليوم للدلالة على الصحف اليومية بينا كانت جريدتهُ أسبوعية وإِليك ما كتبهُ أديب إسحاق في نبذة لهُ عنوانها مباحث في الجرائد قال: ولا مناسبة بين الجرنال وبين الجريدة إلاَّ أن يقال أنهُ أُطلق أولاً على الصحائف اليومية من قبيل تسمية الشيء بما هو عليهِ ثمَّ عممهُ الاصطلاح فعرِفت بهِ الجرائد يومية كانت أو غير يومية ثمَّ رأى الكونت رُشَيد الدحداح اللبناني صاحب جريدة برجيس باريس الباريسية سدَّ هذه الثلمة فاختار لفظة صحيفة وجرى مجراه أكثر أرباب الصحف في ذاك العهد وبعده. فما كان من أحمد فارس الشدياق اللبناني صاحب الجوائب في القسطنطينية ومناظر الكونت رشَيد الدحداح في بعض المسائل اللغوية إلاَّ أنهُ عقد العزيمة على استعمال لفظة جريدة وهي الصحف المكتوبة كما ورد في معجمات اللغة. ومن ذاك الوقت شاع اسم الجريدة لدى جميع الصحافيين بمعناها العصري ومنهم من استعمل غير ذلك من المسميَّات كالقس صابونجي السرياني صاحب النحلة الذي اتخذ لفظة نشرة بمعنى جريدة أو

مجلة. وهكذا صنع المرسلون الأميركيون أصحاب النشرة الشهرية والنشرة الأسبوعية99 في بيروت وغيرهم. ومن تلك المسميَّات أيضاً الورقة الخبرية أو الرسالة الخبرية وقد استعملتها جريدة المبشر مع أكثر الصحف الدورية في بلاد الجزائر المغربية التابعة لحكومة فرنسا ومنها أوراق الحوادث وهو الاسم الذي أطلقهُ للدلالة على صحف الأخبار نجيب صوايا منشئ مجلة كوكب العلم في القسطنطينية. وكان الصحفيون لا يفرّقون أولاً بين الجريدة وبين المجلة في الاستعمال. ومن المعلوم أن الإفرنج أطلقوا اسم المجلة على الصحف الدورية التي تصدر على شكل الكراسة. فلما تولى الشيخ إبراهيم اليازجي إدارة مجلة الطبيب البيروتية سنة 1884 بالاشتراك مع الدكتورين بشارة زلزل وخليل بك سعادة أشار باستعمال لفظة مجلة وهي صحيفة علمية أو دينية أو أدبية أو انتقادية أو تاريخية أو ما شاكل تصدر تباعاً في أوقات معينة. فأثبتها بمعناها العصري وتابعته في هذا الاصطلاح جميع المجلات التي صدرت بعدها والتي كانت قبلها. ثم شاعت في جميع الأقطار العربية شيوعاً أجهز على المعنى الأصلي حتى صار مهجوراً بالمرَّة. فلا يتبادر الآن إلى ذهن المطالع لدى عثوره على لفظة مجلة إلاَّ الصحيفة الدورية دون سواها ولا يطلق أحد من كتاب العصر هذه التسمية على صحيفة فيها الحكمة إلاَّ إذا كانت تصدر تباعاً في آونةٍ معينة. ومع ذلك إذا طالعت المعاجم العصرية لا ترى فيها للفظة المذكورة معناها الحالي الشائع بل القديم

المهجور. هكذا توفق العرب المولدون إلى وضع أسماء لمسميَّات الصحافة الحديثة. وهو مطلب غير بعيد على أهل هذه اللغة طلبوه بأسبابه ودخلوه من أبوابه. وتختلف مواضيع الصحف باختلاف غايات أصحابها ونزعاتها ومشاربهم فتارة تكون دينية وطوراً سياسية وحيناً أدبية. وقس عليها العلمية والفنية والانتقادية والروائية والهزلية والتهذيبية والإخبارية والعمرانية والقضائية والأخلاقية والتاريخية وغيرها. ولكل من هذه التقاسيم الكبرى فروع بل فروع يطول بنا شرحها لكثرتها فنضرب عنها صفحاً. وقد أصاب الدكتور شبلي شميل فيما كتبهُ بهذا المعنى قال: الصحف أنواع بقدر المواضيع التي تتناولها معارف البشر. وربما قصروها على فرع من علم بل على مبحث من فرع استيفاءً للبحث. وساعدهم على ذلك كثرة خاصتهم وحب عامتهم لرفع شأن العلم. . . بحيث لم تنقصهم في سبيلها النفقات التي هي لحياة الصحف كالغذاء لحياة الأبدان. فتكاثر عددها عندهم جدّاً حتى صارت فوائد العلم بها قريبة المنال عامة العرفان في كل مكانز إذ ليس للعلم وطن يؤثره على وطن ولما كانت الصحف تصدر في آجال معلومة فقد سماها الإفرنج الصحف الدورية أو الصحف الموقوتة أعني لأنها تنشر شهرية أو أسبوعية أو يومية. بل منها أيضاً ما يصدر مرَّتين في الشهر أو الأسبوع أو اليوم أو غير ذلك من المواعيد. فيليب دي طرازي

الحرب والسلم

الحرب والسلم افتتاح قصر السلام في مدينة لاهاي لا يُنكر أحدٌ أنَّ الحربَ مجلبةُ الدَّمار والبوار , ومدعاةٌ لخراب العباد والبلاد , لما يتقدَّمها ويصحبها ويليها من بذل الأموال وسفك الدماء وتخريب الأمصار. فهي من بقايا الهمجية ومن آثار التوحش. لذلك هبَّ قومٌ من دُعاة الإنسانية يناهضون فكرة التسليح ويعملون على إِبطال القتال بتعميم مبدأِ التحكيم العام والاِستناد إليهِ بدلاً من التعويل على السيف والدفع. فسخر منهم الآخرون , وعدُّوا أمنيتهم من قبيل الأحلام , وإِن كانوا وأِباهم متفقين على ويلات الحرب وفظائعهم. ذلك لأنهم يرون الحرب دائمة ما دام الإِنسان ذا طمع , وقد يُدرج الإِنسان في كفنهِ , ولا يموت الطمع في صدره. والتاريخ شاهد لا ترد شهادتهُ في هذا الموضوع. فإن الحرب في نظرهم شرٌّ ولكنهُ شرٌّ متحتم الوقوع. على أن أنصار السلم لم يعبأ وأبهزءِ الهازئين , ولا بتصنيع الحوادث أحياناً لآمالهم بل ظلوا يكتبون ويخطبون ويسعون لنشر مباديهم , حتى أخذت فكرة التحكيم العام في المشاكل الدولية ترسخ شيئاً فشيئاً في الأذهان. ورأينا أكثر من مشكلة في هذه السنين تُحَلُّ عقدتها بالطرُق السلمية , بعد أن كانت مثيلاتها في الماضي لا تُحل إلاَّ بظبي الحراب وبإشعال البارود. فكرة السلم العام خطرت لكثيرين من الفلاسفة والاِجتماعيين منذ

زمنٍ بعيد , ولكنها لم تبرز بشكل حسيّ إلاَّ منذ نحو ربع قرن. وذلك أنَّ فريقاً من كتَّاب الإنكليز , وفي مقدمتهم مستر ستدِ صاحب مجلة المجلات المشهورة , رأُوا وجوب تعميم هذه الفكرة. وأوحي إلى البعض أن اسكندر الثالث قيصر الروس يميلُ ميلاً أكيداً إلى إِيقاف التسليح في العالم. فما كاد هذا الاعتقاد يتجسم في رأس مستر ستدِ , حتى نهض يعمل بجدٍّ واجتهاد لتحقيق تلك الأمنية. فكتب عريضة وقَّعها من كل ذي مقام في بلاد الانكليز , وقدّمها إلى حكومتها ملتمساً منها فيها مخاطبة الدول في سبيل إِيقاف التسليح وتحديده. فأرسلت وزارة الخارجية الانكليزية تلك العريضة إلى القيصر. وبينما القيصر يتحفَّزُ للعمل , نشبت الحرب بين الصين واليابان فكان من العبث محاولة إِقناع الدول بإيقاف التسليح , ودويُّ المدافع يقصف في بعض إِنحاء العالم , فاضطر القيصر إلى تأجيل العمل وحالت وفاته دون متابعة الأمر. غير أن القيصر الحالي الذي خلفه لم يكن أقلَّ منهُ رغبةً في ذلك فدعا الأمم إلى السلام , ولبَّث الشعوبُ نداءَهُ. وكانت نتيجة ذلك عقد المؤتمر الأول في لاهاي عاصمة هولندة سنة 1899. ثم أراد أحد ملوك المال , مستر أندرو كارنجي , أن يشترك مع ملوك السياسة في هذا العمل المجيد , وأن يضع لمشروع السلام أثراً خالداً , فوضع سنة 1903 تحت تصرُّف حكومة هولندة مبلغ مليون ونصف مليون من الريالات لإقامة البناء اللازم لمحكمة لاهاي وإِنشاء مكتبة عمومية لمحكمة التحكيم المستديمة. فسرَّ ذلك حكومة هولندة وزاد

افتخارها باختيار عاصمتها مركزاً مستديماً للسلام , وكعبةً تحجُّ إليها الآمال , فأرادت أن تشترك في المشروع اشتراكاً فعليّاً , وتُظهر للمستر كارنجي على هبتهِ العظيمة , فقرّرت إِنفاق مبلغ 56 ألف جنيه من خزانة الحكومة لابتياع خمسين ألف متر مربع من حديقة كانت قسماً من المتنزه الملكي. فتم البيع في آخر يوليو سنة 1905. وقد تمَّ البناءُ الآن , وجرى الاحتفال الرسمي بافتتاح قصر السلام في الثامن والعشرين من شهر أغسطس الماضي بحضور مندوبي الدول. وقد جاءَ هذا البناءُ فخماً , لطيف الشكل , خلواً من كل ما يدلُّ على العظمة الوحشية أو الحربية التي امتازت بها الأبنية الكبيرة حتى الآن. وقد زيّنت واجهة الدور الثاني من القصر بعدَّة تماثيل ترمز إلى العلوم والمعارف العصرية والمزايا الإِنسانية الراقية. وفي صدر البرج الكبير تمثال للتجارة , وآخر للصنائع , وبين نافذتي الواجهة قامت تماثيل شتى من اليسار إلى اليمين تمثّل البلاغة وحسن الطوية وقوَّة الإِرادة والسلطة أو القدرة والدرس والبحث والحكمة والإِنسانية والثبات ونُصيب إلى جانبي نافذة القاعة الكبرى تمثالان يمثّلان العدل والقانون كأنهما حارسان يحرسانها. ونُصِب فوق كل ذلك تمثال ملكة السلام بشكلها المعروف وقد جعلت يديها على قبضة سيف مسلول , لفَّت حوله خريطةً مكتوبة إِشارة إلى الشرائع السائدة. وتحت هذا التمثال فوق الرتاج أسدان فاغران فاهيهما. يفصل بينهما برج

يحرسانها رمزاً إلى أنهُ لم تبقَ ثمت حاجة إلى القوَّة الوحشية لحراسة الحصون وإِنفاذ قرارات السلام. وهناك عدا هذا التماثيل الرمزية أربعة تماثيل أخرى تمثل أربعة رجال عظام: أحدهما تمثال هوجو جروتيوس أول مجاهد في سبيل الشرائع الدولية أهدته جمعيات السلام؛ والثاني تمثال الملك أدور السابع أهدتهُ جمعية السلام العام؛ والثالث تمثال السر رندل كريمر الذي كان يعمل مع كارل ماركس ومازيني في سبيل التحكيم الدولي , أهدته لجنة التحكيم الدولي؛ والرابع تمثال المستروليم ستدِ صاحب مجلة المجلات الانكليزية , أهدته نقابة الصحافيين في هولندة. فيكون أبطال السلام الذينُ نُصبت تماثيلهم في القصر أربعة: قاضٍ وملكُ دستوريٌّ وزعيمُ عمَّالٍ وصحافيّ. أما داخل القصر فغاية في الإتقان والأبدع , وقد نُقِشت الرسوم العديدة على زجاج نوافذهِ , منها في المدخل الخارجي ما يدلُّ على فظائع الحروب ونكباتها من سيوف مخضبة بالدماء لا تعف حتى عن العجائز , وأمهات مضطربات جزعاً على أولادهنَّ , وقصور مهدَّمة , وكنوز مبعثرة , وجثث معفرة يظلها الموت. أما قاعة عقد المؤتمرات الكبرى فطولها نحو 74قدماً وعرضها 41. وهي تسع نحو 300 رجل , أمام كلّ واحد منهم طاولة للكتابة. وفي صدر القاعة نافذة كبيرة ملوَّنة الزجاج , وضع في جانب منها تمثال يمثل العدل , وإلى يسار هذه النافذة مواضع للجلوس درجات بعضها فوق بعض. أما مكتبة القصر فكبيرة متسعة تشغل جانباً كبيراً منه , وفيها أثمن

الكتب وأكثرها فائدة وألذها تلاوة. وقد علقت في إِحدى قاعات القصر صورة مكبرة بالزيت تمثل المستر أندروكارنجي الذي تبرع بنفقة هذا البناء الفخم. والهدايا التي في القصر كثيرة لا تحصى أهدتها إليه حكومات العالم ومن جملتها سجادة ثمينة جاءته من الحكومة العثمانية وهي تملأ ارض قاعة الاجتماع الكبرى. في سنة 1915 سينعقد مؤتمر السلم العام في هذا القصر الذي مرّ وصفهُ. وسيكون لدى المجتمعين أمورٌ خطيرة ومشاكل معضلة يتناولها البحث , وأهمها زيادة التسليح في العالم إلى حدٍّ كادت ترزخ تحتهُ أغنى الحكومات. وقد يصدرُ في ذلك القصر قرارٌ يقضي بإبطال الحروب وتحريمها , ويُناط أمرُ إِنفاذه بحكومات العالم بأسرهِ , فيتم ذلك الحلم الجميل وينصرف الإِنسان عن قتال أخيهِ الإِنسان إلى ما يُرقيّ شؤونهُ أدبيّاً وماديّاً. وقد تكون أوربة في حربٍ عمومية طاحنة إبَّان عقد المؤتمر , وقصف المدافع يُصمَّ الآذان , فلا يسمع أحدٌ صوتَ خطباءِ السلام وأنصار التحكيم , فيظل السلم العام حلماً من الأحلام , ويبقى العدل نوراً ضئيلاً تحجبهُ غياهب المطامع والغايات , ولا ينفك الحقُّ متضعضع الأركان تقوّضهُ القوَّة وتسحقهُ.

أفكار وآراء

أفكار وآراء لا يطيق التردّد إلاّ النفوس الصغيرة , كما أن لشفق لا يسرُّ إلاَّ الخفّاش. هيجو الساقط من أعلى الشجرة لا يستنكف من أن يتمسك بأصغر الأغصان. هيجو لاشيء يحقّر الصغير في عيني نفسه كوجوده بجانب العظيم أرفنك ما أعظم السرور الذي ينشره محبُّ الخير في دائرته , وما أصدق ما قيل: إِن القلب الحنون نبع سرورٍ منعش يجلو الغمَّ عن النفوس أرفنك لا سلام بلا فضيلة. السلام كقوس قزّح ركنه في الأرض , وقوسه يتوارى في الزرقاءِ؛ تغسلهُ السماءُ بألوان النور , ولا يظهر إلاَّ بين الغيوم والدموع؛ هو انعكاش الشمس الأبدية , يُعرب عن وجود الأمن والطمأنينة , هو علامة ميثاقٍ بين الله والناس. لتون نهر الحزن العميق يجري بهدوء وسكينة. لتون لصيت الإنسان وما يقال عنه تأثير في مستقبله لا يقلُّ عن تأثير أعماله. هيجو من لا يبتغي إرضاء الناس , ولا يخشى سحطهم يتمتع بسلام تم كمبس

من كل حديقة زهرة

من ارتكب الرذيلة توصلا إلى الفضيلة , أنزل الفضيلة في سوق التجارة حبّ الذات أصل لكل فضيلة وكل رذيلة. فأسمى الفضائل أساسها حبُّ الذات , وأفظع الرذائل ناتجة عن الأنانية , ولذا قيل أحبب قريبك كنفسك. ما دام الداء مستتراً لا ينجع فيه دواء. أمهر الأطباء من كشف الداء قبل معالجته. أفظع العلل الرياء لأنه يستر كل داء. السعادة ككل فضيلة تتولد من ضدَّين: القناعة والاجتهاد. أفضل سبيل للإنسان أن يتخذ الوسط بين كل طرفين متضادين: كن كريماً لا مسرفاً ولا بخيلاً؛ لا جباناً ولا متهوراً؛ نزوعاً إلى العلياء , لا حسوداً طامعاً ولا مهملاً متقاعداً. فؤاد شطاره من كل حديقة زهرة قالوا أميركا بلاد العجائب وقد أصابوا. فمن أمثلة ذلك ما تناقلته الصحف عن المستر بريان وزير الخارجية الأميركية الحالي. رأى هذا الوزير أن مرتبة البالغ خمسة وستين ألفاً وخمسمئة فرنك لا يكفيه فعزك على إلقاء محاضرات مأجورة واتفق لهذه الغاية مع مدير جوق متنقل يتولى التمثيل في المدن المجاورة لواشنطن عاصمة الولايات المتحدة. ففي أثناء الفترات بين الألعاب البهلوانية والغناء يقف الوزير فيلقي محاضرته. وللوزير 50 بالمئة من الدخل. فإن قل الدخل , فله المئتان والخمسون دولاراً الأولى من دخل كل ليلة.

ويضطر الوزير أن ينام ويأكل في القطار ليتسنى له أن يقوم بوظيفته مهام الوزارة في النهار وإلقاء المحاضرات في الليل. أصدر الأستاذ ويلكوكس في جامعة كورنل الولايات المتحدة إحصاء أثبت فيه أن الوفيات بين العازبين هي أكثر منها بين المتزوجين. فإن المتوفين بين سن 40 و 50 كانوا 9 وونصف في المئة من المتزوجين و 19 ونصف من العازبين. أما النساء فإنهم لا يكسبن كثيراً بالزواج ولكنه مقرر أن النساء المتزوجات هي أطول عمراً من النساء اللواتي لا أزوج لهن. قرأت إحدى الانكليزيات في الجمعية العلمية الانكليزية مقالا عن عادة قتل الملوك في مصر القديمة. فقالت أن هناك أدلة كثيرة تثبت قتل القدماء لملوكهم تضحية كاليونان وأهل كريت وبابل وسورية والحبشة. وذه البلاد أما مجاورة لمصر وإما لها علاقة شديدة بها. والفكرة الأساسية في قتل الملوك هي اعتقاد القوم بأن إله الخصب والزكاء مجسد في الملك وأن خير البلاد ورفاهها متوفقان على وجوده متمتعاً بالصحة. فإذا كبر أو جاوز حدّاً معلوماً من السنين قتل ليتسنى للإله المقيم فيه أن ينتقل منهُ إلى من هو أصغر منهُ سناً وأقوى بدناً فلا يدركه انحطاط أو هرم. بعد فتح ترعة السويس خطر للفرنسيين نقض برزخ بناما وفتح ترعةٍ تصلُ بين الأوقيانوس الهادي والاطلانطيكي , ثم اشترى الأميركيون هذا الامتياز , وقدروا النفقات اللازمة لإنقاذ المشروع بمبلغ 720 مليون فرنك. على أن ما أنفقوه حتى الآن يزيد على 1500 مليون , ولا يزال هناك قسم من العمل غير ناجزٍ , وسيجزي الاحتفال بترعة بناما في السنة القادمة وقد دعت حكومة الولايات المتحدة حكومات أوربة للاشتراك فيهِ.

أزهار وأشواك

أزهار وأشواك أخبار الأدباء عاد القرَّاء وعدنا , بعدما قضوا - ولم نقضِ - أياماً في أعالي الجبال , أو على شواطئ البحر , فنهنئهم بسلامة العودة. أما بعد , فأول ما أنا محدّثهم به بعد هذه الغيبة هو بعض أخبارٍ عن أدبائنا وأعمالهم وتنقلاتهم , ومعظمهم من أصدقاء الزهور وأصدقاء قرَّائها: كثيرون هم الأدباء الذين نقلتهم الحكومة في هاتين السنتين من مقاعد التحرير إلى كراسي الدواوين , وقد ذكرتهم في حينهم. وآخر من وضعت يدها عليه في هذا الصيف ولي الدين يكن , فقد ألحقته بنظارة القانية , فأصبح صاحب الصحائف السود ولمعلوم والمجهول بقرب صاحب النظرات. وقد حدثت في هذا الصيف أيضاً حركة مباركة في إدارات صحفنا اليومية , فرأينا الأهرام والمقطم على ما هما عليه الآن من كبر الحجم وغزارة المادة وتوفر الأخبار البرقية والمحلية. وقد انضمَّ على تحرير الأهرام سليم سركيس وهو الكاتب المعروف , وسليم عقّاد وهو آخر صحافي هجر سوريا إلى وادي النيل. وعهدت رياسة تحرير المحروسة إلى فرح أنطون , ورياسة تحرير الوطن إلى الشيخ يوسف الخازن بعد سفر اسكندر شاهين إلى البرازيل , وترسل تحرير مصر توفيق حبيب. هذا أهم ما جرى في الدوائر الصحافية. أما في سائر الأدب

فإن حافظ إبراهيم وخليل مطران قد هجرا سماء الخيال , وقضيا صيفهما إلى جانبي في مطبعة المعارف يشتغلان في ترجمة كتابٍ في علم الاقتصاد , وقد أنجزا أربعة أجزاء منه , وهما يُعدَّان الآن الجزء الخامس. وقلّما قابلت الواحد منهما إلاَّ ورأيت حوله هالة من الكتَّاب , هذا يساعد على وضع لفظة عربية لترجمة بعض المصطلحات , وذاك يُعيد النظر في البروفة قبل طبعها. . . أما شوقي فقد اتصل بي أنه سيتحف عالم الأدب عن قريب بالجزء الثاني من الشوقيات. هذه جريدة أخبارنا الادبية دوّنها بكل اختصار. توارد خواطر كان المارشال دي لكسمبرغ من أبسل قوّاد فرنسة وأشجعهم على عهد لويس الرابع عشر , وقد أحرز من الانتصارات في الحروب ما رفع قدره في بلاده , وألقى الرعب في قلوب أعدائه. وكان المارشال أحدب الظهر , على أنه لم يكن يرى في ذلك عيباً , بل كأنه كان يتمثل بقول الشاعر العربي: لا تظننَّ حدبةَ الظهرِ عبباً ... فهي في الحسن من صفات الهلالِ وكذاك القسيُّ محدَوْدباتٌ ... وهي أنكي من الظبا والعوالي كوَّنُ اللهُ حدبةً فيَّ إن شئتَ ... م من الفضلِ أو من الأفضالِ فأتت ربوةً على طودِ حربٍ ... واتتْ موجةً ببحر نوالِ ما رآها النساءُ إلاّ تمنَّت ... أن غدت حليةً لكلّ الرجالِ واتصل يوماً بالمارشال أن أحد أعدائها قال: ألا يمكنني أبداً أن

اغلب هذا الأحدب؟ فأجاب المارشال: ومن أين عرف الأعداء أنني أحدب , وما ولّيتهم ظهري قطّ. . .! فاشتهر جوابهُ , ودوّنه لنا التاريخ وعُدَّ آيةً في الفخر والدلالة على الشجاعة. ذكرني بالمارشال وجوابه ما روته لنا الجرائد عن الأسود جونسن الأميريكي بطل البوكس المشهور وزعيم الملاكمين الذي لم يقو على صرعه أحدق حتى الآن. ذلك أنهُ كان يتنزَّه في سيارته فصدمته سيارة أخرى , فأصيب بجرح في ظهره؛ وبينما كان الطبيب يضمد له الجرح قال جونسن: نازلت أشدَّ المصارعين وأُصبت بلكماتٍ شديدة , ولكن هذه هي المرة الوحيدة التي أصبتُ فيها بظهري! توارد خواطر لطيف بين القائد دي لكسمبورج الفرنسي , والمصارع الأميريكي. تاريخ جديد اعتاد الناس أن يؤرّخوا مراسلاتهم بتاريخ الشهر الإفرنجي أو الهجري أو القبطي , ولا أعرف في بلادنا تاريخاً متداولاً بين العامة والخاصة غير هذه التواريخ الثلاثة. لي صديق أديب - والحمد لله كل أصدقائي من الأدباء - موظف في إِحدى النظارات , يراسلني وأراسله مرّة في الأسبوع على الأقل , لأنه يتعذر علينا الاجتماع دائماً لكثرة المشاغل , فنعتاض بالمكاتبة - والمكاتبة نصف المشاهدة؛ هذا فضلاً ما أجده في رسائله من الأدب

الجمّ والمُلح المستظرفة. وما كان ليخطر لي ببال أن أذكره لقرَّائي لولا الكتاب الأخير الذي جاءني منه , وقد أعجبتني طريقة تأريخه. صدَّر كتابه في الخامس والعشرين من الشهر , فلم يكتب التاريخ: في 25 من شهر كذا؛ ولم يقل كما كان يقول العرب: لخمسٍ بقين من شهر كذا؛ بل كتب: لخمسٍ بقين لقبض ماهينة الشهر. . . وفي هذه العبارة الموجزة بياناً على حالة نفس الكاتب وحالة جيبه أوفى وأدلّ من الشكوى بقصيدة تعادل أبياتها تائيّة الفارض عدّاً. . . للتفكهة في قسم الحساب , الأستاذ يسأل التلاميذ: لنفرض أنَّ لدى ثمانية منكم 48 تفاحة , و39 خوخة , و56 برتقالة و 15 بطيخة و 14 شمَّامة , فماذا يصيب كلاَّ منكم؟ أحد التلاميذ: وجع بطن. . . . يجب أن نتزوج لم أجد حتى الآن ما يوافقني ولكن يمكنك أن تجد فتاةً عاقلة حكيمة محبة ظريفة كامرأتي إِذن سأنتظر أن تترمل امرأتك. . . حاصد

ثمرات المطابع

ثمرات المطابع تاريخ مصر - عرف القرّاء مما نشرناه للسيدة هند اسكندر عمون في مجلة الزهور من الأبحاث الشائقة أن هذه الكاتبة الفاضلة لا تُعالج من المواضيع إلاَّ التي تقتضي بحثاً وتدقيقاً , ولكل كاتب أسلوب وولع في مواضيع خصوصية. ولقد رأت شدة احتياج المدارس إلى كتاب يتضمن تاريخ مصر القديم والحديث , بطريقة جامعةٍ سهلة المنال يقف الطالب فيها على الحوادث مع معرفة عللها ومعلوماتها دون أن يضيع في التفاصيل , فأقدمت على هذا العمل الشاق بهمةٍ ونشاط , وجمعت المعلومات اللازمة من أوثق المصادر وأثبت الموارد , ووُقفت إلى وضع كتاب استوفت فيه شروط الكتابة شكلاً وموضوعاً , فجمعت في صفحاته الثلثمئة جميع أطوار التاريخ المصري منذ أقدم العصور حتى يومنا هذا , وضمنته نظرات صادقة في أحوال البلاد ومدنيتها على عهد كل دولة من الدول التي تعاقبت في حكمها؛ كل ذلك بأسلوب فصيح رشيق خلو من الحشو والفضول. ولقد أطلعت اللجنة المناط بها فحص الكتب في نظارة المعارف العمومية على هذا السفر النفيس , فراقها العمل وقدرت الكتاب حق قدره , فقررت تدريسه في المدارس الأميرية كما قرَّرته إدارة المدارس الأميريكية ومعظم مجالس المديريات , فكان إجماع هذه الدوائر العلمية على اقتناء هذا الكتاب خير شهادة على مقدرة المؤلفة وعلى فائدة تأليفها وأهميته.

وقد تولّت نشر هذا الكتاب مطبعة المعارف الشهيرة , فأخرجته بحلة جميلة شائقة , وهو مزين برسوم وصورٍ عديدة , مضبوطة أعلامه وكلماته الصعبة بالشكل التام. تاريخ الصحافة العربية - أشرنا إلى الجزء الأول من هذا المؤلف النفيس الذي عني بوضعه حضرة الفيكونت فيليب ده طرَّازي. وفي يدنا الآن الجزء الثاني منه وهو يقع في 336 صحيفة تناول البحث فيها الحقبة الثانية من تاريخ الصحافة العربية منذ افتتاح قناة السويس إلى التذكار المئوي الرابع لاكتشاف العالم الجديد 1869 - 1892. ويكفي تقليب صفحات هذا الكتاب للدلالة على ما بذله مؤلفه الفاضل من السعي والاجتهاد لجمع هذه المعلومات المتفرقة عن موضوع متشعب الأطراف قليل المستندات. فقد استوعب فيه تاريخ الصحف والصحافيين في بلاد الدولة والبلاد الأوربية , مع ذكر منشأ كل صحيفة وبحثٍ في أسلوبها وخطتها وتاريخ منشئيها ومحرريها , وصور مشاهير الكتّاب وترجمة حياتهم مما يدلُّ على استقراء وتنقيب وحسن ذوقٍ في التدبيج والترتيب , فجاء هذا الكتاب حاوياً تاريخ الأدب والنهضة العربية في تلك الحقبة , ناشراً ذكر رجال أفاضل وكتّاب مجيدين لم تكن الأيام حافظةً عنهم للخلف شيئاً يذكر , بل كانت آثارهم تكاد تُدرس لو لم يهتم حضرة الفيكونت بهذا العمل الجليل , ولقد أحسن الياس أفندي حنيكاتي الأديب البيروتي المعروف في اقتراحه على الصحافيين والأدباء تقديم هدية لناشر

تاريخ الصحافة إقراراً بجميل خدمته الوطنية. وقد نشرنا في غير هذا المكان من الجزء الحالي نبذةً من هذا الكتاب للدلالة على أسلوبه. العراقيات - في العراق طائفة من الكتّاب والشعراء قلّ ما كان يعرفه عنهم أهل بلادنا , ولقد عنيت الزهور بهذا الموضوع كثيراً فأثبتت تراجم البعض منهم , ونشرت للبعض الآخر شيئاً غير يسير من المنظوم والمنثور. ولقد جاءنا أخيراً كتاب العراقيات لجامعيه الأدباء رضا وظاهر وزين أثبتوا فيهِ مختارات من شعر عشرة من مشاهير شعراء العراق وهم: السيد الحبّوبي والسيد الطباطبائي والسيد حيدر الحلي والشيخ جواد شبيب والشيخ كاظم الأزري والشيخ عباس النجفي والسيد جعفر الحلي والشيخ عبد الباقي الفاروقي والشيخ عبد المحسن الكاظمي والأخرس البغدادي. فاستحق ناشرو هذا الكتاب كل ثناء من محبي الآداب العربية. حقائق وعبر - مجموعة مقالات أدبية ومباحث اجتماعية للأديب اسكندر أفندي الخوري البيتجالي , نشر بعضها في مجلة الزهور فليس كاتبها إِذن بالمجهول لدى قرَّائنا؛ يكتب بما يشعر وكما يشعر , فيُسمع من خلال كلماته أنَّاتٌ , ويلمح بين سطوره دمعات , فهو يتألم مما تتألم منه شبيبة العصر. وكتابه جديرٌ بالمطالعة.

آداب اللياقة - هو كتيب يتضمن قواعد في الأدب الاجتماعية وأصولاً في قوانين المعاشرة استخلصها المؤلف مما أقرَّته العادة , وأجمعت عليه الأذواق , وتوافرت على الأخذ به الطبقات المهذبة في الأمم الراقية. فموضوعه نافع مفيد , بل هو لازم لمعرفة آداب السلوك في المعيشة واللبس والأكل والشرب والحديث والتزوار والمجتمعات الخ. والمؤلف من كتَّابنا المجيدين , وهو محمد أفندي مسعود , الصحافي وصاحب جريدة النظام بالأمس والمحرَّر الفني الآن في نظارة الداخلية. وقد خدم النشءَ بكتابه هذا خدمةً كبيرة , ورأت نظارة المعارف أن تقرّر آداب اللياقة للمطالعة في مدارسها بالنظر إلى عظيم فائدته. جزيرة الذهب - عنوان رواية ترجمتها عن الألمانية حضرة الفاضلة السيدة ماري قرينة الصحافي القدير إبراهيم أفندي نجّار المعروفة لدى قرَّاء الجرائد برسائلها الإخبارية وأبحاثها المتنوعة. والرواية شائقة الحوادث جميلة المغزى طلية العبارة ستلاقي من محبي المطالعة إقبالاً واستحساناً. أعذب ذكرى - مجموعة مقالات عربية وفرنسية وانكليزية في مواضيع أدبية وأخلاقية مما ألقاه مدرسة الفريز في بيروت في حفلاتهم المدرسية , وهي تنم عن استعداد منشئيها للكتابة وتدلُّ على عناية المدرسة بتثقيف عقول تلاميذها.

مسز لوتي

مسز لوتي حادثة محزنة جرت في ضواحي الاسكندرية بقلم أديب مصطاف في كبوسيزاره عرف الدكتور لوتي , طبيب الأسنان الأميركيُّ الطائر الصيت في الإسكندرية , الفتاة آسين. يزبك في بيروت منذ ثماني عشرة سنة أو أكثر مدبّرةً لمنزل طبيب أميركيّ يحترفُ طبَّ الأسنان مثلهُ , تعاونهُ آناً في مستوصفهِ , وتعاون زوجتهُ آناً في تدبير منزلها. واتفق أنَّ ذلك الطبيب شاخ واغتنى من صنعتهِ , فترك للدكتور لوتي مستوصفهُ , وانتقل مع عائلتهاِ إلى الولايات المتحدة , وانتقلت الفتاة آسين إلى منزل والدتها , وبعد أيامٍ أدرك لوتي قدر حاجتهِ إليها , بالنظر إلى حداثة عهدهِ في بيروت وجهلهِ بلغة البيروتيين , فطلبها , فأجابت والدتها: أنت أعزب , وهذه بنتٌ , وليس من عادات البنات في الشرقِ أن يعاشرنَ عزَّاباً قال: إني إذاً أخطبهاو وهذه يدي! فمدّت الفتاةُ إليهِ وصافحتهُ , وأصبح لوتي وآسين من تلك الساعة خطيبين , كلٌّ منهما مؤتنسٌ بالآخر وراضٍ عنهُ كلَّ الرضي. ثمَّ رأى لوتي , بعد عقد الخطبة , أنَّ بيروتَ أضيقُ من أن تسع مطامعهُ , أو تُبلغهُ الشهرة التي تصبو إليها نفسهُ , فقرَّر السفر إلى الإسكندرية والإقامة فيها. وكاشف خطيبتهُ ووالدتها بعزمهِ , واقترن قبل سفرهِ من بيروت بالآنسة آسين حتى لا يفصلها عنهُ عائق. ثمَّ ركب وإياها البحر إلى الإسكندرية , وأصبحت آسين من تلك الساعة مسز لوتي.

ولقد حققت الأيامُ للطبيب آمالهُ في الإسكندرية قطارت شهرتهُ , وكثر الإقبال عليهِ من جميع أحياء المدينة , حتى ضاق مستوصفهُ بالوافدين إليهِ. وكانت آسين تعاونهُ في أعمالهِ , كما كانت تعاونُ قبلهُ الطبيب الشيخ في بيروت؛ وكانت المحبةُ تزدادُ بينهما على مرّ السنين حتى أصبحا مضرب المثل في ذلك بين جميع المعارف والأصدقاءِ. وولدت آسين خلال ذلك ولداً وثلاث بنات , فازدادت بولادتهم روابط المحبة بين الزوجين , وأصبح لوتي لا يترك مستوصفهُ إلاّ إلى زوجهِ يباسطها , وإلى أولاده يلاعبهم ويداعبهم. ومضى أربعة عشر عاماً وهذه حالها من الغبطة والهناءِ , لم يتكدَّر صفوهما , ولا تسرَّب إلى قلبيهما همٌّ. وبينما هما بحبوحة الرغد إذا بوالدة لوتي قدمت من الولايات المتحدة لتزور ولدها فلما اجتمعت بهِ وبزوجهِ وأولادهما , نفرت من الزوجة وانعطفت على الأولاد , وانطلق لسانها في تعبير أمهم وتحقيرها في أعينهم , هازئة بها وبجنسيتها قائلة: أنتم أميركيون , يشرّفكم انتسابكم إلى أبيكم , ولا يحطّ من قدركم إلاّ أن يعرف الأميركيون أن أمكم آسين! وقد تمادت في تنفيرهم منها , بل حرَّضتهم على مقاطعتها والترفع عن ملازمتها ومصاحبتها في الزيارات وأمام أعين الناس. كانت آسين نرى وتسمع ذلك كلهُ فتكتم الكمد وتظهر الصبرَ والجلد؛ ولم تكاشف زوجها بشيء مما تعانيه , ولا خاطبت حماتها بكلمة عتبٍ أو ملام , إلى أن اعتراها ذهولٌ شديد ذهب بلبّها وأفقدها صوابها. فحار زوجها في علتها ونقلها بيديهِ إلى المستشفى وأقام ساهراً عليها. وكأنما شعورها بعطفهِ وحنانهِ كشف عنها ذلك الذهول , فلم يمضِ عليها أسبوعان حتى عاد إليه صوابها. وكأنَّ ما أصابها خلق في

نفسها قوَّةً لم تكن فيها من قبل فباحت لزوجها من جهةٍ , وللقنصلية الأميركية من جهةٍ أخرى , بما تفعله حماتها في منزلها مما كان سبب علتها. على أثر ذلك ردّ الدكتور لوتي والدتهُ إلى الولايات المتحدة , وردّ غيابها إليهِ وإلى زوجهِ وأولادهما تلك العيشة الهنيئة التي كانوا فيها من قبل , غير أنها لم تطل أكثر من أربعة أعوام إذ عادت أم لوتي , وقد عقدت عزيمتها على السفر بولدها لوتي , وأبنائهِ الأربعة دون أمهم إلى الولايات المتحدة. وكان الولد قد بلغ السادسة عشرة من عمرهِ , وبلغت البنت الكبرى الثامنة عشرة , والصغرى الرابعة عشرة. فاستأنفت سيرتها الأولى مع الأم والأولاد , وزادت عليها أنها اغتنمت فرصة بلوغ البنات لتشويقهنَّ إلى التزوُّج من بعض الأغنياءِ الأميركيين , وتمكنت من استمالتهنّ إليها. ولم ترَ آسين من زوجها في هذه المرَّة عطفاً في شيء , ولم تكشف له عن سريرتها لاعتقادها أنهُ لا تخفي عليهِ خافية من أمر أمهِ وأعمالها وأقوالها , بل لزمت الصمت , وتولتها الكآبة والحزن , ودبَّ في فؤادها اليأس والجزع , وباتت منغصة العيش تقضي الليالي سهداً وبكاءً , وتصبح حيرى يتنازعها عاملان بين أن تنتصف لنفسها من حماتها وتظهر سلطتها في منزلها وعلى أولادها , وهو العامل الأول , وأن تضحي نفسها فدّى لفلذات كبدها ولوالدهم الذي أحبتهُ وأخلصت له الودّ , وهو العامل الثاني. ومضت عليها أيام في هذه الحيرة حتى أخذ الجزعُ منها كلَّ مأخذ ونحل جسمها ووهنت قواها إلى حدّ أنها عافت الطعام والشراب , وعجزت ركبتاها عن حملها , فارتمت في مخدعها خائرة العزم , وقد غلب عليها العامل الثاني. ولو علمت في تلك الساعة بأنّ زوجها نسي حبها واشتغل قلبهُ عنها بحبّ أخرى من النساءِ لباحت بما تكتمهُ , بل لربما كانت اختارت العامل الأول. إلاّ أنها كانت تحبهُ حبّاً مفرطاً , ولم يكن ليخطر في مخيلتها أنهُ يخونها في عهد أو ميثاق.

وفي غسق الليل الذي عقدت عزيمتها فيهِ على الانتحار , أخرجت من خزانة أثوابها قميصاُ طرّزتهُ بيدها على أن تقدّمهُ في الصباح هديةً إلى زوجها في عيد ميلادهِ وفتحت نافذة غرفتها في كمبوسزاره وهي بقميص النوم , وكان القمر في أتمّ لمعانهِ يتلألأ ضوءُهُ على صفحات البحر العجاج , والأمواج تتلاطم وتتكسرُ على الصخور فيسمع لها هديرٌ يطرق الأذن , وترسل في النفس بعض الرعدة والخوف. غير أن آسين لم ترتعد فرائضها ولم تنثنِ عن عزمها , بل تراجعت وقد وطنت النفس على اتخاذ رحب البحر قبراً , وأمواجهُ كفنا. ثم أغلقت النافذة واستدعت إليها بنتها الكبرى , وسلمت إليها حسابات المنزل وما معها من النقود وقالت لها: - إني مريضة يا ابنتي , وقد بلغتِ أنتِ من العمر حدّاً يلزمكِ فيهِ أن تعلمي تدبير المنزل , فاستلمي الحسابات ثمَّ قبلتها , واستدعت ولدها وابنتيها الأخريين وقبلتهم قبلة الوداع الذي لا لقاءِ بعدهُ. . . وعند الساعة الحادية عشرة من ذلك الليل عادت إلى النافذة , وكان أهل المنزل نياماً؛ فألقت نظرةً ثانيةً على البحر وأمواجهِ؛ ثمَّ أسرعت إلى الباب , ففتحتهُ وانسلّت منهُ إلى الشاطئ حتى انتهت إلى مكانٍ يشرف على غورٍ عميق , فألقت بنفسها إليهِ. وكان زوجها قد سمع , وهو في مخدعهِ , رنة الجرس في باب المنزل عند بضع دقائق , ولم يسمع حركةً تدلُّ على دخول قادم , فنهض وتفقد الغرف , فلم يرَ زوجتهُ في غرفتها ولا في غيرها فانطلق إلى الشاطئ يبحثُ عنها , فلم يرَ لها أثراً.

الثعلب والعوسجة

عند فجر اليوم التالي نهض شقيقهُ هرّي مبكراً , وهو يجهلُ ما حدث , وأطلَّ بمنظارهِ على البحر , فكان أوَّلُ ما وقعت عينهُ عليهِ جثةً منتفخة ضاق عنها قميصها فتمزَّق. فنادي شقيقهُ الطبيب , فأقبل يتبعهُ الأربعة , فما أبصروا الجثة تتقاذفها الأمواج , حتى صاح الرجل من أعماق قلبهِ: هذه زوجتي. .! وصاح الأولاد: هذه أمنا. . .! وخنقتهم العبرات ثمَّ تراكضوا واخرجوا الجثة وقد اقتضى استخراجها من البحر استخدام أربعة من الرجال؛ فستروها ببعض الملابس وحملوها إلى المستشفى ومنهُ نقلت إلى المرقد الأخير. . . هذه حكاية مسز آسين لوتي التي روت الصحف خبر انتحارها في هذا الصيف , وفي قصتها عبرة وعظة. الثعلب والعوسجة قيل أنَّ ثعلباً أراد مرَّةً أن يصعد حائطاً , فتعلّق بعوسجةٍ , فعقرت يده , فأقبل يلومها؛ فقالت له: يا هذا لقد أخطأتَ حتى تعلقت بي , وأنا من عادتي أن أتعلق بكل شيء ابن حمدون

العدد 38

العدد 38 - بتاريخ: 1 - 11 - 1913 نابوليون أول والمقابلة بينه وبين أعظم مشاهير الرجال وهو فصل من كتاب تاريخ الإمبراطورية لموسيقو تيارس الفرنسوي بقلم حضرة الشيخ سليم خطار الدحداح ترجمة المؤلف نبدأُ بترجمة المؤلف وقد أخذناها ملخصةً عن أشهر المعجمات التاريخية وأحدثها عهداً: هو المسيو لويس أدولف تياريس من أشهر الكتَبةِ في جبل الفرنسيس لهذا العهد , ومن أعلامِ ساستها العظام. ولِدَ في مدينة مرسيليا في الخامس عشر من نيسان أبريل سنة 1797 لأبوين فقيرَين. وكان أبوه أحدَ فعلةِ إدارة المرفأ في تلك المدينة. وكانت أمهُ مولودة الشرق في بيتٍ فرنسوي النجار ولها صلة قربى مع عائلة شينيه التي نبغ منها في تلك المدة الشاعران المشهوران. ويظهر أنَّ والدَ المسيو تياريس توفي وهو في حال الصغر , فأخذتهُ عائلةُ أمهِ ورتبهُ عندها , وكانت مع فقرها أحسنَ حالاً من أبي صاحب الترجمة. وكانت لا تخلو عن بعض علاقاتٍ مع أُلي الوجاهةِ والنفوذ في تلك المدينة , فأتيحَ لها نظم لويس في

عداد طلبة المدرسة الرسمية المسماة ليسه مارساييل بلا مُقابل ولا عوَض. فمكثَ فيها مدةً طويلةً , حتى أتمَّ دروسه الثانويَّة , وحاز قَصَب السبقِ في أكثر المراتب والحلقات المدرسية - وكثيراً ما يَقعُ مثلُ ذلك للتلاميذ الفقراء في بيوت العلم , لما يُكثرون من الجّد والاجتهاد مُكتبين على التحصيل رجاء المصيرِ إلى غاية تترقىَّ بها حالتهمُ الوضعية وفي حالِ خروجهِ من المدرسةِ المذكورة دخل كلية مدينة اكس حيثُ تلقّى فنَّ القوانين والحقوق. وحصل في سنة 1819 على شهادة المحاماة. وفي هذه المدرسة الكليّة تعرَّف بالمسيو مينيه واستمرَّا صديقين عزيزين إلى آخر حياتهما. وقد ظهر تيارس , وهو تلميذٌ , كما عُرِفَ في سائرِ حياتهِ مجتهداً محبّاً للعلوم والمعارف , ميَّالاً إلى عدم الاقتصار على إتّباع خطةٍ واحدةٍ , شأنَ من طُبعِ على مساماةِ الأمور الجسام , وتوقد الذهن والحماسة. وفي سنة 1821 قَدِم تيارس مدينة باريس , وكانت حينئذٍ فرنسا في قبضةِ المملكة , ومصيرها إلى الهون , بعد انكسارات نابوليون الأول وتقهقُرِ الدولةِ بعد عظمتها , ولشمول شدَّة القلقِ قلوبَ الشعبِ , وتوزُّع خواطرِ الفرنسيس بين حبّ الملكيين وبغضهم , والميل إلى الجمهورية أو الأسف على الإمبراطورية. فجاءَ تيارس ملتجئاًُ إلى مانويل وهو إذ ذاك أحدُ نوَّاب مجلس الأمة المعاكسين للبوربون , فمضى بهِ إلى المثري لافيت وعرَّفهُ بهِ وقدَّمهُ لهُ , وكانا كلاهما من أصدقاءِ الدوق دورليان رتيس الفرع الآخر الملكي وهو الذي ملك فيما بعد باسم لويس فيليب من سنة 1830 إلى سنة 1848 وهكذا توصل تيارس دفعةً واحدة إلى أعلى المراجع , وتعرَّف بأشهرِ رجالِ الأمة وأخذ يجتهد ويسعى حتى أحرز ذكراً متشاهراً. وقد أُشرب في قلبهِ لأول وهلةٍ بغض الأسرة المالكة , وجعل همَّهُ السعيَ لقلبها وإركاسها؛ وأخذ يُساعد في إنشاءِ جريدةٍ شهيرة مدعوة كونستيتوسيونل أي الدستوريّ واتّفق أن دخل صديقهُ مينيه في

تحرير جريدة كوريه فرانسه وشرع تيارس منذ سنة 1823 في وضع تاريخ الثورة الفرنسوية فأكملهُ سنة 1827. فجاءِ تأليفاً كبيراً ذا عشرةِ أجزاءِ بحثَ فيها عن أسباب الثورة وحوادثها ونتائجها , وأعمال دولة فرنسا في خلال السنوات العشر المنقبضة بين سنة 1789 وسنة 1799 , منذ أُخذَت قلعةُ الباستيل إلى أن أستأثر بونابرت بالسلطة. ولكن يؤخذ على المؤلف في هذا التأليف فرطُ تشيُّعهِ لدعوة أهل الثورة , وشدَّة استسلامه للتقادير , واضطرار الرجال والناس إلى التسليم بهذا المعتقَد القدَريّ غير أن هذا التاريخ , على علاّتهِ , قد جعل لصاحبهِ منزلةً رفيعة بين أدباء فرنسا وأوربا بأسرها حتى صار يُحتسب من رجال الدنيا المعدودين. وفي غرَّة عام 1830 أنشأ هو ومينيه وأرمان كارول جريدةً سياسيةً , دعوها الناسيونال وكان لها شأنٌ كبير في هبوط شارل العاشر من عُلاه آخر تموز يوليو من تلك السنة. ثم أنَّ تياريس وبعض أصحابهِ هم الذين زيّنوا لويس فيليب للشعب؛ وكان تزيينهم إياه أقوى سببٍِ في صيرورته ملكاً على فرنسا. فأخذ هذا يقرّب إليه تيارس مكأفأة لهُ على خدمة. وكان من ثمرات تقرُّبهِ أنهُ عاضد وزارة لافيت ثم لمّا انقلبت هذه الوزارة , عمد تيارس إلى تعزيز وزارة كزيمير برّبي الشهير. ومن بعد موت هذا السياسي , انتظم تيارس في سلك الوزراء إذ سُمّيَ ناظراً للداخلية , وذلك في 11 تشرين الأول أكتوبر سنة 1832 وأشهر ما كان لهُ في عهد وزارتهِ توصّلهُ إلى إلقاءِ القبض على الدوقة دي برّي , والدة الكونت دي شامبور , التي كانت ساعيةً لإيقاظ راقدِ الفتنة , وإيقاد نار الثورة , مُطالبةً بحقوق ملكِ ابنها الأرثية على فرنسا ولكن يُخذ على وزيرنا الوسائط الغير الشريفة التي استعملها مع آلتهِ دوتز الإسرائيلي طلباً لهذه الدوقة الأسيرة. ومنذ 11 تشرين الأول أكتوبر سنة 1832 إلى 29 من تشرين الأول

سنة 1840 أي في مدة ثماني سنين كاملة تولى تيارس منصة الوزارة عدة مرارٍ , فكان تارةً في وزارة الخارجية وأخرى في الداخلية , وأحياناً في وزارة المعارف , وكثيراً ما تولى كلاًّ منها على حدةٍ , أو إحداها منضمةً إلى رئاسة الوزراءِ وأظهر في جميعها قوَّة جنان , ورباطة جأش نادرتين غريبتين. واشتهر بمحافظتهِ على كل ما يؤُولُ على مجد فرنسا , وبنزعته إلى إضعاف سلطه الملك الذاتية. وهو الذي حدَّد القوانين الدستورية بهذه الكلمات الشهيرة امَلِكُ بملكُ ولا يحكم. وفي 15 تموز يوليو سنة 1840 حدث أن اللَورد بلمرستون السياسي الانكليزي تمكن من عقد محالفة أوربية دون إدخال فرنسا فيها , قصدَ طرد رجال حكومةِ مصر من سوريا والأناضول. فبلغ ذلك الموسيو تيارس , وكان حينئذٍ رئيساً للوزارة وناظراً للخارجية , وابتدر إنكار هذا العمل محتجّاً على صاحبهِ , وحمل المَلك على إظهار الاستياءِ ممّا كان , ومازال بهِ حتى اضطّرهُ إلى تحصين باريس , وتعبئة جيوش فرنسا , وتسليح صنف الرديف والجند الاحتياطي , طلباً لشرف فرنسا. وتأهَّبَ للحرب ولكنَّ الملكَ تخوَّف من هذه الاستعدادات , واوجبَ على وزيرهِ أن يدَعَ المنصب مستقيلاً ففعل. وكان تيارس في مدَّةِ وزارتهِ قد حَصَل من لَدُن الانكليز على الرخصة بنقل رفات نابوليون الأول إلى فرنسا. ثمَّ خلف تيارس على الوزارة مناظرهُ المؤرّخ غيزو الشهير , وكان جانحاً إلى السلم ومُطاوَعَةِ الملك. أمَّا تياريس فإنهُ بهذين العملين الأخيرين , وهما نقلُ بقايا نابوليون واستعدادهُ لمحاربة أوربا , قد استمال الشعب إليهِ وحصل على محبتهِ وثقتهِ , واستمرَّ تيارس مدَّةَ السنوات الثماني التي مضت على زوال وزارته وسقوطه من منزلته إلى حين خلع الملك لويس فيليب , رئيساً لجميع المناوثين الذين حاولوا اهباط غيزو. . . وفي الـ 24 من شباط فبراير سنة 1848 خُلع لويس فيليب من تخت الملك , فانحاز تيارس إلى الجمهورية , وكان قد شرع بتأليفِ تاريخ لحكومة نابوليون الأول سمَّاهُ الحكومة القنصلية والإمبراطوريَّة

وفي عهد الجمهورية الثانية من سنة 1848 إلى سنة 1852 كان عضداً للجمهورية ونائباً في المجلس. ولما تولىَّ لويس نابوليون رئاسة الجمهورية , كان تيارس في عداد خصومهِ. وبالجملة فقد آل الأمر بتيارس إلى أخذهِ مع من سيقوا إلى السجون بحادثة ثاني كانون الأول سنة 1851 ووضع في سجن قلعة مزاس بضعة أيام ثم أبعد عن فرنسا وفي شهر آب سنة 1852 إذن له في الرجوع إلى وطنهِ فعاش فيهِ مدة إحدى عشرة سنة بعيداً عن السياسة والحكومة ملازماً الوحدة والانفراد منقطعاً إلى التأليف فأكمل في سنة 1857 انتخب نائباً في مجلس الأمة وكان من أعظم معاكسي نابوليون الثالث وقد اشتهرت خطبُهُ سنة 1870 مخالفة للرأي في شبوب الحرب على بروسيا. وبعد أن شبَّت نارها واشتدَّ أوارها ودارت على فرنسا الدوائر وأسر نابوليون الثالث كان تيارس في عداد الداعين إلى تشييد الحكومة الجمهوريّة وذهب من قبل الحكومة الجديدة معتمداً إلى لندرة ففيانا فبطرسبورج ففلورنسا سعياً وراء الحصول على مساعدة واحدة من انكلترا أو النمسا أو الروسية أو إيطالية ضد دولة بروسيا المنتصرة فلم يحل بأقلّ نتيجة وقد أتمَّ هذه الرحلة الشاسعة بمدة لا تزيد على عشرين يوماً على كثرة تقدُّمهِ في السن وفي الـ 30 من تشرين الأول حصل بواسطة الروسية على الإذن بدخول باريس ليستجير الحكومة في مخاطبة بروسيا عقداً للصلح. وبعد عقد الهدنة وتسليم باريس شرع الفرنساويون بتنظيم الحكومة وتجديد الانتخابات فانتخب تيارس نائباً من قبل ثلاثين ولاية فاختار النيابة عن ولاية السين على نيابات سائر الولايات وذلك في 8 شباط سنة 1871 وفي 17 منهُ سمي رئيساً للحكومة الإجرائية ولمَّا شبت نار الثورة المعروفة بالكومونية أو الاشتراكية واستولى دُعاتها على باريس سلّم تيارس قيادة جيش لحكومة إلى الماريشال دي مكماهون

ونال من بروسيا الإذن بزيادة الجيش فافتتح مكماهون باريس بعد حرب شهر ونصف آخر وحصار أسبوع كامل. ثم أن مسيو تيارس تمكن بحكمتهِ وجدّه وتعويل الدول عليهِ من تجديد قوة أدبية لفرنسا على أثر حطمتها الهائلة وبعث المتموّلين على تأدية أموال الغرامة الباهظة. وفي 12 ىب سنة 1871 انتخب رئيساً على الجمهورية وتأتي لهُ بعد ذلك عقد مقاولات جديدة مع ألمانيا لتقريب آجال الغرامة الحربية وخروج جنود ألمانيا من فرنسا وفي 5 آذار سنة 1873 أعلن للمجلس , والناس يغبرون مهللين مصفقين بالأيدي , أن خامس أيلول عامئذٍ هو موعد خروج آخر جندي ألماني من أرض الجمهورية. فقرَّرت ندوتا النواب والشيوخ أن المسيو تيارس قد استحق معرفة جميل الوطن. . . بيدَ أنهُ لم يستطع طول المكث والاستمرار في منصبه , إذ كان معظم النواب ضد الجمهورية؛ وبدا له عندئذٍ , فهوَّل على الهيئة النيابية بالاستقالة , فأقيل في الـ 23 من أيار سنة 1873 , وأديل منهُ الماريشال دي مكماهون رئيساً للجمهورية. فاعتزل تيارس مظاهر السياسة , إلاّ أنهُ بقي رئيساً فخريّاً لحزب الجمهورية ولمناوئي حكومة الماريشال وفي 30 كانون الثاني سنة 1876 انتخب عضواً لمجلس الشيوخ نائباً عن ولاية بلفور. وفي خلال سنة 1877 توفي في مدينة سان جرمان وقد تجاوز الثمانين سنة من عنره فأقام له الفرنساويون مأتماً عظيماً يندر مثله. ومن آثاره الجليلة عدَّة تأليف نخصّ منها بالذكر تاريخ لأس وأعماله المالية , طُبع في سنة 1826 و 1858 , وحقوق التملك طبع في سنة 1848 ومذهب الاشتراكيين سنة 1849 والقديسة هيلانة سنة 1862 وهي جزيرة منفى نابوليون الأول , وواترلو آخر مواقع نابوليون الأول سنة 1863. وأشهر مؤلفاتهِ كلها التأليفان اللذان ذكرناهما أولاً في سياق ترجمته , وهما تاريخ الثورة , وتاريخ الحكومة القنصلية والإمبراطورية. وقد ختم الموسيو تيارس هذا التأليف الأخير بوضع مقابلة أو موازنة بين أعظم مشاهير الرجال - يريد بهم أشهر من جاء

ذكرهم في التواريخ الغربية من فاتحين وملوك وقوَّد - وهم بحسب تواريخ مجيئهم: الإسكندر المكدوني. وانّيبال القرطجني. ويوليوس قيصر الرومانيز وشارلمان الفرنكي أو الفرنساوي. وفريدريك الثاني الكبير البروسياني. ونابوليون الأوَّل. ولما رأيت طول باع المؤلّف المشار إليهِ في وضع هذه الموازنة وبيان منزلة كل واحد من هؤلاء الرجال الأَعاظم خلوّاً عن ضلع أو تشبُّع أحببت نقلها إلى اللغة العربية حبّاً بالإفادة: الإسكندر هو الإسكندر المكدوني المعروف بالكبير الملقب عند العامة بذي القرنين. ولد سنة 356 قبل المسيح وخلف أباه قيليبس على ملك مكدونية سنة 336 أي في السنة العشرين من سنيه وتوفي سنة 323 أي في السنة الثالثة عشرة من ملكه. نشأ الإسكندر على آداب اليونان , وتشرَّب أميالهم ونزعاتهم إلى الزهو والخيلاء , وورث عن أبيهِ فيلبس جيشاً حسن الدربة والانتظام. فما لبث بعد استوائه على عرش الملك أن نهض للفتوح , فسطا على آسيا ودخلها إذ لم يجد إلاّ مملكة الفرس الهابطة الساقطة ومضى قدماً في غزاوتهِ حتى انتهى إلى أقاصي حدود المعمور وقتئذ. ولو لم تثبطه جنودهُ عن مزيد إقدام في التوغل والاستقصاءِ , لداوم الزحف إلى البحر المحيط الهندي. ولما اضطَّر إلى القفول لم يبقَ له إلاّ أمنّية واحدة وهي تجديد غاراته واستئناف غزاوته. ولا تحسبنّ أيها القارئ اللبيب أن الإسكندر كان يقصد بالفتوح نفعاً أو خيراً لوطنهِ الذي لم يكن ليقوى على الاستئثار بتلك المظاهر , وإنما كن أقصى مرادهِ بذلك تمهيد مهيع عظيم في وجه رائد مطامعه وأمانيه؛ فغاية متناه بُعدُ الصيت وطائر السمعة والأبهة الخيالية وتحرّي مرضاة شعب أثينا. وقد ذكر المؤرَّخون شهرته بالكرم والحلم والرحمة والعدل , إلاّ أنهُ أقدم على

قتل أشهر قوَّاد عساكره برمنيون وفيلوتاس وصديقه كليتوس لأنهم أطالوا ألسنتهم تنقُّصاَ لأعمالهِ الممجدة. وهذه البغية وإضرابها كانت ضالّته المنشودة في جميع آماله وأعماله - وما أجيبه قصداً وما أعقمها غايةً , فهي أسفل غايات عظام الرجال , وأخس شيء في مطامعهم - وبين هو يلتمس لأخر مرة قسطاً من الراحة لجيشه , أملاً في استئناف زحفاته وحملاته مطبقاً بها الأرض من أقاصيها إلى أقاصيها , وقد تبسَّط ملاءَة بموارد الخير والترف والغبطة والهناء في أكتاف آسيا , داهمته المنيّة فقضى وهو على الأرجوان مفرطاً في تعاطي الخمور والمسكرات , منغمساً في المنكرات والملاهي والملاذ الدنوية. . . أجل إن الإسكندر قد بهر عقول كل الأجيال والشعوب ببسالتهِ وسطوته , ولكن لا حياة في هذه الدنيا أعقم وأشأم وأبلغ في الإسراف وقلة الحيطة والصلاح من حياته؛ فإنهُ لم يجاوز بالتمدن اليوناني إلى ما وراء أيونيا وهي قسم برّ الأناضول المشتمل على أزمير إلى حدود القسطنطينة وسوريَّة؛ وقد كنتا قبله على نحو من ذلك؛ فذهب مغادراً جيل اليونان والديار التي داسها بالفتوح في حالة الفوضى شاغبة شاغرة برجلها , حتى كأنهُ أعدَّها وجعلها بأطرافها عرضة لمستحوذة الرومان: وبالحق قد فضل الفيلسوف على هذه الأعمال الفارغة أعمالَ فيلبومن ذلك القائد الحكيم الذي توصل , مع عدم اشتهاره بمثل هذه الشهرة العظيمة , إلى أن أطال حياة بلاد اليونان واستقلالها مدة بضع سنوات. للكلام صلة

التدبير المنزلي

التدبير المنزلي في مدارسنا ومعاهدنا العلمية نهضةٌ حقيقية تناولتْ جميع فروع التعليم والتدريس. ولنظارة المعارف على هذه الحركة المباركة يدٌ تُذكرُ مع الشكر الجزيل. وقد أصابت مدارسُ البنات قسطاً وافراً من هذه النهضة , وأصبحت تتدرَّج شيئاً فشيئاً في مدارج الترقي والكمال. ومن الموادّ التي وجَّهت إليها النظارة اهتماماً خاصّاً , درس الاقتصاد المنزلي , ولا يخفي على أحد ما في هذا العلم من الفوائد الجمة. وقد أحببنا بهذه المناسبة أن ننقل هنا شيئاً عن مزاولة ذلك التعليم في بريطانية العظمى أطلعن عليهِ حديثاً في إحدى المجلات لعل النظارة تجد فيهِ ما يقع لديها موقع الاستحسان. أعارت بريطانية العُظمى ولاسيما انكلترا تعليم تدبير المنزل اهتماماً عظيماً في السنوات الأخيرة , فشادت عن سعةٍ مدارس المعلّمات لهذا الغرض , وأَنشأت في المدارس الابتدائية والثانوية فروعاً خاصَّةً بتعليم الاقتصاد المنزلي. وازدرى فريق من الانكليز ذلك الفنَّ الجليل فانبرى أشهر خطبائهم وأعظم كتَّابهم لرفع شأنهِ , وأعانهم ذَوو الأمر بنفوذهم الواسع , وشدَّدت الحكومة على ربَّات المنازل في تدبير منازلهنَّ فمن ذلك مثلا , أنَّ إِحدى المحاكم الانكليزية أصدرت يوماً حكماً على

سيدة بالسجن والغرامة هذه حيثيات الحكم: حيث أن زوجة ب. كانت تقضي أكثر أوقاتها أمام وجهات المخازن الكبيرة , تتأمل القبعات والثياب المعروضة فيها , وماليتها لا تمكّنها من ابتياع مثل هذه الثياب؛ وحيث أنَّ جيرانها وبعض مفتشي البوليس رأوا رأي العين قذارة بيتها وسوء ترتيبه , وحيث أنهم رأوا زوجها يكنس ويغسل بدلاً منها الخ. فقد حكمت عليها المحكمة بالسجن الخ. وأصدرت محكمةٌ أُخرى حكماً على امرأة بالغرامة لأنها تحققت قذارة رأس ابنتها. ولم تكتفِ الحكومة بذلك وبما فاه بهِ الخطباءُ , وخطَّتهُ أقلام الكتَّاب مما يرفعُ شأن التدبير المنزلي , بل أشارت بوضع شهادة جديدة تُدْعى ليسانس الاقتصاد المنزلي تعدل قيمة الليسانس في العلوم الأُخرى العالية. ولم يلبث أمرُ هذه الشهادة أن نال أهمية كبرى لدى طبقات الانكليز المختلفة. فصار أكثرهم يعتبرُها حلية المرأة , والشرط المتمّم لتهذيبها , مثريةً كانت أو فقيرة. وأصبح اليومَ الرأيُ العامّ يمتدح ما كان بالأمس يذّم , ويُعظم ما كان يحتقر. وكانت بعض المدارس الثانوية قد أَبدت علناً عدم استحسانها لهذا المشروع , ورأت وضعَ الطبخ في بروجرامها إزاءَ اللاتينية واليونانية مُحطّاً من قدر العلم. فلم تلبث أيضاً أن انقاذت إلى الرأي العام , إِمَّا لاعتقادها بصحتهِ , وإِمَّا اضطراراً وخوفاً من إِعراض الطالبات عنها. ولم يقعد هذا الفوز الباهر ذوي النفوذ في انكلترا عن متابعة السعي في توفير الوسائل التي تحبّب إلى الشابات تعلُّم تدبير المنزل والتي تحسّنهُ في

عيون الأفراد , فأوعزت في جلوسترشاير مثلاً إلى كلّ ممرّضة من ممرّضات المجلس البلدي أن تعود الفقراء , وتمرّضهم مجاناً , وأن تعلّمهم قواعد حفظ الصحة وتنظيف المسكن والملبس , وأن تترك منزلها مفتوحاً أبداً ليدخلهُ من شاء رؤية حسن تدبيرها المنزلي. وقد روى بعض من زاروا تلك المنازل أنها تلمع كالشمس نظافةً وبهجةً رغم بساطة أثاثها ولمَّا كان تعليم الشابة تدبير المنزل ومعيشتهِ وواجباتهِ , فقد رأت بريطانية أن تُرَبّي حُبَّة في فؤادها منذ الصغر , وأن تزرعَ في نفسها - وهي لا تزال خاليةً من كلّ زرع - ولعاً بالترتيب والتنظيف والاقتصاد لا تؤثّرُ فيهِ طوارئُ الحياة وأدوارها , فأفسحت لتعليم تدبير المنزل مجالاً واسعاً في روجرام تعليم مدارس الأطفال والمدارس الابتدائية والثانوية وفي الجامعات الكبرى. فغدا بذلك أمر الاهتمام بشؤُون المنزل يُرافق الفتاة كلَّ أيام دراستها , كما يُرافقها سائر أيام حياتها بعد خروجها من المدرسة إذ تصبح ربَّة منزل. طرق تدبير المنزل سبقت ألمانية وبلجيكية وأميريكة بريطانية العظمى إلى هذا العلم , وخبرته السنين الطوال , ورأت بريطانية أن تستفيد من ذلك الاختبار , لتتقي الوقوع فيما وقعت فيهِ تلك الدولُ من الخطأ , فوجَّه وزير المعارف إلى تلك البلاد الإِرساليات لدرس طريقة التعليم المثلى. ولم يلبث المرسلون أن عادوا إليهِ بتقاريرهم فعرضها على المدارس , وأجاز لكلّ مدرسةٍ أن تختار الطريقة التي تراها ملائمةً

لمركزها وظروفها , عازماً على تقرير أوفاها بالغرض وأحسنها نتيجة في بروجرام المدارس. على أن كلّ هذه الطرق المتَّبعة الآن , وإِن فَضُلَ بعضهُا البعض الآخرَ قليلاً , طرقٌ حسنةٌ سهلة , تسير بالطالبة , خطوةً خطوة , من أوَّل الطريق حتى آخره دون أن تكلّ أو تملّ. مدارس الأطفال الغالب الآن في هذه المدارس الاقتصار على تعليم الصغيرات إِزالة الغبار عن الأثاث , وترتيب الأمتعة بخلاف هذه المدارس في ألمانية. فإنها تعلمهنَّ أيضاً مبادئَ غسل الثياب وطبخ الأطعمة. المدارس الابتدائية تُعطى طالباتها في لندره 60 أُمثولة في فنّ الطبخ يستغرق كلٌّ منها 3 ساعات , ولا تأتي التلميذة عليها إِلاَّ وتكون قد أَلمَّت علماً بكلّ أصناف الطعام والحلوى وباصطناع الخبز , وبطرق حفظ الفاكهة والبقول زمناً , وبطبخ بعض المآكل للمرضى والأطفال و40 أمثولة في غسل الثياب وكيّها على أَحدث الطرق بما فيها الثياب الصوفية والموَّنة , وفي رئق البالية منها. و 40 أمثولة في تدبير المنزل وتنظيفه , وفي أضرار المراحيض والمداخن وتطهيرها , ودروساً أُخرى في قواعد حفظ الصحة والعناية بالأطفال , وفي علم الحيوان والنبات , وفي طرق معالجة الأمراض والطوارئ الفجائية , ريثما يحضر الطبيب , وفي مضار الكحول , ودروساً في علم الاقتصاد المنزلي , وتنسيق الصرف على نسبة الدخل. غير أنَّ هذا البروجرام يختلفُ قليلاً المقاطعات , ففي جلوسترشاير مثلاً تراجِعُ الطالبات قبل الانتقال إلى المدرسة

الثانوية في 10 دروس كلَّ ما تكون قد تعلمتهُ في المدرسة الابتدائية. وفي ليستر تبدأ الابنة دروسها , وهي في السابعة من عمرها , وتُعطى في السنة 50 أمثولة في الطبخ , يستغرق كلٌّ منها ساعة واحدة , فإذا ما بلغت الحادية عشرة , تُعطى 50 أُمثولة أُخرى في الغسل. فتبلغ بذلك ساعات درسها المئة سنويّاً. وفي ليفربول تتعلم التلميذات بعض القواعد الصحية عن ظهر قلوبهنَّ , كما يتعلمنَ هنا معاً بصوتٍ مرتفع الحروفَ الهجائية. فمن تلك القواعد التي يرددنها: من يحفظ فمهُ نظيفاً لا تُؤلمه أَسنانهُ وحيث لا تدخل الشمسُ يدخل الطبيب. وغيرها من نوعها. أمَّا فيما يختص بتعليمهنَّ العناية بالأطفال , فإِن المعلَّمِة تقودهنَّ فرقاً إلى مهد الطفل عند أُمه , حيث تُريهنَّ رأي العين كيفية الاعتناء بالطفل , وملاعبته ولفّه وتقميطه الخ. وقد تمكنت إِحدى هؤلاءِ الطالبات بهذه الطريقة من الاعتناءِ بأخيها كلَّ الزمن الذي قضتهُ والدتها في المستشفى , وكان عمرهُ عندما عُهد بهِ إلى عنايتها 14 يوماً. المدارس المركزية ورأت بعضُ المدارس تعذُّر وجود جميع الأدوات والمعدّات اللازمة لتعليم تدبير المنزل في كلّ واحدة منها , فاتفقت على إنشاء معهدٍ مركزي عمومي , اشتركت في تأثيثهِ , فتذهب إليه طالبات كل مدرسة منها في مواعيد معيَّنة , حيث يتعلمنَ تدبير المنزل نظريّاً وعمليَاً وفي هذه المدارس المركزية قسمٌ ليليٌّ لتعليم الشابات. التعليم في المنازل ومتى تقدمتِ الطالبةُ قليلاً في هذا الفنّ

تذهب مرّةً في الشهر إلى منزل إِحدى المعلّمات , فتُديره بمعرفتها ليتسنى لها بدّلك تطبيق القواعد العلمية المدرسية على العمل في بيتٍ منفردٍ. وفي تشستر وليفربول يؤجّر المجلس البلدي لهذا الغرض بأجَر متهاودةٍ منزلاً مؤنثاً لمعلّمات الابتدائية. وقد أبدت كثيرات من هؤلاء التلميذات مهارة عظيمة ونشاطاً وذكاءً في العمل؛ وكثيراً ما توصل البعض منهنَّ إلى اصطناع أبدع أمتعة المنزل من أشياء قديمة بالية لا قيمة لها. فمن ذلك أنَّ إِحداهنَّ أخذت مرَّة صندوقاً للشحن , وكستهُ قماشاً ظريفاً , وزانتهُ برسوم جميلة , فكانت منهُ مكتبة بديعة المنظر تليق بردهة استقبال. وحوَّلت أُخرى جرابات صوف بالية إلى ثوب طفل يصلح للأعياد , واصطنعت غيرُها من علب الحلوى إطاراً للصوَر متناً جميلاً. ولا ريب في أنَّ مثل هؤاء الطالبات يحوّلنَ منازلهنَّ إلى جنَّات غنَّاء. ولا تُتِمُّ الابنةُ دروسها الابتدائية إلاَّ وتكون قد خاطت كلَّ جهازها من القميص حتى القبعة , ومهرت كذلك في التمريض والعناية بالأطفال , وفي الغسل والطبخ , وفنون الاقتصاد , واصطناع الأبسطة , وتنجيد المقاعد والكراسي , والرسم والتصوير وسائر الأشغال اليدوية. الاقتصاد المنزلي في المدارس الثانوية لم تُفسح هذه المدارس لتدبير المنزل المجال الذي أفسحتهُ المدارس الابتدائية ومدارس الأطفال , وذلك لأنَّ الطالبة تدخلها وقد أضحت من فضليات ربَّات المنزل , لا ينقصها إلاَّ النزر القليل , فتراجع فيها كلَّ ما تعلَّمت قبلاً مع التطويل

والإِسهاب. وقد أرادت بعضُ هذه المدارس أن تصبغَ علم تدبير المنزل بصبغةٍ علمية , فضمَّتهُ إلى علمي لطبيعيات والكيمياء , وزادت فيه تعليم الطالبات كيفية تطبيق المبادئ الكيماوية على الشؤون المنزلية , فتوسَّعت في درس المواد التي يتركب منها كلُّ نوعٍ من أنواع الأغذية وكيفية تحولها الكيماوي بالطبخ والاختمار , وفحص المآكل بالمجهر , وطريقة اصطناع المسكَّرات والحلويات , ودرس محلولات خاصة بتنظيف الأمتعة والأقمشة , وغسلها من أصوافٍ وأجواخ وحرائر وجلد ورخام وزجاج وخشب , وكذلك في علم الآليات , وبعض دروس مالية وتجارية , كتسليف النقود والاسترهان , وتحرير العقود والصكوك , ومسك الدفاتر إلى غير ذلك مما يطولُ شرحهُ. مدارس المعلّمات أما المعلّمات المكلَّفات بالتعليم في المدارس الابتدائية والثانوية فيتعلمنَ في مدارس عالية خاصة بتحضيرهنَّ للتدريس تعدّهنَّ للشهادات المنزلية العليا المقبولة من الحكومة , وتؤهلهنَّ للتعليم برواتب تتراوح بين 70 و 300 جنيه سنويّاً. ولا تقبل هذه لمدارس إِلاَّ حاملات الشهادات الثانوية. ومن تتناوله دروسها علم الحياة , وعلم الميكروبات , والحقوق المدنية , والاقتصاد , ومسك الدفاتر. ومن هذه المدارس كلية تدبير المنزل في أيدنبرج وفيها , عدا ما تقدَّم ذكره في الكليَّة السابقة , أقسامٌ خاصَّة بتعليم كلّ فرعٍ من

فروع تدبير المنزل على حدة , فتقصده كلُّ فتاة روم الاختصاص بفرع من هذه الفروع , وتخرج منهُ بعد 6 أشهرٍ بشهادة مربية أولاد أو مدبرة منزل أو طاهية الخ. وتُلقي كلية أيدنبرج أيضاً في العاصمة والضواحي محاضراتٍ في حفظ الصحة والتمريض والعناية بالأطفال وما شابه ذلك. فترى أنَّ التعليم المنزلي في بريطانية قد كاد يبلغُ حدَّ الكمال وهو لا يزال في طورهِ الأوَّل , فإِنهُ في حالتهِ الحاضرة يمكّن كلَّ انكليزية من إتقان شؤونها المنزلية , ويعلّمها كيف تُؤَنث منزلها بنفسها , فتصنع الأبسطة , وتحبكُ قشَّ الكراسي , وتُصلح الأقفال , وتزين الجدران والأمتعة بالرسوم والنقوش , وتتعهد بنفسها زرع أزهار حديقتها , وتقي تلك الأزهارَ في غرف المنزل من الذبول السريع , وتختار الألوان التي تتفق مع بعضها بعض في تنسيق الأمتعة وترتيبها بذوقٍ يزيدها جمالاً ورونقاً؛ فتجعلُ منزلها شعاعاً من نور نفسها , ونسمةً من حياتها , يُنير ويُحيي الأفئدة التي يضمُّها بين جدرانهِ. ولقد صدق الوزير الانكليزي الذي قال: إِن إدارةَ المنزل جيداً تستدعي من المقدرة والبراعة والذكاءِ فوق ما تستدعيه إدارة مملكة واسعة ولا ريب في ن مثل هذا التعليم في مصر , يؤثر تأثيراً سعيداً في الحياة العائلية وفي أخلاق الأمة وصحة عقولها وأبدانها , وفي سلامها ونجاحها , ويصرف اهتمام شابَّاتنا عمَّا لا يجديهنَّ نفعاً إلى ما يضمن سعادة أسرِهنَّ. هند اسكندر عمون

الضمير

الضمير الضميرُ قوَّةٌ من قوى النفس , بها يُقابل الإنسانُ أعمالهُ على الناموس الأدبي , ويشعر بالسرور أو الكدّر لمطابقة أعمالهِ لذلك الناموس أو لمخالفتها. فالضمير يستحثُّ الإنسان على إِتمام الواجب , ويدفعهُ على عمل الخير , أو يبكّتهُ على ارتكاب المنكر. فهو بشير السعادة الأبدية , ونذير الهلاك الدائم. ليست أفعال الحيوان ناجمةً عن شعورٍ بوجوب قضائها , وتَحتُّم إِجرائها. بل هي ناتجة إِما عن خوفٍ واقع , وإِما احتياج دافع. وليس الإنسان كذلك , بل أنَّ لمبدع الحكيم خصَّهُ بطبيعةٍ أدبية , وصفاتٍ كمالية فطرية. فسنَّ له من ناموس المحبة الكامل , وجعل له قائداً يُرشدهُ إليهِ , ودليلاً يدلهُ عليهِ , وما ذاك المرشد الدليل إلاَّ الضمير. إذا أردنا أن نحكم على أعمال الغير , نتصوَّر ما يبدو لنا من أعمالهم وما ينبئ عن أفعالهم. ونقابل ذلك على الناموس الأدبي , فيتّضح لنا ما ينطبقُ عليهِ , وما يشدُّ عنهُ , ومن ثمَّ يكون حكمنا صحيحاً مبنيّاً على التحقيق , صادراً عن العقل الأدبي وليس عن الضمير , لذلك لا نشعر في هذا الحكم بنخره ولا بمدحه. وليس الضميرُ معلولَ الخوف , إذ أنهُ موجودٌ في تسنموا أسمى المراتب , واستلموا زمام الأمور , يديرونها كيفما شاؤوا وشاءَ الهوى , فخافهم الجميع ولم يخافوا أحداً.

وليس الضمير أثراً لملكةٍ استحكمت في الأذهان بالتكرار , ورسخت في النفوس مع تمادي الأدهار , ولا مما تدعو إليه قوَّة الوهم , أو صلاح المعيشة , أو حبُّ السلام , فإن هذه عللٌ متباينة في ذاتها , فضلاً عن تفاوت الأشخاص , في الميل إليها , والاستعداد الفطري لقبولها , فمعلوماتها تكون مختلفة في الماهية ومتعدّدة , والضمير لا يتعدّد في الإنسان , ولا تتفاوت ماهيته باختلاف الأحوال والأزمان. وقد خط بعضهم الضمير مع البواعث الأدبية كالميل للرحمة , وإيثار العدل , وحبّ الحقيقة. هذه البواعث هي غرائز أدبية , ضرورية لإرشاد الإنسان ولاسيما في حالته الأولى , حينما كان حجاب الجهل مسدولاً , وهي تظهر في هيئات خصوصية معدودة , وأفعال محصورة محدودة , ولا تتضمن واجباً كالضمير , فضلاً عن أنها كثيراً ما يعارض بعضُها بعضاً , فهي مفتقرة إلى قانون يُنظّمها: تعطف الغنيَّ عواطفُ الشفقة على الفقراء وتدفعهُ لمساعدتهم , ولربَّما جنح بعضهم من جراءِ ذلك إلى الخمول , فانقطع عن العمل , متربعاً على بساط الكسل , فتكون الرحمة لمثل هؤلاء ظلماً , والإحسان إليهم إِساءةً وجرماً. وكثيراً ما تكون الرحمة واجبة , حيث العقاب ضروري اقتضاءً للعدل؛ فإن كان العدل مجرّداً , لا دخل للمحبة فيه , تعذَّر وجود الرحمة. لذلك لابدَّ لهذه البواعث من شروطٍِ تجب مراعاتها , ونظام تجري عليه , حتى الحقيقة فإنها لا تقال في كل الأوقات. والضمير يشابه العقلَ في بعض أعماله: فإنَّ من أعمال العقل

إِدراك الأوليَّات , نحو كل جسم موجود في مكان , وكل تغير حادث في زمان , وكل حادث له سبب وما أشبه من البديهات التي لا تفتقر إلى برهان , ولا يختلف فيها اثنان. كذلك من أعمال الضمير ما هو بديهي لا يحتاجُ إلى شروط وسائط , كالرغبة في الخير والابتعاد عن الشرّ , تسديداً لمطالب الناموس الأدبي , الأمر بعمل الخير , واجتناب الضير. فمن آثر لشرَّ على الخير يسيء لنفسهِ أولاً ويضعف صوت ضميره , لعدوله عن سبيل الحق المنير وتسكعه في ظلمات اغرور. وقد يحو بين الضمير والحقيقة حجابٌ من نسيج الجهل , أو فاصل من مادة المآرب الشخصية , أو غشاءِ من ظلمة التهوُّر في دنايا الدنيا فينجح المرءُ إلى الشر بدلاً من الخير , ويشتري الضلالة بالهدى , ويسقط من أوج الفضيلة , إلى أقصى دركات الرذيلة , وبئس المصير , مصير المنافقين. أمَّا المستقيم في أعماله , الصادق في أقواله , المتحلي بحلي الفضائل السالك في منهج الكمال , فله من راحة ضميره الحيّ سرورٌ لا يحيط به الوصف , ولا يقوى على تبيان محاسنه البيان. سرور لا يدانيه في التأثير جمال المناظر الطبيعية , ولا عذوبة الأنغام الموسيقية , فلا غرو إِن قيل. إِن الضمير صوت الله في الإنسان. جرجس عبد الملك

الشرق وأبناؤه

الشرق وأُبناؤه اعتاد دولة الأمير الخطير محمد علي باشا شقيق الجناب العالي الخديوي أن يقوم في كل سنةٍ برحلة في ناحيةٍ من أنحاء العالم , وأن يدوّن عند عودتهِ آراءَه وملاحظاتهِ ووصف ما رأى وشاهد في كتابٍ ينشرُهُ ويهديه إلى أصدقائِهِ تذكاراً لرحلته. وقد سافر في العام الماضي إلى الولايات المتحدة , وعرف القراءُ من الصحف اليومية ضروب الحفاوة والإِكرام التي قام بها السوريون في العالم الجديد ترحيباً بالأمير الشرقي المصري الكبير. فنشر دولته في كتابٍ تفصيل رحلتهِ هذه , وذكر السوريين بكل إطراءِ , وأثنى على همتهم وإقدامهم , واحتفاظهم بقوميتهم العربية في أقصى الأصقاع. ونحن اليومَ ناقلون عن هذا الكتاب الجليل صفحةً عن حالة الشرق , عسى أن يكون فيها عبرة وذكرى. قال الأمير حفظه الله: إنَّ الثلاثين سنة التي قضيتُ معظمها جائلاً في أنحاء أوربا , والتي لا أُنكر المزايا التي اكتسبتها فيها بمعاشرتي واختلاطي بكبراءِ رجالها المفكّرين والمصلحين , قد زادت في قلبي حبَّ بلادي وتعلُّقي بالشرق والشرقيين. فبكلّ جوارحي أُنادي فليعش الشرق وأبناؤه! جديرٌ بنا أن نفتخر ببلادنا العزيزة , مهبط الأنبياء , ومنبع الأديان وأصل التاريخ , مصدر التمدين. فذكرُ مجد الشرق يُحزنني. فأين نحن الآن من عظمتنا الماضية؟ أُلقوا معي نظرةً في تاريخ حياة أجدادنا. أنهُ كان مجيداً: فكم بلادٍ فتحوها بشفار سيوفهم , وكم أمم أخضعوها بقوَّتهم وشدَّة بأسهم! إِنهم لم يتركوا وسيلةً لإِعلاءِ شأنهم , وإظهار عظمتهم ,

الرقص المصري

ونشر سلطانهم , إلاَّ اتخذوها , مُقدِمين عليها بلا خوفٍ ولا وَجلٍ. ولم يدعوا باباً يوصلهم إلى غايتهم الشريفة , إلاَّ طرقوه بدون تردُّد أو تهاون. فالتاريخ يشهد إذاً بما كان لهم من صفات الفاتحين , كالشهامة والأقدمين , ولاسيما التفاف بعضهم حول بعض , وجمع شملهم ووحدة كلمتهم وإخلاصهم وشدَّة حبهم لبلادهم. فبالله ماذا جرى لنا حتى أصبحنا في مؤخرة الأمم المتمدينة؟ إِنَّ بلادنا لم تتغير , رجالها هم أبناءُ أولئك الأجداد وأحفاد أولئك الأبطال. فماذا دهانا حتى وصلنا إلى هذه الدرجة التي لا تسرّ؟ أظنُّ أننا تهاونّاً في أمورنا , فحلَّت علينا المذلة والمسكنة , وتركنا شؤوننا فغشيَنا من النعس ما غشيَنا الأمير محمد علي الرقص المصري قال العلاّمة ويلكنسون المؤرّخ الانكليزي في كلامٍ لهُ عن الحضارة المصرية: إِنَّ نساءَ قدماءِ المصريين كنَّ يرقصنَ في الفرح والترح على السواءِ. وتوجد في المقابر المصرية , في بني حسن بمديرية المنيا , صورٌ عديدة تمثّل الراقصات وهنَّ يتمايلن طرباً وسروراً على نغمات الدفوف والعيدان. ولا يختلف رقص البطن المعروف عند المصريين الآن. وأُضيفُ إلى ذلك أنَّ لباسَ الرقص عند بعضهنَّ كان عبارةً عن نسيجِ رفيع من القطن مفصَّل بشكل الجسم , ومنهُ يُرى

النحر والبطن والساقان. وكان بعضُهنَّ يرقصنَ قبيحة , وفي أيديهنَّ الدفوف والصاجات وروى بعضُ المؤرخين أن المصريين تعلموا رقصَ البطن من الفرس , عندما أتوا إلى مصر فاتحين. فأتقنتهُ نساؤهم , وبرعنَ في حركاتهِ وسكناتهِ , ولبثت الراقصاتُ موضعاً لاحترام العامَّة والخاصَّة , حتى فت المسلمونَ مصر , فدالت دولة الرقص. كما قضي على غيرها من فنون قدماء المصريين وعاداتهم. ثم دبّت روح الحياة في مصر في منتصف القرن الماضي. ووجد من سعى إلى ترقية الآداب والفنون. فنهضت الموسيقي , وارتقى الغناءُ , وترعرع النثر والنظم. أما الرقص فبقيَ مهملاً , لأن أبناءَ البلاد منعتهم أحكام الدين والعرف والعادات عن أن يقتبسوا عن الإفرنج الرقص الذي يشترك فيهِ الجنسان اللطيف والنشيط معاً. بل كانوا يرون أنَّ مجرَّد النظر إلى راقصةٍ أمرٌ لا تجيزهُ الآداب. وكاد فن الرقص يُصبح نسياً منسيّاً لولا نسوةٌ من أهالي الصعيد أَتقنَّهُ بعض الإتقان , ولكنهنَّ لم يكنّ يرقصن جهراً في الأندية أو المراسح خوفاً من الحكومة. وكان بعض التراجمة والأدلاءِ يقودون السائحين إلى بعض مواخير في القاهرة , فترقصُ النسوة أمامهم بتهتُّك شائنٍ , وحركاتٍ معيبة؛ بل كان بعضهنَّ يرقصنَ عارياتٍ , فيخرج السائحون ساخطين على مصر ورقصها , ويكتبون عن الرقص المصريّ قادحين , بناءً على ما شاهدوا بعيونهم من الأمور التي لا ترضاها أحطُّ طبقات الأمم المتوحشة , وكانت

كتابة هؤلاء السائحين من أكبر البواعث لحمل المصريين على مشاهدة هذا الرقص. فكانوا يبذلون العشرات من الجنيهات للتمتع سرّاً برؤية راقصة وهي تشتغل بصناعتها الشائنة. ثمَّ أخذ الرقصُ المصريُّ ينتشر شيئاً فشيئاً في الموالد التي تقام في الوجه القبلي. وقد تعلمتهُ النسوة المبتذلات اللائي أمرت الحكومة بنفيهنَّ من العاصمة وبعض جهات الوجه البحري إلى مدينة أخميم. وعرفتُ منذ نحو 35 سنة راقصة تدعى بنت أبو شنب كان يحضر رقصها الألوف. ومتى بدأت في العمل صمت الحاضرون كأنهم في معبد. فإذا انتهت طافت بهم لجمع النقطة فلا يقلّ ما تجمعهُ في الجلسة الواحدة عن مئتي جنيه!! ومن الغريب أنهُ بينما كان الرقص المصري منحطّاً في مصر لا يُرى إليهِ إلاَّ بعين الازدراءِ , كان بالغاً أعلى درجات الرقي في أكثر بلاد الشرق والمغرب الأقصى. وجرى حديث في هذا المعنى منذ نحة 25 سنة بين المسيو مانولي يوانيدس صاحب قهوة ألف ليلة وليلة ورجل من المغاربة فذكر المغربي أنهُ توجد في تونس نسوة يُجدن الرقص المصري بلا تهتُّكٍ ولا تبذُّل. فاتفق المسيو يوانيدس مع مُحَدّثهِ على أن يُحضِرَ بعض هؤلاءِ النسوة للرقص في مصر. فلبَّى الطلب. وفُتِحت أوَّل قهوة للرقص البلدي في شارع كلوت بك خلف قهوة اللوفر في سنة 1887. وكانت أُجرى الدخول إلى هذه القهوة غروش صاغاً للدرجة

الأولى , وخمسة قروش للدرجة الثانية. ومع أنَّ المسيو يوانيدس كان يدفع لهذه الجوقة التونسية ستة جنيهات في الليلة , فإِن مكاسبهِ كانت عظيمة لإِقبال المصريين على قهوتهِ وإعجابهم برقص أولئك التونسيات. ورأى جماعةٌ من اليونانيين أن يقتدوا بالمسيو يوانيدس فأنشأوا في العاصمة والإسكندرية وبعض مدن الأقاليم قهواتٍ عدَّةٍ للرقص البلدي. وتعلَّمت المصريَّات الصناعة , وأحكمنَ الملابس اللازمة لها. ووضع لهنَّ مشهورو الملكّنين أدوراً يرقصنَ على أنغامهاز وساعدَهنَّ على إِتقانها فريقٌ من مشهوري الطبَّالين. ووضع النظام المتبع في القهوات الراقصة , وهو أن يغني المغنون دورهم , ثم تتبعهم الراقصة , فتخرج إلى المرسح ملتفةً بعباءَة ولا تلبث أن تبدأَ بالرقص على نغماتِ العود والقانون والدربكَّة , وهي تتمايل في كسائها المعروف , وهو قميص من الشاش , وفوقه صدرةٌ حريرية مزركشة تستر الثديين , وتنُّورة مفوَّفة بالأشرطة المذهبة. ومتى أتمَّتْ دورها يعود المغنُّون , فالرقص وهكذا. وبلغ عدد قهوات الرقص البلدي في العاصمة منذ عشر سنوات 19 قهوة. ثمَّ فترت حرارة المصريين في الإِقبال على هذه القهوات , فانحطَّ عددُها إلى ستّ قهواتٍ , منها ثلاث مهدَّدةٌ بالإفلاس. وكانت هذه القهوات عامرةً بعددٍ يُذكر من شهيرات الراقصات , بين مصريات وسوريات وفارسيات ومغربيات , ومنهنَّ من حازت مادليات من أكبر معارض وأميريكا إِعجاباً بصناعتهنَّ. وبلغت أُجور الشهيرات منهنَّ نحو 60 جنيهاً في الشهر.

ولكن هؤلاء البارعاتِ المتفنِّنات قد تعب بعضهنَّ وملَّ , وشاخ البعض , واكتفى البعض بما جمعنَ من مال وعقار. فأهملنَ الصناعة. ولم يبقَ في القهوات إلاَّ راقصات مقلّدات لا يزيد راتب أكبرهنَّ عن عشرين جنيهاً في الشهر. ويكتفي بعضهنَّ بأخذ ثلثي قيمة ما يفتحهُ لهنَّ الزبائن من زجاجات البيرة , ويختلف ثمن الزجاجة من عشرة قروش إلى ثلاثين قرشاً. وقرن بعضهنَّ الرقص بالغناء. وقد اشتدَّت المزاحمة يوماً بين اثنين من أصحاب القهوات على غنيةٍ مصرية تجيد الفنَّيْن , فبلغت أُجرتها 150 جنيهاً في الشهر عدا نصيبها في ثمن ما يُفتح لها من زجاجات البيرة والشمانيا. ولبثت الحكومة زمناً , وهي متأثرة بأقوال أعداءِ الرقص المصري فصادرتهُ , وأمرت بإقفال بعض مراسحهِ. فقاضاها أصحاب هذه المراسح أمام المحاكم المختلطة , فأصدرت محكمة الاستئناف حكماً قالت فيهِ إِنَّ الرقص المصري فنٌّ من الفنون الجميلة , وليس فيهِ شيء مخالف للآداب بالمرَّة ولكن هذا الحكم لم يقنع الكثيرين من أدباء المصريين , فحمل الأديب الكبير محمد بك المويلحي على الرقص وأنديته حملةً شعواء في كتابهِ حديث عيسى بن هشام وزار المستر رودي الكاتب الانكليزي هوة النوفرة عندما كان يرأٍس تحرير جريدة الأجبشن ستندرد أحد ألسنة الحزب الوطني , فأعجب بها , وأعلن إعجابه في مقالة نشرها في تلك الجريدة , فقامت قيامة الصحف المصرية عليهِ , وأنَّهم صاحب المؤيد المرحوم مصطفى كامل

حكم

منشئ الأجبشن ستندرد بأنهُ يدعو المصريين إلى الدَّعارة والفجور. ثم أخذ بعض الناقدين وأهل الرأي والمدركين حقيقة الفنون الجميلة يخفقِّون من انتقادهم على الرقص البلدي , ولاسيما بعد أن شاهدوا في أوربا وأمريكا ومصر من الرقص الإفرنجي المعيب والتهتك الذي لا زيادة بعده لمستزيد. وقد حدث منذ شهرين أنَّ راقصة انكليزية أرادت السفر إلى الهند فقامت الصحف الانكليزية مناديةً بالويل والثبور , وطلبت من الحكومة منعها عن عزمها بدعوى أن الهنود لا ينظرون إلى حركات هذه الراقصة بالعين التي يرى بها إليها أدباءُ الانكليز. وهكذا شأن القوم معنا , فمهما تحشَّمت الراقصة المصرية , عدُّوا رقصها تهتكاً وابتذالاً. ومهما تهتكت الراقصة الأجنبية ورفَّ الشفوف فأعلن ما استتر وجوباً وجوازاً من أعضائها , عدُّوا عملها نهاية الرقي العقلي والأدبي. وسبحان مقسم العقول والأرزاق. مصر توفيق حبيب حكم - الأملُ هو الخبز الذي تتغذى منهُ النفس كلَّ يوم. - إذا افتكرتَ بمصائب أمس الدابر , هانت مصائب اليوم الحاضر. - الابتسامة في ثغر بعض الناس تشبهُ وخز السنان - أنشد مغنٍّ بين يدي المأمون هذا البيت: وإني لمشتاقٌ إلى ظلِّ صاحبٍ ... يروقُ ويصفو إن كدرتُ عليهِ فصاح بهِ الخليفة: ويحك! جئني ب_هذا الصديق وخذ نصف المملكة

متاحف الآثار في مصر

متاحف الآثار في مصر ألقى المسيو ماسبرو مدير مصلحة الآثار المصريّة خطبةً في الجمعية العلمية الفرنسية في باريسو تكلم فيها عن أعمل الحفر والآثار في مصر , جاء فيها عن المتاحف قولُهُ: إنَّ إنشاءَ متاحف المديريات في نظري أمرٌ لابدَّ منهُ. وكنت من أول وصولي إلى مصر 1881 - 1886 قد رأيت أنَّ متحفَ بولاق يضيق عن لستيعاب كل ما تُخرِجهُ ارض مصر والآثار , وأنهُ لابدَّ من إنشاءِ متحفٍ في الإسكندرية , تُعرض فيهِ آثار العهدِ اليوناني الروماني. لكنَّ الحوادث السياسية التي جرت في ذلك الحين حالت دون تحقيق هذه الأمنية. ولما رجعت سنة 1899 وجدتُ الآثارَ المجموعة في الجيزة مكدَّسةً بعضها فوق بعض فصمَّمت النية على أن أُنشئَ في جهات مختلفة متاحفَ محليةً تُعرَض فيها الآثار المختصة بكل مديريةٍ , الدالة على تاريخها وحياتها القديمة. أمَّا الآثار التي تتعلَّق بالتاريخ المصري العام فتوضع في متحف القاهرة. وبما أن ميزانية المصلحة لم تكن تقدرُ على القيام بالنفقات الطائلة التي يتطلبها المشروع , رأينا أن نشركَ الأفراد , أو بالأحرى الدوائر المحلية , في الأمر. فبدأنا نحو سنة 1901 بالأقصر , لكننا لم ننجح في سعينا. وفي

سنة 1905 عاودنا الكرَّة ثانيةً , وفاوضنا شركة ترعة السويسو فلم نَفُزّ بالنتيجة التي كنَّا نرجوها بفضل مساعدة البرنس دارنبرغ , مع انهُ كان في الإسماعيلية في ذلك العهد شبهُ متحفٍ جُمعت فيهِ الآثارُ التي كان قد وجدها المسيو كليدا في حفر الترعة. ولم يكن الأمر كما تقدَّم في أسيوط وأسوان. فإن مساعيَّ هناك كُلِّلَتُ بالنجاح التام \. والفضل في إنشاء متحف أسوان عائد إلى مصلحة الرذي التي تنازلت لنا في أواخر سنة 1911 عن البناية التي كانت قد شيدتها لمهندسيها في جزيرة أنس الوجود. وقد جمعنا في المتحف المذكور الآثار التي وجدها في بلاد النوبة بين 1908 و 1911 الخواجات ريستر وفيرث , وفتحنا أبواب المتحف للعموم في أول سنة 1912 وأرصدت لنا نظارة المالية سبعة آلاف فرنك للإنفاق عليهِ. فهو والحالة هذه متحف الحكومة المصرية. والفضل في إنشاء متحف أسيوط عائد لسيد بك خشبه الذي كان قد نال رخصةً بإجراء حفريات في المديرية. وكان يتاجر بالنصف الذي هو حصتهُ من الآثار المكتشفة. لكن أحمد بك كمال المتولي مراقبة الحفر من لَدثن مصلحة الآثار تمكَّن من إقناعهِ بأن الواجب الوطني يقضي عليهِ بأن ينشئ على نفقتهِ في مسقط رآهِ متحفاً يجمع فيه على الأقلّ قسماً من الصنف الذي يخصهُ فأنشأ المتحف وتسلمناه هذا العام. وقد نحا هذا النحو مجلسان آخران ويمكننا القول أن المشروع سائر في أحسن السبل.

في رياض الشعر

في رياض الشعر المراسلات السامية كنا قد نشرنا في السنتين الأولى والثانية الزهور شيئاً من المراسلة الشعرية التي دارت بين الشاعرين الكبيرين المرحوم محمود باشا سامي البارودي والأمير شكيب أرسلان , فلاقى ذلك الشعرُ النفيسُ استحساناً لدى الجميع. وها نحن ننشر اليومَ قصيدةً أرسلها الأمير شكيب , وهو في طبريّة , إلى المرحوم محمود سامي باشا يتشوَّق إليهِ ويعزّيه بفقد كريمةٍ له: أيُّ ريٍّ بالصحف والأقلامِ ... لفؤادٍ إلى لقائِك ظامِ وتناجي الأرواحِ بُعداً وفي القر ... بِ تَلاقي الأرواحِ والأجسامِ كلما شئتُ شَدَّ رحلي إلى مص ... ر نَبتَ بي عوائقُ الأيَّامِ تعتفي سَيرتي وبيني وبين ... النيل لم يبقَ غيرُ سهمٍ لِرامِ ولقد طالما تمثّلتُ ذك الم ... ساء يجري وكنتُ في الأوهامِ كم أراني الخيالُ لقباً وهذا ... غيرُ ما جاد طيفكم من لمامِ وجذبنا من الحديث غُصوناً ... وسهرنا إلى نحولِ الظلامِ وروينا من القريضِ الذي تس ... كر منهُ العقولُ من دون جامِ وَنَجرْنا إلى القلوب عهوداً ... قد تمادت كذاك شأنُ الذِمامِ سيقولُ الأميرُ ماذا الذي عا ... قَ وماذا يحولُ دون المرامِ ما نأت دارُ من تُحبُّ وعيبٌ ... نقصُ ذي قدرةٍ على الإِتمامِ بيننا ليلتانِ لكن مع الغي ... ب سواءٌ يومانِ أو ألْفُ عامِ وعزيزُ اللقاء والإِلْفُ لم تش ... حط بهِ الدارُ زائدٌ في الهيامِ

ليس ما بيننا سوى البحرِ يومي ... ن ولكن سواهُ بحرٌ طامِ دون مصرٍ بحران منهُ ومن آ ... خرَ بحرُ الوشاة والنُّمَّامِ ذاك بحرٌ تسيرُ فيهِ سَفينٌ ... من حظوظ اللئام كالأعلامِ وكلامٌ يدرونَهُ أنّهُ الإِف ... كُ ولكن يبغون صيدَ الحُطامِ ومَقالٌ إنّا من العصبة الفت ... يانِ والطاعنين في الأحكامِ أنا أرجو في مصرَ لقيا عظامٍ ... ودُّهم بات سارياً في عظامى صلةُ الإِلّ بيننا وأرى الآ ... داب أقوى فينا من الأرجامِ وحنيني إلى الذي طالمااشتق ... تُ بعيداً فكيفَ وهوّ أمامي الأميرُ المحمود بالاسمِ والفع ... ل وكم خالفَ الفعالُ الأسامي سيدٌ إن تحجَّ كعبةَ عليا ... هُ تَجِدْ ما نسيت منهُ الموامي باهرُ القدرِ إن تزِنْهُ مع الأقو ... امِ في الفضلِ مال بالأقوامِ مُفردٌ خافَهُ الزمان فناوا ... هُ كذاك العِظامُ حربُ العِظامِ جدَّ في حصرِ بأسهِ وهْوَ لو جا ... لَ لقيدوا طُرّاً بغير خزامِ كحسامٍ خبا سناهُ بغَمدٍ ... وسواهُ غَمدٌ بغير حُسامِ ولع الدهرُ بالغرائب والبخ ... تُ أحَلَّ الليوثَ تحت النعامِ أيُّها السَّيدُ الهُمام ومن يكف ... يهِ أن قيل فيهِ محمود سامي لك ذكرٌ قد طار في الشرق والغر ... بِ وفضلٌ أدناهُ فوق الهامِ هل تراهم أخفوا علاك وهل تخ ... في فِعالُ الليوث في الآجامِ ولعمري ذكاك مثلُ ذكاءِ ... هل تغيب الشموسُ طيَّ الغمامِ ولأنتَ الذي نشرتَ بذا الع ... صرِ قريضاً طوى أبا تمَّامِ من رواهُ ولم يخَلْ ربَّهُ قد ... عاصر الوحيَ والتقى بالتهامي أدَبٌ حزتَهُ وليس كذا الق ... سم من الحظّ سائرُ الأقسامِ

ولعمري مع ذاك أيُّ علاءِ ... لم تكن منهُ في الذّرى والسنامِ أخَّر الدهرُ منك شهماً تسامى ... أن ينال الجوزاءِ بالأبهامِ ولئن جزتَ عن وزارةِ أمرٍ ... لم تزل صدرَ دولةِ الأفهامِ إن صلاك الزمانُ حرباً عواناً ... فقديمٌ عدوانهُ للكرامِ ولعمري الذي دهاك أخيراً ... كان وقعَ السهام فوق السهامِ لا تَخَلْ كنتَ في الفجيعةِ فرداً ... كلُّ قلب لجرح قلبك دامِ قد سكبنا نظير شعرك دمعاً ... في نواحِ كنو وُرق الحمامِ إن بكينا فقد بكينا على حز ... نك والثُّكل أعظم الآلامِ والذي راح فليهنّأ على فر ... قة دارٍ ليست بدار مُقامِ هذه سنَّةُ الليالي فأدعو ... ك إلى الصبر سنِّةِ الإسلامِ شكيب أرسلان الشاعر والليل والطيف اللهَ في وجدٍ وفي مأملِ ... من لي بعود الزمنِ الأوَّلِ قد كنتُ أشكو عذَّلي في الهوى ... فصرت مشتاقاً إلى عذَّلي ملّلْتُ عذبَ اللوم جهلاً بهِ ... لو كنت أدري الحبَّ لم أملل ما أولعَ القلبَ بما يجتني ... وأفتنَ العينَ بما تجتلي أهفو لسهدي. ليتَ لي مثلَهث ... وليتني في ليلي الأليل إذْ أترك الأنجم في أفقها ... شوقاً إلى نبراسيَ المُشَعلِ وأُحكم الكَوَّةَ دون الصبَّا ... وأوصدُ البابَ على الشَّمأل واعتلي كرسيَّ مستكبراً ... كالمَلْكِ فوق العرشِ إذ يعتلي سيجارتي مشعلة في فمي ... ثم يراعي من على أنْمَلي

وقهوتي أبريقُها مُترَعٌ ... إذا أنا أفرغتهُ يمتلي في حجرةٍ كالقلب في ضيقها ... لو حُمّلَتْ غيري لم تحملِ تَسمعُ مني في سكون الدُّجى ... ما يسمع الروضُ من البلبلِ له يطيبُ اللّبثُ في عشه ... ولي يطيب اللبث في منزلي إنّا اقتسمنا الليلَ ما بيننا ... لهُ الكرى في الليل والسهد لي كتبي تناجيني فتمشي بها ... عيناي من شكل إلى مشكل ما بين أوراقٍ بها غضةٍ ... وبين أوراق بها ذبَّل يا خلواتٍ الوحي في تيهه ... ملأتِ قلبَ الشاعر المختلي سوانحي منكِ وفيكِ انجلت ... فأنزلي الآيات لي أنزلي يا طيفها لا ترتجعْ معجَلاً ... لا تُقْنعُ الزورةُ من معجل إني وحذي حجرتي مأتمنٌ ... فأنَسْ إلى صبك لا تجفلِ أُدنُ قليلاً قد أطلت النوى ... جُدْ مرةً بالله لا تبخل لو لم تكن تشتاقني نفسها ... يا طيفها ما كنتَ بالمقبل عيناك عيناها كذا كانتا ... والوجه ذاك الوجهُ لم يبدل أعرف لحظيها برغم النوى ... فكم أصابا قبل ذا مقتلي جسي بهذا الكفِ صدري ترى ... ما فيهِ من نار جوى موغل أظلَّني همٌّ فلم أنتبهْ ... إلا وقد أوغلتُ في المجهل إِن كان هذا ما دعوه الهوى ... فمثل هذا الليل لا ينجلي يا مهجتي يا جلدي يا صِبا ... إِن لم أمت وجداً فلا بد لي ولي الدين يكن

من زوايا الذاكرة وناضرة خفَّ فيها النسيمُ ... فخفَّ إلى قصدِها محملي هواءٌ أرقُّ من العاطفا ... تِ وماءٌ ألذُّ من السلسلِ تذكرتُ عاطفةَ المغرَمينَ ... فجاورتُ منعطف الجدولِ وآلمني مُجْتَلَي وَردةٍ ... تكادُ تذيبُ حشا المجتلي وذابلةٍ من بناتِ الحقولِ ... ولولا الظما قطُّ لم تَذبلِ أبخلُ الطبيعة أودى بها ... واشا الطبيعةَ لم تَبخلِ ستقطُفها بعد إهمالها ... يدُ الموتِ كالولدِ المُهْمَلِ حسدتُ الزهورَ لأن الزه ... ور كأخوان جامعةٍ مُثّلِ ومّما يُجدِّد ذكرى الهوى ... هوا بين أغصانها الميِّلِ فهذا يقولُ لذاك: اعتنقْ ... وذاك يُشيرُ لذا: قَبّلِ فما لبني جنسنا الأكرمين ... قد افترقوا كالمهى الجفّلِ يُبيدُ القويُّ حياة الضعي ... فِ ويودي المسلّحُ بالأعزلِ فأين , ودؤكم الاختلا ... فُ , أطباءُ دائِكُمُ المُعضِلِ فمرتفعون لأوج السماءِ ... وهارون للدَرَك الأسفلِ وأجبنُ من ضافرٍ في الحياةِ ... وأضرى من الأَسَد المُشبلِ ومظلمةِ ساد منها السَكو ... نُ بليلٍ بعيدِ المدى أليلِ بصرتُ بها تحتَ جنح الظ ... لامِ بأشباح ضامرة هزّلِ رمت بهم لمهاوي الشقاءِ ... يدُ الزمَنِ القلَب الحوّلِ فهم ينشدون نشيداً علي ... هِ ملامحُ حالهمِ المجملِ فكم نظر الناس من تحته ... م وهم ينظرون لنا من علِ محمد رضا الشبيبي

التدواي بالثمار

التدواي بالثمار العنب العنبُ ثمرٌ لذيذٌ ومفيد للصحة إفادة عظيمة , لأنهُ يحوي كثيراً من الأملاح المعدنية كالبوتاس والكلس والمنيزيا والحديد. وعلى ذلك يكون العنب عبارة من مزيج مياه معدنية مفيدة. ويُعَدُّ العنبُ من الأغذية المهمة , فهو يقوي العضلات ويسهل الهضم ويكثر الدم ويُنّقيه. ويستَعملُ العنب في أوروبا علاجاً لمن يُصابُ بسوء الهضم وتلبُّكٍ في المعدة أو احتراق في الأمعاء , كما يستَعملُ بنوعٍ خاصّ ضّد المغص والإِسهال والباسور , وغير ذلك. وقد قال بعض الأطباء الفرنسويين: إنّ العنب يُستعمَلُ كدواءٍ لالتهابِ الخصيتين , ولإفراز السموم , حتى أن الفُرْسَ إلى اليوم يصفونهُ للمسموم كعلاج نافع , كما يستعمله للغاية نفسها بعضُ أقوام الهندِ الصينية. ويقسم العنب إلى قسمين: العنب الأبيض , والعني الأسود وينضم إليهِ العنب الأحمر وتكثر الموادُّ المعدنية في العنب الأحمر والأسود , كما أن هذا الأخير يُنَبّهُ الأعصاب أكثر من الأبيض , ولذلك يُوصَفُ لمن أُصيب بفقر الدم وضعف القوى العضلية , في طوِر النَقَه , ويستعمَلُ العنبُ الأبيض لتسهيلِ الهضم والأدوار. أمَّا التداوي بالعنب فمدَّتُهُ لا تقلُّ عن ثلاثة أيامٍ , ولا تزيد عن سنة: ففي اليوم الأول يؤكل مقدار كيلو منه , ثم تزادُ هذه الكمّيةُ بالتدريج يومياً , إلى أن يكونَ مقدار التناول في اليوم الأخير خمسة كيلوغرامات. ويجبُ إجراءُ الرياشة البدنية في هذه المدة بواسةِ المشي لا أقلَّ من ساعة في الفلوات والحدائق لاستنشاق الهواء النقي الذي يكسب الصحة جودة. والمهم في هذا أن يكون العنب جديداً , كما يُشترَط أن يُغسَلَ جيداً حذراً ممَّا يعلق بهِ من الغبار والأوساخ التي لا تخلو منها حوانيت البائعين , فضلاً عن أن

قشر العنب قابلٌ لتخمُّرِ الميكروبات المتنوعة. ويجبُ طرح بزوره وقشوره عند الأكل. أمَّا إذا كان جديداً نظيفاً فلا حاجة لتقشيره إلا إذا القصد من تناوله تسهيل الهضم؛ فحينئذٍ يؤكل ببزوره وتطرح قشوره. وأكثر البلاد تعويلاً على المعالجة بالعنب , بلاد ألمانيا المشهورة بترقي فن الطب. ويُقال إنَّ اليونانَ والرومان الأقدمين استعملوا العنب علاجاً. وفي سويسرا وأوستريا مستشيفات خصوصية للمداوة بالعنب ويزداد عددُ المرضى الذين يَفِدون كلَّ سنةٍ إليها. ويجب ألاَّ ننسى أنَّ الفائدَة المطلوبة من التداوي بالعنب لا تتمُّ ولا تكمل إلا بالتنزّه واستنشاقِ الهواء النقي. ويقول بعض الأطباء إن لعصيرِ العنب أو شرابه في مداواة العلل هذا التأثيرَ عينهُ. ويجب شرب هذا الشراب قبل تناول القهوة بقليل. ويقولون إنَّ تناولَ قدَحٍ من شراب العنبِ يعدل أكل 200 - 400 غرام منهُ. ويجب حفظ هذا الشراب في آنية نظيفة تحفظ في أماكن خاليةٍ من الرطوبة ويرتئي بعضُ الأطباء أن يُسَّخنَ هذا الشرابُ في حمام مريم قبل شربهِ , فيكون تأثيرهُ أشدَّ وأعظم. وقد عم استعمال هذا الدواء في أوربا كلها , والكثيرون يستعملونه علاجاً شافياً لكثير من الأمراض المزمنة. حب التوت الشامي اكتشف الأطباءُ مؤخراً علاجاً الأوروبيون أعظم علاج وجد من الثمار وهو حب التوت الشامي وقد جرَّبهُ مكتشفه لمداواة المسلولين , فكان النجاحُ إليفه. وهو يقول: إنّ لشرابِ التوت هذا التأثيرَ نفسه. وقد بيَّنَ ذلك المسيو بورت والمسيو رمولن الكيماويان الشهيران بتحليلهما حب التوت تحليلاً كيماوياً , فوجدا أن في هذا الثمر المفيد قليلاً من حمض السالسيليك الذي يجعلُ لهُ رائحةً لطيفةً عند نضجه. ويفيد حبُّ التوت لمداواة الأمراض الروماتيزمية؛ ويُستعملُ أيضاً في أوربا نوع من حبّ التوت يأتي من

جبال سافوى لمن أصيبوا بهذا الداء. والسببُ في انتخابهِ من تلك الجبال أنّ التوتَ هنالك يحوي كثيراً من حمض الساليسيليك بدليل جودة رائحتهِ ولذة طعمهِ. ويؤكدُ كثير من الأطباء أنّ حبَّ التوتِ يُفيدُ النزلة الصدرية كما يشفي المصابين بالسلّ الرئوي على ما المعنا سابقاً. وما السلُّ الرئويُّ إلاّ نزلةٌ صدرية تفاقم أمرها. وقد شهد أمهرُ الأطباء في هذا العصر بفائدةِ هذا الثمر ومثل هذه الأمراض , وقالوا إنهُ الترياقُ الشافي. وقد نقل لنا التاريخ عن المحقق فونتل أنّهُ كان يُحبُّ حَبَّ التوتِ كثيراً فكان لا يمرُّ بهِ يومٌ دون أن يتناولَ بقدرِ ما يتيسَّرُ لهُ. وقد قيل إنّهُ كان مريضاً ذات يومٍ , فزارهُ بعضُ أصدقائه , وسأله أحدهم قائلاً: كيف صحتك اليوم يا فونتل؟ فأجابهُ هذا على الفور: ليست جيدة يا عزيزي. إن آلام الأمراضِ قبل حلول أوان الصيف ومجيء موسم حب التوت. وكان يعتقد أن حب التوت سبب تعافيه وطول حياتهِ. أما التداوي بحب التوت فهو يُشبه التداوي ببقية الثمار. ويُشترطُ في أكلهِ أن يكونَ , والمِعدَةُ فارغةٌ , لئلاّ يضرَّ ويُسبّبَ سوء هضم لبرودته. ووقت الصباح أحسن الأوقات لتناوله لأَن المعدة تكونُ فارغةً. وهو لا يغسل بالماءِ لئلاّ تذهب رائحتهُ للطيفة , غير أنهُ يجب الاعتناءُ بقطفه وأن يكون نظيفاً ويترك بعقبه. أما المصابون بالأمراض الجلدية كالجرب والزهري الخ فليتجنبوا حبَّ التوت كلَّ التجنُّبِ , لأنّهُ يزيدُ الداءَ شدةً بتكثيره المادة في الجلد. الليمون الحامض وما قلناه عن حبّ التوت نقولُهُ عن الليمون , فهو يُفيد في أمراض الحلق والنوبات العصبية الخفيفة والإِغماءِ. والليمونُ أكبرُ مضادّ لتعفُّنِ

الأمعاءِ , كما أنهُ يفيدُ المصابين بالهيضة الكوليرا والصفراء والبلغم وأمراض الكَبِد وقد شهد طبيبٌ شهيرٌ أنَّ الليمون علاجٌ مفيدٌ للمُصابِ بعلة هي من نوع علل الروماتيزم وانتشر استعمال الليمون علاجاً لهذه الأمراض في ألمانيا وسويسرا ونتج عن استعمالهِ نتائج مفيدة نافعة. واقتصر المُصاب على تناول 175 - 200 ليمونة بك المدة. والتداوي بالليمون يجري على طريقة التداوي بالعنب , أي أن يُخذَ في اليوم الأول مقدارٌ قليل , فيزداد يوماً فيوماً؛ ثم متى حصل الشفاء التامُّ يتناقص رويداً رويداً. ولقائل أن يقولَ: ألا يحصل ضررٌ من أكل مقدار كثير كهذا من الليمونَ لا يؤثِّر في الهضم ِإلا تأثيراً خفيفاً نافعاً وأما تأثيره في الأسنان فقليلٌ جدّاً لا يُعتَدُّ بهِ , فضلاً عن أنَّ الوسائط اللازمة في ذاك الوقت تمنع كل ضرر. أما طريقة المداواة فإليك بيانها: يأكل المصاب في اليوم الأَول ليمونةً واحدةً , ويشرب في اليوم الثاني عصيرَ ليمونتين , وفي اليوم الثالث أربع ليمونات وفي اليوم الرابع ست , وفي الخامس ثماني , وفي السادس إحدى عشرة , وهلم جراً حتى اليوم العاشر فيشرب عصير خمس وعشرين ليمونة على دفعات متوالية , ثم تنقص الكمية كما تزايدت , ولا بأس من مزج عصيره بقليل من السكر لتسهيل تناوله. وسنعودُ في فرصة قريبة إن شاء الله إلى ذكر فوائد غير ما تقدم من الأثمار. أنطاكية نقولا كي عبد المسيح شكري

في حدائق العرب

في حدائق العرب ظهر في الشهر الغابر كتابٌ عنوانه حديقة الزهر وضعهُ باللغة الفرنسية حضرة الأديب واصف بك بطرس غالي , ضمنهُ بحثاً شائقاً في الشعر العربي وأنواعهِ وأساليبهِ , مع ترجمة مقطوعاتٍ شعرية منهُ. فقابل الفرنجُ هذا الكتاب بالارتياح لأنَّهُ عرَّفهم بشاعرية قومٍ لهم في عالم الخيال المقام الأرفع. ومن جملة ما ترجمهُ واصف بك الحادثة الآتية نرويها لقرّائنا في أصلها العربي , لما فيها من بلاغة الوصف وجمال الأسلوب: بشر بن أبي عوانة والأسد كان بشر بن أبي عوانة العبدي صعلوكاً: فأغار على ركب فيهم امرأةٌ جميلة , فتزوَّج بها , ما رأيتُ كاليوم. فقالت: أعجب بشراً حَوَرٌ في عيني ... وساعدٌ أبيضُ كاللجينِ ودونُهُ مسرحُ طرف العينِ ... خمصانةٌ ترفلُ في حجلينِ أحسن من يمشي على رجلينِ ... لو ضمَّ بشرٌ بينها وبيني أطال هجري وأدام بيني ... ولو يقيس زينها بزيني لأسفر الصبحُ لذي عينينِ قال بشر: ويحك من عنيت؟ فقالت: بنت عمك فاطمة. فقال: أهي من الحسن بحيث وصفتِ؟ قالت: وأكثر وأزيد , فأنشأ يقول: ويحك يا ذات الثنايا البيضِ ... ما خلتني عنك بمستعيضِ فالآن إِذ لوَّحتِ بالتعريضِ ... خلوتِ جوّاً فاصغري وبيضي لا ضُمَّ جفناي على تغميضِ ... إِن لم أشل عرضي من الحضيضِ

ثم أرسل إلى عمّهِ يخطب ابنته , ومنعهُ العمُّ أمنيته , فآلي ألاَّ يرعي على أحدٍ منهم , إِن لم يزوّجه ابنته. ثم كثرت مضرَّاته فيهم , واتصلت مضرَّاته إليهم. فاجتمع رجال الحيّ إلى عمه وقالوا: كفَّ عنا مجنونك. فقال: لا تلبسوني عاراً , وأمهلوني حتى أُهلكه ببعض الحِيَل. فقالوا: أنت وذاك. ثم قال له عمه: إني آليت أن لا أزوّج ابنتي هذه إِلاَّ ممن يسوق إليها ألف ناقةٍ مَهراً , ولا أرضاها إِلاَّ من نوق خزاعة. وغرض العم كان أن يسلك بشر الطريقَ بينهُ وبين خزاعه , فيفترسهُ الأسد. لأنَّ العرب قد كانت تحامت عن ذلك الطريق؛ وكان فيه أسدٌ يسمَّى داذاً , وحية تدعى شجاعاً , يقول فيهما قائلهم: افتكُ من داذٍ من شجاعِ ... إن يكُ داذٌ سيدَ السباعَ فإنها سيّدةُ الأفاعي ثم إِنَّ بشراً سلك ذلك الطريق , فما نصّفه , حتى لقي الأسد , وقمص مهره , فنزل وعقره. ثم اخترط سيفهُ إلى الأسد , واعترضه وقطَّهُ , ثم كتب بدم الأسد على قميصه إلى ابنة عمه قصيدته المشهورة التي مطلعها: أفاطِمَ , لو شهدتِ ببطن خبتٍ ... وقد لاقى الهزبرُ أخاك بشرا فلمَّا بلغت الأبياتُ عمَّهُ , ندم على ما منعهُ من تزويجها , وخشيَ أن تغتالَهُ الحيةُ , فقام في أُثره وبلغه وقد ملكتهُ سورة الحية. فلمَّا رأى عمه , أخذتهُ حمية الجاهلية , فجعل يدَهُ في فم الحية , وحكّم سيفه فيها فقال: بشر إلى المجد بعيد همهُ ... لما رآه بالعراءِ عمهُ قد ثكلته نفسهُ وأمه ... جاشت بهِ جائشةٌ تهمهُ

قام إلى ابن للفلا يؤمه ... فغاب فيهِ يدُهُ وكمهُ ونفسه نفسي وسمي سمهُ فلما قتل الحية , قال عمه: إني عرَّضتك طمعاً في أمرٍ ثنى الله عناتي عنهُ , فارجع لأزوَّجك ابنتي , فلما رجع جعل بشر يملأ فمه فخراً , حتى طلع أمرد كشقّ القمر على فرسه مدجّجاً في سلاحه. فقال بشر: يا عمّ إني أسمع حسَّ صيد. وخرج فإذا بغلامٍ على قيد فقال: ثكلتك أُمك يا بشر , إِن قتلت دودة وبهيمةً تملأ ما ضغيك فخراً؟ أنت في أمان أن سلَّمت عمك. فقال بشر: من أنت لا أم لك؟ قال: اليوم الأسود , والموت الأحمر. فقال بشر: ثكلتك من سلحتك قذفت بك من بطنها فقال: يا بشر ومن سلحتك أيضاً. وكرَّ كلُّ واحدٍ منهما على صاحبه , فلم يتمكن بشرق منهُ وأمكن الغلام عشرين طعنةً في كلية بشر , كلما مسَّهُ شبا السنان حماه عن بدنه أبقاءً عليهِ. ثم قال: يا بشر كيف ترى أليس لو أردتُ لأطمعتُك أنياب الرمح؟ ثم ألقى رمحه واستلَّ سيفهُ فضرب بشراً عشرين ضربة بعرض السيف , ولم يتمكَّن بشرق من واحدة. ثم قال: يا بشر سلّم عمَّك واذهب في أمان. قال: نعم ولكن بشريطة أن تقول لي من أنت. قال: أنا ابنك. فقال: يا سبحان الله ما قارنتُ عقيلةً قط , فإني لي هذه المنحة؟ فقال: أنا ابنُ المرأة التي دلَّتك على ابنة عمك. فقال بشر: تلك العصا من هذه العصية ... هل تلد الحيةَ غيرُ الحية وحلف لا ركب حصاناً ولا تزوَّج حصاناً , ثم زوج ابنة عمه لابنه.

أبو العلاء المعري

أبو العلاء المعري ثِقةَ الدهورِ وحجَّةً الأزمانِ ... خذْ من بيانِكَ ذمّةً لبياني أُعيي القريضَ فإنْ بلغتُكَ خانني ... قَلمي وعيَّ عن المقالِ لساني وعت القياصرَ والملوكَ وراعني ... ما فيك وحدَك من جلال الشانِ لكَ في الملوك الخالدين على البلى ... أسمى العروشِ وأُمنُ التيجانِ تهوي الأسرَّةُ والمماليكُ تنقضي ... وسريرُ ملككَ راسخُ الأركانِ ملكٌ عليهِ من الخلود سرادقٌ ... فخمٌ يهابُ جلاَلهُ الملَوان تهوي جبابرةُ الخطوبِ حيالهُ ... صرعى منكّسةً على الأذفانِ وترى الدهورَ إذا مررنَ بساحهِ ... فوضى الخُطى يعثرنَ بالحَدثانِ يدلفنَ من كبرٍ وفرط كهولةٍ ... وشبابُ مجدكَ دائمُ الرَّيعانِ تبني العقولُ وترفعُ الأيدي وما ... يسطيعُ شأوَكَ رافعٌ أو بانَ صدع الزلازلَ ما بنيتَ وهدَّها ... ما للزلازلِ بالبروجِ يدان أدركتَ أسرارَ الوجود وجُزتها ... ترتادُ أسرارَ الوجودِ الثاني تدنو فتبعدُ والمخاوف جمَّةٌ ... والحجبُ شتَّى والحتوفُ دوانِ تهتاج إن ومضت فإن هيَ أمسكتْ ... زادتكَ أشجاناً على أشجانِ صانعتَ شاردّها فقلنا عاشقٌ ... طربٌ يصانعُ شاردَ الغزلانِ وشكوتَ هاجرَها فقالوا كاشحٌ ... ظلموكَ! تلكَ سجيةُ الولهانِ

جهلوا مرادَك , والعقولُ مراتب ... والناسُ بالألباب والأذهانِ أكبرت رزَء العقلِ حينَ رأيتهُ ... رهنَ العمى وغضبت للإنسانِ تجري الأُمورُ وليس يعلمُ كنهها ... وهو المراد بهذهِ الأكوانِ ويقالُ أعمى في الحياةِ وبعدَها ... والدينُ والدنيا لهُ عينانِ كلٌّ له ذكرى وكلٌّ عبرةٌ ... تجلو اليقينَ وصادقَ الإيمانِ فلئن حجبت عن الغيوبِ فإنها ... لله ذي الجبروتِ والسّلطانِ أعلى لكَ الغرُفاتِ يومَ لقيتَهُ ... وحباك ما تبغي من الرضوانِ فرأيتَ منزلَهُ العظيمَ وأجرهُ ... وحمدت عُقبى العلم والعرفانِ شغفت بكَ الدنيا تُريدك دامقاً ... وشغفت بالإِعراض والهجرانِ تجلو زخارفها فتُغمضُ دونها ... عينَ الحكيم وتنثني بأمانِ فتنت محاسنها العقولَ ولم تزل ... في حيرةٍ من عقلكَ الفتانِ صارمتها وكشفتَ عن سوآنها ... ليُفيقَ مختبلٌ ويقصرُ عانِ وصددت عن صلفِ الملوكِ وكبرهم ... متعالياً عن ذِلّةٍ وهوانِ أغناكَ عن آلائهم وهباتهم ... أنَفُ الشريفِ وعفّةُ المتغاني ورضيتَ بينكَ هازئاً بقصورهم ... وجليلِ ما رفعوا من البُنيانِ بيتٌ أناف على الكواكب رفعةً ... فدنا يمسّحُ ركنَهُ القمرانِ لم يحكهِ كيوانُ في عليائهِ! ... بيتُ الحكيمِ أجلُّ من كيوانِ لو رُدَّ كسرى أو تأخرَ عصرُهُ ... فأذنتَ , حجَّ إليكَ بالإيوانِ لو كنتما منّي بحيثُ أراكما ... لَلثمتُ تربَكما إذاً فشفاني فحمدتما في الظالمين ضراعتي ... ورفعتما في الخالدينَ مكاني

خيرُ المناسك حلَّ حيث حللتما ... للناسكين وأنتما الحرَمانِ أوتيتَ من أخلاقِ ربِّكَ رحمةً ... لم يُؤتها بشر وفرطَ حنانِ أشفقتَ من وطءِ التراب على الأُلى ... غالَ الترابُ وكلُّ حيٍ فانِ يمشي الفتى يختالُ فوقَ رفاتهم ... جذلانَ فعلَ الشاربِ النشوانِ الجوُّ أرواحٌ تفيضُ وأنفسٌ ... والأرضُ من رمُمٍ ومن أكفانِ عفتَ الأذى ونهيتَ عن مكروههِ ... وأمرتَ بالمعروفِ والإحسانِ ورحمتَ حتى الوحشَ في فلواتها ... وحميتَ حتى الطيرَ في الأوكانِ ورثيتَ للشاكين من بلوائهم ... فحملتَ ما حملوا من الأحزانِ ومسحتَ دمعَ النائحاتِ معزياً ... فكففنَ عن نوحٍ وعن إرنان ونسينَ من هولِ الفجائع ما مضى ... وسلَونَ بعد تعذّر السلوان شرعٌ بعثتَ بهِ ودينٌ لم تقمْ ... فيهِ لغير الواحدِ الدّياّنِ بوركتَ في دينِ المسيح وأحمدٍ ... ومُدحتَ في الأنجيل والقرآن الشرقُ معتزٌ بفضلكَ معجَبٌ ... والغربُ مغتبطُ بذكرك هاني بإملاء بحكتكَ المسامعَ والنُهى ... واحكْم فما شيءٌ سوى الإذعانِ ما زلتَ من قبلِ المماتِ وبعدهِ ... شيخَ النُهى وحكيم كلّ زمانِ الأرضُ حافلةٌ كعهدِكَ بالأذى ... والناسُ فوضى والحياةُ أماني أحمد محرم

ضرب زيد عمرا

ضرب زيدٌ عمراً مسكين زيدٌ وعمروٌ فإِنهما ما زالا منذ سيبوَيْه يتضاربان ويترافسان إكراماً لساداتنا النحاة. فتارةً يكون زيد ضارباً وطوراً يكون مضروباً. لي صدي من العلماء المستشرقين أنفق السنين الطوال في درس اللغة العربية والإطلاع على شواردها وضوابطها. دخلتُ عليهِ ذاتَ يوم فرأيتُ وجهه يطفح بشراً وهو يقول: الحمد لله! الحمد لله! فقلت: ما الخبر؟ فقال: لقد أخذ عمروٌ بثأره فقلت: وكيف ذلك؟ فأجاب: لقد أنفقتُ عشرين عاماً وأنا أدرس كتب النحاة وأطالع مؤلَّفات الأئِمَّة فلم أجد مثالاً للفاعل والمفعول إلاَّ قولهم ضرَب زيدٌ عمراً وقد عثرت الآن على مَثلٍ جديد وهو قولهم ضرب عمروٌ زيداً فالحمد لله لأن عمراً أخذ بثاره من زيد فضربهُ ولو مرَّة واحدة في الحياة في كلام هذا العالِم حكمةٌ سامية. فإن الشرقيين يتقاتلون ويتضاربون كتضارب زيدٌ وعمروٍ في كتب النحاة. وما ذلك المثال إلا دليل على الطباع والأخلاق. يبدأ الأوربي أجروميته بتصريف فعل أحبَّ. ويبدأ الشرقي

أجروميته بتصريف فعل ضرب أو قتل. ذلك يتمرَّن على الحب وهذا يتمرَّن على الضرب والقتل. فيحق للأوربي والحالة هذه إذا أراد أن يتعلَّم الصرف العربي أن يتقلَّدَ سيفه وترسه اتقاءً شرّ المضاربات بين زيد وعمرو. رحم الله سيبويه! ما ضرَّهُ لو أنهُ أَبدل فعل ضرب بفعل أحبَّ أو غيره من الأفعال التي لا تضطرّ القارئ أن يحمل دروعه وأسلحته؟ ألم يكن في قاموس غير ذلك المثل الشؤوم؟ حقّاً لو أراد عمروٌ أن يتقاضى زيداً أمام المحاكم لظلَّ القضاة ينظرون لأمر لهما بمعالجة أربعين عاماً. ولو عددنا الجروح التي في رأس كل منهما لاحتجنا إلى جيش من الكتبة والحاسبين. ولو استشهدنا سيبويه ونفطوَيه لشهدا على كلٍّ منهما بالاعتداء على رفيقهِ. أفما كان الأجدر بقاضي الصلح أن يصلح بينهما ويعيد الأمن إلى نصابه بين عائليتهما حفظاً للراحة العمومية؟ في كتب النحو أمثلة أخرى تدل على طباعنا. من ذلك قولهم مات زيد وهو وايم الله لا يزال حيّاً يُرزق يضرب عمراً من جديد. وقد ازرَقَّ عمروً وعُقِر من شدَّة الضربات والرفسات. وزاد الطين بلَّةً أن جمعية الإسعاف أهملتهُ ولم تشفق عليهِ. فوا رحمتاه على عمرو! إنهُ لن يخلص من ضربات زيد ولو مات زيدٌ عشرين مرَّة في كتب النحاة.

إذ لا تكاد تسمع نعيَّه حتى يعود إلى الحياة ويستأنف ضرب عمروٍ. فهو كالسنَّور له سبعة أرواح. ومن أمثلة النحاة أيضاً - أو بالحري علماء الصرف - قولهم: أحوَل وأعرج وأقطع إلى غير ذلك من الأمثلة التي لم تكن تبرح من فكر سيبويه. ولو جمعنا جميع أصحاب العاهات الذين أحيا النحاة ذكرهم لضاقت بهم الأرض والسماء. ولعلَّهم أُصيبوا بعاهاتهم من جرَّاء ضرب زيدٍ لعمروٍ وغيره. ومن البليَّة أيضاً قول ساداتنا النحاة إِن أمثال الأحوال والأعوَر والأعرج لا ينصرفون. فسيظلون يلازموننا إلى أن يقوم رجل أشدّ بطشاً من زيد , فيبطش بهم كما بطش هذا بعمروٍ , ويُريح تلاميذ المدارس منهم. سامحك الله يا سيبويه! ومن البليَّة أيضاً أنَّ النصب عند النحاة حالة من حالات الإعراب. ومثلها الخفض أيضاً. وقد يرفعون من لا يستحق أن يُصفع بالأحذية. فإذا قُلنا سرق زيدٌ مال عمرو قالوا يجب رفع زيد , لأنهُ ارتكب جناية فعل السرقة ويجب خفض عمرو , لأنهُ الشخص المسروق منهُ. ما شاء الله كان!. . . أيُرْفَعَ زيدٌ ويُعلَى شأنهُ لأنهُ سَرق , ويُخْفَض عمرو وتُداس حقوقه

حكم للإمام علي

لأن زيداً سرَق منهُ؟ فيا لله من هذا الظلم والاستبداد! ألم يكن في وسع النحاة أن ينصفوا عمرواً ولو مرة وحدة في الحياة؟ حاشية - بمزيد السرور وعظيم الابتهاج وننعي إلى طلبة الصرف والنحو حضرة الشيخ عمرو , عدوّ زيد. وجار بكرو ونسيب نفطويه. انتقل من الديار الفانية بعد عمر قضاه في احتمال الضربات من عدوّه زيد وقد أسلم الروح فراح شهيد النحاة على أثر الجروح المميتة التي أُصيب بها على أُمّ رأسه. فانصرف مع أنهُ كان أعوَر. والتمست جمعية الشفقة على الحيوانات من عدوّه زيد أن لا يلحق به إلى دار الخلود. وسيُحتفل بتشييع جنازته من دار نفطويهَ إلى قبر سيبويه ليُدفَنَ معهُ وتستريح عظامه الموضوضة. وسيثنْقَش على ضريحهِ: ضرب زيدٌ عمرواً. . . سليم عبد الأحد حِكَم للإِمام علي من وَضَعَ نَفْسَهُ مواضِعَ التُّهمَة فَلاَ يلومَنَّ مَنْ أسَاءَ بهِ الظنَّ النَّاس أعْداءُ ما جَهلُوا آلَةُ الرّئاسَةِ سَعَةُ الصّدْرِ ما اختْلَفَتْ دَعْوَتَانِ إِلاّ كانَتْ إحْدَاهمَا ضَلاَلة مَنْ لَمْ الصّبرُ أهْلَكهُ الجَزَعُ

فكاهة

فكاهة كان رجلٌ يكثرُ الطعامَ على العشاء , فإذا نام غطَّ غطيطاً هائلاً , وشخر شخيراً متواصلاً , فيقلق زوجتهُ , فتوقظهُ ليُغيّر ضجعتهُ ويريحها من غطيطه , فكان يغضب ويجادلها قائلاً: ما أنا غططتُ وشخرتُ , بل أنتِ فتصمتُ , وتصبرُ على مصيبتها حتى عيل صبرها وفارقها جلدها. فعمدتُ أخيراً إلى حيلةٍ تحجُّهُ بها , وتقنعْهُ عساهُ أن يُقَلّلَ من نهمتهِ , ولا يغطّ في نومهِ. فجاءَتهُ ذاتَ يومٍ , وبيدها الفونوغراف , وأدارتهُ وقالت: أتعلم ما هذا الصوت؟ فقال: هديرُ البعير , بل نهيقُ الحمير , لا بل قباعُ الخنزير , بل مواءُ السنانير , بل طنين الزنانير. وكان كلما أدارت مرّةً , غيَّر حكمهُ في الصوت؛ وهي تقول لا حتى ضاق صدره. فقال: قولي لي ما هو , وأريحيني , من هذه الأصوات المنكرة التي تملأُ الجسمَ رعدةً وقشعريرة. قالت: هذه أصواتُ شخيرِكَ التي صبرتُ عليها الأعوامَ , ولم تصبر عليها أنتَ لحظةً من الزمان. فقد وضعتُ الفونوغراف فوق رأسك وأنتَ نائمٌ , فدوَّنَ ما أنتَ سامع. فإِذا أيقظتُك بعد الآن , فاترك الحِجَاجَ والجدال , وارثِ لحالتي , واطلب إلى اللهِ أن يُصبّرني على مصيبتي. فسكتَ خجلاً , ثمَّ أطرقَ هُنيهة وقال: اثنان لا بّدَّ من تركها: النهمةُ على العشاء , ومجادلة النساءِ

أزهار وأشواك

أزهار وأشواك اللغة والأسرة والحكومة في مصرَ اليومَ مسائل ثلاث تشغلُ الرأي العام: اللغةُ , والأُسرةً , والحكومة. لا يحسُنُ بي أن أدّعها تمرُّ دون أن أقول فيها كلمتي. سأضطرُّ على الإيجاز , ولن أُحاول استيعاب الموضوع , لأن كلَّ مسألة من هذه المسائل تُعَدُّ من العُقَدِ الاجتماعية التي لا يسهلُ حلُّها: باتَتْ لغتنا في حاجةٍ قصوى إلى الإصلاح , ولم يبقَ بالإمكان الجمود بها على ما كانت عليهِ حيال النهضة الحديثة التي بدَت طوالعُها. ولقد تنبَّه الخواطرُ إلى هذا الأمرِ على أثر المنشورات التي أصدرتها نظارةُ المعارف , فتراجع صداها في صحفنا اليومية , وتناولتها أقلام الكتَّاب بين منتقدٍ ومقرّظٍ. دار البحث أوَّلاً على مسألة الكتب المدرسية ووجوب ضبطها بالشكل لكي يعتاد التلاميذ منذ حداثة سنّهم , تقويمَ لسانهم وفصاحة نطقهم. ولا يخفي ما للشكل في اللغة العربية من الأهمية ليستقيم المعنى ويتمَّ المقصود؛ وكم من مرَّةً نقرأُ الجملةَ على صورةٍ معيَّنةٍ حتى إِذا ما وصلنا إلى آخرها وأحطنا بها , نجدُ أننا أسانا تلاوتها على نحو ما تلوناها أوَّلاً. فنردّد حينئذٍ ما كان يقول المرحوم قاسم أمين كلُّ لغةٍ تُقرَأُ لتُفْهَم , , إِلاَّ اللغة العربية , فإِنها تُفْهَم لتُقرأُ أُورِدُ مثلاً على ذلك جملةً قرأتُها في إِحدى المقالات التي كُتَبِتْ في هذا الموضوع , وهي حسن

صرف المال في وجوه الخير فيمكنك أن تقرأها على وجوه مختلفةٍ لتجرُّدها من الحركات فتقول: 1ً - حَسَنق صَرْفُ المالِ في سبيل الخير , أي محمود 2ً - حَسُنَ صَرْفُ المالِ في سبيل الخير , أي جَمُلَ 3ً - حُسْنُ صَرْفِ المالِ في سبيل الخير , أي جمال 4ً - حَسِّنٌ صَرْفَ المالِ في سبيل الخير , بمعنى الأمر 5ً - حَسَنٌ صَرَفَ المالَ في سبيل الخير , أي سي حسن هو الذي صرف المال 6ً - حَسَنُ! صَرّفِ المالِ في سبيل الخير , إذا ناديت حسناً وأمرتهُ 7ً - حَسَنُ! صُرِفَ المالُ في سبيل الخير , إذا ناديت حسناً وأخبرتهُ عن صرف المال وفي هذا كفاية على أهمية الشكل في اللغة أما المسألةُ الثانيةُ فهي مسألة الأُسرة , دار عليها البحث بمناسبةِ الحربِ القلمية التي أثارها إِنشاءُ جمعيةٌ في مصر لتحرير المرأة , وخوض الكتَّاب في مسألة الحجاب والسفور. قال فريقٌ لا سبيل إلى إصلاح الأمَّة إلاَّ بإصلاح الأسرةِ , ولا تصلحُ الأسرة إلاَّ بصلاح المرأةِ , ولا تصلح المرأة إلاَّ إذا رفعت الحجاب واشتركت مع الرجل في الحياة ورافقتهُ في نزهاتهِ ورياضاتهِ بدلاً من أن يرتادَ الأندية العمومية فيجالس أساتذة السهر وفلاسفة اللهو والملذَّات.

وقام فريقٌ ثانٍ بالويل والثبور , وعظائم الأمور , ويستنزل اللعنات على دُعاة السفور , صارخاً بهم يا لثارات الدين والقومية! مكانكم أيها السفهاء! فو اللهِ ما دعا دعاةٌ إلى شرِّ مما دعوتم , ولا تحركت الألسن بأسوأِ مما تحرَّكت بهِ ألسنتكم , ولا جرت الأقلام بأضرّ مما جرت بهِ أقلامكم , فليت ألسنتكم عُقِدَت , وأقلامكم قُصِفَتْ. هذا بعض ما اتحفنا بهِ الجرائد في هذا الموضوع. والغريب العجيب إن سيداتنا - وهنَّ موقداتُ نار هذه الحرب - لم يُبدينَ رأياً , ولا رفعنَ صوتاً , ساعة نرى أخواتهنَّ الغريبات في هذهِ الآونة يُزَاحمنَ الرجال , ويطالبهم بما يريد الرجال أن يُريحوهنَّ من متاعب هذه الحياة. أمَّا المسألةُ الثالثةُ التي شغلت صحافتنا وكانت موضوع أحاديثنا , فهي مباشرة الانتخابات للجمعية التشريعية التي حلّت محلّ مجلس شورى القوانين. لستُ أُريدُ الخوضَ في ما إِذا كان هذا التغيير يُعَدُّ تدرُّجاً نحو السلطة النيابية , فليس ذلك من شأني. وقد عرف القراءُ من جهةٍ ثانية نتيجة الانتخابات الأولية , وقرأوا البروجرامات السياسية التي عرضها المرشَّحون على الرأي العام , وسنعرف عن قريبٍ أسماء الذين يقرُّ قرارُ الأمة على انتخابهم لتمثيلها. إِنما الأمرُ الذي أسفنا لهُ , هو إِغضاءُ الكثيرين عن الانتفاع بحقّهم في الانتخاب. قرأَ الغيرُ , كما قرأتُ , خبرَ ملكِ إيطاليا وكيف أنهُ اشترك في الانتخاب إلى لمجلس النواب في بلادهِ منذ شهرٍ , فإنهُ ذهب بنفسهِ إلى دائرة الانتخاب التابع لها ورمى ورقتهُ في الصندوق كأحد أفراد رعيّتهِ. في هذا مثالٌ جميل , وقدوةٌ حسنة.

مَنْ كَتَبَ سَوفَ يكتبُ يقولُ الإفرنج في أمثالهم من شَرِبَ سوف يشرب إِشارة إلى أن مُدْمِنَ الخمرة لن يُقلعَ عنها. ويصحُّ إِن نقولَ من كتبَ سوف يكتب بمعنى أنَّ مُدمِنَ الكتابةِ لن يكسرَ قَلَمهُ. والصحافة هي إِدمانُ الكتابة فمن زاولها مدَّةً , وذاقَ حلوها ومُرَّها لن يعرف أن يعيش بعيداً عنها. والأمثلة على ذلك كثيرة. عَلِمَ القرَّاءُ أن اسكندر أفندي شاهين الصحافي المعروف قد ودَّع الصحافة يوم غادر الديارَ المصرية قاصداً البلاد البرازيلية لتَعَاطي التجارة فيها , بعد أن خدم القلَمَ بأمانةٍ وإِخلاص مدَّةً ربع قرنٍ. وقد أقام لهُ يومئذٍ زملاؤُهُ حفلة لتوديعهِ , وتمنى عليهِ الكثيرون ألاَّ يهجر الكتابة هجراً تامّاً , لأنَّ لهُ في ميادينها جولاتٍ صادقة , وكنت بين المشتركين في الحفلة , فتبسَّمت لدى سماعي التعبير عن هذه الأمنية , لأنَّهُ كان قد بلغني أن الصديق اسكندر قد وَضَعَ في حقيبةِ سفرهِ كليشة حفرها في مصر باسمٍ جريدةٍ قد يُصدرها في البرازيل. ولم تلبث الأيام أن جعلت الظنَّ حقيقة , فقد حمل إلينا البريد منذ أسبوعين رزمةً من أميريكا الجنوبية , ففضضتها , وإذا فيها جريدةٌ يومية بثماني صفحات عنوانها أميركا وأبحاثها متنوّعة لذيذة , وعبارتها منسجمة طليّة , وهي لصاحبها ومحرّرها اسكندر شاهين. فأيقنتُ أنَّ من كتبَ سوف يكتب وتمنّيتُ لأميركا نجاحاً وخيراً كثيراً. حاصد

ثمرات المطابع

ثمرات المطابع مصر الجديدة - لم يبقَ أحدٌ في مصر لم يسمع باسم رواية مصر الجديدة أو لم يقرا عنها شيئاً في الصحف اليومية , إِذا لم يكن قد توفَّق إلى حضورها. وهي الرواية التمثيلية التي وضعها الكاتب المعروف فرح أفندي أنطون منشئ الجامعة ورئيس تحرير المحروسة الغراء , وقد مثّلها جوق أبيض في الأوبرا خلال الشتاءِ الماضي , فكان الإِقبالُ عليها عظيماً. جاءَتنا هذه الرواية مطبوعةً فطالعناها بلذةٍ لا تقلُّ عن لذّة مشاهدتها على المسرح لما تضمنتهُ من الآراءِ الاجتماعية والعظات البليغة والأبحاث النفسية في أحوال الشرقِ عموماً , وحالة مصر على الخصوص , بقالبٍ روائي لطيف. الأمراض المعدية - للدكتور العالم الفاضل عزتلو محمد عبد الحميد بك طبيب مستشفى قليوب فضل لا ينكر على اللغة العربية؛ فقد وضع بها أكثر من أربعة عشر مؤلفاً في الطبّ كانت خلواً منها؛ وأتحفتها اليوم بكتابٍ نفيس في الأَمراض المعدية فجاءَ حلقة جديدة في السلسلة الذهبية التي صاغها من قبل. وفي هذا المؤَلف أبحاث مفيدة جدّاً في الأمراض التي تنتقل من المريض إلى السليم بواسطة الهواء أو الماء أو الحشرات أو الطعام أو الشراب أو الملامسة وفي طريق الوقاية منها مما يحسن بكل

قارئٍ أن يقف عليهِ ويستفيد منهُ. أننا نتمنى أن يكون في كلّ بيت مكتبة وأن تزدان كلّ مكتبة بمؤلفات هذا النطاسي الفاضل. تقويم البشير - هو أوفي تقويمٍ يصدرُ باللغة العربية من حيث الإتقان ودقة المعلومات وتنوّع الأبحاث وضعهُ حضرة العالم الفاضل الأَب لويس معلوف مدير جريدة البشير وصاحب قاموس المُنجِد وضِمنَّهُ كلّ ما يُقال عن تواريخ السنة مع فوائد كثيرة في الجغرافية والتاريخ والمالية والفلك والصحة وآداب اللغة. ويزيد هذا التقويم إتقاناً سنةً فسنةً , حتى يصحَّ أن يقال إِنهُ يتدرّجُ شيئاً فشيئاً ليكون في اللغة العربية كتقويم هاشت في اللغة الفرنسوية. النظرات - هو مجموع المقالاتِ الشائقة , والنبذُ المستملحة التي نسج بردها , ووشى طرازها الأديبُ مصطفى لطفي المنفلوطي وقد نشرنا رأينا في الكتاب وصاحبهِ الزهور مجلّد 1 ص 80 , وفي يدِنا الآن الطبعة الثانية من هذا السفر النفيس. نهنئ المؤلّف برواج كتابهِ وإِقبال الجمهور عليهِ. ملخص التاريخ القديم - كتيّبٌ صغير جمع في صفحاته ملخّص تاريخ المصريين والفينيقين واليونان والرومانيين والقرطاجنيين والفتوحات الإِسلامية والحروب الصليبية والدولة التركية , كل ذلك بعبارةٍ رشيقة وأَسلوبٍ جميل يدلُّ على براعةِ المؤلّف المتستّر.

تاريخ حرَبي البلقان - للكاتب السياسي البليغ يوسف أفندي البستاني نظرات دقيقة في السياسية وفد أكسبهُ طول عهده بالصحافة إطلاعاً واسعاً , وخبرةً تامة. فلما شبَّت الحرب البلقانية شرع يتتبَّع حوادثها , ويستقصي أخبارها من أصدق الموارد ويدرس باعتناءٍ كلَّ م يقولهُ كتَّاب أوروبا فيها حتى وقف على دقائقها وتفهَّم أسرارها. فأخذ حينئذٍ بكتابة تاريخ لها جامعٍ لأسبابها ووقائعها ونتائجها , فجاءَ كتابهُ في أكثر من ثلاثمائة صفحة حافلة بكل الفوائد التي تقتضيها كتابة التواريخ ومحتويه على خريطتين ونو أربعين رسماً. فنلفت الأنظار إلى هذا الكتاب المفيد. ولعلَّنا أن نعودّ إلى الكلام عنهُ في جزء قادم لإِيفائهِ حقَّهُ. كيف ينهض العَرَب - عنوان رسالةٍ وضعها الأديب عمر أفندي الفاخوري ضمَّنها شذرةً تاريخية في عوامل نهوض العرب وأسباب سقوطهم , ودعا قومه إلى شدّ أواصر العنصرية العربية واعتناق هذا المذهب السياسي دون نظرٍ إلى معتقدهم الديني , وقد بيَّن أن العَرَب لا ينهضون إِلاَّ إذا أصبحت العربية , أو المبدأُ العربي , ديانةً لهم يغارون عليها كما يَغارُ المسلمون على قرآنِ النبي الكريم , والمسيحيّون على إنجيل المسيحِ الرحيم الخ هذه الفكرة يسعى إلى تعميمها فريقٌ من أنصار الإصلاح في البلاد العثمانية , وقد بدأ بصيصُ نورِها يلمَعُ من أنحاء مختلفة.

بين اليمن والشام - عنوان قصيدةٍ غرّاء من نوع الشعر القصصي نظم عقدها حضرة الشاعر الكبير شبلي بك ملاَّط مندوب أُدباءِ سوريا في حفلة تكريم خليل أفندي مطران. وهي قصَّة غرام حدثت وقائعها في عهد لخلفاء الأمويين فسبكها حضرتُهُ بقالبٍ سهل المأخذ رصين التركيب وطبعتها جريدة المراقب الغراء في بيروت. مفكّرة المعارف - صدرت هذه المفكرة الشهيرة لسنة 1914 وهي صغيرة الحجم كبيرة الفائدة وتمتاز عن غيرها بما أُضيف إليها من الآيات والأمثال الحكيمة في ذيل كل صفحة وتاريخ أشهَر الاختراعات والاكتشافات وضبط الأعياد الدينية والمدنية. وهي مطبوعة على ورق جيّد ومجلَّدَة تجليداً متقناً وثمنها أربعة غروش صاغ وتُطلَبُ من جميع المكتبات في مصر. مجلة فرعون - توفيق أفندي حبيب من أعرفِ الكتَّاب بشؤون مصر وحوادثها الخصوصية , يعرف منها كثيراً ويروي ما يعرف بأسلوبٍ خفيف يلذّ القارئ ويُسلّي المطالع. وقد أعاد في هذه الآونة أصادر مجلتهِ فرعون التي وقفها على البحث في أحوال الطائفة القبطية وشؤونها الاجتماعية. فنتمنى لها رواجاً رفيعاً في عالم الأدب.

العدد 39

العدد 39 - بتاريخ: 1 - 12 - 1913 الأوقاف في القطر المصري تاريخها ونظامها وناظرها الجديد أُنشئَ ديوان الأوقاف لأوَّل مرَّةٍ على عهد المغفور لهُ محمد علي باشا الكبير جدّ الأسرة الخديوية بموجب الأمر الصادر سنة 1251هـ=1835 م وما لبث أن صدر أمرٌ بإلغائه بعد ثلاث سنوات. ثمَّ أُلِّفَ للمرَّة الثانية في 11 رجب سنة 1267 هـ=1851م بناءً على قرار المجلس الخصوصي الذي صدر بأمر المرحوم عباس باشا الأوَّل. وكان هذا القرار يشتمل على عشر موادّ , خلاصتُها: أن يُطلبَ من نظَّار الأوقاف الخيرية بيانٌ عن أعيان الأوقاف الجارية في نظارتهم وما يتجمَّع من إِيرادها ووجوه إِنفاقها , وما يفضلُ بعد ذلك منها لمراجعتها. وأُطلِقَ على ذلك اسم المحاسبات؛ وأن يكونَ النظَّارُ مسؤولين عما يحدثُ من العجز في الأعيان , وأن يُحالَ

أمرُ من يُخالِفُ منهم شرطَ الواقفِ إلى المحكمة الشرعية , حتى إذا ثبتَ للقاضي اختلاسهُ , عزلهُ وولىّ بدلاً منهُ؛ وأن تتكفَّل الحكومة بنفقات الديوان من ماهيَّات المستخدمين وغيرها , لأنَّ شرطَ الواقفين يقضي بأن لا يُنفَقَ شيءٌ في أي وجهٍ كان ممَّا لن يُعيِّنهُ الواقفُ واستمرَّ الديوانُ في مراجعة المحاسبات الواردة من نظَّار الأُوقاف لغاية سنة 1275 هـ=1858 م إِذ أحيل إليه بعضُ أوقافٍ ذات إِيراد فقضت الحاجةُ حينذاك بإِنشاءِ خزانةٍ خاصَّةٍ بهِ. وفي السنة التالية صدَر قرارٌ آخرُ على عهد المرحوم محمد سعيد باشا يقضي بأن يُنفَقَ من خزانة الأوقاف ماهيَّات المستخدمين مباشرةً , وأن تُسدِّدَ المالية للديوان قيمة ما يُنفقُهُ في هذا الباب. وفي سنة 1277 هـ=1860 م صدرَ أمرق عالٍ جاءَ فيهِ: أنَّ نفقاتِ الديون تبلغ 47702 قرشاً يؤدّي ديوانُ الأوقاف منها 19234 قرشاً ونصف قرش مما يخصصه على إيرادات الأوقاف التي يبلغ إيرادها 98896 قرشاً , وتدفع خزانةِ الحكومة الباقي. ثمَّ صدر ثالث سنة 1280 هـ=1863 م على عهد المرحوم إسماعيل باشا خديوي مصر السبق متوَّجاً بأمرٍ عالٍ يقضي بأن يُنِفقَ الديوانُ في ما هيَّات مستخدميهِ مبلغ 20470 قرشاً , وأن تُنِفقَ الحكومةُ مبلغ 20350 قرشاً. وباشر الديوان صرف الماهيَّات من خزانتهِ , ووضعها ضمن النفقات التي خصَّصها على إيرادات الأوقاف. ومن هذا العهد أخذ ديوان الأوقاف ينمو ويزداد في الارتقاءِ , لأن

أوقافاً كثيرة من مصر والأقاليم أُحيلت إليهِ , وذلك بعد صدور الفتوى الشرعية بأنَّ كلَّ ناظرِ وقفٍ يموتُ أو يختلسُ يُحال ما تحتَ يدهِ من الوقف إلى الديوان. وأول ما اتّصل بهِ من هذا القبيل ما كان من الوقف تحت إِدارة ذنون آغا دار السعادة بأمرٍ من الخديوي إسماعيل باشا سنة 1280 هـ=1868 م وفي السنة نفسها أُضيفت إلى الديوان أوقاف الحرَمين بعد أن كان لها ديوانٌ خاصّ تحت نظارة المرحوم إبراهيم أدهم باشا. وما زالت الأوقافُ تُحال إلى الديوانِ وقفاً بعد وقف حتى أربت على المئة وقفٍ في سنة 1289 هـ=1873 م. وفي تلك السنة صَدَرَ أمرق عالٍ بانتخاب خمسين شخصاً من نجباءِ الطلبةِ , من سنّ العشرين إلى الثلاثين , بعد امتحانهم ليكونوا معلّمين للغّة العربية والتركية في المدارس الأهلية , وأن يُعيَّنَ لكلّ منهم مدَّة التعليم مئةُ قرشٍ شهريّاً. وكان ذلك أولَ ما درج بهِ ديوانُ الأوقاف من الأعمالِ الخيرية في المنفعةِ العامَّةِ. ولما اتسعت دائرة أعمالِ الديوان , وأصبح مصلحةٍ مهمَّةً ذات أقلام عديدة رأى أُلو الأمر أَن يحوّلوهُ إلى نظارةٍ سنة 1296 هـ=1879م , وعُيّن محمود سامي باشا البارودي المشهور ناظراً للأوقاف في وزارة رياض باشا. وهكذا جُعِل ديوان الأوقاف لأوَّل مرَّة نظارةً من نظارات الحكومة كما جُعِل الآن. ثمَّ صدر أمرٌ عال في 23 يناير سنة 1884 بإعادة نظارة الأوقاف

مصلحة قائمةً بنفسها. ومفادُ ذلك الأمر أنهُ من الواجب أن تكونَ الأحكام المختصَّة بمسائل الأوقاف مطابقةً للأحكام الشرعية , فلا ارتباطَ لها بالنظارات الموكول إليها النظر في الأمور الإِدارية والسياسية؛ ولذلك اقتضت الإرادة جعلها إِدارة قائمةً بذاتها وأن تكون الأوامر التي تصدرُ بشأنها من الجناب العالي مباشرةً. وفي سنة 1895 وُضِعت لديوانِ الأوقاف لائحةٌ يجري عليها ويرتبطُ بقيودها , وقضت تلك اللائحةِ بوضعِ ميزانية منتظمة على الطريقة التي تسير عليها الحكومة في ميزانيتها. ولمَّا أخذت المالية في مباشرة هذا الأمر وجدت أمامها عقبةً حائلةً دون الوصولِ إلى الغرَض , وهي أنهُ كان في ديوان الأرقافِ حسابٌ خاصٌّ بكل وقفٍ , فكانت الطريقة الحسابية عبارةً عن حساباتٍ متعدّدةٍ بقدر عدد الأوقاف التي تحت إِدارتهِ , وكان لا يستطيعُ وفاءَ ما يطهرُ من العجزِ في إِيرادات الأوقافِ الفقيرة بأخذهِ عن زيادة إِيرادات الأوقاف الغنية. فصدر أمرُ مجلس النظَّار بتعيين لجنةٍ من العلماءِ لدرس المسألة وتوحيد الحسابات. وصدرت الإِرادة السنية سنة 1896 بإتّباع الطريقة التي أفتى بها العلماءُ , وهي أنَّ الأوقافَ الخيريةَ تنقسمُ أقساماً بحسب وجوهِ إِنفاقها , وأنَّ ما يزيدُ في إِيرادات تلك الأقسام عن نفقاتها بعد وفاءِ ما يظهرُ من العجزِ في أيّ قسمٍ من أقسامها يتكوَّن منهُ مالٌ احتياطي لا يمكن التصرُّف فيهِ إلاَّ بأمرٍ عالٍ يصدرُ بناءً على طلب مدير الأوقاف بعد أخذ رأي مجلس الإدارة أو المجلس الأعلى حسب الحال.

وقد اسثنيت من ذلك أوقاف الحرَمين. وبناءً على المادَّة 57 من اللائحة , انتدبت نظارة المالية حضرة جورج بك طلاماس لمراجعة حسابات الديوان , فوُضعت نماذج الدفاتر والاستمارات للأعمال الحسابية بالاتفاقِ بين المندوب ورجال الديوان. وقد نصَّت اللائحة الصادر بها الأمر العالي المؤرَّخ في 13 يوليو سنة 1895 على اختصاص الديوان بما يأتي: 1ً - إِدارة الأوقاف التي تؤول إلى الخيرات وليس النظر مشروطاً فيها لأحد 2ً - إِدارة الأوقاف التي لا يُعلَمُ لها جهة استحقاق 3ً - إِدارة الأوقاف التي ترى المحاكم الشرعية وجوب إِحالتها إلى الديوان مؤقتاً بضمّ مديرِهِ ناظراَ مع ناظر الوقف 4ً - إِدارة الأوقاف التي يُقامُ الديوان حارساً قضائياً عليها 5ً - إِدارة الأوقاف التي يَرغبُ نظَّارها ومستقوها في إِحالتها إلى الديوان من تلقاءِ أنفسهم. أمَّا الوظيفة الدينية والأدبية التي يُؤدَّيها ديوان الأوقاف فِإِنَّهُ يُقيم الشعائر الدينية في المساجد , ويُنفِّذُ شروطَ الواقفين في وجوهِ البرّ التي عيَّنوها , ويبذلُ المساعدةَ على نشر التعليم بالمدارس والكتاتيب والمعاهد العلمية , ويُديرُ ملاجئ أُنشئت للعجزةِ والبائسين , ومستشفيات وعيادات طبية مفتوحة للفقراءِ مجاناً , ويمدُّ بالمرتبات السنوية عدَّةَ جمعياتٍ خيرية ومدارس صناعية , ويتولَّى بالصدقات الشهرية مؤاساة كثيرين

من أهل البيوت ذوي الخصاصةِ ممن أخنى عليهم الدهرُ بصروفهِ , وتصدَّقُ أيضاً على الفقراءِ وأبناءِ السبيل في أيام المواسم والأعياد. أمَّا إِيراداتُ الأوقاف فقد بلغت في سنة 1902 - 246000 جنيه مصري , وبلغت في العام الماضي 511. 100 جنيه , فتكون الزيادة في مدة عشر سنوات 265. 100 جنيه. وقد زادت أيضاً النفقات تبعاً لنموِّ الإِيرادات , فإِنها كانت منذ عشر سنوات 209. 362 جنيهاً فبلغت في العام الغابر 480. 805 جنيهات ويُدير ديوانُ الأوقاف 1435 مسجداً في القطر المصري , منها 530 مسجداً في مدينة القاهرة وحدها. ويبلغ عدد خَدَمةِ هذه المساجد 8047 بين مشايخ ومدرّسين وأئمة وخطباء ومؤذّنين وميقاتيين وقرَّاء وملاحظين. أمَّا المعاهد العلمية الدينية التي يُنفق عليها الديوان فهي الجمع الأزهر ومشيخة علماء الإسكندرية ومشيخة الجامع الأحمدي ومشيخة الجامع لدسوقي ومشيخة علماء دمياط , فيها 640عالماً ونحو 20. 500 طالب.

ويتبع ديوان الأوقاف 151 مكتباً محالة إدارتها إلى نظارة المعارف العمومية مقابل مبلغ 24. 677 جنيهاً يدفعهُ الديوان للنظارة. ويصرف أيضاً مبلغ 1500 جنيه بصفة إعانات لمدارس يُراقب إِدارتها , هذا عدا الإعانات المخصَّصة لبعض المدارس الأهلية. وللأوقاف 11 مستشفى وعيادةً طبية يُنفق عليها في السنة نحواً من 17000 جنيه , وهي مستشفى الجذام ومستشفى الأزهر ومستشفى قلاون , وعيادات المنشية ومصر القديمة وبولاق وطنطا والإسكندرية والبعثة الطيبة الحجازية ومخزن الأدوية العمومي والمستشفى العبَّاسي. ويُدير الديوان من التكايا والملاجئ: تكية المدينة المنوَّرة , ومكة المكرّمة , وطره في مصر , وتكية النساء في مصر أيضاً , والقباري في الإسكندرية , وملجأ الأطفال في مصر , ويبلغ ما يُنفقهُ عليها في السنة 22000 جنيه تقريباً , وعدد الفقراء والمعوزين الذين يقيمون فيها أو تُصرف لهم الأغذية منها 245. وتبلغ الإِعانات التي يمنحها في السنة للمدارس والجمعيات الخيرية حوالي 13500 جنيه , منها 5000 جنيه للجامعة المصرية , و 1000 لجمعية رعاية الأطفال , و2000 لملجأِ الأيتام بالإسكندرية , و 1000 لمدارس الجمعية الخيرية الإسلامية , و 500 للكتبخانة و 50 لجمعية الرفق بالحيوان. الخ. ويُدير ديون الأوقاف , غير الأوقاف الخيرية وأوقاف الحرَمين الشريفين , أوقافاً أهلية تُحال إليهِ , بعد تقريره في النظر عليها من قَبِل القضاة الشرعيين. وتبلغ هذه الأوقاف 465 وقفاً , يأخذُ الديوان من

مواردها 10 في المئة رسم إِدارة بموجب لائحة الإِجراءَات ويُديرها كما يدير الأوقاف الخيرية سواء بسواءٍ. هذا ما يسمحُ المقام يذكرهِ عن ديوان الأوقاف الذي صدرت الإِرادة السنية في الشهر الغابر بتحويلهِ إلى نظارةٍ من نظارات الحكومة يرأسها الوزيرُ الهمام المدبّر أحمد حشمت باشا ناظر المعارف السابق. ويرى القارئ ممَّا تقدّم أن المجالَ واسعٌ لرجلٍ كحشمت باشا أن يسير بالأوقاف على المنهاج الذي سار بهِ في المعارف , فإنهُ بعث أثناءَ السنوات القلائل التي قضاها في تلك النظارة روحاً جديدة في اللغة العربية بتنشيطهِ التأليف في هذه اللغة , وتوسيع التعليم بها , وبتقريبه كتَّابها وأُدباءَها وشملهم برعايتهِ وتزويدهم بإرشاد ونصائحه , فرأينا نهضة حقيقية للتأليف في فروع العلوم والآداب كافةً , ولا شكَّ في أن تاريخ النهضة الحديثة في الآداب العربية سوف لا ينفكُّ مقروناً باسم حشمت باشا. والآمال معقودة الآن على همة هذا الوزير العامل بأنهُ سينهض بالأوقاف ويزيدُ في نموّها ومنفعتها إِداريّاً وأدبيّاً , فنرى لهُ فيها من المآثر ما رأينا لهُ في المعارف , فلا يُلاقي غداً إلاّ ما لاقاهُ بالأمس من الثناء على همتهِ البعيدة , وإِطراءِ إِدارته الرشيدة.

رحلة صيف

رحلة صيف ذهبتُ إلى الإسكندرية , وفي تقديري أن أقضيَ ثمَّتَ يومين , وفي تقدير الله أن أقضيَ شهرين. فما هو إِلاَّ أن خَلَت ليلةٌ حتى باغتَني داءٌ , فضرب وأثقل , ثم تمكَّن فأعضل , ثم أناخَ بكلكل. فلمَّا صوتُ بعد أيام من سكرتهِ , ونجوتُ من مضطرَب غمرتِه , نهضتُ ببقية الجسم الباقية , كما تُلبس الخرقة البالية , وعرضتُ نفسي على الباخرة , فالباخرةُ تحملني إِمَّا إلى الشرق وإِما إلى الغرب. فقيل: مكانك يا هذا الخيال! إِنّ الباخرةَ لا تستقلُّ بك في زمن وباءٍ , وقد تستقلُّ بأشباه الجبال. قال الطبيب: فعليك بالمكس! حَسُنَ هواؤها , وجلَّ رواؤها. فقصدتُ المكس وما أدراك ما هي الآن. هي إِحدى ضواحي الإسكندرية , قليلةُ المساكن حقيرتها , تمتدُّ سلسلة أبنيتها مستطيلةً بين شاطئِ البحر والرمل. الهواءُ فيها جافٌّ نقيٌّ عاصف , والبحرُ شديد الخفوق لا يملُّ من مداعبة الصخور بمثل خشونة الضواري في تداعبُها. والمنظر على الجملة بديعٌ في مطلع الشمس وفي مغربها؛ وللشمس فيها تجلّياتٌ باهرةٌ خلالَ الغمام , وللغمام تشكُّلٌ وتلوُّن فاتنان , وللأُفق تأنُّقٌ عجيبٌ في ترتيبِ قدر المنطقة التي يتحزَّم بها وإبرازها في أبدع زينةٍ بين الورديّ فالبنفسجيّ فالفستقيّ فالزمرديّ فاللازورديّ

فالسنجابيّ , فما بينها من الألوان التي تُلطِف اجتماعها وتزيدها بهاءً على التنويع. ومن محاسنِ المكس أنَّ الحكومةَ مهملتُها , فهي من أجل هذا لم تزل قطعةً من الطبيعة يعيش فيها الإنسان , كما يُجبُّ أن يعيش المتمتع طالبُ الراحةِ. فإذا مرَّ في طريق , فالطريقُ غيرُ ممهَّدَة ولا مستقيمة ولا محفوفةٍ بصفيَّن من الشجر يحجبان النظرَ , كما تُحجبُ عيون الخيل التي تجرُّ المركبات؛ بل هي ضيّقةٌ فواسعة , صاعدةٌ فمنحدرة , رملية فحجرية ممتدَّةٌ فمنعطفة , فيها للسائرِ ما لا يألفهُ فيستجدُّهُ كلَّ آنِ. وفيما حولها من المسافات المفتوحة ما ينطلق معهُ النظرُ على مدى البحر الفسيح تارةً , وعلى مدى الرملةِ الوعساءِ طوراً. رأيتُ في خلال إِقامتي بالمكس بعضَ الأشياءِ التي تجدرُ بالذكر رأيتُ الملاَّحاتِ وعلمتُ للمرَّةِ الأولى علمَ الشهادةِ والتحقيق كيف يُصْنَعُ هذا المصلح الذي يُصلِح غذاءَنا , وينزلُ من حاجيّات حياتنا في المنزلة الأُولى , حتى أن الأمصارَ التي لا يُوجد فيها وتستوردُهُ من بعيد على ظهور الدواب تتداول قطَعَهُ تداولَ النقود. وإني لاستحيي أن أصف بالدقة كيف يُصنع الملحُ , لأنَّ أجهلَ الناسِ يتصوَّرُهُ. ولكنني لا أخاف القولَ إِنَّ البلادةَ مستحكمٌ في قلوبنا , نحن الشرقيين , متمكنةٌ من لحمنا ودمنا إلى حدّ أنَّنا لا نتكلَّفُ الرؤيةَ ولو عن كَثَبَ , لنعلمَ مِن دقائق الأمر ما لم يُلمَّ بهِ تصوُّرُنا إِلماماً تامّاً من مجرّد الأخبار.

رأيت أيضاً مصطَنعَ الحجارة الضخمة المربَّعةِ التي تُعدُّ لإِتمامِ جدارِ الرصيف الشرقي بالإسكندرية , وقد تمَّ منها ألوفٌ يجدُها الناظرُ معروضةً على خَطٍّ مُستطيل , وهي تُحمَلُ على ظهورِ البواخرِ بواسطةِ مرفعةٍِ بخاريةٍ منصوبة على رأس صخرة متقدّمة في البحر. رأيتُ حيث ينتهي النظر من المكس شبه قريةٍ ذات خضرةٍ تدعى العجمي عاقني عن تفقُّدها ضعفّ الجسم؛ فسألتُ أحد ساكنيها , فقال إِنَّها لا مزَّيةَ لها عن سائر القرى المجاورة إلاَّ بشيءٍ: وهو أن البحرَ يمدُّ هناك ذراعاً , ثمَّ يعطفهُ منها جزيرة. وفي الجزيرة مقامٌ لوليّ يُعرف بالعجمي , وهذا المقامُ غاصٌّ بالمراكب الصغيرة المُهداةِ إليهِ نذوراً , والنواتي يعتقدون أنهُ شفيعُهم , وأنهُ ببركة هذه النذور يرقُّ لهم ويُنقذهم من أخار البحر. ما أحوجَ الإنسانَ إلى الإِيمان! هذا كلُّ ما رأيتهُ م جانبٍِ؛ أمَّا من الجانب الآخر , وهو الذي ينتهي إليهِ الترام قادماً من الإسكندرية , فالذي استلفني أمران: أحدهما وجودُ حمَّام هناك واسع متقن , ومنديَين للشرب , هذا من خشبٍ قائم فوق الحمَّام , وذاك مبنيٌّ من الحجر على شكل سرادق رحيب , بينهُ وبين الحمَّام خطواتٌ. وفي كل مساءٍ يستقدم أصحاب هذين المنتدَيَين جوقَتَي موسيقي لإِطراب الحضور , الواحدة منهما أرمنية تضرب ألحاناً شرقية وألحاناً غربية , والأُخرى إفرنجية تضرِبُ ألحاناً إفرنجية

مختارة بإتقان لا تبلغهُ الأولى. ولكنَّ ألحانه الأولى التي فوق الحمَّامِ يزدحم الناس فيها ألوفاً كلَّ يوم , بخلاف الأخرى التي بجانبها , فلا يجتمع فيها إلاَّ أفرادٌ. ولو شئتُ أن أُفصل أسباباً لنجاح هذه وفشل تلك , لفعلت؛ ولكنَّ مذهبي أن السبب الذي ترجع إليه تلك الأسبابُ بجملتها هو نفس السبب الذي تشقى به أحياناً أمةٌ صالحةٌ وأرضٌ خصبة وعملٌ متقَن , وتسعد بهِ أمةٌ فاسقةٌ وأرض قحلةٌ وعمل ناقصٌ. فسمّهِ ما شئت ويذكرني نجاحُ قهوةً الحمَّام قهوة أخرى أنشئت في المنازل منذ تسع سنين , أي حينما مُدّ الخطُّ الحديديُّ إلى المكس , فكنَّا إِذا شئنا التنزُّه ركبنا القطارَ إلى المنازل , ووجدنا الناسَ مزدحمين وقوفاً وجلوساً , والمكاسبُ تتدفقُ على صاحب المكان من كلّ صوب. فلما افتقداها هذه المرَّة تراباً أو صانعٌ يضربُ قطعة خشب , كما تتحرَّك الجرذانُ الجسيمة في بعض الخرائب العتيقة. ذلك أنَّ وجود الترام قتَلها , لأنهُ عطَّل الخط الحديدي , فأبطلهُ , والترام لا يمتدُّ إليها , بل هو بعيدٌ عنها. فأيُّ سببٍ نردّ إليه أمثال هذه الانقلابات التي تكون في عالم الغيب ثم تفاجئ من حيث لا تظن. أما الأمر الثاني الذي استوقفني وشجاني , فهو ما رأيتهُ على كئيبٍ ممتدٍّ شبه القَتَبْ بين البحر وبيم طريق الترام من المدافع القديمة أدواب الدفاع عن مدخل الثغر. تدلُّ مركزُ هذه المدافع على أنها كانت منصوبةً وراء القَتَب , كما

تُنَسَّقُ الإِبَرُ في ورَقَتِها , وكلُّها من الطراز الضخم , إذا أقبل عليها الناظرُ من بعيد ظنَّها بعض الوحوش الضارية من أسدٍ ومرٍ وفهدٍ , فإذا دنا منها لم تزُل مهابتها من قلبه , ولكنه رأى الموت قد مدَّ عليها كفناً من أشّعة النهار وأنداءِ الليل ثم طبع عليها أصابعَهُ , فهي منقَّطة بنقط صفراء نحاسية , وخضراء طحلبيّة , على قشر عاتم صادئ , ومنها ما انكسرت له ساق , فانقلب على جانبهِ , ومنها ما أصابتهُ ضربة في شفتهِ , فانشقَّت والتوَت , ومنها ما أدلى بعنقهِ الطويل إلى التراب كأنه يعضُّهُ في أحشائهِ. منظرُ موتٍ وخراب وعار. دنوت من هذه الأشياء وأنا أسيفٌ أُرسل النظرة إلى الغيب , فأرى بها أُمم الشرق كلَّها مجتمعة تدبُّ دبيب الحشرات لاصقةَ الجباه بالأرض من الضعف والجبن ودناءة المطالب , وأطلق الزفرة من صدري , فأؤبن بها مجداً عظيماً ملأ العالم زمناً , ثم دفنهُ ذووه في بعض زوايا التَّرك والإهمال , ووكلوا إلى الذين ابتلوا بهِ قديماً أمر البحث عنهُ وجلاءِ آثاره التي غالها الصدأُ وغشيها نبات النسيان , حتى نخرها إلى الصميم , واذرفْ العبرة فأبكي سماءَ انطوت طيَّ الجلباب , ونجوماً غارت في التراب , ومعالم عامرة صارت إلى تباب. ثم وضعتُ رجلي على عنق الكبير من تلك الضواري الجامدة , وأثقلتُ وطأتَها عليهِ وقلتُ: يا أيها الأسد جُعِلْتَ للزئير فاستنبحوك , وللافتراس فكّموك , وللوثب فقيّدوك؛ فلينسجِ العارُ عليهم مثل ما نسج على جلدك. فإذا نهشتك الأيام نهش الكلاب الشلو , فليشهد عليهم كلُّ

أثرٍ في البلاد من بعدك. فإنهم خفضوا رايةً , وأضاعوا جيشَ بَرٍّ , وأغرقوا أساطيل بحر , وأذلوا أمة , وأضاعوا وطناً. هذا كل ما في المكس من قديمٍ وحديث وهو قليل؛ غير أن مناظر الطبيعة فيها غاية ما يُتمنَّى؛ نقاوة الهواء وصفاءُ الطبع وسلامة ُ المعيشة من المصطلحات المزعجة المتعبة أفضلُ وسائل التعافي والسرور ونشاط النفس. خليل مطران الزهور - في ديوان الخليل بضعُ صَفَحاتٍ شعرّيةٍ عنوانُها حكاية عاشَقين بدأت في سنة 1897 وانتهت في سنة 1903. والمقالةُ التي نشرناها في الصّفحات السابقة إنّما كتبها خليلٌ في أواخر عهدِهِ بتلك الحكايةِ يَومِذهبَ إلى رَملِ الإسكندرية مستشفياً من دائَينِ كانا قد ألمّا بهِ ووصفهما وصفاً بديعاً ملئهُ عواطِفُ نفسٍ حزينةٍ يائسةٍ في قصَائِدَ من أجود الشعر نختار الأبيات التالية من إحداها؛ قال: إنّي أقمتُ على التعِلَّةِ بالمُنى ... في غُربةٍ قالوا تكونُ دوائي إنَ يشفِ هذا الجسمَ طينبُ هوائها ... أيُلِطّفُ النّيرانَ طيبُ هَواءِ عَبَثٌ طوافي في البلدٍِ وعِلَّةٌ ... في عِلّةٍ مَنفايَ لاستشفاءِ متفرِّدٌ بصبابتي متفرِّدٌ ... بكآبتي مفرِّدٌ بعنائي شاكٍ إلى البحرِ اضطرابَ خواطري ... فيُجيبني برياحهِ الهوجاءِ ثاوٍ على صخرٍ أصمَّ وليتَ لي ... قلباً كهذي الصخرةِ الصَمَّاءِ يَنتابُها خفّاقُ لجوانبِ ضائِقٌ ... كمَداً كصدري ساعةَ الإِمساءِ

الإنتقاد

تغشى البريِّة كدْرَةٌ وكأنّها ... صِعدتْ إلى عينيَّ مِن أحشائي والأفقُ مُعتَكِرٌ قَرِيحٌ جفنُهُ ... يُغضي على الغَمرَاتِ والإِقذاءِ ولقد ذكرتُكِ والنّهارُ مُودِّعٌ ... والقلبُ بينَ مَهايةٍ ورَجاءِ وخواطري تبدو تِجاهَ نواظري ... كَلْمى كدامِيَةِ السَّحابِ إزائي والدَّمعُ من جفني يَسيلُ مشعشاً ... بسنى الشععِ الغاربِ المترائي والشمسُ في شَفَقٍ يَسيلُ نُضارُهُ ... فوقَ العَقيقِ على ذُرى سوداءِ مرَّت خلاَلَ غمامَتينِ تحدُّراً ... وتقطّرتْ كالدَّمعةِ الحَمراءِ فكأنَّ آخِرَ دَمعةٍ للكونِ قد ... مُزِجَتَ رآخرِ أدمعي لرِثائي وكأنني آنستُ يَوميَ زائِلاً ... فرأيتُ في المرآةِ كيفَ مسائي الإِنتقاد بينَ نَقْدِ المؤلّفات هنا , ونقدِها هناك فرقَانِ: أحدُهُما يتعلّق بالنّاقِدِ والآخر يتعلّق بأثر النقد في الأذهان. أمّا الأوَّل فهو أن الناقد هناك ينتقد الكتاب من حيث ذاتهِ؛ فلو لم يكن للكتاب صَاحبٌ لا ينتقدَهُ , وهنا ينتقدهُ باعتبار شخص مؤلفِهِ. أي أنهُ ينتقِدُ الكتاب بل صَاحبَ الكتاب في كتابه. وأمّا الثاني , وهو أثرٌ طبيعي للأوَّل , فهو أنَّ للانتقاد هناك أثراً ظاهراً في الكتاب من حيث رواجه وكساده , وشهرتهِ وخمولِهِ. فكما يقول المنتقد يقول الناس بقولهِ. وهنا يمرُّ الانتقاد بالأذهان مرّاً فلا يبقى من آثارهِ فيها إلاّ أثرٌ واحد وهو أن الكتاب جليل القدر سني القيمة!! مصطفى لطفي المنفلوطي

انيبال

انيبال هو قائد من أهل قرطجنة ولد فيها سنة 247 قبل المسيح ومات سنة 183. يجدرُ بنا أن نعرضَ عن الكلام في حياة الإسكندر المكدوني الذاهبة على غير طائلٍ وجدري , ونأخذّ في ذكر حياةٍ لا يفضلها حياةٌ نبالةً وحماسةً: ألا وهي حياة القائد انيبال فنقول: هو الرجلُ الذي أتاهُ الله جميعَ مواهبِ العقلِ , وجودةِ الطبع , وزيّنهُ بأفضلِ ضروب الاستعداد التام لإِتيان أشرفِ المساعي , وأسمى الأعمال الخطيرة. وُلدَ في بيت قادةٍ اشتهروا بالذود والدّفاع عن استقلال مدينتهم , حتى الممات. وكانت روحهُ كأنها نوعٌ من المعدن قد صيغَ في وسط أتون البغض والحقد المتّقد حول رومه بجزلِ مطامعها. وإذ بلغ التاسعةً من عمره فارقَ قرطجنة وصحب أباهُ إلى حيث كان منتوي أجداده قصدَ أن يحيا ويموتَ في محاربة الرومان. فدلَّ ذلك أن الأعمال الحربية كانت مرتاد أمانيهِ ومرمى هممهِ. فاعتاد منذ صغره الرُّقادَ في ساحات الوغى. ومواطن القتال ليكفَي بهذا الاعتياد الوجعَ في عُنُقهِ من تعادي خَشِن الوساد , وفي سائر جسمه التبرُّم من الاضطجاع على مثل شوك القتاد وليأمن مظانَّ المخاوفِ , ويتمرَّنَ لبُّهُ على تدُّبر الأَعمال الحربية بحيث يكون , في أعظم الأهوال وأشدِّ الحروب , أفضلَ من غيرهِ في أصفى الأحوال والأوقات. ثم بعدَ وفاةِ أبيهِ أميلكار العظيم , وصهرهِ أسد روبال اللذينِ قضيا نحبهما قتيلين في حومات الوغى , انتخبه الجيشُ القرطجنب قائداً عاماً , مع أنَّ سنيهِ لم تتجاوز الست والعشرينَ إذ ذاك , خلافاً لرأي مجلس الملاء القرطنجي , لأنهُ كان ينفسُ على بيت بركا - بيت انيبال - عظمَ مكانتهِ وشهرتهِ. ولما استولى انيبال على قيادة الجيش جعَلهُ مثلهُ ممتلئاً حقداً وحنقاً على الرومانيين , ومُحرِزاً إقداماً وثباتاً بليغين. ثم زحف بهِ في أكباد أوروبا , وكانت

حينئذٍ مجهولة المسالك , كأواسط أفريقية الآن , واجتازَ جبالَ البيرينه وجبال الألّب في ثمانينَ ألفَ جنديّ , وقد فقد منهم أكثرَ من خمسين ألفاً في مسيره الشاقّ الشاسع الخارق العادة؛ واستمرَّ سائراً لا تصدُّهُ الصعابُ والعقباتُ المتنوعة اعتقادَ وجوبِ محاربةِ رومه في بلادها , للتمكن من الاستحواذ عليها , إلى أن دخل إيطالية , مشيراً على رومه أتباعها ورعاياها فوثب على القواد الرومانيين واضطرَّهم إلى مزايلة مراكزهم ومعسكراتهم الحصينة ومنازلتهِ , بتظاهرهِ باستصغار شأن بعض القوَّاد , والاستخفاف بقلة شجاعتهم , وبما زيَّن لكبرياء وخيلاء قوم آخرين منهم؛ وما زال بهم حتى ظهر عليهم شيئاً فشيئاً وكاد يكتبهم ويقهرُهم كافةً , لولا أن تصدَّى له قِرنٌ مكافئ له في الشدّةِ والبأسِ , وهو فابيوس الذي أشار بأنَّ من الواجب أن يُقاوم هذا الجبارُ يس بقوَّةِ السلاح في وقائع حرب لا يطمع منها بالغلبة عليهِ , بل بفضل الثبات الذي هو من فضائل رومه الحقيقية. ولما رأى انيبال غلطهُ بانكالهِ على الغالبين لعدم ثباتهم , وتحقق عدمَ إمكانهِ أخذ رومه ذهب إلى جنوب إيطاليا , وكانت البلادُ ثمَّةَ متمدّنة وحكوماتها متآلفةً من مجالسِ أشرافِ مستبدَّةٍ برعاع الشعب , فخضد شوكة الشرفاء مع كونه شريفاً , وسلّم مقاليدَ الحكومة إلى لشعب , وجعل مدينة كابو عاصمة حكومتهِ , متباعداً نزيها عن الملاهي والملاذّ خلافاً لما توهم أو أوهم كثيرٌ من المؤرّخين , إذ أنهُ لم يكنِ يعرفُ مواردَ الترَفِ والتلذّذ , ولم يذّقْ طعمها في كل حياتهِ. ثم جدَّد نشأةَ جيشهِ وأغناهُ بمسلوبات فتوحِ البلدان. وما منعه خذلانُ أهل وطنهِ إياهُ أن استدعى إليهِ بشعوب الأرض وشبَّ الحربَ في اليونان وآسيا مستثيراً سكان الدنيا قاطبةً لمقاومة الرومان. وما زال مدَّةَ اثنتي عشرة سنة فاتكاً بكلّ جيشٍ روماني يخرُج لقتالهِ , ولهُ من نفسهِ ناصرٌ معين , وهو رابط الجأش , رسوخ القدم في إيطاليا , حتى أنَّ الرومانيين باتوا قانطين من جلائه عن بلاد إيطاليا. ولكن أنى يومٌ نقلوا فيهِ مراكزَ القتالِ ومواقفهُ إلى أفريقية , تحت أسوار قرطجنة , فاستغاثت بهِ مدينته , فخرج يقاتلُ العدو بجيشهِ المتضعضع جيشاً منظماً

جديداً , فنكص جدُّهُ الباسق ونقص حظّه السابق , فلم يجد بدّاً من أن يدين لسيبيون الجديد الطالع نزولا على حكم الدعر وتقلبات الأيام , فعاد متحسراً متقطعاً إلى وطنهِ , وجعل يسعى في لمّ شعثهِ وإصلاح أحواله , ليصيرَ قادراً على نزال الرومانيين كرةً ثانيةً. ثم وشى بهِ مواطنوه المتلبسون بالجور والاستبداد تشيعاً للرومانيين , ففرَّ إلى المشرق لائذاً بحمى أنطويوخوس الكبير ملك سوريا. ثمَّ لجأ من مداومةِ القتالِ , فتناول سمّاً وقضى بهذا السبب. وهو آخرُ بطل من أبطال عشيرته لأنهم بأجمعهم ماتوا ميتتهُ أحراراً في سبيل هذا القصد المقدَّس , وهو مدافعة التسلُّطِ الأجنبي ومقاومته. ومن الممتنع إيجادُ مظهرِ ضعفٍ في تضاعيف حياة هذا الرجل العجيب المتحلي بكل مزايا المرؤة والعقل والإِقدام. أجل لا يستطاع التماسُ مثلِ هذا الضعف أو هذه النقيصة. ونحن نحاول فيهِ وجود ميل ذاتي كحبّ المال أو الملذَّات أو الطمع أو غيره ولكن لا نجدُ في الرجل إلاّ ميلاً واحداً وهو بغضهُ أعداء وطنه. قد نسب إليهِ تيت ليف المؤرخ الروماني البخلَ والقسوة ولكن تهمتهُ هذه في غير محلها. نعم إن انيبال قد جمع أموالا طائلة , ولكنه لم يستعملها قط لأغراض ذاتية , وإنما كان يخصصها لدفع رواتب جيشهِ. قلنا إنَّ أهلَ وطنه كانوا قد تركوا نصرتهُ , والجيش المذكور لم يعصَ قط أوامر قائده انيبال , لما له من السطوة والهيبة والحكمة خلافاً لأمثاله من الجيوش المؤلفة من جنود غرباء وعصابات بربرية مختلفة الجنسية والوطن واللغة. وقد

يوليوس قيصر

أرسل انيبال إلى قرطجنة عدَّة إمداد ممتلئةً بالخواتم والفتخ الذهبية التي أخذها إسلاباً من قتلى أشراف الرومانيين ولكن لم نجدُ لهُ في تضاعيف التاريخ ذكر مُنكَر أناه , ولم يسفكْ دمَ إنسان بلا حرب. فينتج من كلامنا أنّ شهادةَ المؤرخ الروماني تعودُ على قائدنا هذا بالفخر والشرف. وبالاختصار فإن أقوالَ التواريخ والأزمنة التي توالت بعد هذا البطل سيردّده جميعُ الأمم والأجيال إلى منقضي العالم. وذلك أنَّ مظهرَ حياةِ هذا القائد المجيد , لهو أشرفُ مظاهر الحياة البشرية في هذه الدنيا لدلالتهِ على همةِ عالية , ومدارك سامية يندرُ وجودُها , خصوصاً حياته خلت عن كل أربٍ شخصي , وأثرة ذاتية , لم يلابسها إلاّ هوى فرد , ألا وهو حبُّ الوطن حتى أنهُ قضى أخيراً شهيد محبته لوطنه. يوليوس قيصر قائد روماني ولد سنة 100 قبل المسيح وتوفي 44 ق. م. ها أنّا موردون ترجمة شهيد آخر لم يتفانَ في حبّ وطنهِ , ولكن ذهب قتيل الطمعِ - نريد بهِ هذا الرجل العجيب المنقطع النظير , الذي لم يكن يخلو عن ضربٍ من ضروب النقائض والرذائل , وكانت حياتهُ كلها عبارةً عن سلسلة تعدّياتٍ على وطنهِ. وبالجملة فإنَّ هذا الرجلَ هو قيصر ثالثُ الرجال العظام المشاهير في الأقدمين. وُلدَ ونشأ وشبَّ متحلياً بصنوف الصفات , فإنهُ كان شجاعاً فصيحاً لطيفاً كريماً جواداً مفرطاً في السخاء؛ بيدَ أنهُ كان يؤثِرُ السذاجةَ في أعماله؛ ولكن لم يكن عندَه أٌلُّ همّ في أن يفرق بين الخير والشرَ , لا في العمل ولا المبدأ. وكان قصارى همهِ ومبدأ جميع أعماله طلب الغاية التي قصّر عن بلوغها

ماريوس وسيلاً نريد بها التسلط على وطنهِ. كان قصد الإسكندر الاستيلاء على جميع العالم المعروف وقتئذٍ؛ ووقف انيبال حياتهُ كلها على وقاية وطنهِ من النشوب في عبوديةِ الأعداء. أما قيصر فكانت غايتهُ القصوى أن يملك رومه التي تفرَّدت بالاستيلاءِ على كلّ الدنيا تقريباً. ونراه قد اتخذ كلَّ الوسائل إدراكاً هذه الغاية , غيرَ متذمّم من الإسفاف إلى الذرائع السافلة , بيدَ أنهُ لم يَردْ مواردَ الجور والجنَفِ تفادياً من الارتطام بأغلاط ماريوس وسيلاّ. وقد تدرَّج في الخطط والمراتب من وظيفة إديل إلى وظيفة بريتور ثم إلى رتبة رئيس أحبار العاصمة؛ وعقد ديوناً رابيةً ليرشوَ المنتخبين , لأنّ كلَّ هذه الوظائف كانت تُنال بالانتخاب , واستغوى الرجال والنساءَ , مستفسداً المتزوّجين وغيرهم استفادَةُ عامة الشعب. وما كفاهُ ما أتاه من ضروب الفساد حتى عمد إلى استعمال الوسائط الأدبية , فأصبح أعظمَ خطيبٍ في رومه بعد شيشرون. وما زال حتى صار علّة عدة كثيرين من بوادر الفرَح والريب في رومه؛ فأعيتهُ الإقامةُ بها فاتفق مع كراسّوس البخيل , وبمبيوس المتكبر , واختصَّ نفسهُ بحكومة ولاياتِ غاليا قصدَ تدويخ هذه البلاد الواسعة , لا ليزيدَ مجدَ رومه , بل ليحشدَ عساكرَ قاهرةً , ويجمع أموالاً وافرةٌ , فيقضي ديونهُ وديونَ أشياعهِ. فأقام مدة ثماني سنين في غاليا يحاربُ أيامَ الصيف , ويعودُ آونة الشتاءِ إلى دسّ الدسائل , ويدبّرُ من معسكرهِ في ميلانو مجر عجرفة بمبيوس وبخل

كراسوس. وبذلك تسلّط مدة عشر سنين على مجرى الأحوال الرومانية. ثم توفي كراسوس في آسيا , ولم يبقَ بينهُ وبيم بمبيوس رجلٌ ثالث يمنع تماديها في الطمع ولبغي , عمد أولاً إلى استعمال الحيل لإِرجاءِ القتالِ بينهما , إذ كان قد شعر بسوء عاقبتهِ , حتى أنهُ لما تعذَّر عليهِ مجانبةُ القتال , اجتاز نهر روبيكون وسار لمساوة بمبيوس , وهناك ترك كما قال مدلاّ بسطوته , قائداً بلا جيش , وذهب إلى اسبانيا فشتت جحافل بمبيوس التي كانت بإمرة أفرانيوس. ثم غادر اسبانيا , واجتاز إيطاليا مسرعاً شاخصاً على أبيروس إدراكاً لعدوّهِ. فصادف بمبيوس نفسه وجعل يقاتله الكرَّةَ بعد الكرة , وكانت الوقعة الفاصلة لتلك الحرب الشهيرة سهول فرسال فتغلّبَ عليهِ , واستأثر بالسلطة المطلقة , فلاذ بمبيوس بالهرب منهُ خوفاً إلى أن لاقى أجله قتيلاً في مصر. ثم إنَّ قيصر جعلَ يتعقبُ بقايا حزب بمبيوس في أفريقية واسبانيا , وقهرهم كافةً , وفتح شمالي آسيا. ثمَّ عاد إلى رومية ليتلذَّذ بثمارِ انتصاراتهِ على جميع أعدائهِ ومناوئيهِ. ثم أسَّي فيها ما يعبَّرُ عنهُ بالإمبراطوريَّة الرومانية , ولكنهُ ذهب قتيلاً بفتكةِ الجمهوريين , لأنهُ أراد الإِسراعَ في وضعِ الاسم للمسمَّى , بعد أن ملك العالم مدة تزيد على أربع سنوات. فما سبق إيرادهُ من أخبار هذه الحياة يرى أن كل الوسائلِ والتدابير المذكورة كانت سيئة كالغاية التي سعى إليها قيصر. ولكن ينبغي أن يعترَف لهُ بالفضل من جهةٍ واحدة وهي أنهُ قصد أن يحوّل هيئة الحكومة من كونها جمهوريَّة إلى كونها إمبراطوريّة. ليس بأنواع القتل وسفك الدماءِ , كما فعل ماريوس وسيلاّ ,

الأناشيد الوطنية

ولكن بتعطيل الآداب الملائمة أخلاق الرومان , وبحسب قوّةِ العقل المناسبة لسموّ مداركهِ. وبالجملة فإنَّ هذا الرجلَ الغريب الذي كان من أعظم أرباب السياسةِ , وخطيباً شهيراً وبطلاً صنديداً , وعائقاً في الأرض فاسدَ الأخلاقَ , يظلم بلا رحمةٍ , ويرحم بغير حدّ ولا قياس , لهُ مزيةٌ خاصة بهِ دون سواه. وهي أنهُ خُلق عجيب يخبر عنهُ آخر الدهر بكونهِ أكمل إنسان وجد على الأرض. للكلام صلة الأناشيد الوطنية قال أحَدُ مشاهيرِ كتَّابِ الانكليز إِنَّ الذي يضعُ لحناً وطنيّاً لقومهِ يضعُ لهم قوانينَ جديدة وهو قول لا مبالغةَ فيهِ. إِذ أنَّ الأناشيد الوطنيةَ هي التي شحذَت السيوفَ , وحرَّرتِ الأرقَّاءَ , وكوَّنتِ الأُمم , ورفعت الممالك , ووحَّدَت قلوبَ أهل البلد الواحد. وهي التي تُذَكي نارَ الوطنيَّة , وتجلو صدأها؛ يتوكأ عليها قوَّادُ الأُمم إذا أجهدَهم السيرُ , ويهشّونَ بها على أتباعهم إذا حادُوا عن الطريق. ينشدُها الغريبُ فيذكر قومهُ , ويرفعُ بها المنفي عقيرتَهُ فيتذكَّرُ وطنهُ. فهي روحُ الوطنية , والوطنيةُ قوامُ البلاد؛ وهي رسولُ الشُّعور , والشعورُ منبتُ الوطنية. وهي الصلةُ بين القلوب؛ والقلوب منشأُ الشعور. وأفعلْ الأناشيدِ الوطنيةِ في الأفئدةِ وأشدُّها تأثيراً على النفوس ما وافقَ لحنُهُ الموسيقيّ ألفاظَهُ فامتزجا بمخيِّلةِ الشاعر الملحّن قبل أن

يظهرَ لحيّز الوجود. حتى إذا أدَّى كلٌ من القلب والرأس ما يطلبهُ هذا النشيدُ منهما برزَ فكان قوَّةً حيَّةً تدفعُ القوم لخدمة وطنِهم , والذَّود عن حياضِهِ , والعملِ لرفعة شأنه. سألَ أحدُهم شاعراً من كبار الشعراءِ أن يُعَلِّمَهُ الأوزانَ فأجابهُ: إذا لم يُوحِ قلبُكَ إليك الشعرَ فما تنظمتُهُ لا يكونُ شِعراً هكذا الأناشيدُ الوطنيَّة. فإنها لا تَفعلُ فعلها في النفوسِ إِلاّ إذا كان منشأها القلبُ ولا أعرفُ نشيداً وطنيّاً تطيرَ لهُ القلوب , وتثب الأفئدة , ويجري الدم حارّاً في العروق عند سماعه , مثل المرسلييز نشيدِ فرنسا الوطني. لم يوضع ليكونَ نشيدَ الثورةِ الأفرنسية , ولكنهُ هيأَ النفوسَ لها. وُضِعَ عندما كان لويسُ السادسُ عشرَ الآمرَ الناهي. فلما أعلنَ الحربَ على النمسا عام 1792 اقترح محافظُ مدينة ستراسبرج وضع نشيدٍ يستفزُّ بهِ هِمم الشبَّانِ للدّفاعِ عن بلدِهم. فلَبَّى طلَبهُ يوزباشي اسمهُ روجيه دي ليل. جادت عليه الطبيعة بإِبداع الشاعرِ وابتكارِ الملحّن. فنظمَ النشيد ولحَّنهُ بين مساءٍ وصباح. وقد كانَ من تأثيرهِ على النفوسِ أن تطوَّعَ في الحاميةِ المدافعةِ تسعمائة شابٍّ في يومٍ واحد. ولم يكن أحدٌ يحلمُ , ولا لويسُ السادسُ عشرَ نفسهُ , بما سيكونُ من الأهميَّةِ للمرسييز الذي كان يُسمَّى نشيد جيش الرين حتى مشى أهلُ مرسيليا لباريز يترنَّمونَ بهِ طولَ الطريق فنُسِبَ إليهم. ولا يقلُّ نشيدُ غريبالدي عن المارسييز. ويكفي أن نقولَ في

تأثيرَهُ إنَّهُ وحَّدَ إيطاليا المبعثرة , ونفَخ فيها روحاً صيَّرتها كما نراها الآن بعد أن كانت نهباً مقسمَّاً. وأيُّ إِنسانٍ لا يتحرَّكُ للعملِ عندما يسمعُ جارَهُ يُنشدُ انهضوا يا أخواني , واطردوا من بلادكم عدوَّها الغريبَ بالسيفِ , وانشروا أعلامكم , ولتفرح قلوبُكم التي تقَدِّمونها بفخرٍ فداءَ وطنكم أمَّا الولايات المتحدةُ الأمريكية فلها من الأناشيد الوطنيَّةِ حظٌّ وافر. غير أنّ نشيدها الرسميُّ منك يا بلادي ليسَ بالنشيدِ الذي يترنَّم بهِ الجمهور. وإذا سألت أبناء الولايات المتَحدة أن يختاروا من أناشيد هم واحداً لاختاروا بين 1 ينكي دودل و 2 العَلَم المرصَّع بالنجوم و 3 جسم جون براون ` و 4 السير في جورجيا و 5 أرض دكسي لأنَّ كل هذه الأناشيد وُضِعَتْ إِمَّا إِبَّانَ الحربِ أو في أيام الثورة. فالنشيدان الأوَّل والثاني كان أوَّلُ العهد بهما في الثورةِ الأمريكية التي قدت انكلترا فيها أغلى ماسةٍ في تاجها. والثالث هو الذي حرَّر عبيدَ أمريكا , وأدار رحى الحرب الأهلية بين الولايات الشماليةِ والولايات الجنوبيةِ. والرابع والخامس كانا نشيدَي هذهِ الولايات في تلك الحرب. ولقد لحَّنَ أحَدُ أخواننا السوريين نشيداً عنوانهُ لأجلك يا أمريكا ووضَعَهُ بين أيدي رجال الولايات المتحدةِ للنظرِ في إِحلالهِ محلَّ النشيدِ الرسميّ الحالي.

ولم يحفظ التاريخ بين صفحاته , خلافَ المرسييز وغريبالدي , عن نشيدٍ وطنيّ أنَّهُ أثر في النفوسِ مثلَ ربّنا أحفظ الملك عام 1896 عندما كانت تستعدُّ انكلترا لمحاربة أمريكا. فإنه أظهرَ ما خفي في صدر جون بل من العواطف الكامنة. وما زال منذ ذلك الوقت إلى يومنا هذا يُنشدُهُ البريطانيّون في انتصارهم فيملأهم فِرحاً وسروراً , وفي خذلانهم فيوليهم شجاعة وإِقداماً. أمَّا تاريخهُ فيرجع إلى سنة 1766 إذ كان يُنشدُ باللاتينية في عهد جيمس الثاني. إلا أنه يوجد في انكلترا نفسها من يعارضُ في جعلهِ نشيداً رسميّاً. والمعارضون قسمان: الأول يقول إِنه لا يجوزُ دينيّاً أن نطلب من الله سحقَ أعدائنا. فهم ينشدون بدَلهُ بارك يا رب وطننا وفيهِ يرجونَ للهَ حفظَ بلادِهم وحمايتها وانتشار السلامِ في العالم حتى يُصبحَ عدوُّهم صديقاً. والقسم الثاني يَضعُ الشعبَ في المقامِ الأوَّل , ويرى أن يُهتَفَ باسمهِ لا باسمِ الملوك. فوضَعَ لنفسه متى تنجّي الشعبَ يا ربَّنا ` ومطلِعُهُ متى تنجّي الشعب ياربّنا يا إله الرمة لا الملوك فقط بل الشعوبَ , لا التيجانَ , ولكن بني الإِنسان ولا يزالُ في انكلترا من يظنُّ أنَّ هذا في صحة الملك ` هو أحقُّ بجعلهِ نشيداً وطنيّاً من ربنا احفظِ الملكَ إِلاَّ أنهُ لا يتَّفقُ مع الذَّوقِ تحيّةُ ملكِ من بيتِ هانوفر بنشيدٍ وُضِعَ على نُفوسِ الشعبِ لاستردادِ سلالةِ ستوارت

مثل بني دندي والملك على سطح الماء وفي اللغةِ الانكليزية عددٌ غيرُ قليلِ من الأناشيدِ الوطنيةِ للشعراء: بيرنز وتمسون وموروكمبل تُحمّس الجبان , وتحيي ميّتَ الإِحساسِ مثل احكمي يا برْيطانيا وكثيراً ما نرى أنَّ النشيد الذي تنتخبُهُ الحكومة لا يتَّفِقُ مع ذوق الجمهور فيتركهُ كما في الولايات المتحدة. كذلك في ألمانيا؛ فإنك في أغلب الأحايين لا تسمعُ الشعبَ يترنمُ بالنشيد الرسمي. بل تجدُهُ يُنشدُ اليوم بحماس المراقبة على الرين لا يقلُّ عن حماس آبائهم يومَ كانوا ينشدونه قبلَ أخذِ الالزاس واللورين. غيرَ أنَّ لنشيدِ مارتين لوتر أو كما سمَّاه الشاعرُ هنريك هين مرسييز الإصلاح رنّةٌ لطيفة , وذكرٌ جميل , وتاريخٌ سارٌّ. فهو لا يزالُ يُسمَع اليوم بألمانيا كما سُمع في معركة لوتزن وفي حرب فرنسا. بل كلَّما جدَّ حادثٌ جَلل. ولقد عناهُ الفيكونت دي فوج أحد كبار كتَّابِ فرنسا في انتقادهِ رواية السقوط لا ميل زولا حيث قال إِنَّ من سمع الأصوات التي ملأت وادي الميوز ليلةَ أوّل سبتمبر سنة 1870 يعرف كيف غُلِبَت فرنسا على أمرِها ولا يجهلُ أحدُنا ما كان من التأثير الشديد لنشيدِ الدستور العثماني عام 1908 فالعهدُ ليسَ ببعيد. فقد أشعل نارَ الوطنية في قلوب العثمانيين ,

وعلَّمهم أن الحرية حقٌّ , والعدلَ واجبٌ , والمساواة طبيعية. فأصبحوا لا يرضونَ بالذُّل , ولا يرضخون للاستبداد. وما زال كالكهرباء يغلي الدّم في عروقهم , ويثيرُ الشعورَ في قلوبهم , حتى كان منهُ أن خَلَع عبد الحميد. أمَّا نشيدُ الجمهورية الصينية فأشهرُ من أن نشيرَ إليهِ. وهو أكبر برهانٍ على أنّ الأناشيدَ الوطنية هي التي ترفعُ الأمم من وهده الانحطاط. وهل كان يجول بفكرٍ أحدِنا أنّ الصين تصير يوماً ما جمهورية؟؟ نظرة إلى مصر بعد كل ما مرَّ بنا لا يوجدُ في هذا القطرِ ما يُطلقُ عليه نشيدٌ وطني سوى سلام الخديو هذا الخديو له الفخار وهو ليس مما يدفع القومَ لبذل النفس والنفيس في سبيل بلادهم. وما عداهُ فأناشيدُ يترنم بها أطفال المدارس في الاحتفالات. وجلُّها بل كلها من نظم شاعرِ الأمير أحمد شوقي بك وهي ممَّا يشكرُ عليها. إلاَّ أنها ليسَ لها الوقع الذي غيرها من الأناشيد الوطنية. والسبب على ما أظنُّ كون شوقي بك شاعراً غير ملحِّن. وقد اقترحَ بعضهم في الجريدة منذُ ثلاثة أعوام وضع جائزة لمن ينظم أحسن نشيدٍ وطني. ولا أرى لذلك فائدة. إذ أَن النشيد الذي يجب أن يكون نشيد مصر الوطنيّ لا يكون الباعث عليهِ حبُّ المال. واليوم الذي تجتمع فيهِ الوطنية الحقة والشعر والموسيقي في قلب احد أبناء النيل هو اليوم الذي نسمع فيهِ نشيدنا المنتظر؟ اتبره - السودان عز الدين صالح

في رياض الشعر

في رياض الشعر البستاني الشاعر والبستاني الوزير بين الأستاذ عبد الله أفندي البستاني العالم اللغوي الشهير وسليمان أفندي البستاني ناظر. التجارة والزراعة صلة وداد متينة عدا ما بينهما من صلات القرابة والأدب. فلما ألقيت إلي البستاني الوزير مقاليد الوزارة , كتب إليه البستاني الشاعر بالقصيدة العصماء التي نحن ناشروها هنا. ثم دارت بينهما , على أثر ذلك , مراسلة نتوقع الفوز بها لننشرها في الزهور. أما الأستاذ عبد الله فأشهر من أن نعرفه إلى القراء وهو أستاذ معظم أدباء سوريا , وزعيم العلماء اللغويين فيها , وكبير الشعراء المجيدين في ربوعها. ولقد تلطف حضرته فوعد الزهور بأن ينشر فيها سلسلة مقالات لغوية انتقادية تكون تكملة لتلك المباحث اللغوية الشائقة التي كان ينشرها المرحوم اليازجي في الضياء. ولعلنا أن نبدأ بها منذ الجزء القادم. كتب إليه أوّلاً بالتاريخ الآني: لي مع سليمانَ قلب لا يُزايلُهُ ... خوفَ الرقيبِ ففيهِ كلُّ أسراري إن نابَني بعدَهُ شوقٌ يؤرّخُهُ ... فإِنَّني مستعيرٌ قلب خطّارِ 1913 ثمَّ كَتبَ إليهِ: تَرَحّلْ إلى مولاكَ يا قلبُ عَجلانا ... وأبقِ لصدري بعدَ بُعْدِكَ نيرانا كأنّكَ في دارِ الشقاءِ معذّبٌ ... تحنُّ إلى دار السعادةِ وَلْهانا فها أنتَ ذا يا قلبُ تهجرُ أضلُعاً ... عليكَ انحنتْ لا تبتغي منك هُجرانا وأنتَ الذي أدمنتَ إيقاظَ أعيُني ... وأسأمتَ نجمَ الليل تخفقُ يقظانا فكم سكِرتْ بالدمعِ إّ كنتَ خافقاً ... ولكن بصَهباءِ الهوى كنت سَكراناً ولولاك ما اسودَّت لياليَّ إنما ... سيُسفِرْنَ بيضاً , أن قفوتُكَ , غُرَّانا

أتشكو عذاباً في الضلوعِ وأنتَ قد ... جعلتَ بحرّ النار صدريّ حَرَّانا جرى الدمعُ غازيّاً عليها زادَها ... سعيراً ولمَّا هجتَ خلتُكَ بركانا وساءكَ أن تنتابَها سِنةث الكَرى ... وسرَّكَ أن أرعى السوافرَ سَهرانا عهدتكَ ذا رفقٍ بها صائناً لَها ... فلاتكُ في عهدٍ لمولاكَ صوَّانا ألم يكُ إنساناً لها ابتهجت بهِ ... ولم تكُ تهوى غيرَهُ قَطُّ إنساناً أتتركه قَرْحَي ومولاك ناظِرٌ ... يعزُّ عليهِ أن تُقَرَّحَ أجفانا كمِ التمستْ منك الهُجُوعَ لأن ترى ... دموعاً بنحرِ الطيفِ تُعْقدُ مَرجانا فمِمَّنْ تعلّمتَ الجفاَء ولم تكُنْ ... ترى غيرَ مولاك الأنيسَ إلى الآنا تُنفّذ أمرَ الدهرِ فيَّ وما عنا ... أبيٌّ لذي حيفٍ لهُ أنقاد مِذعانا أما أنت تدري أنَّ مولاك مَوثلي ... إذا بان للعينيِ أو عنهما بانا وقامَ بنصري منذُ عهدِ صبائهِ ... وما خانَ عهدي قَطَ بل غيرُهُ خانا ولستُ أرَى غيرَ ابن عمّي أخي ولا ... أرى أبداً أبناء آدمَ إخوانا فما أكثرَ الإِخوانَ في مَذهب الهوى ... وليسوا إذا نالوا هوى النفسِ خُلاّنا ومَن عجمَ الأخلاقَ لم يكُ سائِلي ... على مَنْحِ قلبي لابن عمّيَ برهانا ولم يُلهِهِ عَنّي نعيمٌ غَنَا لَهُ ... وصَعْبُ شقاءِي إن فكرتُ بهِ هانا وهانَ عليهِ أن أحلّ بأرضهِ ... كما حلَّ إسرائيلُ في أرض كنعانا فموسى من المنّانِ قد نالَ منّه ... ولقياهُ مَنٌّ ما بهِ كان منّانا فيا قلبُ سرْ واسكنْ إليهِ فأنتَ ما ... فُطرتَ لترضى غَيره فيك سكّانا بحرمةِ أشواقي إليه توقَّ أن ... يرى فيك ناراً لوَّعتنيّ أزمانا فدّعها بصدري خوفَ لذعِ أناملٍ ... على الطرس قد خطَّت بياناً وتبيانا وإلاَّ فكن كالبدرِ بالشمسِ مزهراً ... وما فيهِ نارٌ بل بأنوارها ازدانا أحبُّ إليهِ أن براها كما رأى ... بحوريبَ موسى النارَ مرتفعاً شانا

وإِياكَ ذِكرى لوعتي بفراقهِ ... مَخَافة أن تلقاه يلتاعُ أحزانا وناسمْهُ عني بالسلام يظنَّهُ ... إذا اشتمَّ ريّاه تجسّم ريحانا قيا قلبُ لم يقنَعُ برؤيةِ طيفهِ ... فقد شاقك الجثمان تخفق لهفانا فكن بارحاً مثواكَ مرتحلا إلى ... فروقَ وطب واشهد لمولاك جثمانا وفي كلِّ نادٍ بالجلالِ مؤرَّخٍ ... تجَلّدْ ولا تخفق بنادي سليمانا 1913 عبد الله البستاني المشيب يا شَيبُ عَجَّلتَ على لِمّتي ... ظُلماً فيا ابنَ النُّورِ ما أظلَمَكْ بدّلتَ بالكافورِ مسكي وَما ... أضواهُ في عيني وما اعتَمَكْ مَنْ يقبلُ الفاضحَ في سَاتِرٍ ... فهاتِ ليلايَ وخُذْ مريَمكْ غرَّكَ أنّ الشَّيبَ عند الورى ... يُكرَمُ , هل في الغيد من أكرَمَكْ نَفّرْتَ عني غانياتِ الطلي ... ويحك قد أسقيتَني عَلْقَمَكْ دعونَني الشيخَ وكنتْ الفتى ... أخَّرني الدَّهرُ الذي قدَّمكْ ونالَ من حولي ومن قوّتي ... جَورُ زمانٍ فيَّ قج حكَّمَكْ سرعانَ ما أذبلتَ من صبوتي ... بناركَ البيضا فما أضرَمَكْ وشدَّ ما لاقَتْ عيوني فلو ... ينطقُ لي جفنٌ إذّنْ كلَّمَكْ ورُبَّ لمياَء منيعِ اللّمى ... تقولُ ما أسقيهِ إلاّ فمَكْ تخاطِبُ البدرَ على تَمّهِ ... جلَّ الذي من غرَّني جسّمَكْ كنتُ مع العفّةِ أحيا بها ... وهل بلا ماءٍ يَعيشُ السَمَكْ فرَّنْ كمثلٍ الخشفِ مذعورةً ... لما رأت في مفرِقي مِخْذَمَكْ

وصارتِ النظرةُ لي حسرَةً ... تقولُ للطرفِ أفضْ عَندَمكْ وما كفى يا شَيبُ حتى لقدْ ... فَضحتَ أسرارَ مِنِ اسْتكتمَكْ أيُّ خضابِ لم يكن ناصلاً ... عنكَ ولو بالليل قد عمَّمكْ فليتَ أيامَ شبابي التي ... أرقَتها غّدْراً أراقتْ دَمَكْ وأنتَ يا ظَبي النقا ما الذي ... أغراكَ بالهجرِ ومَنْ عَلَّمَكْ ما لبياضِ الرأس حكمٌ هنا ... لكن سوادُ الحظِ قد ألزّمكْ لو لم يُغِرْ هذا على لونِ ذا ... لم تجفُ ذا الشيخَ وما استخصمَكْ ما خلتُ أن ترضي بنقصِ الوفا ... واللهُ بالحسن لقد تمَّمَكْ يا ربِّ ما طالَ زمانُ الصبّى ... كأنهُ طيفٌ سرى وانْهمَكْ وهكذا الأيّامُ تطوى بنا ... سُبحانَك اللهمّ ما أعظمَكْ رضيتُ يا ربي بما ترتضي ... فلا تخيّبْ مُذْنباً يمَّمَكْ وأنتَ يا شيبيَ خُذْ بي إلى التق ... وى عسى الرحمنُ أن يرَحَمكْ عبد الحميد الرافعي هل أنت في مصر إذا كنتَ في مصرٍ ولم تكُ ساكناً ... على نيِلِها الجاري فما أنتَ في مصرِ وإن كنتَ في مصرٍ بشاطئِ نيلها ... وما لكَ من شيءٍ فما أنتَ في مصرِ وإن كنتَ ذا شيءٍ ولم تك صاحباً ... لإِلفٍ له لطفٌ فما أنتَ مصرِ وإن كنتَ ذا إلفٍ ولم تكُ مالكاً ... لكيسٍ حوي ألفاً فما أنتَ في مصرِ وإن حزتَ ما قُلنا ولم تكُ هائماً ... بمَيلٍ لمن تهوى فما أنتَ في مصرِ

في قينة تُنشد يا مَن بكى الرَّبعَ أفنى في معَاهِدِهِ ... شبابَهُ وبَكى الأيَّام والسَّكنَا تعالَ أُسْمِعكَ شَدْواً يستعيدُ بهِ ... فؤَادُك الرَّبعَ والأحبابَ والزمنا خليل مطران أنتِ والدَّهرُ أسيدتي. لا الدَّهرُ يُسعِفُ مطلبي ... ولا أنتِ إنّي حِرْتُ بينكما جدّاً إذا رُمتُ شيئاً جِئتماني بِضِدِّهِ ... لقد صِرْتِ لي ضِدّاً وقد صارلي ضدَّا سألتُكِ ودّاً فاسْتطبتِ لي الجفا ... وأمَّلْتُ قرباً فارتضى الدَّهرُ لي البعدا تشابهتما جَورْاً وغدراً وقوَّةً ... فصيّرتهِ ندّاً ولم تقبلي ندَّا فلا تحرماني لذّةً من تألّمٍ ... ولا تسلباني الوجدَ لن أسلوَ الوجدا خذا جسدي والروحَ فاقتسماهما ... ولكن دعا لي وحدَه ذلك الكبدا حفظتُ بهِ عهداً وأخشى ضياعَهُ ... وغني لأُبقي الكبد كي أُبقيَ العهدا ولي الدين يكن يا آسيَ الحيّ يا آسيَ الحيّ هلْ فَتّشتَ في كبدِي ... وهلْ تبيّنتَ داءً في زواياها أوَّاهُ من حُرُقٍ أودتْ بعظَمِها ... ولم تَزَلْ تتمشّى في بقاياها يا شوقُ رِفقً بأضلاعٍ عصفتَ بها ... فالقلبُ يخفُقُ ذُعراً في حناياها إسماعيل صبري

اللينوتيب العربية

اللينوتيب العربية اللينوتيب آلة جديدة لجمع حروف الطباعة سطوراً كاملة لم يتوفق اللّغويّون حتى الساعة لتعريب اسمها. وصفوة ما توصف بهِ إنها آلة مؤلفة من جملة قطع تدار بقوة الكهرباء ويستخدمها عامل واحد , يجلس تلقاءها على كرسيّه. ويضغط على أزرار مبسوطة أمامهُ , كتِب على كل زرٍّ حرف. من حروف الهجاء على مثال الآلة الكاتبة ومتى ضغط على الزر سقطت أمامهُ قطعة نحاسية محفور عليها الحرف المطلوب في مصّفٍ خاص وهكذا حتى يتم جمع سطر كامل , فيقراه ويصحح ما يكون قد وقع فيهِ من الخطأ برفع الأحرف المغلوطة , ويضبطهُ بوضع الأسداس وغيرها من أصول صناعة التنضيد. ثم يدير لولباً آخر فينزل على السطر المحفور المصفوف صفّاً أفقيّاً جزء من الرصاص المصهور لا يلبث أن يجمد ويتحول إلى سطر من أحرف مجموعة جمعاً لا شائبة فيهِ إلا الخطأ الذي قل أن يسلم منهُ منضدُ. ويتم الجمع والسبك بهذه الطريقة في مدة لا تتجاوز ثلث المدة اللازمة للجمع باليد. وإن كان في الجمع باللينوتيب عيب واحد هو عيب التصحيح فإنه إذا وقع خطأ في حرف واحد في السطر وجب تغيير السطر بأكمله. وقد انتشرت اللينوتيب في مشارق الأرض ومغاربها من باكين إلى طنجة. وتنضد بها الحروف في جرائد فرنسا اليومية عدا ستاً , منها الجريدة الرسمية.

وكان الكثيرون من أهل الصناعة أنه يصعب إيجاد لينوتيب عربية. ولكن بعض المتفننين من عمال المطابع ذلل هذه الصعوبة. وسبق الكاتب الفاضل نعوم أفندي المكرزل , صاحب جريدة الهدى العربية التي تصدر في نيويرك , غيره من أصحاب الصحف العربية في استخدام اللينوتيب لصف حروف جريدته. وأقام يوم بدأ بالعمل بها - وكان ذلك منذ سنتين ونصف على ما أذكر - احتفالاً شائقاً حضرهُ جمهور كبير من رجال الأقلام والمشتغلين بالصحف من سوريين وأمريكيين وتأتينا جريدتهُ يومياً في ثماني صحف كبيرة مصورة لا تنقص ترتيباً ودقة في صناعتها عن صحف أميريكا اليومية. ولا شك في أن الفضل في بلوغ هذه الصحيفة مبلغها من الترقي عائد إلى البيئة التي تصدر فيها وإلى ما هو معروف عن صاحبها من المقدرة في صناعتهِ. وكان ينتظر أن يعم استعمال اللينوتيب مطابع الصحف اليومية في الآستانة لأسباب عدة منها وفرة عدد ما يطبع من كل واحدة من هذه الصحف , ومهارة صفافي الحروف الأتراك وجمال خط كتابهم , وتعويلهم قسمين إذا دعت الحالة إلى ذلك فلا يحتاجون إلى مراجعة السطور وزيادة عدد الأسداس بين الكلمات كما يعمل صفافو الأحرف العربية لإيقاع نهاية الكلمة في آخر السطر. وقد سألتُ أحد أدباء الأتراك عن سبب امتناع الصحف التركية الكبرى عن استخدام اللينوتيب فما أحار جواباً.

وكذلك لم تستخدم اللينوتيب في مطابع القاهرة وبيروت , وهما مركزا النهضة الأدبية العربية , ويوجد في كل منهما دور للطباعة لا تنقص أهمية عن دور الطباعة الكبرى في لندن وبرلين وباريس. بل سبقنا أخواننا المراكشيون في طبع مطبوعاتهم الرسمية والشبيهة لها باللينوتيب. فقد نشرت مجلة في عددها الصادر في شهر نوفمبر الماضي رسالة وردت إليها من مكاتبها في طنجة يؤخذ منها أنهُ أنشئت في رباط الفتح وفي الدار البيضاء مطبعتان كبيرتان جهّزتا بعدد من اللينوتيبات - على حد قولك أسطرلابات - من بينها لينوتيب عربية وضعت في مطبعة رباط وتصف بها الآن أحرف الجريدة الرسمية لحكومة المغرب الأقصى وجريدة السعادة الشبيهة بالرسمية. وزينت المجلة رسالة المغربية. وجريدة السعادة المشار إليها جريدة نصف أسبوعية يحررها الأديب اللبناني وديع أفندي كرم. وقد عرفتهُ قبل ذهابه إلى المغرب الأقصى إِذ كان يشتغل في الجرائد اليومية بالقاهرة. وقد مرَّ بنا منذ خمس سنوات قاصداً لبنان فجرى بيني وبينه حديث عن جريدته وإقبال المغاربة على مطالعتها فقال لي: إِن القوم هناك يعتقدون أن الصحف بدعة يحرّمها الدين. ولم نتمكن من إِقناعهم بخطأِهم إِلاَّ بأن أتينا بشيخين من علمائهم وأجلسناهما في مكتب التحرير كما توضع التماثيل في مخازن تجار الملابس , وأبحنا زيارتنا لكل قاصد من الأُدباء وأهل الفضل. وكلما وفد علينا واحد منهم نشير إلى شيخ من الشيخين فيبدأ في شرح الصحافة وفوائدها وعدم

مخالفتها للدين. ولكن هذه العملية لم تكن لتقنع الكثيرين بأن الدين لا يحرّم مطالعة صحف الأخبار!! فذكَّرتني هذه المحادثة بما جرى بيني وبين الشيخ الكتاني , وهو أحد أئمة الدين في المغرب الأقصى. وكان قد حضر إلى القاهرة في أواخر سنة 1903 وأقام بيننا أسبوعين ترددت عليهِ خلالها غير مرَّة. وتحادثنا في عدة شؤون خاصة وعامة. فأتى يوماً ذكر الوراقة والطباعة فقال الأُستاذ رضي الله عنهُ: أنا لا أحب السير في أسواق الورَّاقين. قلت ولم يا مولاي؟ قال: لأنهم يبيعون فيها الورق الأبيض وربما أُخذ شيءٍ منه وكتب عليهِ ما يخالف القرآن. ولا شبهة في أنهُ عند انتشار اللينوتيب في المغرب الأقصى تبدد بقوَّة مطبوعاتها أوهام الشيخ الكتاني وأمثاله وتجدد فرنسا بقوَّة الكهرباء ما درستهُ أيدي الظلم من علوم المغرب وآداب أهله الزاهرة. ومن المصادافات الغربية أنهُ في الشهر الذي طبعت فيهِ الجريدة الرسمية للدولة المغربية الشريفة المحمية باللينوتيب وزَّع بعضُهم رسالة مصُورّة على أصحاب المطابع والمشتغلين بالصحف في القاهرة والاسكندرية قال فيها إِنه أنشأ في العاصمة مستودعاً كبيراً للينوتيب العربية. وقد طبعت هذه الرسالة طبعاً متقناً على اللينوتيب. وضمنها ناشرها بحثاً فنيّاً في فضل صف الأحرف باللينوتيب على تنضيدها باليد. ثم أخذ تدحض براهين القائلين بصعوبة تصحيح أحرف اللينوتيب. ومما جاءَ في

هذه الرسالة أن استعمال اللينوتيب ينشأ عنا أمور ثلاثة وهي: زيادة كمية العمل , وتقليل النفقات , وفتح أبواب جديدة للرزق. ولا يقتصر النفع على إتمام الجمع بسرعة بحروف نظيفة جديدة على الدوام بل أن ترتيب الصحائف يوفر وقتاً كبيراً بدون خوف من وقوع الخطأ. وليس هذا فقط بل إِنَّ بعضهم أنشأ في القاهرة مدرسة خاصة يديرها مهندس ميكانيكي اختصاصي باللينوتيب. ولكل من يشتري واحدة أو أكثر من عدد اللينوتيب أن يدخل من أراد في تلك المدرسة ليتعلم إدارة اللينوتيب بالمجان. ولكن هذه البيانات والتسهيلات لم تقنع أصحاب المطابع العربية وتدعوهم إلى صفّ أبطال الحروف باليد والاستعاضة عنها باللينوتيب. ولهم في ذلك حجج بعضها مالي وبعضها صناعي. وليس هنا مجال تأييد أحد الرأيين أو تفنيده. وكل ما أرجوه أن يتوفق كتابنا إلى تحسين خطَّهم ويمتنعوا عن التغير والتبديل في المسودّات. وحينذاك لا يكون هناك حائل يحول دون استخدام اللينوتيب بشرط أن يزداد عدد ما يطبع سواء من الكتب والمجلات والجرائد فيقوم بنفقات هذه الآلة المدهشة وأجور العاملين فيها وما يلزمها من كهرباء ورصاص ثمَّ أن لا ينسى من يؤَرخ الصحافة العربية والطباعة أن الفضل في تعميم اللينوتيب عائد كغيره من محسنات الطبع إلى الغرب ومخترعيهِ. القاهرة توفيق حبيب

أفضل الوسائل

أفضل الوسائل لإنهاض السلطنة خطرِ لنا عند الفراغ من تأليفِ هذا الكتاب , أن نستطلع آراء نخبة من أكابر العلماء وفحول الكتّاب , عن أفضل وسيلة تنهضُ بالسلطنة بعد كبوتها , وتزيدُ في يقظةِ الأمّة بعد غفوتها؛ فسألنا من أسعدنا الحظ بالوصول إليه , قُبَيل صدورِ هذا المؤلف , أن يصوغ لنا فكرتهُ الأساسية في أسطر قليلة فتكرَّموا بتلبية الطلب , أدامهم الله زهراً نضيراً في بستان العلم والأدب. وإليك آراءَهم مرتبة حسب تواريه ورودها: قال سعادة فتحي باشا زغلول: أقرئك السلام وبعد فسؤلك همُّ ومطلبك أهمّ الدولة العليّةُ , رعاك الله , مجموعٌ يحتاج في سياستهِ وإنهاضهِ إلى حكمةٍ عاليةٍ وبصرٍ بالأمور كبير. فإذا غلبَ الرأيُ الهوى , وبطلَ التفاضلُ بين العناصر , وأقيم وزن العدل , وتساوى الناس جميعاً في الحقوق وفي الواجبات: وإذا خلصت نيَّات أهل الزعامة , وصدقت عزائم ذوي الرئاسة , ففضَّلوا مصالحَ الأمة على المنافع الفردية , وجدَّ الكلُّ في طلب الإصلاح فنشروا التعليمَ , وعنوا بالأمور الاقتصادية فاستبقوا لأنفسهم مرافقَ البلاد وكنوزها , وذلَّلوا السبُلَ وأَمَّنوا السابلة , وقرَّبوا المسافات ثم ازدرعوا واحترفوا واتجروا فأحرفوا؛ وإذا احكموا نزانَ الجندِ وهذَّبوه لا

شك أنَّ الدولةَ ناهضةٌ من سقطتها , وأنّ الأمّةَ ناشطةٌ من عقالها , وأنها نائلةٌ من الحضارة والمناعة مكانا عليّا. وقال الدكتور فارس أفندي نمر: حضرة الفاضل؛ إن كان المقصودُ من السلطنة في سؤالكم الحكومة والأُمَّةُ في حالتهما الحاضرة أي الدستورية فوسائط إِنهاضها متعدّدةٌ: منها ماديٌّ ومنها أدبي. ولكل واسطةٍ منها قوَّة لا يُستغني عنها وخصوصاً وسائط العلم والمال. على أنَّ في الحكومة وفي الأُمةِ رجالاً م ذوي العلم وذوي المال فلا يعوزهم إِدراكٌ ولا يسار؛ ولكن الذي ينقصُنا هو تربيةُ الحكومة على الأخلاق القويمة والصفاتِ المنظَّمة والمرقّيةِ لشؤون الهيئة الاجتماعية حتى نستطيع الاتحادَ والتعاونَ على تدبير أمورنا وإنجاح أعمالِنا , ونحنُ جماعات , كما يستطيع كثيرون منا اليوم تدبير أمورهم وإنجاح أعمالهم , وهم أفراد. وقال الدكتور شبلي شميل: الدولة لا تنهض إِلاَّ بثلاثة: رجالٌ ومالٌ ووقتٌ؛ والرجالُ بالعلم والتربية , والمال بالموارد. فهل ذلك متوفرو ولاسيما الوقتَ وحالنا في الاجتماعِ كما هي من قلَّةِ التكافؤ مع ما هو عليهِ اليوم من شدَّةِ التنازع؟ والجواب على ذلك يدل على المصير.

وقال السيد رشيد رضا: الدولة كائن حي يحفظ وجودُها بالسنّة التي تُحفظ بها حياة سائر الأحياء: وهي سلامةُ مزاجها في نفسها ووقايتهُ مما يعدو عليهِ من الخارج فأمَّا سلامةُ مزاجِ دولتنا العثمانية في نفسها ووقايتهُ مما يعدو عليهِ من الخارج. فأمَّا سلامةُ مزاجِ دولتنا العثمانية في نفسهِ فإِنما يكون بإقامةِ الشرعِ العادل في القضيةِ , والمساواةِ في الحقوق بين الرعية , وبناءِ إِدارة المملكة على أساسِ اللمركزية , وجعِ السلطة العليا شقَّ إلا بلمة بين العنصرَين اللَّذين يتكوَّن منهما الماء والهواء. وأما وقايتُها مما يعدو عليها من الخارج فهو الآن منوطٌ بدلوِ أوربةَ الكبرى فهنّ أصحابُ المطامع فيها ومطامعهُنَّ متعارضة. وما دامت كذلك كانت الدولة آمنةً على نفسها من اقتسامهنّ إياها بالقوَّة؛ فيجب أن نتقي استيلاءَهنَّ على البلادِ بقوّة المال والسياسةِ أي بالفتح السلمي , وأن نقوّي مزاج الأُميّةِ بالمالِ والعلم وإعدادِها للدفاع عن نفسها. فإذا هي فرَّطت في مرافقها وأملاكها فباعتها للأُوربْيّينَ وبقيت على تبذيرها وتوهمّها إنها تستطيع أن تحمي نفسَها منهنَّ بقوَّتي الدول: البرية والبحرية الرسميتينِ , ولم تجعل كلَّ أعمادِها على الأُمة , فالخطرُ عليها من الفتح السلمي أقربُ وأقَوى من خطرِ الفتح الحربي. وقال داود أفندي بركات: رأيي في إصلاحِ السلطنة العثمانية أن تُقسَم مناطقَ , وأن تكونَ كل منطقة مؤلفةً من العناصر المتفقة في التقاليد والعادات واللغةِ ,

فتُعطى الاستقلالَ الإداريَّ تبتُّ من أموره كلّ مالا يتناول منطقةً أخرى أو أكثرَ من منطقة. ويُعيّنَ لكل منطقة مندوبٌ سامٍ يعاونهُ مجلس إدارة يؤلف من النّيين في الأمور الماليَّة والإداريةِ والقضائيةِ والعسكرية , ويؤخذ للمركز العام جزءٌ معينٌ من دخل كل منطقةٍ , وتُلغى الضرائب العشرية , وتقرَّر ضرائبُ ثابتة معينة على الأملاك , وتوضع قوانين للشركات على اختلاف أنواعها , ويوحّدَ القضاءُ فلا يكون من اختصاص رجالِ الدين إلاَّ الأمورُ الشخصيّة. فتكون الدولة مؤلفة من ولايات متحدة أو مناطق متحدة. ذلك رأيي في إنهاض السلطنة بسرعة. وقال جرجي بك زيدان: العلَّة الحقيقيةُ في حالة الدولة العثمانية اليوم فَقرُ المملكة واضطرابُ الحكومة. والحكومة الدستورية في أيدي الأمة والأمة العثمانية ضعيفة الأخلاق , عريقةٌ في الانقسام بسبب ما توالى عليها من أعصرِ الفساد. أما المملكة ونعني الولاياتِ الباقيةَ منها في آسيا فليس فقرُها أصليّاً فيها؛ وكل ولاية منها كانت في بعض الأزمان مملكة قائمة بنفسها: فالعراقُ كانت وحدَها مملكة البابليّين والآشوريين وبها اعتزّ العباسيّون في إبَّان دولتهم وكانت جبايتها ثلثَ جباية مملكتهم الواسعة الممتدّة من حدود الهند إلى شواطئ الاتلاتنيكي. وسوريا كانت مؤلفةً من عدَّة دُول ثم

اعتزَّ بها السلوقيّون أجيالاً؛ وكذلك آسيا الصغرى وظلّت مدة هي أعظم اركان الدولة العثمانية. فهذه الولاياتُ إذا أُحسنت سياستُها وإدارتها صارت غنية. وهذا لا يتمُّ والأمة تقدَّم. فالوسيلة المثلى للنهوض بالدولةِ العثمانيةِ إنما هي ترقية الشعب وهو لا يقدرُ أن يرقّي نفسهُ رغم استعدادهِ الطبيعي للرقي. وقد يقوم بذلك حاكم عادل عاقل؟ إنما يشترط أن يكون مستبدّاً وهذا لا يتيسّر والحكومة دستورية. فلا بدَّ من الاستعانة بالأجانب. وأسلمُ الطرُق أن تتحالف الدولة العثمانية مع دولة تثِقُ بصداقتها فتستعين برجالها على إصلاح حكومتها وترقية شعبها وصيانتها من مطامع الدول الأخرى بشرط أن لا يكون لهذه الدولة مطمع في الاستعمار. فإذا وُفّفت إلى ذلك في أثناء أربعين سنة نهضت واسترجعت رونقها. وقال سامي أفندي قصيري لما كانت الدّولة العثمانيةُ فيما مضى دولةً استبداديةً قائمةً على حكومة الفرد كانت تقوى بقوّة ذلك الفرد , وتضعف بضعفهِ , وتسعدُ بسعدهِ , وتشقى بشقائهِ. أما الآن وقد أُعلن فيها الحكمُ الدستوري مراعاةً لأحوال الزمان والمكان , وتبدَّلت حكومة الفرد بحكومة الأمة , فصلاحُ الحكومةِ قائمٌ بصلاح الأمَّة. ولا يكون ذلك في رأيي إلاَّ بنشرِ التعليم الحرّ بين طبقاتها , والفصل بين دُنياها ودينها , والتأليفِ بين عناصرِها وطوائفها حتى تُصبحَ جميعها كتلةَ واحدةً يحرِّكُها من أعلاها إلى أسفلِها عاملٌ

واحدٌ هو عاملُ الوطنيةِ , وتجمعُها من أقصاها إلى أدناها جامعةٌ واحدةً هي الجامعة العثمانية. وقال اسكندر بك عمون أصلَحُ نظامٍ للدولة , على ما بين العناصرِ والولاياتِ العثمانيّة من التبايُن في الحاجاتِ والأخلاق والعاداتِ والتقاليدِ , وعلى ما بينَ أهليها من التفاوُتِ في الحضارة , أن تُجعَلَ ممالكَ أو ولاياتٍ مستقلّةً في جميع شؤونها الخاصةِ استقلالاً تامّاً حتى في قوانينها وفي شكل حكومتها مع ارتباطها جميعاً في الشؤونِ العموميّةِ على نحو نظامِ الولايات المتَّحدةِ الأميركانية , أو الممالكِ الجرمانية , فتُسمَّى حينئذٍ الولاياتِ أو الممالكَ العثمانيَّةَ المتحدة. ولهذا النظام مزيّةٌ على كل نظامٍ آخر وهي: أنهُ النظامُ الوحيدُ الذي يمكنهُ أن يجمع بين الولاياتِ والإِماراتِ العربيَّةِ في جزيرة العربِِ وسائر الولايات الأخرى الممتازة وغير الممتازة. وقال أمين أفندي البستاني سألتني رأييَ في الدولةِ ومصيرها: جازَ بالدولة في هذا العام عبرةٌ كبرى إذا لم تعتبر بها نالها ما هو شرٌّ منها. وللدولةِ الآن بقيَّةُ مُلْكِ هو أبعدُ مدى , وامنعُ حمىً , وأطيبُ بقعةً من جلِّ الممالك الأُوربيةِ. فهل لها أن تعدِلَ الباقي من هذا المُلْكِ وتمنَعهُ حادثات الدهر؟ الله أعلم

على أنَّ الدولةَ لا تجهلُ أشراطَ المُلْكِ على المالكِ وما هو مُبقٍ لهُ , وما هو ذاهبٌ بهِ حتى لقد أصبحت الدلالةُ على وجوهِ الإِصلاحِ المنشودِ من مبتذَلاتِ الكلامِ , وملوكاتِ الأفواه والأقلام. فهلْ للدولةِ أن تعملَ بما علَّمها الدهرُ على حين لم يبقَ لها من ناصرٍ إِلاّ ما تسعى إليهِ من ترميم هذا المُلكِ العزيز؟ وإِلاّ فقد قضى الله بما لا دافع له ولا مانعَ منهُ , وحسبُكم الإِشارة يا ألبَّاء هذه الدولة. فاعدلوا بين ضروبِ الرعيَّةِ لأنَّ دولتَكم مستمدَّةٌ من جملتها لا من أبعاضِها , وقدّموا الكفؤَ على غيره مهما كانت نبعتُهُ ومنبتُ أسلتهِ , واستعملوا الأجنبيَّ في تدبيرِهِ , واسلكوا القصدَ في عملكم من غير سرفٍ ولا تفريطِ , وخذوا بالجديد الصالحِ , واخلعوا القديمَ المبتذلَ ثم أعدّوا للمُلْكِ عدّتَهُ من رجالٍ ومال؛ والله الواقي في هذا الباقي. وكتب إليَّ عالمٌ كبيرٌ لم يشأ أن يُنْشَر اسمهُ قال: إِن الأمر عويصٌ جدّاً لأن في السلطنة فواعل كثيرة متناقضةً بعضها خفي , ولقد سمعتُ مرَّة المرحوم نوبار باشا رئيس الوزارة المصرية الأسبق يقول: إِن لو رد دربي ألقى عليهِ سؤالاً مثل سؤالك وطلب منه أن يرتاءي رأياً , أو يضعَ مشروعاً نافعاً للسلطنة العثمانية؛ قال نوبار: فأخذتُ القلم وكتبتُ أن يُنشأَ في السلطنة محكمةٌ مختلطةٌ مستقلَّةٌ تُرفعُ إليها الشكاوي من المأمورين فتحاكمهم وتنفّذَ الحكومة ما تحكم بهِ عليهم فما أدقَّ هذا الانتقادَ , وما أرقَّ هذا التهكُّم!. . .

الممرضة

الممرضة وضع حضرة الدكتور سروبيان طبيب مستشفى لادي كرومر وملجأ الأطفال كتباً في علم الصحة وقدمها إلى نظارة المعارف العمومية لتعليمها في مدارسها , وقد تناول فيها ما ينبغي على الطلبة معرفته في هذا الفن فكتبه بعبارة واضحة وزين الكتب بالصور والرسوم. فجاء عمله متمماً وافياً بالغرض منه. وقد نقلنا من أحد الفصول الكلمة التالي , في وصف الممرضة. قال: قد يُصابُ عزيزٌ لنا بمرض عُضال فيكون على المرأة وحدَها أن تمرَضهُ وتعتني بهِ. أوَ ليستَ الرشاقة والرقَّة والحنان من الصفات التي تغلب في النساءِ ويقتضيها فنُّ التمريض؟ غير أن هذه المزايا الجميلة لا تكفي وحدَها بل يجب أن تقترنَ بالخبرة والمعرفة , وترافقها على الخصوص زلاقةٌ في العمل والحديث. ولئن كن العطفُ شرطاً في معاملة المرضى , فإن اللطف من مستلزمات هذا الفنّ الدقيق. لطفٌ في العمل , وعذوبة في اللسان؛ كلاهما لا غنِى عنهُ: أيتها الممّرضة , ما للمريض غنِى عن عذوبتكِ. كلميهِ بوادعةٍ كما تكلّمين الطفل الصغير. وليكن ملءَ صوتك دِعةٌ ورزانةٌ , وعلى شفتَيكِ شبهُ ابتسام. ما للمريض غنى عن لطفكِ ورفقكِ. لِتَمَسَّهُ يدكِ مسّاً لا تقسُ عليهِ قساوة. لَمْسٌ دون لَهوجةٍ , ورشاقة دون تسرُّعٍ , ولطفٌ دون برودةٍ!! لا تغضبي ولا تنفري. قد تسمعين منهُ سوءاً , وقد تُلاَقين فظاظةً؛ فلا تُسئِكِ إِساءتهُ , ولا تَرُعكِ فِظاظتهُ؛ وقد ينفرُ منكِ , ويتطلَّبُ بديلاً

عنكِ فلا تنفري منهُ ولا تقابليهِ بغير التسامح واللين. لا تثقل عليكِ شكواهُ وكثرةُ مشتهياتهِ , فإن الممرّضة المخلصةَ تجدُ دائماً وسائلَ لتعزية المريض وتلطيف همومه. نفسُها الفاضلة توحي لها , وقلبُها الشفوق يملي عليها. هي مرآة مريضها. يرى في وجهها صورة ما يحسُّ بهِ في نفسهِ , ويُبَصر في عينيها سيماءَ ما في فؤاده. تشكو لشكواه وترضي لرضاه. فإِن حدَّثها عن نفسهِ أصغتْ إليه واعيةً أمرَهُ متهمَّةً لشؤونهِ؛ الهدوء في حركاتها , والرَّزانة في سكناتها. وأمَّا الإِخلاص والحنان فملءُ عملها الشريف. هذه هي الممرضة وتلك هي صفاتها الجميلة ومزاياها الغرَّاء! ومن جملة واجبات الممرّضة أن توصدَ باب مريضها دون عائديهِ , ولاسيَّما متى كان داؤهُ عُضالاً , وحالهُ خطرة. فيُستقبل العائدون في حجرة أُخرى. وحينئذٍ فإن السكينةَ لابدَّ منها لأن المريض لا يقوى على تحمُّلِ الجلبة. وإِذا أَعضل الداءُ وأَشفى المريض فمن المحتَّم على أهلهِ وممرّضيهِ أن يتحاشوا قدَّامهُ كلَّ علامات القلق والخوف فلا يقرأ على وجوههم نبأ انقطاع الرَّجاء , ويرى في عيونهم نذيرَ الشرّ ودُنوّ الأجل. لأن المريض , في تلك الحال , كثيرُ الشكوك , كثيرُ المخاوف؛ يحاول أن يسترقَ نظرة يفهم منها حقيقة أمرِه , أو يختلسُ إِشارة يعلمُ بها ما يخفي عليهِ من حالهِ الصائر إليها.

إِنَّ أفضلَ ما يؤَاسي به مريضٌ على شفا الموت اعتقادٌ مستمرٌّ في نفسه بزوال الداءِ وقرب الشفاء. وقال من جملة كلام عن العناية بالطفل: أما في البيت فلا يُترك الطفل طول يومهِ في مهدهِ , بل يُحمل من ينٍ على حينٍ على الذراع ويُتَمَشَّى به. ومتى بلغ الشهر السادس أو السابع من عمره يوضع كلَّ يومٍ , مدَّة من الزمن , على حصيرٍ أو سجَّادةٍ أو بساطٍ حيث يمكنهُ أن يلهوَ ويلعبَ. فتتقوَّى كُلاَه , وتشتدُّ رجلاهُ , وهو يحاول القعود وحده , ثمَّ الانتقال من مكانه فيحبو , ثمَّ يدبُّ مستنداً إلى يديه ورُكبتيه. ثم يحاول بعد مدةٍ أن ينهض منتصباً فيستعين بالكراسي أو بما يلاقيهِ قدَّامهُ , فيتعلَّم بذلك الوقوف على قدميهِ. ثمَّ يأخذ بأن يباعد بين ركبتيه , ويخطو خطواتهِ الأولى ممسكاً بالمقاعدِ؛ ومتى أَنِسَ من نفسهِ القوَّة الكافية يترك كلَّ مسند ويمشي وحده.

العذول والخيال

والصغيرُ الذي يتعلم المشيَ على هذه الصورة ينشأُ ثابتَ القدمينِ مستقيم الفخذين. أما محاولة تمشية الطفل قبل الأوان فلا تفيد شيئاً بل قد تعودُ عليه بالضرر. فإذا أُرغمَ على الوقوف على رجليه مثلاً قبل أن تقويا على حملِ جسمه , تقوَّست رجلاه ونشأ مشوَّهاً لأن عظمهُ لم يكن قد تصلَّبَ بعد. الدكتور سرو بيان العذول والخيال أبيات تُغني في بَشرَف عاذلي في هَوى الحبيبْ ... جاَءني في دُجَى الظّلامْ قُلتُ فرَّقتَ يا رقيبْ ... بين جفنَيَّ والمَنَامْ حسبُك السعيُ في النّهارْ ... بينَ خلٍّ وخلِّهِ ساهدٌ فاقِدُ القرارْ ... أعفُ عنهُ وخلّهِ قال يا عاشِقَ الجمالْ ... إنما العاذِلُ الغيورْ كيفَ تخلو مع الخيالْ ... في خفاءٍ ولا أزورْ خليل مطران

في أي شهر ولدت؟

في أي شهر وُلدت؟ كنا قد نشرنا في بعض أجزاء الزهور على سبيل الفكاهة شيئاً مما توصل إليه المغرمون بدرس طوالع الناس من تأثير الشهور والأيام في أخلاق المواليد. وقرأنا في جريدة الشعب اللبنانية خلاصة لتلك الملاحظات مترجمة عن كتاب شيرو فرأينا أن ننشرها في مطلع العام الجديد. إن الذين يولدون في شهر يناير كانون الثاني يُولدون أصحابَ أفكارٍ واسعة وعقولٍ راجحة وصبرِ وثبات أمام المصائب وميلٍ للاشتغال بما هو مفيدٌ للبشر. ولهم افتتانٌ في الحبّ والواجب العمومي , ولهذا كثيراً ما ينظُر أصحابهم وخلاَّنهم إلى أعمالهم بعين الاستغراب. وأخلاق مواليد شهر فبراير شباط قريبةٌ من أخلاق مواليد شهر يناير المذكور. ولكن مولود فبراير يمتازُ عن مولود شهر يناير بنجاحهِ في أعمالهِ وبإفادتهِ الغير أكثر ممَّا يُفيد نفسهُ وبطول قامتهِ ومزاجهِ الحادّ وسرعة تأثُّرهِ لأقلّ الأمور. ومواليد شهر مارس آذار يتطلعون إلى الغد بتشوَّق , لا لأجل شيء غير معرفتهم كيفية مركزهم , وماذا يُضم رلهم المستقبل في الغد. وقد لاحظ شيرو أنَّ أفكارهم هذه ناتجةٌ بالأكثر عن التشوُّق ليعرفوا أرؤساءَ سيكونو في المستقبل أم مرؤوسين. وأكثر أصحاب الفنون من موسيقيين وشعراء وعلماء وُلدوا في مارس , ولكن هؤلاء في الغالب يفتقرون للتشجيع قليلاً. وأما مواليد شهر ابريل ونيسان فهم متصلبو الرأي , ذوو إِرادةٍ قوّية عشَّاق للحروب والمخاصمات , ويمتازون على غيرهم بمقدرتهم على حسن إِدارة الأعمال , ولكنهم في الغالب يكونون محرومين من

السعادة في الزواج وبالنادر يتزوَّجون بمن يحبون. ومواليد شهر مايو أيار من خصائص طباعهم وأخلاقهم الإِخلاص والمودَّة. فهم إذا أحبوا يُحبُّون. وإِذا جاهروا بالعداوة يُقاتلون أعداءَهم بصلابةٍ حتى الموت , ولا يتكتَّمُون في المقاتلة , لأنهم يُبغضُون الخداعَ والمداهنة والغشَّ. وقد لاحظ شيرو أنَّ مولود مايو لا يتزوَّج باكراً وإِذا كان خلاف ذلك فإِنما يكون نادراً وشاذّاً. وأمّا مواليد شهر يونيو حزيران فمتقلّبون لا يستقرُّون على حالٍ تتناوب نشاطهم الحرارة والبرودة في وقتٍ واحد. ومن ميولهم الولَع بالتمثيل والمحاماة والخطابة. وأشهرُ الخطباءِ والمحامين والممثلين وُلدوا في يونيو. ولو كان مواليد هذا الشهر ممن يخصّصون أنفسهم بشيءٍ لبرَّزوا في أي حلبة اطَّلبوها في هذه الحياة. ومواليد شهر يوليو تموز ميَّالون إلى الأسفار , ولهم ولعٌ بالمقامرة والربح السريع , لكنهم متقلّبون أيضاً كمواليد شهر يونيو وقلَّما يشرعون في عمل ويُتمّونهُ. ومواليد شهر أغسطس آب غالباً ما يكونون من عُشَّاق الثوب العسكري وقيادة الجيوش والاشتغال بالأمور العمومية , ومن صفاتهم عزَّة النفس والحرّية الفكرية والاستقامة ورقَّة الشعور والسماح , وكثيراً ما خُدِعَ مواليد أغسطس بأمورٍ مهمَّةٍ , وانقلبَ سماحهم إلى قسوةِ قلبٍ شديدة بغَّضتهم إلى الناس.

وأما مواليد شهر سبتمبر أيلول فقد اشتهروا بالانتقاد العلمي وسرعة الخاطر وذرابة اللسان وقوَّة الذاكرة وإِدراك خطأِ الغير لأوَّل لمحة؛ ولكنهم قبل كل شيء يصرفون جلَّ اهتمامهم إلى أُمورهم الخصوصية. وفي شهر أكتوبر تشرين الأول وُلد أشهرُ المقامرين وأكثر المبذّرين الذين لا يكترثون كثيراً للمال. وقد لاحظ شيرو إن أكثر مواليد هذا الشهر يميلون إلى درس الحقوق ويشتهرون في المحاماة والقضاء والفقه؛ وأما في زواجهم فنادراً ما يكونون سعداء لأنهم يُعظّمون أٌلّ الأمور ويهتمون لها اهتماماً شديداً. وأما مواليد شهر نوفمبر تشرين الثاني فقد اختصوا بأخلاق تقضي بالعجب. فإن الفضيلة ونقاوة الفكر تلازمانهم قبل بلوغ العشرين من عمرهم. ولكنَّهم في الغالب يكونون ضعفاء الإرادة سلِسُو المقادة يميلون كيف تميل بهم الشهوة دون ما اكتراث للنقاوة والأدب. وأكثر مواليد هذا الشهر ممن اختصُّوا بقوّةٍ جاذبة يستميلون بها عشراءَهم , ولكن أكثرهم يكون من ذوي النفوس الصغيرة التي تتضاءل عند شدّ النوازل والأمور. وفي شهر دسمبر كانون الأول وُلد أكثر العمال النشيطين الذين أدركهم الموت قبل أن يُدركهم الكلل والفتور. ولكن شيرو لاحظ أنَّهم ينتقلون من حرفةٍ إلى أُخرى بسرعة. فبينما يكونون أساتذة , فإذا بهم كهنة أو تجار أو صيارف. ولكنهم في الغالب لو أُطلقت يدهم في كل عمل يميلون إليهِ لأحرزوا بهِ القدح المعلَّى وما جاراهم فيهِ مجارٍ.

ثمرات المطابع

ثمرات المطابع ديوان المازني - عنيّت الزُّهور منذ نشأتها بنشر المختار من الشعر العصري فلم يصدر جزءٌ من أجزائها قط إلاَّ وفيهِ بضعُ صفحاتٍ جامعة لأجوَد ما نظمهُ في حينهِ كبار شعراء مصر وسوريا والعراق. وكان هؤلاء الأفاضل , وما برحوا إلى اليوم , يختصُّون هذه المجلَّة بنفثاتِ قرائحهم حتى حقَّقوا غايتها التي إنما أُنشئت لها وهي أن تكون صلة تعارفٍ بين أدباء اللغة العربية في كل قطرٍ. على أننا نأسف أن يكون بين شعراء مصر المجيدين شاعر لم توفَّق الزهور بعدُ إلى عرض شعرهِ الطيّب على قرَّائها المتشتتين في الأقطار العربية والأميركية وهو إبراهيم عبد القادر أفندي المازني؛ فإن هذا الشاعر العصري كاد أن يكون مجهولاً منَّا نحن مقيمون في مصر وحضرتهُ من أبنائها الأفاضل , فكيف بزملائهِ الأدباء في سوريا والعراق وغيرهما. وليس حظ سائر الصحف والمجلاَّت المصرية بأجمل من حظّ الزهور في هذا المعنى. لذلك يقُّ لنا أن نقول إِنَّ ديوانهُ فاجأنا مفاجأةً في خلال هذا الشهر , ولكن مفاجئة الحَسَن السارّ. قلّبنا هذا الديوان صفحةً صفحةً فما وقعتِ العين فيهِ على موضوعٍ مبتذل قط. فليس هناك مديح أو رثاء أو تهنئة أو عزاء؛ بل الديوان في مجملهِ مجموعة عواطف جاشت بها النفس فنظمها الفكر شعراً , والشعرَ ما صدرَ عن النفس وأرسلهُ الخاطر عفواً؛ فالمازني بحكم هذه القاعدة المأثورة شاعر مطبوع لا ينظم إِلاَّ خطراتِ خاطرِهِ , ولا يترجم بمنظومهِ إِلاَّ

عواطف نفسه. وإذا صحَّ رأينا فيهِ , ونحن لا نعرفهُ , كانت نفسهُ أميلَ إلى الحزن واليأس منها إلى الفرح والرجاء. فإننا ما قرأنا لهُ قصيدةً خاليةً من وصف همومهِ ومتاعبهِ وشكاياتهِ أو من إِشارة إلى ذلك على الأقل. فكنا نتخيلهُ من خلال معانيهِ عبوس الوجه معقَّد الجبين ليس على شفتيه ابتسام , ولا في ظواهر وجههِ ما ينمّ عن رضى في نفسه. وفي يقينا أن نارَهُ التي لم تطفأ منذ استهلَّ ديوانه في الصفحة الأولى بأبيات الإهداءِ حتى ختمهُ في الصفحةِ الأخيرة بالخاتمة إلى صديق هي التي أحرقت ألفاظهُ وذهبت برونقها , وملأت ديوانهُ عواصف وزوابع , وهموماً وأشجانا , وآلاماً وأوجاعاً , ويأساً ودموعاً حتى اشتبه علينا قول شوقي: خُلِقَ الشاعرُ سمحاً طرباً. ولقد كنَّا نودُّ لو كان المجال أوسعَ فننشر للقراءِ شيئاً من قصائدهِ يزيدهم معرفةٍ بهِ ولكننا نجتزئُ بالمقتطفات التالية للدلالة على الأسلوب الذي يسير عليهِ والمعاني التي يتناولها في شعره: قال بعنوان: فتىً في سياق الموت: نعدُّ أنفاسَهُ ونحسبُها ... والليلُ فيهِ الظلامُ يلتطمُ إذا خروجُ الحياةِ أجهَدَهُ ... تساقطت عن جبينهِ الدّيمُ صدرٌ كصدرِ الخضمّ مضطربٌ ... جحافلُ الموتِ فيهِ تزدَحِمُ إن قام ملنا لهُ بمسمَعِنا ... أو نام خفَّت بوطئِنا القدَمُ كأنما الخوفُ من تردُّدهِ ... خيلٌ لها من رجائنا لُحُمُ خلناهُ قد ماتَ وهو في سنةٍ ... ونائمَ الجفنِ وهو مخترمُ قد قلَّصت ثغرَه منيتُهُ ... كأنهُ للحِمامِ يبتسِمُ

وقال بعنوان: حالة ثورة النفس في سكونها فؤادي من الآمال في العيش مجدبُ ... وجوي مسودّ الحواشي مقطّبُ تمرُّ بي الأيَّامُ وهي كأنها ... صحائفُ بيضُ للعيونِ تقلّبُ كأنْ لم يخطَّ الدهرُ فيهنَّ أسطراً ... يبيتُ لها الإنسانُ يطفو ويرسبُ شغلتُ بماضي العيشِ عن كل حاضرٍ ... كأني أدركتُ الذي كنتُ أطلبُ وما كلَّتِ الأيَّام من فرطِ عَدْوِها ... ولا عطّل الأفلاكَ خطبٌ عصبصبٌ لقد كان للدنيا بنفسي حلاوةٌ ... فأضجرني منها الأذى والتقُّلبُ وقد كان يُصببني النسيمُ إذا هفا ... ويعجبني سجعُ الحمامِ ويُطربُ ويفتنني نومُ الضياءِ عشيَّةً ... لى صفحةِ الغدران وهي تُسبسبُ فما لي سقى اللهُ الشبابَ وجهلهُ ... أراني كأني من دمائي أشربُ ومالي كأني ظلّلتني سحابة ... لها من محفوفاتِ الأساودِ هيدَبُ سأصرخُ إمَّا هاجتِ الرّيحُ صرخةً ... تقولُ لها الموتى ألا أين نهربُ وقال بعنوان: الملل من الحياة أكلّما عشتُ يوماً ... أحسستُ أني مُتُّهْ وكلّما خلتُ أني ... وجدتُ خِلصاً فقدتُهْ لا أعرفُ الأمن عمري ... كأنني قد رُزِئتُهْ ما تأخذُ العينُ إلاّ ... ما ملّلني ومللنُهْ كأنّ عينيَ مدلو ... لةٌ على ما كرهتُهْ تُضيئُني الشمسُ لكن ... لأجتلي ما أجمتُهْ ثوبُ الحياةِ بغيضٌ ... يا ليتني ما لبستُهْ

تاريخ الحرب البلقانية المصوَّر - أهدي إلينا حضرة الكاتب البارع سليم أفندي العقاد الجزء الثاني من كتابه تاريخ الحرب البلقانية المصوَّر وهو يقع في 150 صفحة ويحتوي تاريخ المواقع منذ شهرَ الجبل الأسود الحرب على الدولة العثمانية حتى ختام هذه المأساة على أبواب الآستانة. والكتاب مصدَّر برسوم الملوك والقوَّاد ورجال السياسة الذين كانَ لهم شأن في هذه الحرب. وإِنَّ ما يُعرفُ بصاحب هذا التَّاريخ من العلم والأدب يضمن لكتابه الانتشار التام ولاسيما أن الجزءَ الأول منهُ قد تداولتهُ الأيدي , ولقيَ كلَّ ارتياح من جمهور الأدباء. السلوى - اشتهرت المطبعة الأدبية في بيروت بكل عملٍ حسنٍ ومأثره غراء. ومن مآثرِها الأخيرة إِصدارها مجلةً قصصية أسبوعية سمَّتها السلوى , أودعت فيها أجمل القصص , وأطيب الفكاهات , فجاءَت سلوى للشيخ في زاويتهِ , وتفكهةً للفتاة في خدرها , وأُنساً للشاب في أوقات فراغه. وهي مكتوبة بلغةٍ سليمةٍ رشيقةٍ , ومطبوعة طبعاً جيداً أمَّا اشتراكها السنوي فخمسة فرنكات في بيروت وستة في الخارج. فتاة لبنان والرزنامة السليمة - أهدت إلينا حضرة الفاضلة الأدبية سليمة أبي راشد نسخةً من روزنامة جميلة وضعتها لمعرفة التواريخ في مدة القرن العشرين , وهي لطيفة الوضع جميلة الحفر تدلّ على براعةٍ وحسن ذوق. وبهذه المناسبة نذكر ان حضرة الآنسة المشار غليها قد عزمت على إِصدار مجلةٍ أدبية باسم فتاة لبنان فنتمنى لها النجاح التام.

دفع الهجنة - هذا كتابٌ وضعهُ معروف أفندي الرصافي الأديب العراقي وقد ضمنَّهُ عدَّة كلماتٍ وألفاظ عربيةٍ جمعها من اللغة العثمانية ليتدبَّرها كلُّ أديبٍ عربيٍّ فتكون واقية لهُ من العجمة , وحاميةً من اللكنة وقد وصف هذه الألفاظ المجموعة بقولهِ إنَّ منها ما استعمله أهل العثماني في غير معناه العربي , ومنها ما لم يكن منها عربيّاً وهم يحسبونهُ عربيّاً , وقد أخذها العرب منهم فاستعملوها استعمالهم وهم لا يشعرون. فوضع حضرتهُ هذه الرسالة وقد سمَّاها دفع الهجنة في انتضاح اللكنة ليفرق بين معاني تلك الألفاظ العربية ومعانيها العثمانية ونشرها أوَّلاً في مجلة لسان العرب الغراء ثم طبعتها هذه على حدةٍ , فاستحقَّ الواضع والناشر الثناء الطيّب. الزمان - تُعَدُّ جريدة الزمان الصادرة في بونس ايرس عاصمة الجمهورية الفضية الأميركية من أرقى جرائد السوريين المهاجرين , وأجلَّها فائدةً. فما برحت منذ ثماني سنين تخدم الجالية السورية الخدمات الحسنة وتوفر لها الوقوف على أخبار السياسة وحوادث الوطن , وتنشر المقالات الشائقة في كلّ موضوعٍ نافعٍ. وقد دخلت منذ حينٍ في عامها التاسع , فأصدرت لتلك المناسبة عدداً خاصاً منها مزداناً بالرسوم , مشبعاً بالمقالات الغراء , فلصاحبها الفاضل , ومديرَيها الأديبين ورئيس تحريرها الكاتب البارع كلُّ ثناءٍ على أدبهم الجمّ , وسعيهم المبارك في الخدمة العامة.

§1/1