مجالس مع فضيلة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي

أحمد بن محمد الشنقيطي

مَجَالِسُ مَعَ فضيلة الشَّيخ مُحَمَّد الأَمينِ الجَكَنيّ الشِّنقِيطيِّ - رحمه الله تعالى -

حقوق الطبع محفوظة الطبعة الأولى 1428 هـ - 2007 م رقم الإيداع بمكتب الشؤون الفنية - 12/ 2007 م قطاع المساجد مكتب الشؤون الفنية الكويت - الرقعي - شارع محمد بن القاسم بدالة: 4892785 - داخلي: 404 فاكس: 5378447

تصدير

تصدير الحمد للَّه كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، وصلّى الله وسلّم على عبده ورسوله محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه. أمّا بعد: فإنّ الله تعالى يختار لكلِّ أمّة مِن الأعلام أقوامًا، رفع الله مِقدارهم، وأعلى في النّاس شأنَهم، وهداهم إلى طريق العلم والعبادة، وأرشدهم إلى كمالات وخِلال قلَّ أن تجتمع لغيرهم؛ فأضحَوْا بذلك نجومًا يُهتدى بهم، وأنوارًا يُستضاء بهم: فضلًا من الله ونعمة. ومِن أعلام القرْن الَّذي انْصَرَم: الشّيخ العلَّامة الفقيه الأصوليّ المفسّر البليغ، صاحبُ اليد الطُّولَى في علوم الشّريعة معقولها ومنقولها، ومَن طاعتْ له علومُ الآلة ونصوصُ الشّريعة؛ فهي على طرف لسانه وأمام عينه؛ يأخذ منها ما شاء، وينتقي منها ما أراد؛ هو الإمام: محمد الأمين الجكني الشَّنقيطيّ -تغمّده الله برحمته وصبّ عليه وابلَ رضوانه ومغفرته-.

هذا الإمام الَّذي أحيا الله به الجزيرة العربيّة، ونَشَر به مِن العلوم والفنون فيها ما كان مَنسيًّا ومطويًّا؛ بحيث أصبحت نجد والحجاز بمَقْدَمِهِ مناراتٍ للهدى والعلم، وصروحًا مِن أعزّ وأثمن صروح التّحصيل العلميّ في العالم الإسلاميّ. وقد قيض الله تعالى لعلوم الشيخ المكتوبة أن يُطبع بعضها بعناية أهل العلم والدِّين، وانتفع بها مِن الخلائق ما لا يُحصِي عدَدَهم إلا الله تعالى. لكنّ علم الشّيخ المحفوظَ في الصّدور والمخطوطَ في رزم الأوراق لا يزال بحاجة إلى مزيد عناية؛ إذ بقي الكثير من علمه مكنوزًا بين جوانحه، أو مفقودًا، أو أتتْ على المخطوط منه عوادي الزّمن. ومكتب الشؤون الفنّية بقطاع المساجد بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلاميّة بدولة الكويت يتشرّف اليوم بإصدار كتابنا هذا والمسمّى: "مجالس مع فضيلة الشيخ محمد الأمين الجكني الشّنقيطي -رحمه الله -"؛ من تأليف تلميذِ الشيخ، العلَّامة: أحمد ابن محمد الأمين الجكني الشّنقيطي -حفظه الله وأعلى في الدَّارين مقامه-، وهو مِن ألْصَق النَّاس بالشَّيخ وأخصّهم به، وأكثرِهم

انتفاعًا بعلمه وحرصًا على نَشْر فنونه. ولا أَدلّ على خصوصيّة التّلميذ بشيخه وشغفه به أنّه دَوّن بعض المجالس التي جمعته بالشّيخ، فكان منها هذا الدّيوان البديع الَّذي يُعتبر ولو بصورة مقتضبة جدًا علامةً على مدى العناية الإلهيّة بالشّيخ الأمين -رحمهُ اللهُ-، وأنه كان بحْرًا من العلوم لا ساحل له، وسبحانه ما أعظم الله مِن كريمِ منّانٍ -سبحانه وتعالى-! نطّلع على سِير السَّلف فنكاد نجزم بانقطاع ذاك النسيج من الأئمّة؛ فيطلّ علينا هذا الإمامُ الباقعة في الحفظ والفهم ليقول بلسان الواثق في الله تعالى: كم ترك الأول للآخر!! إنّ مكتب الشّؤون الفنيَّة يهدف من وراء هذا الإصدار إلى الأهداف التالية: - التَّنبيه على مدى حرص علمائنا وشدّة شغفهم بتقييد العلم وحضور مجالس الأئمّة العلماء، ومدى اهتمامهم بملفوظات شيوخهم، وهذه المجالس التي بين أيدينا ما هي إلَّا نموذجٌ على همّة المشغوفين بالتقييد والسَّماع. - التّركيز على مدى عناية الوزارة بالتّاريخ العلميّ لعلماء الأمة.

- إبراز الروح العلميّة والأدبيّة التي كان عليها أسلافُنا العلماء. - تسليط الضّوء على أدب المناظرات وفوائد المساجلات العلميّة، وأهمّية ذلك في حفظ العلم ونشره. - الإشارة إلى ما كان عليه أولئك الجِلّة من كريم الأخلاق وجميل الصفات؛ من العلم والحلم والصبر والأناه؛ خلال مناظراتهم ومساجلاتهم؛ مِما لابد لكل طالبِ علم أن يجعله نصْبَ عينيه. - صناعة القدوة بهؤلاء العظماء، ومحاولةُ بثّ روح الاقتداء بهم، والسّير على منوالهم. إن هذا العمل العلمي يكتسي أهمية متميّزةً باعتباره يكشف عن ثراءِ ورقيِّ البيئة العلمية في الجزيرة العربيّة منذ عقود مضت، وتُبين مدى اهتمام أهلها بالعلم والعلماء، واحتفائها بطلبة العلم وإكرامها لهم، ويظهر منه مدى حرص العلماء على التزام الدقة والموضوعية والأمانة العلميّة. هذا الكتاب الَّذي هو عبارة عن مجالس جمعها ودوّنها وآلَفَ بينها الشيخ العلّامة أحمد بن محمد الأمين الجكنيّ حلقة في سلسلة التراث العلميّ الذي يقدّمه مكتب الشؤون الفنية؛ آمِلا أن يكون

حافزًا لمواصلة العمل الجاد لتحقيقِ وتوثيقِ ودراسةِ المزيد من عناصر تراثنا العلمي المتين. هذا وقد آثر مكتب الشؤون الفنية أن يُصدر الكتاب بترجمة لتلميذ الشيخ عرفانًا وتعريفًا به، وإن كان من المشاهير بين أهل العلم؛ وما كان تواضع الشيخ ليحملنا على كتْم التعريف به: إذ ذلك مطلب كل قارئ، واللَّه الهادي إلى سواء السّبيل. مكتب الشؤون الفنية الكويت 1428 هـ -2007 م

نبذة عن حياة الشيخ أحمد بن محمد الأمين بن أحمد بن المختار

نبذة عن حياة الشيخ أحمد بن محمد الأمين بن أحمد بن المختار هو الشيخ أحمد بن محمد الأمين بن أحمد بن المختار المحضريّ، ثم الإبراهيمي، ثم الجكنيّ، وُلد أول العقد الخامس مِن القرن الرابع عشر، وعاش بين أبويه إلى أن بلغ سنّ التّعليم، وكان والده إذ ذاك رئيسَ قبيلته، ورئيسَ المحاكم الشرعية، وكان الاستعمار الفرنسي يُشدد وطأته على الرؤساء لأخذ أبنائهم للتّعليم؛ فبسبب ذلك دَفَعَه والدُه لتعليم اللغة الفرنسية، وذهب إلى مَحِلّةِ تُسمى "أباتيلميت"؛ حيث مقرّ الدّراسة هناك، واستمر في تلك الدّراسة حتَّى أنهى المرحلة الابتدائية، ثم توفي والده -عليه رحمة الله-، وبقي يتيمًا، ولكن كانت له همةٌ عاليةٌ حملتْه على النبوغ المبكر. ولَما بلغ وأدرك أنَّه مِن أسرةِ ذات علمِ أقْبل على التعليم وانقطع له، فذهب إلى محضرة مشهورة هناك تسمى: "محضرة أهل ديد"؛ فلازَم بها الفقيه سيدي جعفر الملقّب بالصحّة، ولم يزل في تلك المحضرة حتَّى قرأ "مختصر خليل"، وأعاده ثانيًا، وقَرَأَ القواعد المعروفة عند المالكيّة بقواعد الفقه، وهي: "المنهج" للإمام

الزقاق، وتكميله لـ: مياره؛ كلاهما مالكي. ولَما انتهى مِن الدراسة بدأ يحاول التجارة فلم تصلح له، وسافر سنة أربع وسبعين وثلاثمائة وألف إلى الحجاز، وأدى فريضة الحج، ثم لزم الشيخَ الأمين صاحب تفسير "أضواء البيان" وشيخ هذه "المجالس" مدّةً طويلة، وسافر معه إلى الرياض فأحسن صحبته، وصار مِن أخص تلاميذه وأكثرهم انتفاعًا بعلمه. ولم يزل في المملكة العربية السعودية بعد أن تقلد الوظيفة فيها إلى أن استقلت موريتانيا مِن تحت يد المحتل الفرنسيّ، وعند ذلك تاقت نفسه إلى رؤية مسقط رأسه بعد تحرره من المحتل الغاشم، فذهب إلى موريتانيا وشَغَل فيها عدَّة وظائف في وزارة الخارجية، ثم بدا له أن يترك ذلك ويرجع إلى الوطن الثاني، فذهب إلى الحجاز، وشغل عدَّة وظائف في وزارة الإعلام، ثم في سنة 1389 هـ كُرِّم بنقله إلى الحرم المكّيّ للتدريس فيه، وعين مدرسًا بالمعهد في الحرم المكي. ومن أهّم ما أُسند إلى الشيخ تدريسُه: أصول الفقه، وأصول التفسير، وألفية ابن مالك، وكان ممتلئًا عِلمًا، له اليد الطّولى في أنساب العرب والسّيرة النّبويّة والأدب والتاريخ، أمّا الفقه وأصوله

فهما فنّاهُ اللذان تخصّص فيهما، ولم يزل بالحرم مدرّسًا إلى سنة 1408 هـ؛ حيث تقاعد. وللشيخ عدّة مؤلّفات منها "مواهب الجليل من أدلة خليل" في أربعة مجلّدات، وله "تحقيق وتكملة عمود النَّسب في أنساب العرب" في ثلاثة مجلّدات، وله "اختصار زهر الأفنان على حديقة ابن الونّان" في الأدب، وثلاثتها مطبوعةٌ، وله نظْم يبلغ ثمانمائة بيت في البلاغة، وله شرحٌ لمنظومة لعمّته أمّ الخيرات في معجزات النبي - صلى الله عليه وسلم -، وله نظمٌ في أمّهات النّبي - صلى الله عليه وسلم -، وله شرح على لاميّة الأفعال، وله تهذيبٌ لشرح الشيخ محمد الأمين بن أحمد زيدان على المنهج، ولا يزال الله تعالى مُمْتنًّا على الشيخ بالعمر المبارك مفيدًا ومستفيدًا (¬1). مكتب الشؤون الفنية الكويت 1428 هـ -2007 م ¬

_ (¬1) نقلنا هذه الترجمة من مقدّمة كتاب: "نثر الورود على مراقي السّعود"، بقلم الدكتور محمد بن سيدي ابن حبيب الجكني الشنقيطي، بتصرف وزيادة في بعض الألفاظ.

مَجَالِسُ مَعَ فضيلة الشَّيخ مُحَمَّد الأَمينِ الجَكَنيّ الشِّنقِيطيِّ - رحمه الله تعالى - كتبها تلميذُهُ أحمد بن محمد الأمين بن أحمد الجكني الشنقيطي المدرِّس سابقًا بالمسجد الحرام

مقدمة الكتاب

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} الحمد لله الَّذي بفضله ونعمته وجلاله تتمّ الصَّالحات، والصَّلاةُ والسَّلامُ على سيِّدنا وشفيعنا مُحمد بن عبد الله خاتم النَّبيين - صلى الله عليه وسلم -، وبارك، وَبجَّل، وكرَّم، وعلى آله الأكرمين، وأصحابه الغُرِّ الميامين الهداة المهديين، وعلى مَن اتَّبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدِّين. أمّا بعد؛ فإنَّه لَمَّا منَّ الله عليَّ أن هداني للإيمان، وإني لأرجوه أن يحفظ عليَّ إيماني حتَّى ألقاه وأنا مؤمن، كمنَّهِ علي أنْ جعلني من طلبة العلم عند فضيلة الشيخ محمد الأمين ابن محمد المختار الجكني ثم اليعقوبي، عليه وعلى والدينا رحمةُ اللَّه، وجمعنا الله به وبهم في مستقرِّ رحمته. لَمّا رأيت هذا العالم الجليل رَنتْ إليه الأبصار، وطار ذكره في الأقطار، وذهب أهل العلم في تقديره والإعجاب به كل مذهب، وجعلوا غايتهم التزام مجالسه العلمية حيثما حلَّ أو ذهب، وكنتُ -أي العبد الفقير- ممن اغترف من مَعينهِ بغُرفةٍ كتبها اللهُ لي، وكنتُ قد صحبتُهُ في فُسحةٍ طيبةٍ من الزمن وشهدتُ عن

كثبٍ وقُربٍ كثيرًا من أحواله وكريم أقواله وفعاله، التي كانت للعلم مدرسةً تطبيقيةً؛ قائمةً بكفايته وحقِّه. فأحببتُ أن أشارك إخواني طلبة العلم بشيءٍ من خبرِ مجالسِهِ العلمية، عسى أن يشفي غلَّتهم ويروي بعضَ ظمئهم إليه بعضٌ مما يقرأونه في كتابي: "المجالس"؛ هذا الَّذي سيملأ بلبناته قدرًا من الفراغات التاريخية من سيرة حياة شيخنا -رحمه اللهُ- ويُظهر بعض الحلقات المفقودة من معالم عصره المتوفِّر على أهل العلم، خاصةً لإخواني الناشئين في محاظر الطلب؛ أحداثِ السِّن ممن فاتهم الاتصال العلمي المباشر بشيخنا، عليه رحمة اللَّه؛ أسجِّل فيه علاقتي به، والكيفية التي كانت عليها، وحقيقة القرابة الرابطة بيننا، وصورًا من أفعاله النبيلة وآثار نفسه السَّخية، وإشاراتٍ إلى بصيرته النافذة وعقله الرجَّاح، ودلائلَ على بذخه العلمي وسعة حفظه، كما أسجِّل بعضًا من مجالسه العلمية المتناولة لمزيجٍ متنوِّع من مسائل الاعتقاد، والتفسير، والتاريخ، والفقه، والأدب مما علِقَ بذاكرتي بعدما تطاول عليه العمر، وكان لابدَّ من جمعه وتدوينه خشية عليه من أنْ يطويه النسيان أو يغرقه الضياع. والمرء مهما حفظ ونسي، فإنه لا ينسى أيام حياته الجميلة، التي قُضيت في تعلُّم العلم وطَلَبه، والرحلة إليه ومجالسة أهله ونُخَبه،

وسماعِ كلام الله تعالى بتفسيره، واستنكاهِ لسان العرب وتنشُّقِ عبيره، ولا إخال أحدًا لقي شيخنا محمَّد الأمين بن محمد المختار الجكني -رحمه اللهُ- إلا انبهر من سمته وخلقه، وقوة استحضاره وحفظه؛ ويمكن إدراك ذلك من أثر البيئة التي عاشها أو -قل إن شئت- الحضارة العلمية التي خلَّفها أو تركها. والنّاظر المتفحص لهذه المجالس تتجلى له هذه الظاهرة البيئية عن المجتمع الديني المحيط بشيخنا -رحمه اللهُ- وما كان عليه أهل الفضل والعلم في زمنه من التواصل والمباسطة، وما تحلوا به من السَّماحة وآداب المباحثة وأخلاق الحوار الراقية؛ تتجلى وتضيءُ بلا خفاء، فرحم الله تلك المجالس العامرة ورحم عمَّارها. هذا، وإني ألتزم في الكتاب إثباتَ ما حدثني به شيخي -عليه رحمةُ الله- بنفسه أو ما وجدتُهُ مدوَّنًا بخط يده أو ما شهدتُهُ بنفسي معه، وإلّا فأذكر وأسنِدُ المعلومة إلى ناقلها من طلبة شيخنا محمد الأمين -رحمه اللَّه-، مع التنويه بأنَّ بياني لمنهاج مصادر الكتاب -مع عدم الحاجة الكبيرة إليه! - كان اقتضاء لأصول الأمانة واستيفاء لدواعي التوثُّق. وأرى أنَّ الكتاب يمثل وثيقةً هامّةً في تَاريخ النّهضة التعليمية

بالقرن الرابع عشر؛ وثيقةً شاهدةً على نبوغ تلكم المرحلة، ومدى صلابة متنها، وثبات أصلها وجذرها بما احتوته من فرسانها وعلمائها، الذين كان شيخنا رائدًا من روادها الأفذاذ، ولله سبحانه وتعالى الفضل والمنة على ذلك. مع العلم -يا أخي القارئ- أن تدوين المجالس العلمية بعد جمعها وإيراد رواياتها مسندة، نمطٌ من أنماط التآليف العلمية الأصيلة (¬1) التي قلَّتْ عند الكتَّاب المؤلفين، بل دَرَسَتْ عند متأخريهم لتقادم السنين عن سالف زمانها وتاريخها الماضي؛ لذلك رغبتُ في تجديد العهد بها، وأنْ أتصل إلى تلك المناهج العريقة بسببٍ متين. ومن جهة أخرى؛ فإني طامعٌ بأنْ يتشجَّع من كانت لديه مسموعاتٌ أو مشاهداتٌ علمية -لفضيلة شيخنا على الإدلاء بها في مؤلَّف مفرَد. وأستجلبُ في هذا المقام ما أخرجه الإمام مسلم من عموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تحقرنَّ من المعروف شيئًا. ." الحديث، وليكن ذلك لنا شعارًا. ¬

_ (¬1) كمجالس الإمام أبي العباس ثعلب -رحمه الله-.

أقول قولي هذا مُوصيًا أخي القارئ بهذه المجالس خيرًا، وألَّا ينسني أو يبخل عليَّ بدعوة صالحة تنفعني إذا قضيتُ حياتي، واللَّه المستعان، ومنه نستمد العون والسَّداد، وأنْ يسلك بنا سبيل الرَّشاد.

مع الشيخ محمد الأمين

مع الشَّيخ مُحمَّد الأمين إنَّ هذا الحبر الجليل الَّذي عجزت النِّساء في هذه القرون أَنْ تلدَ مثله هو الشَّيخ مُحمَّد الأمين بن مُحَمَّد المُخْتار بن عَبْد القادِر بن أحْمد نُوح بن محَمَّد بن سِيدي أَحْمَد بن المُخْتار من أولادِ أولادِ الطَّالب أوبك من أولادِ أولادِ إِكْرير بن الموافي بن يعقوب بن جاكان، هكذا ذكر الشَّيخ عطية بن محمَّد سالم -رحمه الله- أنَّهُ سمع هذا النَّسب هكذا من فضيلة الشَّيخ مباشرة. يتحصَّل منه أَنِّي ألتقي معه نَسَبًا في جاكان بن علي جدِّ قبائل بني جاكان الَّذي يجمعها وتلتقي به أصولها. وقد أخبرني شيخي عليه رحمة الله: أن جدَّهُ الأعلى يعقوب بن جاكان أخ شقيق لجدِّنا الأعلى إكرير بن جكان الَّذي تلتقي به أصولُ ثلاث قبائل من بني جاكان هي: أولاد اعْمر أقلال، وأولاد يوسف، وأولاد إبراهيم الَّذي إليه نِسْبَتي. كما أخبرني -عليه رحمة الله-: أنَّ جَدَّهُ يعقوب بن جاكان تربَّى في حجره ابنُ أخيه إبراهيم بن إكرير، وذلك ما جعل رابطةَ بني يعقوب بأولاد إبراهيم أوثقَ من رابطتهم معَ إخوانهم الآخرين

على الرَّغم من أنهم سواسيةٌ في النَّسَب؛ وذلك لأن يعقوب اعتنى بتربية إبراهيم، وبتعليمه دون إخوته، ومعلومٌ الآن ما بين أولاد إبراهيم وأولاد يعقوب من الرَّوابط الوثيقة. وإني أمُتُّ إلى فضيلة الشَّيخ أيضًا بخؤولةٍ أتشرَّف بها، ذلك أن جدي أعني جدَّ والدتي محمد محمود بن سيدي إبراهيم أُمُّه أُمُّ المؤمنين بنت السّيد من نفس الفصيلة اليعقوبية التي منها آلُ أحمد نوح رهطُ فضيلة الشيخ، وقد أفادني فضيلتُهُ -عليه رحمة الله- ذلك لما سألته، فهذه علاقتي النسبيَّة به، يجمعنا جاكان بن علي الَّذي يرجع نسبه -فيما يظهر- إلى غالب بن فهر من قريش الظواهر. وقد شاع في القُطْرِ الموريتاني أنَّ بني جاكان قبيلةٌ حِمْيَريَّة، وقد لا يكون مخطئًا كلَّ الخطأ من نَسَبَ هذه القبيلة إلى حِمْيَر؛ لأنها كانت من ضمن قبائل الدولة اللمتونية الحميرية. وفعلًا قد كان جدُّنا جاكان بن علي أحد ملوك هذه الدولة الصحراوية، ذلك أنهم بايعوا له -فيما يظهر- بناء على أن المذهب المالكىِ الَّذي تعتنقه هذه الدولة المغربية يوجب أن لا تكون الإمامة الكبرى إلا لقرشيِّ.

قال خليل بن إسحاق في مختصره -بعدما عَدَّدَ أوصاف القاضي التىِ يجب أنْ يتَّصف بها- قال: "وزِيدَ في الإمام الأعظم قرشي". اهـ. قال العلامة الشَّيخ محمد الحسن بن الإمام الجكني ثُمَّ العمري الحاجي منهم، قال في قصيدته الرائية التي يُسميها الجكنيّة: نحنُ الكرامُ بني جاكانَ من مُضَرا ... مِن غالبٍ جد مَنْ فاق الورى خَبَرا . . . . إلخ. والقصيدة معروفةٌ، وسبب إنشائه لها معروفٌ أيضًا. وأخبرني من أثق به: أنَّ العلامة الشيخ محمد العاقب بن ما يابي اليوسفي من بني جاكان انتَسَبَ في شرحه لرسْم الطالب عبد الله وضبطه إلى قريش، وقال: "إنما حملني على الانتساب كون كل مؤلَّف لم ينتسب صاحبهُ يعتبر كاللقيط" أو عبارة نحو هذه. وأما علاقتي الشَّخصية به عليه رحمة الله، فإني لم أحظَ بلقائه في موريتانيا، على الرغم من شهرته وارتفاع صيته إلَّا مرتين: أولاهما بتجمُّعِ لأولادِ إبراهيم وبني يعقوب حمل عليه المستعمر الفرنسي، وكان الحاكم الفرنسي استدعى الشيخ فجاءهُ، وكنتُ

حاضرًا وقت حضوره عنده فترجمتُ بينهما. وكان غرض المستعمر منه -فيما يظهر- عرضَ وظيفةٍ في مدرسة المستعمر!، فرفض الشَّيخُ العرض. وإنَّ لقائي الثَّاني به لمَّا كُنْتُ بمدرسة الشَّيخ سيدي جعفر بن ديدي بمنزل سيدي محمَّد بن سيدي جعفر عندما كان الشيخ ضيفًا عنده يومًا التفَّ حوله طلبة هذه المحظرة يسألونه عن مسائل من العلم من شتَّى الفنون، ولا أتذكر من تلك المسائل إلا أن سائلًا سأله عن حكمة رفع المصلي يديه عند الإحرام في الصَّلاة، فأذكُرُ -ولا أستطيع الجزم- بأنَّهُ أجاب: أَنَّ ذلك إيذانًا من المصلي بأنَّهُ نَبَذَ الدنيا ذلك الوقت إلى الوراء، والله أعلم. وهكذا فإنَّ اللَّه تعالى حكَمَ بعدم لقائي به في البلاد الموريتانية لأمورِ منها: تباعد منازلنا البدوية نوعًا ما، ومنها: أن الشيخ محمَّد الأمين عليه رحمة الله لم يشتهر هناك بمدرسة راكدة مستقرة يقصدها الطلبة إلى أنْ سافر إلى البلاد المقدَّسة عام 1947 م. وبعد أنْ انتهيتُ من دراسة مختصر خليل في الفقه المالكي، ومن دراسة المنهج المنتخب إلى قواعد المذهب، اشتقتُ إلى دراسة

أصول الفقه، وإلى دراسة مراقي السُّعود بالذات، ولمَّا تأمَّلتُ مَنْ حولي ممَّن يُدَرْسُ هذا الفن، رأيتُ أنَّه لا يشبع رغبتي فيه إلا دراستُهُ على فضيلة الشيخ محمَّد الأمين الموجود في ذلك الوقت مدرسًا بالرِّياض في المعاهدِ والكليات. فكتبتُ إليه أخبره برغبتي هذه، وأخبرته أنِّي مستعدٌّ لتكلُّف أعباء السَّفَر لطلب العلم، وأني غيرُ مخاطبِ بالسَّفر لأداء الحج لفقري، وقلتُ في كتابي إليه: "فهل أنا إن تحملتُ أعباء السَّفر على الرَّغم من حالتي الاقتصادية، ووصلتُ إلى فضيلتكم تخصِّصون لي بعضًا من وقتكم الثَّمين تُعلِّمونَ أخاكم فيه هذا الفن؟ ". فكتب إلَيّ: أنْ تَوَجَّه حالًا، فستجدني عند ظَنِّكَ بي. ولمَّا وصلني خطابه -وأنا بمدينة (داكار) السِّنغالية كنت أزاولُ فيها تجارةً خفيفة- صَفَّيْتُ ما كان عندي من تجارة، وأرسلتُ إلى من يطالبني حقَّه بالحوالة البريديَّة، وبقيت عندي بقيةٌ طفيفة، وتوجَّهتُ حالًا بسكة الحديد إلى (باماكو) عاصمة مالي، ومنها كتبتُ للشَيخ أخبرهُ أنِّي توخهتُ فعلا، وأنه إنْ كانَ يريد أنْ يكتب لي يأمرني بشيء فعلى عنوان الأخ محمَّد محمود بن الدَّاه بمدينة (كانو): [ص. ب: 81].

ولما وصلتُ (كانو) سألتُ الأخ محمَّد محمود هل عهدُهُ بصندوق البريد قريب؟ فأرسلَ إليه رسولًا جاءني بخطاب من شيخي يقول فيه: "يا ابني حصلتُ لك على مساعدة شهريَّة من أحد المحسنين تساعدك على الدِّراسة، ولا تتجاوز (فورلامي) (¬1) إلّا وأنت تحمل جوازًا دوليّا لَعَلِّي أحصلُ لك على الجنسية السُّعودية". وفعلًا حصلتُ على الجواز الفرنسي من عاصمة تشاد، لأننا وإيّاها من المستعمرات الفرنسيَّة. ولقد وصلتُ مدينة جدَّة في رجب 1374 هـ، وأرسلتُ برقيةً إلى الشَّيخ وهو بالرِّياض أخبرهُ بوصولي، فردَّ بأنَه سيتوجَّهُ في شعبان ليصومَ رمضان بالمدينةِ المنوَّرة، وفعلًا حصلَ ذلك فاجتمعتُ به بحمد الله بالمدينة المنورة ولازمته كاتبًا له، وخادمًا، ومتعلمًا، وكان لي الشَّرفُ بذلك كلِّه. وفي أول السُّنَّةِ الدِّراسية لعام 1375 هـ سافرتُ معه إلى الرِّياض، وعَرَضَ علي الالتحاقَ بالسنة الثَّالثة من كلية الشَّريعة، وقال: "يا ابني أرى أنَّ هذا التَيار الجارف للناس مَنْ لم يحصلْ فيه على ¬

_ (¬1) فورلامي: هي عاصمة "تشاد" الآن التي تُدعى "انجامينا"، كان هذا اسمها أيام الاستعمار الفرنسي [Fort Lamy].

شهادةٍ رسميَّةٍ ضائع المستقبل"؛ فرفضتُ الكليَّة حرصًا على دراستي الخاصَّة، والأمور تسير بقدر الله، فقد ضاعت عَلَيَّ هذه الفرصة الذهبيَّة. ومرة أخرى لمَّا أنهيتُ مراقي السُّعود قال لي شيخي عليه رحمة الله: "إنَّكَ تخصصتَ في فن صعبٍ رائج، تعالَ أطلبُ لك المسؤولين أن تُعَيَّن مدرِّسًا بكلية الشريعة لتخفِّفَ عني من جدول الأصول، وتأخذَ في البيتِ عندي ما تريد من الدُّروس"؛ فرفضتُ أيضًا، والأمر بيدِ اللهِ. يقولونَ إنَّ الفرصةَ لا تدقُّ بابَ المرء غير مَرَّةٍ واحدة في العمر، وها هي دقت بأبي مرتين في عام واحد، ويأبى اللهُ إلا ما أراد، وما يفعل اللهُ بعبدهِ المؤمن إلا خيرًا. والحاصل أني عندما وصلتُ الرياض، واستقرَّ بنا الحال في البيت الَّذي أجَّرَهُ الشَّيخ للسكنى، دعاني إلى أنْ أبتدئ في دروسي التي جئتُ من أجلها. فقلتُ له: إنَّ عندي شرطين أشترطُهما للدراسة فإنْ حققتَهما وإلَّا فلستُ بدارسٍ وأرجعُ إلى بلدي، فقال: وما شرطاك؟ قلت: أنْ لا تُعلمني علمًا استفدتَهُ بعد تجاوزك البحر الأحمر مشرِّقًا!!

فضحك من هذه عليه رحمة الله، وقال: أنت وذاك، ما هو الشَّرط الثَّاني؟ قلت: أنْ لا آخذ درسًا جديدًا حتَّى أقيّدَ على سابقه إملاء من فضيلتكم شرحًا لذلك الدرس. فقال: أما هذا الشَّرط فلا أستطيعه: لعدم الوقت له عندي. فقلت: إنَّ هذا الشرط هو الرئيسي عندي، فإنْ لم يتحقق لا أدرسُ وأرجعُ إلى حيث كنت. قال: ومَنْ تعاند بامتناعك هذا من الدِّراسة؟ فقلتُ: أنت!!. . . أوجّه عنادي إليك!! قال: وأيّ ضرر يصلني إذا امتنعت أنت عن الدِّراسة؟ فقلت: هي فضيحة يا شيخي أنْ تبعث إلى ابن عمَّك وابن أختك من المشرق إلى المغرب لتعلِّمه، فلما يتكلَّف أعباء السفر ووعثاءه ويصلك، تمتنع من تعليمه. فضحك -عليه رحمةُ الله- وقال: الله يعلم ضيقَ الوقت عندي لكنه لما كان الأمر كما تقول، فلابد من النزول عند رغبتك. هذا، وقد كنْتُ ابتدأتُ في ترجمة الكتاب دراسةً بدون أخذ إملاء حتَّى وصلتُ قولَ المؤلف: كلامُ ربي إنْ تعلَّق بما. . . إلخ وما تلاه بخمسة أبيات، بعده دعاني الشَّيخ لأخذ حصَّتي اليومية، فدار

الحوار المتقدم ذكره. وقد جمعتُ من أماليه -عليه رحمةُ الله- كتابًا شرحًا لمراقي السُّعود أحسب أنَّه من أفضل ما أُلِّفَ في هذا الفن أسميتُهُ: "نثر الورود على مراقي السُّعود" (¬1)، وكان الشيخ يتولَّى كتابة الدروس بنفسه أحيانًا إذا رأى أني مشتغل ببعض شؤونه التي يكلِّفني بها. ولمَّا وصلتُ الكلامَ على المجاز اشتغلتُ عن أخذ الإملاء بتصحيح ملازم دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب -لأنه آنذاك تحت الطبع- فاشتغلتُ عن أخذ الإملاء حتَّى نهاية مبحث العام، وتركتُ الكتابة على نحوٍ من مائةٍ وستين بيتًا بالإضافة إلى ترجمة الكتاب. وقد كُنْتُ عازمًا على إكمالِ الكتاب بشرح هذا المحلِّ منه الَّذي لم آخذ عليه إملاءً من الشيخ، غير أَنه تغلبَ عليَّ كُلٌّ من الكسلِ وعدمِ الجدة لِما يُطبع به الكتاب إذا أكملتُه؛ حتَّى انتهز أحد إخواني -ممن يعزُّ عليَّ- فرصة وجود صور دفاتري عند الأستاذ عبد الرحمن السُّديس؛ لأنَّه طلب مني الإذن في تصوير هذه ¬

_ (¬1) وكنتُ قد أسميته أيام شبابي بـ"ورد الخدود"! فلما أخبرت الشيخ الأمين به ما زاد على أن تبسَّم. ثم إني غيرته بعد ذلك إلى "نثر الورود".

الدفاتر مساعدةً له على رسألته التي أعدها حول منهج الشيخ، وما شعرتُ في إحدى رجعاتي إلى مكة المكرمة إلَّا وفضيلة الدكتور محمد ابن سيدي الحبيب -عليه أمانُ الله- يكتبُ شَرْحَ المحلَّ الباقي منه الَّذي لم يُشْرَح. ولم أُبْدِ اعتراضًا على الرَّغم منِّي؛ لأنَّ هذا الشخص مني بمكانٍ، والغرضُ المطلوب من الكتاب هو وصولُهُ إلى أيدي طلبة العلم، وقد حصل ذلك والحمد للَّه. غيرَ أنَّ جامعه لا يوجد له ذكرٌ في مظهر من مظاهر الكتاب: مؤلفه، ومحقّقه، ومتمِّمه، وحتى حقوق الطبع والتوزيع والإذن في نشره، تمامًا مثل فَرَح الجماعة المحتفلة بقتل أسدٍ لا هُمْ يملكونَ البندقيَّة التي قُتِلَ الأسدُ بها، ولا الَّذي قَتَلَهُ منهم، وحتَّى الجيفة التي كمن عندها الصَّيَّادُ ليست لهم كذلك، وللَّه الأمر من قبل ومن بعد، وهذا أوان الشُّروع في هذه المجالس.

مجلس مع الشيخ المختار بن حامدن الديماني

مَجلسٌ مع الشَّيخ المختار بن حامدن الدَّيماني توجَّهَ الشَّيخ عليه رحمةُ الله إلى مدينة (سين لويس) السِّنغالية في صيف 1947 م، يريد تصريحًا للسَّفر إلى البلاد المقدَّسة، وبها آنذاك محافظ المستعمرة الفرنسية الموريتانية، فاتفق أنْ كانَ المسؤول عن مكتب محافظ المستعمر للشؤون السياسية والإدارية مستشرقًا يُدْعَى: مِسْيو لرِيش [Lerich.M] ، ولما قابلَ الشَّيخَ أعجبَتْهُ معلوماته لاسيما حين بَحَثا في المنطق، وفي القضايا المُوَجَّهَة منه بالذات. فأقبل هذا المستعمرُ على الشَّيخ وقال له: "سوف أساعدكَ ماديًّا بما يمكنني"؛ فدفع له عشرة آلاف فرنك فرنسي أفريقي نقدًا؛ وقال: "هناكَ مساعدةٌ أخرى، لا أستطيعُ البتَّ فيها دون استشارةِ الحاكم الفرنسي لدائرة العصابة التي أنت من منسوبيها". وكتب فعلًا وقتها يستأذن حاكم دائرة العصابة: مِسْيو بيرو [Bereau.M] وكان مِمَّا كتبه مِسْيو لريش: "يوجد عندنا عالمٌ من بني جاكان يُدعى مُحَمَّد الأمين، شهرته: آبَّهْ ولد أحمد نوح -رأتْ

الحكومة أنْ يحجَّ البيت الحرام على حساب الدولة- بند الشؤون الاجتماعية - إنْ رأيتم أنَّه يستحق ذلك". فأرسل الحاكم إلى عُرَفاء من عُرفاء القبيلة المعنيَّة يستشيرهم في ذلك،-ونعوذ بالله من جَريمة الحسد! فإنَّه أوَّل ذنب عُصي الله به في السَّماء، وأول ذنب عُصي الله به في الأرض-، فكان جواب هؤلاء: "إنَّ الحكومة إنْ كانت تريد أنْ تبعث على حسابها للحج كلَّ مَنْ يحفظ مختصر خليل من هذه القبيلة فسيعجزها ذلك"!! وقد قيل قديمًا: ويح قوم جفوا نبيًا بأرضٍ ... ألِفَتْهُ ضبابُها والظباءُ وسلوهُ وحنَّ جذعٌ إليهِ ... وقلوهُ وودَّهُ الغرباءُ

رجوع إلى مجلس الشيخ المختار بن حامدن الديماني

رجوعٌ إلى مجلس الشَّيخ المختار بن حامِدُنْ الدَّيماني وفي انتظار رَدِّ حاكم ولاية العصابة على استفسار الغُرفة الإداريَّة للمحافظ الفرنسي لموريتانيا، كان شيخنا يجلس في مجلس أدبيِّ للشَّيخ المختار بن حامِدُنْ الدَّيماني. فسأله أحد جلسائه عن أُدَباء المنطقة الشرقية من موريتانيا، فقال له: "أولئك قِدَّ (¬1) بالنسبة للأدب"، وهي عبارة بشعة في غاية البشاعة والتَّشويه. فقال له شيخنا الأمين: يا أخي هؤلاء الذين صدرتْ منك هذه العبارةُ البشعةُ في حقهم، أنا الجالس بمجلسك أحدُ أفرادهم، وأستَطيع الدّفاع عنهم. فقال الشَّيخ المختار بن حامِدُنْ: واللَّه ما كُنْتُ أظنّ أهل الشَّرقية يدَّعون الأدب، أمّا الفقه والمقرأ فلهم السَّبق فيهما، وأمّا الأدب فما كنت أظنُّ أنَّ لهم مكْرعًا فيه. فقال الشَّيخ محمد الأمين: تعال ائتني ببيت شعر لأحدٍ من هذه ¬

_ (¬1) وهي تعني باللغة الصَّحراوية: الجلد اليابس.

النّاحية الشمالية الغربيّة لآتيك ببيت شعر لأحد من أهل الشّرقيّة أحسنَ منه في المعنى البلاغيّ والقريض، وخذ من عصر محمد ابن الطلبة منهم. فقال الشَّيخ المختار بن حامِدُنْ: وحتَّى من عصر محمَّد بن الطُّلبة! والله لقد أفسحتَ في المجال، كيف أنت إذًا وبيت محمَّد بن الطلبة من قصيدته الميميَّة التي تُحاكي ميمة حُميد بن ثور، والتي يقول فيها: ووَجْهًا كأنَّ البدرَ ليلةَ أربعٍ ... وعَشْرٍ عليهِ ناصلًا قد تَهَمَّما فقالَ الشَّيخُ عليه رحمة اللَّه: أتعلم أنَّ الوجه جِرمٌ متحيِّزٌ، وأن البدرَ هو الآخَرُ جِرْمٌ كذلك، وأنَّ الجرمين إذا تقابلا أقصى ما يكونُ بينهما أن يُلقي أحدهما ضوءَهُ على الآخر من غير أنْ يتحلَّلَ شيءٌ من أحدهما بالثَّاني؟ قال ابن حامِدُنْ: صدقت. فقال الشَّيخُ محمَّد الأمين: أتعلم أنَّ الشمسَ أجملُ من البدرِ، وأنَّ أجمل أوقاتها الأصيل. قال ابن حامِدُنْ: نعم.

قال شيخُنا: أتعلم أنَّ شمسَ الأصيلِ إذا أُذيبتْ، ودُهِنَ بها وجهٌ امتزجَتْ به امتزاجًا؟ قال ابن حامِدُنْ: نعم. قال الشَّيخُ محمَّد الأمين: فإنَّ صاحبَ أهلِ المنطقة الشَّرقية يقول: وكأنَّما شَمسُ الأصيلِ مُذابَةً ... تَنْسابُ فوقَ جَبينِها الوَهَّاج فَما كان من ابن حامِدُنْ إلا أنْ قال: يا أخي إني ابن ستًّ وخمسين سنة، ومنذ عرفت نفسي والشُّعراء والمتشاعرون يعرضون عليَّ من قيلهم؛ فأُبدي لهم استحسانًا مُجامَلةً لا أدري ما أنا قائلٌ فيه لله. أمّا الآنَ فإني أستحسنُ هذا البيت الَّذي سمعتُهُ استحسانًا لا أخشى منه إثمًا بإذن الله. هكذا حدَّثني شيخي -رحمه اللهُ- عن هذا المجلس. وهذا البيتُ من جيميَّة شيخنا؛ التي هي آخر ما قاله من الشِّعر، ولقد سألتُهُ -عليه رحمة الله- عن أولِ بيت قالَهُ من الشِّعر، وعن آخر بيتٍ قاله؛ فقالَ: "الله يهديك، دعني من هذا"؛ فأَمَّنْتُ على دعائه وقلت: لابد لي من ذلك.

فقالَ: أَوَّلُ بيتٍ قلتهُ وأنا مُراهِقٌ، بلغني أنَّ الشَّيخَ محمدو سالم بن الشِّيْن الحسني موجود بحيِّ أهل أتفاقَهْ بغيضة الظباعية، فقصدته أريد أنْ أقرأ لاميَّةَ الأفعالِ في الصَّرفِ لابن مالكٍ، فلما قدمتُ الحيَّ، وجدتُ معه خلقًا كثيرًا من طلبة العلم فاختلطتُ بهم، وسمعتُهُ يسألُ عني، فلم يجد من يُعَرِّفُني له فقلتُ على البديهةِ مُعَرِّفًا بنفسي: هذا فتىَ من بني جاكانَ قد نَزَلا ... بهِ الصِّبا عن لسانِ العُرْبِ قد عَدَلا رَمَتْ بهِ هِمَّة عَلياءُ نحوَكُمُ ... إذْ شامَ برقَ علومٍ نورُهُ اشْتَعَلا فجاءَ يرجو رُكامًا من سَحائِبِهِ ... تكسو لسانَ الفتى أزهارُهُ حُلَلا إِذْ ضاقَ ذرعًا بِجَهْلِ النَّحْوِ ثُمَّ أبى ... أَلَّا يُمَيِّزَ شَكْلَ العَيْنِ من فَعَلا وقد أتى اليومَ صَبًّا مُولَعًا كَلِفًا ... بالحمدُ للَّهِ لا أَبغي بهِ بَدَلا (¬1) فقالَ الشَّيخُ محمَّدو سالمَ: "نعم، وبكلِّ سرور"، أو قال قولًا معناه هذا. قال شيخنا: إلا أنَّه لم يَفِ بوعدِه حيث إنِّي طلبتُ منه التريُّثَ لي زمنًا قليلًا حتَّى أرجعَ إلى أهلي؛ فآخذ معي زادًا أتَزَوَّد به للسَّفَر معه، ولما رجعت وجدتهُ سافرَ من ذلك الحي ولا يعلمونَ أين توجَّهَ، فرجعتُ إلى أهلي، والحمد لله. ¬

_ (¬1) أوردتُ البيتَ الرابع ثقةً بنقل أخي الشيخ عطية -رحمه اللهُ- له، والعهدةُ عليه في ذلك؛ لأني لم أسمعه من الشيخ عليه رحمة الله عندما حدثني بهذه القصَّة.

قال: وأما آخر ما قلته من الشِّعر فهو الأبيات الجيميَّة. والتي منها البيت آنف الذكر وهي هذه: أُنْقِذْتُ مِن داءِ الهَوَى بِعلاجِ ... شَيبٍ يَزينُ مَفارِقي كالتَّاجِ قد صَدَّ بي حِلْمُ الأكابرِ عن لَمى ... شَفَةِ الفَتاةِ الطَّفلةِ المغناجِ ماءُ الشَّبيبةِ زارعٌ في صَدْرِها ... رُمَّانَتَي رَوْضٍ كَحُقِّ العاجِ وكأنَّها قَدْ أُدرِجَتْ في بُرقُعٍ ... يا ويلتاهُ بها شعاعُ سِراجِ وكأنَّما شَمْسُ الأصيلِ مُذابَةٌ ... تَنسابُ فوقَ جَبينِها الوَهَّاجِ يُحشى لموضِعِ جَنْبِها في خِدْرِها ... فوقَ الحشِيَّةِ ناعِمُ الدِّيباجِ لم يُبْكِ عَيني بَينُ حَيٍّ جيرَةِ ... شَدُّوا المطيَّ بِأَنْسُعِ الأحداجِ نادَتْ حُداةُ الرَّكبِ حينَ تَرَحَّلوا ... فتَزَيَّلوا واللَّيلُ ألْيلُ داجِ لا تطَّبيني عاتِقٌ في دَنِّها ... رَقَّتْ فراقَتْ في رِقاقِ زُجاجِ مخضوبةٌ منْها بَنَان مديرِها ... إذْ لم تكنْ مقتولةً بمِزاجِ طابَتْ نُفوسُ الشَّرْبِ حينَ أدارَها ... رَشَأ رَنَا بلِحاظ طَرْفٍ سَاجِ أو ذات عُودِ أنطقَتْ أَوْتارَها ... بلُحونِ قَوْلِ للقُلوبِ شَواجِ فَتَخالُ رنَّاتِ المثاني أحرُفًا ... قد رُدِّدَتْ في الحَلْقِ من مُهتاجِ وكأنَّها قد لُقِّنَتْ رنَّاتِها ... متحيِّزاتِ حَرِيمِها الهَيَّاجِ نعم، هذا آخر ما قاله الشَّيخ من الشِّعر.

غير أنَّه بعدما وَصَلَ الشَّيخُ البلادَ المقدَّسةَ، وحَصَلَتْ معرفةٌ بينه وبين المسؤولين بها، استدعاهُ -وليُّ العهدِ آنذاكَ- الملكُ سعود بن عبد العزيز -على الجميع رحمةُ اللَّه- لزيارته بالرياض، فاستصحب معه فردًا خادمًا يرافقه. وكان أَنْ أنشدَ هذا الخادمُ بين يدي وَلِيِّ العهد قصيدةً فيها من البلاغة، والتزام ما لا يلزم ما يعجز عن مثله فحولُ الشُّعراءِ، وهي هذه: صَرَفَ الفؤادُ عن المِلاحِ غَرامَهُ ... من بَعْدِ ما كانَ الغَرامُ مَرامَهُ كانتْ تُساقِطُهُ الفتاةُ حديثَها ... كالدُّرِّ يَهوَى أَنْ يبينَ كلامَهُ واليومَ يهوى أنْ يَنالَ مُبَلِّغًا ... كَيْما يُبلِّغُ في الكلامِ سَلامَهُ هذا سَلامٌ لائِقٌ بجَنَابِكُمْ ... يَرْعَى لِمَجْدِكُمُ التَّلِيدِ ذِمامَهُ إذْ أَنْتمُ تَحْمُونَ دينَ مُحَمَّدٍ ... تَوحيدَهُ وحَلالَهُ وحَرامَهُ أَيَّامَ كانَ الكُفْرُ ليلًا مُظْلِمًا ... والزيغُ يَرفَعُ في الورى أَعلامَهُ فَسَرى نسيمُ العَدْلِ في أنحائِهِ ... كالرَّوحِ دَبَّ مشابِكًا أَجرامَهُ مِنْ بَعدِ ما كانتْ تُباحُ دِماؤُهُمْ ... والحُرُّ يجعلُه الظَلومُ غُلامَهُ إذْ كانَ ضَيفُ اللهِ فيهمْ خائِفًا ... يَجِدُ المَخافَةَ خَلْفَهُ وأمامَهُ

إلى أن قال: دُمْ يا وليَّ العَهْدِ في شَرَفِ العُلا ... في ظِلِّ مَنْ رَفَعَ الإِلهُ مَقامَهُ دامَتْ مآثِرُكُمْ وَخَلَّدَ مُلْكَكُمْ ... رَبُّ الوَرَى وأمَنَهُ وأدامَهُ أمَّا نَحْنُ فإنَّنا على يقينٍ من أنَّ استعمالَ أنواعِ المُحَسِّناتِ المعنوية واللغوية في هذه القصيدة، ونَحْتِ معنىً بقولِ: فَسَرى نَسِيمُ العَدْلِ في أَنحائِهِ ... كالرَّوحِ دَبَّ مُشابِكًا أجرامَهُ ليس من السَّهْلِ على قائلٍ قولُهُ، وأين ذلك من مستوى زَيْدٍ المستفيدِ من نسبتها إليه!!، واللهُ وحدهُ المُطلع على الحقيقة في ذلك.

ومجلس في بيت سماحة الشيخ عبد الله الزاحم

ومَجلسٌ في بيت سماحة الشَّيخ عبد اللَّه الزَّاحم أخبرني العلامة الشَّيخ محمَّد عبد الله بن محمَّد بن آدُّه الجكني ثم من بني رمضان -رحمه الله- أن رئيس القضاء الشرعي بالمدينة المنورة: سماحة الشَّيخ عبد الله الزَّاحم -عليه رحمةُ الله- أوصاهُ في الستِّينيَّات من التاريخ الهجري أنْ يُعْلِمَهُ بأيِّ قادمٍ من علماءِ القطر الشنقيطي يقدم لهذه البلاد المقدسة، وقال: إن جلالة الملك عبد العزيز -عليه رحمةُ الله- أوصاهُ بهذا كذلك؛ فلقا قَدِمَ الشَّيخُ محمَّد الأمين في 1368 هـ قال أخبرتهُ أنهُ قَدِمَ في هذا الموسم علّامَةٌ لا مثيلَ له. فقال له الزَّاحمُ: أخْبِرْهُ أنكم مدعُوُّونَ لتناولِ الطعامِ بمنزلنا وقت كذا. قال: فأجابَ الشَّيخُ محمَّد الأمين الدعوة، وفي ذلك المجلس سأل سماحتُهُ شيخَنا قائلًا: ما تسمعون عَنَّا؟ فقالَ: منهم المثْنى عليكم، ومنهم القادح. قال الشَّيخُ عبد اللَّه الزَّاحم: حقيقةُ أمرِنا أننا في الفروع الفقهية على مذهب الإمام أحمد بن حنبل ما لم يخالفهُ الدَّليل، وفي

العقائدِ نثبت للَّه تعالى من الصِّفاتِ ما أثبتَ لنفسه في كتابه العزيز، أو أثبته له نبيُّهُ - صلى الله عليه وسلم - في سُنَّته الصحيحة إثباتًا يليقُ بجلاله، إثباتًا على غرار: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]؛ ولا نتعلَّقُ بمخلوقٍ، ولا نعتقد فيه إفادةً بنفعٍ أو رفع ضرّ. وأخبرني أخي الشَّيخ محمَّد الأمين بن الحسين: أن الشَّيخ محمَّد عبد الله أخبره أن الشَّيخ الأمين قال للزاحم: "أما أنا فإني مثلكم فيما ذكرتُم في المعتقد". أو ما يؤدي هذا المعنى. قال: وبعد مدَّة غير طويلة أُمِرَ الشَّيخ محمَّد الأمين -عليه رحمةُ اللَّه تعالى- بإلقاء دروس في تفسير كتاب اللَّه العزيز في المسجد النبوي الشريف على مؤسِّسهِ أفضلُ الصلاة وأزكى التسليم. ولقد أخبَرَني -عليه رحمةُ اللَّه-: أنَّه قام بتفسير كتاب الله من فاتحته إلى {مِنَ الجِنَّةِ وَالنَّاسِ} ثلاثَ مراتٍ، والحمد لله. وكانت حلقة الشَّيخ محمَّد الأمين في المسجد النبوي تكاد تكون الوحيدة به؛ ذلك أنَّ أكثر المدرِّسين بالمسجد إذا جلس الشَّيخُ في حلقته التحقوا بها للاستفادة، وكان الشَّيخ قد ذكَرَ في بعض هذه الدُّروس أنَّ والدَيْ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أهل الفترة، وذَكَرَ ما يقوله أهل العلم في أهل الفترة.

وحَدَّثني -عليه رحمةُ اللَّه- أنَّه استدعاه سماحة الشَّيخ عبد اللَّه الزَّاحم إلى منزله، فلما حَضَرَ رَحَّبَ به وأوسعَ له في المجلس إلى جَنْبه، وكان مجلسُهُ ذلك الوقت ليس به إلّا المنتسبون للعلم، وكان بينَ أيديهم كتابٌ فيه مرجع. قال الشَّيخ محمَّد الأمين: فلما انتهى التَّسليم ناولني الشَّيخ عبد اللَّه الزّاحم الكتاب، فإذا هو شرح النووي على صحيح مسلم والمرجع فيه عند حديث: "إنَّ أبي وأباك في النار". فقلتُ: هذا الحديث كُنْتُ أعرفه! قال سماحة الشَّيخ عبد اللَّه الزَّاحم: إنَّكَ قبلَ أيامِ قلتَ في الدرس كذا، لِما قرَّر من أنهما أهل فترة. قال شيخنا: قلتُ: نعم، قلتُ ما قلتُ اعتمادًا على نصٍّ من كتاب الله قطعيِّ المتن وقطعيِّ الدلالة، وما كُنْتُ لأرُدَّ نصًّا قطعيَّ المتنِ قطعيَّ الدلالة بنصٍّ ظَنيِّ المتن وظني الدلالة عند التَّرجيح بينهما؛ فهذا الحديث خبر آحاد، ومثله حديث أبي هريرة عند مسلم: "استأذنت ربي أنْ أزور أمي فأذن لي، واستأذنته أن أستغفر لها فلم يأذن لي"، ولكن أخبار الآحاد ظنية المتن فلا يردُّ بها نصٌّ قرآنيُّ قطعيُّ المتن، وهو قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ

رَسُولًا} [الإسراء: 15]؛ أي: ولا مُثيبين. وهذا النصُّ قطعيُّ الدلالة لا يحتمل غير ما يدلُّ عليه لفظهُ بالمطابقة، بخلاف حديث: "إنَّ أبي وأباك في النَّار؛ فإنه ظنيُّ الدلالة؛ يحتمل أنَّه يعني بقوله: "إنَّ أبي" عمَّهُ أبا طالب؛ لأنَّ العرب تسمي العمَّ: أبًا، وجاء بذلك الاستعمالِ كتابُ اللهِ العزيز في موضعين: أحدهما: قطعيُّ المتن قطعيُّ الدلالة، وهو قوله تعالى في البقرة: {قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} [البقرة: 133]، وإسماعيل عمُّهُ قطعًا؛ فهو يعقوب ابن إسحاق بن إبراهيم. والموضع الثَّاني: قطعيُّ المتن لكنَّه ظنيّ الدلالة، وهو قوله تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ} إلى أن قال: {وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا} [الأنعام: 86]؛ فهو نصٌّ قرآني على أن إبراهيم يطلق عليه أنَّه أبٌ لِلُوط، وهو عمُّه على ما وردت به الأخبار، إلا أنَّ هذا النص ظني الدلالة لأنه يحتمل أن يكون الضمير من قوله تعالى: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ} يرجع إلى نوح، لأنه قال في الآية من قبل ذلك:

{وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ}، ولكنه احتمال مرجوح؛ لأن الكلام عن إبراهيم. وإذًا فإنَّه يحتمل أنَّه - صلى الله عليه وسلم - لما سأله الأعرابي بقوله: أين أبي؟ وقال له: إنَّ أباكَ في النَّار، وولَّى والحزن بادٍ عليه، فقال -عليه الصلاة والسلام-: "ردُّوه عليَّ"، فلما رجع قال له: "إن أبي وأباك في النَّار". يحتمل أنَّه يعني بأبيه: أبا طالب؛ لأنَّ العرب تسمِّي العَمَّ أبًا لاسيما إذا انضمَّ إلى العُمومةِ التربيةُ، والعطفُ، والدفاعُ عنه. ثم قال: والتَّحقيق في أبوي رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - أنهما من أهل الفترة؛ لأن تعريف أهل الفترة أنهم القوم الذين لم يُدركوا النذارة قبلهم، ولم تدركهم الرّسالة التي من بعدهم، فإذا كان ذلك كذلك، فإنَّ والد النبي - صلى الله عليه وسلم - التحقيقُ أنَّه مات والنبي -بأبي وأمي هو- حَملٌ في بطن أمه، وأمّه - صلى الله عليه وسلم - ماتت وهو ابن ستة أعوام بلا خلاف، وإذًا فإنهما من أهل الفترة. فقال أحد الحضور: العربُ كانوا على دين إسماعيل فعندهم نِذارةٌ أدركوها.

فقال له الشَّيخ الأمين: هل أنت على بصيرةٍ مما تقول؟ فقال: نعم. فقال له الشَّيخ محمَّد الأمين: أين أنت من قوله تعالى في سورة يس: {لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ} [يس: 6]، وما هنا نافيةٌ على التحقيق بدليل الفاء في قوله: {فَهُمْ غَافِلُونَ}؛ أي: لعلة عدم إنذارهم. وأين أنت من قوله تعالى في سورة القصص: {وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ} الآية [القصص: 46]. وأين أنت من قوله تعالى في سورة سبأ: {وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ} الآية [سبأ: 44]. وأين أنت من قوله تعالى في سورة السَّجدة: {بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ} الآية [السجدة: 3]. قال شيخنا: إن التَّحقيق في أهل الفترة، والبَلَه، وأولاد المشركين الذين ماتوا صغارًا أنَّهم تُشبُّ لهم نارٌ يوم القيامة في عرصات المحشر فيؤمرون باقتحامها، والله تعالى يعلم مَنْ خَلَقَهُ منهم للجنة فيقتحمونها فتكون عليهم بردًا ويذهب بهم ذات اليمين،

ويعلم من خَلَقَهُ منهم للنَّارِ فيمتنعون من دخولها فيذهب بهم ذات الشمال، ذكر ذلك ابن كثير في تفسير قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} الآية [الإسراء: 15]. وقال: إنّه جاءت بذلك أحاديث؛ منها الصحيح، ومنها الحسن، ومنها ما هو ضعيف يتقوَّى بالصحيح والحسن؛ وإذا كانت أحاديث الباب متعاضدة على هذا النَّمَط أفادت الحجة عند الناظر فيها. فقال أحد الحضور: هذا تكليفٌ والآخرةُ دارُ جزاء فهي يوم الدِّين. فقال له شيخنا: هل أنت على بصيرةٍ من قولك هذا؟ قال: نعم. قال الشيخ محمَّد الأمين: قال تعالى في سورة القلم: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ} الآية [القلم: 42]، أيُّ يوم هذا يا معشر الحضور؟ وهَلْ كان هذا تكليفًا في عرصات القيامة بنصِّ كتاب الله؟ وأيضًا، قد ثبت في الصحيح أَنَّ المؤمن يسجد لله يوم القيامة، وأنَّ المنافق لا يستطيع السجود، وتكون ظهور المنافقين مثل صياصي البقر، أليس هذا بتكليفٍ في عرصات القيامة؟ قال أحد الحضور: أليس بالإمكان حمل الخاصِّ على العام؟ لأنَّ

الخاص يقضي على العام عند الجمهور؛ فقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15] دليل عام، والأحاديث الواردة في أشخاص معينين دليلٌ خاص، فما أخرجه دليلٌ خاص خرج من العموم، وما لم يخرجه بقي على عمومه داخلًا فيه. قال شيخنا: إنَّ هذا التخصيص لو قلنا به لأبطل ذلك حكمة العام؛ لأنَّ الله تعالى تمدَّحَ بكمال الإنصاف، وأنه لا يعذب أحدًا حتَّى يقطع حجة المعذَّب بإنذار الرسل له في دار الدنيا، فلو عَذَّبَ أحدًا من غير إنذار لاختلَّتْ تلك الحكمة التي تمدَّحَ اللَّه بها، ولثبتتْ لذلك المعذَّب الحجةُ على الله التي أرسلَ الرسلَ لقطعها كما بيَّنَهُ تعالى في سورة النساء: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} الآية [النساء: 165]. وهذه الحجّة التي أرسل الرسل لقطعها بينها في آخر سورة طه بقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى} [طه: 134]، وقال تعالى في سورة القصص: {وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [القصص: 47].

فيتعيَّن بكلِّ هذه الحُجج عذرُ أهل الفترة (¬1) بفترتهم في الدنيا، وأنهم مُمْتَحنون يوم القيامة، ولا يعلم مَنْ يقتحم منهم النَّارَ مِمَّن يمتنع إلا الله الَّذي خلقهم، والعلم عند الله تعالى هو حسبنا ونعم الوكيل. ثم إنَّ الشَيخَ عبد الله الزاحم قد نَصَحَ بعض الحضور لهذه الجلسة قائلًا: إنَّ من نصيحتي لك أنْ لا تتكلم في مجلس فيه هذا الرجل الَّذي تَسَلَّح بآياتِ كتاب الله، ينظر إليها كأنَّها بين عينيه، فلا يؤمَن على أَحَدٍ عارضه أن يرميه بآيةٍ تخرجه من المِلَّة، نسأل الله السَّلامة والعافية. وهذه النَّصيحة سوف تظهر في فحوى كلامِ سماحته في المجلس بمنزلهِ بعد هذا بثلاثة أيامٍ أو نحوها. وحدَّثني شيخي عليه رحمةُ الله: أنَّه بعد هذا المجلس بنحو ثلاثةِ أيامِ دعا سماحة الشَّيخ عبد الله بن زاحم النَّاسَ دعوةً عامَّةً على شرف الشيخ محمَّد الأمين الشَّنقيطي، حَضَرَها كثيرٌ من المنتسبين للعلم، وكانوا يتكلَّمون ويبحثون بحثًا عامًّا كلٌّ فيما يحلو له، وكان من عادة شيخنا عَدَمُ الكلام في المجلس إلا إذا سُئِلَ عن ¬

_ (¬1) ينظر نثر الورود على مراقي السعود: (1/ 45 - 48).

شيء، أو إذا سمع غلطًا لا يحسن السُّكوتُ عليه. فبينما الحضور في ذلك البحث العام إذ قال أحدهم: إنَّ التاريخ محفوظٌ من عهد آدم إلى يومنا هذا. فاعترضه الشَّيخ -عليه رحمةُ الله- قائلًا: لا تقل هذا فالتّاريخ غيرُ محفوظ!. فأجابه قائلًا: هذا ابن كثير في البداية والنهاية أتى به مبينا وقائع كلّ سنة؛ فهو محفوظ!. فقال شيخنا عليه رحمة الله: يا أخي إن اللهَ تعالى يقولُ لنبيِّه - صلى الله عليه وسلم - في سورة النساء: {وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ} الآية [النساء: 164]. فأجاب البَّاحث قائلًا: يمكن أنْ يكون قَصَّهم عليه في نوع آخر من الوحي غير التنزيل. فقال شيخنا: أحسنتَ في جوابك عن هذه، ولكنْ ما هو جوابك عن ما جاء في سورة إبراهيم: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ} [إبراهيم: 9]، أَفَعَلِمَهُم ابنُ كثير حتَّى يكتب عنهم؟!

وعندها صاح سماحَةُ الشَّيخ عبد الله الزَّاحِم قائلًا: هذا الموقف الذي كُنْتُ أخشاهُ عليك، أَجِب: {لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ}! أَفَعَلِمَهُم ابنُ كثير؟! نصحتُك لكنَّكَ لم تقبل نصيحتي. رحمَ اللَّهُ جميعَهم، وعمهم بشآبيبِ رحمته، إنَّه سميعٌ مجيب.

ومجلس في إدارة المعاهد والكليات بالرياض

ومَجلسٌ في إدارة المعاهد والكليَّات بالرِّياض لقد استدعى المسؤولون الشَّيخين: شيخَنا الشيخ محمَّد الأمين الشنقيطي، والشَّيخ عبد الرحمن الإفريقي رحمة اللَّه على الجميع، استُدْعيا للتَّدريس بالمعاهد والكليات، وأُنزلا بدار الضيافة، واستقبلهما المسؤولون بحفاوةٍ وتكريم. وحدَّثني شيخي: أَنَّ يومًا من الأيام حضرتْ جماعةٌ من الأساتذة المصريين للسَّلام عليهما، ودارَ بحثٌ في المنطق بين هؤلاء وفضيلة الشَّيخ محمَّد الأمين يسألونه عن الفصل بالنسبة للإنسان؛ فكان يقول: إذا قلنا: "الإنسان حيوان"، شاركه في هذا التعريف كلُّ حيوان. وإذا قلنا: هو حيوان منتصبُ القامة يمشي على قدمين عاري الجسد، كان بإمكان صاحب سفسطة أَنْ يأخذَ دجاجًا، وينتف ريشَهُ حتَّى يكون عاري الجسد، ويقول: هذا منتصبُ القامة يمشي على قدمين، وإذا قلنا: هو الحيوان الضاحك، شاركه القرد في ذلك، لكن إذا قلنا: هو الحيوان الناطق، اختصَّ

الإنسانُ بهذا الوصف، فهو الفصل بالنّسبة إليه. كلُّ ذلك البحث والشَّيخ عبد الرحمن ينتظر على مائدة الإفطار! فقال لشيخنا: "أليس يا شيخ بإمكاننا أنْ نقول: الإنسان حيوان يأكل"، فضحك الجميع والتحقوا به -رحمه الله- ما ألطفَ نكتته هذه!! ولقد أقبل المسؤولون على فضيلة الشيخ محمَّد الأمين بغاية التَّقدير والاحترام، وكان هناك مصريٌّ حَضَري أزهري من أصحاب الشهادات المبروزة، وكان قبل قدوم الشيخ يُعتبر كأنه كبيرُ المدرسين ولما رأى حفاوة المشايخ بفضيلة الشَّيخ دونه لعل ذلك أخذ بخاطره -ولا أظن إلا خيرًا-، فصار يتحين الفرص له. أخبرني شيخي عليه رحمةُ اللَّه، قال: عندما كنتُ خارجًا من فصلٍ كنتُ فيه في درس تفسير، ودخلتُ غرفة استراحة المدرِّسين، وكان الشيخان: سماحة الشيخ محمَّد بن إبراهيم بن عبد اللطيف آل الشيخ وأخوه الشيخ عبد اللطيف بن إبراهيم، كانا موجودَينْ في غرفة استراحة المدرسين، الأول مفتي الدَّيار السعودية، والثاني المدير العام للمعاهد والكليات، فعندما دخلتُ غرفة الاستراحة، إذا ذلك المصري يقول: يا شنقيطي سمعتك تُقرِّر في الدَّرس أنَّ النَارَ أبدية، وعذابها لا ينقطع؟ قلتُ: نعم.

فقال: كيف تسمح لنفسك يا شنقيطي! أنْ تعلِّم أولاد المسلمين أن النار أبدية، وعذابها لا ينقطع، وهذا شيخ الإسلام ابن تيمية والمجدِّد محمَّد بن عبد الوهاب يُقرِّران أنها تخبو وينبت في قعرها الجرجير؟؟ قال الشَّيخ: وكنتُ آنذاك حديثَ عَهْدِ بالصَّحراءِ أغضبُ إذا استُغضِبتُ، فقلتُ له: يا مصري! مَنْ أخبرك أن الرَّسولَ الذي أُرسِلَ إلي، ووَجَبَ علي الإيمان بما جاء به اسمه محمَّد بن عبد الوهاب؟ إن الرسول الذي أُرسلَ إلي ووجبَ علي الإيمان بما جاء به اسمه محمَّد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم -، وُلِدَ بمكة ولم يولد بحريملا، ودُفِنَ بالمدينة ولم يدفن بالدِّرعية، وجاء بكتابٍ اسمه القرآن، والقرآن أحمله بين جَنْبَي، وهو الذي يجب علي الإيمانُ بما جاءَ به؛ ولمَّا تَأمَّلتُ آياته وجدتها مطبقةَ على أنَّ النارَ أبدية، وأنَّ عذابها لا ينقطع، عَلَّمتُ ذلك لأولاد المسلمين لَمّا ائتمنني وليُّ أمر المسلمين على تعليمهم، أسمعتَ يا مصري؟؟ قال: فقال سماحة الشَّيخ محمَّد بن إبراهيم: "سَم؟! " وهي بلهجة أهل نجد من مدلولها "ما تقول"؟ قال الشَّيخ الأمين: فقلتُ لهُ: ذاكَ إنسان يَعي ما يقول!!. قال:

وكان (¬1) رجلًا عاقلًا، وقد علم أني مُحْتَدٌّ. فقال سماحته: أطالَ اللهُ عمرك، منك نستفيد -يعني أَفِدنا-. قال الشَّيخ الأمين: إني قلتُ ما قلت بعد أنْ اطَّلعتُ على ما استدل به ابن القيِّم تقريرًا لمذهب شيخه. لقد استدلَّ بآية النَّبأ: {لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا} [النبأ: 23 - 25]، وبآية هود: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} الآية [هود: 107]. واستدل بأربعة أحاديث ثلاثة منها في غاية الضَّعف، ولا يمكن الاحتجاج بها، والرَّابع حديث طاووس عن عبد الله: "يأتي على النار زمانٌ تخفق أبوابها، وينبت في قعرها الجرجير"، وهو حسن السند صالح للاحتجاج به. واستدل ببيتِ شعرٍ هو قول الشاعر: لَمُخلفُ إيعادي ومنجزُ مَوعدي ... . . . . . . . . ¬

_ (¬1) أي: الشيخ ابن إبراهيم -رحمه الله-.

قال: لا مانع من أنْ يكون ما يجمل عند العرب كله موجودٌ في القرآن، والعرب يجمل عندهم إخلاف الوعيد وإنجاز الوعد، فلا مانع إذًا من إخلافه وعيده لأهل النَّار بالخلود. قال: وذكر ابن القيم سفسطةً للدَّهريين هي قولهم: إن الله أعدل من أنْ يعصيه العبد حقبًا من الزمن فيعاقبه بالعذاب الأبدي، قالوا: إن الإنصاف أَنْ يعذبه قدر المدَّة التي عصاه فيها. وأنا أُجِلُّ ابنَ القَيم عن أنْ يكون ذكر هذه السفسطة للاحتجاج بها، وإنما ذكرها استطرادًا، فقال سماحته: أفدنا أطال اللَّهُ في عمرك. قال شيخنا: فقلتُ له: إنِّي أصبحتُ وإياكَ على طرفي نقيض، أنتم تمثلونَ طائفة من المسلمين تقول بفناء النارِ وانقطاعِ عذابها، وأنا أمثلُ طائفة أخرى منهم تقول النَّار أبدية وعذابها لا ينقطع، والله تعالى يقول: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} إلى قوله تعالى: {ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59]. فقد أصبحنا يا سماحة الشَّيخ بمثابة المتناظرين، ولابد للمتناظرين من حَكَمٍ يُحَكِّمانِهِ بينهما يرجعان إليه لئلا يَتَّسِعَ الخلاف.

قال سماحته: فماذا ترى أنْ نُحَكِّمَ بيننا؟ قال شيخنا: أرى أنْ نُحَكِّمَ بيننا كتابَ الله تلاوةً لا تأويلًا، معناه أنَّه لا يقبل من أحدنا الاستدلال إلا بآيةٍ يشهد له منطوقها بدلالة المطابقة. قال سماحة الشَّيخ مُحَمَّد: فقد حَكَّمْنا بيننا كتابَ الله تلاوةً لا تأويلًا. فقال الشَّيخ الأمين: إذا شاء سماحتكم بحَثْنا هذه المسألة بالدَّليل الجَدَلي المعروف بالسَّبر والتقسيم، والذي أتى به صاحب مراقي السعود -المسلك الرابع من مسالك العلة- حيث يقول: والسَّبرُ والتَّقسيمُ قِسْمٌ رابعُ ... أَنْ يحصُرَ الأوصافَ فيهِ جامِعُ ويبطلَ الذي لها لا يصلحُ ... فما بقي تعيينهُ مُتَّضحُ ومعنى البيتين: أنْ يجمع المتناظران أو المتناظرون الأوصاف التي يحتمل أنْ تكون مسألة النزاع متصفة بها، فإنْ اتَّفقا أو اتَّفقوا أنَّ أوصاف المسألة محصورةٌ فيما جمعوا، شرعوا في سبرها، أي: في اختبارها، أي: بعرضها واحدة بعد واحدة على المحكم، فما ردّ منها المحْكَم وجب رده، وما بقي يتعيَّن الأخذ به.

فقال سماحة الشَّيخ محمد: وافقنا على بحث المسألة بالسَّبر والتقسيم. قال شيخنا: قَيدوا ما تتفقون عليه من احتمالات للمسألة لتتمكنوا من عرضها على المحْكَم واحدة بعد الأخرى؛ فمثلًا: يحتمل: أن النار تخبو. ويحتمل: أنَّها تأكل من أُلقي فيها حتى لا يبقى من أهلِها شيء. ويحتمل: أنَّهم يخرجون منها فرارًا منها. ويحتمل: أنَّهم يموتون فيها، والميِّت لا يحسُّ ولا يتألم. ويحتمل: أنهم يتعوَّدون حَرَّها فلا يبق يؤلمهم. ويحتمل: أنه لا يقع شيء من ذلك كله، وأنها أبدية وعذابها لا ينقطع. ولما اتفق الحضور على أنّه لا يوجد احتمالٌ بعد هذه الاحتمالات الستة المقيدة، ابتَدؤوا بعرض الاحتمالات على المحكم. قالوا: يحتمل أنها تخبو، فإذا المحْكَم يقول: {كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا} الآية [الإسراء: 97]. ومعلوم أن "كلما" أداة من

أدوات التكرار بلا خلاف، فلو قلت لغلامك: كُلَّما جاءك زيدٌ أعطه كذا من مالي، فإذا مَنَعَه مرة ظَلَمَه بلا خلاف. وقالوا: يحتمل أنَّها تأكلهم حتى لم يبق منهم شيء، فإذا المحْكَم يقول: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} الآية [النساء: 56]؛ فلم يبق لهذا الاحتمال نصيبٌ بموجب هذه الآية. وقالوا: يحتمل أنَّهم يخرجون منها هاربين، فإذا المحكَم يقول: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا} الآية [السجدة: 20]؛ ويقول: {وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} الآية [الحجر: 48]، فلم يبق لهذا الاحتمال أيضًا نصيبٌ من الاعتبار. وقالوا: يحتمل أنَّهم يموتون فيها والميت لا يحس ولا يتألم، فإذا المحْكَم يقول: {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى} الآية [طه: 74]، ويقول: {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ} الآية [إبراهيم: 17]، فلم يبق إذا لهذا الاحتمال نصيبٌ من الاعتبار. وقالوا: يحتمل أنَّهم يتعوَّدون حَرَّها فلم يبق يؤلمهم لتعؤُدِهِم عليه، فإذا المحْكَم يقول: {فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا} الآية [النبأ: 30] ويقول: {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} [الفرقان: 65]،

والغرام: الملازم، ومنه جاء تسمية الغريم، ويقول المحْكَم: {فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا} الآية [الفرقان: 77]، فلم يبق لهذا الاحتمال أيضًا نصيبٌ من الاعتبار. قال شيخنا: فلم يبق إلّا الاحتمال السادس، وهو أنَّها أبديَّةٌ وعذابها لا ينقطع، وقد جاء ذلك مبينًا في كتاب الله العزيز في خمسين موضعًا منه. فسَرَدَها لهم مرتبةَ بحسب ترتيب مصحفِ عثمانَ - رضي الله عنه -، وكأنها جاءت مسرودةً في صفحة واحدة. وعند ذلك قال سماحة الشَّيخ محمَد بن إبراهيم مفتي الدِّيار السعودية، قال: آمَنَّا بالله وصدَّقنا بما جاءَ في كتاب الله. فقال شيخنا عليه رحمة الله: وعلينا أنْ نجيب عن أدلة ابن القَيِّم، وإلا تركنا المسلمين في حيرة، ولنجيبن عليها بالكتاب تلاوةً لا تأويلًا، فنقول: أما آية النبأ، فلا دليل فيها لِمَا يريد الاستدلال بها عليه؛ إذْ غاية ما تفيده آية النبأ هذه، هو: أن أهل النار يمكثون أحقابًا من الزمن في نوع من العذاب هو الحميم والغَسَّاق، ثم ينتقلون منه إلى آخر بدليل

قوله تعالى في "ص": {هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ} [ص: 57 - 58]؛ ومعلومٌ أن عذاب أهل النار أنواع، وخير ما يفسر به القرآن القرآن. وأما استدلاله ببيت الشعر فإن ما قاله يمكن اعتباره لولا أننا سمعنا الله تعالى يقول في كتابه: إن وعيده لأهل النار لا يُخلَف، قال في "ق": {قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [ق: 28 - 29]، وقال أيضًا في نفس السورة: {كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ} الآية [ق: 14]. وأما سفسطةُ الدَّهريين التي ذكرها استطرادًا، فقد تولى الله تعالى الجواب عنها في محكم تنزيله، وهو الذي يعلم المعدوم لو وجد كيف يكون، وقد عَلِمَ في سابق علمه أَنَّ الخُبث قد تأصَّل في أرومة هؤلاء الخبثاء بحيث إنَّهم لو عذبوا القدر من الزمن الذي عصوا الله فيه، ثم عادوا إلى الدنيا لعادوا لما يستوجبون به العذاب، لا يستطيعون غير ذلك، قال تعالى في سورة الأنعام: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَالَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام: 27 - 28].

فيبقى لدينا من أدلّة ابن القيِّم آيةُ هود، وهي قوله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [هود: 107]، وحديث أبي داود وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "يأتي على النار زمان تخفق أبوابها وينبت في قعرها الجرجير"، أو كما قال - صلى الله عليه وسلم -؛ فإنَّهما دليلان صالحان للاحتجاج بهما، فيجب علينا البحث والتنقيب عن وجه يمكن به الجمع بين الأدلة؛ لأنَّ إعمال الدَّليلين أولى من طرح أحدهما كما هو مقرَّر في فنِّ الأصول، قال في مراقي السُّعود: والجَمْعُ واجبٌ متى ما أَمكنا ... إلا فَلِلأَخيرِ نَسْخٌ بيِّنا إن عندنا أدلةَ على أنَّ النَّار أبديةٌ ولا ينقطع عذابها، وهذه الآية التي من سورة هود وهذا الحديث الحسن دليلان يفيدان أنَّ النَارَ تفنى، فما العمل؟ والجواب: أنَّنا نرى إمكان الجمع بين هذه الأدلة، بحمل آية هود وحديث أبي داود على الدَّرك من النَّار المخصَّص لتطهير عصاة المسلمين؛ فإنَّه يخرج منه آخر مَنْ بقلبه مثقالُ ذرةٍ من إيمان، ويخبو وتخفق أبوابه وينبت في قعره الجرجير، أما دركات النَّار المعدة سجنًا وعذابًا للكفار فهي أبدية وعذابها لا ينقطع.

وهنا تنسجم الأدلة الشَّرعية في بوتقة واحدة لا تعارض بينها، ولا يكذب بعضها بعضًا، وبالله تعالى التوفيق، وهو حسبنا ونعم الوكيل. فقال سماحة المفتي الشَّيخ محمَّد بن إبراهيم بن عبد اللطيف آل الشَّيخ: "يا عبد اللطيف -يعني أخاه المدير العام للمعاهد والكليَّات- الرجوعُ إلى الحقِّ أولى من التمادي في الباطل، من الآن قَرِّرُوا أنَّ النَّارَ أبدية، وأنَّ عذابَها لا ينقطع، وأن تلك الأدلة المراد بها الدَّرك من النَّار المخصَّص لتَطْهير عصاة المسلمين" وبالله تعالى التوفيق. تنبيهٌ: وحيث إن سماحة المرحوم -بإذن الله- العلَّامة الشَّيخ محمَّد ابن إبراهيم آل عبد اللطيف آل الشيخ هو المرجع الأول للعلم ورعايته، وإنَّه اقتنع بعد هذا المجلس بخلود عذاب أهل النَّار المشركين بالله، وأمَرَ بتقرير ذلك في البرامج التعليمية، فما كان يدور بخَلَدي أنَّه بقي مَنْ يتشبَّث بهذا القول؛ لأنَّ المثل يقول: "لا عطر بعد عروس". وقد لفت نظري بحثٌ بيدِ طالب في هذا الموضوع، فتاقت نفسي إلى إيراد هذه الآيات التي ذكر الشيخ أنَّها في خمسين موضعًا، وقد

رجعتُ إلى كتاب الله فتتبعتُ هذه الآيات فوجدتها كما يلي: في "سورة البقرة": 1 - قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} الآية [39]. 2 - وقوله تعالى: {فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} الآيتان. [85 - 86]. 3 - وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ} الآيتان [: 161 - 162]. 4 - وقوله تعالى: {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} الآية [167]. 5 - وقوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} الآية [175]. 6 - وقوله تعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ

فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} الآية [البقرة: 217]. 7 - وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} الآية [257]. 8 - وقوله تعالى: {وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} من الآية [275]. ومن "سورة آل عمران": 9 - قوله تعالى: {أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ} الآيتان. [87 - 88]. 10 - وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} الآية [116]. ومن "سورة النساء": 11 - قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ

يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِين} الآية [14]. 12 - وقوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} الآية [93]. 13 - وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} الآيتان. [168 - 169]. ومن "سورة المائدة": 14 - قوله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} الآية [37]. ومن "سورة الأنعام": 15 - قوله تعالى: {قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} الآية [128]. ومن "سورة الأعراف": 16 - قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} الآية [36].

ومن "سورة التوبة": 17 - قوله تعالى: {أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ} الآية [17]. 18 - وقوله تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيم} الآية [63]. 19 - وقوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} الآية [68]. ومن "سورة يونس": 20 - قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} الآية [27]. 21 - وقوله تعالى: {ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} الآية [52]. ومن "سورة هود": 22 - قوله تعالى: {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ} الآية [39].

23 - وقوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} الآيتان. [هود: 106 - 107]. ومن "سورة الرعد": 24 - قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} الآية [5]. ومن "سورة إبراهيم": 25 - قوله تعالى: {وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} الآيات. [إبراهيم: 15 - 17]. ومن "سورة النحل": 26 - قوله تعالى: {فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} الآية [29]. ومن "سورة الإسراء": 27 - قوله تعالى: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا

وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا} الآية [97]. ومن "سورة طه": 28 - قوله تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى} الآية [74]. 29 - وقوله تعالى: {كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا (100) خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا} الآيات. [99 - 101]. 30 - وقوله تعالى: {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} من الآية: [127]. ومن "سورة الأنبياء": 31 - قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98) لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ (99) لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ} الآيات. [98 - 100]. ومن "سورة الحج": 32 - قوله تعالى: {فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ

مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} الآيات. [19 - 22]. 33 - وقوله تعالى: {وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ} الآية [55]. ومن "سورة المؤمنون": 34 - قوله تعالى: {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} الآيتان. [103 - 104]. ومن "سورة الأحزاب": 35 - قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} الآيتان. [64 - 65]. ومن "سورة فاطر": 36 - قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ

أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} الآيات. [36 - 37]. ومن "سورة غافر": 37 - قوله تعالى: {الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ (74) ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75) ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} الآيات. [70 - 76]. ومن "سورة فصلت": 38 - قوله تعالى: {فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ} الآية [24]. 39 - وقوله تعالى: {ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} الآية [28].

ومن "سورة الشورى": 40 - قوله تعالى: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44) وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ} الآيتان. [44 - 45]. ومن "سورة الزخرف": 41 - قوله تعالى: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74) لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76) وَنَادَوْا يَامَالِكُ لِيَقْضِ. . .} الآيات. [74 - 77]. ومن "سورة الجاثية": 42 - قوله تعالى: {وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (34) ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} الآيتان. [34 - 35]. ومن "سورة محمد": 43 - قوله تعالى: {كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ

أَمْعَاءَهُمْ} الآية [15]. ومن "سورة المجادلة": 44 - قوله تعالى: {لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} الآية [17] ومن "سورة التغابن": 45 - قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} الآية [10]. ومن "سورة النبأ": 46 - قوله تعالى: {فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا} الآية [30]. ومن "سورة الانفطار": 47 - قوله تعالى: {وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ (15) وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ} الآيات. [14 - 16]. ومن "سورة البينة": 48 - قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ

جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ} الآية [6]. ومن "سورة الهمزة": 49 - وقوله تعالى: {نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ} الآيات. [6 - 9]. قلت: واللَّه حسبي ونعم الوكيل: لعل المحل الموفي عددَ خمسين؛ هو الآية الأخيرة من سورة الفرقان -تجاوزت محلَّها خطأً- وهي قوله تعالى: {فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا} الآية [77]. هذا؛ وظنِّي حَسَنٌ بطالب العلم المنصف غير المتعصِّب، والذي لا يطلب إلّا الحق، أنَّه بعدما يقف على هذا الوحي المتكرِّر النزول بمكة والمدينة، ويقف على أن الجمع بين الأدلة -التي استجلبها كلُّ طرف- ممكنٌ بحمل أدلة الفناء على الدرك المخصَّص لتطهير عصاة المؤمنين دون دركات النار المعدَّة سجنًا وعذابًا للمشركين؛ فإنَّ ظنِّي حَسَنٌ بأنَّه سوف يقتنع، والتَّوفيق بيد اللَّه يعطيه من شاء فضلًا ويمنعه من شاء عدلًا، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.

ومجلس مع الشيخ عبد الله السعدوان

ومجلس مع الشّيخ عبد الله السَّعدوان وفي السنة الدراسية من عام 1375 هـ، لم يصحب الشَّيخُ محمَّد الأمين أهله معه إلى الرياض، بل بقيتْ بعيدةً عنه بالمدينة المنورة لأمرٍ اقتضى ذلك، واستأجر الشَيخُ منزلًا عظيمًا للسكنى وسكن معه جماعةٌ من الطلبة بلغوا -إنْ لم تخني ذاكرتي- ستة عشر رجلًا، وكانوا كلهم طلبةَ علمٍ إمّا بمعهد أم قيس وإما بمعهد إمام الدعوة بدخنة. كانوا إذا رجعوا من الدِّراسة متكاسلين، دَفَعَ إليهم الشَّيخ فلوسًا يشترون بها الطعام من المطابخ العمومية، فتأثَّرت صحة الشَّيخ لذلك، وكان -عليه رحمةُ الله- يطالبهم بأنْ يجعلوا الخدمة كلَّ يوم على اثنين لخدمة الجماعة وهو يكفيهم جميع المصاريف، لكنّه لم يجد آذانًا صاغية لتغلُّب الكسل على هؤلاء. وعندها قرَّرت في نفسي خدمة شيخي، فعرضتُ ذلك عليه وقلت له: تلميذك لِمَا تعوَّدهُ من الأسفار صار عنده إلمامٌ بالخدمة نوعًا ما؛ لذلك فإني أستطيع أنْ أؤمن لكم ما يكفيكم واثنين أو ثلاثةٍ معكُم،

وهناك جعلتُ نفسي خادمًا لشيخي في كلِّ شيء يتعلق بحاجته وخدمة زوَّاره من تقديم القهوة والشاي إذا لزم شيءٌ من ذلك. وذات يومِ قَدِمَ على فضيلته الشيخُ عبدُ الله السّعدون -رحمه الله- -وهو أحد أفراد حاشية جلالة الملك سعود بن عبد العزيز -رحمه الله- - يزوره؛ وعندما كنتُ أصبُّ القهوة العربية له سمعته يقول للشَّيخ: إن طويل العمر يبلِّغك السلام، ويرجو منكم المسامحة في تقصيره معكم، ولكن ذلك لم يكن إلا لكثرة الشواغل وعدم مَنْ يقوم -مِنَ الصحبة له- بتذكيره إذا لزم، وقال كلامًا نحوًا من هذا؛ ثم قال: وهو الآن يريد منكم أنْ تبلِّغوه حاجتكم وحاجة إخوانكم الذين معكم وإخوانكم بالمدينة. فردَّ شيخنا قائلا: جزاهُ اللَّه خيرا، بلِّغهُ أنّه لا تنقصنا حاجةٌ وللَّه الحمد. فقال الشَّيخ عبد اللَّه -والظاهر من الحال سقوطُ مُؤنةِ التَّحفُّظ بينه وبين الشَّيخ الأمين- قال له: يا أخي مَلِكُ الجزيرة العربية يدعوك لتبلِّغهُ حاجتك، فتقول له: لا حاجة لي!؟ إنْ كان هذا تورُعًا منك فإنَّك لن تكون أورع من ابن عمر، وهو قد قبل هدية المختار بن أبي عُبيد.

ولمَّا ألحَّ السعدون في الموضوع أجابه شيخُنا رافعًا صوتَهُ وبنبرة المُحتَدِّ قائلًا: يا أخي عبد الله لا تفكِّر في أني أرفعُ حاجتي إلى مَلِكٍ غيرِ مطَّلعٍ عليها هو بنفسه. ثمَّ إنَّ السعدون انصرف بعدما تركَ ربطةً من النُّقود لا أعلم قدرها إلا أنَّ رباطها مختومٌ بالرَّصاص. ولَمّا انصرف السّعدون قلتُ له: لو أنّك يا فضيلة الشَّيخ طلبتهُ مساحاتٍ من أرض المدينة يجعل فيها إخوانُك منازلَهُم المتواضعة. قال: إنِّي أخافُ العاقبة السَّيئة، إني لو فعلت لَيُلَبينَّ المَلِكُ طَلَبي. وأَوَّلُ مَنْ يعلم بذلك أهلُ قرابتي فيبادرون النُّزول فيها قبل النَاس، فتنقلب المِنْحةُ مصيبةً لِما سوف يقوم به أولئك المسبوقون من رفع برقياتِ الشكاية، ومعلومٌ أنَّ المِنْحة بالغةً ما بلغتْ لن تَسَعَ هؤلاء المساكين، فيتغيَّر وضعهم من فقراء جَديرين بالعطفِ عليهم إلى مشاغبين مرغوب عنهم. ولقد صَدَقَ؛ فقد كان فكرُهُ ذلك حَزًا في مَفْصِل، إن الله قد حبَّبَ الشَّغَب إلى بعض النَّاس، والمثلُ يقول: "اتقِ شَرَّ مَنْ أَحْسَنْتَ إليه". حدثني شيخي قال: بينا أنا في أحَدِ الفصول أثناء دَرسٍ إذ ناولني

ساعي البريد برقية من أحد إخوتي عزيزٍ علي يقول فيها: "لقد تقرَّرَ تسفيري أنا ومَنْ أعول، ولقد خرجتُ في كفالةِ أحدِ الإخوان على أن يحضرني للسفر يوم الأربعاء المقبل"؛ أي: بعد أسبوع واحد. ولما انتهت الحصَّة وجدتُ سماحة المفتي الشَّيخ محمَّد بن إبراهيم في غرفة استراحة المدَرِّسين فأخبرتُه بالبرقية وما تفيده؛ فما الذي تراه يا سماحة الشَّيخ؟ فقال: هذه أمورٌ لا نتدخل فيها بتاتًا. فقلتُ له: ابعثوا إذًا مَنْ يقطعُ لي تذكرةَ سفرِ إلى جدَّة، ويحجز لي مقعدًا في أوَّل طائرةٍ إليها. فقال سماحتُهُ: أثناء السنة الدراسيَّة! ومَنْ لجدوَلِك؟ فقلتَ: أمرٌ عجيبٌ منك هذا يا سماحة الشَّيخ محمَّد، أُخبرك أنَّ وَلَدي في السجن يُرادُ تسفيرُهُ وتُفيدني بعدم اهتمامك بذلك، وتريدُ مني أن أجلسَ أُعلِّمُ لك أولادك؟! قال سماحتُهُ: وماذا تريدُ بجدَّة؟ قال: قلتُ: لا أكتمُك بأني أريد أنْ آتي ذلك الكافر "قنصل فرنسا" أدفعُ له رشوة، وأريد منه أن يتوسَّطَ لدى هذه الحكومة

المسلمة لتتركَ هؤلاء المسلمين يصلُّون ركعتين بأحد الحرمين من غير إزعاج. قال شيخنا: وعند ذلك قال سماحة الشيخ محمَّد بن إبراهيم: يعلم اللَّهُ أنَّه ما سَبَقَ أنْ تدخلنا في موضوع كهذا، ولكنَّ فضيلتكم ليس عندنا مثل الناس؛ وعندي اقتراحٌ على فضيلتكم أنْ تكتب إلى الإمام كتابًا توضح فيه وَضْعَ هؤلاء الإخوان وترجو منه بموجَبِهِ أنْ ينظر إليهم بعين الرَّحمة؛ قال: وأنا رسولُكَ إليه، أضعُهُ بيده بإذن الله، وعسى أنْ يكون الخير. قال شيخنا عليه رحمةُ اللَّه: فكتبتُ إلى جلالة الملك عبد العزيز كتابًا مضمونُهُ أنَّ هؤلاء إنَّما أتوا من استعمار غاشم همُّهُ القضاء على تقاليد الشعوب الدينية وعلى لُغاتها، وحيث إنَّه لَم يسبق لأحد من هؤلاء التَّدخُّلُ في سياسة، ولم يسبق لأحدهم إصابةُ حَدٍّ من حدود اللَّه، فإني أسترحمُ لهم عطفَ جلالتكم الكريم بأمركم بعدم تسفير أحدٍ منهم. قال: فذهب سماحتُهُ بالخطاب وسلَّمَهُ لجلالة الملك وكلَّمه مشافهةً في الموضوع، فاستدعى جلالتُهُ أحدَ أفراد مكتبه، وقال: "اذهبْ إلى القائمة بهذا المعروض ثم ائتني حالًا بالجواب"؛ وقد كتب عليه: "هل يوجد شنقيطيٌ متدخلٌ في سياسة، أو أصاب

أحَدٌ منهم حدًّا من حدود الله؟ ". وجاء الردُّ: "لا يوجد"، فأرسل جلالتُهُ عليه رحمةُ الله وأسكنه فسيحَ جناته برقية تعميميَّة إلى مدير الأمن العام مفادها: "الشَّناقطةُ إخوانُ الشَّيخ محمَّد الأمين لا تتعرَّضوا لهم، ومَنْ رَغِبَ منهم في الرَّعَوية السُّعودية أَعطوهُ بدون قَيْدٍ ولا شرط". وهكذا أصبح هذا الجِنْسُ من الناس يتمتَّعُ باحترامِ لدى السلطات الحكومية بفضلِ اللَّهِ ثم بفضلِ فضيلةِ الشَّيخ محمَّد الأمين عليه رحمةُ الله. وقد ناصبَهُ بعضُهم العداء حَسَدًا له ولعشيرته، على الرغم من أنَّ هؤلاء الذين عادَوْه لا يحمل واحدٌ منهم الجنسية السُّعودية ولا يتمتع بإقامةٍ فيها إلا بواسطته، ويقول المثل: "اتَقِ شَرَّ مَنْ أحسنتَ إليه". رحم الله شيخنا ما أحلمه، وما أرحمه، وما أشدَّ تغاضيه عن زلاتِ الناس، والله ما رأيتُهُ منتقمًا من أحدٍ ولا سمعتُهُ متكلمًا في أحد، ولا يستطيع أحدٌ في مجلسه أنْ يتكلم -مهما كانت مكانته عنده- في أحد إلا قال له: "احذر لا تُعطِهِ أحسنَ ما عندك" رحم الله شيخنا برحمته الواسعة، وجمعنا به في مستقرِّ رحمته، إنَّه سميع مجيب.

ومجلس معه في المسجد الحرام

ومَجلس معه في المسجد الحرام وفي جلسةٍ معه في أرْوِقَةِ المسجد الحرام سألتُهُ عَمَّا هو شائعٌ لدى بعض الناس من أنَّ الله تعالى إنَّما خَلَقَ الخَلْقَ من أجل مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم -؛ فقلتُ له: تعلم أنَّ شيخ مشايخنا المختار بن سعيد المعروف بابنِ بونا الجكني هو من الذين يُعتبر قولُهُم؟ قال: نعم هو كذلك. قلتُ: إن هذا الشيخ قال في رائيته: محمدٌ المخلوقُ من بَرَكاتِهِ ... ومن نُورِهِ أَيوبُ والرُّسُلُ النُّذْرُ فلولاهُ لم تُخْلَقْ من العَدَمِ الدُّنا ... وضَرَّتُها والموتُ والحَشْرُ والنَّشْرُ ولا العرشُ والكُرسِي ولا الجنَّةُ التي ... أُعدَّتْ ولا نارٌ وبينهُما الجِسْرُ وهذا أبو البركات عياضٌ يقول في "الشِّفا بتعريف حقوق المصطفى": إن آدمَ لمّا أكل من الشجرة قال: اللَّهم بحق مُحمَّد اغفر لي خطيئتي، قال الله: يا آدمٌ من أين عرفتَ محمدًا ولم أخلقه بعد؟

قال: ياربِّ لما خلقتني بيدك وأدخلتني جنتك، وأسجدت لي ملائكتك؛ رأيت مكتوبًا على باب جنتك: لا إله إلا الله محمَّدٌ رسول الله، فعلمتُ أنَّه لم يكن أكرم عندك مِمَّن قرنتَ اسمه باسمك. قال الله: يا آدم وعزَّتي وجلالي إنَّه لآخر النَّبيين من ذُريتك، ولولاه ما خلقتك. وقد ساق عياض سندًا لهذا الحديث يرفعه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فما هو رأيكم في هذا الموضوع؟ فأجاب قائلًا: أما شيخُ مشايخنا وابنُ عَمِّنا فقد أخطأ في قوله هذا، وعليه رحمةُ الله؛ ويمكن أنْ يُلْتَمَسَ له العُذْرُ من حيث إن الكتبَ التي تُترجم للرجال، والتي هي مِجهرٌ لعلل الأحاديث لم تكن موجودةً في زمنه بتلك البلاد النَّائية، وقد يطلع على حديث يظنهُ صحيحًا فيأخذ به، ولو اطلَعَ على أنّ هذا الحديث مدارُهُ على عبد الرحمن بن زيد بن أرقم؛ وأنَّ عبد الرحمن من الضَّعف بحيث إنّه لا يُعبأ بحديثه لما قال ما ذكرتَ عنه. ثم قال لي: يا ابني إن الله تعالى ذَكَرَ في كتابه حكمةَ خلقِهِ للخَلْقِ فقال تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2]، ولم يذكر

في آية واحدة أنهُ خَلَقَ الخَلْقَ من أجل محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، ولم يُنْقَل عنه - صلى الله عليه وسلم - في حديث صالح للاحتجاج به أنَّهُ تباركَ وتعالى خَلَقَ الخَلْقَ من أجل محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، أوَ أنَّ أوَّلَ ما خَلَقَ اللهُ نورَ مُحَمَّد - صلى الله عليه وسلم -؛ بل ثبت في الحديث الصحيح المتَفَق عليه: "إن أوَّل ما خلق اللَّهُ القلم". الحديث. لذلك، يا بني فإني أوصيك ونفسي بتقوى الله تعالى، وأنْ لا تقول على الله ما لا تعلم، فإن الله تعالى يقول: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36]، وقد صَحَّ عن النبى - صلى الله عليه وسلم - قولُهُ: "مَنْ كَذَبَ علي متعمدًا فليتبؤأ مقعدَهُ من النَّار"، واعلم أنَّ قول المرءِ على الله ما لا يعلمه من أعظم ما يُرضي الشيطان. فإنَّها وظيفتُهُ -عليه لعنة الله- التي حَذَّرَ اللَّه تعالى منها بقوله: {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} الآية [البقرة: 169]، وفي تعداد المُحَرَّمات التي حرَّم الله عليكم في سورة الأعراف، قال تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ} [الأعراف: 33]، إلى أنْ قال: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} الآية، يتحصَّل من هذا، يا ابني، أنَّ القول بذلك من غير دليلٍ من كتابٍ أو سُنَّةٍ تَقَوُّلٌ على الله ورسوله،

وقد علمتَ ما في ذلك من الإثم. وليس في عَدَم القول بذلك غضاضةٌ من مقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العظيم عند الله، بل هو صاحب المقام المحمود، والحوض المورود، آدمُ فمن دونه تحت لوائه - صلى الله عليه وسلم - يوم القيامة، وهو صاحب الشَّفاعة الكبرى صلوات الله وسلامه عليه، وإنِّي أنصحُكَ أنْ لا تقول إلا في ضوء الوَحْي، وأنْ تتوقَّفَ إذا لم تجد وحيًا تفتي به، وباللَّه تعالى التَّوفيق. قلتُ: وأُحيلُ القارئ في ترجمة عبد الرحمن بن زيد بن أرقم الذي عليه مدار حديث الشِّفا هذا، أحيلُ القارئ إلى تهذيب التهذيب لابن حجر ج 6/ ص 177/ 178، وإلى ميزان الاعتدال للذهبي ج 2/ ص 564 ليقف عن كثب على أن عبد الرحمن بن زيد بن أرقم هذا ليس مِمَّن يُحْتَجُّ بحديثه، واللَّه تعالى أعلم. وقد سألتُهُ ونحن في مسجدِ مكة الحرام عن القول بأنَّ مكة لا يدخلها إلا مُحرم؟. فقال: يا ابني ثلاثةٌ من الأربعة المدوَّنة فروعُهُم يقولون ذلك، وهم أبو حنيفة ومالكٌ وابنُ حنبل، وقال الشَّافعي: مَنْ لم يُرِد

نُسُكًا يجوز له دخولها بدون إحرام. والدَّليل إلى جانب الشَّافعي؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال بعدما ذكر المواقيت: "هُنَّ لهن ولمن مَرَّ بهن من غير أهلهن ممَّن أرادَ الحج والعمرة". فهو دليل على أنَّ مَنْ لم يُرِد نُسُكًا يجوز له دخولها بدون إحرام، والله تعالى أعلم. وسألته هناك أيضًا عمّا يقولونه من أنَّ الله يُنْزِلُ في كلِّ يوم على البيت مائة وعشرين رحمة، ستونَ منها للمصلّين، وأربعون للطّائفين، وعشرون للنّاظرين؟ فقال: الأثرُ الواردُ بهذا ضعيفٌ لا يصلحُ للاحتجاج به، ولا أتَذكَّرُ أن في القرآن اعتبارًا للنّاظرين، بل إن الله تعالى قال: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ} الآية [الحج: 26] والله تعالى أعلم.

وشبه مجلس مع سماحة الشيخ محمد الأمين بن محمد الخضر الشنقيطي

وشبهُ مَجلِسٍ مع سماحة الشّيخ محمّد الأمين بن محمد الخضر الشنقيطي رئيسِ القُضاةِ في الأردن سابقًا، وعضوِ مجلسِ الوصايةِ على عرشِ الأردن، وعضوِ مجلسِ الأعيان به، ووزير سابق للمعارف، وسفيرِ المملكة الهاشمية الأردنية. وذلك أيامَ رسالته هذه إلى الشيخ الأمين يسألُهُ عن الأمور الآتية؛ والحمد للَّه الذي جَعَل الأقلام راحة للأقدام، وتغني عن المشافهةِ بالكلام. لقد أرسل سماحتُهُ إلى ابن عمِّه -فضيلة شيخنا الأمين- يسأله عن: 1 - أين مَقرُّ العقل من الإنسان؟ 2 - هل يشمل لفظُ المشركين أهلَ الكتاب؟ 3 - هل يجوز دخولُ الكافرِ مساجدَ الله غير المسجد الحرام؟ وهذا نصُّ جوابِ الشَّيخ على هذه المسائل بالحرف الواحد:

"بسم الله الرحمن الرحيم" حضرة صاحب المعالي أخي الكريم الشَّيخ مُحَمَّد الأمين بن الشيخ مُحَمَّد الخضر حفظه الله ووفَّقه - السَّلامُ عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته. وبعد؛ فقد وَصَلَنا خطابكم الكريم بتاريخ 23/ 4/ 1389 هـ، وفهمنا ما سألتُم عنه، والجوابُ حفظكم الله ووفقكم عن المسألة الأولى التي هي محل العقل هو ما ستراه: ولا يخفى على معاليكم أن بحث العقل بحث فلسفيٌّ قديمٌ، وللفلاسفة فيه مائةُ طريق باعتبارات كثيرة مختلفة، غالبها بل كلها تخمينٌ وكذب وتخبُّطٌ في ظلام الجهل، وهم يسمُّونَ الملائكة عقولا، ويُكثِرونَ البحث في العقول العَشَرة المعروفة عندهم، ويزعمون أنَّ المؤثر في العالم هو العقل الفيَّاض، وأنَّ نورهُ ينعكس على العالم كما تنعكس الشمسُ على المرآة فتحصل تأثيراتُهُ بذلك الانعكاس، ويبحثون في العقل البسيط الذي يمثل به المنطقيون للنَّوع البسيط، إلى غير ذلك من بحوثهم الباطلة المتعلقة بالعقل من نواحٍ شتَّى. ومن تلك البحوث قولُ عامَّتهم -إلا القليل منهم-: إنَّ محلَّ العقلِ الدِّماغُ وتبعهم في ذلك قليلٌ من المسلمين، ويُذكر عن

الإمام أحمد أنه جاءت عنه روايةٌ بذلك. وعامّة المسلمين على أنّ محلّ العقل القلب وسنوضّح إن شاء اللَّه تعالى حُجج الطّرفين، ونبين ما هو الصّواب في ذلك. اعلم وفقنا اللَّه وإياك أن العقلَ نورٌ روحانيٌّ تدرك به النَّفسُ العلوم النظرية والضَّرورية، وأَنَّ من خلقه وأبرزه من العلم إلى الوجود، وزيَّنَ به العقلاء وأكرمهم به؛ أعلمُ بمكانه الذي جعله فيه من جَهلة الفلاسفة الكفرة الخالية قلوبهم من نور سماويٍّ وتعليم إلهي، وليس أحدٌ بعد اللَّه أعلم بمكان العقل من النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي قال في حقه: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3 - 4]، وقال تعالى عن نفسه: {أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} الآية [البقرة: 140]. والآيات القرآنية والأحاديث النَّبوية في كل منها التَّصريحُ بكثرة بأنَّ محلَّ العقل القلب، وكثرةُ ذلك وتكرارُهُ في الوَحيين لا يترك احتمالًا ولا شكًا في ذلك. وكُلُّ نَظَرٍ عقلي صحيح يستحيل أنْ يخالفَ الوحيَ الصَّريح؛ وسنذكر طرفًا من الآيات الكثيرة الدَّالة على ذلك، وطرفًا من الأحاديث النَّبوية، ثم نُبيِّنُ حجةَ مَنْ خالفَ الوحي من الفلاسفة

ومَنْ تبعهم، ونوضِّحُ الصَّوابَ في ذلك إنْ شاء اللَّه تعالى. واعلم أولًا: أنَّه يغلب في الكتاب والسنة إطلاقُ القلب وإرادة العقل وذلك أسلوبٌ عربيٌّ معروف؛ لأنَّ من أساليب اللُّغة العربية إطلاق المحل وإرادة الحال فيه كعكسه؛ والقائلون بالمجاز يُسمُّونَ ذلك الأسلوبَ العربي مجازًا مُرسَلًا، ومن علاقات المجاز المرسل عندهم المحلِّية والحاليَّة كإطلاق القلب وإرادة العقل؛ لأن القلبَ مَحَلُّ العقل، وكإطلاق النَّهر الذي هو الشَّق في الأرض على الماء الجاري فيه كما هو معلومٌ في محلِّه. وهذه بعَضُ نصوصِ الوَحْيين: قال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا} الآية [الأعراف: 179]، فعابهم الله بأنَّهم لا يفقهون بقلوبهم، والفقه الذي هو الفَهم لا يكون إلّا بالعقل، فدَلَّ ذلك على أن القلبَ محلُّ العقل، ولو كان الأمر كما زعم الفلاسفة لقال: لهم أدمغة لا يفقهون بها. وقال تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُور} [الحج: 46]، ولم يقل: فتكون لهم أدمغة يعقلون بها،

ولم يقل: ولكن تعمي الأدمغة التي في الرؤوس. كما ترى، فقد صَرَّحَ في آية الحج هذه بأن القلوب هي التي يُعْقَل بها، وما ذاك إلا لأنَّها محلُّ العقل كما ترى، ثم أكَّدَ ذلك تأكيدًا لا يترك شبهةً ولا لَبْسًا فقال: {وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}؛ فتأمَّل قوله: {الَّتِي فِي الصُّدُورِ} تفهم ما فيه من التَّأكيد والإيضاح؛ ومعناه: أن القلوب التي في الصُّدور هي التي تعمى إذا سَلَب اللهُ منها نورَ العقل فلا تُميِّز بعد عَماها بين الحق والباطل، ولا بين الحَسَن والقبيح، ولا بين النَّافع والضار، وهو صريحٌ بأَنَّ الذي يميَّز به كل ذلك هو العقل، ومحلُّه في القَلب. وقال تعالى: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88 - 89]، ولم يقل: بدماغٍ سليم. وقال الله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} الآية [البقرة: 7]، ولم يقل: على أدمغتهم. وقال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ} الآية [الكهف: 57]، ومفهوم مخالفة الآية أنَّه لو لم يجعل الأَكنَّة على قلوبهم لفقهوهُ بقلوبهم؛ وذلك لأنَّ محلَّ العقل القلبُ كما تَرى؛ ولم يقل: إنَّا جعلنا على أدمغتهم أكنَّةَ أنْ يفقهوه.

وقال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} الآية [ق: 37]، ولم يقل: لمن كان له دماغٌ. وقال تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} الآية [البقرة: 74] ولم يقل: ثم قست أدمغتكم، وكون القلب إذا قسَا لم يطع صاحبُهُ الله وإذا لانَ أطاعَ الله، دليلٌ على أن المميِّز الذي تُراد به الطاعة والمعصية محلُّهُ القلب كما ترى وهو العقل. وقال تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} الآية [الزمر: 22]. وقال تعالى: {فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} الآية [الحديد: 16]، ولم يقل: فويل للقاسية أدمغتهم، ولم يقل: فطال عليهم الأمد فقست أدمغتهم. وقال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ} الآية [الجاثية: 23]، ولم يقل: وختم على سمعه ودماغه. وقال تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} الآية [الأنفال: 24]، ولم يقل: ودماغه.

وقال تعالى: {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} الآية [الفتح: 11]، ولم يقل: ما ليس في أدمغتهم. وقال تعالى: {فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ} الآية [النحل: 22]، ولم يقل: أدمغتهم منكرة. وقال تعالى: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} الآية [سبأ: 23]، ولم لِقل: إذا فُزِّع عن أدمغتهم. وقال تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} الآية [محمد: 24]، ولم يقل: أم على أدمغة أقفالها؛ وانظر ما أصرح آية القتال هذه في أَنَّ التدبُّرَ وإدراك المعاني إنَّما هو بالقلب، ولو جُعل على القلب قفلٌ لم يحصل الإدراك فتبيَّن أن الدِّماغَ ليس هو محلُّ الإدراك كما ترى. وقال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} الآية [الصف: 5]، ولم يقل: أزاغ الله أدمغتهم. وقال تعالى: {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} الآية [الرعد: 28]، ولم يقل: تطمئن الأدمغة. وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} الآية

[الأنفال: 2]، ولم يقل: وجلت أدمغتهم، والطمأنينة والخوف عند ذكر الله كلاهما إنما يحصل بالفهم والإدارك. وقد صَرَّحت الآيات المذكورة بأنَّ محل ذلك القلب لا الدماغ، وبُيِّنَ في آياتٍ كثيرة أنَّ الذي يدرك الخطر فيخاف منه هو القلب الذي هو محلُّ العقل لا الدِّماغ، كقوله تعالى: {وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} الآية [الأحزاب: 10]، وقوله تعالى: {قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ} الآية [النازعات: 8]، وإنْ كان الخوف تظهر آثاره على الإنسان. وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} الآية [الأعراف: 100]، ولم يقل: ونطبع على أدمغتهم. وقال تعالى: {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا} الآية [الكهف: 14]، وقال تعالى: {إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا} الآية [القصص: 10]، والآيتان المذكورتان فيهما الدَّلالة على أن محلَّ إدراك الخطر المسبِّب للخوف هو القلب كما ترى لا الدِّماغ. والآيات الواردة في الطَّبْع على القلوب متعدّدة:

قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ} الآية [المنافقون: 3]، ولم يقل: فطبع على أدمغتهم، وكقوله تعالى: {رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} الآية [التوبة: 93]، ولم يقل: على أدمغتهم. وقال تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} الآية [النحل: 106]، والطمأنينة بالإيمان إنما تحصل بإدراك فضل الإيمان، وحُسْن نتائجه وعواقبه؛ وقد صرَّح في هذه الآية بإسناد ذلك الاطمئنان إلى القلب الذي هو محلُّ العقل الذي هو أداة النَّفس في الإدراك، ولم يقل: ودماغُهُ مطمئن بالإيمان. وقال الله تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} الآية [الحجرات: 14]، ولم يقل: في أدمغتكم. وقال تعالى: {أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} الآية [المجادلة: 22]، فقوله: ولمّا يدخل الإيمان في قلوبكم، وقوله: كتب في قلوبهم الإيمان، صريحٌ بأنَّ المحلَّ الذي يدخله الإيمانُ في المؤمن، وينتفي عنه دخوله في الكافر إنَّما هو القلب لا الدِّماغ، وأساس الإيمان إيمان القلب؛ لأن

الجوارح كلَّها تَبَعٌ له كما قال - صلى الله عليه وسلم -:"إنَّ في الجَسَد مضغةً إذا صلحت صلح الجسد كُلُّهُ، وإذا فسدت فسد الجسد كُلهُ ألا وهي القلب". فظهر بذلك دلالة الآيتين المذكورتين على أنَّ المصدر الأول للإيمان القلب، فإذا آمنَ القلب آمنت الجوارح بفعل المأمورات وترك المنهيات؛ لأنَّ القلب أمير البدن وذلك يدل دلالةً واضحةً على أن القلب ما كان كذلك إلّا لأنّه محلُّ العقل الذي به الإدراك والفهم كما ترى. وقال تعالى: {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} الآية [البقرة: 283]، فأسند الإثم بكتم الشَّهادة للقلب، ولم يسنده للدماغ؛ وذلك يدل على أنَّ كتم الشهادة الذي هو سَبَبُ الإثم واقعٌ عن عَمد، وأن محلَّ ذلك العمد القلب، وذلك لأنه محل العقل الذي يحصل به الإدراك، وقصْدُ الطاعة وقصْدُ المعصية كما ترى. وقال تعالى في حَفْصة وعائشة -رضي الله عنهما-: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَ} الآية [التحريم: 4]، أي: مالت قلوبُكُما إلى أمر تعلمان أنّه - صلى الله عليه وسلم - يكرهه؛ سواء قلنا: إنَّه تحريم شُرب العسل الذي كانت تسقيه إياه إحدى نسائه، أو قلنا: إنّه تحريم جاريته مارية؛ فقوله: صغت

قلوبكما؛ أي: مالت. يدل على أنّ الإدراك وقصد الميل المذكور محلّهُ القلب، ولو كان الدِّماغ لقال: فقد صغت أدمغتكما كما ترى. ولما ذكر كلُّ من اليهود والمشركين أنَّ محل عقولهم هو قلوبهم قَرَّرهم الله على ذلك؛ لأنَّ كون القلب محلَّ العقل حقٌّ، وأبطل دعواهم من جهةٍ أخرى، وذلك يدل بإيِضاح على أنَّ محل العقل القلب. أمَّا اليهود لعنهم اللَّه فقد ذكر الله عنهم ذلك في قوله تعالى: {وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ}، فقال تعالى: {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} الآية [النساء: 155]، فقولهم: قلوبنا غُلْف بسكون اللَّام يعنون: أنَّ عليها غلافًا، أي: غشاءً يمنعها من فهم ما تقول؛ فقرَّرهم اللهُ على أنَّ قلوبهم هي محل الفهم والإدراك؛ لأنها محلُّ العقل، ولكن كذَّبهم في ادِّعائهم أنَّ عليها غلافًا مانعًا لها من الفهم، فقال -على سبيل الإضراب الإبطالي-: {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} الآية. أمّا على قراءة ابن عباس: "قلوبنا غُلُفٌ" بضمتين؛ يعنون: أنَّ قلوبهم كأنها غلافٌ محشوُّ بالعُلوم والمعارف، فلا حاجة لنا إلى ما تدعوننا إليه، وذلك يدلُّ على علمهم بأنّه محلَّ العلم والفهم القلوب لا الأدمغة.

وأمّا المشْركون فقد ذكر الله ذلك عنهم في قوله تعالى: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} الآية [فصلت: 5]، فكانوا عالمين بأن محلَّ العقل القلب، ولذا قالوا: قلوبنا في أكنّة ممّا تدعونا إليه، ولم يقولوا: أدمغتنا في أكنَّة ممَّا تدعونا إليه، والله لم يُكذِّبهم في ذلك، ولكنه وبَّخَهم على كفرهم بقوله تعالى: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} الآية [فصلت: 9]. وهذه الآيات -التي أُطْلِقَ فيها القلب مرادًا به العقل؛ لأنَّ القلب هو محلُّهُ- أوضحَ اللهُ المراد منها بقوله: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} الآية [الحج: 46]؛ فصَرَّحَ بأنَّهم يعقلون بالقلوب، وهو يدل على أنَّ محلَّ العقل القلب دلالةً لا مطعن فيها كما ترى. وقال تعالى: {فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} الآية [الشورى: 24]، ولم يقل: يختم على دماغك. وقال تعالى {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ} الآية [الأنعام: 46]، ولم يقل: وختم على أدمغتكم.

وقال تعالى في النَّحل: {أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (108)} الآية [النحل: 108]، وقال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى} الآية [الحجرات: 3]، ولم يقل: امتحن أدمغتهم. وقال تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} الآية [الحجرات: 7]، والآيات بمثل هذا كثيرة ولنكتف منها بما ذكرنا خشية الإطالة المملة. وأما الأحاديث المطابقة للآيات التي ذكرنا الدَّالَّة على أنَّ محلَّ العقل القلبُ فهي كثيرة جدًا: كالحديث الصَّحيح الذي ذُكِرَ، والذي فيه: "ألا وهي القلب"، ولم يقل فيه: ألا وهي الدِّماغ، وكقوله - صلى الله عليه وسلم -: "يا مقلِّبَ القلوبِ ثَبت قلبي على دينك" ولم يقل: يا مقلب الأدمغة ثبّت دماغي على دينك، وكقوله - صلى الله عليه وسلم -: "قلبُ المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن"، وهو من أحاديث الصِّفاتِ، ولم يقل: دماغ المؤمن. . . . إلخ. والأحاديث بمثل هذا كثيرةٌ جدًا، فلا نُطيل الكلام بها.

وقد تبين مما ذكرنا أنَّ خالقَ العقل وواهبَه للإنسان بَيَّن في آيات قرآنية كثيرة أنَّ محلَّ العقل القلب، وخالقُهُ أعلم بمكانه من كَفَرَةٍ الفلاسفة، وكذلك رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - كما رأيت. أما عامة الفلاسفة -إلا القليل منهم النادر- فإنّهم يقولون: إنّ محلَّ العقل الدِّماغ؛ وشَذَّت طائفةٌ من متأخريهم فزعموا: أنَّ العقل ليس له مركزٌ مكانيٌّ في الإنسان أصلًا، وإنما هو زمانيٌّ محضٌ لا مكان له، وقولُ هؤلاء أظهرُ سقوطًا من أنْ نشتغل بالكلام عليه. ومن أشهر الأدلة التي يستدل بها القائلون: إنَّ محلَّ العقل الدِّماغ هو أن كلَّ شيء يؤثر في الدِّماغ يؤثر في العقل. ونحن لا ننكر أنَّ العقل قد يتأثَّرُ بتأثرِ الدِّماغ، ولكنْ نقول بموجَبِهِ؛ فنقول: سلَّمنا أنَّ العقلَ قد يتأثَرُ بتأثُرِ الدِّماغ، ولكن لا نُسَلم أنَّ ذلك يستلزم أن محله الدِّماغ، وكم من عضو من أعضاء الإنسان خارج عن الدِّماغ بلا نزاع، وهو يتأثر بتأثُّر الدِّماغ كما هو معلومٌ، وكم من شللٍ في بعض أعضاء الإنسان ناشئ عن اختلال واقع في الدِّماغ.

فالعقلُ خارجٌ عن الدِّماغ، ولكنَّ سلامته مشروطةٌ بسلامة الدِّماغ كالأعضاء التي تختلُّ باختلالِ الدِّماغ، فإنها خارجةٌ عنه مع أنَّ سلامتها مشروطةٌ بسلامةِ الدِّماغ كما هو معروف. وإظهار حجة هؤلاء والردُّ عليها على الوَجْه المعروف في آداب البحث والمناظرة أنَّ حاصل دليلهم: أنَّهم يستدلون بقياس منطقيٍّ من الشرطي المتَّصِل المركَب من شرطية متصلة لزومية واستثنائية يستثنون فيه نقيض التالي، فينتج لهم في زعمهم دعواهم المذكورة التي هي: نقيض المقدَّم، وصورتُه: أنَّهم يقولون: لو لم يكن العقل في الدِّماغ لما تأثرَ بكلِّ مؤثر على الدِّماغ، لكنهُ يتأثَرُ بكل مؤثِّرِ على الدِّماغ، ينتجُ: العقلُ في الدِّماغ. وهذا الاستدلال مردودٌ بالنَّقْض التَّفصيلي الذي هو المَنْع؛ وذلك بمنع كُبراه التي هي شرطيتُهُ فنقول: المانعُ مَنَعَ قولك "لو لم يكن العقل في الدماغ لما تأثَّر بكل مؤثر في الدماغ"، بل هو خارجٌ عن الدِّماغ مع أنهُ يتأثَرُ بكلِّ مؤثر على الدِّماغِ كغيره من الأعضاء التي تتأثَر بتأثرِ الدماغ، فالرَّبطُ بين التَّالي والمقدَّم غير صحيح، والمحلُّ الذي يتواردُ عليه الصدق والكذب في الشرطية إنَّما هو

الرَّبط بين مقدَّمها وتاليها، فإنْ لم يكن الرَّبط صحيحًا، كانت كاذبة، والربط في قضيتهم المذكورة كاذبٌ، فظهر بطلان دعواهم. وهناك طائفةٌ ثالثة أرادت أنْ تجمع بين القولين فقالت: إن ما دَلَّ عليه الوحيُ من كون محل العقلِ هو القلبُ صحيحٌ، وما يقوله الفلاسفةُ ومَنْ وافقهم من أنَّ محله الدِّماغ صحيحٌ أيضًا، فلا منافاة بين القولين. قالوا: ووجهُ الجمع أن العقل في القلب كما هو في القرآن والسُّنة، ولكن نوره يتصاعد من القلب فيتَّصل بالدِّماغ، وبواسطة اتصاله بالدِّماغ يصدوا عليه أنَّه في الدِّماغ من غير منافاة لكون محلِّه هو القلب. قالوا: وبهذا يندفع التعارضُ بين النظر العقلي الذي زعمه الفلاسفة وبين الوحي. واستدلَّ بعضُهم لهذا الجَمع بالاستقراء غير التام، وهو المعروف في الأصول بإلحاق الفرد بالغالب، وهو حجةٌ ظنيةٌ عند جماعة من الأصوليين، وإليه أشار صاحب مراقي السُّعود في كتاب الاستدلال في الكلام على أقسام الاستقراء بقوله: وهْوَ لدى البعْضِ إلى الظن انتسبْ ... يُسْمى لحوقَ الفردِ بالذي غَلَبْ

ومعلومٌ أنَّ الاستقراء: هو تتبع الأفراد حتى يغلب على ظنه [أي: الناظرٍ أن ذلك الحكم مطَردٌ في جميع الأفراد، وإيضاح هذا: أنَّ القائلين بالجمع المذكور بين الوحي وأقوال أهل الفلسفة في محل العقل؛ قالت جماعة منهم: دليلنا على هذا الجمع الاستقراء غير التام. وذلك أنهم قالوا: تتبَّعنا أفراد الإنسان الطَّويل العُنُقِ طولًا مفرطًا زائدًا على المعهودِ زيادةً بيّنةً، فوجدنا كلَّ طويل العنقِ طولًا مفرطًا يلزمُهُ بُغدُ المسافةِ بين طريق نور العقل الكائن في القلب وبين المتصاعد منه إلى الدّماغ، وبُعدُ المسافةٍ بين طرفيه قد يؤدِّي إلى عدم تماسكهِ واجتماعهِ فيظهر فيه النقص. وهذا الدليل -كما ترى- ليس فيه مَقْنَعٌ، وإن كان يشاهد مثله في الخارج كثيرًا. فتحصَّل من هذا أن الذي يقول: العقل في الدِّماغ وحده وليس في القلب منه شيءٌ أن قوله في غاية البُطلان؛ لأَنه مكذِبٌ لآيات وأحاديثَ كثيرة كما ذكرنا بعضه، وهذا القول لا يتجرَّأُ عليه مسلمٌ إلا إنْ كان لا يؤمنُ بكتابِ الله، ولا بسُنَّةِ رَسولِهِ - صلى الله عليه وسلم -، وهو إن كان كذلك ليس بمسلم.

ومَنْ قال: إنَّه في القلب وحده، وليس في الدّماغِ منه شيء، فقوله هو ظاهر كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يقم دليل جازمٌ قاطعٌ من نقلٍ ولا عقلٍ على خلافه. ومَنْ جَمَعَ بين القولين فقوله جائزٌ عقلًا، ولا تكذيب فيه للكتاب ولا للسُّنة، ولكنَّهُ يحتاجُ إلى دليل يجب الرجوع إليه، ولا دليل عليه من النقل، فإنْ قام عليه دليلٌ من عقل، أو استقراءٌ محتَجٌّ به فلا مانع من قبوله، والعلم عند الله تعالى، وهذا ما يتعلَّق بالمسألة الأولى. جواب المسألة الثانية: 2 - وأمَّا الجواب عن المسألة الثانية، فهو أنّ ما ذكرتم من أنَّ القرآن فرَّقَ بين المشركين وبين أهل الكتاب، واستشهدتم لذلك بآية المائدة: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} الآية [المائدة: 82] فهو كما ذكرتم؛ لأنَّ العطف يقتضي بظاهره الفَرْقَ بين المعطوف والمعطوف عليه. وقد تكرَّر في القرآن عطفُ بعضهم على بعض كالآية التي تفضَّلْتُمْ بذكرها، وكقوله تعالى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ} الآية [البينة: 1]، وقوله تعالى: {إِنَّ

الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ} الآية [البينة: 6]، وقوله تعالى: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ} الآية [البقرة: 105]، وقوله تعالى: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا} الآية [آل عمران: 186]، إلى غير ذلك من الآيات. وظاهرُ العَطْف يقتضي المغايرة بين المتعاطفين؛ لأنَّ عطف الشيء على نفسه يحتاج إلى دليل خاصٍّ يجبُ الرُّجوع إليه مع بيان المسوِّغ لذلك كما هو معلوم في محلِّه. وما تفضَّلْتُمْ بذكره من أنَّ عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - أمر بإلحاقِ أهل الكتاب بالمشركين في عَدَم دخول المسجد الحرام فمستندُهُ المسوِّغ له أنَّ اللَّه -جَلَّ وعلا- صَرَّحَ في سورة التوبة أن أهل الكتاب من يهودٍ ونصارى من جملة المشركين، وإذا جاء التَّصريح في القرآن العظيم بأنَّهم من المشركين، فدخولهم في عموم قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} الآية [التوبة: 28]، لا إشكال فيه. وآية التوبة التي بَيَّن اللهُ فيها أنَّهُم من جملة المشركين هي قوله

تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 30 - 31] , فتأمّل قوله تعالى في اليهود والنصارى: {سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} يظهر لك صدق اسم الشِّرك عليهم، فيتَّضح إدخالهم في عموم: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ}. ووجه الفَرْق بينهم بعطف بعضهم على بعض هو: أنهم جميعًا مشركون، والمغايرة التي سوَّغت عطف بعض المشركين على بعضٍ هي اختلافهم في نوع الشِّرك. فشِرْكُ المشركين -غير أهل الكتاب- كان شركًا في العبادة؛ لأنَّهم يعبدون الأوثان، وأهل الكتاب لا يعبدون الأوثان فلا يشركون هذا النَّوع من الشِّرك، لكنَّهم يشركون شرك ربوبية كما أشار له تعالى بقوله: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} الآية، ومن اتخذ أربابا من دون الله فهو مشرك به في ربوبيته، وادعاء أن عزيرًا ابنُ الله، والمسيح ابن الله من الشِّرك في الربوبية، ولَمّا كان الشرك في الربوبية يستلزم الشِّرك في العبادة؛

قال الله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}. 3 - وما ذكرتم من أن عطاء -رحمهُ الله- جعل المسجد يشمل الكُلَّ، وأنَّ المسلمينَ درجوا على ذلك إلى الآن؛ فهي مسألة: هل يجوز دخول الكفار لمسجدٍ من مساجد المسلمين غير المسجد الحرام المنصوص على مَنْع دخولهم له بعد عام تسع من الهجرة في قوله تعالى: {فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} الآية [التوبة: 28]. والعلماءُ مختلفون: هل يجوز دخول الكفَّار مسجدًا غير المسجد الحرام أو لا؟. فذهب مالك وأصحابه ومَنْ وافقهم إلى أنَّه لا يجوز أنْ يدخل الكافر مسجدًا من مساجد المسلمين مطلقًا. واستدلَّ لذلك بأدلة منها آية التَّوبة، وإنْ كانت خاصّةً بالمسجد الحرام، فعِلَّةُ حُكْمِها تقتضي تعميمَه في جميع المساجد؛ وقد تقرَّر في علم الأُصول أن العلة قد تُعَمِّم معلولَها تارةً، وقد تُخَصِّصُهُ أخرى كما أشار إليه صاحب مراقي السُّعود بقوله في الكلام على العلة بقوله:

وقد تُخَصِّصُ وقَدْ تُعَمِّمُ ... لأَصْلِها لكنَّها لا تخْرمُ وإذا علمتَ أنَّ العلَّةَ تُعَمِّمُ معلولَها الذي لفظه خاصٌّ، فاعلم أنَّ مسلك العلة المعروف بمسلك الإيماء والتنبيه دَلَّ على علة مَنْع قربان المشركين المسجد الحرام بعد عام تسع: أنَّهُم نَجَس، وذلك واضحٌ من ترتيب الحكم بالنَّهي عن قربان المسجد بالفاء على كونهم نَجَسًا في قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} ثم رتَّبَ على ذلك بالفاء قوله تعالى: {فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ}. الآية. ومعلومٌ أنَّ جميعَ المساجد تجبُ صيانتها عن دخول النَّجَس فيها، فكونهم نَجَسًا يقتضي تعميم الحكم في كُلِّ المساجد. واستدل مالك ومَنْ وافَقَهُ أَيضًا على منع دخول الكفار المساجدَ مطلقًا بآية البقرة على بعض التفسيرات التي فُسِّرت بها، وهي قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ}. الآية [البقرة: 114]، فقد فُسِّر قوله تعالى: {أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا}؛ أي: ليس لهم دخول المساجد إلا مسارقة خائفين من المسلمين أنْ يطلعوا عليهم فيخرجوهم منها ويُنَكِّلوا بهم، وفي تفسير الآية أقوالٌ غير هذا.

وسواء قلنا: إنَّ تخريب المساجد حِسِّيٌّ كما فعلت الرُّوم وبختنصَّر بالمسجد الأقصى المشار إليه بقوله تعالى: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا} [الإسراء: 7]. أو قلنا: إنَّ تخريب المساجد المذكور في الآية تخريبٌ معنويٌّ وهو منع المسلمين من التعبد فيها كما فعل المشركون بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه عام الحديبية كما قال تعالى: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} الآية [الفتح: 25] , وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} الآية [الحج: 25] , وقوله تعالى: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا} الآية [المائدة: 2] , وقوله تعالى: {وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ} الآية [البقرة: 217] , ومن الآيات التي تشير إلى أن عمارة المساجد هي طاعة الله فيها قوله تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} الآية [التوبة: 18]. وأما مَنْ قال من أهل العلم: بجواز دخول الكفار جميع مساجد المسلمين غير المسجد الحرام، فقد احتجوا بأن الله إنَّما نَهى عن

ذلك في خُصوص المسجد الحرام في قوله تعالى: {فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا}، وقالوا: يفهم من تخصيص المسجد الحرام بالذكر أن غيره من المساجد ليس كذلك. واحتجُّوا لذلك بأنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ربط ثمامة بن أثال سيد أهل اليمامة لما جيء به أسيرًا في ساريةٍ من سواري المسجد، وهو مشرك قبل إسلامه؛ قالوا: وقد أنزل - صلى الله عليه وسلم - وفد نصارى نجران بالمسجد في المدينة وهم نصارى، وكان قدوم وقد نصارى نجران متأخرًا لأنَّهم أعطوا الجزية لما خافوا من المباهلة، والجزية إنما نزلت في سورة بَراءة، ونزولها كان في رجوعه - صلى الله عليه وسلم - من غزوة تبوك، وغزوة تبوك كانت سنة تسعٍ بلا خلاف. ومَنْ قال من أهل العلم: بأنه لا يجوز دخول الكافر مسجدًا من مساجد المسلمين إلَّا بأمانٍ من مسلم، فقد احتجَّ لذلك بقوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ} الآية [البقرة: 114]. قالوا: قوله تعالى: {مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ}، يدلُّ على أن من دخلها بأمانِ مسلم فقد دخلها خائفًا، بحيث لا يتمكن من دخولها إلَّا بأمانِ مسلمٍ لخوفه لو دخلها بغير أمان.

وأمَّا مَنْ قال من أهل العلم: إن قوله تعالى: {فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} الآية، يشمل الحَرَمَ كلَّه ولا يختص بالمسجد الحرام المنصوص عليه في الآية، فحجتُهُ هي ما علم من إطلاق المسجد الحرام وإرادة الحرم كله كقوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} الآية، ومعلومٌ أن المعاهدة كانت في غير المسجد الحرام بل كانت في طرف الحديبية الذي هو داخلٌ في الحرم كما قاله غير واحد. وقوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} الآية [الإسراء: 1] , وكان الإسراء به من بيت أم هانئ لا من نفس المسجد الحرام على القول بذلك. وقوله تعالى: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} الآية [المائدة: 95] , والهَدْي يُنْحَر في الحرم كله، وأكبر مَنْحرٍ منه "مِنى". وقوله تعالى: {وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ} الآية [البقرة: 217] , وهم مُخرَجون من مكة لا من نفس المسجد، ونحو ذلك من الآيات، والعلم عند الله تعالى. فتحصَّل: أنَّ محلَّ العقل القلب، وأنَّه لا مانع من اتصالِ طرف نوره الروحاني بالدَّماغ؛ وعليه لا تخالف بين القولين وهذا إنْ قام

عليه دليلٌ، فلا مانع من القول به، ونحن لا نعلم عليه دليلًا مقنعًا. وأن عمر بن عبد العزيز ألحق أهل الكتاب بالمشركين لآية التوبة التي ذكرنا. وأن جَعْلَ حكم جميع الحرم المكيّ كحكم المسجد الحرام دليلُهُ استقراء الآيات التي جاءت بنحو ذلك، وقد رأيتَ حُجَجَ مَنْ منعهم دخولَ المساجد غير المسجد الحرام، ومَنْ أجاز ذلك، ومَنْ فَرَّق. ولا يخفى أن الذين يجزمون بأن محلَّ العقل الدِّماغ ولا صلة له بالقلب أصلًا أنَّهم في جهلهم كما قالت الرّاجزة لزوجها: شنْظيرةٌ زوَّجَنِيهِ أهلي ... منْ جهلهِ يحسِبُ رأسي رجلي

ومجلس كان داخل المسجد النبوي لما زار ملك المغرب الأقصى مولاي محمد بن يوسف المعروف بمحمد الخامس

ومَجلسٌ كان داخل المسجد النَّبوي لَمَّا زارَ مَلِكُ المَغْرِب الأقصى مولاي محمَّد بن يوسف المعروف بمحمد الخامس لَما زار المملكة العربية السعودية سنة 1378 هـ، وزار المدينة المنوَّرة طلب من فضيلة الشَّيخ مُحَمَّد الأمين -رحمه الله- محاضرةً حول كمال الدِّين الإِسلامي، فأجابه إلى طلبه، وألقى عليه داخل المسجد النَّبوي الشريف محاضرةً موضوعها قوله تعالى في سورة المائدة: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} الآية [المائدة: 3]. وهذا نصُّ تلك المحاضرة: الحمد لله رب العالمين، والصَّلاة والسَّلام على نبيِّنا مُحَمَّد وعلى آله وصحبه ومن دَعَا بدعوته إلى يوم الدِّين. وبعد: قال الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} ذلك اليوم يومُ عرفة، وهو يوم الجمعة في حجَّة الوداع، نزلت هذه الآية الكريمة والنبي - صلى الله عليه وسلم - واقفٌ بعرفات عشيَّة ذلك اليوم، وعاش - صلى الله عليه وسلم - بعد نزولها إحدى وثمانين ليلة؛ وقد صَرَّحَ الله تعالى في هذه الآية الكريمة أنَّهُ أكمل لنا ديننا فلا

يُنْقِصُهُ أبدًا، ولا يحتاج إلى زيادة أبدًا، ولذلك ختم الأنبياء بنبينا عليهم صلوات الله وسلامه جميعًا، وصَرَّحَ فيها أَيضًا بأنه رضي لنا الإِسلام دينًا فلا يسخطُهُ أبدًا، ولذا صَرَّح بأنَه لا يقبل غيرَهُ من أحد، قال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85] , وقال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} الآية [آل عمران: 19] , وفي إكمال الدِّين وبيان جميع أحكامه كُلُّ نِعَمِ الدَّارَيْن، ولذا قال تعالى: {وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} الآية، وهذه الآية نصٌ صريحٌ في أن دين الإِسلام لم يترك شيئًا يحتاج إليه الخلق في الدنيا, ولا في الآخرة إلَّا أوضحه وبيَّنَهُ كائنًا ما كان. وسنضرب لذلك بيان عَشْر مسائل عظام عليها مدار الدّنيا من المسائل التي تَهُمُّ العالم في الدَّارين. وفي البعض تنبيهٌ لطيفٌ على الكُلِّ. المسألة الأولى: التوحيد، والثانية: الوعظ، والثالثة: الفرق بين العمل الصَّالح وغيره، الرَّابعة: تحكيم غير الشرع الكريم، الخامسة: أحوال الاجتماع بين المجتمع، السَّادسة: الاقتصاد، السابعة: السِّياسة، الثامنة: مشكلة تسليط الكفَّار على المسلمين، التَّاسعة: مشكلة ضَعْف المسلمين عن مقاومة الكفار في العَدَد

والعُدَد، العاشرة: مشكلة اختلاف القلوب بين المجتمع. ونوضِّحُ علاج تلك المشاكل من القرآن، وهذه إشارةٌ خاطفةٌ إلى بيان ذلك جميعًا بالقرآن تنبيهًا به على غيره. أما الأولى: وهي التوحيد، فقد عُلم باستقراء القرآن، أنَّهُ منقسمٌ إلى ثلاثة أَقسام: الأوَّل: توحيدُهُ جلَّ وعلا في رُبوبيَّته. وهذا النوع من التوحيد جُبلَتْ عليهِ فِطَرُ العُقلاء، قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} الآية [الزخرف: 87] , وقال تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ} إلى قوله: {فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} [يونس: 31] , والآيات بنحو ذلك كثيرة جدًّا، وإنكار فرعون لهذا النَّوع في قوله: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 23] , مكابرةٌ وتجاهلٌ بدليل قوله تعالى: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ} الآية [الإسراء: 102] , وقوله تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} الآية [النمل: 14]. ولهذا كان القرآن يَنْزل بتقرير هذا النَّوع من التَّوحيد بصيغة استفهام التَقرير كقوله تعالى: {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ} [إبراهيم: 10] , وقوله

تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ} الآية [الأنعام: 164] , وقوله تعالى: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ} الآية [الرعد: 16] , ونحو ذلك لأنهم يُقِرُّون به. وهذا النَّوع من التوحيد لم ينفع الكفار؛ لأنهم لم يوحّدوه جَلَّ وعلا في عبادته؛ كما قال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} الآية [يوسف: 106] , {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} الآية [الزمر: 3] , {وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ} الآية [يونس: 18]. النَّوع الثَّاني: توحيده جَلَّ وعلا في عبادته، وهو الذي وقعت فيه جميع المعارك بين الرُّسل والأمم، وهو الذي أُرسِلَت الرُّسُل لتحقيقه. وحاصله: هو معنى لا إله إلَّا الله، فهو مبني على أصلين هما النفي والإثبات من "لا إله إلَّا الله". فمعنى النَّفي منها: خلع جميع أنواع المعبودات غير الله تعالى في جميع أنواع العبادة كائنة ما كانت. ومعنى الإثبات منها: هو إفراده -جَلَّ وعَلا- وحده بجميع أنواع العبادة على الوجه الذي شرع أَنْ يُعْبد به.

وجُلُّ القرآن في هذا النوع: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} الآية [النحل: 36] , {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} الآية [الأنبياء: 25] , {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} الآية [البقرة: 256] , {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} الآية [الرخرف: 45] , {قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} الآية [الأنبياء: 108] , والآيات بهذا كثيرة جدًّا. النَّوع الثَّالث: توحيدُه -جَلَّ وعَلا- في أسمائه وصفاته، وهذا النوع من التَّوحيد يَنْبني على أصلين كما بيّنه جلَّ وعلا. الأول: هو تنزيهُهُ تعالى عن مشابهة صفات الحوادث. والثَّاني: هو الإيمان بكلِّ ما وَصَفَ به نفسه أو وصَفَهُ به رسولُهُ - صلى الله عليه وسلم - حقيقةً لا مجازًا على الوجه اللَّائق بكماله. ومعلومٌ أنَهُ لا يصفُ اللهَ أعلمُ باللهِ من اللهِ، ولا يصفُ اللهَ بعد اللهِ أعلمُ باللهِ من رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، واللهُ يقولُ عن نفسه: {أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} [البقرة: 140] , ويقول عن رسوله: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4].

فقد بَينَ تعالى نَفْيَ المماثلة عنه بقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] , وبَيَّنَ إثبات الصفاتِ على الحقيقة بقوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}. فأوَّلُ الآية يقضي بعَدَم التَّمثيل، وآخرُها يقضي بعَدَم التَّعطيل؛ فيتَّضِحُ من الآية أنَّ الواجبَ إثباتَ الصِّفات حقيقةً من غير تمثيل، ونَفْيُ المماثلة من غير تعطيل. وبَيَّنَ عَجْز الخلق عن الإحاطة به -جَلَّ وعلا- فقال: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه: 110]. المسألة الثَّانية: التي هي الوعظ، فقد أجمع العلماء على أن الله تعالى لم يُنْزِلْ من السَّماءِ إلى الأرض واعظًا أكبرَ ولا زاجرًا أعظمَ من موعظة المراقبة والعلم، وهي أن يُلاحظ الإنسان أن ربَّه -جلَّ وعلا- رَقيبٌ عليه عالمٌ بكلِّ ما يُخفي وما يُعلن. وضَرَبَ العلماء لهذا الواعظ الأكبر، والزَّاجِر الأعظم مثلًا يصير به المعقول كالمحسوس؛ قالوا: لو فرضنا مَلِكًا سَفاكًا للدّماءِ قَتّالًا للرِّجالِ شديدَ البَطْشِ والنَّكالِ، وسَيَّافُهُ قائمٌ على رأسه، والنطع مبسوطٌ، والسَّيفُ يقطر دَمًا، وحولَ ذلك الملك بناتُهُ وأزواجه، أيخطر بالبال أن يهمَّ أحدٌ من الحاضرين بريبة، أو نيل حرامٍ من

بنات ذلك الملك وأزواجه، وهو عالمٌ به ناظرٌ إليه؟ لا وكلَّا، وللهِ المَثَل الأعلى، بل كلُّ الحاضرين يكونون خائفين خاضعة قلوبهم خاشعة عيونهم ساكنة جوارحهم، غاية أمانيهم السَّلامة، ولا شك -وللهِ المَثَل الأعلى- أنَّ اللهَ -جَلَّ وعَلا- أعظمُ اطِّلاعًا، وأوسع علمًا من ذلك الملك، ولا شك أنَّهُ أعظمُ نكالًا وأشدُّ بَطشًا وأفظعُ عَذابًا، وحماهُ في أرضه محارمه. ولو علم أهلُ بلدٍ أَن أمير البلد يصبحُ عالمًا بكلِّ ما فعلوه باللَّيلِ لباتوا خائفين، وتركوا جميعَ المناكرِ خوفًا منه. وقد بَيَّنَ اللَّه أنَّ الحكمةَ التي خَلَقَ الخَلْقَ من أجلها هي أنْ يبتليهم؛ أي: يختبرهم {أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الكهف: 7] , قال في أول سورة هود: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [هود: 7] , ولم يَقُل: أيكم أكثر عملًا، وقال في سورة الملك: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} [الملك: 2]. وهاتان الآيتان تُبَيِّنان المراد من قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56].

ولما كانت الحكمة في خلق الخلائق الاختبار المذكور أراد جبريل أنْ يُبَيِّنَ للنَّاس طريق النَّجاح في ذلك الاختبار فقال للنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: أخبرني عن الإحسان؛ أي: وهو الذي خُلق الخلق لأجل الاختبار فيه، فبيَّنَ - صلى الله عليه وسلم - أنَّ طريق الإحسان هي هذا الزَّاجِرُ الأكبر، والواعظ الأعظم المذكور فقال: "هو أَنْ تعبدَ الله كأنك تراه، فإنْ لم تكن تراه، فإنَّهُ يراك". ولهذا لا تقلِّبُ ورقةَ من المصحف الكريم إلَّا وجدتَ فيها هذا الواعظ الأعظم: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق: 16] , وقال تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18] , وقال تعالى: {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ} [الأعراف: 7] , وقال تعالى: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [يونس: 61] , وقال تعالى: {أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [هود: 5] , ونحو هذا في كل موضعٍ من القرآن. وأمَّا المسألة الثَّالثة: التي هي الفَرْقُ بين العَمَلِ الصَّالح وغيره.

فقد بَيَّنَ القرآن العظيم أن العملَ الصَّالِحَ هو ما استكملَ ثلاثةَ أمورٍ، ومتى اختَلَّ واحدٌ منها فلا نَفْعَ فيه لصاحبه يوم القيامة: الأوَّل: أَنْ يكونَ مُطابِقًا لما جاءَ به النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن اللهَ تعالى يقول: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] , ويقول تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80] , ويقول تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} الآية [آل عمران: 31] , ويقول تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21] , ويقول تعالى: {آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} [يونس: 59]. الثَّاني: أَنْ يكون خالصًا لوجهه تعالى؛ لأنَّه يقول: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} الآية [البينة: 5] , ويقول تعالى {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ} الآية [الزمر: 15]. الثالث: أنْ يكون مَبْنيًا على أساس العقيدة الصَّحيحة؛ لأن العمل كالسَّقف والعقيدة كالأساس، قال تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [النساء: 124] , فقَيَّدَ

ذلك بقوله: {وَهُوَ مُؤْمِنٌ}، وقال تعالى في غير المؤمن، قال: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} الآية [الفرقان:23] , وقال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود: 16] إلى غير ذلك من الآيات. أمَّا المسألة الرَّابعة: التي هي تحكيمُ غير الشَّرع الكريم، فقد بَيَّنَ القرآن أنَّها كفرٌ بواحٌ، وشركٌ بالله تعالى. ولمَّا أَوْحَى الشَّيطان إلى كفَّار مكة أن يسألوا نبينا - صلى الله عليه وسلم - عن الشَّاة تُصبح ميتةً مَنْ قتلها، فقال: "الله قَتَلَها" فأوحى إليهم أَنْ قولوا له: ما ذبحتم بأيديكم حلال، وما ذبحه الله بيده الكريمة حرام، فأنتم إذًا أحسن من الله، أنزلَ الله: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} الآية [الأنعام: 121]. وعدم دخول الفاء على جملة: {إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} قرينةٌ ظاهرةُ على تقدير لام توطئة القسم. فهو قَسَمٌ من الله أقسمَ به جَلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة على أَنَّ مَنْ أطاعَ الشَّيطان في تشريعه تحليلَ الميتة أنَّهُ مشركٌ، وهو شركٌ أكبر مخرج عن الملَّة الإِسلامية بإجماع

المسلمين، وسيوبِّخ الله تعالى يوم القيامة مرتكبه بقوله: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [يس: 60 - 61] , وقال تعالى عن خليله: {يَاأَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ} [مريم: 44]؛ أي: في اتِّباعه في تشريع الكفر والمعاصي، وقال تعالى: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا} [النساء: 117]؛ أي: ما يعبدون إلَّا شيطانًا، وذلك باتباعهم تشريعه، وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ} الآية [الأنعام: 137] , فسَمَّاهم شركاء لطاعتهم لهم في معصية الله بقتل الأولاد. ولما سأل عديّ بن حاتم - رضي الله عنه - النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عن قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا} [التوبة: 31] , أجابه النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بأن معنى اتِّخاذهم إياهم أربابًا هو اتِّباعهم لهم في تحريم ما أحلَّ الله، وتحليل ما حَرَّمه، وهذا أمرٌ لا نزاع فيه. قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا} [النساء: 60] , وقال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}

[المائدة: 44] , وقال جل وعلا: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [الأنعام: 114] وقال: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنعام: 115] , فقوله: {صِدْقًا}؛ أي: في الأخبار {وَعَدْلًا}؛ أي: في الأحكام، وقال تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50]. وأمّا المسألة الخامسة: التي هي أحوال الاجتماع بين المجتمع؛ فقد شَفَى فيها القرآنُ الغليل، وأنار فيها السبيل، فانظر إلى ما يأمر به الرئيسَ الكبيرَ أَنْ يفعله مع مجتمعه: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الحجر: 88] , {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 215] , {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159]. وانظر إلى ما يأمر به المجتمعَ العام أنْ يفعله مع رؤسائه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59]. وانظر إلى ما يأمر به الإنسانَ أنْ يفعله مع مجتمعه الخاص كأولاده

وأزواجه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6]. وانظر كيف يُنَبِّهُ المرْء على الحَذَر والحزم من مجتمعه الخاص به، ويأمره إنْ عثر على ما لا ينبغي أنْ يعفوا ويصفح، فيأمره أولا بالحَزْم والحَذَر، وثانيًا بالعفو والصَّفح: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التغابن: 14]. وانظر إلى ما يأمر أفراد المجتمع العام أنْ يتعاملوا به فيما بينهم: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: 90] , وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} [الحجرات: 12] , وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات: 11] , وقال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] , وقال تعالى:

{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10] , وقال -عزَّ وجلَّ-: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38] إلى غير ذلك. ولمَّا كان المجتمع لا يسلَمُ فردٌ من أفراده كائنًا مَنْ كان مِنْ مناوئٍ يناوئه ومُعادٍ يعاديه من مجتمعه الإنسي والجنِّي. ليسَ يَخْلو المرءُ من ضِد وَلَوْ ... حاوَلَ العُزْلَةَ في رَأْسِ الجَبَلْ وكان كلُّ فردِ محتاجًا إلى علاج هذا الدَّاءِ الذي عَمَّت به البلوى، أوضحَ الله تعالى علاجه في ثلاثة مواضع من كتابه؛ بَيّنَ فيها أن علاجَ مناوأة الإنسيِّ هي الإعراض عن إساءته ومقابلتها بالإحسان, وأَن شيطانَ الجنِّ لا علاجَ لدائه إلَّا الاستعاذة بالله من شَرِّه. الموضع الأَوَّل: قوله تعالى في أُخريات الأعراف: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199] في الإنسيِّ، وفي نظيره من شياطين الجنِّ قال: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأعراف: 200]. والموضع الثاني: في سورة قد أفلح المؤمنون قال فيه في الإنْسي: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ} [المؤمنون: 96] , وفي نظيره الآخر: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ

بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} [المؤمنون: 97 - 98]. والموضع الثَّالث: في فصِّلت، وقد زاد فيه تعالى التَّصريح بأنَّ ذلك العلاج السَّماوي يقطع ذلك الدَّاء الشَّيطاني، وزاد فيه أَيضًا أن هذا العلاج السَّماوي لا يُعطى لكلِّ النَّاس، بل لا يعطاه إلَّا صاحبُ النَّصيب الأوفر والحظ الأكبر، قال فيه في الإنْسيِّ: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت: 34 - 35]. وقال في نظيره الآخر: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فصلت: 36]. وبيَّنَ تعالى في مواضع أخرى أن ذلك الرِّفقَ واللِّينَ لخصوص المسلمين دون الكافرين، قال تعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة: 54] , وقال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29] , وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التحريم: 9] , فالشِّدَّة في محلِّ اللِّين حُمقٌ وخَرَق، واللِّين في محلِّ الشِّدَّة ضَعْفٌ وخَوَر. إذا قيلَ حلمٌ قُلْ فلِلْحِلْم موضعٌ ... وحِلْمُ الفَتَى في غَيرِ موضعِهِ جَهْلُ

وأمَّا المسألة السّادسة: التي هي مسألة الاقتصاد؛ فقد أوضحَ القرآن أصولَها التي ترجع إليها جميعُ الفروع، وذلك أنَّ مسائِلَ الاقتصاد راجعةٌ إلى أصلين: الأوَّل: حُسْن النظر في اكتساب المال. والثاني: حُسْن النَّظر في صرفِهِ ومصارفه. فانظر كيف فَتَح الله في كتابه الطُرقَ إلى اكتسابِ المال بالأسباب المناسبة للمروءة والدين، وأنارَ السَّبيلَ في ذلك، قال تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة: 10] , وقال -عَزَّ وجَلَّ-: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [المزمل: 20] , وقال تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198] , وقال تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] , وقال جَلّ وعَزَّ: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] , وقال تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا} [الأنفال: 69] إلى غير ذلك. وانظر كيف يأمر بالاقتصاد في الصَّرف: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} [الإسراء: 29] , {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ

يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67] , وقال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} الآية [البقرة: 219] , وانظر كيف يَنْهى عن الصَّرف فيما لا يحلُّ الصَّرف فيه: {فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ} [الأنفال: 36]. وأمّا المسألة السَّابعة: التي هي السِّياسة؛ فقد بيَّنَ القرآن أصولها وأنارَ معالمها وأوضح طريقها، وذلك أن السِّياسة -التي هي: مصدر ساسَ يسوسُ، إذا دَبَّر الأمور وأدار الشؤون- تنقسم إلى قسمين: خارجية وداخلية. أمَّا الخارجيَّة فمدارُها على أصلين: أحدهما: إعداد القُوَّة الكافية لقَمْع العدوِّ والقضاء عليه، وقد قال تعالى في هذا الأصل: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60]. والثَّاني: هو الوحدة الصَّحيحة الشَّاملة حول تلك القُوَّة، وقد قال تعالى في ذلك: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103] , وقال -عَزَّ وجلَّ-: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46].

وقد أوضح القرآن، ما يَتْبع ذلك من الصُّلح، والهُدنة، ونبذ العهود إذا اقتضى الأمر ذلك، قال تعالى: {فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ} [التوبة: 4] , وقال جلَّ وعَلا: {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ} [التوبة: 7] , وقال تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنفال: 58] , وقال تعالى: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} [التوبة: 3] , وأمر بالحَذَر والتَّحَرُّز من مكائدهم وانتهازِهم الفُرَصَ، فقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} الآية [النساء: 71] , وقال تعالى: {وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ} [النساء: 102] , ونحو ذلك من الآيات. وأما السِّياسة الدَّاخلية، فمسائلها راجعةٌ إلى نَشْر الأمن والطمأنينة داخل المجتمع، وكفِّ المظالم، وردِّ الحقوق إلى أهلها. والجواهرُ العظامُ التي عليها مدار السّياسة الدّاخلية ستةٌ؛ هي: الأوَّل: الدِّين، وقد جاء الشَّرع بالمحافظة عليه ولذا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ بدَّلَ دينَهُ فاقتلوه"، وفي ذلك رَدْعٌ بالغٌ عن تبديل الدِّين، وإضاعته.

الثَّاني: النَّفْس، وقد شَرَعَ القصاصَ محافظةً عليها: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} الآية [البقرة: 179] , {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} الآية [البقرة: 178] , {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} الآية [الإسراء: 33]. الثَّالث: العقل، وقد جاء القرآن بالمحافظة عليه، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90] , وفي الحديث: "كُلُّ مُسْكِرٍ حَرامٌ" وفيه: "ما أسكرَ كثيرُهُ فقليلُهُ حَرامٌ"، ولأجل المحافظة على العقل وجَبَ الحدّ على شارب الخمر. الرَّابع: الأنساب، وللمحافظة عليها شَرَعَ الله حدَّ الزِّنا: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2]. الخامس: الأَعراض، ولأجل المحافظة عليها شَرَع الله جَلْدَ القاذف ثمانين: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} الآية [النور: 4]. السَّادس: الأموال، ولأجل المحافظة عليها شَرَع الله قطع يد السَّارق: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ} [المائدة: 38].

فتبيَّنَ أنَّه من الواضح أن اتباع القرآن كفيلٌ للمجتمع بجميع مصالحه الداخلية والخارجية. وأمَّا المسألة الثَّامنة: التي هي تسليطُ اللهِ الكُفَّارَ على المسلمين؛ فقد استشكلها أصحابُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو موجودٌ بين أظهرهم - وأفتى اللهُ جَلَّ وعلا فيها بنفسه في كتابه العزيز فتوىً سماوية أزال بها ذلك الإشكال. وذلك أنَّهُ لمَّا وقع بالمسلمين ما وقع بهم يوم أحد استشكلوا ذلك، فقالوا: كيف يدال منَّا المشركون، ويسلَّطون علينا، ونحن على الحقِّ وهم على الباطل، فأفتاهم الله في ذلك بقوله: {أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران: 165] , وقوله: قل من عند أنفسكم، أوضحه على التحقيق بقوله تعالى: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ} [آل عمران: 152]. فبيَّنَ في هذه الفتوى السَّماوية أنَّ سبب تسليط الكفار عليهم

جاءهم من قِبَل أنفسهم، وأنَّهُ هو فشلُهُمْ وتنازُعُهم في الأمر، وعصيانُ بعضهم الرَّسول - صلى الله عليه وسلم -، ورغبتُهُم في الدنيا، وذلك أنَّ الرُّماة الذين كانوا بسفح الجبل يمنعون الكفار أنْ يأتوا المسلمين من جهة ظهورهم طمعوا في الغنيمة عند هزيمة المشركين في أوَّلِ الأمر، فتركوا أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأجل رغبتهم في الدُّنيا لينالوا عَرَضًا منها. وأمَّا المسألة التَّاسعة: والتي هي مسألةُ ضَعْف المسلمين، وقلَّةُ عَدَدهم وعُدَدهم بالنسبة إلى الكفار؛ فقد أوضح الله -جلَّ وعلا- علاجها في كتابه العزيز، فبَيَّنَ أنَّهُ إِنْ عَلِمَ في قلوب عبادِهِ الإخلاصَ كما ينبغي كان من نتائج ذلك الإخلاص أنْ يَقْهروا ويغلبوا مَنْ هو أقوى منهم. ولذا لمَّا عَلِمَ -جلَّ وعلا- من أهل بيعة الرِّضوان الإخلاص كما ينبغي، ونَوَّهَ بإخلاصهم في قوله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} [الفتح: 18] بَيَّنَ أنَّ من نتائج ذلك الإخلاص أنَّهُ تَعالى يجعلهم قادرين على ما لم يقدروا عليه، قال تعالى: {وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا} [الفتح: 21] , فصَرّحَ بأنَّهم غير قادرين عليها، وأنه أحاط بها فأقدرهم عليها، وجعلها غنيمة لهم لما علم من إخلاصهم.

ولذلك لمّا ضرب الكفار ذلك الحصار العسكريَّ العظيم على المسلمين -وهو المذكور في قوله تعالى: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب: 10 - 11]- كان علاجُ ذلك الضَّعْف والحصار العسكري الإخلاصَ لله تعالى وقوة الإيمان به، قال تعالى: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب: 22]. فكان من نتائج ذلك الإخلاص ما ذكره الله تعالى بقوله: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا} [الأحزاب: 25 - 27] , وهذا الذي نصرهم الله به ما كانوا يظنونه وهو الملائكة والريح قال الله تعالى {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} الآية [الأحزاب: 9]. لأجل هذا كان من الأدلة على صحَّة الإِسلام دينًا أنَّ الطائفة القليلة

الضعيفة المتمسكة به تغلبُ الكثيرة القويَّة الكافرة {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249] , ولذلك سَمَّى اللهُ تعالى يوم بدر آيةَ وبَيِّنَةً وفرقانًا؛ لدلالته على صحَّة دين الإِسلام، قال: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ} الآية [آل عمران: 13] , وذلك يوم بدر، وقال تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ} الآية [الأنفال: 41] , وذلك يوم بدر، وقال تعالى: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ} الآية [الأنفال: 42] , وذلك يوم بدر على ما حَقَّقَهُ بعضهم. ولا شك أنَّ غلبة الفئة القليلة الضَّعيفة المؤمنة للكثيرة القويَّة الكافرة دليلٌ على أنَّها على الحقِّ، وأنَّ الله هو الذي قد نصرها كما قال في وقعة بدر: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} [آل عمران: 123] , وقال: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} الآية [الأنفال: 12] , والمؤمنون الذين وعدهم الله بالنصر، وبيَّنَ الله تعالى صفاتهم وميَّزَهم بها عن غيرهم قال: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 40] , ثم مَيَّزهم عن غيرهم بصفاتهم بقوله: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا

الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج: 41]. وهذا العلاج الذي أشرنا إليه أنَّه علاجٌ للحصار العسكري، أشار تعالى في سورة المنافقون إلى أنَّه أَيضًا علاجٌ للحصار الاقتصادي، وذلك في قوله تعالى: {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا} [المنافقون: 7] , وهذا الذي أراد المنافقون أنْ يفعلوه بالمسلمين هو عين الحصار الاقتصادي، وقد أشار الله تعالى إلى أنَّ علاجه قُوَّة الإيمان به، وصِدْق التَّوجُّه إليه جَلَّ وعَلا بقوله: {وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ} [المنافقون: 7]؛ لأن مَن بيده خزائن السَّماوات والأرض لا يُضيِّع ملتجئًا إليه مطيعًا له {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 2 - 3] , وبَيَّنَ ذلك أَيضًا بقوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ} [التوبة: 28]. وأمَّا المسألة العاشرة: التي هي مشكلة اختلاف القلوب؛ فقد بَيَّن الله تعالى في سورة الحشر أَنَّ سببها عدم العقل بقوله: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} [الحشر: 14] , ثم بين السبب بقوله {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ} [الحشر: 14]

ودواء ضَعْفِ العقلِ هو إنارته باتباعِ نور الوَحْي؛ لأنَّ الوحيَ يُرشدُ إلى المصالح التي تقصُرُ عنها العقول، قال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام: 122]. فبَيَّنَ في هذه الآية أنَّ نورَ الإيمان يَحيى به مَنْ كان ميتًا، ويضيء له الطريقَ التي يمشي فيها، وقال تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [البقرة: 257] , وقال تعالى: {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الملك: 22] , إلى غير ذلك من الآيات. وبالجملة فالمصالح البشرية التي بها نظام الدّنيا راجعةٌ إلى ثلاثة أنواع: الأَوَّل: دَرْءُ المفاسد المعروف عند أهل الأصول بالضَّروريات، وحاصله دفع الضرر عن السّتة التي ذكرنا قبل: أعني الدين، والنَّفْس، والعقل، والنَّسب، والعرض، والمال. الثَّاني: جَلْبُ المصالح المعروف عند أهل الأصول بالحاجِيَّات، ومن فروعه البُيوع على القول بذلك، والإجارات، وعامَّة المصالح المتبادلة بين أفراد المجتمع على الوجه الشرعي.

والثَّالث: التَّحلي بمكارم الأخلاق، والجري على محاسن العادات المعروف عند أهل الأصول بالتَّحسينات والتَّتميمات، ومن فروعه: خصالُ الفِطْرَة كإعفاء اللِّحية، وقَصِّ الشَّارب .. إلخ، ومن فروعه: تحريم المسْتقذرات، ووجوب الإنفاق على الأقارب الفقراء. وكلُّ هذه المصالح لا يمكن شيءٌ أشدّ محافظة عليها بالطُّرق الحكيمة السَّليمة من دين الإِسلام، قال تعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود: 1]. وصلى الله وسلم على محمَّدٍ، وآله وصحبه أجمعين.

وفي مجلس آخر معه

وفي مَجلسٍ آخر معه سألتُهُ -عليه رحمةُ الله- عن رأيه فيما يزعمه أهلُ الغرب، من وصولهم للقمر. فقال نَوَّر الله ضريحه: أوصيكم ونفسي بتقوى الله، وأنْ لا تجعلوا لأهل الكفر والضلال سبيلًا إلى الإلحاد في كتاب الله، بتكذيبكم ما يدَّعونه -من أمور- بحجَّة أن القرآن ينفيها. إنَّ القول الفَصْل في المسألة هو أنَّه لم يردْ في كتاب الله تعالى نَصٌّ في الموضوع لا يحتمل غيرَ ما يدلُّ عليه، وأنَّ ما في الكتاب مِمَّا يتعلق بالموضوع ظواهرُ، ومعلومٌ أنَّه يجبُ حَمْل ما يَرِدُ من ذلك في الوَحْي على الظَّاهر المتبادر منه، قال شيخ مشايخنا في مراقي السُّعود: وما بهِ يعني بلا دَليلِ ... غيرُ الذي ظَهَرَ للعُقولِ وإذا كان الأمر كذلك؛ فإنَّ الكتاب العزيز يقول: {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا} [الأنبياء: 32] , ويقول: {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا} الآية [نوح: 15 - 16] , وقال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا

وَقَمَرًا مُنِيرًا} [الفرقان: 61] , إلى غير ذلك من الآيات التي يدلُّ ظاهرها على أن القمر في السَّماء بمعنى (في) المتبادر منها. وإذا كان ذلك كذلك؛ فإن الله تعالى يقول في كتابه العزيز: {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا} الآية، وقال تعالى {وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ} الآية [الصافات: 7] , ومعلوم أن من الإنس شياطين كما تكون من الجن، يتحصَّل منه أنَّ الواجب علينا حَمْلُ الوحي على الظاهر المتبادر منه، وهو أن القمر في السَّماء، وأن السَّماء محفوظة بحفظِ الله من أَنْ يصلها أيُّ شيطان كائنًا ما يكون إنسًا أم جِنًّا. فإذا ثبَتَ -بما يثبت شرعًا- أنَّ هؤلاء وصلوا القَمَرَ فعلًا بوسائلهم الخاصَّة؛ قلنا: إنَّنا لم نفهَمْ ما يقوله القرآن على حقيقته!، فإنَّ أخباره صدق كلَّها، {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} الآية [الأنعام: 115] , هكذا يكون البحث الذي ينبغي في ذلك. ثُمَّ قال: على أَنِّي اسْتَنْبَطْتُ من آيةٍ -من سورة ص- أَنَّ هؤلاء سوف يعترفون بعجزهم عن الوصول إليه. وهو استنباطٌ لم يسبقني أحدٌ إليه، بل أكثر أهل التَّفسير على أنَّ المقصود به جُنْدُ الله يوم بدر، وهزيمته لأعداء الله تعالى.

والآية هي قوله تعالى في سورة ص: {أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ (10) جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ} [ص: 11]. والذي ظهرَ لي من هذه الآية أن ما بين السماوات والأرض عالمٌ لا يعلمه إلَّا الله تمدَّح الله بملكه؛ لأنَّ اللهَ لا يتمدَّحُ بملكِ لا شيء! ومن قوله تعالى: {فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ} فَهِمْتُ أنَّهُ تعالى يتحدَّى مَنْ لا يُسَلِّم ملكَهُ السَّماواتِ والأرض وما بينهما له وحده لا شريك له في ذلك فيأمُرُهُ بالارتقاء والصّعود في أسباب السَّماوات والأرض، والأسباب هي الطُّرق. ومن قوله تعالى: {جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ} فهمتُ أنَّه يريدُ -والله تعالى أعلم- أنَّ جندًا مَّا؛ أي: خَلْقًا من خَلْق اللهِ في آخر الدُّنيا، أبهمه بالاسم المبهم: (ما) الذي نعَتَه به، وقوله: {هُنَالِكَ} نَعت البعيد يُشير به إلى أنَّ هذا المتنطِّع يكون في آخر الدُّنيا. وقوله تعالى: {مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ} يظهر منه -والله تعالى أعلم- أنَ هذا المتنطِّع سوف يعترفُ بهزيمته.

قال عليه رحمة الله: وهذا الاستنباط لم يسبقني أحدٌ إليه في هذا الموطن، والله تعالى أعلمُ بمراده به، على أن جُلَّ المُفَسِّرين على أنَّ المراد به: هزيمة قريش يوم بدرٍ يوم الفرقان، والعلم عند الله تعالى.

ومجالس متتالية ببيت فضيلة شيخنا عليه رحمة الله تفسيرا للآيات من سورة البقرة من الآية 45 إلى الآية 79

ومَجالسُ متتالية ببيتِ فضيلةِ شيخنا عليه رحمةُ الله تفسيرًا للآيات من سورة البقرة من الآية 45 إلى الآية 79 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قال: أعوذ بالله من الشَّيطان الرجيم، يقول الله جلَّ وعلا: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 45 - 46] , استعينوا: استفعال من العون، وياؤه مبدلةٌ عن واوٍ، أصله استعوِنوا تحرَّكت الواو بعد ساكن صحيح، فوجب نقل حركتها إلى الساكن الصحيح على حد قوله في الخلاصة: لِساكنٍ صحَّ انقلِ التحريكَ منْ ... ذي لينٍ آتٍ عينَ فعلٍ كأبنْ والسّيْنُ والتَّاء للطلب، فمعنى استعينوا اطلبوا العون على أموركم الدُّنيوية والأخروية بالصَّبر والصَّلاة. الصَّبر مصدر صَبَر صبرًا، وهذه المادة تتعدَّى وتلزم؛ فمن تعديها في القرآن: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} الآية [الكهف: 28] ,

ومن لزومها في القرآن: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا} الآية [آل عمران: 200] , {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [الشورى: 43] , وقال بعض العلماء: هي متعدية دائمًا إلَّا أنها يكثر حذف مفعولها، ومن تعديتها من كلام العرب قول عنترة وقيل أبو ذؤيب: فصبرتُ عارفةً لذلك حرّةً ... ترسو إذا نفسُ الجبانِ تطلَّعُ والصَّبر خصلةٌ من خصال الخير عظيمة، صَرَّح الله في سورة فصلت أنَّه لا يعطيها لكلِّ النَّاس، وإنَّما يعطيها لصاحب الحظ الأكبر والنصيب الأوفر، وذلك في قوله: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} الآية [فصلت: 35] , وهذه الخصلة التي هي الصَّبر لا يعلم جزاءها إلَّا الله كما قال جلَّ وعلا: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} الآية [الزمر: 10] , والصَّائمون من خيار الصَّابرينَ ولذا قال - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربه: "إلَّا الصَّوم فهو لي وأنا أجزي به". والصَّبر يتناول الصَّبر على طاعة الله وإن كنتَ كالقابض على الجمر، والصَّبر عن معصية الله وإن اشتعلت نار الشهوات، يدخل في ذلك الصبر على المصائب عند الصدمة الأولى والصبر على الموت تحت ظلال السيوف.

وقوله: {وَالصَّلَاةِ} أي: واستعينوا بالصلاة، والصلاة نعم المعين على نوائب الدَّهر، وعلى خير الدنيا والآخرة كما قال تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} الآية [العنكبوت: 45] , وقال جلَّ وعلا: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه: 132] , وكان - صلى الله عليه وسلم - إذا حَزَبَهُ أمر صَلَّى، وروي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنَّه نُعي له أخوهُ قثم فأناخ راحلته وصلى وتلا: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} [البقرة: 45] واستعانَ بالصلاة على صبر مصيبة أخيه. ولا شك أنَّ لطالب العلم هنا سؤالًا وهو أنْ يقول: أما الاستعانة بالصبر على أمور الدنيا والآخرة فهو أمر واضحٌ لا إشكال فيه؛ لأن من حَبَس نفسه على مكروهها في طاعة الله كان ذلك أكبر معينٍ على الطاعة، ولكن ما وجه الاستعانة بالصلاة على أمور الدنيا والآخرة؟ والجواب: أنَّ الصلاة هي أكبر معينِ على ذلك لأن العبد إذا وقف بين يدي ربه، يناجي ربّه ويتلو كتابه، تذكر ما عند الله من الثواب، وما لديه من العقاب، فهان في عينه كل شيء، وهانت عليه مصائب الدنيا، واستحقر لذاتها رغبةً فيما عند الله، ورهبةً مما عند الله، ثم إن الله جلَّ وعلا قال: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة: 45] للعلماء في مرجع الضمير: {وَإِنَّهَا} أقوال كثيرة.

منها: أنَّه راجع إلى الاستعانة المفهومة من قوله: {وَاسْتَعِينُوا}، ومنها: أنَّه راجع إلى المذكورات في الآية قبل هذا، والتحقيق: أنَّه راجع إلى الصلاة، وإنَّ المعنى: {وَإِنَّهَا} أي: الصلاة لكبيرة شاقة على كلِّ أحد إلَّا على الخاشعين، والصَّبر كذلك على المصائب، وعلى طاعة الله، وعن معاصي الله كبير جدًا إلَّا على الخاشعين، والظَّاهر أن الضمير إنَّما رجع على أحد المتعاطفين اكتفاء به عن الآخر؛ لأن مثل ذلك يفهم في الآخر، وهذا يكثر في القرآن وفي كلام العرب. فمنه في القرآن قوله هنا: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا}، ونظيره: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا} الآية [التوبة: 34] , وقوله: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} [التوبة: 62] , ولم يقل يرضوهما، وقوله جلَّ وعلا: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ} [الأنفال: 20] , ولم يقل عنهما. ونظيره من كلام العرب قول حَسَّان بن ثابت: إنَّ شرخَ الشَّبابِ والشعرَ الأسـ ... ـودَ ما لم يُعاصَ كان جنونا ولم يقل: ما لم يعاصيا، وقول: نابغة ذبيان:

فقد أُراني ونعمًا لاهيين بها ... والدهرُ والعيشُ لم يَهْمُمْ بإمرارِ وقول الأضبط بن قريع، وقيل كعب بن زهير: لكلٍّ همِّ من الهمومِ سَعَه ... والمُسْيُ والصبحُ لا فلاحَ مَعَهْ ولم يقل: لا فلاح معهما. و {لَكَبِيرَةٌ} هنا وصفٌ من كبُرَ بضم الباء يكبُر بضمِّها إذا عَظُمَ وشَق وثقل، ومنه قوله: {كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} [الشورى: 13] , وهذا النوع في المعاني إذا كبر الأمر إذ شقَّ وثقل، أو كبر بمعنى عظم كقوله: {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف:3] , يكبُر الأمر، فهو كبير مضمومٌ في الماضي، تقول: كبُر يكبُر فهو كبير، كما بَيَّنا، أما كبر السِّن ففعله كبِر بكسر الباء يكبَر وبفتحها على القياس، وهو معروف وهو بفتح الباء، ومنه قول قيس بن الملوح: تعشَّقتُ ليلى وهي ذاتُ ذوائبٍ ... ولم يَبْدُ للعينينِ من ثديِها حَجْمُ صغيرينِ نرعى البَهْمَ ياليت أنّنا ... إلى اليومِ لم نكبَرْ ولم تكبَرِ البَهْمُ والاستثناءُ في قوله: {إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} استثناء مفرَّغ، وأصل تقرير المعنى: وإنها لكبيرة؛ أي: ثقيلة عظيمةٌ شاقة على كل أحد إلا على الخاشعين.

والخاشعون جمع الخاشع، وهو الوصف من خَشَعَ، وأصل الخشوع في لغة العرب الانخفاض في طمأنينة، فكل منخفضٍ مطمئن تسميهِ العربُ خاشعًا، ومنه قول نابغة ذبيان: توهَّمتُ آيات لها فعرفتُها ... لستةِ أعوامٍ وذا العامُ سابعُ رمادٌ ككحْلِ العينِ لَأْيًا أبينُهُ ... ونؤيٌ كجذمِ الحوضِ أثلمُ خاشعُ أي: منخفض مطمئن، هذا أصل الخشوع في لغة العرب، وهو في اصطلاح الشَّرع: خشية تداخل القلوب تظهر آثارها على الجوارح، فتنخفض وتطمئن خوفًا من خالق السماوات والأرض، والمعنى أن الصلاة صعبة شاقَّة على غير مَنْ في قلوبهم الخوف من الله. ويدل لذلك شدة عظمها على المنافقين كما قال جلَّ وعلا: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 142] , وقال جلَّ وعلا: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون: 5] وقوله: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ} [البقرة: 46] الذين في محل خفض نعت للخاضعين؛ أي: (إلَّا على الخاشعين الذين يظنون أنَّهم). والظن هنا معناه: اليقين على التَّحقيق، خلافًا لمن شذَّ وزعم أنَّه

الظن المعروف، وأنَّ المتعلق محذوف، والمعنى: هم الذين يظنون أنَّهم ملاقو ربهم بذنوب فهم وجلون من تلك الذنوب. فهذا غيرُ ظاهر ولا يجوز حملُ القرآن عليه -وإنْ قال به بعض العلماء- والتحقيق أنَّ معنى يظنون: يوقنون، وقد تقرَّر في علم العربية أن الظن يطلق في العربية وفي القرآن إطلاقين: يطلق الظن بمعنى اليقين، ومنه قوله هنا: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ}؛ أي: يوقنون، ومنه بهذا المعنى: {إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ} [الحاقة: 20]؛ أي: أيقنت أني ملاق حسابيهْ، ومنه قوله تعالى: {وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا} [الكهف: 53]؛ أي: أيقنوا أنهم ملاقوها إلى غير ذلك من الآيات. ومن أمثلة إطلاق العرب الظن على اليقين قول دُريد ابن الصمة: فقلتُ لهمْ ظنُّوا بألفيْ مُدَجَّجٍ ... سَراتُهُمُ في الفارسيِّ المسرَّدِ فقوله ظنوا: أي أيقنوا. وقول عميرة بن طارق: بأنْ تغتزوا قومي وأقعد فيكمُ ... وأجعل مني الظَّنَّ غيبًا مُرَجَّما أي: أجعل مني اليقين غيبًا مُرجَّمًا.

فمعنى يظنون؛ أي: يوقنون أنَّهم ملاقوا ربهم، وملاقو أصله: ملاقيون مفاعلون منقوص، والمنقوص تحذف ياؤه عند التصحيح، وحذفت نون ملاقون المضافة، أي ملاقوا ربهم. والمراد بهذه الملاقاة؛ أي: يعرضون على ربهم يوم القيامة فيجازيهم على أعمالهم، كما قال تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:18] , وقال جلَّ وعلا: {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ} [العنكبوت: 5]. وقوله: {وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 46]؛ أي: يوقنون أنَّهم أَيضًا إليه راجعون جل وعلا يوم القيامة فمجازيهم على أعمالهم، وقدَّم المعمول الذي هو الجار والمجرور في قوله: {إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} لأمرين؛ أحدهما: المحافظة على رؤوس الآي. والثَّاني: الحصر، والمقرَّر في علم الأصول في مبحث دليل الخَطَّاب -وهو مفهوم المخالفة- أن تقديم المعمول يدل على الحصر، وكذلك تقرر في فن المعاني في مبحث القصر أنَّ تقديم المعمول من أدوات الحصر، وهذا معنى قوله: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 46]. {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ}

[البقرة: 47] يا بني إسرائيل معناه: يَا أولاد يعقوب، وإسرائيل معناه بالعبرية: عبد الله، وإسرائيل هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، وإنَّما ناداهم بهذا النداء يا بني إسرائيل ونسبهم إلى هذا النَّبِيّ الكريم ليبعثهم بذلك على امتثال الأمر واجتناب النهي، كما تقول العرب لمن يستحثونه للأمر: يَا ابن الكرام افعل كذا. وقوله: {اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ} المرادُ بالذكر هنا: ذكرٌ يحمل على الشكر، ومن شكر تلك النعمة المأمور به تصديقُ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم -، واتباعه فيما جاء به؛ ونعمتي اسمُ جنسِ مضاف إلى معرفة فهو من صيغ العموم كما تقرَّر في الأصول، فمعنى نعمتي؛ أي: نِعَمي، كقوله: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [النحل: 18]؛ أي: نعم الله، وكقوله: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور: 63]؛ أي: أوامره، ومن هذه النِّعم التي ذكَّرهم بها حملًا على شكرها إنجاؤهم من عدوِّهم فرعون، وإغراق عَدُوِّهِم وهم ينظرون، ومنها تظليل الغمام عليهم، وإنزال المنّ والسلوى، وتفجير الماء من الحجر؛ إلى غير ذلك مما قص الله في كتابه. وجرت العادة في القرآن أنَّ الله يمتنُّ على الموجودين في زمن

النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - بالنعم التي أنعمها على أسلافهم الماضين، وكذلك يعيبهم بالمعائب التي صدرت من أسلافهم الماضين، لأنهم أمةٌ واحدة، ولأن الأبناء يتشرفون بفضائل الآباء فكأنهم شيء واحد، ولذلك كان جَلَّ وعلا يمتن على هؤلاء بنعمه على الأسلاف، وكذلك يعيبهم بما صَدَرَ من الأسلاف لأنَّهم جماعة واحدة. وقوله: {الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} أي: التي أنعمتها عليكم كإنزال المن والسلوى، وتظليل الغمام، والإنجاء من فرعون إلى غير ذلك. و {وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} المصدر المُنْسبك من أن وصلتها في محل نصب عطف على: نعمتي؛ أي: اذكروا نعمتي وتفضيلي إياكم على العالمين، والعالمين: جمع عالم، وهو يطلق على ما سوى الله، والدليل على أنَّه يشمل أهل السماء والأرض من المخلوقين قوله جَلَّ وعلا: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ} الآية [الشعراء: 23 - 24]. والعالَم: اسم جنس يُعرب إعراب الجمع المذكر السالم. وقوله هنا: {فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ}؛ أي: على عالمي زمانكم الذي أنتم فيه، فلا ينافي أن هذه الأمة التي هي أمة محمَّد - صلى الله عليه وسلم - أفضل منهم، كما نصَّ الله على ذلك بقوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ

لِلنَّاسِ} الآية [آل عمران: 110] , وفي حديث معاوية بن حيدة القشيري - رضي الله عنه - عن النَّبِي - صلى الله عليه وسلم -: "أنتم تُوفون سبعين أمةً أنتم خيرها وأكرمها على الله". ومن الآيات المبيِّنة لفضل أمة مُحَمَّد - صلى الله عليه وسلم - على أمة موسى أنَّه قال في أمة موسى: {مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ} [المائدة: 66] , فجعل أعلى مراتبهم الأمة المقتصدة، بخلاف أمة مُحَمَّد - صلى الله عليه وسلم - فقسَّمهم إلى ثلاث طوائف، وجعل فيهم طائفة أكمل من الطائفة المقتصدة وذلك في قوله في فاطر: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} الآية [فاطر: 32] , فجعل سابقًا بالخيرات وهو أعلى من المقتصد، وواعد الجميع بظالمهم ومقتصدهم وسابقهم بجنات عدنٍ بقوله: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} الآية [فاطر: 33] وقال بعض العلماء: حُقَّ لهذه الواو أن تكتب بماء العينين؛ يعني واو يدخلونها لأنه وعْدٌ من الله، صادقٌ شامل للظالم والمقتصد والسابق. وفي الآية سؤال معروف وهو أنْ يقال: ما الحكمة من تقديم الظالم لنفسه بالوعد بجنات عدن وتأخير السابق؟

وللعلماء عن هذا أجوبة معروفة؛ منها: أنَّه قدَّم الظالم لئلا يقنط، وأخَّرَ السابق بالخيرات لئلا يعجب بأعماله فيحبط. وقال بعض العلماء: أكثر أهل الجنة الظالمون لأنفسهم فبدأ بهم نظرًا لأكثريَّتهم؛ ومما يدل على أفضلية أمة مُحَمَّد - صلى الله عليه وسلم - على بني إسرائيل أنَّ الابتلاء الذي يظهر به الفضل وعدمه إنَّما يكون بخوفٍ أو طمع، وقد ابتلى أصحابَ مُحَمَّد - صلى الله عليه وسلم - بخوف وابتلاهم بطمع، وابتلى بني إسرائيل بخوف وابتلاهم بطمع. أما الخوف الذي ابتلى به الله أصحاب مُحَمَّد - صلى الله عليه وسلم - فهو أنَّهم لمَّا غزوا غزاة بدر، وساحَلَ أبو سفيان بالعير واستنفر لهم النفير، وجاءهم الخبر بأنَّ العير سلمت، وأنَّ الجيش أقبل إليهم، وأخبرهم النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - بذلك قال له المقداد بن عمرو - رضي الله عنه -: واللهِ لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا مَن دونَه معك، ولو خُضت بنا هذا البحر لخضناه معك، ولا نقول لك كما قال قوم موسى لموسى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24] , بل إنَّا معك مقاتلون، ولمَّا أعاد الكلام قال له سعد بن معاذ - رضي الله عنه -: كأنك تعنينا معاشر الْأَنصار؟ لأنَّهم اشترطوا عليه ليلة العقبة أنْ يمنعوه مما يمنعون منه نساءهم وأبناءهم بشرط أنْ يكون بداخل المدينة ولم يشترط عليهم خارج المدينة، فأخبره

النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - أنَّه يعنيهم، فقال كلامه المعروف المأثور، قال: والله إنَّا لقوم صبر في الحرب، صدق عند اللقاء، والله ما نكره أنْ تلقى بنا عدوك حتَّى ترى منا ما يُقرّ عينك، والله لقد تخلف عنك أقوامٌ لو علموا أنك تلقى كيدًا ما تخلف عنك منهم رجل. بخلاف بني إسرائيل لما امتحنوا بخوف كهذا صدر منهم ما ذكره الله في سورة المائدة في قوله: {إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ} [المائدة: 22] , وقالوا له: {قَالُوا يَامُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24] كذلك ابتلى بني إسرائيل بصيدِ وهو صيد السَّمك المذكور في الأعراف المشار له في البقرة: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ} [الأعراف: 163] , فحداهم القَرَمُ والطمع في أكل الحوت إلى أن اعتدوا في السبت فمسخهم الله قردة. وقد امتحن الله جلّ وعلا أصحاب النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - في عمرة الحديبية بالصيد وهم محرمون فهيَّأ لهم جميع أنواع الصيد من الوحوش والطير من كبارها وصغارها, ولم يعتدِ رجل منهم ولم يصد في الإحرام كما بينه جلَّ وعلا بقوله: {لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ} [المائدة: 94] ,

فما مَدَّ منهم رجلٌ يده إلى صيد. فظهر بهذا أن كلتا الأمتين امتُحنت بصيد وأنَّ هؤلاء اعتدوا على ذلك الصَّيد فمسخوا قردة وأنَّ أولئك اتَّقوا الله، كذلك امتُحنوا بخوف من عدوٍّ فصبر هؤلاء وثبتوا، وخاف هؤلاء وجبنوا فدلَّ هذا على أنَّهم أفضل منهم، وهذا مما لا خلاف فيه، وهذا مما يبين أن قوله: {وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} أن المراد عالمو زمانهم. وقال بعض العلماء: هو نوع من التفضيل آخر لا يعارض أشرفية هذه الأمة وأفضليتها عليهم، وهو كثرة الرسل فيهم، وأن الأنبياء أكثر فيهم منهم في غيرهم، وكثرة الأنبياء فيهم لا تجعلهم أفضل من هذه الأمة، بل هذه الأمة أفضل منهم وإنْ كانت الأنبياء فيها إنّما جاءها نبي واحدٌ - صلى الله عليه وسلم -، وهذا معنى قوله: {وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ}. وقوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} الآية [البقرة: 48] , معنى الاتقاء في اللغة العربية، هو أنْ تجعل بينك وبين ما يضرُّك وقاية، وأصل مادته وَقَى، دخلها تاء الافتعال كما تقول في قرب اقترب، وفي كسب اكتسب، وفي وقى اتَّقى.

والقاعدة المقرَّرة في التصريف أنَّ تاء الافتعال إذا دخلت على مادةٍ واوها فاء، وجب إبدال الواو تاءً وإدغامها في تاء الافتعال، فمعنى اتقوا: اجعلوا بينكم وبين ذلك اليوم وقايةً تقيكم مما يقع فيه من الأهوال والأوجال، والاتقاء: هو جعل الوقاية دون ما يضر، وهو معنى معروف في كلام العرب ومنه قول نابغة ذبيان: سقطَ النصيفُ ولم تُردْ إسقاطَهُ ... فتناولتْهُ واتَّقتنا باليدِ يعني استقبلتنا بيدها جاعلة إياها وقاية بيننا وبين رؤية وجهها، والاتقاء في اصطلاح الشرع: هو جعل الوقاية دون سخط الله وعذابه، تلك الوقاية هي امتثال أمره واجتناب نهيه جلَّ وعلا، والمراد باتقاء اليوم: اتِّقاء ما يكون فيه من الأهوال والأوجال؛ لأنَّ القرآن بلسان عربي مبين، والعرب تعبِّر بالأيام عما يقع فيها من الشدائد، ومنه: {هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ} [هود: 77]؛ أي: بما فيه من الشدة، وهذا معنى قوله: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [البقرة: 281] أي ومعنى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} واليوم مفعولٌ به لاتَّقوا، وقيل المفعول محذوف واليوم ظرف؛ أي: اتقوا العذاب يوم لا تجزي نفس عن نفس شيئًا. وقوله: {لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} الجملةُ نعت ليوم، وقد تقرَّر في العربية أنَّ الجمل تُنعت بها النكرات كما عقده في الخلاصة بقوله:

ونعَتُوا بجملةٍ منكَّرا ... فأُعطِيتْ ما أُعطيتْهُ خبَرا ولطالب العلم أنْ يقول: أين الرَّابط الذي يربط بين الجملة التي هي وصف وبين المنعوت؟ الجواب: أنَّه اختلف في تقديره على قولين: أحدهما: أنَّ العائد {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ} أي: واتقوا يومًا لا تجزي فيه نفس عن نفس شيئًا، فالعائد هو المجرور المحذوف هو وحرف الجر. وقال بعض العلماء: حذف حرف الجرّ فوصل العامل إلى الضمير بعد حذف حرف الجرّ المحذوف، وعليه فالتقدير: واتقوا يومًا لا تجزيه نفسٌ عن نفس شيئًا بحذف الفاء، وعلى كلِّ حال فحذف الضمير الرابط للجملة التي هي وصف للنكرة الموصوفة موجودٌ في كلام العرب، ومن أمثلته في كلام العرب قول الشَّاعر: وما أدري أغيَّرَهُم تناءٍ ... وطولُ العهدِ أم مالٌ أصابوا فجملة "أصابوا" نعت للنكرة التي هي مال والعائد محذوف، وتقرير المعنى: أم مال أصابوه، وقوله: {لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا}؛ أي: لا تقضي عنها حقًا وجب عليها, ولا تدفع عنها

عذابًا حَقَّ عليها، أما تفسير من فَسَّر تجزي: بتغني، فهو إنَّما يتمشَّى على قراءة من قرأ "تُجْزي" بصيغة الرباعي؛ لأنها هي التي تأتي بمعنى الإغناء، وتقرير المعنى: واتقوا يومًا لا تجزي فيه نفسٌ عن نفس شيئًا، أي لا تقضي نفسٌ عن نفس حقًا وجب عليها، ولا تدفع عنها عذابًا حق عليها. والرَّابط المحذوف محذوفٌ من الجمل المعطوفة على الجملة النَّعتية، وتقرير المعنى: لا تجزي فيه نفسٌ عن نفس شيئًا، ولا يُقبل فيه شفاعة ولا يؤخذ فيه عدل ولا هم ينصرون فيه، فالرابط محذوف من الجمل المعطوفة على الجملة التي هي وصف، وتقرير المعنى: واتقوا يومًا لا تجزي فيه نفس عن نفس شيئًا، أي لا تقضي نفس عن نفس شيئًا؛ أي: حقًا وجب عليها ولا تدفع عنها عذابًا حقَّ عليها، وعلى هذا التقرير (فشيئًا) مفعولٌ به لتجزي، وقال بعض العلماء: (شيئًا) في محل المصدر أي لا تجزي عنها شيئًا أي جزاءً قليلًا ولا كثيرًا. وقوله: {وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} فيه قراءتان سبعيتان. قرأهُ أكثر السبعة: {وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} والتذكير في قوله {يُقْبَلُ} لأمرين؛ أحدهما: أن تأنيث الشفاعة تأنيثٌ غيرُ

حقيقي، الثَّاني: الفصل الذي فَصَلَ بين الفعل وفاعله، والفصلُ يُبيح ترك التاء كما عقده في الخلاصة بقوله: وقد يبيحُ الفصلُ تركَ التَّاءِ في ... نحوِ أتى القاضيَ بنتُ الواقفِ والشَّفاعة في الاصطلاح: هي التوسط للغير لجلب مصلحة أو دفع مضرة. وأصلها من الشَّفع الذي هو ضدُّ الوتر؛ لأن صاحب الحاجة كان فردًا في حاجته فلما جاءَهُ الشفيع صارا شفعًا؛ أي اثنان: صاحب الحاجة، ومن يتوسط له فيها. هذا هو أصل معنى الشَّفاعة، والشَّفاعة في الدُّنيا إذا كانت في حق واجب فللشافع أجرٌ، وإذا كانت في حرام فعليه وِزْرٌ كما صَرَّحَ تعالى بذلك في قوله: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا} [النساء: 85]. وقال - صلى الله عليه وسلم -: "اشفعوا تُؤجروا ويقضي اللهُ على لسانِ نبيِّهِ ما شاء". وقد دلَّ الكتاب والسُّنَّةُ أن نفيَ الشَّفاعَةِ المذكور هنا ليس على عمومه وأن في الشَّفاعة تفصيلًا: منها ما هو ثابت شرعًا ومنها ما هو منفي شرعًا. أمَّ المنفي شرعًا الذي أجمعَ عليه المسلمون فهو الشفاعة للكفار. وأن الكفارَ لا تنفعهم شفاعة البتة، كما قال تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ

الشَّافِعِينَ} [المدثر: 48] , وقال عنهم: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ} [الشعراء: 100] , وقال جلَّ وعلا: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28] , مع أنَّه قال في الكافر: {وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر: 7] , فالشَّفاعة للكفار ممنوعة شرعًا بإجماع المسملين، ولم يقع في هذا استثناء البتة إلَّا شفاعة النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - لعمه أبي طالب؛ فإنَّها نفعته بأنْ نُقل بسببها من محلِّ من النَّار إلى محل أسهل منه، كما صحَّ عنه - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: "لعلهُ تنفعُهُ شفاعتي فيُجعل في ضَحْضَاحٍ من النَّارِ، يبلغُ كعبيه، له نعلانِ يغلي منهما دماغُهُ". أمَّا غير هذا من الشفاعة للكفار فهو ممنوعٌ إجماعًا، وإنما نفعت شفاعة النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - عمَّه أَبا طالب في النَّقل من محلِّ من النَّارِ إلى محل آخر، والشفاعة المنفية الأخرى هي الشَّفاعة بدون إذن ربِّ السماوات والأرض فهذه ممنوعة بتاتًا بإجماع المسلمين، وبدلالة القرآن العظيم كقوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255]. وادِّعاء هذه الشفاعة شركٌ بالله وكُفْر به، كما قال جَلَّ وعلا: {وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس: 18] ,

ووجه كون هذه الشفاعة من أنواع الشِّرك -وللهِ المثل الأعلى-: أن ملوك الدنيا قد يتمكنون من مجرم يتقطعون عليه غيظًا، ويريدون أن يُقَطعوه عضوًا عضوًا، فيأتي بعض أهل الجاه والشرف فيشفع عندهم له فيضطرون إلى قبول شفاعته؛ لأنهم لو رَدُّوا شفاعته لصار عدوًا لهم، وترقَّبوهم بعض النوائب، فيضطرون إلى أنْ يشفعوهُ وهم كارهون خوفًا من سوئه، ورب السماوات والأرض لا يخاف أحدًا، ولا يمكن أنْ يضره أحدٌ، ولا يمكن أنْ يتجاسر أحدٌ عليه بمثل هذا وله المثل الأعلى، ولذا قال جلَّ وعلا: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255]. أما الشَّفاعة للمؤمنين بإذن ربِّ السماوات والأرض فجائزةٌ شرعًا وواقعة، كما دلت عليه النصوص من الكتاب والسنة كما في قوله: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28] , وقوله جلَّ وعلا: {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ: 23] , ونحو ذلك من الآيات والأحاديث، والشفاعةُ الكبرى للنبي - صلى الله عليه وسلم - كما يأتي إيضاحه في سورة بني إسرائيل في قوله: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79] , وقد يشفع الله مَنْ شاء مِنْ خلقه من الأنبياء والمرسلين والصَّالحين، وقد تكون الشَّفاعة بإخراج من دخل النَّار، وقد تكون الشفاعة بأنْ يشفع لمن عليه ذنوب

فيُنقذ من النَّار، وقد تكون لرفع الدرجات، والشفاعة الكبرى في فصل القضاء بين الخلق، فمعنى قوله إذًا: {وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} هذا إذا كانت كافرة على الإطلاق ولو كانت مؤمنة لا تقبل الشفاعة إلَّا بإذن ربِّ السماوات والأرض. وقوله: {وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} العدل: الفداء، وإنَّما سمي الفداء عدلًا لأنَّ فداء الشيء كأنَّه قيمة معادلة له ومماثلة له تكون عوضًا وبدلًا منه، قال بعض علماء العربية: ما يعادل الشيء ويُماثله إنْ كان من جنسه قيل له: عِدل بكسر العين، ومنه عدلا البعير أي عكماه لأنَّهما متماثلان، أما إن يماثله ويساويه وليس من جنسه قيل فيه عَدل بفتح العين، ولذا سمي الفداء عدلًا لأنه شيءٌ مُماثلٌ للمفدي ليس من جنسه، ومن هذا المعنى قوله جلَّ وعلا: {أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} [المائدة: 95]، لأن ما يعادل الإطعام من الصِّيام ليس من جنسه، فإذا كان من جنسه قيل فيه عِدْلٌ، وهو معروف في كلام العرب وقد كَرَّره مهَلْهِلُ بنُ ربيعة في قصيدته المشهورة في قوله: على أنْ ليس عِدْلًا من كليبٍ ... إذا طُردَ اليتيمُ عن الجزورِ على أنْ ليس عِدْلًا من كليبٍ ... إذا ما ضيمَ جيرانُ المجيرِ على أنْ ليس عِدْلًا من كليبٍ ... غداةَ بلابلِ الأمرِ الكبيرِ

على أنْ ليس عِدْلًا من كليبٍ ... إذا برزتْ مخبَّأةُ الخدورِ على أنْ ليس عِدْلًا من كليبٍ ... إذا اضطربَ العضاهُ من الدَّبورِ يعني أنَّ القتلى التي قتلها بكليب من بني بكر بن وائل لا تماثله في الشَّرع ولا تساويه، وإنَّما كَسَرَ العين لأنهم من جنس واحد، وهذا معنى قوله: {وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} [البقرة: 48] , أصل النصر في لغة العرب: إعانة المظلوم، ومعنى "ولا هم ينصرون"؛ أي: ليس لهم معين يدفع عنهم عذاب الله، وفي هذه الآية الكريمة سؤال عربي معروف وهو أنْ يقول طالب العلم: أفرد الضمير في لا يؤخذ منها, لا يقبل منها، أفرده مؤنثًا وجَمَعَهُ مذكرًا في قوله {وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} مع أن مرجع هذه الضمائر واحد. والجواب ظاهر لأن قوله {لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} نكرةٌ في سياق النفي، والنكرة في سياق النفي تعمّ، وعمومها يجعلها شاملة لكثير من أفراد النفوس، فأنَّثَ الضمير وأفرده في قوله {وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} {وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} نظرًا إلى لفظ النفس، وجَمَعَ الضمير المذكر في قوله {وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} نظرًا إلى النكرة في سياق النفي، وأنها شاملة لكثير من الأنفس، وهذا معنى قوله: {وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ}.

وقوله جلَّ وعلا: {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} [البقرة: 49]؛ أي: واذكروا إذ نَجَّيناكم من آل فرعون، يعني من فرعون وقومه القبط، لأنهم كانوا يهينون بني إسرائيل، قال بعض العلماء: أصل الآل: أهل؛ بدليل تصغيره على أُهَيل، وبعضهم صغره على أُوَّيْل، ولا يطلق الآل على الأهل إلَّا إذا كان مضافًا لمن له شرف وقدر، فلا تقول آل الحجام ولا آل الإسكاف. وفرعون ملكُ مصر المعروف، وهو يطلق على مَنْ ملك مصر، وقال بعضهم: كلُّ من ملك العمالقة يقال له فرعون، واختُلف في لفظ فرعون هل هو عربي أو عجمي، قيل: هو اسم عجمي مُنع من الصرف للعلمية والعجمة، وقال بعض العلماء هو عربي من تفرعن الرَّجل إذا كان ذا مَكْرٍ ودهاء، والأول أظهر، وعلى أنَّه عربي فوزنه فِعْلول بلامَين، لا فعلون بالنُّون. وقوله: {يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} [البقرة: 49] تقول العرب: سامه خسفًا إذا أولاه ظلمًا وأذاقه عذابًا، ومن هذا المعنى قول عمرو بن كلثوم في معلقته: إذا ما الملْكُ سامَ النَّاسَ خسْفًا ... أبَينا أنْ نُقرَّ الذلَّ فينا

وقوله: {سُوءَ الْعَذَابِ}؛ أي: يذيقونكم ويولونكم سوء العذاب؛ أي: أصعب العذاب، وأشده، وأفظعه؛ لأنَّهم كانوا يعذبونهم بأنواع من العذاب شاقةٍ ذكر الله بعضًا منها هنا حيث قال: {يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ} فالفعل المضارع الذي هو يذبِّحون بدلٌ من المضارع الذي قبله، الذي هو يسومونكم على حدِّ قوله في الخلاصة: ويُبدلُ الفعلُ من الفعلِ كمنْ ... يصلْ إلينا يستعِنْ بنا يُعَنْ وإنَّما عبَّر بالتشديد في قراءة الجمهور في قوله: {يُذَبِّحُونَ} دلالة على الكثرة؛ لأنَّهم ذبحوا كثيرًا من أبنائهم، يذبحون أبناءكم؛ أي: الذكور، ويستحيون نساءكم؛ أي: بناتكم الإناث يُبقوهن حَيَّاتِ، والنساء على التحقيق: اسمُ جمع لا واحدَ له من لفظه، واحدته امرأة، وفي هذه الآية سؤالٌ معروف؛ لأنَّ الله لما ذكر أنَّهم ساموهم سوء العذاب فسَّر قوله: {يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} بالبدل بعده، وبَيَّنَ أن من ذلك العذاب العظيم السيء تذبيح الأبناء، واستحياء البنات. وفي هذا سؤالٌ، وهو أنْ يُقال: تذبيح الأبناء ظاهر أنَّه من ذلك العذاب الذي يسومونهم، أما استحياء البنات وهو قوله: {وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ}، فأين وجهُ كون هذا من سوء العذاب، مع أنَّ إبقاء البعض

قد يظهر للناظر أنَّه أحسن من تذبيح الكل، كما قال الهذلي: حمدتُ إلاهي بعد عروةَ إذ نجا ... خراشٌ وبعُض الشرِّ أهونُ من بعضِ والجواب عن هذا: أنَّ استحياءهم للنساء استحياء هو من جملة العذاب؛ لأنهم يستحيونهن ليُعملوهنَّ في الأعمال الشاقة، وليفعلوا بهن ما لا يليق من العار والشَّنار، وبقاء البنت وهي عورة تحت يدِ عدوٍّ لا يشفق عليها، يفعل بها ما لا يليق، ويكلِّفها ما لا تطيق، هو من سوء العذاب بلا شك. وقد قال جلَّ وعلا: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} [النساء: 9] , والعرب كانوا ربما قتلوا بناتهم خوفًا وشفقة عليهن مما يلاقينه؛ مما لا يليق بعد موت الآباء، وهو كثير في شعرهم، وقد قال رجلٌ منهم في ابنة له تسمى مودَّة: مودةُ تهوى عمرَ شيخٍ يسرُّهُ ... لها الموتُ قبلَ الليلِ لو أنَّها تدري يخافُ عليها جفوةَ الناسِ بعدَهُ ... ولا ختنٌ يُرجى أودُّ من القبرِ ولما خطبت عند عقيل بن علَّفة المري ابنته الجرباء أنشد: إنِّي وإنْ سِيقَ إليَّ المهرُ ... عبدٌ وألفان وذودٌ عشْرُ أحبُّ أصهاري إليَّ القبرُ

وقد قال الشَّاعر: تهوى حياتي وأهوى موتَها شَفَقًا ... والموتُ أكرمُ نَزَّالٍ على الحُرَمِ وهذا هو وجه كون استحياء النساء من ذلك العذاب الذي يسومونهم. وقوله جلَّ وعلا: {وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} في الإشارة بقوله ذلكم وجهان لا يكذب أحدهما الآخر، مبنيان على المراد بالبلاء؛ لأن البلاء في لغة العرب الاختبار، والاختبار قد يقع بالخير وقد يقع بالشر كما قال جلَّ وعلا: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء: 35] , وقال جلَّ وعلا: {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأعراف: 168] , والله ذكر في الآية الماضية أنَّه ابتلى بني إسرائيل بخيرٍ وشرٍّ، أما الشر الذي ابتلاهم به فهو ما كان يسومهم فرعون من سوء العذاب، وأما الخير الذي ابتلاهم به فهو إنجاؤه إياهم من ذلك العذاب، قال بعض العلماء: {وَفِي ذَلِكُمْ} أي: في ذلكم العذاب الذي كان يسومكم فرعون بلاءٌ بالشر من ربكم عظيم، وقال بعض العلماء: في ذلك الإنجاء الذي أنجاكم الله به من عذاب فرعون بلاءٌ بالخير من ربكم عظيم، وكلما كان الشر أكبر كان الإنقاذ منه مماثلًا له في الكبر.

ولا شك أنَّ العرب تطلق البلاء على الاختبار بالشَّر والاختبار بالخير، خلافًا لمن منعه في الاختبار بالخير وهو معروف في كلام العرب، ومن أمثلته في الخير قول زهير: جزى اللهُ بالإحسانِ ما فَعَلا بكمْ ... وأبلاهما خيرَ البلاءِ الذي يَبْلو وهذا معنى قوله: {وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ}. وقوله جلَّ وعلا: {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} [البقرة: 50]؛ أي: واذكروا إذ فرقنا بكم البحر؛ أي: فلقناه بدليل قوله: {فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} [الشعراء: 63] , وأصل الفرق: الفصل بين أجزاء الشيء، فمعنى فرقنا بكم البحر؛ أي: فصلنا بين بعضه وبعض حتَّى كان بينه مسالك تسلكون فيها، ومن هذا المعنى قوله: {فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [المائدة: 25]؛ أي: افصل بيننا وبينهم: {فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا} [المرسلات: 4] , على القول بأنَّها الملائكة تنزل بالوحي الذي يفصل بين الحق والباطل، وهذا معنى قوله: {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ}؛ أي: فصلنا بين أجزائه عن بعض حتَّى كانت بينه مسالك تسلكون فيها في طرق يابسة كما قال جلَّ وعلا: {طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا} [طه: 77].

والباء في قوله: {بِكُمُ} فيها لعلماء التفسير أوجهٌ: أظهرها أنَّها سببية، والمعنى: فصلنا بعض أجزاء البحر عن بعض بسبب دخولكم فيه ليمكنكم المرور سالكين بين أجزائه كما قال تعالى: {فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} [الشعراء: 63] , وقال بعض العلماء: والباء بمعنى اللام فمعنى فرقنا بكم؛ أي: فرقنا لكم، وهو عائدٌ إلى معنى الأول؛ لأن اللام للتعليل والباء للسبب، والمعنى متقارب، وقال بعض العلماء: الجار والمجرور في محلِّ حال؛ أي: فرقنا البحر في حال كونه متلبسًا بكم، وقال بعض العلماء: فرقنا بكم البحر؛ أي: جعلناكم كأنكم حاجز بعضه وبعض، كما تقول فصلت بين أجزاء الشيء بكذا. والبحرُ معروف، قال بعض العلماء: اشتقاقه من الشَّق؛ لأنَّه شقٌّ في الأرض كبير، ومنه البَحيرة لأنها مشقوقة الأذن، وقال بعضٌ: هو من البحر بمعنى الاتساع. وقوله: {فَأَنْجَيْنَاكُمْ}؛ أي: أنجيناكم من فرعون، وما كان يسومكم من العذاب، والأصل الإنجاء والتنجية، أصل اشتقاقه من النجوة، وهي المرتفع من الأرض. فكأن الإنسان إذا سَلِمَ من هلاكٍ ونجا من أمر خطر ارتفع عن نجوة الهلاك إلى نجوة السلام، وهذا معنى قوله: {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا

آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} والهمزة في أغرقنا للتعدية، وأصل الفعل الثلاثي قبل أنْ تدخل عليه همزة التعدية غَرِقَ يَغْرقُ غَرَقًا ومنه قول ذي الرُّمة: وإنسانُ عيني يحسرُ الماءَ تارةً ... فيبدو وتاراتٍ يجمُّ فيغرَقُ والعرب تعدِّيه بالهمزة والتضعيف. فتقول: أغرقه اللهُ وغرَّقه. إذا جعله يغرق، ومن هذا المعنى قول الشَّاعر: . . . . . . ... ألا ليتَ قيسًا غرَّقتْها القوابلُ فالهمزة في أغرقنا همزة التعدية، والمعروف أن همزة التعدية لو دخلت على فعل لازم أكسبته مفعولًا، وإذا دخلت على فعلٍ متعدٍّ لمفعول أكسبته مفعولين، وإذا دخلت على فعلٍ متعدٍّ لمفعولين أكسبته ثالثًا كما قال في الخلاصة: إلى ثلاثةٍ رأى وعَلِما ... عدَّوا إذا صارا أرى وأعلما وآل فرعون قدّمنا معناه. وقوله: {وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} جملةٌ حاليَّةٌ ظاهرةٌ أنَّه نظرٌ بالأبصار؛ لأن الله أراهم ما أحلَّ بفرعون وقومه من الغرق في البحر، وهو البحر الأحمر ليكون ذلك أقرَّ لأعينهم، وهذا لأن هلاك العدو وعدوُّهُ ينظر إليه أقر لعينه، وهذا معنى قوله: {وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ

وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ}. وقوله: {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} [البقرة: 51] "إذ" منصوبٌ بـ "اذكر" مقدرًا على أحد الأقوال، وهو معطوف على المذكورات قبله، وقرأ هذا الحرف جميع القراء ما عدا البَصْرِيّ أَبا عمرو: {وَاعَدْنَا} بصيغة المفاعلة، وقرأه أبو عمرو وحده من السبعة: {وَإِذْ وَعَدْنَا} ثلاثيًا مجرَّدًا من الوعد، أما على قراءة أبي عمرو فلا إشكال، فصيغة الجمع للتعظيم، والله وعد نبيَّهُ موسى أنْ ينزل كتابًا فيه الحلال والحرام، وكل ما يحتاجون إليه بعد أربعين ليلة. أما على قراءة الجمهور: {وَإِذْ وَاعَدْنَا} بصيغة المفاعلة فإن المقرَّر في فنِّ التصريف أنَّ المفاعلة تقتضي الطرفين، أعني اشتراك الفعل بين فاعلين، ولذا استشكل بعض العلماء التعبير بالمواعدة هنا، قال: إن الله يعدُ وحده ولا يعدُهُ غيره. والجواب عن هذا: أنَّ المفاعلة باعتبار أنَّ الله وعد موسى بوحي يدوِّن له فيه الأمور، وموسى وعد ربه بالإتيان للميقات المعين لتلقي الوحي، ومن هنا صارت المفاعلة معقولة. وقوله: {أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} قال بعض العلماء: هو على حذف مضاف؛ أي: تمام أربعين ليلة، وقد بيَّن تعالى في سورة الأعراف أنَّ الوعد بهذه

الأربعين: كان مفرَّقًا، بأنْ وعد ثلاثين أولًا ثم أتمها بعشر، وذلك في قوله: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} [الأعراف: 142]. قال بعض العلماء: هذه الأربعين ليلة هي شهر ذي القعدة وعشر من ذي الحجة، واليوم الذي أغرق الله فيه فرعون وأنجى فيه بني إسرائيل هو يوم عاشوراء، وقد ثبت في الصحيح من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - لما قدم المدينة وجد اليهود يصومون يوم عاشوراء، فسألهم فقالوا هذا اليوم الذي أنجى الله فيه موسى وقومه وأهلك فرعون وقومه، فقال النَّبِي - صلى الله عليه وسلم -: "نحن أولى بموسى منهم، فكان يصومه حتَّى نزل صيام رمضان". وثبت في الصحيح عن عائشة -رضي الله عنها-: أن قريشًا كانوا يصومون يوم عاشوراء في الجاهلية، وأنَّ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - كان يصومه، ولا تعارض بين الأحاديث؛ لأنه لا مانع من أنْ يكون النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - كان يصومه لأن قريشًا في الجاهلية كانوا يصومونه، ولما جاء وجد اليهود يصومونه تمادى على صومه، ولا مانع من كون الواحد أو النصِّ الواحد له سببان فأكثر، وعلى كل حال فصوم يوم عاشوراء وجوبه منسوخ بإجماع العلماء.

وقوله جلَّ وعلا {أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} عَبَّر بالليالي لأنها قبل الأيام، والمقرَّر في فنِّ العربية أن التاريخ بالليالي لأنَّها قبل الأيام، فلما انتهى هذا الميعاد أنزل عليه التوراة، وكتبها له في الألواح كما يأتي تفصيله في سورة الأعراف. وقوله: {ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ} قرأه بعض السبعة: {ثُمَّ تخَذْتم الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ}، وقرأه بعضهم: {ثُمَّ اتخذتُّم الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ} بالإدغام، وأصل الاتخاذ على التحقيق -عند علماء العربية- افتعالٌ من الأخذ أصله ائتخاذ، وإبدال الهمزة تاءً يحفظ ولا يُقاس عليه، وإنَّما المقيس إبدال فاء المثال أعني واويَّ الفاء، أو يائيَّ الفاء كالاتّجاه، والاتّسار، إبدال الواو فيه تاء. أمّا إبدال الهمزة تاءً فهو شاذٌ يحفظ ولا يقاس عليه، كاتَّكل، واتَّزر، واتَّخذ، بناء على الصحيح بأنَّها افتعل من الأخذ. وأصل العجل ولد البقرة، ويجمع على عجاجيل على غير قياس كما عقد مثله في الخلاصة بقوله: وحائدٌ عن القياسِ كلُّ ما ... خالفَ في البابينِ حكمًا رُسما وهذا العجل هو العجل الذي صاغه لهم السامري من حلي القبط المذكور في قوله: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا

لَهُ خُوَارٌ} [الأعراف: 148] , وبيَّنه في سورة طه بقوله: {فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي} [طه: 96] , وحَذَف مفعول الاتخاذ الثاني، وهو محذوفٌ في جميع القرآن وتقرير المعنى: ثم اتخذتم العجل من بعده؛ أي: من بعد موسى لما ذهب إلى الميقات، أي: اتخذتم العجل إلهًا. وهذا المفعول الثاني محذوفٌ في جميع القرآن: {إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ}؛ أي: إلهًا، و {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا}؛ أي: إلهًا، وهذا المفعول الثاني الذي تقديره إلهًا محذوفٌ في جميع القرآن؛ قال بعض العلماء: النكتة في حذفه التَّنبيه بأنه لا ينبغي لعاقل أنْ يتلفظ بأن عجلًا مصطنعًا من حلي أنَّه إله. وقوله: {وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ} جملة حالية؛ يعني اتخذتم العجل، والحال أنكم ظالمون باتخاذكم العجل إلهًا، وأصل الظلم في لغة العرب هو وضع الشيء في غير محله، فكل مَنْ وضع شيئًا في غير محله فقد ظلم في لغة العرب، وأكبر أنواع الظلم -أيْ وضع الشيء في غيرِ محلِّه- وضعُ العبادة في غير محلها، فمَنْ عَبَدَ غير خالق السماوات والأرض فقد وضع العبادة في غير موضعها، ولذا هو ظالم في اللغة.

ولأجل هذا البيان فإن القرآن يُكثِرُ اللهُ جلَّ وعلا فيه إطلاق الظلم على الشِّرك كما قال تعالى: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} وقال: {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ} [يونس: 106] , وقد ثبت في صحيح البُخَارِي عن النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - أنَّه فَسَّر قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82]؛ أي: بشرك. وقالَ جلَّ وعلا عن العبد الصالح لقمان الحكيم: {يَابُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] , هذا معنى الظلم في لغة العرب، ومنه قيل لمن يضرب لبنه قبل أنْ يروب: ظالم؛ لأنه وَضَعَ الضَّرب في غير موضعه؛ لأن ضربه قبل أنْ يروب يضيِّع زبده، وفي لغز الحريري: هل تجوز شهادة الظالم، قال: نعم، إن كان عالمًا. يعني بالظالم الذي يضرب لبنه قبل أنْ يروب، ومن هذا المعنى قول الشَّاعر: وصاحب صدقٍ لم تربني شكاته ... ظلمتُ وفي ظَلْمي لهُ عامدًا أجرُ يعني بصاحب الصدق الذي لم تربه شكاته: سقاءٌ له ضربه قبل أنْ يروب. ومن هذا المعنى قول الشَّاعر: وقائلة ظلمتُ لكم سقائي ... وهل يخفى على العَكِدِ الظليمُ

فقولها: ظلمت لكم سقائي أي: سقيتكموه قبل أن يروب، ولأجل هذا قيل في الأرض التي حفر فيها ولم تحفر من قبل: مظلومة؛ لأنَّ الحفر وقع في غير موضعه، ومن هذا المعنى على التحقيق قول نابغة ذبيان: إلَّا ألأواريَّ لأْيًا ما أبيِّنها ... والنؤيُ كالحوضِ في المظلومةِ الجَلَدِ خلافًا لمن زعم: أن المظلومة: التي أبطأ عنها المطر، ومن هنا قيل للقبر: الظليم؛ لأنه حفر في محل لم يحفر من قبل، ومن ذلك وهو بهذا المعنى قول الشَّاعر: فأصبحَ في غبراءَ بعد إشاحةٍ ... على العيشِ مردودٍ عليها ظليمُها هذا أصل معنى الظلم في لغة العرب وشواهده العربية، وهو يطلق في القرآن إطلاقين: يُطلَق بمعناه الأعظم، وهو وضع العبادةَ في غير مَنْ خَلَق، وهذا أكبر أنواع الظلم، ومنه بهذا المعنى: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 254] , {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ} [يونس: 106] , {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]. وقد يُطلَق الظلم في القرآن أيضًا على ظلم الإنسان نفسه ببعض

المعاصي التي لا تبلغ به الكفر، ومن هذا المعنى قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} الآية [فاطر: 32] ,بدليل قوله في الجميع: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا} الآية [فاطر: 33]؛ لأن هذا أطاع الشيطان وعصى ربه؛ فقد وضع الطاعة في غير موضعها كما قال تعالى: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} [لكهف: 50]. وقوله: {ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} عفونا أصله من العفو من عفت الريح الأثر إذا طمسته، فالعفو هو: طمس الله أثر الذنب بتجاوزه حتَّى لا يبقى له أثر يتضرر به العبد، والإشارة في قوله {ذَلِكَ} إلى اتخاذهم العجل إلهًا، وهو ذلك الذنب العظيم، وأشار إليه إشارةَ البعيد؛ لأن مثل ذلك الفعل يجب أنْ يتباعد منه تباعدًا كليًا. وقوله: {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} قال بعض العلماء: يغلب إتيان "لعلَّ" في القرآن مُشمَّةَ معنى التعليل إلَّا التي في الشعراء: {وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} [الشعراء: 129]، وإتيان "لعل" حرف تعليل مسموعٌ في كلام العرب، ومن إتيان لعلَّ للتعليل قول الشَّاعر:

فقلتُمْ لنا كفُّوا الحروبَ لعلَّنا ... نكفُّ ووثَّقتُمْ لنا كلَّ موثَقِ فلمّا كفَفْنا الحربَ كانت عهوُدكُمْ ... كشِبْهِ سراب بالملا متألِّقِ فهذه ليست للتَّرجي بتاتًا؛ لأنه قال: ووثقتم لنا كلَّ موثق، وقوله: "ووثقتم لنا كل موثق" دلَّ على أنَ المراد: فقلتم لنا كفوا الحروب من أَجل أنْ نكف، ووثقتم لنا كل موثق في وعدكم بالكف المعلل بكفنا، هذا هو التحقيق. وقال بعض العلماء المراد بلعلَّ: اجعلوا ما أمرناكم به من الترجي إنْ وقع ما بعد لعل، وتقريره في هذا المعنى: ثم عفونا عنكم من بعد ذلك، وذلك العفو الذي عفونا عنكم يُرجى من مثلكم فيه أنْ تشكروا ذلك العفو، فتكون للترجي على بابها، والأول لا ينافي الثاني لأنَّا إن قلنا: إنَّها للتعليل، فالمعلّل مرجو الحصول عند وجود علته. وأصل الشكر في لغة العرب: الظهور، ومنه الشكير وهو العُسْلوج الذي يظهر في جذع الجرة التي قطعت إذا أصابها الماء، فظهر فيها عسلوجٌ يسمَى شكيرًا لأنه ظهر بعد أنْ لم يكن، ومنه ناقةٌ شكور يظهر عليها أثر السمن، والشكر يطلق في القرآن من الله لعبده، ومن العبد لربه، ومن إطلاق شكر الربِّ

لعبده قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر:34] {وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 158] ومعنى شكر الرب لعبده هو: إثابته له الثواب الجزيل على عمله القليل. ويطلق الشُّكر من العبد كما في قوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} ومعنى شكر العبد لربه هو أنْ يستعمل نعمه في طاعاته، فهذه الباصرة التي أنعم عليه بها؛ شكرها أنْ لا ينظر بها إلَّا ما يُرضي الله، وهذه اليد الباطشة التي أنعم عليه بها؛ شكرها أنْ لا يبطش إلَّا فيما يرضي الله، وهذا اللسان الذي أعطي له ويفصح عمَّا في ضميره؛ شكره أنْ لا ينطق به إلَّا فيما يرضي، وهكذا في سائر النعم البدنية، والمالية إلى غير ذلك، وهذا معنى قوله: {ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}. وقوله: {وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} "إذْ" معطوف على ما قبله، والأكثر على أنَّه منصوبٌ (باذكر) مقدرةً، وقد بينا مرارًا أن الدليل على عمل هذا العامل -الذي هو اذكر- أنَّه مفهومٌ باستقراء القرآن؛ لكثرة إعمال (اذكر) فيه نحو: {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ} [الأحقاف: 21] , و {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ} [الأنفال: 26] , {وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ} [الأعراف: 86]، وهكذا.

وآتينا معناه أعطينا، والألف فيه مبدلةٌ من همزة فاء الفعل فوزنه أفعلنا، وأصله أَأْتينا، فأبدلت همزة فاءِ الفعل مدًّا مجانسًا لحركة فاء أفعل، على القاعدة التصريفية المجمع عليها المشهورة التي عقدها ابن مالك في الخلاصة بقوله: ومدًّا ابدلْ ثانيَ الهمزين منْ ... كلْمةٍ انْ يسكنْ كآثِرْ وائتمنْ وصيغة الجمع للتعظيم، ومعنى آتينا: أعطينا، وهي تطلب مفعولين، والمفعول الأول لآتينا موسى هو موسى، والثاني الكتاب، وهذه من باب كسا، ومعلومٌ عند علماء العربية أن الفرق الواضح بين باب ظن وباب كسا -مع أنَّ كلًّا منهما تنصب مفعولين- هو أنْ تحذف الفعل من كلا البابين، ثم تجعل المفعولين مبتدأ وخبرًا فإنْ صدقت القضية فهي من باب ظن وإنْ كذبت فهي من باب كسا، وهذا ضابطٌ مطردٌ مفيدٌ لطالبِ العلم، فلو قلت مثلًا ظننت زيدًا قائمًا، وجعلت المفعولين مبتدأً وخبرًا فقلت: زيدٌ قائمٌ كان كلامًا مستقيمًا، هذا من باب ظن بخلاف: كسوتُ زيدًا ثوبًا، وسقيتُ عمروًا ماءً، {وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} لو حذفت الفعل منها، وقلت: زيدٌ ثوبٌ، وعمرو ماءٌ، وموسى الكتابُ فهذه القضيةٌ كاذبة، فدل على أنها من باب كسا، والمراد بالكتاب التوراة بإجماع العلماء، والتحقيق أن المراد بالفرقان هو التوراة أَيضًا.

وقد تقرَّر في فنّ العربية أنَّ الشيءَ الواحد إذا وُصِفَ بصفاتٍ مختلفة يجوز عطفه على نفسه نظرًا لاختلافِ صفاته، وتنزيلا لتغاير الصفات منزلةَ تغاير الذوات، ومن أمثلته في القرآن قوله جل وعلا: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى} [لأعلى: 1 - 4] فالمتعاطفات بالواو مدلولها واحدٌ إلَّا أنها عطفت بحسب تغاير الصفات، ونظيرها من كلام العرب قول الشَّاعر: إلى الملكِ القَرْمِ وابنِ الهُمامِ ... ولَيثِ الكتيبةِ في المُزْدَحَمْ فعطف هذه الصفات بعضها على بعض مع أنَّ الموصوف بها واحدٌ نظرًا إلى تغاير الصفات، والدليل على أن الفرقان كتاب موسى، وأنَّ من زعم: أن المعنى آتينا موسى الكتاب، ومحمدًا الفرقان أنَّه قولٌ باطلٌ؛ بدليل قوله جل وعلا في الأنبياء: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ} [الأنبياء: 48]. وقوله: {وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}؛ أي: لأجل أنْ تهتدوا كما بينا، أو على أنَّ إنزال هذا الكتاب يرجى منه أنْ تهتدوا، ومنه مظنة لذلك، ومحل الرَّجاء في هداكم بهذا الكتاب، وتهتدون معناه: تسلكون طريق الهدى من طاعة الله جل وعلا بامتثال أوامره واجتناب نواهيه. قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ

بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}؛ أي: واذكروا حين قال موسى لقومه بني إسرائيل: يَا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم، أصله يا قومي منادى مضاف إلى ياء المتكلم، وحذفت ياء المتكلم اكتفاء عنها بالكسرة، وفي المنادى المضاف إلى ياء المتكلم إنْ كان صحيحَ الآخر خمسُ لغاتٍ كلها صحيحة أكثرها حذف ياء المتكلم كما في هذه الآية، وتلك اللغات عقدها ابن مالك في الخلاصة بقوله: واجعل منادىً صحَّ إنْ يُضَف ليا ... كعبدِ عبدي عبْدَ عبدًا عَبْديا أصله: يَا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم، قدمنا معنى الظلم بشواهده العربية ومعناه في القرآن، وقد جاء في القرآن في موضع واحد مرادًا به النقص في قوله: {كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا} [الكهف: 33]؛ أي: ولم تنقص منه شيئًا. وهذه الآية تدل على أنَّ من خالف أمر الله إنه إنَّما ظلم بذلك نفسه حيث عَرَّضها لسخط الله وعذابه، فضرر فعله عائدٌ إليه وحده، وذلك أكبر باعث على الانزجار والكف، لأنّ الإنسان لا يحب أنْ يضرَّ نفسه، ولا أنْ يجني عليها فإذا عرف الإنسان أنَّ ضرر فعله إنما هو عائد إليه حاسب.

والباءُ في قوله: {بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ} سببيةٌ يعني: أن اتخاذَهم العجل هو السبب الذي ظلموا به أنفسهم، وقد قدمنا أنَّ الاتِّخاذَ مصدر اتَّخذ، وأنَّ الظاهر أنَّ أصله افتعال من الأخذ، إلَّا أنَّ الهمزة التي هي في محل فائه أبدلت تاءً وأُدغمتْ في تاء الافتعال، وهذا يُحفظ ولا يقاس عليه كما عقده في الخلاصة بقوله: ذو اللينِ فا تا في افتعالِ أبدلا ... وشذَّ في ذي الهمزِ نحوُ ائتكلا واتخاذكم مصدرٌ من فعل يطلب مفعولين، والمصدر هنا مضاف إلى فاعله، والمفعول الأول: العجل، والمفعول الثاني محذوفٌ دائمًا في القرآن، وتقرير المعنى: في اتخاذكم العجل إلهًا محذوفٌ في جميع القرآن، وأن بعض العلماء قال: النكتة في حذفه دائمًا هي التّنبيه على أنَّه لا ينبغي أن يتلفظ بأنَّ عجلًا مصطنعًا من حَلْي إلهٌ. وقوله جلَّ وعلا: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ} الفاء سببيَّة، وقد تقرَّر في فن الأصول في مسلك الإيماء والتنبيه أن الفاء من حروف التعليل، وأنَّ ما قبلها علةٌ لما بعدها، فقوله سها فسجد؛ أي لعلَّة سهوه، وسرق فقطعت يده؛ أي: لعلة سرقته، وظلمتم أنفسكم فتوبوا؛ أي: لعلة ظلمكم {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ} قد قدمنا معنى التوبة واشتقاقها عند أول هذه السورة الكريمة.

وقوله: {إِلَى بَارِئِكُمْ}؛ أي: خالقكم ومخرجكم من العدم إلى الوجود، وقد ذكر جلَّ وعلا أن الخالق البارئ من صفاته، كما قال في أخريات الحشر: {الْخَالِقُ الْبَارِئُ} [الحشر: 24] والخالق اسم فاعل الخلق، والخلق في اللغة: التقدير، والبارئ: هو الذي يفري ما خلق، فمعنى خلَق: قَدَّرَ، ومعنى برأ: أنفذ ما قدَّر، وأبرزه من العدم إلى الوجود، والعرب تسمِّي التقدير خلقًا ومنه قولُ زهير بن أبي سُلمى: ولأنتَ تفري ما خلقتَ وبَعْـ ... ـضُ القومِ يخلقُ ثمَّ لا يفري وكثيرًا ما يطلق الخلق على الإبراز من العدم إلى الوجود، وعلى كل حال فمعنى البارئ: المبدع الذي يبرأ الأشياء أي يبرزها من العدم إلى الوجود، وفي الآية سرٌّ لطيف وهو أنَّ مَنْ أبرز من العدم إلى الوجود هو الذي يستحق أنْ يُعبَد، وأن يتابَ إليه من الأمور؛ لأن عنوان استحقاق العبادة إنَّما هو الخلق فمن يخلق ويُبرز من العدم إلى الوجود هو المعبود الذي يعبد وحده، ويُتنصَّل إليه من الذنوب، ومَنْ لا يخلق فهو مربوبٌ محتاجٌ إلى خالق يخلقه. ولذا كثر في القرآن الإشارة إلى أن ضابط من يستحق العبادة هو الخالق الذي يبرز من العدم إلى الوجود كما تقدم في قوله: {يَاأَيُّهَا

النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} [البقرة: 21]، وكما في قوله {أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [الرعد: 16]، وخالق كل شيء هو المعبود وحده، وكقوله تعالى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ} [النحل: 17]، الجواب: لا، وهذا معنى قوله: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ}، وقرأ هذا الحرف جمهور القُرّاء: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ} وعن أبي عمرو فيه روايتان، عنه قراءة: (إلى بارئْكُم) بإسكان الهمزة، وعنه رواية أخرى رواها عنه الدُّوري باختلاس الهمزة، واختلاس الهمزة هو: تخفيف حركتها حتَّى يأتي ببعض الحركة ولا يأتي بها كاملة، وهذه الرواية الأخيرة أعني رواية الدُّوري عن أبي عمرو هي التي بها الأخذ والمشهورة عند القراء. وما زعمه بعض علماء العربية من أن الرواية الأخرى عن أبي عمرو بإسكان الهمزة في "بارئكم" أنها لحنٌ، وأن حركة الإعراب لا يجوز تسكينها فهو غلطٌ، ولا شك أنَّها لغةٌ صحيحةٌ وقراءةٌ ثابتةٌ عن أبي عمرو، وتخفيف الحركة بالإسكان لغة تميم وبني أسد، ويكثر في كلام العرب إسكانُ الحركة للتخفيف ولاسيما إذا توالت ثلاثُ حركات كما في قراءة الجمهور "بارِئِكُم" بثلاث حركات، ومن تسكين الحركة للتخفيف قولُ امرئ القيس:

فاليومَ أشرَبْ غيرَ مُسْتَحْقبٍ ... إثمًا من الله ولا واغِلِ وعلى هذا التَّخفيف قراءة أبي عمرو: {أَرِنَا اللَّذَيْنِ} [فصلت: 29] وقراءة حفص: {وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ} [النور: 52] وإنَّ هذا السّكونَ إنّما هو تخفيف؛ لأنَّ المحلَّ ليس محل سكون؛ لأنَّ الأصل يتَّقيه، {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا} [البقرة: 128]، ومنه قول الشَّاعر: أرْنا إداوةَ عبدِ اللهِ نملؤُها ... من ماءِ زمزمَ إنَّ القومَ قد ظمئوا وقول الآخر: ومَنْ يتَقْ فإنَّ اللَهَ مَعْهُ ... ورزقُ الله مؤتابٌ وغادِ وقول الراجز: قالتْ سليمى اشترْ لنا سَويقا ... وهاتِ خَبْزَ البُّرِّ أو دقيقا وقوله: {فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} كأنَّهم قالوا: بِمَ نتوب إلى بارئنا توبةً يقبلها منا؟ قيل لهم: {فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ}، أو الفاء للتعقيب لأنّ هذا القتل -عقب الذنب- هو الذي حصلت به التوبة، وأصل القتل في لغة العرب: إزهاق الروح بشرط أنْ يكون من فعل فاعل كالطعن، والضرب، والخنق، وما جرى مجرى ذلك، أما إزهاق الروح بلا سبب من شربٍ أو نحوه، فهو: موت وهلاك،

وقال بعض العلماء: القتل إماتة الحركة، وقد تطلق العرب مادة القاف والتاء والسلام على غير إزهاق الروح، فتطلقه على التذليل، فالتقتيل: التذليل، وتطلق القتل أَيضًا على: إضعاف الشدة. فمن إطلاق التقتيل على التذليل قول امرئ القيس: وما ذرفتْ عيناكِ إلَّا لتَضْربي ... بسهميكِ في أعشارِ قلبٍ مقتَّلِ أي مذلَّل، وقول زهير: كأنَّ عينيَّ في غَرْبَيْ مقتَلَةٍ ... من النواضحِ تَسقي جنةً سُحُقا أي مذلَّلة، وكذلك يطلق القتل على: كسر الشدة، ومنه قتل الخمر بالماء؛ أي: كَسْرُ شدتها بالماء، كما قال حَسَّان - رضي الله عنه -: إن التي ناولتَني فردَدْتُها ... قُتِلَتْ قُتِلْتَ فهاتها لم تُقْتَلِ يعني بقتلها: إضعاف شدتها بمزاجها بالماء. وقوله: {فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} أنفسكم جمع قِلَّة؛ لأنَّ الأفعلة من صيغ جموع القلة، وما يزعمه بعض النحويين والمفسرين من أن مثل هذه الآية جيء فيه بجمع القلة موضع جمع الكثرة؛ هو خلاف التحقيق؛ لأنَّ أنفسكم أضيف إلى معرفة، واسم الجنس مفردا كان أو جمعًا إذا أضيف إلى معرفة اكتسب العموم، والشيء الذي يعم جميع الأفراد

لا يُعقَلُ أنْ يقال فيه: إنَّهُ جمع قلة؛ لأن جمع القلة لا يتعدى العشرة، وهو بعمومه يشمل آلاف الأفراد. فالتَّحقيق الذي حرَّره علماء الأصول في مبحث التخصيص أنَّ جموع القلة وجموع الكثرة لا يكون الفرق بينها البتة إلَّا في التنكير، أما في التعريف فإن الألف واللام تفيد العموم، والإضافة إلى المعارف تفيد العموم، وما صار عامًّا استحال أنْ يقال هو جمع قلة؛ لأن العموم يستغرق جميع الأفراد، هذا هو التحقيق، وهذا معنى قوله: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ} وفي مرجع الإشارة في قوله: {ذَلِكُمْ} وجهان للعلماء لا يكذب أحدُهما الآخر. أحدهما: أنَّه راجع إلى مصدر القتل المفهوم من قوله: {فَاقْتُلُوا}؛ أي: ذلك القتل لأنفسكم خير لكم عند بارئكم، وقد قرَّر علماء العربية أن الفعل الصناعي أعني فعل الأمر أو الفعل المضارع أو الماضي ينحلُّ عن مصدرٍ وزمنٍ، فالمصدر كامنٌ في مفهومه إجماعًا، قال في الخلاصة: المصدرُ اسمُ ما سوى الزمانِ منْ ... مدلوليِ الفعلِ كأمْنٍ مِنْ أمنْ ونحن نرى القرآن يلاحظ المصدر تارةً، ويلاحظ الزمان تارةً،

فمن أمثلة ملاحظته للمصدر: {عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8]؛ أي: العدل الكامن في مفهوم اعدلوا، وتارة يلاحظ الزمن، ومن أمثلة ملاحظته لزمان الفعل الصِّناعي قوله جلَّ وعلا في "ق": {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ} [ق: 20]، فالإشارة بقوله "ذلك" لزمن النفخ المفهوم من بناء الفعل في قوله: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ}. وقال بعض العلماء: الإشارة في قوله: {ذَلِكُم} راجعة إلى شيئين هما: التوبةُ المفهومة من قوله: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ}، والقتلُ المفهوم من قوله: {فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ}؛ وعلى هذا القول فالمعنى ذلكم المذكور من التوبة والقتل، ونظير هذا في القرآن -أي: بأن يكون لفظ الإشارة مفردًا ومعناه مثنّى- قولُهُ جل وعلا في هذه السورة الكريمة: {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} [البقرة: 68]؛ أي: ذلك المذكور في الفارض والبكر، وهذا المعنى معروف في كلام العرب، ومنه قول عبد الله بن الزِّبعرى إن للشرِّ وللخيرِ مدىً ... وكلا ذلك وجهٌ وقَبَلْ أي كلا ذلك المذكور، ولما قال رؤبة بن العجَّاج في رَجزه المشهور:

فيها خُطوطٌ من سوادٍ وبَلَقْ ... كأنَّه في الجلدِ توليعُ البَهَقْ فقيل له: ما معنى قولك كأنه بالتذكير؛ إنْ كنت تريد الخطوط لزم أنْ تقول: كأنَّها، وإنْ كنت تريد السواد والبلق لزم أنْ تقول: كأنهما فلم قلت كأنَّه؟ قال: كأنَّه أي ما ذكر من سواد وبلق. وقوله: {خَيْرٌ لَكُمْ} الظَّاهر أنها هنا صيغة تفضيل، وقد تقرر في فن العربية أن لفظة خير وشر حَذَفَتْ العرب منها الهمزة في صيغة التفضيل لكثرة الاستعمال في الأغلب كما عقده ابن مالك في الكافية بقوله: وغالبًا أغناهمُ خيرٌ وشرٌّ ... عن قولِهِمْ أخيرُ منْهُ وأَشَرّ ووجه كونها هنا صيغة تفضيل أن هذا القتل بهذه التوبة يقطع حياتهم الدنيوية ولكنَّه يُكسبهم حياةً أخروية، وهذه الحياة الأخروية خيرٌ من الحياة الدنيوية، وهذا هو معنى قوله: {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ}؛ أي: ذلك المذكور من توبتكم وقتلكم أنفسكم خيرٌ لكم عند بارئكم من عدمه؛ أي: عند خالقكم ومبرزكم من العدم إلى الوجود. وقوله: {فَتَابَ عَلَيْكُم} معطوف على محذوف دلَّ المقام عليه؛ أي: فامتثلتم ما أُمرتم به وقدمتم أنفسكم للقتل فتاب عليكم،

واختلف العلماء في كيفية هذا القتل الذي أمروا به، قال بعض العلماء: كيفية هذا القتل الذي أمروا به أنَّ مَنْ لم يعبد العجل منهم أمر بأنْ يقتل مَنْ عَبَدَ العجل، وقيل: أُمروا أنْ يقتل بعضهم بعضًا، مَنْ عَبَدَ العجل ومَنْ لم يعبده، وعلى هذا القول فذنب مَنْ لم يعبد العجل أنَّه لم ينههم ولم يغير منكرًا لأنَّ المنكر إذا وقع ولم يغير عَمَّ العذاب، وأظهرُ القولين أن البريء منهم أمر بقتل الذي عَبَدَ العجل. ذكر المفسِّرونَ في قصتهم أنَّهم لما كان الرَّجل ينظر إلى قريبه وأخيه لا يقدر أنْ يتجاسر على قتله، فأنزل الله ضبابًا حتَّى صاروا لا يرى بعضهم بعضًا فوضعوا فيهم السيف حتَّى قتلوا منهم نحو سبعين ألفًا، فدعى موسى وهارون ربَّهما فقبل الله توبتهم، ورفع القتل عن بقيتهم، هذا هو معنى قوله: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} وقد أوضحنا معنى التواب الرَّحِيم في قوله: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 37] بما أغنى عن إعادته هنا. وقوله جل وعلا: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً}؛ أي اذكروا أيضًا حين قلتم لنبي الله موسى: يا موسى

لن نؤمن لك؛ أي: لن نصدّقك فيما ذكرت من أنَّ الله كلمك به، قال بعض العلماء: هم السبعون الذين اختارهم موسى سمعوا الله يكلِّم موسى، فقالوا: لن نصدقك في أن هذا كلام الله حتَّى نرى الله جهرة، والقاعدة باستقراء القرآن: أنَّ لفظ الإيمان إذا عُدي باللَّام معناه عدم التصديق كقوله: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} [يوسف: 17] , أي: بمصدِّقنا، وقوله: {يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} [التوبة: 61]؛ أي: يصدِّق المُؤْمنين، فالمعنى على هذا لن نؤمن لك أي نصدّقك بما ذكرت من أن الله كلّمك، وأمرك، ونهاك، وهذا نفيهم للتصديق غيَّوهُ بغاية يتمادى إليها هي: {حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً}؛ أي: إلى رؤيتنا الله جهرة. وقوله: {جَهْرَةً} فيه وجهان من التَّفسير: أحدهما أنَّه متعلق بنرى، والمعنى نرى الله جهرة أي عَيانًا، وانتصابه على أنَّه مصدرٌ مؤكدٌ لعامله يزيل توهم أنها رؤية منام، أو رؤية علم بالقلب، وقال بعض العلماء هو متعلق بقوله: {قُلْتُمْ}؛ أي: قلتم جهارًا من غير مواربة هذا القول العظيم الشَنيع، وعلى هذا فأظهر القولين فيها أنَّه مصدر منكر حال؛ أي: قلتم هذا القول جهرةً؛ أي: في حال كونكم جاهرين بهذا الأمر العظيم. وقوله: {فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ} الفاء سببية دلت على أنَّ أخذ

الصاعقة إياهم سببُهُ هذا الافتراء العظيم، وامتناعهم من تصديق نبيهم حتَّى يروا الله عيانًا كما قال جلَّ وعلا: {فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} [النساء: 153] , والصَّاعقة تُطلق إطلاقين: تطلق على النَّار المحرقة وعلى الصوت المزعج المهلك، وأكثر إطلاقاتها عليهما معًا: صوت مزعجٌ مشتملٌ على نار مهلكةٍ، وعلى كلِّ حالِ فعلى أنَّهم السبعون المذكورون في الأعراف، فقد بَينَ أنَّ هذه الصاعقة رجفةٌ كما في قوله: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا} [الأعراف: 155]. وعلى كل حال فإنَّ هذه الصاعقة سواء قلنا إنَّها نارٌ محرقة، أو صوتٌ مزعجٌ أهلكهم، أو هما معًا: صوتٌ مزعج أرجف بهم الأرض، فالتحقيق أنَّهم ماتوا، وأنَّه صَعْقُ موتٍ كما صرَّح الله بذلك في قوله: {ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ} أماتهم الله عقابًا لمقالتهم هذه الشنعاء، ثم أحياهم بدعاء نبيهم صلى الله عليه وعلى نبينا - صلى الله عليه وسلم -، خلافًا لمن زعم أن صعقهم هذا صعقُ غشيةٍ قائلًا: إنَّ الصعقَ قد يطلقُ على غير الموت، وذكروا منه قول جرير يهجو الفرزدق:

وهل كان الفرزدقُ غيرَ قرْدٍ ... أصابتْهُ الصواعقُ فاستدارا فقوله: أصابته الصواعق ليس معناه أنَّه مات. والتحقيق أنَّه صعق موتٍ لأنَّه لا أحد أصدق من الله، والله صَرَّحَ أنَّه صعقُ موتٍ في قوله: {ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ} البعث بعد الموت معناه: الإحياء بعد الموت؛ أي: بعد أنْ متم أحياكم الله -عز وجل- إحياء، وعامةُ المفسرين يقولون: إنَّ الزمن الذي مكثوه في هذا الموت أو الغشية على القول الباطل عند مَنْ يزعم أنَّه صعق غشيةٍ لا صعق موت -مدة هذا الصعق الذي في التحقيق أنَّه موت- يومٌ وليلةٌ كما عليه عامة المفسرين إلَّا من شذَّ. وقوله: {وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} جملة حالية، وأصل هذه الجملة فيها إشكال معروف، وهو أنْ يقول طالب العلم: كيف ينظرون أو ينظر بعضهم إلى بعض مع إصابة الصاعقة إياهم؟ وللعلماء عن هذا أجوبة: أظهرها أنّ الصاعقة أصابتهم غير دفعة بل تصيب البعض والبعض ينظر إلى هلاكه، لأنَّ ظاهر القرآن يجب الحمل عليه إلَّا لدليل جازم من كتاب أو سنة، وظاهر القرآن أن هنالك نظرًا لوقوع هذه الصاعقة، وأنَّ الصاعقة وقعت حال نظرهم، ولهذا قال بعض العلماء وهو الأظهر؛ لأنَّه يتمشى مع

ظاهر القرآن، ولا مانع من أنْ تصيب الصاعقة بعضَهُم والبعضُ الآخر ينظر إليه، ثم تصيب بعضًا والبعض الآخر ينظر إليه، وكذلك قال بعض العلماء: إنَّ الله أحياهم متفرقين في غير دفعة واحدة يُحيي بعضهم والبعض الآخر ينظر إليه حين يحييه الله، وهذا معنى قوله: {فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}. قد قدمنا معنى لعل ومعنى الشكر في درس البارحة، وهذه الآية الكريمة فيها دليل جازم على البعث؛ لأنَّ بني إسرائيل هؤلاء هذه الطائفة منهم التي أماتها الله ثم أحياها دليل قاطع على أن الله تعالى قادر على إحياء الموتى، وقد ذكر الله -عَزَّ وَجَلَّ- في هذه السورة خمسة أمثلة لإحيائه الموتى في دار الدنيا هذا أولها. الموضوع الثاني قولُهُ في قتيل بني إسرائيل: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ} [البقرة: 73] , وقوله: {كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى} بَيَّنَ به أنَّ إحياءه قتيل بني إسرائيل في دار الدنيا دليل على البعث، وإحيائه الموتى، وبعثه إياهم بعد أنْ صاروا عظامًا. والموضع الثالث قولُهُ تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ

دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} [البقرة: 243]. والموضع الرابع قولُهُ في عُزيرٍ وحمارِهِ: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا} [البقرة: 259]. وفي القراءة الأخرى: {نَنْشُرُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}. الموضع الخامس طيور إبراهيم المذكورة في قوله: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 260]. قوله جل وعلا: {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} لمّا كان بنو إسرائيل في التِّيه، واشتكوا الحرَّ، دعا نبي الله موسى ربه

لهم فظلل الله عليهم الغمام، والغمام: اسم جنس واحدهُ غمامة، وهو غمام أبيض رقيق يظلهم من الشَّمس، وفي قصتهم: أنَّه إذا كان في الليل ارتفع ليستضيئوا بضوء القمر، وصيغة الجمع في قوله: ظللنا للتعظيم، {وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى} ولما اشتكوا في التيه من الجوع دعا الله نبيهم فأنزل عليهم المنَّ والسلوى، وأكثر علماء التفسير على أن المنَّ: الترنجبيل، وهو شيءٌ ينزل كالندى، ثم يجتمع أبيض حلوًا يشبه العسل الأبيض، هذا قول أكثر المفسرين في المراد بالمن. قال بعض العلماء: ولا يعارض هذا ما ثبت في الصحيح عن النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: "الكمأةُ من المنِّ وماؤها شفاءٌ للعَيْن" قالوا: فمراده - صلى الله عليه وسلم - بقوله: (من المنِّ)؛ أي: من جنس ما منَّ الله به علي بني إسرائيل حيث إنهُ طعام يوجد فضلًا من الله تعالى من غير تعب، وظاهر الحديث أن الكمأة من نفس ما منَّ الله به علي بني إسرائيل في التيه. وقوله: {وَالسَّلْوَى} جمهور المفسرين أو عامة المفسرين على أن السلوى: طير، قال بعضهم: هو السماني، وقال بعضهم: طائر يشبه السماني، وتفسير من فسَّر السلوى بأنه العسل غير صواب، وكذلك ادعاء أنَّ السلوى لا يطلق على العسل في لغة العرب غير

صواب، والتحقيق أنَّ السلوى يطلق في لغة العرب على العسل، ومنه قول الهذلي: وقاسمتُها باللَّهِ جهدًا لأنتمُ ... ألذُّ من السلوى إذا ما نشُورها والشَّورُ: استخراج العسل خاصة، لكن ليس المراد بالسلوى في الآية العسل، وإنما المراد به طائر كما عليه عامة المفسرين هو السماني، أو طائر يشبه السماني. وقوله: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} محكيُّ قولٍ محذوف؛ أي: وقلنا لهم كلوا من طيبات ما رزقناكم كهذا المن والسلوى، وهما طيبان حسًّا ومعنى للذاذة طعمهما، وحِلِّيتهما شرعًا لأنهما من وفضل من الله جل وعلا. {وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} هنا محذوفٌ دل المقام عليه؛ أي: أنعمنا عليهم هذه النعم، فقابلوا نعمنا بعدم الشكر وارتكاب المعاصي، وما ظلمونا بتلك المعاصي التي قابلوا بها نعمنا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون، وقال بعض العلماء: أمروا أنْ لا يدخروا من المنِّ والسلوى فخالفوا أمر الله وادَّخروا وما ظلمونا بذلك الادِّخار المنهي عنه ولكن كانوا أنفسهم يظلمون، والقول الأول أشمل وهو الصواب.

وقوله جل وعلا في هذه الآية: {وَمَا ظَلَمُونَا} فيه الدليل الواضح على أن نفي الفعل لا يستلزم إمكانه؛ لأنَّ الله نفى عنه أنَّهم ظلموه ونفيه جلَّ وعَلا عن نفسه أنَّهم ظلموه لا يدل على أنَّه يمكن أنْ يظلموه، بل نفي الفعل لا يدل على إمكانه. وقوله جلَّ وعَلا: {وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} لكن واقعةٌ في موقعها، والمعنى أن هذا الظلم واقع على أنفسهم حيثما عرَّضوها به لسخط الله جل وعلا وعقابه، فضرر فعلهم عائد إليهم، والله جل وعلا لا تضره معاصي خلقه ولا تنفعه طاعاتهم {فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [التغابن: 6]. وقد بيَّنَ القرآن في آيات كثيرة أن الله جلَّ وعلا لا يتضرر بمعاصي خلقه ولا ينتفع بطاعاتهم كقوله: {إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} [إبراهيم: 8]، وقوله: {فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [التغابن: 6]، وقوله: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر: 15]، وفي صحيح مسلم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربِّه: "يَا عبادي لو أنَّ أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلبِ رجلٍ واحد منكم، ما زاد ذلك في مُلكي شيئًا، يَا عبادي لو أنَّ أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلبِ رجلٍ

منكم، ما نقص ذلك من ملكي شيئًا" الحديث، هذا معنى قوله: {وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}؛ أي: قابلوا نعمنا بالمعاصي وما ظلمونا بذلك ولكن ظلموا أنفسهم بذلك. وقوله جلَّ وعلا: {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا}؛ أي؛ اذكر إذ قلنا، أي: حين قلنا، وصيغة الجمع للتعظيم: {ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ} الصواب الذي عليه أكثر المفسرين أن هذه القرية هي بيت المقدس، وقال جماعة من العلماء: هي أريحا، وعن الضحاك: أنها الرملة، وفلسطين، وتدمر، ونحو ذلك، والتحقيق الذي عليه جمهور المفسىرين أنها بيت المقدس، ويدل عليه قوله تعالى في المائدة: {يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ}. هذه القرية لما زال عنهم التِّيه، ومات موسى وهارون، وكان الخليفة بعدهما يوشع بن نون، وجاءوا وجاهدوهم الجهاد المعروف في التاريخ الذي ردَّ الله فيه الشَّمس ليوشع بن نون، وفتحوا البلد أَمَرَهم الله جلَّ وعلا أنْ يشكروا هذه النعمة بقولٍ يقولونه وفعلٍ يفعلونه، فبدَّلوا القول الذي قيل لهم بقول غيره، وبدَّلوا أَيضًا الفعل الذي قيل لهم بفعل غيره، وتقرير المعنى: {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ} فكلوا من هذه

القرية حيث شئتم، "حيث": كلمة تدلُّ على المكان كما تدل "حين" على الزمان ربما ضمنت معنى الشرط، وهي تعمُّ؛ أي: في أيِّ مكان من أمكنة هذه القرية شئتم. وقوله: {رَغَدًا} نعتٌ لمصدر محذوف؛ أي: أكلًا رغدًا واسعًا لذيذًا لا عناء فيه ولا تعب، وهذا الذي أبيح لهم هنا الذي يظهر أنَّه يدخل فيه ما طلبوه؛ أي: طلبوا نبيهم موسى أنْ يدعو الله لهم أنْ يعطيهم إياه الآتي في قوله: {لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا} [البقرة: 61] , الظاهر أن الله لما قال لهم: {اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ} وفتح عليهم هذه القرية قال لهم: {ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا} [البقرة: 58] , وأنّه يدخل في ذلك ما طلبوه أيام التيه من البقول، والفوم، والعدس وما ذكر معها. ثم إنَّ الله جلَّ وعلا أمرهم بفعل وقول شُكرًا لنعمة الفتح وهو قوله: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا}؛ أي: ادخلوه حال كونكم سُجَّدًا والسُّجد جمع ساجد، والفاعل إذا كان وصفًا من جموع تكسيره المعروفة جموع الكثرة أنْ يجمع على فُعَّل كساجد وسُجَّد، وراكع ورُكَّع، قال بعض العلماء هو سجود على

الجبهة، والمعنى إذا دخلوا الباب سجدوا؛ أيِ: ادخلوه في حال كونكم سجدًا، أي: عندما تدخلون تتصفون بحالة السجود. وقال بعض العلماء: هو سجود ركوع وانحناء؛ تواضعًا لله، وشكرًا على نعمة الفتح، وقد يفهم من هذا أن نعمة الفتح ينبغي أن تشكر لله تعالى، ولمَّا فتح النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - مكة صلى الضحى ثمان ركعات، وكان العلماء يرونها صلاة شكر على ما أنعم عليه به من الفتح والله تعالى أعلم، وهذا معنى قوله: {وَادْخُلُوا الْبَابَ}؛ الباب واحد الأبواب، وألفه الكائنة في موضع العين مبدلة من واو بدليل تصغيره على بُوَيْب وجمعه على أبواب، وسجَّدًا: حال من الواو في ادخلوا؛ أي: حال كونكم سجدًا لله شكرًا على نعمة الفتح، وقال بعض العلماء: هو سجود انحناء وتواضع، ومنهم مَنْ شذَّ فزعم أنَّه مطلق التواضع لله، والسجودُ وإنْ كان في لغة العرب قد يطلق على مطلق التواضع فليس هو المراد في الآية. وقوله: {وَقُولُوا حِطَّةٌ} هذا القول الذي قيل لهم أَيضًا، وحطّة: فِعْلة من الحط، والحط معناه: الوضع، وهي خبر مبتدأ محذوف ومتعلقها محذوف، وتقرير المعنى للإيضاح: وقولوا مسألتنا لربنا حطة؛ أي: غفران لذنوبنا، وحطٌّ؛ أي: وضعٌ لأوزارنا عن

ظهورنا، فهو لفظ عربي فصيح، هذا هو القول الذي قيل لهم، أمرهم الله أنْ يدخلوا سجّدًا متواضعين، وأنْ يقولوا قولًا هو استغفار وطلب لحطِّ الذنوب، وهذا معنى قوله: {وَقُولُوا حِطَّةٌ}. وقوله: {نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ} فيه ثلاث قراءات سبعيّات؛ قَرَأَهُ نافع المدني: {يُغْفَرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ} بالياء المضمومة، وفتح الفاء مبنيَّة للمفعول، وإنّما جاز تذكيره والإتيان بالياء؛ لأن تأنيث الخطايا غير حقيقي؛ ولأنه فصل بينه وبين الفعل فاصل وهو لكم، والفصل يبيح ترك التاء كما تقدم، وقرأه الشامي ابن عامر: {تُغْفَرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ} بضم التاء، وفتح الفاء مبنية للمفعول، وخطاياكم نائب عن الفاعل في كلتا القراءتين، وقرأه غيرهما من القراء: {نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ} خطاياكم في محلِّ نصب على المفعول به، ونغفِر بكسر الفاء مبنية للفاعل، وقراءة الجمهور أشدُّ انسجامًا بالسياق لأنَّ الله قال قبلها {وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} وقال بعدها: {وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ} بصيغة التَّعظيم فقراءة الجمهور أشدُّ انسجامًا بالسياق من قراءة نافع وقراءة ابن عامر. والخطايا جمع الخطيئة، والخطيئة الذنب العظيم الذي يستحق صاحبه التنكيل؛ أي: نغفر لكم ذنوبكم العظيمة،، ثم قال جلَّ وعلا: {وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ}.

للعلماء في تفسير المحسنين هنا أقوال، والحقُّ الذي لا ينبغي العدول عنه أنْ لا يُعدل بتفسيرها عن تفسير النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو قوله لمَّا سأله جبريل عن الإحسان: "هو أنْ تعبد الله كأنك تراه، فإنْ لم تكن تراه فإنه يراك" يعني الذين كانوا أشدَّ مراقبةً لله في أعمالهم سيزيدهم الله إيمانًا لأن الإنسان كلما ازدادت تقواه لله جلَّ وعلا زاده الله كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى} [محمد: 17]، معناه: وسنزيد المحسنين منكم؛ أي: الذين هم أشد مراقبة لله سنزيدهم من الخير والإيمان، وقال بعض العلماء: سنزيد في جزاء أعمال المحسنين؛ لأن العمل الذي يراقب صاحبُهُ الله قد يكون ثوابه أكثر ممن هو أقل منه مراقبة. ثم قال جلَّ وعلا: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} وفي الكلام حذف الواو وما عطفت، وحذف المتعلق، وتقرير المعنى: فبدَّل الذين ظلموا قولًا غير الذي قيل لهم بقول غيره، وبدَّلوا فعلًا غير الذي قيل لهم بفعل غيره، القول الذي قيل لهم هو: {حِطَّةُ} فبدلوه بقول غيره وقالوا: حبّة في شعرة، وقال بعض العلماء: قالوا حنطة في شعيرة، وثبت في الصحيح أن القول الذي بدلوه حبة في شعرة، وفي بعض روايات الحديث: حنطة في شعيرة، وعلى كلٍّ فقد بدَّلوا هذا القول الذي

قيل لهم بقولٍ غيره كما بدَّلوا الفعل الذي قيل لهم بفعل غيره؛ لأنَّ الفعل الذي أمروا هو: ادخلوا الباب سجَّدًا فبدلوه بفعل غيره، فدخلوا يزحفون على أستاههم، وهذا من كفرهم عياذًا بالله، وما قاله بعض العلماء: من أنَّ هذه الآية الكريمة يؤخذ منها عدم نقل الحديث بالمعنى لأنَّ الله ذمَّ من بدل قولًا بقولٍ غيره، فيلزم أنْ يكون القول هو نفس ما أمر به لا قولا آخر، غير صواب. ويجاب عنه: بأنَّ القول المأمور به له حالتان: إمّا أنْ يكون متعبدًا بلفظه كالله أكبر في الصلاة، وما جرى على ذلك من العبادات القولية، فمثل هذا لا يجوز تبديله ومَنْ بدّله يلحقه من الوعيد ما لحقه بقدر ما ارتكب في قوله: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} ولا يجوز تبديله. أمّا الذي لم يتعبد بلفظه فلا مانع من أنْ يبدَّل بلفظ يؤدِّي معناه إذا لم يكن هناك تفاوتٌ في المعنى، وجماهير العلماء من المسلمين قديمًا وحديثًا على جواز نقل الحديث بالمعنى إذا كان ناقله بالمعنى عارفًا باللسان متبحرًا فيه، لا تخفى عليه النكت والتفاوت الذي يكون بين الألفاظ، ونَقَلَه بعبارةٍ ليست أخفى من نص الحديث، ولا أظهر من نص الحديث، فلا يجوز نقله بلفظ أظهر منه، قال بعض العلماء: لأنَّه قد يعارضه حديث آخر والظهور من

المرجحات بين النصوص المتعارضة، فيظن المجتهد أنَّ لفظ الراوي الظاهر الذي بَدّله بلفظ هو أقل منه ظهورًا أنه من لفظ النبي فيرجِّحه بهذا الظهور على حديث آخر، فيكون استناد هذا الترجيح مستندًا لتصرف الراوي، وهذا مما لا ينبغي. وعلى كلِّ حال فمسألة نقل الحديث بالمعنى مسألة معروفة في الأصول وعلوم الحديث، منعها قومٌ واستدلوا بالحديث أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لما سمع الرجل قال: "ورسولك الذىِ أرسلت" ردَّ عليه وقال: "ونبيك الذي أرسلت"، ولا شك في أنَّ اللفظ لا يقوم مقامه اللفظ الذي تصرف به الراوي لأنَّ (ونبيك الذي أرسلت) واضحٌ بليغ لا تكْرير فيه؛ لأنَّ النبي قد يكون مرسلا، وقد يكون غير مرسل، والرسول مرسلُ قطعًا فيكون: (ورسولك الذي أرسلت) تكرارًا يعني لأنَّ الذي أرسلت معناه يؤديه: (رسولك)، أما (ونبيك الذي أرسلت) فيكون كلُّ من الكلمتين عمدة وتأسيسًا لا لغوًا، والحاصل أنَّ المعروف أنَّ الجمهور من العلماء على جواز نقل الحديث بالمعنى إذا وثق الراوي أنه لم يزد في معناه ولم ينقص، وأنَّ قومًا منعوا ذلك، وأنَّ الآية لا دليل فيها لذلك البتة، لأنَّهم إنَّما بدَّلوا قولا منافيًا في المعنى ممنوع بإجماع المسلمين، وليس مما فيه الخلاف، إنَّما الخلاف في تبديل

الألفاظ مع بقاء المعنى، وإنْ بدَّلوا اللفظ بلفظ لا يؤدي معناه ونريد أن يقولوا حطة، فقالوا: حبة في شعرة أو حنطة في شعيرة، فالقول الذي بدَّلوا به ليس معناه معنى القول الذي أُمروا به، فكأنهم رفضوه بتاتًا وعصوا الله، وجاءوا بما لم يؤمروا لا لفظًا ولا معنى، فإن الذي بدلوا به أنهم أُمروا بالسجود فدخلوا يزحفون على أستاههم. وقوله: {فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} الفاء سببية وصيغة الجمع للتعظيم؛ أي: فبسبب تبْدليهم القول الذي قيل لهم بقول غيره والفعل الذي قيل لهم بفعل غيره أنزلنا عليهم، وانَّما أظهر في محل الإضمار، قال: {فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} ولم يقل فأنزلنا عليهم؛ ليسجِّل عليهم موجب هذا العذاب وأنه الظلم، ولذا عدل عن الضمير إلى الظاهر قال: {فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} ليبين أنَّ هذا الرجز منزل عليهم بسبب ظلمهم، والضمير لا يعطي هذا وإنْ كان معناه يؤدي المعنى في الجملة، وهذا معنى فأنزلنا على الذين ظلموا؛ أي: ظلموا أنفسهم بتبديل القول بقول غيره والفعل بفعل غيره {رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ} الرجز: العذاب، وهذا العذاب طاعون أنزله الله عليهم. قال العلماء: أهلك الله به منهم سبعين ألفًا.

وقوله: {بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [البقرة: 59] الباء سببيةٌ وما مصدريةٌ؛ أي: بسبب كونهم فاسقين، والفسق في لغة العرب: الخروج، ومنه قوله جلَّ وعلا: {إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف: 50]؛ أي: فخرج عن طاعة ربه، والعرب تقول فسقت الرطبة من قشرتها إذا خرجت، وفسقت الفأرة إذا خرجت من جحرها للإفساد. وكون الفسق يطلق على الخروج معروفٌ في كلام العرب ومنه قول رؤبة بن العجاج: يهوينَ في نجدٍ وغورًا غائرًا ... فواسقًا عن قصدِها جوائرا قوله: فواسقًا عن قصدها؛ أي: خوارج عن طريق القصد إلى طريق آخر، وقال بعض العلماء: إنَّما كرَّر لفظ الظلم في قوله: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا} {فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} لأنَّ هذا الفعل الذي هو ظلمهم ذكْرُهُ له أهمية في السِّياق؛ لأنَّهم ظلموا في الوقت الذي أنعم الله عليهم، وعصوا أمر ربِّهم، ومن عادة العرب إذا كان الأمر له أهمية أنْ تكرره، سواء كانت أهميتُهُ من جهة خَيْرٍ أو أهميتُهُ من جهة شَرٍّ، كما قال الشاعر: ليتَ الغرابَ غداةَ ينعبُ دائمًا ... كان الغرابُ مقطَّعَ الأوداجِ

لأنَّ الغُرابَ لما نعب ببَيْنِ أحبته صار الغراب له أهمية عنده فكرَّر لفظه، ومنه قول الآخر: لا أرى الموتَ يسبقُ الموتَ شيءٌ ... نَغَّصَ الموتُ والغنى والفقيرا لمّا كان له أهمية بقطع الحياة كرَّره، ونظائر هذا كثيرة في كلام العرب. وعلماء البلاغة يقولون: إنَّ إعادة قوله: ظلموا في قوله: {فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} ليسجِّل عليهم الذنب الذي بسببه أنزل عليهم العذاب كما قدمنا والله تعالى أعلم. وقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} قرأ هذا الحرف جمهور القراء: {هزُؤًا} بضَمِّ الزاي والهمزة، وقَرَأَهُ حمزة: {هُزْءًا} فهي لغةُ تميم وأسد وقيس، وقرأه حفص عن عاصم: {هُزُوًا} بإبدال الهمزة واوًا. ومعنى قوله جَلَّ وعلا: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} كما ذكره المفسرون: أنه قُتِلَ في بني إسرائيل قتيلٌ كما يأتي في قوله: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا} يزعمون اسم القتيل عاميل، قال بعضهم: كان له قرباء فقراء، وهو غني فقتلوه ليرثوه،

وقيل: كانت تحته امرأةٌ جميلةٌ فقتله بعض الناس ليتزوجها، والأول أكثر قائلًا. وعلى كلِّ حال الذين قتلوا القتيل ادَّعوه على غيرهم، وسألوا من نبي الله موسى أنْ يسأل الله لهم ليُبيِّنَ لهم قاتل القتيل، فأمرهم الله جلَّ وعلا على لسان نبيه أنْ يذبحوا بقرة، ويضربوا القتيل بجزءٍ منها فيحيا القتيل ويخبرهم بقاتِلهِ، وهذا معنى قوله: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى} أي: حين قال موسى لقومه لمَّا ادَّارؤوا في القتيل وتدافعوه - كلٌّ يدفع قتله عن نفسه إلى غيره: إن الله جلَّ وعلا يأمركم أنْ تذبحوا بقرة، وتضربوا القتيل ببعضها فيحيا ويخبركم بقاتله، وقرأ هذا الحرف جماهير القُرَّاء: {يَأْمُرُكُمْ} بضمّةٍ مشبعة على القياس، وَقَرَأَهُ أبو عمرو: {يأمُرْكم} بإسكان الراء، وزاد عنه الدُّوري باختلاس الضمّة، وقد قدمنا وجه ذلك في قوله: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ}. وقوله: {أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} المصدر المنسبك من أنْ وصلتها هو متعلق الأمر وأصل أمر تتعدى بالباء، والأصل يأمركم بأنْ تذبحوا بقرة؛ أي: بذبح بقرة وضرب القتيل بجزء منها، كما عُدِّيَ بالباء في قوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} [النحل: 90]، والمصدر المُنسبك من أنْ وصلتها مجرورٌ بحرف محذوف، وحذف هذا الحرف قياسٌ مطردٌ كما عقده في الخلاصة بقوله:

وعَدِّ لازما بحرفِ جَرِّ ... وإنْ حُذفْ فالنصبُ للمُنْجَرِّ نقلا وفي أنَّ وأنْ يطردُ ... مَعْ أمنِ لبسٍ كعجبتُ أنْ يَدوا ولطالب العلم هنا سؤالٌ، وهو أنْ يقول: عرفنا أنَّ المصدر المنسبك من أنْ وصلتها المجرور بالباء المحذوفة في قوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً}؛ أي: يأمركم بأنْ تذبحوا بقرة، فهذا المصدر بعد حذف الباء هل محله الجر بالباء المحذوفة أو محله النصب لمّا نُزع الخافض؟. الجواب: أنَّ جماهير النحويين على أنَّه في محلِّ نصب، وأنه لو عُطف عليه لنصب على اللغة الفصحى، وخالف في هذا الأخفش فقال: إنَّ محله الجر، واستدل على أنَّ محله الجر بأنه سُمع عن العرب خفض المعطوف عليه في قول الشاعر وما زُرتُ ليلى أنْ تكونَ حبيبةً ... إليَّ ولا دَيْنٍ بها أنا طالِبُهْ فخفض قوله: (ولا دينٍ) بالعطف على المصدر المنسبك من أَنْ وصلتها المجرور بحرف محذوف، وتقرير المعنى: وما زرت ليلى أن تكون حبيبةً أي لكونها حبيبةً ولا لدينٍ بها أنا طالبه. وأجاز سيبويه الوجهين: أنَّ محله الكسر والعطف عليه بالخفض، وأنَّ محله النصب والعطف عليه بالنصب.

وأجاب الجمهور عن البيت الذي أورده الأخفش: بأنَّ الخفض فيه من عطف التوهم، وعطف التوهم يكفي فيه مطلقُ توهم جواز الخفض، وعطف التوهم مسموعٌ في كلام العرب ومن أمثلته قول زهير: بَدَا ليَ أَني لستُ مدركَ ما مضى ... ولا سابقٍ شيئًا إذا كانَ جائيا فالرواية نصبُ مدرك وخفضُ سابقٍ، والمخفوض معطوفٌ على المنصوب وهو عطف توهم، أعني توهم الباء في خبر ليس؛ لأنَّ قوله: (لست مدرك) يجوز فيه لست بمدرك ولا سابق، كما قال: وبعدَ ما وليس جَرَّ البا الخَبَرْ ... . . . . . فتوهم الباء بمطلق الجواز وعطف عليه خفضًا عطف توهم ونظيره قول الآخر: مشائيمُ ليسوا مصلحينَ عشيرةً ... ولا ناعبٍ إلا ببينٍ غُرابُها بخفض ناعبٍ عطفًا على مصلحين، لتوهُّم جواز دخول الباء، قالوا من ذلك: وما زرتُ ليلى أنْ تكون حبيبةً ... إليَّ ولا دينٍ بها أنا طالبُهْ لتوهم اللام.

وقوله جلَّ وعلا: {أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} الذبح معروفٌ، وبقرة قال بعض العلماء: تاؤه للتأنيث وذكره يسمى ثورًا، وقال بعض العلماء: هي تاء الوحدة، والبقر يطلق على ذكره وأنثاه، وهذه الآية الكريمة تدل بظاهرها على أنهم لو ذبحوا أي بقرة لأجزأت، ولكنهم شدَّدوا على أنفسهم فشدَّد الله عليهم. وقوله جلَّ وعلا: {قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا}؛ أي: قال قوم موسى لموسى -لمَّا قال لهم: إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة-: أتتخذنا هزؤًا، أي مهزوءًا منَّا من قبلك؛ لأن قولنا لك: ادع لنا ربك يبين لنا قاتل القتيل، فتجيبنا بقولك: إنَّ الله يأمركم أنْ تذبحوا بقرة، فهذا الجواب غير مطابق للسؤال!! فكأنك تستهزئ بنا وتسخر منا، ولم يفهموا أن المراد بذبح البقرة أن القتيل يُضْرَبُ بجزءٍ منها فيحيا بإذن الله، فيخبرهم بقاتله. فقال نبي الله موسى: {أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} أعتصم وأتمنع بربي أنْ أكون من الجاهلين، الجاهلون جمع جاهل وهو الوصف من جَهِل، وأحسنُ تعاريف الجهل عند علماء الأصول أنه: انتفاءُ العلم بما من شأنه أن يُقصد ويعلم، وللعلماء فيه أقوال متعددةٌ ومحلُّ ذكرها في فن الأصول.

والمعنى أن نبي الله استعاذَ بربِّه جلَّ وعلا من أنْ يكون معدودًا في عداد الجاهلين، وهذه الآية تدلُّ على أن مَنْ يستهزئ من الناس أنه جاهل لأن نبي الله موسى استعاذ بالله من أن يكون اتخذهم هزؤًا كما قالوا، ولذا قال: أعوذ بالله أنْ أكون من الجاهلين، ولمّا علموا أنَّ الأمر من الله جِدُّ، وأن الجواب مطابقٌ لسؤالهم، وأن المراد بذبح البقرة أنْ يُضْرَبَ القتيل بجزء منها فيحيا ويخبرهم بقاتله، تعنتوا وأكثروا الأسئلة فشددوا على أنفسهم فشدَّد الله عليهم. قالوا مخاطبين نبيهم: يا موسى {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ}؛ أي: اسألْ لنا ربك يبين لنا ما هي، المراد بقولهم {مَا هِيَ} هنا يعنون ما سِنُّها؛ لأنَّ السؤال يوضحُهُ الجواب حيث قال لهم نبي الله موسى: {قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ}؛ أي: البقرة التي سألتم عنها بقرة لا فارض ولا بكر، عوان خبر مبتدأ محذوف، والمعنى لا فارضٌ ولا بكر هي عوانٌ بين ذلك. الفارض المسنَّة التي طعنتْ في السنِّ، وكلُّ طاعنٍ في السنِّ تسميهِ العربُ: فارضًا، وكل قديم تسمِّيه: فارضًا، ومن أمثلته في كلام العرب قول خفاف بن ندبة السُّلمي يهجو العباس بن مرداس، وقيل القائل علقمة بن عَوْف: لَعَمْري لقد أعطيتَ جارَكَ فارضًا ... تُساقُ إليهِ ما تقومُ على رجْلِ

ولم تعطهِ بكرًا فيرضى سمينةً ... فكيفَ تُجازى بالمودةِ والفضلِ ومن إطلاق العرب الفارض على ما تقادم عهدُهُ قول الراجز: يا رُبَّ ذي ضِغْنٍ علي فارضِ ... لهُ قروءٌ كقروءِ الحائضِ يعني بالضغن الفارض أنه تقادم وطالت سنُّهُ، قال بعض العلماء: ومنه قول الآخر: شَيبَ أصداغي فَرأسي أبيضُ ... محافلٌ فيها رجالٌ فُرَّضُ أي طاعنون في السِّن، والأظهر أن قول هذا الراجز: بها رجال فرض؛ أي: ضخامُ الأبدان؛ لأن العرب تطلق الفارض أيضًا على الضخم العظيم جدًا. وقوله: {وَلَا بِكْرٌ} البكر هي التي لم يفتحلها الفحل لصغرها، وقال بعض العلماء: البكر التي وَلَدت مرة، ولكن المراد هنا التي لم يفتحلها الفحل لصغر سنها، والمعنى: ليست هذه البقرة التي أُمرتم بذبحها بطاعنة في السن فارض ولا بصغيرة جدًا لم يفتحلها الفحل، بل هي عوانٌ بين ذلك. والعوان النصَف؛ أي: لا طاعنة في السن ولا صغيرة جدًّا، والعوان النصَف، وأصل النّصف التي انتصف عمرها وهي

متوسطة في السن ليست كبيرة جدًا ولا صغيرة جدًا، وكل متوسطة في السن نصف تسميها العرب عوانًا، وهذا معنى معروف في كلام العرب ومنه قول الطرِمَّاح: قال: حَصَانُ مواضعِ النُّقبِ الأعالي ... مواعنُ بينَ أبكارٍ وعُونِ يعني بالأبكار جمع بكر، وهي الصغيرة التي لم تتزوج، والعون جمع عوان وهي النصف، والنصف التي انتصف عمرها فهي في وسط سنها ليست بكبيرة جدًا ولا بصغيرة جدًا، ومنه قول كعب بن زهير: شَدَّ النهارُ ذراعا عيطلِ نصفٍ ... قامتْ فجاوبها نُكْدٌ مثاكيلُ وفَسَّرَ بعض الأدباء في شعره النصف بالتي انتصف عمرها حيث قال: وإنْ أتوكَ وقالوا إنها نَصَفٌ ... فإن أطيبَ نصفَيها الذي ذَهَبا وقوله: {بَيْنَ ذَلِكَ} فيه سؤالٌ معروف، وهو أن (ذلك) إشارةٌ إلى مفردٍ مذكرِ كما قال في الخلاصة: بذا لمفردٍ مذكرِ أشرْ ... . . . . . و {بَيْنَ} لا تضاف للمفرد إلَّا إذا أُريدت أجزاؤه، والجواب: أنَّ ذلك وإنْ كان لفظه مفردًا فمعناه مثنّى؛ لأنَّ الإشارة راجعة إلى ما

ذكر من الفارض والبكر أي بين ذلك المذكور من فارض وبكر: لأنَّ العوان أصْغر من الفارض وأكبر من البكر، ونظير هذا من كلام العرب قول ابن الزبعرى كما تقدم: إنَّ للشَّرِّ وللخيرِ مَدىً ... وكلا ذلك وجهٌ وقَبَلْ أي: وكلا ذلك المذكور من خير وشر؛ لأن كلا لا تضاف إلا لمثنى لفظًا أو معنى وهذا معنى قوله: {عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ} الأصل ما تؤمرون به فحذف الباء فوصل الفعل إلى الضمير فحُذف. وهذا الذي يؤمرون به هو ذبح البقرة فيضرب القتيل ببعضها فيحيا، وهذا معنى قوله: {فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ} فزادوا تعنُّتًا وسؤالًا وتشديدًا فشدَّد اللهُ عليهم أيضًا: {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا} ادع لنا ربك يُبَيِن، {يُبَيِّنْ} بهذه المواضع مجزومٌ بجزاء الأمر، والفعل المضارع المجزوم بجزاء الطلب يقول المحققون من علماء العربية: إنَّه مجزوم بشرط مقدر دَلَّ عليه الأمر، وتقرير المعنى: إنْ تدع لنا ربك يبين لنا ما لونها، اللون: هي إحدى الكيفيات التي يكون عليها الجِرْمُ كالسَّواد والبَياض، يعني ما اللون الذي هي متلَوِّنَةٌ به.

{قَالَ إِنَّهُ}؛ أي: ربكم جلَّ وعلا يقول: {إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ}؛ أي: متلونة بلون الصُّفرة، والتحقيق أنَّ المراد بالصُّفرة هنا: الصفرة المعروفة، وما ذهب إليه بعض أهل العلم من أنَّ المراد بالصفرة: السَّواد؛ مردودٌ من وجهين: أحدهما: أئه أكَّدَ الصفرة بقوله: فاقعٌ لونُها والفُقوع لا يوصف به إلّا الصفرة الخالصة تمامًا. ثانيهما: أنَّ العرب لا تطلق الصُّفرة وتُريد السَّواد إلَّا في الإبل خاصة دون غيرها كما يأتي في تفسير قوله: {أنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ} [المرسلات: 32 - 33] والجمالة جمع جمل، والمراد بالصفر هناك السود؛ لأن شَرَرَ نار الآخرة أسود، والعرب إنَّما تطلق الصفرة على السَّواد في الإبل خاصة دون غيرها من سائر الحيوانات، ومن إطلاق العرب الصفرة على سواد الإبل قول الأعشى: تلك خَيلي منهُ وتلك ركابي ... هُن صفرٌ أولادها كالزَّبيبِ يعني بقوله: (صفر) سودًا، والتحقيق أنَّ المراد بالصفرة هنا هو الصفرة المعروفة.

وقوله: {فَاقِعٌ لَوْنُهَا} هذا نعتٌ سببي، والتحقيق في إعراب {لَوْنُهَا} أنه فاعل لقوله: فاقعٌ، وأنَّ فاقعٌ نعتٌ سببي لقوله: {بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا}، ولونها فاعلٌ لقوله: فاقع، وقال بعض العلماء: لونها مبتدأ مؤخر، وفاقع خبرٌ مقدم، وجملة المبتدأ والخبر في محل النعت؛ أي: بقرة صفراء لونها فاقع؛ أي: صفرتها خالصة جدًا. وقوله: {تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} أي يدخل السرور على من نظر إليها لكمالِ حُسنها، وذكروا في قصتها أنَّ الشمس تتوضح في جلدها لشدة حسنها، وعادةً إذا نظر الإنسان إلى شيء جميل سَرَّهُ النظر إلى ذلك الشيء الجميل، ولذا قال جلَّ وعلا: {تَسُرُّ النَّاظِرِينَ}. وقوله: {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ} فالسؤال الأول: عن سنها وهل هي كبيرة أو صغيرة أو متوسطة، والسؤال الثاني: عن لونها وقد تقدم الجواب فيهما، والسؤال الثَّالث: عن صفتها هل هي مُذَلَّلَة مُرَوَّضة عاملة، أو هي صعبة غير مروضة، وهل فيها لون يخالف لون جلدها الآخر، ولذا أجابه بما يأتي: {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا} يعنون: هذه الأوصاف كثيرةٌ في البقر، فيكثر في البقر الصفرة والفقوع والتوسط في السِّن، فلم تتميز لنا هذه البقرة من غيرها من البقر للاشتراك في الصفات.

وأفرد الضمير في {تَشَابَهَ} وذلك يدل على أن أسماء الأجناس يجوز تذكيرها وتأنيثها، وقراءة الجمهور هنا {تَشَابَهَ} هو أي: البقر بصيغة الماضي وتذكير الضمير لأن البقر جنسٌ يجوز تذكيره وتأنيثه، وفي بعض القراءات: {تَشَابَهَ عَلَيْنَا}، وأصله تتشابه هي؛ أي: البقر فأَدغم التاء في التاء، وهذه قراءةُ شاذة، والبقر يجوز تذكيره وتأنيثه، وهو اسم جنسٍ يقال فيه باقر، وبيقور، وفيه لغاتٌ غير ذلك ومن إطلاقه على البَيْقور قول الشاعر: أجاعلٌ أنت بيقورًا مسلَّعة ... ذريعة لك بينَ اللهِ والمَطَرِ قيل سُمِّيَ البقر بقرًا لأنه يبقر الأرض يعني بحيث يشقها للحرث. وهذا معنى قوله: {إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ} مفعول المشيئة محذوف، وتقرير المعنى: وإنَّا لمهتدون إنْ شاء الله هدايتنا، ففصل بين اسم إن وخبرها، وحذف مفعول (إنْ شاء) لدلالة المقام عليه، وتقرير المعنى: وإنا لمهتدون إلى نفس البقرة المطلوبة إنْ شاء اللهُ هدايتنا إليها، وذكر عن ابن عباس أنَه قال: لو لم يقولوا إنْ شاء الله لما اهتدوا إليها أبدًا. {قَالَ إِنَّهُ} أي: ربكم جَلَّ وعلا يقول: {إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ}

الذلول هي التي ذُلِّلَت بالرياضة حتى صار يعمل عليها؛ أي: يحرث عليها ويُستقى، تقول العرب مثلًا: هذه دابة ذلول بينة الذِّل بالكسر، ورجلٌ ذليل بيِّنُ الذُّل بالضم، إنَّها بقرة لا ذلول؛ أي: لم تذلل بالرياضة بلْ هي صعبة متوحِّشة. وقوله: {لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ} يعني لم تذلل ليست بذلول مُرَوَّضة، ولا تثير الأرض أي لا يحرث عليها لأن البقر تثارُ عليها الأرض للحرث، وهذه البقرة لم تذلل بالرياضة ولم تثر أرض الحرث لصعوبتها وتوحشها، فليست مروضة يعني ليست ممَّا يحرث عليه ولا مما يُستنى عليه لسقي الزرع لأنها صعبة متوحشة، وهذا هو التحقيق أن تثير وتَسقي كلها معطوفاتٌ على النفي فهي منتفية، والمعنى لا ذلول ليست مذلَّلة مروَّضة تثير الأرض للحرث، ولا تسقي الحرث أيضًا لأنها صعبةٌ متوحشة، خلافًا لمن زعم أنَّ تثير الأرض مستأنفٌ، والذين قالوا تثير الأرض يرد قولهم أنَّه قال: لا ذلول، والمروضة للحرث ذلول. وأجاب بعضهم: أن المراد بتثير الحرث تثير الأرض؛ أي: تثيرها بشدة وطء أظلافها لنشاطها وقوتها، وهذا خلاف الظاهر بل معنى الآية أن من صفات هذه البقرة: أنها غير مروضة وغير مذللة فليست تثير الأرض لأنها لم تذلل لذلك ولا تسقي الحرث ولا

يُستنى عليها لأنها لم تُروَّض، ولم تذلَّل لذلك، وهذا معنى الآية. وقوله: {مُسَلَّمَةٌ}؛ أي: من جميع العيوب ليس بها عَرَجٌ ولا عَوَرٌ ولا كسر قرن، ولا أي عيب: أي: مسلمةٌ من جميع العيوب. وقوله: {لَا شِيَةَ فِيهَا} وزن الشِّيَة علة، وأصل مادتها: وَشَى، والمعروف أن المثال -أعني: واويَّ الفاء- يَطَّردُ حذفُ فائه في المصدر إذا كان على علَةِ، وكذلك في المضارع، والأمر كما عقده في الخلاصة بقوله: فا أمرٍ أوْ مُضارع مِنْ كَوَعَدْ ... أحْذف وفي كعِدةٍ ذاك اطَّردْ فأصل الشِّيَة وشْيَة من الوَشْي، والوشيُ هو مثلًا أن يكون في الشيء لونانِ مختلفان، فكلُّ شيء فيه لونان مختلفان تقول العرب: فيه وشيٌ، وإذا كان مثلًا حمار الوحش أو الثور فيه خطوطٌ تخالف لونه في أرجله يقولون له: موشى، ومن هذا قول نابغة ذبيان: كأنَّ رحلي وقد زالَ النهارُ بنا ... بذي الجليلِ على مستأنسٍ وَحَدِ من وحشِ وجرةَ موشىًّ أكارعُهُ ... طاوي المصيرِ كسيفِ الصَّيقلِ الفَرَدِ موشى أكارعه يعني أنها فيها شيٌ؛ أي: خطوط تخالف لونه، فمعنى: {لَا شِيَةَ فِيهَا}؛ أي: لا وَشْيَ للخطوط المخالفة

للونها، بل لونها كله أصفر فاقع على وتيرة واحدة، حتى قال بعض العلماء: إن أظلافها وقرونها صفر، وهذا معنى قوله: {لَا شِيَةَ فِيهَا}. {قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ} الألف واللام زائدتان لزومًا في {الْآنَ} ويعَبَّرُ عنها بالوقت الحاضر، وبعض العلماء يقول: هو مبني على الفتح لأنه خولفت به نظائره، وعلى كل حال فالمراد بالآن الوقت الحاضر، في هذا الوقت الحاضر جئتَ في صفات هذه البقرة المطلوبة بالحق، ويتعيَّن هنا حذف الصفة لأنَّه لو لم تقدَّر الصفة لكانوا كفارًا؛ لأنهم لو قالوا: لم يأت بالحق إلا في هذا الوقت -فقبل هذا الوقت لم يكن آتيًا بالحق-، كانوا مكذبين لنبي كريم، ومن كذَّب نبيًا كريمًا فهو كافر، ولذلك يتعين تقديم النعت هنا، والمعنى جئتَ بالحق الذي لا يترك في هذه البقرة لبْسًا لإيضاحها بصفاتها الكاشفة تمامًا، وتقرَّرَ في علم العربية أنَّ حذف الصفة إذا دَلَّ المقام عليه موجودٌ في القرآن وفي كلام العرب، ومن أمثلته في القرآن: {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} [الكهف: 79] حُذف نعتها؛ أي: كل سفينة صحيحة، إذ لو كان يأخذ المعيبة لما كان في خرق الخضر للسفينة فائدةٌ ولما قال: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا}.

قال بعض العلماء: ومنه: {وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا} [الإسراء: 58] قالوا حذف وصفهُ؛ أي: وإن من قرية ظالمة بدليل قوله: {وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} [القصص: 59]. ومن شواهد حذف النعت في لغة العرب قول الشاعر وهو المرقّش الأكبر: ورُبَّ أسيلةِ الخدَّينِ بكرٍ ... مُهَفْهَفَةٍ لها فرعٌ وجيدُ أي: لها فرع فاحِمْ وجيدٌ طويل، ومن هذا القبيل قول عَبيد بنِ الأبرص الأسدي: مَنْ قولُهُ قولٌ ومَنْ فعلُهُ ... فعلٌ ومَنْ نائلُهُ نائلُ يعني: مَن قولُهُ قولٌ فَصْلٌ، ومَن فعله فعل جميلٌ، ومن نائلُهُ نائلٌ جزلٌ، فحذف النعوت بدلالة المقام عليها، وهذا كثير في كلام العرب، وإنْ ذكر ابن مالك في الخلاصة أنَّ حذف النعت قليلٌ حيث قال: وما من المنعوتِ والنَّعتِ عُقِلْ ... يجوزُ حذفُهُ وفي النَّعتِ يَقِلْ وهذا معنى قوله: {الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ}؛ أي: جئت في الوقت الأخير بالحق الذي لا يترك في هذه البقرة لبسًا، ولا

يتركها تتشابه مع غيرها من البقر لأنها بُيِّنَتْ بصفاتها الكاشفة التي تفصلها وتميزها عن غيرها. ويؤخذ من هذه الآية الكريمة جواز السَّلَم في الحيوانات؛ لأنَّها تنضبط بصفاتها الكاشفة حتى تصير كالمرئية؛ لأنَّ هؤلاء الناس لا يوجد ناس أشدُّ منهم تعنتًا فاضطرتهم الصفات الكاشفة إلى أن اعترفوا بأن هذه البقرة ظهرت صفاتها، وتميَّزت عن غيرها، ويدلُّ لهذا قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا تصف المرأةُ المرأةَ لزوجها حتى كأنه ينظر إليها" فبيَّن - صلى الله عليه وسلم - أن الصفات الكاشفة تقوم مقام النظر لأنها تُعَين الموصوف. وهذا دليلٌ واضحٌ لما ذهب إليه جمهور العلماء من السَّلَف في الحيوانات إذا بُيِّنَت صفاتها؛ لأنَّ الوصف يجعلها كالمرئية ويثبتها؛ خلافًا للإمام أبي حنيفة -رحمه الله- الذي منع السَّلَم في الحيوانات بناءً على أنها لا تنضبط صفاتها، ومما يؤيد السلم فيها خلافًا لأبي حنيفة -رحمه الله-، ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّه استسلف بكرًا وردَّ رَباعيًا، وكما دلت عليه هذه النصوص. قال بعض العلماء: ويؤخذ من هذه القصة أيضًا جواز النسخ قبل التمكن من الفعل لأن قوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} نكرة

في سياق الإثبات، والنكرة في سياق الإثبات إطلاقٌ، فلو ذبحوا أيَّ بقرة كانت لصدقت باسم تلك البقرة المطلقة ولأجزأتهم، ولمّا شدَّدوا نَسَخَ اللهُ الاكتفاء ببقرة مجرَّدة أيَّة كانت إلى بقرة موصوفة بصفاتٍ منعوتةٍ بنعوتِ كثيرة شديدة، ومن هنا قال بعض العلماء: هذه من الأدلة على النسخ قبل التمكن من الفعل، وقال بعض العلماء: هذا لا يصلح مثالًا لجواز النسخ قبل التمكن من الفعل؛ لأنَّ هذا حكم زيدت فيه صفات ولم ينسخ ذبح البقرة بالكليَّة بل بقي محكمًا، وإنما زيدت في البقرة صفات، وأجاب القائلون بأنَّه نسخ قالوا: زيادة هذه الصفات تضمَّن نسخًا في الجملة، لأن مضمون النصِّ الأول يدل على أن كل بقرة ذُبِحَتْ كائنة ما كانت ولو مجردة عن تلك الصفات لأجزأت، فوصْفُها بالصفات الجديدة نسخٌ للاكتفاء بأي بقرة كانت. وعلى كل حال فهذه مسألة أصولية هي مثلًا: هل يجوز النسخ قبل التمكن من الفعل أو لا يجوز؟ والجماهير من العلماء على أنَّه جائز وواقع، ومن أمثلته نسخ خمس وأربعين صلاة ليلة الإسراء بعد أنْ فرضت خمسين، ونُسخ منها خمس وأربعون بينما أُقرت خمسًا، ومن أمثلته قوله جل وعلا في قصة ذبح إبراهيم لولده: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات: 107]؛ لأنَّه

أمره أنْ يذبح ولده، ونسخ هذا الأمر قبل التمكن من الفعل، والتحقيق أنَّ هذا جائز وواقع، ولا شك أن فيه سؤالا معروفًا وهو أن يقول طالب العلم: إذا كان الحكم يشرع ويُنسخ قبل العمل فما الحكمة في تشريعه الأول إذا كان ينسخ قبل العمل به؟ فالجواب: أنَّ التحقيق أن حكمة التشريع منقسمة قسمة ثنائية فهي دائرة بين الامتثال والابتلاء، فإذا نسخ الحكم بعد العمل به فحكمته الامتثال، وقد امتُثِل، وإذا نسخ قبل العمل به فحكمة تشريعه الأول الابتلاء، وهو اختبار الخلق هل يتهيَّؤون للامتثال وقد وقع الابتلاء، وقد نص اللَّه -عز وجل- في قصة إبراهيم على أن الحكمة في أمره بذبح ولده -مع أنَّ الله يعلم أنه لا يمكِّنُهُ من ذلك- هي الابتلاء هل يتهيَّأ ويطيع ربَّه فيذبح ثمرة قلبه كما قال جلَّ وعلا: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ}؛ أي: تَلَّه للجبين لينفذ فيه الذبح حتى قال له ربه: {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} [الصافات: 104 - 105]، وقال: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ}، ثم إنَ الله نصَّ على أنَّ الحكمة الابتلاء بقوله: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ} [الصافات: 106]. وقوله -عزَّ وجلَّ-: {فَذَبَحُوهَا}؛ أي: فذبحوا البقرة وضربوه بجزء منها، فحيي وأخبرهم بقاتله كما يأتي، وقوله: {وَمَا كَادُوا

يَفْعَلُونَ} يعني وما كادوا يذبحونها إلا بعد جهد جهيدٍ لِمَا جاءوا به دون ذبحها من السؤالات والتعنتات. وقول بعض العلماء: إن {كَادَ} إذا كانت في الإثبات دلت على النفي وإذا كانت في النفي دلت على الإثبات، وأن هذا يلغز به هو في الواقع غير صحيح، وإذا نُفيت نفيت المقاربة، يعني ما قاربوا أنْ يذبحوا يعني زمن التعنت والأسئلة حتى انقضى زمن التعنت والأسئلة في آخر الأمر ذبحوها، والقرينة على أن هذا هو المراد أنه صَرَّحَ بأنَّهم ذبحوها أي فذبحوها في الآونة الأخيرة، وما كادوا قبل ذلك يفعلون لتعنتهم وكثرة سؤالاتهم وعدم امتثالهم، وهذا معنى قوله: {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ}. قوله تعالى: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} وإذ قتلتم معطوف على قوله: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ}، وقوله: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ} هو أول القصة في الوقوع ولكنه متأخر في النزول وترتيب القرآن، هذا هو الظاهر؛ أي: واذكروا إذ قتلتم نفسًا، هو القتيل المتقدم، قيل اسمه (عامي) والعرب تعبِّر عن الشخص بالنفس تقول قتل نفسًا أي شخصًا ذكرًا كان أو أنثى، والظاهر أن هذا القتيل كان ذكرًا بدليل تذكير الضمير العائد عليه في قوله: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا}؛ أي: القتيل الذي فيه النِّزاع،

وهنا سؤال: هو أنْ يقال ما المُسَوِّغ في إسناد قَتْلِ هذا القتيل إلى جميعهم في قوله: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ}. والجواب: أن القرآن نزل بلسان عربيٍّ مبين، ومن أساليب اللغة العربية إسناد الأمر إلى جميع القبيلة إذا فعله واحد منها، ونظيره في القرآن قراءة حمزة والكسائي: {وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} [البقرة: 191]، لأنَّه ليس من المعقول أمر مَنْ قُتِلَ بالفعل أن يَقْتُلَ قاتله، ولكن إنْ قتلوا بعضكم فليقتلهم البعض الآخر، أسند الفعل إلى الجميع وهو واقع من البعض، وهذا أسلوبٌ معروفُ في لغة العرب، ومنه قول الشاعر: فإنْ تقتلونا عندَ حَرّةِ واقم ... فإنَّا على الإسلامِ أولُ من قُتِلْ ونحنُ قتلناكمْ ببدرِ أذلَّةً ... وجئنا بأسلابٍ لنا منكمُ نفلْ أي تقتلوا بعضنا. وقوله: {فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا} أصله فتدارأتم فيها وهو تفاعل من الدَّرء بمعنى الدَّفع، والقاعدة المقرّرة في علم العربية أن تَفاعَل وتفعَّل. مثلًا إذا أريد فيهما الإدغام استبدلت همزة الوصل إذ لم يمكن النطق بالسّاكن؛ لأنَّ العرب لا تبدأ بالساكن.

أصله تدارأتم فأريد إدغام تاء التفاعل في الدّال التي هي فاءُ الكلمة، فسكن لأجل الإدغام، واستبدلت همزة الوصل توصُّلًا للنطق بالساكن، وهذا كثيرٌ في القرآن في تفاعل وتفعَّل نحو: {مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ} [التوبة: 38]، أصله تثاقلتم، {قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ} [النمل: 47]، أصله تطيَّرنا، {وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا} [يونس: 24]، أصله تزينت إلى غير ذلك، ونظير هذا الإدغام في تفاعل ونحوها من كلام العرب قول الشاعر: تُولي الضجيعَ إذا ما التذَّها خَصِرًا ... عَذْبَ المذاقِ إذا ما اتَّابعَ القُبَلُ يعني إذا ما تتابع القبل. ومعنى: {فَادَّارَأْتُمْ} تدارأتم من الدَّرء، والدَّرء معناه الدفع، والمعنى تدافعتم قتل القتيل؛ أي: كلٌّ منكم يَدْفع قتله عن نفسه إلى صاحبه، بأنْ يقول هؤلاء: قتلهُ هؤلاء، وهؤلاء يقولون: بل أنتم الذين قتلتموه ونحن لم نقتله، واختلاف العلماء في معنى فادَّارأتم؛ أي: تنازعتم، وقول بعضهم: فادارأتم اختلفتم، كلُّهُ عائدُ إلى ما ذكرنا. وقوله: {فِيهَا} أنَّث الضمير لأنه راجعٌ إلى النفس من قوله: {فِيهَا}؛ أي: في النفس المقتولة كلُّكم يدفع قتلها عن نفسه إلى صاحبه: {وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} مخرجٌ

اسم فاعل أخرج؛ أي: مظهرٌ ما كنتم تكتمون، وما موصولة، والعائد محذوف لأنه منصوب بفعل على حدِّ قوله في الخلاصة: . . . . . . ... والحذفُ عندهم كثيرٌ مُنْجل في عائدٍ متصل إن انتصبْ ... بفعل أو وصْفٍ كمَنْ نرجو يهبْ وتقريره: والله مخرج الذي كنتم تكتمونه من أمر القتيل، وكذلك أسند الكتم هنا للجميع والكاتم هو القاتل، وقال بعض العلماء: القتلة جماعة تمالؤوا على قتله فقتلوه ليرثوه. ومعنى قوله: {مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ}؛ أي: مخرج الذي كنتم تكتمونه، أسند الكتم إلى الكل، وأراد بعضهم سواء قلنا إنَّ القاتل واحد أو جماعة. وفي هذه الآية الكريمة سؤال عربي وهو أنَّ {مَا} مفعول به لاسم الفاعل الذي هو مخرج، والقصة التي هي هذه قصة ماضية قبل نزول الآية الكريمة لأنها واقعة في زمن موسى، فهي في وقت نزول الآية ماضية مضتْ لها أزمان كثيرة، والمقرَّر في علم العربية أن اسم الفاعل إذا لم يُحَلَّ بالألف واللام لا يعمل إلا إذا كان مقترنًا بالحال أو الاستقبال، فلا يعمل مقترنًا بالماضي، وهنا

عَمِلَ وهو مقترنٌ بزمن الماضي، هذا وجه السؤال. والجواب: أنَّه إنَّما أعمل اسم الفاعل في هذا المفعول لأن هذه حكاية حال ماضية في وقتها، وإنَّما حكيتْ الحال في وقتها فكأنها في وقتها؛ لأن الحكاية تحكى فيها الأحوال في حال وقتها، ونظيرُ هذا يُجاب به عن قوله جَلَّ وعلا: {وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ} [الكهف: 18] لأنها أيضًا حكايهُ حالٍ ماضيةٌ، وهي في وقتها حالية مطابقة للزمن الحالي. والآية تدل على أنَّ مَنْ فعل سوءًا وكتمه أنَّ الله يظهره، وغالبًا لا يُسِرُّ الإنسان سريرةٌ إلا ألبسَهُ الله رداءَها، وكان بعض العلماء يقول: لو عمل الإنسان الشرَّ في غاية الخفاء لابد أن يظهره الله كما يفهم من قوله: {وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ}. وقوله: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا} صيغة الجمع للتعظيم، والفاء عاطفة للجملة على ما قبلها، أعني: تدارأتم في القتيل فقلنا لكم اضربوه ببعض البقرة لنبين لكم الواقع، وتعرفون القاتل، وينتهي النزاع، {فَقُلْنَا} صيغة الجمع للتعظيم، {اضْرِبُوهُ}؛ أي: القتيل، فالضمير راجع للقتيل المفهوم من النفس في قوله: {نَفْسًا} فأنَّثَ الضمير باعتباره لفظ النفس، وذكَّرهُ باعتبار معناها

لأن القتيل ذكر، وقد يكون الذكر يُعَبَّرُ عنه بلفظ المؤنث ليكون التأنيث مراعاةً للفظ، والتذكير مراعاةً للمعنى ومنه في كلام العرب قولُ الشاعر: أبوكَ خليفةٌ ولدَتْهُ أخرى ... وأنتَ خليفةٌ ذاكَ الكمالُ فأنَّثَ خليفة، وأطلق عليه لفظ أخرى نظرًا إلى تأنيث لفظه، مع أنه يجوز تذكيره لأنَّهُ رجل، فقلنا لهم: اضربوا القتيل ببعض هذه البقرة، فضربوه ببعضها فحيي، وهذا البعض الذي ضربوه به منها اختلف فيه المفسِّرون منهم مَنْ يقول هو لسانها، ومنهم مَنْ يقول فخذها، ومنهم مَنْ يقول عجب ذنبها، ومنهم مَنْ يقول غضروف أذنها. والحق أن هذا البعض الذي ضربوه به منها لا دليل عليه ولا جدوى في تعيينه وكثيرًا ما يولع المفسِّرون بالتعيين لأشياء لم يرد فيها دليل من كتاب ولا سنة، ولا جدوى تحت تعيينها، فيتعبون بما لا طائل تحته، كاختلافهم في خشب سفينة نوح من أي شجر هو، وكم كان عرض السفينة وطولها، وكم فيها من الطبقات، وكاختلافهم في الشجرة التي نُهِيَ عنها آدم وحواء أيُّ شجرة هي، وكاختلافهم في كلب أصحاب الكهف ما لونه هل هو أسود أو أصفر، وكثيرًا من هذه الأمور التي يختلفون فيها، ولا طائل

تحتها، ولا دليل عليها من كتابٍ أو سنة، وغاية ما دلَّ عليه القرآن أنهم ضربوه ببعض تلك البقرة غير معين، {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا}؛ أي: ضربوه ببعضها فحيي بإذن الله فأخبرهم بقاتله ثم عاد ميتًا، ولم يرثه قاتله الذي قتله. قال بعض العلماء: ومن ذلك اليوم لم يرث قاتل عمدًا، وعامة العلماء على أن القاتل لا يرث سواء كان القتل عمدًا أو خطأً لا من المال ولا من الدية، وعن مالك بن أنس -رحمه الله- التفصيل بين الدِّية والمال في خصوص القتل خطأ، قال: إنَّ القاتل خطأ يرث من المال، ولا يرث من الدِّية، والجمهور على خلافه، وشذَّ قوم فوَرَّثوه من المال والدية في القتل خطأً. وقوله: {كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى} يعني كما أحيا الله هذا القتيل، وهذا الجمُّ الغفير من النّاس ينظرون، كذلك الإحياء المشاهَد يحيي الله الموتى يوم القيامة، فهو دليل قرآني على البعث؛ لأنَّ مَنْ أحيا نفسًا واحدة فهو قادر على إحياء جميع النُّفوس؛ لأن ما جاز على المثل يجوز على مماثله، فاللَّه جلَّ وعلا يقول: {مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [لقمان: 28]، وهذه الآية الكريمة تؤخذ منها فوائد:

منها أن الخالق الفاعل كيف يشاء هو رب السماوات والأرض، وأنَّ الأسباب لا تأثير لها إلا بمشيئة الله، وأن الله يسبِّب ما شاء من الأسباب، ولو لم تكن بين السَّبَب والمسبَّب مناسبة، وهذا القتيل لو ضرب بالبقرة وهي حية لقال قائل جاهل اكتسب الحياة من حياتها، فالله -جلَّ وعَلا- أمرهم أنْ يذبحوها فتكون ميتة، وأنْ يأخذوا قطعة ميتة منها لا حياة فيها فيضربوا بها هذا القتيل فيحيا، فضربُهُ بهذه القطعة الميتة من هذه البقرة المذبوحة كان سببًا لوجود حياته، وهذا السَّبب لا مناسبة بينه وبين المسبَّب، فدلَّ على أن خالق السماوات والأرض يفعل ما يشاء كيف يشاء، ويرتِّب ما شاء من الأسباب باختياره وقدرته ومشيئته، ولو لم تكن هناك مناسبة بين السَّبَب والمسبَّب. أخذ مالك -رحمه الله- دون عامَّة العلماء من هذه الآية حكمًا هو أنَّه يُثبت القَسامة بقول المقتول: دَمي عند فلان؛ لأنَّ هذا المقتول لما حيي أخبرهم أن قاتله فلان، وأنَّهم عملوا بقوله، قال مالك: فعملهم بقوله الذي دلَّ عليه القرآن دليلٌ على أنَّ مَنْ قال قتلني فلان أنَّه يعمل بقوله، ومن هنا جَعَلَ قول المقتول إذا أُدرك وبه رَمَقٌ وقيل له مَنْ ضربك؟ فقال لهم: قتلني فلان، أو دمي عند فلان، فهذا لوث عند مالك تُحلف معه أيمان القسامة، ويستحق

به الدَّم أو الدية على التفصيل المعروف فيما يستحق به القسامة من عمد أو خطأ. وخالف مالكًا في هذا الفرع عامَّةُ العلماء، فقالوا: قول القتيل دمي عند فلان لا يمكن أن يُسوِّغ القسامة؛ لأنَّه لو قال: لي درهم على فلان، أو أطالب فلانًا بكذا لا يثبت بذلك شيءٌ فكيف يثبت به القَتْل والدَّم المعصوم، ومالك استدل بهذه القصة، واستدل أيضًا بأن الإنسان إذا كان في آخر عَهْد من الدُّنيا زال غرضه من الكذب، وصار منتقلًا إلى دار الآخرة، وصارت الدَّواعي إلى الكذب بعيدة جدًا في حقه، فالذي يغلب على الظن أنَّه لا يخبر إلا بواقع. وأجاب الجمهور عن هذه القصة قالوا: لا يُقاس عليها غيرها؛ لأنَ هذا قتيل أحياهُ الله معجزةً لنبي أخبرهم مثلًا أنه يحييه، وأنَّه يخبرهم بمن قتله، وهذا الإخبار مستندٌ إلى دليل قطعي، فليس كإخبار قتيل آخر، وأجاب ابن العربي في أحكامه عن هذا قال: المعجزة إنما هي في إحياء القتيل أمّا كلام القتيل، فهو كسائر كلام الناس يجوز في حقه أنْ يكون حقًا، وأنْ يكون كذبًا، وعلى كل حال فهذا الفرع خالف فيه مالكًا جمهورُ العلماء.

وقوله جل وعلا: {كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى} فيه دليل على أنَّ قصَّة إحياء هذا القتيل من الأدلة على البعث، وقد بينا فيما مضى خمسة أمثله منها في هذه السُّورة الكريمة. وقوله: {وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ} يريكم مضارعُ أرى أصلها يُرْئيكم آياته؛ أي: يبينها لكم حتى ترونها. {آيَاتِهِ}: الآية تطلق في اللغة إطلاقين، وتطلق في القرآن إطلاقين، وجمهور علماء العربية أنَّ أصل وزن الآية أيية فهي وَزْنُها فَعَلَة فاؤها همزة، وعينها ياء، ولامها ياء، اجتمع فيها موجبًا إعلال على القاعدة المقرَّرة في التَّصريف التي عقدها في الخلاصة بقوله: من واوٍ أو ياءٍ بتحريكٍ أصلْ ... ألفًا ابْدلْ بعد فتحٍ متَّصِلْ والأصل المشهور أنْ يكون الإعلال في الأخير، فالجاري على القياس أنْ يُقال: أياه، فتبدل الياء الأخيرِة ألفًا إلا أنّه أبدلت هنا الياء الأولى. وإعلال الأول من الحرفين اللذين اجتمعا فيهما موجبا إعلال موجود في القرآن، وفي كلام العَرَب كآية وغاية، والآية تطلق في لغة العرب إطلاقين؛ تطلق الآية على العلامة، وهذا إطلاقها المشهور، ومنه قول نابغة ذبيان:

توهَّمتُ آياتٍ لها فعرفتُها ... لستةِ أعوامٍ وذا العامُ سابعُ ثمَّ صَرَّحَ بأنَّ مراده بالآيات علامات الدَّار بقوله: رمادٌ ككُحلِ العينِ لَأْيًا أبينُهُ ... ونؤيٌ كجذمِ الحوضِ أثلمُ خاشعُ ومن هذا المعنى قوله تعالى: {إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ}؛ أي: علامة مُلْكِهِ {أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ} [البقرة: 248]. وتطلق الآية على الجماعة، تقول العرب: جاء القوم بآيتهم أي بجماعتهم، ومنه قول البرج بن مُسَهَّر: خرجنا من النِّقبين لا حيَّ مثلنا ... بآيتنا نُزجي اللِّقاحَ المطافِلا والآية تطلق في القرآن إطلاقين: آية كونية قدرية كقوله: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 190]، وهذه الآية الكونية القدرية من الآية بمعنى العلامة بالاتفاق؛ أي: لعلامات على كمال قدرة مَن وضعها، وأنَّه الربُّ وحده المعبودُ وحده، وتطلق الآية في القرآن بمعناها الشرعي الدِّيني كقوله: {رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ} [الطلاق: 11]؛ أي: آياته الدِّينية الشرعية، والآية الدِّينية الشرعية قيل من العلامة؛ لأنَّها علامات على صدق من جاء بها بما فيها من الإعجاز، ولأن لها مبادئ ومقاطع علامات على انتهاء هذه الآية وابتداء

الأخرى، وقال بعض العلماء: هي من الآية بمعنى الجماعة، لأنَّ الآية كأنَّها نبذة وجماعة من كلمات القرآن تتضمن بعض ما في القرآن من الإعجاز، والأحكام، والعقائد، والحلال، والحرام، وعلى هذا {وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ} يعني: يجعلكم ترونها واضحة؛ أي: علامات واضحة على كمال قدرته، وإحيائه للموتى، وأنه يبعث الناس بعد أنْ يموتوا. {وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} يعني لأجل أنْ تدركوا بعقولكم أنه جلَّ وعلا يُحيي النَّاسَ بعد الموت، ويبعثهم من قبورهم، وأنَّه القادر على كل شيء، وأنَّه المعبود وحده، وتعقلون: معناه: تدركون بعقولكم. قوله تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} قال بعض العلماء: {ثُمَّ} في قوله: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ} للاستبعاد؛ لأنَّ هذا الذي نظروه من آيات الله وعبره، وإحيائه للقتيل سببٌ عظيمٌ لإحياء القلوب، فقسوة القلوب بعد المشاهدة من الأمر المستبعَد، ولذا قال: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} الأمر الذي عاينتموه، وهو إحياء القتيل الذي هو أعظمُ سببٍ

للين القلوب، فثُم هنا للاستبعاد كما قاله بعض العلماء، ونظيره من إتيان {ثُمَّ} للاستبعاد قوله تعالى في أول سورة الأنعام: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام: 1]؛ لأن مَنْ خلق السماوات والأرض، وجعل الظلمات والنور يُستبعَد جدًّا أنْ يُجعَل له عديلٌ ونظير. ونظير {ثُمَّ} للاستبعاد من كلام العرب قولُ الشاعر: ولا يكشفُ الغمَّاءَ إلا ابنُ حُرَّةٍ ... يرى غمراتِ الموتِ ثم يَزُورها لأنَّ مَنْ رأى غمرات الموت تُستبعد منه زيارتها. والإشارة في قوله: {ذَلِكَ} عائدة إلى ما ذكر من إحياء القتيل لمَّا ضُرب بالجزء من البقرة الميتة، ومعنى قسوة القلوب: شِدَّتها وصلابتها حتى لا يدخلها خير؛ لأن الشيءَ القاسي ليس بقابلٍ لدخول شيء فيه، فقلوبهم صلبة شديدة نابية عن الخير لا يدخلها وعظ ولا ينجح فيها خير، والسَّبب الذي قست به قلوبُهُم نَهَى الله عن ارتكابه المسلمين في قوله: {وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد: 16].

وقوله: {فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ}؛ أي: في شدَّة القسوة والصلابة، فكما أنك لو أردت أن تدخل ماءً أو دهنًا في جوف حجر صلب أصم لا يمكن لك ذلك، أي: لا يمكن أنْ تدخل في قلوبهم خيرًا، ولا موعظة، ولا شيئًا ينفعهم لقساوتها عياذًا بالله. وقوله: {أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} أو أشد: مرفوعٌ عطفًا على الكاف من قوله: {فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ} أي: فهي مثل الحجارة أو أشد قسوة؛ لأن الكاف بمعنى مثل، وقيل عطف على محلِّ الجار والمجرور لأنَّه محل رفع خبر مبتدأ؛ أي: فهي كالحجارة أو فهي أشد قسوة، وقسوة تمييز محوَّل عن الفاعل؛ لأنَّه بعد صيغة التفضيل على حدِّ قوله في الخلاصة: والفاعلَ المعنى انصبنْ بأَفعلا ... مفضلًا كانتَ أعلى منزلًا لأنَّ قسوةً تمييز فاعل في المعنى، فنصب بأفعل مفضَّلا تمييزًا محوَّلًا عن الفاعل. ثم الله جلَّ وعلا بَيَّنَ أنَّ قلوبهم أشد قسوةً من الحجارة قال: {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ} يعني: أنَّ بعض الحجارة ربما لانَ: بعضها يتفجَّر منه الماء، وبعضها ربما لانَ فتشقق فخرج منه الماء، وقلوبهم لا تلين ولا ينفجر منها خير لا قليل ولا كثير.

وفي هذه الآية الكريمة سؤالٌ معروفُ وهو أنْ يقول طالب العلم: ما معنى {أَوْ} في قوله: {أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً}، والمخبر بهذا الكلام جلَّ وعَلا يستحيل في حقِّهِ الشك، فما معنى {أَو} في قوله: كالحجارة أو أشد قسوة؟. وللعلماء عن هذا السؤال أجوبة معروفةٌ أظهرها أنَّ "أوْ" للتنويع، و"أوْ" التي هي للتَّنويع تدلُّ على نوع، والمعنى أن منهم نوعًا قلوبهم كالحجارة، وهنالك نوع آخر دَلَّت عليه "أوْ" التَّنويعية أقسى قلوبًا من هؤلاء. قوله تعالى: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} كان النبي - صلى الله عليه وسلم - حريصًا على إيمان اليهود وغيرهم من أهل الكتاب؛ لأنَّ عندهم علمًا من الكتب السَّماوية المتقدِّمة، ولو آمنوا لكان ذلك داعيًا إلى إيمان غيرهم لما عندهم من العلم فقنَّطه الله في هذه الآية الكريمة من إيمان اليهود، وأنكر عليه أنْ يعلِّقَ طَمَعَهُ بشيء لا مَطْمَع فيه قال: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ} أي أتعلِّقون الطمع بما لا طمع فيه، {أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ} أَنْ يتَّصفوا بالإيمان لكم؛ أي: لأجل دعوتكم وطلبكم منهم الإيمان، والعادة في القرآن أن الإيمان إذا كان تصديقًا بالله جلَّ وعلا عُدِّيَ بالباء، فنقول: يؤمنون بالله،

آمنت بالله، وإذا كان تصديقًا للبشر عُدِّيَ باللَّام، وهذا معروفٌ من استقراء القرآن كقوله هنا: {أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ}؛ أي: يصدقوكم، ويتبعوكم في هذا الدين الحنيف، ومنه قوله تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} [يوسف: 17]؛ أي: بمصدِّقنا في أن يوسف أكله الذئب: {وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ}، وقوله: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} [العنكبوت: 26]، وجمَعَ المثالين قوله: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} [التوبة: 61]، والمعنى أنَّ الله أنكر عليهم الطَّمع بإيمانهم؛ لأنَّهم لا مطمع في إيمانهم، ثم بيَّن صعوبة الإيمان عليهم وبُعدَهُم منه، قال: {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ} يعني أتطمعون بإيمان قوم هم بهذه المثابة من العناد، واللَّجاج، وعدم امتثال الأوامر، والحال: {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} الفريق: الطائفة من الناس، ويجوز انقسام النَّاس إلى جماعات متعدِّدَة، ولا يلزم أنْ يكونوا فريقين فقط، بل يجوز أنْ يكونوا فريقين أو أكثر، ومن هذا المعنى قول نُصيب: وقال فريقُ القومِ لا وفريقُهُمْ ... نعمْ وفريقٌ قالَ ويحكَ لا نَدْري اختلف العلماء في المراد بهذا الفريق الذين سمعوا كلام الله،

وحرَّفوه بعدما عقلوه، قال جماعة: هذا الفريق هم علماؤهم، ومعنى يسمعون كلام الله: يسمعون كلام الله يُتلى في كتابه التوراة، ويفهمونه، ثُم يُحَرِّفونه من بعد ما عقلوه، أي: من بعد ما أدركوه بعقولهم، فيجدون فيه من صفات النبي - صلى الله عليه وسلم - أبيض فيحرِّفونها إلى أسمر، ويجدون من صفاته رَبْعة فيحرِّفونها إلى أنَّه طويل مشذّب، ونحو ذلك من تغيير الصفات. وعلى هذا الوجه فالفريق الذين يسمعون كلام الله هم العلماء؛ يسمعون كتاب الله التوراةَ يُتلى: {ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ} يعني: يبدلونه ويُحَرِّفونه، ويجعلون فيه ما ليس فيه؛ لأنَهم يحلُّون حرامه، ويُحرِّمون حلاله، ويُغيِّرون فيه صفات النبي - صلى الله عليه وسلم -، وينكرون بعض آياته كآية الرجم وما جرى مجرى ذلك من التحريف، وعلى هذا القول فالفريق: العلماء منهم بالتوراة، وتحريفهم له معروف. فإذا كان خيارهم وعلماؤهم يعقلون عن الله كلامَهُ في كتابه ثم يُغيرونه، ويُحرِّفونه، ويحملونه على غير محمله فما بالكم تطمعون في أنَّ مثل هؤلاء يؤمنون لكم ويهتدون إلى خير. الوجه الثَّاني: أن هذا الفريق هم السَّبعون الذين اختارهم موسى؛

المذكورون في سورة الأعراف في قوله: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا} [الأعراف: 155]، ومَنْ قال هذا القول قال: إنَّهم لَمَّا خرجوا مع موسى للميقات، سألوه أنْ يسأل الله أنْ يُسمعهم كلامه، فسأل لهم نبيهم ذلك، وأنَّه أمرهم أنْ يصوموا. ولمَّا أراد الله أن يكلِّم موسى، وألقى عليه الضَّباب سمعوا كلام الله يأمر موسى وينهاه، فبعد أنْ سمعوا كلام الله وعقلوه حَرَّفوه، قالوا: سمعناه يقول في آخر الكلام: إنْ شئتم فافعلوا، وإنْ شئتم لا تفعلوا، فإذا كانوا يسمعون من الله كلامه، هذه السَّبعون المختارة منهم تسمع كلام الله وتُحَرِّفه وتُغَيِّره، فما بالكم تطمعون في إيمان مَنْ هذه صفتُهم، هذان الوجهان في قوله: {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ}. وبيَّنا مرارًا أنَّ همزة الاستفهام الإنكاري إذا جاء بعدها حرفُ عطف (كالفاء) كما في قوله هنا: أفتطمعون، و (الواو)، أو (ثمَّ)، أن فيها للعلماء وجهين معروفين: أحدهما: أنَّ همزة الاستفهام تتعلق بمحذوف دلَّ المقامُ عليه، والفاء تعطف الجملة التي بعدها على الجملة المحذوفة التي دلَّ المقام عليها، والمعنى: أتطمعون فيما لا طمع فيه، فتطمعون أنْ

يؤمنوا لكم ونحو هذا، أو ألا تعرفون الحقائق فتطمعون بما لا طمع فيه، والأحوال متقاربة، وإلى هذا الوجه مَيْلُ ابنِ مالكٍ في الخلاصة في قوله: وَحَذْفَ مَتْبُوعٍ بَدَا هُنا استبِحْ ... وعطفُكَ الفعلَ على الفعلِ يصحْ الوجه الثاني: أنَّ همزة الاستفهام مزحلقةٌ عن محلِّها، وأنَّها متأخرةٌ بعد الفاء إلا أنَّها قُدِّمت عن محلِّها؛ لأن للاستفهام صدر الكلام، وعلى هذا فالمعنى: فأتطمعون، فتكون الجملة معطوفة بالفاء على ما قبلها كأن المعنى: فأعطف على ذلك إنكار طمعكم في ما لا طمع فيه فيكون المعنى: فأتطمعون أنْ يؤمنوا لكم، والحال قد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه، التَّحريف يعني: وضعُ الشَيء في غير موضعه يسبقه أنْ يبدلوه بما ليس منه، وأنْ يُغَيِّروه، وأنْ يحملوه على غير محمله إلى غير ذلك من أنواع التَّحريف. وقوله: {مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ}؛ أي: أدركوه بعقولهم، العَرَب تقول: عقلتُ الأمر أعقله إذا أدركتُهُ بعقلي، والعقل: نورٌ روحاني تُدرك به النفس العلوم الضَّرورية والنظرية، ومحلُّهُ القلب كما نَصَّ عليه الكتاب والسُّنة لا الدِّماغ كما يزعمه الفلاسفة، وبحوث العقل بحوث فلسفية لا طائل تحتها، فللفلاسفة في

بحث العقل ما يزيد على مائة طريق من جهة البحث في العقل هل هو جوهرٌ أو عرضٌ، والكلام على العقول العشرة، والعقل الفَيَّاض كله بحثٌ فلسفي لا طائل تحته. وإنما قال -عزَّ وجلَّ-: {وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}؛ أي: تدركون بعقولكم؛ لأن العقل نورٌ روحاني تُدْرِكُ به النَّفسُ العلومَ الضَّرورية والنَّظرية، ودلَّ القرآن على أنَّ محله القلب لا الدِّماغ لأن الله يقول: {فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} [الحج: 46]، ولم يقل: أدمغة يعقلون بها، ويقول: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} [ق: 37]، ولم يقل: لمن كان له دماغ، وفي الحديث الصَّحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن في الجَسَدِ مضغة إذا صلحتْ صلحَ الجسدُ كلُّهُ، وإذا فَسَدَت فَسد الجسدُ كُلُّهُ، ألا وهي القلب"، ولم يقل: ألا وهي الدِّماغ. وجَمَعَ بعض العلماء بين قول أهل السُّنة وقول الفلاسفة بأنْ قال: إنَّ أصل العقل في القلب كما في الكتاب والسُّنة إلا أن نورَهُ يتَّصل شُعاعُهُ بالدِّماغ، واستدلوا على هذا بدليل استقرائيِّ عاديِّ، قالوا: في العادة المطّردة والاستقراء أنَّك لا تجد رجلا طويلَ العُنُقِ طولًا مفرطًا إلا كان في عقله بعضُ الدَّخَن لبعد ما بين طرفي شعاع نور عقله.

والتحقيق أن العقل في القلب كما دَلَّ عليه الوحي، واستدلوا بأن كلَّ ما يؤثِّر على الدّماغ يُؤثّر على العقل، وهذا لا دليل فيه لإمكان أنْ يكون العقل في القلب كما هو الحق، وسلامتُهُ مشروطة بسلامة الدِّماغ، وهذا لا إشكال فيه، والعقل الصَّحيح هو الذي يعقلُ صاحبَهُ عن الوقوع فيما لا ينبغي، كما قال جلَّ وعلا عن الكفّار: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 10] أمّا العقل الذي لا يزجر عما لا ينبغي فهو عقلٌ دنيويٌّ يعيش به صاحبه، وليس هو العقل بمعنى الكلمة. وقوله جلَّ وعلا: {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} جملة حالية يعني أنَّهم سمعوا كلام الله، وحرَّفوه بعد أنْ أدركوه بعقولهم وفهموه، والحال أنَّهم يعلمون أنَّهم حرَّفوه، وافتروا على الله (¬1). . . . فمن كان بهذه المثابة لا يطمع أحد في إيمانه. ثم إنَّ الله جلَّ وعلا ذكر طائفةً أخرى من اليهود هم منافقون في قوله: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (76) أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} [البقرة: 76 - 77] ¬

_ (¬1) هذه العبارة غير واضحة في الشريط.

إذا: ظرف في معنى الشَّرط، العامل فيه دائمًا جزاءُ الشرط لا فعلُ الشَّرط، وهو من الأسماء الملازمة للإضافة إلى الجمل؛ إلى جمل الأفعال خاصَّة كما قال في الخلاصة: وألزموا إذا إضافةَ إلى ... جُمَلِ الأفعالِ كهنْ إذا اعتلى و {لَقُوا} أصله: لقيوا فَعِلوا، والقاعدة المقرَّرة في التصريف: أن كلَّ فعل ناقص أعني معتلَّ اللَّام سواء كان واويَّ اللَّام أو يائيَّ اللَّام، إذا أُسنِد إلى واو الجماعةِ أو ياء المؤنَّثة المخاطبة، وجب حذفُ لامه المعتلَّة بقياس مطَّرد، فحُذفتْ هذه الياء التي هي لام الكلمة، وأُبدلت كسرةُ القاف ضمَّةً لمجانسةِ الواو، فأصله: لقيوا على وزن فَعِلوا، ووزنه الحالي: {وَإِذَا لَقُوا} فَعُوا؛ لأنَ الياء التي في موضع اللَّام حذفت لإسناد الفعل النَّاقص إلى واو الجماعة كما هو مقرَّرٌ في التّصريف. و {الَّذِينَ آمَنُوا} في محل نصب مفعول به لقوا، والمعنى أنَّ هؤلاء الطائفة من المنافقين إذا اجتمعوا بالمؤمنين -النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه- قالوا آمنا أي ذكروا لهم أنَّهم آمنوا نفاقًا، وبينوا لهم أنَّ النبيَّ المنتظر والمبشر به أنَّ صفاته في كتبهم منطبقة على هذا النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - هذا معنى قوله: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا}.

{وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ} يعني: إذا رجعوا إلى أصحابهم وكان الموضع خاليًا من المؤمنين بأنْ كان الموجود فيه هم فيما بينهم {قَالُوا} يعني أصحابهم الذين لم ينافقوا منكرين على المنافقين، وموبِّخين لهم: {أَتُحَدِّثُونَهُمْ}؛ أي: أتحدِّثون المؤمنين النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه {بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} يعني بما فَتَحَ عليكم علمه في التَّوراة بأن هذا هو النبي المنتظر، وأنَّ هذه صفاته، وأنَّها منطبقة، وأنَّه هو لا شك فيه، وأنكم مؤمنون به لما علمتم أنَّه هو النبي الموعودُ به المنتظر. {لِيُحَاجُّوكُمْ} بهذا الإقرار {عِنْدَ رَبِّكُمْ} أنَّكم أقررتم بأنكم تعرفون أنَّه الحقُّ، وأن صفاته منطبقة على صفات النبي المنتظر، فإنَّ هذا يحاجونكم به يوم القيامة، أنكم عرفتم الحقَّ وتركتموه، وهذا يدلُّ على أنَّهم في غاية الجهل، لأنهم لو كتموا أليس اللهُ عالمًا بما في ضمائرهم، وما الفرق بين ما لو أقرُّوا بأنَّهم عرفوا الحقَّ وكتموه، أو كتموه ولم يقولوا، ولذا وبَّخهم اللهُ بقوله: {أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ}. أيقولون مثلَ هذا ولا يعلمون أنَّ الله يعلم ما يُسرونَ وما يعلنون، يُسرُّون: فعل مضارع من الإسرار، ويعلنون: المضارع من الإعلان، والفعل إذا كان ماضيه على وزن أفعل تحذف همزته

في المضارع، واسم الفاعل، واسم المفعول بقياس مطَّردٍ، فالأصل يؤسرون ويؤعلنون إلَّا أنَّ حذف همزة أفعل مطَّردٌ في المضارع، واسم الفاعل، واسم المفعول كما عَقَدَهُ في الخلاصة بقوله: وحَذْفُ هَمْزِ أَفعلَ استمرَّ في ... مضارعٍ وبنْيتي مُتَّصفِ والمعنى أن إسرارهم وإعلانهم عند الله جلَّ وعلا سواءٌ؛ لأنَّ الله يعلم السِّرَّ وأخفى، والسرُّ عنده علانية ويعلم ما تخفيه الضَّمائر: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق: 16]، وعلى هذا الذي قرَّرنا فمعنى {فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} يعني عَلَّمكم إيَّاه وأزال عنكم الحجاب دونه من العلم مما في التوراة. وقوله: {لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ} أصله: ليحاجِجُوكم (يفاعلون) من المُحاجَجَة: يقتضي الطرفين، والحجة كلُّ ما أدلى به الخصم باطلًا كان أو حقا، بدليل قوله: {حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} [الشورى: 16]. وقال بعض العلماء: المراد بالفتح في هذه الآية الحكمُ، وذلك أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لمَّا قال لهم يوم خيبر (¬1) ذكرَ لهم القردة، قال ¬

_ (¬1) لعله يوم بني قريظة.

بعضهم: ما علموا أن أوائلكم وقع فيهم المسخ إلا منكم بعضكم أخبرهم بهذا، وعلى هذا فالمراد {بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ}؛ أي: ما حكَمَ اللهُ عليكم به من المسخ، والعرب تطلق الفتح على الحكم، وقد جاء في القرآن العظيم، ومنه على التحقيق: {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ} [الأنفال: 19]، يعني إنْ تطلبوا الحكم من الله على الظالم بالهلاك: فقد جاءكم ذلك، وهلك الظالم أبو جهل وأصحابه. ومن هذا المعنى قول الله جلَّ وعَلا حاكيًا عن شعيب: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} [الأعراف: 89]؛ أي: احكم بيننا بالحق، وأنت خير الحاكمين، وهذه لغة حِمْيَرِيَّة يُسمُّون الحاكمَ فَتَّاحًا والحكمَ فُتاحة، ومن هذا المعنى قول الشاعر: ألا أبلغْ بني عمرو رسولًا ... بأنِّي عن فُتاحَتِكُمْ غنيُّ أي: عن حكمكم غني، وهذا قيل به في الآية، ولكنَّه قولٌ مرجوحٌ غير ظاهر؛ والتحقيق إنْ شاء الله هو الأول، ثم إنَّهم قالوا لهم: {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} أتقولون قول مَنْ لا يعقل، فلا تعقلون أنَّه لا ينبغي لكم أنْ تخبروهم وتحدِّثوهم بما فتح الله عليكم من

علم التوراة، ممَّا خَفِي عليهم ليكون حجةً لهم عليكم عند الله يوم القيامة أنَّكم أقررتم بأنَّهم على حق وخالفتموهم ولم تتبعوهم. ثم إن الله ذكر طائفةً ثالثةً، وهي الطائفة الجاهلة التي لا تدري، وإنما تسمع كلامًا فتقلد فيه تقليد الأعمى، قال: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ} الأمي: هو الذي لا يقرأ ولا يكتب، أي: طائفة جاهلية لا يكتبون الكتب، ولا يقرأون ما في الكتب لا يعلمون الكتاب الذي هو التَّوراة ولا غيره من الكتب. وقوله: {إِلَّا أَمَانِيَّ} فيه وجهان معلومان عند أهل التفسير؛ أحدهما: تبعدُهُ قرينةٌ في نفس الآية، أمَّا القولان المعروفان أنَّ المراد بالأماني هنا: جمعُ أمنية بمعنى القراءة، والعرب تطلق الأمنية على القراءة، وهو معنى معروفٌ في كلام العرب، تقول العرب: تمنَّى إذا قرأ، ومنه قول حسَّان: تمنَّى كتابَ اللَّهِ آخرَ ليلهِ ... تَمَنَّيَ داودَ الزَّبورَ على رسْلِ وقول كعب بن مالك أو حَسَّان: تمنَّى كتابَ اللهِ أوَّلَ ليلةٍ ... وآخرَها لاقى حِمامَ المقادرِ فمعنى تمنَّى قرأ، وعلى هذا فالاستثناء متصلٌ، وتقرير المعنى: لا يعلمون من الكتاب إلا قراءةَ ألفاظٍ ليس معها تفهُّمٌ وتدبُّرٌ لما

تحويه الألفاظ من المعاني، ومَنْ لم يكن عنده من علم الكتاب إلا قراءة الألفاظ، لا يفهم ما تحتها من المعاني فهو جاهلٌ لا علم عنده، هذا وجهٌ في الآية وهو الذي قلنا إن في الآية قرينةً تبعده؛ لأنَّ هذا يدل على أنَّهم يقرأون التوراة قراءةَ ألفاظ لا يعلمون ما تحتها من المعاني والعبر، وقوله في أوّل الآية: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ} يدلُّ على أنَّهم لا يقرأون فكأن حَمْل التمني على القراءة فيه شِبْهُ تناقض مع قوله: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ}. الوجه الثاني في الآية: أنَّ الاستثناء منقطعٌ، وأن الأماني جمعُ أمنية، وهي الأمنية المعروفة وهي أنْ يتمنَّى الإنسان حصولَ ما ليس بحاصل، وعلى هذا القول فتقريرُ المعنى: لا يعلمون الكتاب، لكنْ يتمنَّونَ أمانيَ باطلةً صادرةً عن جَهْل لا مبدأ لها من علم بأنْ يقولوا: ما عليه محمدٌ وأصحابه ليس بحق، ونحن أبناء الله وأحبَّاؤه، {لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى}، {كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا} [البقرة: 135]، والدَّليل على أنَّ هذا من أمانيهم الباطلة وأن خير ما يفسَّر به القرآنُ القرآنُ قولُهُ تعالى: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ} [البقرة: 111]، فصَرَّح جلَّ وعلا بأن أمانيَّهم، من هذا القبيل، كما قال جلَّ وعلا: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ

وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123]، وهذان الوجهان في قوله: {لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} إن: هي النَّافية، والمعنى ما هم إلا يظنون؛ يسمعون عند علمائهم قولًا فيقولونه تقليدًا وظنًّا وجهلًا. والظنُّ قد قَدَّمنا أنَّه يُطلق إطلاقين، يُطلق على الشَّك وهو المراد هنا، وهو المراد في قوله: {إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [يونس: 36]، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إيّاكم والظنَّ فإن الظَّن أكذبُ الحديث"، ومنه قوله عن الكفَّار: {إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} [الجاثية: 32]، واصطلاحُ الأصوليِّين: أنَّ الظنَّ لا يطلق على الشكِّ وأن الشك نصفُ الاعتقاد، والظنُّ عندهم جُلُّ الاعتقاد، وما بقي عن الظنِّ من الاعتقاد يسمّونه وَهْمًا، هذا اصطلاحٌ أصولي. أمَّا على اللُّغة العربية فإنّهم يطلقون اسم الظن على الشك. وقوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} وَيْلٌ: كلمة عذاب، وهو مصدرٌ لا فعل له من لفظه؛ معناه: هلاكٌ عظيمٌ هائلٌ كائن لهم، وقال بعض العلماء: وَيْلٌ: وادٍ في جهنَّم تستعيذ جهنم من حَرِّهِ ولو فرضنا

صحةَ هذا القول لكان راجعًا إلى الأول. ولفظة (ويل) تتعدَّى بالَّلام، ولذا عَدَّاه به في قوله: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ}، وهو مبتدأٌ خبرُهُ جملة للذين، وإنما سُوِّغَ الابتداء بهذه النكرة؛ لأنَّها مشمَّةٌ معنى الدُّعاء، وقد تقرّر في علم العربيَّة أن النَّكرة إذا كانتْ مشمَّةٌ معنى الدُّعاء بخير أو بشرِّ كان ذلك مُسوِّغا للابتداء بها، ومثالُهُ في الدُّعاء بالخير: {قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ} [هود: 69]، سلامٌ عليكم مبتدأٌ سَوِّغَ الابتداءً به أنَّهُ في مَعْرِض الدُّعاء، والدُّعاء في الشَّرِّ كقوله هنا: فويل؛ أي: هلاكٌ عظيمٌ لا خلاص منه للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله، وهؤلاء اليهود -قبَّحهم الله- كانوا يأخذون أوراقًا وقراطيس ينقلون فيها من التَّوراة، يقولون مثلًا في المحل الفلاني من التَّوراة كذا، وكذا، ويكتبون أمورًا باطلة ليست في كتاب الله كما يأتي في قوله: {تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا} [الأنعام: 91]، وهذا الذي يكتبونَهُ بأيديهم في هذه القراطيس كذبٌ مختلَقٌ على الله جلَّ وعلا، وهذا الاختلاقُ والتحريف إنّما فعلوه ليتعوَّضوا به عَرَضًا من عَرَضِ الدُّنيا، ذلك أنَّهم لو أخبروا بالواقع لآمنَ كلُّ الناس فيكونون تَبَعًا لا متبوعين، وضاعت عليهم رئاسةُ الدِّين والأموال التي كانوا يأخذونها عن

طريق الرئاسة الدِّينية، فصاروا يكتبون أمورًا مُحَرَّفةَ مزَوَّرَةٌ، منها تغييرُ صفات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وغير ذلك، فقال الله فيهم: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ} يكتبون الكتاب في تلك القراطيس بأيديهم. وقوله: {بِأَيْدِيهِمْ} هذا نوعٌ من التأكيد جرى على ألسنةِ العرب، ونَزَل به القرآن؛ لأنَّه بلسان عربي مبين، نحو: {وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38]، ومعلومٌ أنَّه لا يطير إلا بجناحيه، {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ} [آل عمران: 167]، ومعروفٌ أنَّهم إنَّما يقولون بأفواههم. {يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} {ثُمَّ} -هذه- كلامٌ يَدُلُ على الاستبعاد؛ لأن الكتاب إذا كان مختلقًا على الله يبعد كلَّ البُعْد أنْ يقول الإنسان إنَّه من عند الله، ثم بَيَّن علةَ افترائهم وتزويرهم، ودعواهم أنَّ الكتاب من عند الله، وهو ليس من عند الله، بيَّنَ علة ذلك، والعلَّةَ الغائيةَ المقصودة عندهم بقوله: {لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} الاشتراء في لغة العرب: الاستبدال، فكلُّ شيء استبدلته بشيءٍ فقد اشتريته، ومن هذا المعنى قول علقمة بن عَبَدة التَّميمي: والحَمْدُ لا يُشترى إلا لهُ ثَمَنٌ ... ممّا تضنُّ بهِ النُّفوسُ معلومُ

وقول الراجز: بُدِّلت بالجمَّةِ راسًا أَزْعَرا ... وبالثَّنايا الواضحاتِ الدَّرْدَرا كلما اشترى المسلمُ إذ تَنَصَّرا ... . . . . . . - أي: كما استبدل. والثمن: تطلقهُ العرب على كلِّ عِوَض مبذول في شيء تُسمِّيه العرب ثمنًا، ومنه بيت علقمة المذكور آنفًا في قوله: والحمد لا يُشترى إلا لهُ ثمنٌ، وقول عُمَر بن أبي ربيعة: إنْ كنتَ حاولتَ دُنيًا أو أقمتَ لها ... ماذا أخذتَ بتركِ الحَج منْ ثَمَنِ ومعنى الآية الكريمة: أنَهم يغيِّرون كلامَ الله ويكتبون على الله ما لم يقل، {وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 78]؛ لأجل أنْ يَعْتاضوا بذلك ثمنًا قليلًا من عَرَضِ الدُّنيا، وهو ما ينالونه من المال على رئاستهم الدِّينية، ثم إنَّ اللَّه تعالى قال: {فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ} فهلاكٌ عظيمٌ لا خلاص منه كائنٌ لهم مبدؤُهُ وسببُهُ مما كتبت أيديهم مزوَّرًا على اللَّه أنه من عند الله، وليس من عند الله، {وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ}؛ أي: من الرِّشا والأَموال عِوَضًا عن ذلك التَّزوير والافتراء على ربِّ السماوات والأرض، وهذا

غايةُ التَّهديد والوعيد العظيم حيث قال: {فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ}؛ أي: من المال عوضًا عن ذلك، وهذا هو معنى قوله: {فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ}. انتهى ما سُجِّلَ بصوتِ شيخنا، وأخبرني ولدُهُ الشَّيخُ مُحمَّد المختار أنَّهُ سُجِّلَ ببيته، ونقلتُهُ من صوتِهِ عليه رحمةُ الله وأولاه المثوبة. وكتبَهُ: أحمد بن محمَّد الأمين بن أحمد المختار

وبعد وفاة الشيخ

وبعدَ وفاة الشَّيخ وبعد وفاة شيخنا عليه رحمةُ الله في ذي الحجَّة 1393 هـ ظهر في مجلة التَّضامن الإسلامي عدد رجب وشعبان سنة 1394 هـ مقالٌ لفضيلة الشَّيخ أحمد محمَّد جمال يردُّ فيه على كتاب -فضيلة الشَّيخ- دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب. وهو كتاب أبدع الشَّيخُ -عليه رحمةُ الله- فيه على صغر حجمه في الجَمْعِ بين الآيات القرآنية التي يتوهَّم غيرُ المطلع كلَّ الاطلاع في التَّفسير أنَّ بينها تعارضًا، ومعلومٌ أنَّه لا يمكن تعارضه، {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82]، إلا أنَّ طالب العلم البسيط إذا سمع قوله تعالى: {فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ (39)} [الرحمن: 39]، ويسمع قوله تعالى: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف: 6]، أو يسمع قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52]، ويسمع قوله تعالى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص: 56]. فإنَّ طالب العلم الذي لم يكن مطَّلعًا على مسائل التَّفسير قد

يحتاج إلى مَنْ يُبَيِّنُ له وجه الجمع بين الآيات، وهو عالم أنْ لا تعارض بينها {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260]، فيرشده مثلًا إلى أن عَرَصات القيامة مواقف، منها ما لشدَّة الهول فيه لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان، وبعض هذه المواقف يُسأل بعض المجرمين فيه عن ذنوبهم للتبكيت والتقريع. وأن الهُدى المنفي عنه - صلى الله عليه وسلم - هو الهُدى الخاصُّ بالله تعالى، وهو التوفيق، يعطيه مَنْ شاء فضلًا، ويمنعهُ من شاء عدلًا، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون. وأن الهُدى المثبَت له هو إبانة طريق الخير، وإبانة طريق الشَّرِّ، وقد فعل عليه الصلاة والسلام؛ لقد ترك طريق الخير ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك. ولقد تتبَّع الشَّيخُ في هذا الكتاب سورَ القرآن سورةً سورة،؛ مبينًا وجه الجَمْع بين ذلك النوع من الآيات بيانًا شافيًا يَثْلَجُ له صدرُ طالب العلم، ولقد جادَتْ قريحتي آنذاك -ولستُ بشاعر- بأبياتٍ من الكامل قَرَّظْتُ بها هذا الكتاب، وهي هذه: درٌّ تَناثَرَ يَهْتَدي الأَعْمى بِهِ ... دَفْعُ الإِيهامِ عن الهُدَى وكتابِهِ عِقْدٌ تَنظَّمَ من أَوابدِ جَوْهَرٍ ... جَمَعَتْ جميعَ شَوارِدِ المتَشابِهِ

للهِ دَرُّ سَمَيدَعٍ عَلَّامَةٍ ... فَهْوَ الْعَميقُ تَبَحُّرًا أَنْ جا بِهِ سَلِسَ الْعِبارَةِ واضحًا مُتَناسقًا ... سَهْلَ التعَقُّلِ للَّبيبِ النَّابِهِ تَرتيبُهُ يُنْبِيكَ عن إحكامِهِ ... في حَالةٍ الإيجازِ مَعْ إطنابِهِ تاهَتْ قَرِيحةُ ماَجد سَمَحَتْ بِهِ ... والجَهْلُ قَدْ غَطَّى الوَرَى بِسَحابِهِ مِنْ غَيرِ سَبْقِ مُماثِلِ فيما مَضَى ... خَصَّ الكتابَ بسِرِّهِ الأَدرى بِهِ مِنْ مَعْشَرٍ حَلُّ العَوِيصِ تُراثُهُمْ ... وَرِثُوا المَكارِمَ نابِهًا عنْ نابِهِ فَهُمُ الكُماةُ هَمُ الهُداةُ هُمُ القُضا ... ةُ الحاكمونَ بِما يكونُ ببابِهِ دامَتْ فضيلَةُ ذا المسيحِ لميِّتِ الْـ ... عِلْمِ السَّنِي وعَليلِهِ ومُصاَبِهِ وأَثابَهُ التوفيقَ في أَعْمالِهِ ... وكذا رضىً يومَ الجَزًا وحِساَبِهِ ثُم الصَّلاةُ على النَّبيِّ مُحَمَّدٍ ... وعلى الأُلى شَرُفُوا بوَسْمِ صِحَابِهِ وبعد أنْ ودَّعْنا شيخَنا إلى رحمة الله؛ مسلِّمين لقدر الله؛ راجين له أن يعمَّه اللَّه بفائض رحمته، وأَنْ يجمعنا به في مستقرِّ رحمته، ويغمرنا نحن طلبته الذين لازمناه ردحًا من الزَّمن، وتعوَّدنا سماع عباراته وبيانها الماذي، ونأسف على أنَّنا ما بقينا نرضى عن عبارات وبيانات من عالِمٍ كائنًا منْ يكون بعد عباراته وبياناته، وأعتقد أن زملائي من طلبته يصدقونني في ذلك، واللَّه المستعان، وهو خَلَفٌ من كل شيءٍ، هو حسبُنا ونعم الوكيل.

وبعدما مضتْ ثمانية أشهر على وفاة شيخنا فاجأتنا مجلَّةُ التَّضامن الإسلامي في عَدَديْ رجب وشعبان 1394 هـ بمقالٍ لفضيلة الشَّيخ أحمد محمَّد جمال يردُّ به على كتاب دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب، وعلى كتاب العزِّ بن عبد السلام المسمَّى المفيد في مشكل القرآن. فرأيتُ من واجبي وعملا بقول مَنْ يقول: "وعند اهْتِضاَمِ الشَّيخِ يُسْتَقْبحُ الصَّبْرُ" رأيتُ أنْ أرُدَّ على الشَّيخ أحمد جمال، فنشرتْ لي جريدة المدينة في عَدَدِها [3185]، بتاريخ 4 رمضان 1394 هـ مقالًا بعنوان: (بين المرحوم الشَّيخ الشَّنقيطي والأستاذ أحمد جمال)، هذا نصُّهُ: "بسم الله الرحمن الرحيم {هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية: 29] صدق الله العظيم. الحمدُ لله الذي عَلّم بالقلم، عَلَّم الإنسان ما لم يعلم، وصلى الله وسلم على نبيه الأميِّ القائل: "المُتَشَبِّعُ بما لم يُعْطَ كلابِسِ ثَوبَيْ زُور"، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من اتَّبَعهم إلى يوم الدِّين، وبعدُ؛ فقد نَشَرَتْ مجلَّةُ التضامن الإسلامي في عَدَدَي رجب وشعبان مقالًا بعنوان: دفع توهُّم الاضطراب عن آي الكتاب للأستاذ أحمد محمَّد جمال.

والمقالُ في ظاهره ردُّ على كتاب ألَّفَهُ المرحوم العلامة الشَّيخ محمَّد الأمين الشنقيطي صاحب أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن. ولقد قال أحمد جمال في العلامة المرحوم مديحًا لا يزيدُه قليلًا ولا كثيرًا فوق ما وَصَلَ إليه في حياته الحافلة بتكريس جهوده للعلوم القرآنية مُدَرِّسًا بالجامعة الإسلامية، ومحاضرًا كلَّ عامٍ في هذه الأيام المباركة (رمضان) في حَصْوة الحرم المدني الشَّريف في القرآن الكريم وآي الأحكام، في دروسٍ يجتمع لسماعها من طلاَّب العلم الكثير والكثير. واللَّهُ وحدَهُ يِعلم ما الذي دفع الأستاذ أحمد جمال بعد ثمانية أشهر من وفاة الشَّيخ (-رحمه الله-) في مكة المكرَّمة ليكتبَ مقالًا لا نخرج من الاستنتاج منه إلَّا أن الشَّيخ (-رحمه الله-) رأى في القرآن الكريم -أعوذ بالله- توهُّمًا واضطرابًا. وهناك حقائق يحتاج الأستاذ أحمد محمَّد جمال إلى معرفتها، وأولُ هذه الحقائق أن ما توهمه مقالاتٍ نَشَرها الشَّيخ الشَّنقيطي في مجلَّة الجامعة الإسلامية لم يكن كذلك!! .. إذ إنَّ تلك المقالات هي صفحات من كتاب ألَّفه الشَّيخ الشَّنقيطي قبل تسعة عشر عامًا بالتَّمام

والكمال في الرِّياض عام 1375 هـ لطلاب تفسير القرآن. فإذا كان أحمد جمال من المهتمِّينَ بعلوم القرآن، فإنَّهُ من المحزن أن لا يكون عَرَف عن هذا الكتاب إلا بعد تسعة عشر عامًا، وأن يتأخر ردُّهُ عليه إلى بعد وفاة مؤلِّفه الشَّيخ الشَّنقيطي عليه رحمةُ الله. ولا نظن الأستاذ أحمد جمال تصوَّر نفسه كما يقول الرَّاجز: خلا لَكِ الجوُّ فبيضي واصْفِري ... ونَقِّري ما شئتِ أَنْ تُنَقِّري ولا تعنينا نواياهُ كثيرًا ولا أهدافه، فكل الذي يعنينا أن الأستاذ أحمد جمال نَصَّبَ من نفسه مُصحِّحًا لما يمكن أن تكون أخطاءً تصوَّرها من الاستنتاج والاستخراج، توصَّل إليها الشَّيخ الشَّنقيطي في دفاعه المجيد عن القرآن الكريم!! وإذا كان الأستاذ أحمد جمال اتَّخذ لنفسه ذلك المسار، فلا شكَّ في كونِه ارتقى مرتقىً صعبًا. ونحن نظلمُ المرحوم الشَّيخ الشَّنقيطي لَوْ حاولنا أَنْ نجد أيَّ علاقة بينه وبين الأستاذ أحمد جمال في مَبْلَغِ ما بلغاهُ من علوم القرآن واللُّغة، وأظن أنَّ الأستاذ أحمد جمال لا يرضى لنفسه مع الشَّيخ وضعًا غير وَضْعِ التَّلميذ، يتلقَّى من أستاذِهِ حذْقَ صناعةِ فَهْم القرآن؛ مستفيدًا ذلك من تضلُّع الشَّيخ الشنقيطي -رحمه الله- في علوم

اللُّغة والبلاغة والأصول، وهذه بعض أسلحة فهم القرآن، وتفهيمه، وتفهُّمه، وإيضاحه، وتوضيحه. وما كتبه الأستاذ أحمد جمال فيه غلطاتٌ كثيرة قد يُمِلُّ القارئَ تتبُّعُها، ولكنْ سنختار نماذج من هذه الأغلاط في اللُّغة والتفسير والأصول. يقول الأستاذ أحمد جَمال في فقرةٍ من مقاله: "قلتُ: لا حاجة إلى هذا التَّحليل والتعليل الكثير، لأنَّ العطف لا يقتضي المغايرة دائمًا، فقد يكون عطفَ بيان". ومن المؤكَّد أنَّ المقرَّر في فن المعاني من البلاغة في باب الفَصْل والوَصل، أنَّ العطف يقتضي المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه؛ لأنَّ الشيء لا يمكن بحال من الأحوال أن يُعطَف على نفسه. قال الخطيب القزويني في ص 111 من الإيضاح بالحرف الواحد: "فإنْ كان بين الجملتين كمال الانقطاع، وليس في الفصل إيهامُ خلافِ المقصود كما سيأتي، أو كمال الاتِّصال، أو كانت الثَّانية بمنزلة المنقطعة عن الأولى، أو بمنزلة المتَّصلة بها، فكذلك يتعين الفَصْل. . . . أمَّا الصُّورة الأولى: فلأنَّ الواو للجمع، والجمع بين الشيئين يقتضي مناسبةً بينهما كما مَرَّ، وأمَّا

الثّانية: فلأنَّ العطف فيها بمنزلة عطف الشيء على نفسه مع أنَّ العطفَ يقتضي المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه"، انتهى منه بلفظه. وقال السُّيوطي في شرحه على نظم عقود الجمان جـ 1 / ص 207 من المرشدي، والسُّيوطي في الهامش، قال ما نصُّه: "الحال الثّاني كمال الاتِّصال، بأن تكون الثَّانية مؤكَّدة للأولى، أو بدلًا منها، أو عطف بيان، وإنما وجب الفَصْل فيها لكونها توابع، والتَّابع عَيْنُ المتبوع، والعطف يقتضي المغايرة" اهـ منه. وقال المرشدي على عقود الجمان (¬1) ما نصُّهُ: "أمّا كمال الاتَّصال بين الجملتين فيكون لأمور ثلاثة، أحدها: التَّوكيد، والثَّاني: البدل، والثَّالث: البيان، وأمَّا النَّعت فلم يتميَّز عن عطف البيان إلا بأنّه يدلُّ على بعض أحوال المتبوع لا عليه والبيان بالعكس، وهذا المعنى لا تحقّق له بالجمل التي لم تنزل الثانية من الأولى بمنزلة النَّعت بالمنعوت، فلم يتأتَّ فيها أن تكون نعتًا للأولى، وإنّما وجب الفصل فيها لكونها توابع، والتابع عين المتبوع في الماصَدَق وإن كان غيره في المفهوم، والوَصْل الذي هو العطف يقتضي المغايرة" اهـ منه. ¬

_ (¬1) عقود الجمان (1/ 203).

وإذًا، فهناك فِعلًا حاجةٌ إلى تحليلٍ وتعليلٍ كثيرَيْنِ؛ لأن العطف يقتضي المغايرة كما يقوله فطاحلة اللغة العربية، وهم الذين نعتمد عليهم، وليس الأستاذ أحمد جمال في وضع ينازعُ هؤلاء مكانتَهم بغيرِ دليل من قرآن أو سنَّة أو لغة، أو ينسف ما ذهبوا إليه من غير حجَّة. إنَّ الأستاذ أحمد جمال فيما ذهب إليه كان يحاول الردَّ على شيخنا في كتابه دفع إيهام الاضطراب، في محاولة الشَّيخ الجمع بين قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} إلى قوله: {سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 30 - 31]، وبين ما جاء في آيات أُخَر مِمَّا يوهمُ أنَّ أهل الكتاب ليسوا مشركين، مثل قوله تعالى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ} [البينة: 1]، وأمثالها من الآيات مما جاء فيه لفظ المشركين معطوفًا على أهل الكتاب. قال شيخُنا في دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب، صفحة 128: "والذي يظهر لمقيِّدهِ -عفا اللَّه عنه- أنَّ وجه الجمع بين الآيات أنَّ الشركَ الأكبر المقتضي للخروج عن الملة أنواع، وأنَّ أهل الكتاب متَّصفون ببعضها، وغير متَّصفين ببعض آخر منها.

أما البعض الذي هم غير متَّصفين به فهو ما اتَّصف به كفَّار قريش من عبادة الأوثان، وهذه المغايرة هي التي سوَّغَت العطف، فلا ينافي أنْ يكون أهل الكتاب متَّصفين بنوعٍ آخر من أنواع الشَّرك الأكبر، وهو طاعة الشَّيطان والأَحْبار. . . إلخ. وقال شيخنا في معرض قوله تعالى: {وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً} [يونس: 88]: "إنَّ الله ذكر في هذه الآية أنَّ هذا دعاء موسى، ولم يذكر معه أحدًا، فيشكل عليه قوله تعالى: {قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا} [يونس: 89]. قال شيخنا: "والجواب هو أن موسى لمَّا دعا أمَّن هارون على دعائه، والمؤمِّنْ أَحَدُ الدَّاعيَيْن، وهذا الجَمْع نقله ابنُ كثير عن أبي العالية، وأبي صالح، وعكرمة، ومحمد ابن كعب القرظي، والرَّبيع بن أنس" اهـ. والأستاذ أحمد جمال لا يعجبه هذا الجمع، ويعلِّل بأنَّه لا حاجة إلى الجمع بين الآيتين؛ وقال الأستاذ أحمد جمال مبرهنًا على أن هذا أسلوبٌ من أساليب العرب معروف فلا يحتاج إلى تبيين، حتَّى استدلَّ على ذلك بقوله تعالى {فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} الآية [طه: 117]، على أن شمول الآية التي ذكر فيها موسى وحده {وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً}

لهارون، هو عَيْنُ شمول قوله تعالى: {فَتَشْقَى} لحواء. ونحن نقول: إن بين الآيتين بونًا كبيرًا، فإن علاقة هارون بموسى علاقةٌ تبعد كلَّ البعد عن علاقة آدم بحواء. فهارون وموسى رجلان أخوان اشتركا في الرِّسالة، وليس بينهما علاقة أخصّ من ذلك تشبه ما بين آدم وحواء. وإنَّ مدلول قوله تعالى: {فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا} هو: فلا تقبلا منه فيكون سببًا لخروجكما من الجنَّة فتشقى يعني أنت وزوجك، وخصَّهُ بالخطاب لأنه هو العائل لها، وإنما خصَّه بذكر الشَّقاء ولم يقل فتشقيان لعلمنا أنَّ نفقة الزوجة هي على زوجها. فإذا علمنا أن المغايرة بين علاقة هارون وموسى، وعلاقة آدم وحواء موجودة، فليس هنا ما يجعل من الجمع بين الآيتين أمرًا غير وجيه، راجع تفسير القرطبي جـ 8/ ص 375، وراجع تفسير أبي حيَّان المجلد الرَّابع عند هذه الآية، وراجع تفسير الشَّوكاني عند قوله تعالى: {قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا} الآية [يونس: 89]. وبذلك يتبيَّن لك وللقارئ أنَّ شيخنا -عليه رحمةُ اللَّه- فيما ذهب إليه كان يستند على أجلَّة العلماء والمفسِّرين، فما الذي يستند عليه الأستاذ أحمد جمال؟؟.

ومضى أحمد جمال يُقرِّر: لا نسخ في النّفرة ولا نسخ في العدد قائلًا: "والذي أفهمه من الآيتين وهما متتاليتان من سورة الأنفال، مترابطتان لفظًا ومعنىً، ولا نسخ في الآية الأولى بل هناك تفريق وتمييزٌ بين حالتين. . . ." -إلخ كلامه بشأن آيات المصابرة من سورة الأنفال-. فما هو رأي الأستاذ أحمد جمال فيما قاله طائفةٌ من المفسِّرين الذين يؤيدون ما ذهب إليه شيخنا -رحمه الله-؟؟. أأذكر قول أبي حيان في البحر المحيط في أنَّ آية المصابرة باثنين ناسخة للمصابرة بعشرة جـ 4/ ص 516 عند قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ} [الأنفال: 65 - 66]. قال أبو حيَّان: "الجملتان شرطيتان، فيهما الأمر بصبر عشرين للمائتين وبصبر مائة للألف، ولذلك دخلهما النَّسخ إذ لو كان خبرًا لم يكن فيه النَّسخ، وهذا من ذلك، ولذلك نسخ بقوله تعالى: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ} [الأنفال: 66]، الآية اهـ منه. وفي القرطبي ما نصُّهُ: "وروى أبو داود عن ابن عباس قال: نزلت {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} فشَقَّ ذلك على المسلمين حين فرض عليهم أن لا يفرَّ واحدٌ عن عشرة، ثم إنَّه

جاء التَّخفيف، فقال تعالى: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ} إلى قوله: {مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} الآية وقال ابن العربي: "قال قومٌ: كان هذا يوم بَدْر ونُسِخَ. . . . إلى أنْ قال: وذكر القاضي ابن الطيب أنَّ الحكم إذا نُسخ بعضُه أو بعضُ أوصافه أو غُيِّرَ عدَدُهُ فجائزٌ أنْ يُقال: إنهُ نُسِخَ؛ لأنهُ حينئذٍ ليس بالأَوَّل بل هو غيره. وفيما يلي ما قاله بعض المفسرين في تناسخ الآيتين الأُخرَيَيْن: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} [التوبة: 41]، مع قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى} [التوبة: 91]. قال القرطبي: "اختُلفَ في هذه الآية، فقيل: إنّها منسوخة بقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى} الآية [التوبة: 91]، وقيل: النَّاسخ لها قوله تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} الآية [التوبة: 122]. وقال القرطبي أيضًا: "قوله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} الآية [التوبة: 122]، فيه أنَّ الجهاد ليس على الأعيان، وأنه فرضُ كفاية كما تقدَّم إذ لو نَفَر الكُّل لضاع من وراءهم من العيال، فليخرج فريقٌ منهم للجهاد، وليقم فريقٌ يتفقهون في الدين، ويحفظون الحريم، حتَّى إذا عاد النَّافرون عَلَّمهم المقيمون ما تعلموا من أحكام الشَّرع، وما تجدد نزوله على النبيِّ

- صلى الله عليه وسلم -، وهذه الآية ناسخة لقوله تعالى: {إِلَّا تَنْفِرُوا} [التوبة: 39]، وللآية قبلها على قول مجاهد وابن زيد". ثم قال: "الثانية: هذه الآيةُ أصلٌ في طلب العلم؛ لأنَّ المعنى: وما كان المؤمنون لينفروا والنبي - صلى الله عليه وسلم - مقيمٌ فيتركوه وحده، فلولا نفر -بعد أَنْ عرفوا أَنَّ النَّفير لا يسعهم جميعًا- من كل فرقة طائفة، وتبقى بقيَّتُها مع النبى - صلى الله عليه وسلم - ليحملوا عنه الدِّين ويتفقهوا. . . . هذا هو التَّحقيق في تفسير الآية؛ أي: جعْلها في الجهاد وطلب العلم معًا، فكيف يخصِّصها أحمد جمال بالعلم فقط؟؟ والأستاذ أحمد جمال يستدلُّ على عدم النسخ بأن الآيتين متتاليتان، وكأنَّه لم ير قط آيتين في صفحة واحدة إحداهما ناسخة للأخرى؛ فهذه آية الصَّوم وإلزامه: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185]، ناسخة لقوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} الآية [البقرة: 184]، وهذه آية الاعتداد بأربعة أشهر وعشر ناسخة لآية الاعتداد بالحول، والمنسوخة بعد النَّاسخة في ترتيب المصحف. وأتطرَّق أخيرًا إلى سقطاتِ الأستاذ أحمد جمال في مبادئ الأصول الفقهية. . . .

فقد قال: "أما الآيات الأخرى حول المصابرة فهي بيانٌ لأعذار المعتذرين بمرضٍ مقعدٍ أو ضعفٍ معجز. . . . إلى أَنْ قال: "فقد أمرنا بالوضوء من الماء وبالصلاة قيامًا، وليس معنى التَّرخيص بالقعود في الصلاة وبالتيمُّم لأصحاب الأعذار ناسخًا للأمر، وإنَّما هو استثناء لحالات الضَّرورة. . . ." إلخ. وظاهرُ كلام الأستاذ أحمد جمال يتبيَّن منهُ أنَّه لا يعرف كيف يكون النَّسخ، وأنَّه لا يميِّز بين الرُّخصة والعزيمة. ويمكن أن نحيله في هذا إلى مراقي السُّعود عند تعريف النَّسخ حيث يقول: رفعٌ لحكمٍ أو بيانُ الزَّمن ... بمُحكمِ القرآنِ أو بالسُّننِ ويمكنه أَنْ يقرأ ما قاله شيخُنا في شرح مراقي السُّعود حيث قال في السِّياق: "فخرج بقوله: (رفع لحكم) رفع البراءة الأصلية، وبقوله: (بخطاب شرعي) رفع الحكم بارتفاع محلِّه، أو بانتهاء غايته إن كان مغيًّا، وخرج بقوله: (متراخٍ عنه) ما يرفعه المخصِّص المتَّصل كالاستثناء من الأفراد المشمولة للحكم لولا الاستثناء". ومن هنا يتبيَّن أنَّه لا مانع من النَّسخ بتاتًا، وأنَّ رفع البراءة الأصليَّة

ليس من النَّسخ في شئ، ومن هنا تدرك أيُّها القارئ أن استدلال أحمد جمال بفرض التيمُّم بعد أَنْ لم يكن مفروضًا رفعٌ للبراءة الأصليَّة، وهي الحالة الأصلية قبل نزول الحكم، وهي ما يعبِّر عنه الفقهاء باستصحاب العدم الأصلي، بل هو عزيمةٌ فُرِضَتْ برفع البراءة الأصليَّة. والذي يريد أَنْ يعرف ما هي البَراءة الأصلية، عليه مراجعة شرح مراقي السُّعود لشيخنا عليه رحمةُ الله. وما مَثَّل به الأستاذ أحمد جمال للاستدلال به على عدم النَّسخ إنما هو رُخْصَةٌ، أعني صلاة المريض جالسًا، وهناك فرقٌ بين العزيمة والرُّخصة. والتَّفصيل في هذا يفيد بجلاء الموقف في التأكُّد أن استنتاجات الأستاذ أحمد جمال ليست صائبة، ويبدو أنَّ الأستاذ الفاضل تورَّط في أمور لا قبل له بها، والله تعالى يقول: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36]، والله نسأل أَنْ يهدينا جميعنا للصَّواب إنّه سميع مجيب" اهـ. وردَّ الأستاذ أحمد جمال على ما نشرناه - فى جريدة المدينة تعقيبًا

على ما كتبه في مجلَّة التَّضامن الإسلامي غير أن ردَّهُ ظهر في جريدة النَّدوة ليضمن عدم قبولها لأيِّ ردِّ على ما يكتبه فيها، وكان الردُّ منه بتاريخ 9 رمضان سنة 1394 هـ وفي عددها: [4750]، وهذا نصُّ ما كتبه عليه رحمةُ الله: "قضيَّتنا الكبرى وموضوعنا الأساسي هو توهُّم الاضطراب في آيات الكتاب". كتب أحمد أحمد الشَّنقيطي في جريدة المدينة مقالًا يردُّ فيه على ملاحظاتي التي نشرتُها في مجلة التَّضامن الإسلامي؛ حول مقالات فضيلة الشَّيخ محمَّد الأمين الشنقيطي في مجلة الجامعة الإسلامية تحت عنوان: (دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب)، وثُلُثُ المقال هراءٌ، وبَذاءٌ، وطعنٌ شخصي بعيدٌ كلَّ البعد عن النَّقد الموضوعي، والحوار العلمي المؤدَّب! وسوف أضرب عنه الذِّكر صفحًا حرصًا على وقت القُرَّاء الثمين، وأبدأ مباشرةً في الردِّ الموضوعي مستعينًا بالله العزيز الحكيم، متأدبًا بأدب القرآن في قول الله تبارك وتعالى: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} [الفرقان: 72]، {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ} [القصص: 55]. أولًا: إنَّ فضيلة الشَّيخ مُحمَّد الأمين -رحمه الله- على عَيْني ورأسي،

وهو في مقام أساتذتي، وأنا في مقام تلامذته بطوعي واختياري لا رغمًا عني ولا إكراهًا لي كما توهَّم المعقِّب المتعصِّب. ثانيًا: أنا لم أقرأ مقالاتِ فضيلته إلا في مجلَّة الجامعة الإسلامية، وكونها قد نُشرت في كتابٍ قبل تسعة عشر عامًا لا تأثير له في النَّقد أو التَّعقيب، وليس مفروضًا فيَّ أو في غيري من الكُتَّاب أو النُّقاد أن يقرأوا كلِّ ما صَدَرَ من الكتب والمؤلفات في العالم شَرْقه وغَرْبه، فهذا أمْرٌ فوق طاقة البَشَر، ولا يوجد بل لن يوجدَ الإنسانُ الذي يَزْعُم هو نفسه أو يَزعُم له المتعصِّبون أنَّهُ أعلمُ النَّاسِ وأفقه النَّاس، ولا يجوز بحال من الأحوال أَنْ يتطاول إلى مقامه متطاولٌ أو يلاحظ على مقاله ملاحظٌ كما زعم الأخ أحمد الشَّنقيطي! وكلُّ عالم أو فقيه يؤخذ من مقاله ويرد عليه إلا الأنبياء المعصومين، وحسبنا أدبُ القرآن: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85]، {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: 76]، و {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114]. وأنا طالبُ علمٍ أبدأ من المَهْد إلى اللَّحد، وسواء قرأت مقالات الشَّيخ في الكتاب أم في المجلة، فالمهم هو ما لاحظتُهُ عليها: هل هو حقٌّ وصواب أم خطأ وباطل؟ فإنْ كانت الأولى فالحمد للَّه على ما وفَّق وأعان، وإنْ كانت الأخرى فهاتوا برهانكم إن كنتم صادقين.

ثالثًا: كنت قد كتبتُ مقالاتي قبل وفاة الشَّيخ -رحمه الله- ثم بعثتها إلى مجلة الجامعة الإسلامية، لكن المجلَّة لم تنشرها. رابعًا: إن الجوَّ ليس كما زعمه المعقِّب خاليًا، وليس هناك بَيْضٌ ولا صَفيرٌ ولا نَقْرٌ، فالعلماء موجودون في السُّعودية بل في العالم الإسلامي كله، وما كتبته نُشر في مجلَّة عالمية، وسوف يظهر في كتابي مع المفسِّرين والكتاب الطبعة الثَّانية قريبًا. وإلى جوار ملاحظاتي على الشَّيخ الشَّنقيطي ملاحظاتي على سلطان العلماء العز بن عبد السَّلام -رحمه الله- في كتابه: المفيد في مشكل القرآن، إذ إنَّ موضوعهما واحد هو افتعال المشكلات والاضطرابات في نظم الآيات، ثم محاولة حل الإشكال، ودفع الاضطراب!!. ابتعادُ المعقِّب عن الموضوع الأساسي: وتعقيبُ الشَّيخ أحمد على طوله ابتعد عن الموضوع الأساسي لملاحظاتي على الشَّيخ الشَّنقيطي، وهو (توهُّم الاضطراب في آيات الكتاب)، وقد قلتُ في فاتحة تعليقاتي إنَّني أثبتها هنا لعل فيها ما يُعين على فهم كتاب الله، دون توهم للاضطراب أو ظنٍّ للاستشكال؛ لأنَّ الله -عز وجلَّ- يكرَّر في القرآن أنَّه جاء بلسان

عربيٍّ مبين، وأنَّه لا اختلاف في ألفاظه، ولا تناقض في أهدافه، ولا اضطراب في معانيه كما قلتُ في المقدمة: "لو أنَّا ربطنا بين الآيات ذات الموضوع الواحد والقضيَّة الواحدة، ولو كانت موزَّعةً على سُوَرٍ متعدِّدة لما اختلفتْ معانيها ومقاصدها، ولما توهَّمَ متوهِّمٌ اضطرابًا أو تناقضًا فيها". وقلتُ في الخاتمة: "إنَّ الشَّيخ توهَّم التَّناقض والاختلاف بين بعض ألفاظ القرآن ومعانيه، وحاول دفعها بما هو موجودٌ في الآيات نفسها، أو بما هو معروفٌ ومعلومٌ من قواعد اللُّغة العربية، ومبادئ بلاغتها، وكلام العرب الفصحاء منْ نَثْرٍ وشعر". كما قلتُ في الخاتمة أيضًا: "لقد كنتُ أَوَدُّ أنَّ الشَّيخ -عفا اللهُ عنه- قد وَجَد أمامه زعمات لأشخاص معادين للقرآن، أو جاهلين لفصاحته وبلاغته عن اضطراب أو إشكال في آيات القرآن، فرَدَّ عليهم، وأوضح لهم ما غمض عليهم، أو كَذَّبَ ما افتروه على القرآن، إذًا لكان له عذرٌ، بل لكان له شكرٌ على دفاعه عن القرآن، أمَّا أنْ يتوهَّمَ هو أو يفتعل الاضطراب في آيات الكتاب، وبالتَّالي يتوهَّمها للمعادين له أو الجاهلين به؛ فهذا ما استنكرتُهُ وما خفتُ عواقبهُ السَّيئة على عقولِ قُرَّاءِ هذه المقالات من الشَّباب، والطلاب، وضِعاف الإيمان، وقليلي البحث في علوم القرآن ومجالات فهمه وتفسيره.

هذا هو أساس تعليقاتي على مقالات الشَّيخ الشَّنقيطي قبل وفاته -رحمه الله-، وهو نفسُ أساس ملاحظاتي على كتاب العزِّ بن عبد السلام (المفيد في مشكل القرآن)، فأنا كدارس للقرآن، وباحثٍ في علومه خلال ثلاثين عامًا، ومؤلفٍ فيه سلسلة: (على مائدة القرآن) قبل أكثر من عشر سنوات، أنا طالب العلم، والباحثُ عن الحقيقة!! أرى أنَّهُ لا اضطراب ولا إشكال في القرآن، وأنَّه جاء بلسانٍ عربي مبين كما أنَّهُ مُيَسَّرٌ لِلْفَهْمِ والتفهيم".

الموضوعات التي حاورت الشيخ حولها

الموضوعات التي حاوَرْتُ الشَّيخ حولها والشِّيخ أحمد كما ابتعد عن أساس ملاحظاتي لم يُورد عباراتي واستدلالاتي كاملةً في قضية النَّسخ، ولا في قضية واو العطف، ولا في موضوع دعاء موسى وهارون. وإنَّما أشار إليها ثَّم ردَّ عليها بما يَحْلو له، وكان عليه أَنْ يورد النَّصَّ كاملًا بحججه واستدلالاته ثَم يعقب عليه؛ ليميِّز القارئ بين الخطأ والصَّواب، وبين الباطل والحق. كما أن المعقِّب ذكر موضوعات جانبية، ولم يذكر القضايا المهمَّة التي رَدَدْت فيها على شَيخه -رحمه الله-، منها: الاستثناء في المشيئة الإلهيَّة - مواقفُ الكفَّار يوم القيامة اختلافًا وتعددًا - قلوبُ المؤمنين بين الوَجَلِ والاطمِئنان - ليس الكفار كلُّهم يجحدون الآخرة - أهليَّة النَّسب، وأهليَّة الدِّين في قضية نوح وابنه - تأكيد الذم بما يشبه المدح في تعبيرات القرآن - الرُّسل لا يعلمون الغيب بإطلاق - المقابلة والمشاكلة في عبارات القرآن - التَّدَرُّج في تحريم الخَمر - حولَ قوله: {إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى} [الليل: 12]، وقوله: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} [الأعلى: 9]،

وقوله: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4]- حولَ ما وَرَد في القرآن من أقسام التَّوكيد حول قوله: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} [العاديات: 6]- إلخ .. إلخ .. إلخ. وفي كل هذه القضايا يقول الشَّيخ -رحمه الله-: "جاءت آياتٌ تدلُّ على خلاف ذلك، أو ذكر اللهُ ما يدل على خلاف ذلك، أو التنافي بين التركيبَيْن ظاهرٌ، أو هذه الآية توهم أن الإنسانَ ينكرُ أنَّ ربَّهُ خلقه، أو المنافاة بين وَجَلِ القُلوب والطمأنينة ظاهرة إلخ. إلخ. إلخ. فالقضية الكبرى التي بيني وبين الشَّيخ الشَّنقيطي من جهةٍ، والعزِّ ابن عبد السلام من جهة أخرى: هي افتعالُ المشكلات، وتوهُّم الاضطراب في آيات الكتاب، ثم قياس القرآن الكريم على قواعد اللُّغة، والنَّحو، والصَّرف، والبلاغة، وكان الواجبُ قياس هذه القواعد على القرآن؛ لأنَّه الذروة في الفصاحة، والبلاغة، وسلامة العبارة، وسلامة التَّركيب؛ ولأن هذه القواعد اللُّغوية والبلاغية إنَّما وُضِعَتْ بعدَهُ وعلى أساس فصاحته وبلاغته اللَّتَيْنِ دونهما فصاحةُ الفُصَحاء، وبلاغَةُ البُلَغاء. ولولا خشية الإطالة لأتيتُ بنموذجٍ أو نموذجين من أقوال الشَّيخ الشَّنقيطي ليرى القارئ سلامة موقفي وقُوَّة حُجَّتي في الرَّدِّ على

واو العطف ليست للمغايرة دائما

مفتعلي الإشكال، ومتوهِّمي الاضطراب في آيات الكتاب الحكيم، ولكن ملاحظاتي موجودة وميسَّرة كما قلتُ!! نَشَرَتْها مجلةُ التَّضامن الإسلامي، وسوف تظهرُ في كتابي مع المفسِّرين والكتاب قريبًا بإذن الله وعونه. وأنا أُرَحِّبُ بأيِّ رَدٍّ، أو تعقيب، أو تَصحيحٍ علمى نزيهٍ، ذلك أنِّي -كَما أسلفتُ- طالبُ علم!! وناشدُ حَقِّ من المَهْدِ إلى اللَّحْدِ، كما أنِّي دائمًا متأدِّبٌ بآداب القرآن: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا}، {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ}، {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا}، وفي الوقت نفسه لا أعترف بالعصمة إلا للأنبياء، فكلُّ العلماء، والمفسِّرين، والمُحَدِّثين في القديم والحديث بَشَرٌ يؤخذ منهم وُيرَدُّ عليهم، كما لا أعرف التَّعَصُّب الذَّميم لأستاذٍ، أو شيخ، أو قريب، أو صديقٍ تأدُّبًا بأدب القرآن: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [النساء: 135]. واوُ العطْفِ ليستْ للمُغايَرَةِ دائمًا وأنا مازلتُ عند رأيي أن وَاوَ العَطْفِ لا تقتضي المغايرة دائمًا، والآياتُ القرآنيةُ التي تَدُلُّ على ذلك كثيرةٌ منها: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة: 38]، {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا}

الإسراف في ادعاء النسخ

[النور: 2]، {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} [المائدة: 15]، {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [محمد: 33]، فالسَّارقةُ ليست غير السَّارق نفسًا وفعلًا وعقوبة، والزَّاني ليسَ غير الزَّانية نفسًا وفعلًا وعقوبةً، والنُّورُ والكتاب المبين شيء، وطاعة الرَّسول هي طاعة الله كما أكدتْها آيةٌ أخرى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80]، وإنَّما جاءَ العَطفُ في هذه الآيات لبيان الجنس أو النوع كما أنَّ عطف الكتاب المبين على النُّور كانَ لأنَّ النُّورَ معنىً غيرُ ملموس ولا محسوس، فكان العطفُ للتَّنصيص أو التَّخصيص لئلا يجدَ الكفار حجَّةً لهم لإنكار النور، أمّا الكتَاب فلا يستطيعون إنكارَهُ، فالعطف إذًا لا يقتضي المغايرة دائمًا، ولو قال النُّحاة وقالوا، فالنُّحاةُ ليسوا حجةً على القرآن، بل القرآن حجةٌ عليهم، ثم هل اتَّفق النُّحاةُ على قاعدة واحدة في النَّواصبِ، والرَّوافع، والجوازم، والعواطف، والضمائر، والظَّواهر؟! الإسراف في ادِّعاءِ النَّسخ من الملاحَظ أن كثيرًا من المفسِّرينَ القُدامى وبعض المُحْدَثين قد أسرفوا في ادِّعاء النَّسخ لكثير من آيات القرآن، حتَى ذهبَ بعضهم إلى زَعْم النَّسخ للأخبار، وهذا باطلٌ بل كفر؛ لأنَّه يعني التَّكذيب

لأخبار القرآن، وأحيلُ القارئ إلى كتاب (مع المفسِّرين والكتاب) ففيه أبحاثٌ ودراساتٌ طوال حولَ هذه القضيَّة، قضيةِ الإسراف في ادِّعاءِ النَّسخ. ووجهةُ نظري في ملاحظاتي على الشَّيخ الشَّنقيطي -رحمه الله- في قوله بنسخ هذه الآية: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} لأن اللهَ -كما قال الشَّيخ- ذكَرَ ما يدلُّ على خلافِ ذلك في قوله: {فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} أنَّهُ لا نسخ في الآية الأولى، بل هناك تفريقٌ وتمييزٌ بين حالتين: الحالة الأولى: إذا كان المؤمنون أقوياء فالواحد منهم يغلب عشرة من الكفار، والحالة الثانية: إذا كان المؤمنونَ ضعافًا فالواحد منهم يغلب اثنين من أعدائهم، وهذه ميزة المسلم بإيمانه على الكافر بكفره، إذا تساويا قوةً وسلاحًا. ومثل هاتين الآيتين أو هذين الموقفين ما جاء في سورة آل عمران من الوعد أولًا بإمداد المسلمين بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين، ثم الإمداد بخمسة آلاف من الملائكة مسوّمين، فإنما هي حالات، أو مراحل، أو ظروف مختلفة، أو متتابعة، لأنَّ أمثال هذه المواقف وما نزل فيها من آيات ليس فيها تشريع أو حكم حتى يُقال بالنَّسخ للسَّابق باللاحق، بل هذه الآيات القرآنية أشبه بالأخبار والوعود التي لا يجوز عليها القول بالنَّسخ.

وإنَّما يقال إنها نافذةٌ وقائمةٌ وَفْقًا للأحوال والظُّروف، فإنْ كان المسلمون أقوياء فالعشرون منهم يغلبوا مائتين، وإن كانوا ضعفاء فالمائة منهم يغلبوا مائتين، وكذلك الوَعْدُ بإمدادهم بثلاثة آلاف من الملائكة أولًا، ثَّم جاءَ الوَعْدُ الثَّاني: {إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} [آل عمران: 125]. ولقد ذَهَب بعض الباحثين في علوم القرآن والمتدَبِّرينَ لأحكامه وأخباره إلى أنه لا نَسْخ في القرآن إطلاقًا! وإنما هي أحكامٌ نزلت على مراحل وظروف متدرِّجة وفقًا لأحوال المسلمين، وحاجاتهم، وقدراتهم. ومن أمثلة الإسراف في ادِّعاء النَّسخ قول الشَّيخ -رحمه الله- إن هذه الآية: {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا} [النحل: 67]، قال: إنَّها نُسِخَتْ بهذه الآية: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ} إلى قوله تعالى {فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90]، ووجْهَةُ نَظَري أنَّهُ لا نَسْخ في الآية الأولى؛ لأنَّها من قبيل الأخبار، ومعناها قائمٌ أبدًا، فثمراتُ النَّخيلِ والأعناب ما تزالُ إلى يوم القيامة يأكلها فريقٌ من النَّاسِ طعامًا أو فاكهةً حلالًا ورزقًا حَسَنًا، وفريقٌ آخر يتخذها خمرًا وسَكَرًا، فمضمونها حقيقةٌ

وواقعٌ لا يقبل النَّسخَ لأنَّها خبر لا يجوز عليه الإبطال. ولو جارَيْنا الشَّيخ -رحمه الله- ومَنْ يذهب مذهبه في الإسراف في ادِّعاء النسخ في آيات القرآن، لقلنا: إن آية {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء: 43]، منسوخةٌ أيضًا بالآية الأخيرة: {فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}، ومعنى ذلك أنَّه يجوز للسكارى أن يقربوا الصَّلاة، وهو باطلٌ لا يقبل جَدَلًا. ومن هنا لا أرى رأيَ الذين يتسرَّعون بالقول بالنَّسخ في آيات القرآن، وأقف هنا لأحيل القرَّاء والعلماء الفاقهين على ملاحظاتي، ليروا هَلْ أنا على صواب أم خطأ. . . . بعيدًا عن التَّعَصُّب الذميم، بعيدًا عن الهُراء والبَذاء، والطَّعن الشَّخصي {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: 76]، والسَّلام على من اتَّبع الهُدى، ولا عصمة إلا لنبيٍّ. أحمد مُحمَّد جَمال

الرد على ما نشرته جريدة الندوة بقلم الأستاذ أحمد محمد جمال

الردُّ على ما نَشَّرتهُ جريدة النَّدوة بقلم الأستاذ أحمد محمَّد جَمال لقد كنت أعددتُ ردًّا على كثير ممَّا نشرتْهُ جريدةُ النَّدوة بقلم الأستاذ أحمد محمَّد جمال تعقيبًا على ما نشرتْهُ جريدة المدينة ردًّا عليه، ولقد تركتُ الردَّ على بعض فقراتِ ممَّا كتبه لتناقضها ولما يلوح عليها من أن صاحبها لا يَعي ما يقول، وإنَّ نَبْرَةَ الهسْتيريا لتَلوحُ عليها لكلِّ ذي عَيْن. ولقد قام بعض إخواني بحذف كل عبارة من مقالي يَرون أنَّها لا تصلح لِلُغة الصَّحافة اليوم، حتى إنَّه لم يبقَ مما كتبته إلا القليل. ولقد جَلَبَ خصمُنا -عليه رحمة الله- بخيله ورجله ليقفلَ وسائل النَّشر بالمنطقة الغربيَّة أمامي، وفعلًا حَصَلَ له ذلك، وكيف لا؟! وهو من أثرياء مكة المكرَّمة، وأخوه صالح مُحمَّد جمال عضو المجلس البلدي بها؟! فالتجأتُ إلى مجلَّة التَّضامن الإسلامي لأنها مجلة حكومية، وهي التي نشرتْ تعقيبه أولًا؛ فنشرتْ المقالَ متفاوتا وبعد اللَّتي واللتيا.

بين الشيخ الشنقيطي والأستاذ أحمد محمد جمال يكتبه أحمد بن أحمد الشنقيطي

وهذا نَصُّ الردِّ وبالله التَّوفيق: بين الشَّيخ الشَّنقيِطي والأستاذ أحمد مُحَمَّد جمال يكتبه أحمد بن أحمد الشنقيطي بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} [البقرة: 204 - 206]. صدق الله العظيم. الحمد لله الذي لا معقِّب لحكمه، ولا علم إلا ما هو مستمدٌّ من علمه، اللَّهم صلِّ وسَلِّم وبارِك على نبيِّكَ محمَّدٍ الأمين القائل: "مَنْ يُرِدِ اللهُ به خيرا يُفَقِّهْه في الدِّين"، وعلى آله وَصَحْبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدِّين، أما بعد: فإن الأخ الأستاذ أحمد محمَّد جمال قد نَشَرَ في جريدة النَّدوة يوم الأربعاء 9 رمضان سنة 1394 هـ تعقيبًا على تعقيبٍ كنتُ تابعتُ فيه تعليقاته على كتاب العلَّامة المرحوم شيخنا الشَّيخ محمَّد الأمين الشَّنقيطي.

وفيما كتبه الأستاذ أحمد جمال نُعيذُه باللَّه من الإعجاب بالنَّفس، ومن رؤيةٍ لفَضْلها على غيرها، و"من عِزَّةٍ في غَير حَق". عدا أنَّ ما كتبه يقتضي أنَّ الحقائق والأسانيد لا تخرج عن كونها رأيًا. . . . وفي القرآن الكريم أيضًا، وبغير حجَّة أو دليل! وحيث قلتُ إن أحمد جَمال طَرَقَ موضوعًا فوق طاقته لم يكن يَدور بخَلَدي أن ذلك يجعل "ثُلُثَي المقال" يُصَنَّفُ في مجالِ البَذاءَة. ومادامَ أن الشَيخَ لم يكن وحدَهُ المتَضَرِّر من انتقاداتِ أحمد جمال، بل يشارِكُهُ فيها العزُّ بن عبد السَّلام، فلا شَك أنَّ الأستاذَ أحمد جمال يَسْتَحِق العُتبى. ولكن؛ لو أنَّ المناقشات العلمية، وخاصَّة ما كان منها حولَ تفسير القرآن، لو أنَّها يُكْتَفَى فيها بـ"قلتُ" ما كَلَّفْتُ نفسي تعقيبَ ما كتبَهُ أحمد جمال، لقد كان تعقيبي عليه لأنَّهُ يريد منَّا أن نستبدلَ بجهود العلماء الذين صَرَفوا حياتهم الحافلة بالانكباب على العلم وحده ودراسته في كتب التفسير واللغة، والأصول، والصرف، والبلاغة، يريدُ منَّا أن نستبدلَ هذا بمجرَّدِ قولهِ: "قلتُ". وهذه ظاهرةٌ جديدةٌ لدى طائفةٍ من المفسِّرين الحديثين أمثال الدكتور مصطفى محمود الذي كان في تفسيره العصري -وحَسْبَما

دع عنك العلماء يا جمال!!

كتبتْهُ الدكتورة بنتْ الشاطئ- يتَّجِهُ اتجاهات شبيهة باتجاهات الأستاذ أحمد جَمَال من القولِ برأيه واجتهاده في القرآن من غير دَعْمٍ بالحجج والبراهين التي لابدَّ للعلماء والمفسرين منها، لأنَّ هذه ظاهرة جديدة، فقد يكون السُّكوت عليها من جانب طلبة العلم من التَّقصير الشَّائن. دَعْ عنك العلماء يا جَمَال!! ولئن كان الأستاذ أحمد جمال يقول: إني كتبتُ ثُلُثَيْ ما كتبتُهُ في مجال "الهُراء والبَذاءَة"، فقد كانَ أكثر ما كتبتُهُ استشهادات منقولة بالنَّصِّ عن أجلاء أئمةِ التفسير وعلوم القرآن مثل: ابن عطيَّة، وابن العربي، والقرطبي، وأبي حيان، والشَّوكاني، وفي ميدان الأصول عن ابن السُّبكي في جمع الجوامع، وعن شَرْحهِ الضِّياء اللامع لابن حلولو، وعن مراقي السُّعود، إلى غير ذلك. وفي مجال البَلاغَة عن فحول الفنِّ مثل الخطيب القزويني والعلّامة المرشدي والجلال السُّيوطي فما أشدَّ فخري بهذا الهُراء وهذه البَذاءة إذًا!! غير أنَّني أَلتَمِسُ العذرَ للأستاذِ أحمد جمال من حيث إنَّهُ إمَّا أنَّ

الحساب قد اختلطَ عليه، وامّا أنّ التعبيرَ قد خانَه. وأرى الأستاذ أحمد جَمَال لم يركِّز على شيء فيما كتبه في النَّدوة مثل تركيزه على عَيْبي بالتَّعَصُّبِ الذميم. . . وإنِّي، وكذلك كلُّ طالب علم، لأَضُمُّ صوتي إلى صوت الأستاذ أحمد جمال في إعابةِ هذه الخصلة الذَّميمة. . . وإنَّ أشنع ما يكون من ذلك هو ما يكون منهُ تعصُّبًا للنَّفس. . . وقد يكون من غير التَّعصُّبِ في نظر الأستاذ أحمد جمال لو حصل السُّكوتُ مِنَّا على تَقَوُّلاتِهِ على صاحب "دَفْعِ إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب" أو عمَّا سيكتبه عن سلطان العلماء العزِّ بن عبد السلام، لو حصلَ مني ذلك لكنتُ عنده -ولا شك- من أشدِّ المتسامحين. وسوف أخالفُ الأستاذ في هذه فقط، وهي أني لا أعتقد في شَيْخي ولا في غيره من العلماء إلا أنهم يجوزُ عليهم الخطأ والنسيان، وإذا كان ذلك يجوز عليهم فهو على الأستاذ أحمد جَمَال أشدُّ جوازا من باب أَحْرى. . .!! ومن هنا كانت محاولتي لردِّ أخي إلى صوابه عن طريق الإحالة إلى منابع العلم الأساسية، وباستشهاداتي فيما ذهبتُ إليه بما سقتُه من أدلَّةٍ وحُجَج، وما أحلتُهُ إليه من المراجع لطائفةٍ من أئمة

المسلمين المشهود لهم بالفهم والقَدَم الرَّاسخة في علوم القرآن. وقريبًا سنطالعُ كتاب الأستاذ أحمد جَمَال "مع المفسرين والكتاب"، وفيه يَرُدُّ دفعةً واحدةً على خيرة العلماء وعلى المشبوهين من المستشرقين واليهود في آنٍ واحد! ذلك الكتاب يردُّ فيه على سلطان العلماء العزّ بن عبد السلام، وعلى جُسْتاف لُبون، وعلى فضيلة الشَّيخ محمَّد الأمين الشَّنقيطي، وعلى جُولد تسهير، والزَّمخشري، والباقوري. . . فهل الموضوع الذي جَمَعَ بين هؤلاء جميعًا هو افتعال المشاكلِ في القرآن؟ نعوذُ باللَّهِ من توُّهمِ ذلك. يقول الأستاذ أحمد جَمَال في جريدة النَّدوة: "وإلى جوار ملاحظاتي على الشَّيخ الشَّنقيطي ملاحظاتي على سلطان العلماء العزِّ بن عبد السلام -رحمه الله- في كتابه المفيد في مشكل القرآن إذ إنَّ موضوعهما واحد". . . إلخ. وكان أحرى بالأستاذ أحمد جمال أن يضمَّ إليهما إمامَ أهلِ السُّنَّةِ أحمد بن حنبل؛ فقد سَبَقَ هذين إلى الكتابة في هذا الموضوع بكتابِهِ: (الردِّ على الزَّنادقة والجهمية) وأن يضيف إليهما أيضًا أبا محمَّد عبد الله بن قُتَيْبَة، فقد صنَّفَ في هذا الموضوع كتابه المعروف بـ (تأويل مشكل القرآن).

تكاثرتِ الظِّباءُ على خِراشٍ ... فما يدري خِراشٌ ما يَصيدُ ولقد صدق الأستاذ أحمد محمَّد جَمال في قوله: "ولو ربطنا بين الآيات ذات الموضوع الواحد والقضية الواحدة، ولو كانت موزَّعة على سورِ متعددة، لما اختلفت معانيها ومقاصدها ولما توهَّمَ مُتَوَهِّمٌ اضطرابًا أو تناقضًا بينها". ولكن المشكلَ يا أستاذ أحمد جمال بالنسبة لطلبة العلم هو أن هذا الرَّبط بين هذه الموضوعات عزيزُ المنالِ على مَنْ لم يمدَّهُ اللَّهُ بالتوفيق إلى ذلك، وهذا الرَّبط هو وجه الجَمْعِ بين الآيات التي قد يكون ظاهرها متعارضًا في نظر غير المطلِع. . . وهذا بعينه هو ما حَمَلَ العُلماء إلى تبيين وَجْه الجَمْع بين الآيات وما تدلُّ عليه. وقد اعتنى بذلك الإمام أحمد بن حنبل في الردِّ على الزنادقة والجهمية، وابن قتيبة في تأويل مشكل القرآن، والعزُّ ابن عبد السلام في المفيد في مشكل القرآن، والشيخ محمَّد الأمين في دَفْع إيهام الاضطراب، للجميع ثوابُ الله وعليهم رحمته. ولقد حاول الأستاذ أحمد جمال أن يُقلِّل من أهمية هذا الجهد الذي صَرَف له جهابذة علماء التفسير جُزءًا من وقتهم الثمين، فقال: "إنَّ الشَّيخَ الشنقيطي توهَّمَ التَّناقض أو الاختلاف بين

بعض الألفاظ القرآنية ومعانيها، وحاول دفعها بما هو موجود في الآيات نفسها أو بما هو معروف ومعلوم من قواعد اللُّغة العربية" .. إلخ. وإذا كان الأمر كما ذكر أحمد جَمال فأين يكون إذًا موقف طالب العلم البسيط من هذه الآيات، إذا لم يُقَيِّض الله له مَنْ يُظْهِر له وجه الجمع بينها؟ {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52]، {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص: 56]، {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف: 6]، {وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} [القصص: 78]، {فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ} [الرحمن: 39]، {فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون: 101]، {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} [الصافات: 27]، {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [السجدة: 5] {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج: 4]، {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال: 2]، {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ} [الرعد: 28]. والأستاذ أحمد جمال يتَّهمني: "بأنّي لم أُورد له استدلالاته

الكاملة في قضية النَّسخ، وواو العطف، ولا في موضوع دعاء موسى وهارون، وقال إنهُ كان عليَّ أن أوردَ نصَّ ما قال كاملًا بحججه واستدلالاته ثم أُعَقِّب عليه ليميِّزَ القارئ بين الخطأ والصَّواب"! والمشكلةُ التي واجهتني وأنا أحاول ذلك هي أنِّي لم أجد له استدلالات! فهو لم ينسب "رأيا" مِمَّا ساقه إلى أحد، ويظهرُ أنَّ ما قاله هو من بنات أفكاره هو، وذلك ليس بدليل في المناقشات العلميَّة، ولا يستحق الاعتداد به، وهذا هو أساس القضية معه. إنَّنا نرفضُ ما يذهبُ إليه إذا كان "مجرد رأيهِ الخاص" بدون أن يسوقَ معه دليلًا. وفيما كتبتُهُ في جريدة المدينة أحلتُهُ إلى كتب التَّفسير والأصول واللغة وآراء العلماء في مناقشاتي له مختَصِرًا حسب الإمكان. وأُعَرِّجُ الآن إلى ما كتبه أحمد جَمَال لأزيده تفنيدًا، وأُوَضِّحَ ذلك إيضاحًا، وأُبَيِّنَهُ تبيانًا؛ قال الأستاذ أحمد جمال: "وذهب بعض الباحثين في علوم القرآن والمتدبِّرين لأحكامه وأخباره إلى القول إلى أنَّه لا نَسْخَ في القرآن إطلاقًا". وهذه الطَّائفة من الباحثين الذين أشار إليهم الأستاذ أحمد جمال،

الدليل على تفنيد هذه الفقرة

وَصَفَهم القرطبي (¬1): "بأنهم جَهَلة أغبياء". وقال الشوكاني: "إنهُم لا يعتدُّ بهم، ولا يُؤْبَهُ بقولهم" (¬2). علمًا بأنَّ هذه الطائفة لم يُؤَيِّدْها على رأيها من المِلَل إلا اليهود المغضوب عليهم. الدَّليلُ على تَفْنيد هذه الفقرة قال الله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106]، قال أبو عبد الله القرطبي في تفسير هذه الآية (¬3): "هذه آية عظيمة في الأحكام، وسبب نزولها أنَّ اليهود لمّا حَسَدوا المسلمينَ في التوجُّهِ إلى الكعبة، طَعَنوا في الإسلام بذلك، وقالوا محمدٌ يأمر أصحابه بشيء ثم ينهاهم عنه، فما كان هذا القرآن إلا من عنده، ولهذا يناقض بعضه بعضًا، فأنزل الله قوله تعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ} [النحل: 101]، وأنزل: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} الآية، وقد تابع القرطبي بحثه هذا ¬

_ (¬1) ج 2، ص 62. (¬2) ج 1، ص 107. (¬3) 2، ص 62.

إلى أن قال (¬1): "معرفة هذا الباب أكيدة، وفائدته عظيمة، ولا يستغني عن معرفته العلماء، ولا ينكره إلّا الجَهَلة الأغبياء، لما يترتَّب عليه من النَّوازل والأحكام، ومعرفة الحلال والحرام". روى أبو البختري قال: دخل عليٌّ - رضي الله عنه - المسجدَ فإذا رجلٌ يُخَوِّفُ النَّاسَ، فقالَ: مَنْ هَذا؟ قالوا: رجلٌ يُذَكِّرُ النَّاسَ، فقال: ليس برجلٍ يُذَكرُ النَّاسَ، لكنَّه يقول: أنا فلانُ بنُ فلان اعرفوني، فأرسلَ إليه، فقال: أتعرفُ النَّاسخَ والمنسوخ؟ فقالَ: لا، قال: اخرج من مسجدنا ولا تذكِّر فيه، وفي رواية أخرى: أَعِلِمْتَ النَّاسخَ من المنسوخ؟ قال: لا، قال: هلكتَ وأهلكت، ومثله عن ابن عباس -رضي الله عنهما-. ¬

_ (¬1) ج 2، ص 62.

ذكر من أنكر النسخ

ذِكْرُ مَنْ أنكرَ النَّسخ قال القرطبي (¬1): "أنكرتْ طوائف من المنتمين للإسلام المتأخرين جواز النَّسخ، وهم محجوجون بإجماع السَّلف السَّابق على وقوعه في الشَّريعة، وأنكرَتْه أيضًا طوائف من اليهود، وهم محجوجون بما جاء في توراتهم بزعمهم. . . إلى أنْ قال: وليس هذا من باب البَداء بل هو نقلُ العباد من عبادهٍ إلى عبادة، وحكم إلى حكم، لِضَرْب من المصلحة إظهارًا لحكمته وكمال مملكته. ولا خلاف بين العقلاء أنَّ شرائعَ الأنبياء قُصِدَ بها مصالح الخلق الدِّينية والدُّنيوية، وإنَّما كان يلزم البَداء لو لم يكن عالِمًا بمآل الأمور، وأما العالم بذلك فإنما تتبدَّل خطاباته بحسب تبدَّل المصالح؛ مثل الطَّبيب المراعي لأحوال المريض، فَراعَى بذلك في خلقه بمشيئته وإرادته لا إله إلا هو، فخطابه يتبدل، وعلمه وإرادته لا تتغيَّر، فإنَّ ذلك محالٌ في جهة الله تعالى". اهـ. ولولا خشية الإطالة لزِدْتُ في الموضوع، ولكنْ انظر جَمْعَ الجوامع لابن السُّبكي وشروحه، وانظر تفسير الشوكاني ج 1، ¬

_ (¬1) ج 2، ص 62.

ص 107، وانظر نَشْرَ البنود على مراقي السُّعود عند قول النَّاظم: ونسخُ بَعْضِ الذِّكرِ مُطلقًا وَرَدْ والحاصل أنَّ هذا القول لا يرضى به لنفسه رجلٌ مثل الأخ أحمد محمَّد جَمَال؛ يحسب دائمًا انَّه إذا قال: "قلتُ" صَدَقَ مطلقًا؛ سامَحَهُ اللهُ في اختيارِهِ هذا لنفسِهِ.

لا تغالط يا أستاذ!!

لا تُغالِطْ يا أُستاذ!! قال الأستاذ أحمد محمَّد جَمَال في مجلَّة التَّضامن الإسلامي، وفي ما نشرهُ في جريدة النَّدوة، قال: "العطف لا يقتضي المغايرة دائمًا". . . إلخ. وقد أوردتُ له مزيدًا من أقوال علماء اللُّغة في هذا الموضوع، ولكن الأستاذ أحمد جَمَال ما زال يردُّنا إلى "قلتُ"، ويُحيلنا إلى مطبوعاته، كأنَّما يتعجَّل أنْ تكون من المصادر الأكاديميَّة، وحتَّى لا يستوي ما يقول مع "قصص القَصَّاصين" أمام الدِّين لا يقتنعون منه بـ"قلت". وكان عليه أَنْ يأتي بأدلَّة، فالعطفُ يقتضي المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه، وتفاصيل هذا في كتب اللُّغة وقد أحلناه إلى مراجعها. وأمَّا الأمثلة التي جاءَ بها في جريدة النَّدوة فهي لا تفيده شيئًا، قال: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ}، {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} ونحو ذلك. أليست ماهيَّةُ الذكورة في السَّارق والزَّاني مغايرةً لماهية الأنوثة في

السَّارقة والزَّانية، وتلك المغايرة هي التي سَوَّغت العطف، تأمَّلْ وافْهَم يا أستاذ!! تأكيدُ الذم بما يُشْبِهُ المدحَ في رأي أحمد جمال قال شيخنا عليه رحمة الله: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} الآية [الدخان: 49]، نزلتْ في أبي جَهْلِ لما قال: أيوعدني محمدٌ، وليس بين جَبَلَيْها أعزُّ ولا أكرمُ منِّي، فلمَّا عَذَّبَهُ الله، قيل لهُ: ذُقْ إنَّكَ أنتَ العزيز الكريم، في زعمك الكاذب. بل أنت المهان الخسيس الحقير، وهذا نوع من أنواع العذاب" اهـ. غير أنَّ الأستاذ أحمد جَمَال أبى ذلك، وقال: "قلتُ: إن نصَّ الآية لا يُساعدُ على تخصيص نزولها في أبي جهل فهي عامة في كل كافر". والجواب: هو أنَّ كون مدلولها عامًا في كل كافرٍ لا يمنعُ من خُصوصِ سببِ نزولها في شخصِ بعينه أو في حادثةٍ معينةٍ. لأنَّ المقرَّر في علم الأصول أنَّ العبرة بعموم اللَّفظ لا بخصوص السبب إلا ما يثبت من ذلك أنَّه خاصُّ الحكمِ والسَّببِ معًا، مثل: عناق أبي بردة، وشهادة خزيمة، ونحو ذلك.

هذه واحدة؛ وأما الثَّانية: فهي قول الأستاذ أحمد جَمَال: "إنَّ نصِّ الآيةِ أو سياقَها لا يُساعد على نزولها في أبي جهل". فإنه يفهم منه أنَّه يعتقد أنَّ بالإمكان معرفة سبب النُّزول بالاستنباط من الآية، وهو خطأٌ فاحش. وإنَّه لا سبيل لمعرفة سبب النُّزول إلا بالرِّواية، انظْر الإتقان في علوم القرآن للسُّيوطي (¬1). وقال الأخ أحمد جَمَال: "وهو أسلوبٌ عربيٌّ معروف بليغ، ويُسَمَّى تأكيدَ الذَّمِّ بما يُشْبِه المدح". والجواب عن هذه: أنَّها "حَزٌّ في غير مَفْصِل"، وأنَّ هذا الأسلوب نسبَهُ أحمد جمال للمحسِّنات المعنويَّة من البديع، وهو بعيدٌ كلَّ البعد عن ذلك، بل هو من فنِّ البيان ثم من باب التَّشبيه منه. فهو تشبيهٌ انْتُزِعَ وجهُ شبههِ من التَّنافي لنكتةِ التَّهَكُّم، وذلك على نحو ما عَقَدَهُ العَلَّامة الشَّيخ عبد الله بن الحاج إبراهيم العلوي الشَّنقيطي، في نظمه (نَوْر الأقاح) بقوله: وينزعُ الوجهُ من التَّنافي ... إذا يُنزَّلُ كالائتلافِ ¬

_ (¬1) (1/ 31).

لنكتةِ التَّمليحِ والتَّهكُّمِ ... . . . . . . . . انظر شرحَهُ: (فيضَ الفتَّاحِ على نَوْر الأقاح) للنَّاظمِ في هذا المحلّ، وانْظُر المرشدي على عقود الجمان عند قول السيوطي: وربَّما يؤخذُ وجْهُ التشبيهْ ... من التَّضادِ لاشتراكِ الضدِّ فيهِ لقَصْدِ تَمْليحٍ أو التَّهَكُّمِ ... كَوَصْفِهِ مُبَخَّلًا بحاتِمِ أما تأكيدُ الذَّمِّ بما يشبهُ المدحَ الذي تسمع العُلَماءَ يذكرونه -يا سيِّدنا الأُستاذ- فقد قرَّرَ علماءُ الفنِّ بأنَّهُ ضربان: أحدهما: أن يستثني من صفة مدح منفية عن الشيء صفةَ ذَمِّ بتقدير دخولها فيها، كقولك: فلانٌ لا خيرَ فيه إلا أنه يُسيءُ إلى من أحسن إليه. وثانيهما: أَنْ تُثبتَ للشَّيءِ صفةَ ذَمٍّ، وتعقبها بأداة استثناء، تليها صفةُ ذَمِّ أخرى له، كقولك: فلان فاسق إلا أنَّهُ جاهل. انظر الإيضاح للقزويني (¬1). إن المفسِّىرينَ يا أحمد جَمَال يقولون في الآية بمثل قول الشَّيخ ¬

_ (¬1) ص 268.

كلام أحمد جمال في أهلية النسب والدين

الأمين -رحمه الله-، من أنّها نزلت في أبي جَهْل، وأنَّ معناها التهكُّم؛ أي: إنَّك أنت المهان الخسيس الحقير، انظر تفسير القرطبي (¬1)، وانظر تفسير الشوكاني (¬2)، وانظر تفسير أبي حيَّان (¬3). فهذا برهانُنا على صحةِ ما قال شيخنا، فأين برهانُ الأستاذ أحمد جمال على ما قال؟ غفر اللهُ لنا ولأحمد جمال. كلامُ أحمد جَمَال في أهليَّة النَّسَب والدِّين وأمَّا كلامُ الأستاذ أحمد جَمَال في أهلية النَّسب، فهو مِمَّا كَتَبَهُ اللهُ عليه، فقد أتى به لغير سبب. قال أحمد جمال: "قلت: إنَّ ابن نوحٍ من أهله حقيقةً ونسبًا". وهذا كلامٌ أول ما يتبادر منه إلى ذهن القارئ أنَّ شيخنا نفاه عنه نسبًا، وإذا رجعنا إلى دفع إيهام الاضطراب، نجد أنَّ الشَّيخ عليه -رحمه الله- قال في صفحة 135، مبينًا وجه الجمع بين الآيتين ما نصُّهُ بالحرف الواحد. ¬

_ (¬1) (15/ 151). (¬2) (ث/ 562 - 563). (¬3) (8/ 40).

"والجواب أن معنى قوله: {لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} أي الموعود بنجاتهم في قوله تعالى له إنَّه سوف ينجِّيه وأهله؛ لأنَّه كافر لا مؤمن. وقول نوح: {إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} [هود: 45] , يظنُّهُ مسلمًا من جملة المسلمين النَّاجين، كما يشير إليه قوله تعالى: {فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [هود: 46] , وقد شهد الله أنَّهُ ابنُهُ حيث قال: {وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ} [هود: 42] , إلا أنَّهُ أخبرهُ أنَّ هذا الابنَ عملٌ غيرُ صالح؛ لكفره فليس من الأهل الموعود بنجاتهم، وإنْ كان من جملة الأهل نسبًا" اهـ منه. وبمقارنةٍ بين ما نقلتُهُ عن شَيخنا في المسألة، وبين ما وَرَدَ مِمَّا ردَّ به أخونا أحمد محمَّد جمال من قوله: "وإذن فإن الأهليَّة المنْفيَّة في الآية الثانية هي أهليَّة العقيدة، والأهليَّة المثبتة في الآية الأولى هي أهلية النسب والقربى" يتبينُ للقارئ بأنه لا فرق بين هذا وذاك. هذا، وأرجو الله جَلَّتْ قدرته أنْ يُلهمنا وأخانا رُشْدنا في الدِّين والدُنيا، وأن لا يكلنا إلى أنفسنا، فإنَّه إن يكلنا إليها يكلنا إلى ضَعْفَى. اللهم أَرِنا جميعًا الحقَّ حقًا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلًا

وارزقنا اجتنابه، وآخر دعوانا أنْ الحمد للهِ ربِّ العالمين، وصلى الله على محمَّد وآله وصحبه. {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا} [النساء: 49] صدق الله العظيم.

خاتمة

خاتمة رحمَ اللهُ شيخَنا الأمين، وجَمَعَنا به في مستقرِّ رحمته، ما أحلاها أيَّامًا عشناها، نغترفُ من فائض علومه، فقد كان بيته مدرسةً ننعم فيها بدراسة ما نبتغي من شتَّى فنون العلم؛ من تفسيرٍ، وفقهٍ، وأصولِ فقهٍ، ولغةٍ، وقواعدَ نحويَّةِ، وصرفيةٍ، وبلاغة. غير أنَّهُ عَوَّدنا -عليه رحمةُ الله- من سلاسةِ التعبيرِ، وحلاوة البيان، ووضوح العبارة ما جعلنا نَمُجُّ بعده كلَّ عبارةٍ لآخر من بعده. الأمر الذي جعل مصيبتنا به نحن تلاميذَهُ كارثةً بالنَّسبة لنا دون من لم يأخذ عنه مباشرة من الناس، غير أنَّ لنا أحسن العَزاء فيه بمصابنا برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون. ولكنَّنا نحمدُ الله تعالى أنْ تَفَضَّلَ به علينا ومَتَّعنا به مُدَّةَ من الزَّمنِ، تَمَكَّنَ فيها من تصحيح عقائدنا مما كُنَّا نَتَشَبَّث به من عقيدة الأشعريَّة، وما كان فيها من رواسب مذاهب الشَّيخ أبي الحَسَنُ الأشعري الأوَّل، أيامَ كان النَّاطِق باسمِ زوجِ أُمِّهِ الجبَّائي شيخ المعتزلة.

ومن المعلوم أن أطوار الشيخ أبي الحسن الأشعري العقديَّة كانت ثلاثة (¬1): فقد كان أولًا على مذهب المعتزلة أربعين سنةً من عمره، حتَّى مَنَّ اللهُ تعالى عليه بتوفيقِهِ لترك هذا المذهب، حين وَجَدَ شيخه يُقرِّر عقيدة وجوب الصَّلاح والأصلح على الله -تعالى اللهُ عن ذلك عُلوًا كبيرًا-. فسأله عن مصير ثلاثةٍ: مُسْلمٍ مات كبيرًا، وكافرٍ ماتَ كذلك، وصبيٍّ كافرٍ ماتَ صبيًّا. فقالَ الجُبَّائي: أمَّا المسلم، ففي الجنّةِ بحسب عمله، وأمَّا الكافر الكبير، ففي النَّار في دَركاتها بحسب طغيانه، وأما الصبيُّ الكافر، ففي النَّار في أدنى دركاتها. فقال الشَّيخ أبو الحَسَنُ: فما بالُ الصَّغير في النَّار؟ قال الجُبَّائي: يقول اللهُ له: علمتُ في سابق علمي أنَّكَ إنْ كبرت كفرت، فرأيتُ أن الأصلحَ لك أنْ أقتلكَ في الصِّغر؛ لتكونَ في أدنى دَرَكات النَّار. ¬

_ (¬1) راجع طبقات الشافعية لابن كثير (1/ 205) ط. دار المدار الإِسلامي.

قال أبو الحَسَن: لِمَ لا يقول هذا الكافر الكبير، وكذا كلُّ كَبيرٍ في النَّار: يا ربِّ لقد علمتَ في سابقِ علمكَ أنِّي إنْ كبرتُ كفرت، وأنا أرضى بأقل من مصير هذا الغلام، فلِمَ لَمْ تُمِتْني صَبيًّا؟ فقال الجُبَّائي: أَبِكَ جنون؟ قال أبو الحسن: لا, ولكن وقفَ حمارُ الشَّيخ بالعَقَبة. وهذه القصَّة هي التي يشير إليها المقَّري بقوله في الإضاءة: وقِصَّةُ الشّيخِ مَعَ الجَّباءِ ... ترُدُّ قولَ الآفِكِ الأبَّاءِ وما اعترى الأطفالَ من آلامِ ... يَقْضي لأهلِ السُّنَّةِ الأَعلامِ ثم إنَّ الشَّيخ أبا الحسن ترك مذهبَ الاعتزال، وقال برؤيةِ الله يومَ القيامَةِ، وقالَ بعدم وجوبِ الصَّلاحِ والأصلح على الله، لكنَّهُ بقيتْ معه في هذه الفترة من الزمن رواسبُ اعتزالية، منها ما يعتقدونه في كلام الله تعالى من نفي الحرف والصَّوت، ومن نفي التَّقديم والتَّأخير، ومن نفي الكلِّ والبعض، والإعراب وضدِّه وغيرها من أمثلة النَّفي المفضَّل، قال المقّري في الإضاءة: وإنَّما كلامُهُ القديمُ ... ما فيهِ تأخيرٌ ولا تقديمُ نعمْ ولا لحنٌ ولا إعرابُ ... أو كلٌّ أو بعضٌ أو اضطرابُ إذ كلُّها إلى الحدوثِ انتسبا

وُيقرِّرون في صفةِ الكلام أنَّهُ الصِّفَة النَّفسية القائمة بالذَّات، وأنَّ هذا المتلوَّ المتعبّد به مدلولُ كلامِ الله تعالى، والعياذُ بالله تعالى. ولقد وقعتْ مُشادَّةٌ بيني وبين شيخي محمَّد الأمين -عليه رحمةُ الله- حين درستُ عليه مبحث الأمر من مراقي السُّعود، حيث يقول النَّاظم: هذا الذي حُدَّ بِه النَّفْسيُّ ... وما عليهِ دلَّ قُلْ لفظيُّ فشَرَحَ الشَّيخُ ألفاظَ النَّاظم، وقال: "هذا مذهبٌ باطل"!، وتقدَّمَ يُبَيِّنُ المذهبَ الحقَّ، وُيبَيِّنُ أن اعتقادَ مثلِ ما قرَّرهُ النَّاظم خطأٌ فاحِشٌ يُفضي إلى نفي كلام الله. وقد كنتُ آنذاكَ مُتَشَبِّعًا بهذا المذهب الباطل فكتَبَ الله لي الهداية إلى السُّنة على يدي شيخي، فاللهَ نرجو أنْ يجزي عنَّا فضيلةَ الشَّيخ محمد الأمين خيرًا، فقد تكلَّفَ في تصحيح عقائدنا المشقَّةَ العظيمة. ولقد استضافني (¬1) أيامَ كنتُ مدرِّسًا بالمسجدِ الحرام أحدُ أعلام قبيلتنا بداري في مكة، حافظٌ لكلِّ المتونِ العلميةِ التي تُدَرَّسُ ¬

_ (¬1) طلَبَ ضيافتي.

بذلك القطر الإِسلامي الذي هو منه، فكان أوَّل ما خاطبني به أنْ قال: أَيْ فلان، أنتم كُفَّار، أنتم حَشَوِيَّة، أنتم مُجَسِّمَة. فقلتُ: أشهد أنْ لا إله إلا الله، وأشهدُ أنَّ محمدًا رسول الله، اسمع عقيدتي. فأصَمَّ أُذنيه بأصبعيه، وقال: أخافُ أنْ تُشَبِّهَ عَلَيَّ. فقلتُ: لابدَّ أنْ تسمع معتقدي ثم احكم عليَّ بِما شئتَ بعد ذلك: أشهد أنْ لا إله إلا الله، وأشهدُ أنَّ محمدًا رسول الله، وأشهد أنَّ الذي جاءَ به محمدٌ حقٌ، وأنَّ الجنَّةَ حَقٌّ، وأنَّ النَّارَ حَقٌّ، وأنَّ الساعةَ آتيَةٌ لا ريبَ فيها، وأنَّ اللهَ يبعثُ مَنْ في القبور، وأشهدُ أنَّ عيسى عبدُ الله ورسولُهُ، وكلمته ألقاها إلى مريمَ وروحٌ منه. وأشهدٌ أنَّ الله موصوفٌ بكلِّ صفة كمالٍ وجلالٍ وصفَ بها نفسه في كتابه العزيز ووصفهُ بها نبيُّه - صلى الله عليه وسلم - في سُنَّتِهِ الصَّحيحة، على غرار {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}. وأُقِرُّ بِكَمالِ عَجْزي عن إدراكِ كُنْهِ هذه الذَّات المقدَّسة، وصفاتها العلية، ثم قلتُ: احكم عليَّ بما شئتَ.

فقالَ: هذه ليست عقيدةَ كافر. ثم بعدَ هُنيهة دعاني وسألني: ما تقولُ في القرآنِ؟ قلتُ: كلامُ الله، منزلٌ غيرُ مخلوقٍ، منه بدأ وإليه يعود. قال: ما عن هذا أسألك، هل تعتقد أنَّ في القرآن حرفًا؟ قلتُ: نعم، الذي أدينُ الله به أنَّ هذا القرآنَ فيه توحيدٌ، وقصصٌ، وأحكامٌ، ومواعِظُ وعبرٌ، وفيه إنشاءٌ وخَبَرٌ، وجملٌ وكلماتٌ تتألَّفُ من حروف. فقالَ: أنت كافرٌ، وصفتَ كلامَ الله بما لازمُهُ البَكَم، والبَكَمُ مستحيلٌ على الله؛ لأنَّ الكلمة التي تتألَّف من حروف لا يُستطاع النُّطقُ بالحرف الثَّاني منها مثلًا. قبل النُّطق بالأوَّل، وهذا عجزٌ وهو مستحيلٌ على الله. فقُلتُ: بالنسبةِ للمخلوقِ فإنَّ قولكَ صادقٌ، وأمَّا القادر على كلِّ شيء، فهو يتكلَّم كيفَ شاء لا يعجزه شيء، ثم قلتُ: مَنْ جاءنا بالقرآن؟ قالَ: رسولُ الله جاءنا به.

فقلتُ: أأنتَ أعلمُ به أم هو؟ هذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثَبَتَ عنه أنَّهُ قال: "من قرأ حرفًا من كتاب الله فله حسنة، والحسنة بعشر أمثالها, لا أقول ألم حرف، ولكن: ألفٌ حرفٌ، ولام حرفٌ، وميمٌ حرفٌ" (¬1) وتقول أنت ليس فيه حرف؟ فتكلَّم كلمة تدلُّ على التَّضجُّر بدارجته المحليَّة وسكتَ، ثم بعد هنيهة سألني قائلًا: ما تقولُ في القرآن؟ فقلتُ: ألم أجبك؟ فقال: ما عن ذلك أسأل، إنما سؤالي عن هذا المتْلُوِّ. فقلتُ: الذي أدين الله به أنَّ هذا القرآن المتلوَّ بأفواهنا وألسنتنا، المحفوظ في صدورنا، المرقوم في مصاحفنا هو الذي نزل به جبريل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , وبَلَّغهُ رسول الله عن الله أنَّه: كلامُ الله، تكلَّمَ به كما أُنزل علينا، ويَسَّرَه الله للذكر؛ فلو لم يُيِّسرهُ الله للذكر ما استطاع أحدٌ أنْ يتكلَّمَ به: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر: 17]. فقالَ لِلمرَّةِ الثَّالثة في مَجْلسٍ واحدٍ!: أنت كافرٌ، إن كلامَ الله ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود والترمذي.

هو: الصفة النَّفسية القائمة بالذات المقدَّسة لا تفارقها، وهذا المتلوُّ مدلولُها. فقلتُ للشَّيخ: أنا لا أستحقُّ أَنْ أبلغَ مرتبةَ طالبٍ في حلقتك، لكنني على مكانتي منك أسمعُ آيةً من كتابِ الله تعالى توعد مَنْ يقول مثلَ ما قلتَ بالنَّار. فتعجَّب وقال: كيف ذلك؛ {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ} أين هذه الآية؟ فقرأتُ من سورة المدثر قوله تعالى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} إلى قوله تعالى: {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر: 11 - 25] , فقلتُ: وماذا رتَّبَ الله على هذا الزَّعم؟ رتبَ عليه قولَه تعالى: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ} [المدثر: 26 - 27]. فعندها كَبَّرَ الشَّيخُ رافعًا يديه بيني وبينَهُ يكرِّر: الله الله! حتى استلقى على قفاه، وتكلَّم كلامًا يُعرِبُ عن تَضَجُّرٍ بلهجته المحليَّة. ولم يُورِد سؤالًا بعدها حتىَّ سافر إلى بلده، لكنَّني رجوتُ أنْ يكون رجعَ عن هذا المذهب؛ لأنَّني سمعتُهُ بعد ذلك يذكُرني لبعض أهل قرابتي، ويصفُني بصحَّة العقيدة فتفاءلتُ له خيرًا. والحاصل أنَّه لولا فضل الله علينا بلقاء الشَّيخ محمَّد الأمين بن

محمد المختار الجكني، وصحبتنا له ودراستنا عليه تفسير كتاب الله العزيز، وبعض المصنَّفات الفقهيَّة، والأصوليَّة، والعربية لهَلكنا مع الهالكين ولكنَّ الله سَلَّم، والحمد لله ربِّ العالمين، نرجو الله تعالى أنْ يتولَّى جزاءهُ عنَّا بما هو أهلُهُ إنَّهُ أهل التَّقوى وأهل المغفرة. ومعلومٌ أن الطَّور الثَّالث لأبي الحَسَن الأشعري هو الذي أَلَّفَ فيه "الإبانة في أصول الدِّيانة"، وألَّفَ كتابَهُ "مقالاتِ الإِسلاميين"، وفي هذا الطَّور الثَّالث سارَ الشَّيخُ أبو الحَسَنُ الأشعري مسارَ أهل السُّنَّةِ والجَماعَة. وهنا أنهيتُ ما رُمْتُ تقييدَهُ راجيًا أنْ يُقَيِّدَ كُلُّ تلاميذه ما يحضرهم من مجالسه، ومحاضراته، تعميمًا للفائدة؛ فقد بَثَّ عليه رحمةُ الله علمًا كثيرًا، أثابه الله، وجمعنا به في مستقرِّ رحمته، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على محمَّدٍ وعلى آله وصحبه والتابعين، وكتَبَهُ جامعُهُ في تسعَ عشرةَ خلت من ذي القعدة الحرام سنة 1421 هـ. أحمد بن محمّد الأمين بن أحمد المختار الشنقيطي

§1/1