مجالس رمضان - أحمد فريد

أحمد فريد

التزكية عند أهل السنة

مجالس رمضان_التزكية عند أهل السنة لقد اعتنى الشرع المطهر بتزكية الأنفس وتطهيرها من أدرانها، وجعل فلاح العبد وفوزه منوطاً بتزكية النفس، وما ذلك إلا لما للتزكية من المكانة العظيمة عند الله عز وجل، فعلى المؤمن أن يبذل وسعه في تزكية نفسه وتطهيرها.

أهمية تزكية النفوس وبيان مناهجها

أهمية تزكية النفوس وبيان مناهجها الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً. ثم أما بعد: فإن من المهمات التي بعث بها النبي الكريم صلى الله عليه وسلم تزكية نفوس العباد، كما قال عز وجل: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [الجمعة:2]، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل الله عز وجل هذه الزكاة لنفسه فيقول: (اللهم آت نفسي تقواها، زكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها). كما تمنن الله عز وجل على المؤمنين بهذه الزكاة فقال عز وجل: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} [النور:21]، فالله عز وجل يتفضل على من يشاء بالتزكية. وقد أقسم الله عز وجل في كتابه أحد عشر قسماً متوالياً -وليس في القرآن كله أقسام متوالية بهذا العدد وعلى هذا النسق- على حقيقة: وهي أن فلاح العباد ونجاحهم منوط بتزكية نفوسهم، وأن خيبتهم وخسارتهم منوطة بتدسية نفوسهم، فقال عز وجل: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:1 - 10]. فهذه الأقسام المتوالية على أن فلاح العباد منوط بتزكية نفوسهم. فقوله تعالى: (قد أفلح من زكاها) * (وقد خاب من دساها) فما معنى التزكية وما معنى التدسية؟ التزكية: هي التنمية والإصلاح. يقولون: زكا الزرع إذا نما وصلح وبلغ كماله. فتزكية النفس: هي تنميتها وتعليتها وتنقيتها وإصلاحها بتوحيد الله عز وجل وطاعته؛ لأن النفس تزكو بذلك وتعظم وتطهر. أما التدسية: فهي التحقير والتصغير، فالنفس تصير حقيرة دنيئة لا تكاد ترى من حقارتها ودناءتها، كما قال عز وجل: {أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ} [النحل:59]؛ أي: يخفيه في التراب. فالنفس تنمو وتصلح بطاعة الله عز وجل، وتصغر وتصير حقيرة دنيئة بمعصية الله عز وجل! فالعباد يجهلون مواقع السعادة ولا يعلمون أن سعادتهم في صلاح نفوسهم وتزكيتها، والله عز وجل قال: {وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب:72]. والجاهل لا يدري مصلحته، فينبغي أن يجبر على ما فيه صلاحه. قال عبد الله بن المبارك رحمه الله: إن الصالحين فيما مضى كانت أنفسهم تواتيهم على الخير عفواً، وإن أنفسنا لا تكاد تواتينا، فينبغي علينا أن نكرهها. فالنفوس الجاهلة لا تعلم أن مصلحتها وسعادتها في طاعة الله عز وجل، وفي الاستجابة لأمر الله عز وجل وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، ولكن إذا أجبر العبد نفسه على الطاعة وعلى العبادة وعلى الاستقامة على طريق الله عز وجل، فعند ذلك تذوق النفس حلاوة الطاعة والعبادة، وبعد ذلك تساعد النفس صاحبها وتأتي معه على طاعة الله عز وجل. وقال بعض السلف: عالجت قيام الليل سنة وتمتعت به عشرين سنة. أي: ثقل على نفسه قيام الليل وعالج قيام الليل. ومنهم من يفتح عليه في الدعوة إلى الله عز وجل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتعليم الناس الخير. ومنهم من يفتح له في قضاء حوائج الناس، وتحقيق مآربهم. ومنهم من يفتح له في الجهاد والبذل لإعلاء دين الله عز وجل ورفع رايته. وهناك من يوفق لكل هذه الأبواب، فإذا نظرت في الحجاج وجدته وسطهم، وإذا نظرت في المجاهدين وجدته بينهم، وإذا نظرت في العلماء وجدته في صفهم، فلو قيل له: ماذا تريد يقول: طاعة ربي جمعتني أو فرقتني، فهو السابق بالخير والمسارع إلى كل سبيل يرضي ربه عز وجل. فهذه مناهج التزكية عند أهل السنة والجماعة: التزكية بالتوحيد، التزكية بأداء الفرائض، التزكية بالإكثار من النوافل.

الغاية من تزكية النفس عند أهل السنة

الغاية من تزكية النفس عند أهل السنة أما غاية التزكية عند أهل السنة: فهي تحقيق كمال العبودية لله عز وجل، والوصول إلى أعلى مراتب الذل والحب لله عز وجل؛ لأن العبودية هي كمال الحب مع تمام الذل، والله عز وجل وصف أكابر الخلق بالعبودية، فوصف نبيه صلى الله عليه وسلم بالعبودية في أشرف مقاماته، مقام الإسراء، ومقام التحدي، ومقام الدعوة إلى الله عز وجل، فقال: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى} [الإسراء:1]. وقال: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} [الجن:19]. وقال: {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة:23]، ولذلك لما ذكر الإمام الطحاوي رحمه الله تشريفات النبي صلى الله عليه وسلم ابتدأ بالتشريف الأول وهو العبودية، قال: وإن محمداً عبده المصطفى، ونبيه المجتبى، ورسوله المرتضى، وإنه خاتم الأنبياء، وإمام الأتقياء، وسيد المرسلين، وحبيب رب العالمين، وكل دعوى النبوة بعده فغي وهوى، وهو المبعوث إلى عامة الجن وكافة الورى بالحق والهدى، وبالنور والضياء، فقبل أن يذكر بأنه إمام الأنبياء وسيد المرسلين ذكر أنه عبد الله عز وجل المصطفى. فالعبودية لله عز وجل تشريف وتكريم، كما قال عياض: ومما زادني شرفاً وتيهاً وكدت بأخمصي أطأ الثريا دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبيا فالذي يتكبر عن العبودية لله عز وجل لا بد أن يقع في عبودية غير الله عز وجل من المخلوقات الخسيسة، فيعبد الشجر أو الحجر أو الشمس أو القمر أو البقر، بل من الناس من وقع في عبادة الشيطان الرجيم. فكل من يتكبر عن العبودية لله عز وجل لا بد أن يقع في العبودية لغير الله، ومهما تحرر العبد من العبادة لغير الله تكمل عبوديته لله عز وجل، ولذلك فإن وظيفة الرسل وأتباع الرسل تعبيد الناس لله عز وجل، وتحرير الناس من العبادة الباطلة للآلهة الباطلة التي لا تستحق العبادة، وجعلهم عبيداً حقيقيين لله عز وجل، كما قال ربعي بن عامر: إن الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام. فوظيفة الرسل وأتباع الرسل أن يحرروا الناس من عبادة غير الله ويعبدوهم لله عز وجل، ويشرفوهم بأن يجعلوهم عبيداً حقيقيين لله عز وجل. نسأل الله تعالى أن يشرفنا بالعبودية له عز وجل، وأن يرفعنا بالقيام والصيام. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم. وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.

الصيام مدرسة التقوى

مجالس رمضان_الصيام مدرسة التقوى الصيام عبادة تفضل الله بها على عباده؛ لما فيها من المنافع والفوائد، فالصائم يغفر الله له ذنوبه بصومه، ويكون صومه شافعاً له يوم القيامة، كما أن الصوم يعود الصائم على الصبر والجلد ومراقبة الله عز وجل، والإحسان في القول والعمل.

آثار الصيام في زياد تقوى الصائم

آثار الصيام في زياد تقوى الصائم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرر أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. وما قل وكفى خير مما كثر وألهى: {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الأنعام:134]. الصيام عباد الله! مدرسة التقوى، قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183]. والترجي في كلام الله عز وجل أو كلام رسوله صلى الله عليه وسلم على القطع، كما قال ابن عباس: عسى من الله واجب. على عادة الملوك إذا أرادوا أن يقولوا: نحن سنفتح هذا البلد، يقولون: نرجو أن نفتح هذا البلد، ونرجو أن ننتصر على هذا الجيش، فلما يقطعون به يأتون به على صيغة الترجي، كما قال الله عز وجل: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف:204]، فأنتم ترحمون قطعاً إذا استمعتم إلى كلام الله عز وجل، كذلك من صام حق الصيام كما أمر الله عز وجل لا بد أن يصل إلى درجة التقوى. والتقوى هي: علم القلب بقرب الرب. والتقوى هي: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإن الله عز وجل يراك. والتقوى كذلك عباد الله: ألا يراك الله حيث نهاك، ولا يفتقدك حيث أمرك. فالصيام يوصل إلى تقوى الله عز وجل؛ لأنه يتكون من نية باطنة لا يطلع عليها أحد إلا الله عز وجل، وترك لشهوات يستخفى بتناولها عادة، فلا نستطيع أن نجزم في شخص بأنه صائم؛ لأنه قد يخلو ولو للحظات فينتهك حرمة الصيام، فهو إنما يترك الطعام والشراب والشهوة لأنه يحس بأن الله عز وجل يراه، وبأن الله عز وجل مطلع على قلبه، وعلى سر أمره وعلانيته، فالصيام يدرب العبد على مراقبة الله عز وجل، وهذه المراقبة هي التقوى المقصودة، والدرة المفقودة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183]. وقد شرف الله عز وجل هذه العبادة بإضافتها إلى نفسه الشريفة عز وجل فقال تعالى في الحديث القدسي: (كل عمل ابن آدم له، الحسنة بعشر أمثالها، إلا الصيام فإنه لي، وأنا أجزي به). فأضاف الله عز وجل كل أعمال ابن آدم إلى نفس ابن آدم، وشرف عبادة الصيام بأن أضافها إلى نفسه الشريفة فقال: (إلا الصيام، فإنه لي وأنا أجزي به). فلما كان الصيام سراً بين العبد وربه تكفل الله عز وجل بتحديد أجر الصيام، فليس له تسعيرة محددة: (فكل عمل ابن آدم له، الحسنة بعشرة أمثالها). فكل عمل من الأعمال له ثواب محدد، أما الصيام فالله تعالى يتكفل بتحديد أجره. والصيام من الصبر وقد قال الله عز وجل: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10]. فالصيام عبادة ترقى بالعبد إلى درجة المراقبة وإلى درجة التقوى، كما أن الصائم يلتزم بأخلاق معينة هي أخلاق المتقين وأخلاق المحسنين، فلا يسفه على السفيه بمثل سفهه، ولا يجهل على الجاهل بمثل جهله. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث). ولا يتكلم كلاماً فاحشاً: (ولا يصخب) أي: لا يرفع صوته بغير حاجة أو ضرورة: (وإن سابه أحد أو قاتله، فليقل: إني صائم، إني صائم). أي: يدفعه على أن يواجه السيئة بالسيئة أنه صائم، فينبغي عليه أن يلتزم بأخلاق الصائمين، وأخلاق المحسنين، فيدفع بالحسنة السيئة، فيقول: (إني صائم إني صائم).

ما ينتظره الصائم يوم القيامة من الأجر

ما ينتظره الصائم يوم القيامة من الأجر فالصيام عباد الله! قد يكون صياماً عن الطعام والشراب والشهوات، فمن كان صيامه عن الطعام، والشراب والشهوة، فله في الجنة ما شاء الله من طعام وشراب وحور عين، كما قال عز وجل: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة:24]. قال مجاهد وغيره: نزلت في الصائمين. ومن الناس من يصوم عما سوى الله عز وجل، فيحفظ الرأس وما وعى، ويحفظ البطن وما حوى، ويذكر الموت والبلى. ومن صام في الدنيا عن شهواته، أدركها غداً بعد وفاته، ومن تعجل ما حرم عليه من لذاته، عوقب بحرمانه في الآخرة وفواته، أنت في دار شتات فتأهب لشتاتك، واجعل الدنيا كيوم صمته عن شهواتك، واجعل الفطر عند الله يوم وفاتك. أهل الصيام! أهل الخصوص من الصوام صومهم صون اللسان عن البهتان والكذب والعارفون وأهل الأنس صومهم صون القلوب عن الأغيار والحجب. فينبغي للمسلم عباد الله! إذا نوى الصيام أن ينوي ترك كل الذنوب والمعاصي، وأن يصوم سمعه وبصره وجوارحه، كما قال جابر: إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك، ودع أذى الجار، وليكن عليك سكينة ووقار، ولا تجعل يوم صومك ويوم فطرك سواء. ولما كان الصيام سراً بين العبد وبين ربه يشتهر أهل الصيام يوم القيامة برائحة أفواههم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك). فكل عبادة ينشأ عنها أثر مكروه عند العباد تكون محبوبة عند الله عز وجل، فخلوف فم الصائم -أي: الرائحة التي تنبعث من المعدة الخالية من الطعام- أطيب عند الله من ريح المسك. والشهيد يأتي يوم القيامة وجرحه ينزف دماً، اللون لون الدم، والريح ريح المسك. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (الصيام جنة) أي: وقاية، فهو وقاية لصاحبه من النار؛ لأن النار حفت بالشهوات، والصيام يكسر الشهوات المحرمة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء). فالصيام يكسر الشهوات، ويطوع النفس لرب الأرض والسموات؛ ولذلك ورد في فضل الصيام قوله صلى الله عليه وسلم: (الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي ربي! منعته الطعام والشراب والشهوات بالنهار فشفعني فيه، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفعني فيه. فيشفعان). وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن في الجنة باب يقال له: الريان، لا يدخل منه إلا الصائمون). ولم يقل: للجنة ولكن قال: في الجنة، إشارة إلى أن في هذا الباب من الراحة ومن النعيم ومن البهجة والسرور مما في الجنة، فقال: (إن في الجنة باباً يقال له: الريان، لا يدخل منه إلا الصائمون). قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من صام يوماً في سبيل الله جعل الله بينه وبين النار خندقاً كما بين السماء والأرض). وهذا المقصود به: صيام النافلة، فإذا كان يوم صيام في النافلة يباعد الله عز وجل بهذا اليوم بين العبد وبين النار سبعين خريفاً، فكيف بصوم الفريضة الذي هو أفضل وأقرب إلى الله عز وجل. وسأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم كما روى النسائي عن أبي أمامة عن عمل يتقرب به إلى الله عز وجل فقال: (عليك بالصيام، فإنه لا عدل له أو لا مثل له)، فدله على الصيام. فالصيام عباد الله! من أحب العبادات إلى الله عز وجل؛ لأن الله عز وجل يحب من العباد أن يعاملوه سراً، فالصيام سر بين العبد وبين ربه لا يطلع عليه أحد إلا الله عز وجل؛ ولذلك كان من أحب العبادات إلى الله عز وجل، فينبغي علينا أن نصون الصيام، فمن صان صيامه وجد أجر صيامه عند الله عز وجل. فنسأل الله تعالى أن يتقبل منا الصيام والقيام، وتلاوة القرآن، وأن ينفعنا بأعمالنا الصالحة، وأن يتجاوز عن الزلات والسيئات. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه وسلم. سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

العبودية وظيفة العمر

مجالس رمضان_العبودية وظيفة العمر خلق الله البشر لعبادته سبحانه، وأمرهم بالقيام بهذه الوظيفة، فلا تكون العبودية إلا لله وحده، وقد فهم الصحابة ومن سار على هديهم حقيقة هذه الوظيفة، فذاقوا السعادة ووجدوا الطمأنينة والراحة ونعيم الدنيا والآخرة.

فهم وظيفة العبودية والقيام بها

فهم وظيفة العبودية والقيام بها الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً. أما بعد: فإن الله لم يخلق خلقه عبثاً، ولم يتركهم سدى، بل خلقهم لأمر عظيم وخطب جسيم، عرض هذا الأمر على السماوات والأرض والجبال فأبين وأشفقن منه وجلاً، وقلن: ربنا إن أمرتنا فسمعاً وطاعة، وإن خيرتنا فعافيتك نريد لا نبغي بها بدلاً، وحمله الإنسان على ضعفه وعجزه عن حمله، وباء به بظلمه وجهله، فألقى أكثر الناس الحمل عن ظهورهم لشدة مئونته عليهم وثقله، وصحبوا الدنيا صحبة الأنعام السائمة، لا يتفكرون في معرفة موجدهم وحقه عليهم، ولا يتفكرون في سرعة رحيلهم من هذه الدنيا الفانية، وانتقالهم إلى الآخرة الباقية، فقد ملكهم باعث الحس، وغاب عنهم داعي العقل، وشملتهم الغفلة، وغرتهم الأماني الباطلة، والخدع الكاذبة، فخدعهم طول الأمل، وران على قلوبهم سوء العمل، فهم في شهوات الدنيا ولذات النفوس كيف حصلت حصلوها، ومن أي وجه لاحت أخذوها، إذا بدا لهم حظ من الدنيا بآخرتهم طاروا إليه زرافات ووحداناً، ولم يؤثروا عليه فضلاً من الله ولا رضواناً، نسوا الله فنسيهم أولئك هم الفاسقون، يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون. خلقنا الله عز وجل لوظيفة، فمن اهتدى لمعرفة هذه الوظيفة وقام بها حق القيام أفلح وأنجح، وسعد في الدنيا والآخرة، ومن تغابى عن معرفة هذه الوظيفة أو عرف الوظيفة ولم يقم بها حق القيام خاب وخسر في الدنيا والآخرة، فما هي هذه الوظيفة التي خلقنا الله عز وجل من أجلها، حتى لا نكون يوم القيام من المغبونين، أو من الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً؟ فالله عز وجل بين لنا هذه الوظيفة في كتابه، فقال عز وجل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، فالله تعالى خلق العباد من أجل عبادته عز وجل وحده، وأرسل الرسل من أجل أن يعبِّدوا الناس له عز وجل، ومن أجل أن ينبهوا الناس إلى القيام بالوظيفة التي خلقهم الله عز وجل من أجلها، فقال عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25]. وقال عز وجل: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف:45]، فالله تعالى أرسل الرسل من أجل أن يعبِّدوا الناس له عز وجل، ومن أجل أن يعرف الناس الوظيفة التي خلقهم الله عز وجل من أجلها. وقد فهم ربعي بن عامر رضي الله عنه أحد تلامذة النبي صلى الله عليه وسلم هذه الوظيفة، فلما دخل على رستم قال: إن الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.

وجوب إخلاص العبودية لله وحده

وجوب إخلاص العبودية لله وحده إن وظيفة الرسل، ووظيفة أتباع الرسل وهي تعبيد الناس لله عز وجل، فنحن جميعاً عبيد لله عز وجل، والعبد لا يجوز له أن يعمل ويؤدي إلى غير سيده، بل يجب عليه أن يعمل ويؤدي إلى سيده، فلا يجوز لنا أن نعمل عملاً لا نرجو به وجه الله، فينبغي أن تكون كل الأقوال وكل الأعمال وكل الأحوال لله عز وجل، كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 - 163]، فنحن وأموالنا وأوقاتنا وزوجاتنا وأولادنا ملك لله عز وجل، فلا يجوز لنا أن نعمل عملاً لغير الله، بل ينبغي أن يكون لله عز وجل. كثير من الناس يظن أن العبد لو كان كل عمله لله عز وجل فإنه لا يجد سعادة وراحة وحياة طيبة، وهذا من جهلهم بدين الله عز وجل، ومن جهلهم بما تسعد به النفوس، فهم يظنون أنهم لا يمكن أن يسعدوا حتى ينسلخوا من الشرع المتين، وحتى يتبعوا الشياطين، لكن القلوب التي خلقها الله عز وجل بين تعالى أنها لا تسعد إلا به، ولا تطمئن إلا بذكره، كما قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28]، فالله عز وجل كما خلق العين للإبصار والأذن للسماع واللسان للتحدث والذوق، خلق القلب لمعرفة الله عز وجل وتوحيده، فمهما تعلق بغير الله فمآله إلى التعاسة والشقاء، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد القطيفة، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش)، فالقلب لا يسعد إلا بالله عز وجل، ففي القلب فقر وحاجة واضطرار إلى الله عز وجل، فإذا تعلق بالله، وعُبِّد له سعد بذلك في الدنيا والآخرة، وإذا عُبِّد لغير الله فالتعاسة والشقاء في الدنيا والآخرة.

سعادة الصالحين وأخبارهم في عبوديتهم لله

سعادة الصالحين وأخبارهم في عبوديتهم لله مهما أكمل العبد عبوديته لله عز وجل سعد في الدنيا والآخرة، ومهما نقصت عبوديته نقصت سعادته، ولذلك يخبرنا الصالحون كيف وجدوا السعادة التي ما ذقنا شيئاً منها لضعف إيماننا ويقيننا وقلة توحيدنا، فقال بعضهم: لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من نعمة لجالدونا عليها بالسيوف. وقال بعضهم: أهل الليل في ليلهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم، ولولا الليل ما أحببت البقاء في الدنيا. وقال بعضهم: ما بقي من لذات الدنيا إلا ثلاث: قيام الليل، ولقاء الإخوان، وصلاة الجماعة. وقال بعضهم: إنه لتمر بي أوقات أقول: إن كان أهل الجنة كالذي نحن فيه والله إنهم لفي عيش طيب. وقال بعضهم: والله! إنه لتمر بي أوقات يرقص فيها القلب طرباً. وهذا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كان يقول: ما يفعل بي أعدائي، أنا جنتي معي، وبستاني في صدري، إن سجني خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة، وتعذيبي جهاد في سبيل الله. ولما سجن في القلعة نظر من خلف الباب وقال: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد:13]. وكان يقول: لو أملك ملء القلعة ذهباً ما استطعت أن أكافئهم على ما قدموه لي من الخير. وكان يقول: المحبوس من حبس قلبه عن ربه، والمأسور من أسره هواه. وكان يكثر أن يقول في سجوده وهو مسجون: اللهم! أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك. يصفه تلميذه المحقق ابن القيم فيقول: كنا إذا ضاقت بنا الأمور، واشتدت بنا الأحوال نلقاه، فما أن نراه وننظر إليه إلا ذهب كل ذلك عنا، وانقلب انشراحاً وفرحاً، ولقد كان من أطيب الناس عيشاً مع ما كان فيه من شدة العيش وخلاف الرفاهية، كانت نضرة النعيم تلوح على وجهه. فالحمد لله الذي فتح لعباده باباً إلى جنته، فأتاهم من ريحها وطيبها ما استفرغ قواهم لطلبها، وهم ما يزالون في دار العمل، فـ شيخ الإسلام تجاوز الستين سنة وما وجد حياة الاستقرار حتى يتزوج؛ لأنه كان من سجن إلى سجن، ومن معركة إلى معركة، ومن مناظرة إلى مناظرة، وما سعى يوماً لأن يتزوج زوجة حسناء، أو يملك سرية حوراء، ولا داراً قوراء، ولا سعى خلف دينار ولا درهم. فالذي يحقق العبودية لله عز وجل، وتكتمل عبوديته له تكتمل سعادته في الدنيا والآخرة، بل يسعد به من رآه. وكان أيوب السختياني سيد شباب أهل البصرة من التابعين، كان إذا دخل السوق ورآه أهل السوق سبحوا وهللوا وكبروا، لما يرون على وجهه من أنوار العبادة، فمن أقبل على الله عز وجل أقبل الله عز وجل عليه، ومن أقبل الله عز وجل عليه أضاءت ساحاته واستنارت جوارحه. والعجب كل العجب من غفلة من لحظاته معدودة عليه، وكل نفس من أنفاسه إذا ذهب لم يرجع إليه، فمطايا الليل والنهار تسير به ولا يتفكر إلى أين يحمل، ويسار به أعظم من سير البريد، ولا يدري إلى أي الدارين ينقل، حتى إذا نزل به الموت اشتد قلقه لخراب ذاته وذهاب لذاته، لا لما سبق من تفريطه حيث لم يقدم لحياته، فإذا خطرت له خطرة عارضة لما خلق له، دفعها باعتماده على العفو، وقال: قد أنبئنا بأنه هو الغفور الرحيم، وكأنه لم ينبأ بأن عذابه هو العذاب الأليم. ولما علم الموفقون لما خلقوا له, وما أريد بإيجادهم رفعوا رءوسهم، فإذا علم الجنة قد رفع لهم فشمروا إليه، وإذا صراطها المستقيم قد وضح لهم فاستقاموا عليه، ورأوا من بعض الغبن بيع ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، في أبد لا يزول ولا ينفد بصبابة عيش، إنما هو كأضغاث أحلام أو كطيف زار في المنام، مشوب بالنغص، ممزوج بالغصص، إن أضحك قليلاً أبكى كثيراً، وإن سر يوماً أحزن شهوراً. آلامه تزيد على لذاته، وأحزانه أضعاف مسراته، فيا عجباً من سفيه في صورة حليم، ومعتوه في مسلاخ عاقل، آثر الحظ الفاني على الحظ الباقي النفيس، وباع جنة عرضها الأرض والسماوات بسجن ضيق بين أرباب العاهات والبليات، ومساكن طيبة في جنات عدن تجري من تحتها الأنهار بأعطان ضيقة آخرها الخراب والبوار، وأبكاراً عرباً أتراباً كأنهن الياقوت والمرجان بخبيثات قذرات سيئات الأخلاق مسافحات أو متخذات أخدان، وحوراً مقصورات في الخيام بخبيثات سيبات بين الأنام، وأنهاراً من خمر لذة للشاربين بشراب نجس مذهب للعقل، مفسد للدنيا والدين، ولذة النظر إلى وجه العزيز الرحيم، بالتمتع برؤية الوجه القبيح الذميم، وسماع الخطاب من الرحمن بسماع المعازف والغناء والألحان، والجلوس على منابر اللؤلؤ والياقوت والزبرجد يوم المزيد بالجلوس في مجالس الفسوق مع كل جبار عنيد. وإنما يظهر الغبن الفاحش في هذا البيع يوم القيامة، وإنما يتبين سفه بائعه يوم الحسرة والندامة، إذا حشر المتقون إلى الرحمن وفداً وسيق المجرمون إلى جهنم ورداً، ونادى المنادي على رءوس الأشهاد ليعلمن أهل الموقف من أولى بالكرم من بين العباد، فلو توهم المتخلف عن هذه الرفقة ما أعد الله لهم من الإكرام، وادخر لهم من الفضل والإنعام، لعل

دعاء تفريج الهم

مجالس رمضان_دعاء تفريج الهم إن سعادة القلوب لا تكون إلا بتوحيد الله عز وجل، والتسليم بقضاء الله وقدره، فإذا أصاب عبداً هم أو غم أو حزن لجأ إلى الله عز وجل داعياً متوسلاً بأسمائه، عاكفاً على قراءة القرآن، فكما أن القرآن ربيع القلوب، كذلك هو جلاء الأحزان وذهاب الغموم والهموم.

كيفية علاج القلب من الهم والغم

كيفية علاج القلب من الهم والغم إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً. أما بعد: فقوله صلى الله عليه وسلم: (ما أصاب عبداً قط هم ولا غم ولا حزن فقال: اللهم! إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض فيَّ حكمك، عدل فيَّ قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا، وجلاء أحزاننا، وذهاب همومنا وغمومنا، إلا أذهب الله همه وغمه وأبدله مكانه فرحاً). هذا الحديث النبوي الشريف يبين لنا كيف تعالج القلوب من الهم أو الغم أو الحزن، فالقلوب خلقت لمعرفة علام الغيوب وغفار الذنوب عز وجل؛ فهي لا تسعد إلا بتوحيد الله عز وجل؛ لأنها خلقت لمعرفة الله وتوحيده، وكما أن السماوات والأرض لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا، فكذلك قلوب العباد لو كان فيها آلهة إلا الله عز وجل لفسدت بذلك فساداً لا يرجى له صلاح، حتى توحد ربها وتعرفه عز وجل. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد القطيفة، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش). فالقلوب إذا علقت بغير الله عز وجل، وعبدت غيره شقي أصحابها في الدنيا والآخرة. والقلوب لا تصل إلى مناها حتى تصل إلى مولاها، ولا تصل إلى مولاها حتى تكون صحيحة سليمة، فهي لا تسعد إلا بالله عز وجل، ولا تطمئن إلا بذكره وعبادته، كما قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28]. فلما خلقت لتوحيد الله عز وجل صار علاجها كذلك إذا أصابها شيء من الهم أو الغم أو الحزن. والهم: ما يصيب القلب عند انتظار مكروه في المستقبل. والغم: ما يصيب القلب عند المصيبة الحاضرة. والحزن: هو الأثر الباقي في القلب نتيجة لمصيبة ماضية. فإذا أصيبت القلوب بشيء من الهم أو الغم أو الحزن فعلاجها مركب من أمرين: الأمر الأول: هو توحيد الله عز وجل. والأمر الثاني: هو التسليم بقضاء الله عز وجل وقدره، والتسليم لشرع الله عز وجل، فيقول صلى الله عليه وسلم: (ما أصاب عبداً قط هم ولا غم ولا حزن، فقال: اللهم! إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك)، فعلاج القلوب في التوحيد، وأن يقف العبد ذليلاً عند باب ربه العزيز، ويقول بأنه عبد وليس عبداً ابن سيد، ولكن العبودية متأصلة فيه، فهو عبد وابن عبد وابن أمة: (اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك). قوله: (ناصيتي بيدك) إقرار لله عز وجل بالربوبية، فالله عز وجل قهر جميع الخلق وأذل جميع الخلق: {مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود:56]، فالله تعالى يملك نواصي العباد وقاهر لكل العباد، ومذل لكل العباد كما يملك قلوب العباد، ولو شاء الله عز وجل لأعطى كل نفس تقواها. قوله: (ماض فيَّ حكمك) تسليم للشرع المتين. قوله: (عدل فيَّ قضاؤك)، تسليم للقضاء والقدر.

أسماء الله الحسنى ومشروعية التوسل بها

أسماء الله الحسنى ومشروعية التوسل بها قوله: (أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك) توسل مشروع بأسماء الله عز وجل، والأسماء الحسنى الله عز وجل هو الذي سمى بها نفسه لكماله سبحانه، وقد عاب الله تعالى الآلهة الباطلة؛ لأنها احتاجت إلى من يسميها، فقال: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ} [النجم:23]، فاحتياج المخلوق إلى من يسميه نوع من الفقر، والله عز وجل هو الغني ومن سوى الله عز وجل فقير إليه، فالله تعالى هو الذي سمى نفسه بهذه الأسماء الحسنى واختارها لنفسه. قوله: (أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك)، أو: تفصيل بعد إجمال، فالله عز وجل سمى نفسه بكل الأسماء الحسنى، فأنزل بعضها في بعض كتبه، وعلم بعضها بعض خلقه، واستأثر الله عز وجل بعلم بعضها، وهذا موافق لما يجب اعتقاده من أن الله عز وجل لا يحاط به علماً. فنحن لا نعلم كل أسماء الله الحسنى؛ وذلك لعظمته وكماله وجلاله، كما أن الله عز وجل يُرى في الآخرة ولا يُدرك، كما قال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23]، ولكن الإدراك فوق الرؤية كما قال الله عز وجل حاكياً عن موسى وقومه: {قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:61 - 62]، فلما حصلت الرؤية وتراءى الجمعان {قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:61 - 62]؛ لأن الله عز وجل وعده بأن يجعل له هو وهارون سلطاناً فلا يصلون إليهما، فهو يثق بوعد الله ويثق بنصره عز وجل، فقال: {كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:62]. ولما سئل الحبر البحر ابن عباس عن قول الله عز وجل: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23]، وقوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:103]، فقال للسائل: سوف أضرب لك مثلاً من خلقه، قال: أترى السماء؟ قال: نعم، قال: أفتدركها، قال: لا، قال: الله أعظم وأجل. فالسماء خلق من خلق الله عز وجل، ننظر إليها فنرى شيئاً من الكواكب غير الشمس والقمر، ولكن الإنسان ينظر إلى السماء ولا يحيط بها علماً فيعلم كل ما في السماء من أجرام وكواكب وشموس وأقمار وغير ذلك، فإذا كان خلق من خلق الله لا نستطيع أن ندركه، فكيف بالخالق الذي هو أكبر من كل شيء، وأعظم من كل شيء، وعلا فوق كل شيء سبحانه وتعالى. فالله عز وجل له أسماء غير هذه الأسماء التي أشار إليها في الحديث الثابت في الصحيحين: (إن لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة) فالله عز وجل له أسماء غير التسعة والتسعين، وهذا كما قال شيخ الإسلام شبيه بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن في الجنة مائة درجها أعدها الله للمجاهدين في سبيله، ما بين الدرجة والدرجة كما بين السماء والأرض)، فمن بين درجات الجنة التي لا نعلم عددها مائة درجة أعدها الله عز وجل للمجاهدين في سبيله، ما بين الدرجة والدرجة كما بين السماء والأرض. كذلك من جملة الأسماء التي لا يعلم عددها ووصفها إلا الله عز وجل تسعة وتسعين اسماً موجودة في الكتاب والسنة الصحيحة، من أحصاها قيل: حفظها، وقيل: أثنى على الله عز وجل بها، وقيل: عمل بمقتضاها، فإذا قال: الرزاق وثق بالرزق، وإذا قال: التواب وثق بالتوبة وهكذا.

بيان تأثير القرآن في القلوب

بيان تأثير القرآن في القلوب قوله: (أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا) الربيع: هو المطر، وحال القرآن مع القلوب كحال المطر مع الأرض، فالقرآن واحد ولكن القلوب تختلف، كما أن المطر ينزل واحداً ولكن الأرض تختلف، فهناك أرض طيبة تقبل الماء وتهتز وتربو وتنبت الكلأ والعشب والخيرات الكثيرة والثمار اليانعة، وهناك أرض تمسك الماء فينتفع الناس، وهناك أرض سبخة لا تمسك الماء ولا تنبت كلاً ولا عشباً. كذلك القلوب تختلف، فهناك قلوب طيبة عندما تسمع القرآن تثمر الثمار الطيبة والأعمال الصالحة، وهناك قلوب تعي وتحفظ القرآن، وتبلغه فينتفع الناس، وهناك قلوب لا تنتفع في نفسها ولا تنفع غيرها. قال: (وجلاء أحزاننا، وذهاب همومنا وغمومنا، إلا أذهب الله همه وغمه وأبدله مكانه فرحاً). فمن قال هذه الكلمات الطيبات من كلمات النبي عليه الصلوات أذهب الله عنه همه وغمه. فينبغي له أن يلجأ إلى هذه الأفكار الطيبة التي تعالج القلوب، وذلك بتجديد التوحيد والتسليم للشرع المجيد، فإنه سيجد بركة كلام النبي صلى الله عليه وسلم في علاج كثير من الأمراض النفسية كالاكتئاب وغيره وسيغنيه عن كثير من العقاقير أو العلاجات التي لا تزيد إلا هماً وغماً وحزنا، فالإنسان ينبغي له أن يعالج قلبه بالعلاجات القرآنية، وبالأحاديث النبوية؛ لأن القلوب لا تصلح إلا بذلك، فنسأل الله تعالى أن يصلح قلوبنا، وأن يغفر ذنوبنا. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.

شهر الاستغفار

مجالس رمضان_شهر الاستغفار من فضل الله عز وجل على عباده أن شرع لهم الاستغفار من ذنوبهم في كل وقت، وفي الأوقات الفاضلة لا سيما شهر رمضان، وقد حث الله على الاستغفار في كتابه، وجعل أسباباً للمغفرة، وشرع آداباً يتحلى بها المؤمن حال استغفاره ودعائه.

فضل الاستغفار وبيان أفضله

فضل الاستغفار وبيان أفضله إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً. أما بعد: هذا الشهر الكريم ليس شهر الصيام والقيام وتلاوة القرآن والدعاء فحسب، ولكنه كذلك شهر طلب المغفرة من الله عز وجل، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (رغم أنف رجل دخل عليه رمضان ثم انسلخ ولم يغفر له)، فقد كثرت في هذا الشهر الكريم أسباب المغفرة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)، وقال صلى الله عليه وسلم: (من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)، والمغفرة: هي ستر الذنوب مع محو عقوبتها. أي: أن الله عز وجل يستر على العبد فلا يفضحه في الدنيا، ولا في عرصات القيامة، ويمحو عنه عقوبة هذه الذنوب. وقد أكثر الله عز وجل من ذكر الاستغفار في كتابه، فتارة يمدح أهله، كما قال في وصف المحسنين: {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ} [آل عمران:17]، وتارة يأمر به: {وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:199]، وتارة يخبر الله عز وجل أنه يغفر لمن استغفره، فقال عز وجل: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمِ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء:110]. وحكم الاستغفار كحكم الدعاء، فهو سبب مقتضٍ للإجابة إذا توفرت الشرائط وانتفت الموانع، فكذلك الله عز وجل يغفر لمن استغفره إذا توفرت شرائط المغفرة وانتفت الموانع. أفضل الاستغفار ما بدئ بحمد الله عز وجل وتمجيده، واعتراف العبد بذنوبه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (سيد الاستغفار أن يقول العبد: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أبوء بنعمتك علي، وأبوء بذنبي فاغفر لي؛ فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت). فهذا كان سيد الاستغفار؛ لأنه يشتمل على الاعتراف بنعم الله عز وجل على العبد، وكذلك اعتراف العبد بذنوبه: (أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي فاغفر لي)، أي: واعترف بذنبي. وكما يقولون: العارف يسير إلى الله عز وجل بين مشاهدة المنة، ومطاوعة عيب النفس والعمل؛ فينظر بإحدى عينيه إلى نعم الله عز وجل عليه، وهذا يورثه كمال الحب لله عز وجل، وينظر بالعين الأخرى إلى عيوب نفسه وسيئات عمله فيورثه ذلك كمال الذل لله عز وجل، وهما شقا العبادة. وقالوا: العارف يخرج من الدنيا وما قضى وطره من شيئين: ثناؤه على ربه عز وجل، وبكاؤه على نفسه.

الدعاء مع الرجاء وكثرة الاستغفار من أعظم أسباب المغفرة

الدعاء مع الرجاء وكثرة الاستغفار من أعظم أسباب المغفرة روى الترمذي بسند حسن وحسنه الألباني رحمه الله في الصحيحة عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قال الله تعالى: يا ابن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك ما كان منك ولا أبالي. يا ابن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني لغفرت لك. يا ابن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة)، فهذا الحديث يبين لنا ثلاثة أسباب من أعظم أسباب المغفرة. أما السبب الأول: فهو الدعاء مع الرجاء: (يا ابن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني)، وهو من أعظم أسباب المغفرة. السبب الثاني من أسباب المغفرة: كثرة الاستغفار، وهو طلب المغفرة من الله عز وجل. قال الحسن: أكثروا من الاستغفار على موائدكم وفي طرقكم وفي مجالسكم، فإنكم لا تدرون متى تنزل المغفرة، وروي أن لقمان قال لابنه: يا بني! عود لسانك: اللهم اغفر لي. فإن لله ساعات لا يرد فيها سائلاً، وقال علي رضي الله عنه: ما ألهم الله عبداً الاستغفار وهو يريد أن يعذبه؛ لأن الله عز وجل إذا أراد لعبد خيراً فتح له باب الخير، فإذا أراد أن يغفر له ألهمه الاستغفار، فيستغفر العبد فيقبل الرب عز وجل منه ويغفر له، كما إذا أراد الله عز وجل أن يتوب على عبد يوفقه للتوبة ويقبل منه توبته. قال عز وجل: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا} [التوبة:118]، وإذا أراد الله أن يعطي عبداً مسألة يفتح عليه باب الدعاء بهذه المسألة، فيسأل العبد ربه فيقبل الرب عز وجل منه ويعطيه سؤله، فالله عز وجل هو الأول والآخر والظاهر والباطن، كذلك تقول عائشة رضي الله عنها: طوبى لمن وجد في صحيفته استغفاراً كثيراً. فينبغي للعبد أن يكثر من استغفار الله عز وجل، روى مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أنه ليغان على قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة)، فهذا النبي صلى الله عليه وسلم المعصوم الذي غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر يستغفر الله عز وجل في اليوم مائة مرة، وكان يقول: (توبوا إلى الله واستغفروه فوالله إني لأتوب إليه وأستغفره، في اليوم أكثر من سبعين مرة).

توحيد الله عز وجل من أعظم أسباب المغفرة

توحيد الله عز وجل من أعظم أسباب المغفرة السبب الثالث وهو من أعظم أسباب المغفرة: توحيد الله عز وجل: (يا ابن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض خطايا؛ ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة). يقول ابن القيم رحمه الله: يعفى لأهل التوحيد المحض الذين لم يشوبوه بشيء ما لا يعفى لغيرهم، فلو أتى الموحد الذي أخلص توحيده لله عز وجل ربه بقراب الأرض خطايا لأتاه الله عز وجل بقرابها مغفرة، ودل على ذلك أيضاً حديث البطاقة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يصاح على رجل من أمتي يوم القيامة فيقال: احضر وزنك، وينشر له تسعة وتسعون سجلاً، كل سجل مد البصر مليئة بالذنوب والخطايا، فتوضع في كفة، ويظن أنه هالك، فيؤتى له ببطاقة عليها لا إله إلا الله، فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة فتطيش السجلات وتثقل البطاقة). يقول ابن القيم: إن هذا الرجل حقق التوحيد، ووقع في ذنوب دون الشرك، فليست هذه بطاقة كل مسلم شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، والله تعالى يقول: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:106]، ولكن هذا الرجل قام بالتوحيد حق القيام، ووقع في ذنوب دون الشرك، فنجا ببركة التوحيد وفضله، فينبغي للعبد أن يخلص توحيده لله عز وجل، فالتوحيد هو الإكسير الأعظم الذي لو وضعت منه ذرة على جبال من الذنوب لنسفتها نسفاً، قال الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، وقال: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} [المائدة:72]. فينبغي للعبد أن يحقق التوحيد بقلبه وجوارحه، حتى يكون على رجاء المغفرة من الله عز وجل. أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم، وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.

شهر التوبة

مجالس رمضان_شهر التوبة من فضل الله تعالى أن فتح باب التوبة للتائبين، ولقبول التوبة شروط، ولها علامات تدل على صحتها وعلامات تدل على عدم صحتها، وكل ذلك حري بالمسلم أن يعلمه ليبتغي مواضع الفضل فيه.

أهمية التوبة ودعوة الناس كافة إليها

أهمية التوبة ودعوة الناس كافة إليها إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً. أما بعد: فإن شهر رمضان هو شهر التوبة، فهو الشهر الذي تفتح فيه أبواب الجنة، وتغلق فيه أبواب النار، وتصفد فيه الشياطين، فالذي لا يستطيع أن يقهر نفسه ويطوعها لله عز وجل في هذا الشهر الكريم وقد صفدت الشياطين فمتى يستطيع قهر نفسه؟ ومتى يستطيع إلزام نفسه بطاعة الله عز وجل والاستقامة على طريقه سبحانه؟ والتوبة هي بداية الطريق ووسطه ونهايته، وبعد ما قدمه الصحابة الكرام من الإيمان والهجرة والجهاد والصبر أمرهم بالتوبة فقال عز وجل: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31]، فهذه الآية آية مدنية نزلت بعد الإيمان والهجرة والجهاد والصبر، أمرهم الله عز وجل فيها بالتوبة وعلق فلاحهم بها، فقال عز وجل: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31]. وقال عز وجل: {وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات:11]، فقسم الله عز وجل الناس إلى تائب وظالم، وليس ثم فريق ثالث: {وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات:11]. وقد فتح الله عز وجل هذا الباب العظيم -باب التوبة- وأمر جميع العباد بالولوج من هذا الباب، فأمر المنافقين بالولوج منه، كما أمر المشركين عامة، وأمر اليهود والنصارى، وأمر المسرفين على أنفسهم من أمة النبي صلى الله عليه وسلم ومن غيرهم، كما أمر بذلك المؤمنين الصادقين، فالله عز وجل دعا جميع العباد إلى التوبة وإلى الدخول من هذا الباب العظيم فقد دعا إلى ذلك المنافقين فقال: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:145 - 146]. كما دعا المشركين فقال: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة:5]. وقال: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة:11]. كما دعا اليهود والنصارى الذين قالوا: {إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة:73]، والذين قالوا: {إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران:181]، والذين قالوا: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا} [المائدة:64]. فقال عز وجل بعد أن ذكر حالهم: {أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ} [المائدة:74]. كما دعا إلى ذلك المسرفين على أنفسهم من أمة النبي صلى الله عليه وسلم فقال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر:53]. كما دعا المؤمنين الصادقين فقال: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31].

شرائط التوبة

شرائط التوبة والتوبة لها شرائط: الشرط الأول: الإقلاع عن الذنب. الشرط الثاني: الندم على فعله. الشرط الثالث: العزم على عدم العودة. الشرط الرابع: رد المظالم. الشرط الخامس: أن تقع التوبة في الوقت الذي تقبل فيه وقبل أن يغلق بابها. أما الإقلاع عن الذنب فتستحيل التوبة مع الاستمرار على الذنب، فيجب على العبد أن يقلع عن الذنب، والندم على فعله يدل على استقباح هذا الفعل، والندم توبة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (والذنب إما أن يحرق بنار الندم في الدنيا، أو يحرق بنار الآخرة). كذلك يعزم على ألا يعود عزماً صادقاً، واشترط بعض العلماء ألا يعود، ولكن الصحيح أن الذي يشترط هو العزم على ألا يعود، فكم من محب للصحة ويأكل ما يضره. الشرط الرابع: وهو رد المظالم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من كان لأخيه عنده مظلمة من مال أو عرض فليتحلله اليوم من قبل ألا يكون دينار ولا درهم إلا الحسنات والسيئات) قبل أن يكون التعامل بالعملة الصعبة بالحسنات والسيئات. الشرط الخامس: وهو أن تقع التوبة في الوقت الذي تقبل فيه، وهو قبل أن تطلع الشمس من مغربها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغرها). كذلك عندما يصل العبد إلى الحشرجة، كما قال تعالى: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} [النساء:18]، فساوى الله عز وجل بين من يموت على الكفر، وبين من يتوب عند الموت في عدم قبول التوبة. قال الحسن: ابن آدم! لا يجتمع عليك حسرتان: سكرة الموت، وحسرة الفوت. أي: فوت التوبة. وقال بعض السلف منهم عمر بن عبد العزيز في قوله تعالى: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} [سبأ:54]، قال: حيل بينهم وبين التوبة حين سألوها، فأكثر الناس يسوفون بالتوبة، ويؤجلونها إلى الوقت الذي لا تقبل فيه فيتوبون عند حشرجة الموت، وهو الوقت الذي لا تقبل فيه التوبة، فمن شروط صحة التوبة أن تقع في الوقت الذي تقبل فيه وقبل أن يغلق بابها.

علامات صحة التوبة وعدم صحتها

علامات صحة التوبة وعدم صحتها هناك علامات للتهمة في التوبة، وعلامات لصحة التوبة، فمن علامات التهمة استمرار الغفلة، والتفات القلب إلى الذنب الفينة بعد الفينة، وتذكر حلاوة مواقعته. ومن علامات التهمة الاطمئنان والأمان، حتى كأنه أعطي منشوراً بالأمان، فالعبد قد تاب، ولكنه لا يدري هل قبلت توبته أم لا، وهل محيت حوبته أم لا. أما علامات الصحة فمن علاماتها: أن يستقيم العبد على طاعة الله عز وجل، كما قال الله عز وجل: {وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا} [الفرقان:71]، فيكون حال العبد بعد التوبة غير حاله قبلها، فيستقيم على طاعة الله عز وجل، فالتوبة الصادقة هي التي يعقبها عمل صالح: {وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا} [الفرقان:71]. ومن علامات الصحة كذلك: أن يستمر العبد على الخوف؛ لأنه يعلم أنه قد تاب، ولكنه لا يدري هل قبل الله عز وجل توبته أم لا، فهو على الخوف حتى تنزل عليه رسل تبشره بقول الله عز وجل: {أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت:30]، فهناك يزول خوفه. ومن علامات الصحة كذلك: أن يتقطع قلب العبد كما قال سفيان بن عيينة في قوله عز وجل: {لا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ} [التوبة:110]، قال: تقطعها بالتوبة، والقلوب لا بد أن تتقطع إما بالتوبة في الدنيا، وإما يوم القيامة إذا حقت الحقائق وعاين الخلق ثواب المطيعين وعقاب العاصين. ومن علامات الصحة: كسرة تصيب قلب العبد وتطرحه على باب الله عز وجل ذليلاً، ويكون حاله كحال عبد أبق من سيده بعد كثرة جناياته ومخالفاته، وهو يعلم أن منتهى سعادته في رضا سيده عنه، فأحيط به وأعيد إلى سيده، فما أحلى قوله عند ذلك: أسألك بقوتك وضعفي إلا رحمتني، أسألك بغناك عني وفقري إليك، هذه ناصيتي الكاذبة الخاطئة بين يديك، عبيدك سواي كثير، وليس لي سيد سواك، أسألك مسألة المسكين، وأبتهل إليك ابتهال الخائف الضرير، يا من ذل لك قلبه! وخشعت لك جوارحه! يا من ألوذ به فيما أؤمله ومن أعوذ به مما أحاذره لا يجبر الناس عظماً أنت كاسره ولا يهيضون عظماً أنت جابره فالبدار البدار إلى التوبة قبل أن تعمل سموم الذنوب بروح الإيمان عملاً يجاوز الأمر فيه مجهود الأطباء واختبارهم، فلا ينفع بعد ذلك نصح الناصحين ووعظ الواعظين، وتحق الكلمة عليه أنه من أصحاب الجحيم. فالتوبة التوبة قبل أن يأتيكم من الموت النوبة، فلا تحصلوا إلا على الخسران والخيبة. الإنابة الإنابة قبل غلق باب الإجابة. الإفاقة الإفاقة فقد قرب وقت الفاقة.

أقسام الناس في التوبة

أقسام الناس في التوبة الناس في التوبة على أقسام: منهم من لا يتوب إلى الله عز وجل، بل يعيش حياة الغفلة والمعاصي حتى يموت على ذلك، فهو لم يقف يوماً في الصف، ولم يدخل بيت الله، ولم يقل: إياك نعبد وإياك نستعين، ولعله لا يدخل إلا مرة واحدة، ولا يدخل على قدميه، بل محمولاً على خشبته، ولا يدخل من أجل أن يصلي، بل من أجل أن يصلى عليه، ثم لا يعود بعد ذلك إلى المسجد مرة ثانية، فهذه حالة المصرين على المعاصي الذين يموتون على هذه الحال، نعوذ بالله من حال أهل البوار. القسم الثاني عباد الله! من يعرف ربه عز وجل برهة من عمره وزماناً من دهره، ثم ينقلب -لعلم الله عز وجل فيه- فيعمل بمعصية الله عز وجل ويموت على ذلك. ما أصعب العمى بعد البصيرة، وأصعب منه الضلالة بعد الهدى، والمعصية بعد التقوى، كم من وجوه خاشعة ووقع على قصص أعمالها عاملة ناصبة! كم من قارب مركبه ساحل النجاة، فلما هم أن يرتقي لعب به موج فغرق! كل العباد تحت هذا الخطر (قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء)، ليس العجب ممن هلك كيف هلك، إنما العجب ممن نجا كيف نجا. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فوالذي نفسي بيده! إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها). وتقول السيدة عائشة رضي الله عنها: إن الرجل ليعمل زماناً بعمل أهل الجنة وهو من أهل النار، والعياذ بالله. القسم الثالث عباد الله! من يعمل بمعصية الله عز وجل، ثم يوفق إلى توبة نصوح، فيعمل بطاعة الله عز وجل، ويموت على ذلك، ومن هؤلاء من يتوب قبل موته بمدة مديدة، تؤهله لأن يصل إلى الدرجات، ومنهم من يتوب قبل موته بمدة يسيرة، فحسبه أن ينجو من اللفحات، وأن يدخل الجنات. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها). بقي هنا قسم هو أشرف الأقسام، وهو حال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وهو أن يعمل الرجل عمره كله بطاعة الله عز وجل، ثم ينبه إلى قرب أجله، فيجتهد في العمل، حتى يموت على عمل يصلح للقاء. لما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:1 - 3]، صار النبي صلى الله عليه وسلم أشد ما يكون اجتهاداً في أمر الآخرة، وكان لا يقوم ولا يقعد إلا قال: سبحان الله العظيم وبحمده يتأول القرآن. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

شهر الدعاء

مجالس رمضان_شهر الدعاء الدعاء من العبادات التي أمرنا الله تعالى بها، والمؤمن يتسلح بالدعاء دائماً، وكلما أكثر المؤمن من سؤاله لمولاه والتضرع بين يديه ودعائه له كان على خير كثير، وللدعاء آداب كثيرة، فحري بالمؤمن التأدب بهذه الآداب لعله يحوز استجابة دعائه.

فضل الدعاء وأهميته

فضل الدعاء وأهميته إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. ثم أما بعد: فهذا الشهر الكريم شهر رمضان ليس شهر الصيام والقيام وقراءة القرآن فحسب، ولكنه كذلك شهر الدعاء؛ لأنه شهر تفتّح فيه أبواب السماء، وتفتّح فيه أبواب الرحمة، وتفتّح فيه أبواب الجنة، وقد ذكر الله عز وجل في كتابه بعد آيات الصيام قوله عز وجل: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186] فلا ينسى العبد نفسه من الدعاء في هذا الشهر الكريم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الدعاء هو العبادة، ثم تلا قوله عز وجل: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60])، فسبحان الله العظيم ذو الكرم الفياض والجود المتتابع، جعل سؤال عبده لحوائجه وما يصلحه في الدنيا والآخرة عبادة، وأمر العبد به، واعتبر الذين لا يدعونه عز وجل ولا ينزلون حوائجهم به عز وجل مستكبرين، فقد أمر الله عز وجل بالدعاء ووعد بالإجابة، قال تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل:62]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله حيي كريم يستحي من الرجل إذا رفع يديه أن يردهما صفراً خائبتين)، وقال صلى الله عليه وسلم: (لا تعجزوا في الدعاء فإنه لن يهلك مع الدعاء أحد)، وقال صلى الله عليه وسلم: (ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم أو قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث: إما أن يعجّل له دعوته، وإما أن يدّخر له الأجر في الآخرة، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها)، فالله عز وجل يقبل الدعاء، ولكن الصورة التي يقبل فيها الدعاء تختلف، فقد يجيب العبد إلى سؤاله، وقد يدّخر له أجراً في الآخرة، وقد يصرف عنه من البلاء والمصائب ما هو أعظم مما دعا به العبد. رأى أحد العلماء رجلاً يتردد على أحد الملوك، فقال له: يا هذا! تذهب إلى من يسد دونك بابه، ويظهر لك فقره، ويخفي عنك غناه، وتدعُ من يفتح لك بابَه ويظهر لك غناه، ويقول: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60]. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من لم يسأل الله يغضب عليه). قال الشاعر: لا تسألن بني آدم حاجة وسل الذي أبوابه لا تُحجب الله يغضب إن تركت سؤاله وبني آدم حين يُسأل يغضبُ فالله عز وجل يغضب حين لا يسأله العبد، أما ابن آدم يغضب حين يُسأل؛ لأن الله عز وجل ليس كمثله شيء وهو غني كريم يحب أن يتفضّل على عباده، يد الله ملأى لا تغيضها نفقة، سحّاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض فإنه لم ينقص ما في يمينه.

آداب الدعاء

آداب الدعاء فالدعاء سبب مقتض للإجابة إذا توفّرت الشرائط وانتفت الموانع، وشرائط الدعاء هي آداب الدعاء. ومن آداب الدعاء: 1 - أن يدعو العبد ربه وهو موقن بالإجابة؛ لأن الله عز وجل وعد بالإجابة، فقال: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60]. 2 - أن يعظّم العبد الرغبة في الله عز وجل؛ لأن الله عز وجل غني كريم، لو أعطى كل الخلق جميع ما يؤملونه لما نقص ذلك مما عند الله عز وجل إلا كما ينقص المخيط إذا أُدخل البحر، فالعبد يطمع في الله عز وجل، وفي رحمته وكرمه. 3 - ألا يعجل العبد، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، قالوا: كيف يعجل يا رسول الله؟ قال: يقول: دعوت فلم يستجب لي)، فالعبد يطلب المسألة من الله عز وجل مرة أو مرتين أو ثلاث أو أكثر من ذلك، ثم يترك الطلب ويترك الدعاء؛ لأنه لم يجد الإجابة على الصورة التي طلبها، فهذا يكون كالمبخِّل للرب الكريم الذي لا ينقصه العطاء، بل ينبغي على العبد أن يلازم الدعاء، ومن داوم طرق الباب يوشك أن يُفتح له، ويمثلون من يدعو بشيء معين ثم يترك الدعاء به بمن حرث الأرض وبذر البذر، وتعهّد الزرع بالخدمة، ثم استبطأ خروج الثمر فترك الزرع فأضاع مجهوده السابق، فينبغي للعبد أن يلازم المسألة. 4 - أن يحسن الظن بالله عز وجل، فيقول: لعله يستجيب لي، أو يدّخر لي أجراً، أو لعله يصرف عني سوء، ويسيء الظن بنفسه فيقول: لعلي قاطع رحم، أو لعل مطعمي حرام أو مشربي حرام، فيراجع نفسه ويراجع عبادته مع الله عز وجل. 5 - أن يلح العبد في الدعاء، (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دعا دعا ثلاثاً، وإذا سلّم سلّم ثلاثاً). 6 - أن يتخير العبد الأوقات والأحوال والدعوات. يتخير الأوقات كيوم عرفة من أيام السنة، وليلة القدر من بين الليالي، والثلث الأخير من الليل، وأن يتحرى ساعة الجمعة، والراجح أنها آخر ساعة من بعد عصر يوم الجمعة أي: قبل المغرب، وقيل: هي ساعة صعود الخطيب المنبر إلى حين ينزل. أيضاً الدعاء بين الأذان والإقامة لا يرد. ويتخير الأحوال كحال نزول المطر؛ لأن الله عز وجل قرن نزول المطر بالرحمة فقال عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ} [الشورى:28]، وحال السجود، لقوله صلى الله عليه وسلم: (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا فيه من الدعاء فقمن أن يستجاب لكم) أي: جدير أن يستجاب لكم. كذلك عند زحف الصفوف لرفع راية الله عز وجل وإعلاء كلمته عز وجل، يقولون: شرف الحال لشرف الوقت، فيوم عرفة يوم تكثر فيه الأسئلة على الله عز وجل ويكثر فيه الدعاء، والله عز وجل ليس كمثله شيء، فترجى الإجابة عند كثرة المسائل، كذلك عند ساعة الجمعة ترتفع الأيدي وتُظهر شعيرة الجمعة فعند ذلك يُرجى قبول الدعاء. ينبغي أن يتخير العبد كذلك الدعوات القرآنية أو ما ثبت في السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يتكلّف السجع في الدعاء. 7 - أن يطيّب العبد مطعمه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} [المؤمنون:51]، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة:172]، ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه يقول: يا رب يا رب، ومطعمه حرام ومشربه حرام وغُذي بالحرام، فإنى يُستجاب لذلك؟) فالله عز وجل ما فرّق بين الرسل الكرام وبين عامة المسلمين في الأمر بالأكل من الحلال الطيب فقال: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} [المؤمنون:51]، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة:172]، ثم ذكر الرجل يطيل السفر، ودعوة المسافر مستجابة للمشقة التي يجدها ولكسرة قلبه، والله عز وجل يقبل دعاء المنكسرة قلوبهم إذا مدوا أيديهم، ورفع اليدين متواتر في الدعاء يقول: يا رب يا رب، وفي هذا إلحاح على الله عز وجل باسم الربوبية، وهذا أيضاً من آداب الدعاء. 8 - أن يبدأ دعاءه بحمد الله عز وجل والثناء عليه، والصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والدعاء للنبي صلى الله عليه وسلم، ثم يدعو ويختم كذلك بالحمد والثناء والصلاة على رسول الله. (رأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يدعو لم يحمد الله عز وجل ولم يصل على نبيه صلى الله عليه وسلم فقال: عجّل هذا، ثم دعاه وقال له ولغيره: إذا دعا أحدكم فليبدأ بتحميد الرب جل وعلا، ويثني بالصلاة على نبيه صلى الله عليه وسلم). 9 - أدب الباطن وهو التوبة والاستجابة لله عز وجل، فمن أراد أن يستجيب الله عز وجل له فينبغي أن يستجيب لله عز وجل، كما قال تعال

شهر الذكر

مجالس رمضان_شهر الذكر الذكر من أفضل القربات إلى الله عز وجل، وقد مدح الله تعالى الذاكرين كثيراً وأثنى عليهم ثناءً عظيماً، فالذكر من خير الأعمال وأفضلها عند الله وأزكاها، وللذكر فضائل كثيرة وفوائد عظيمة ينالها الذاكرون الله كثيراً والذاكرات.

تعريف الذكر

تعريف الذكر إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً. ثم أما بعد: شهر رمضان هو شهر الذكر؛ فإن أفضل الحجاج أكثرهم ذكراً لله عز وجل، وأفضل المجاهدين أكثرهم ذكراً لله عز وجل، وأفضل الصوام أكثرهم ذكراً لله عز وجل. والذكر: هو منشور الولاية الذي من أعطيه اتصل، ومن منعه عزل، وهو الباب المفتوح بين العبد وبين ربه ما لم يغلقه العبد بغفلته. قال الحسن: تفقدوا الحلاوة في ثلاثة أشياء: في الصلاة، والذكر، وتلاوة القرآن؛ فإن وجدتم وإلا فاعلموا أن الباب مغلق. في كل جارحة من جوارح العباد عبودية مؤقتة، والذكر هو عبودية القلب واللسان، وهي غير مؤقتة، بل أمروا بذكر معبودهم ومحبوبهم قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم. ومدح الله عز وجل الذاكرين والذاكرات، وأعد الله عز وجل لهم مغفرة وأجراً عظيماً.

فوائد الذكر

فوائد الذكر ذكر العلامة ابن القيم في كتابه القيم الوابل الصيب من الكلم الطيب أكثر من سبعين فائدة من فوائد الذكر: فمن ذلك: أنه يرضي الرحمن عز وجل، وأنه يقمع الشيطان ويكسره، وأنه يوصل إلى درجة المراقبة والإحسان، ولا يمكن للعبد أن يصل إلى درجة الإحسان بغير ذكر الله عز وجل، كما أن القاعد لا يمكن أن يصل إلى بيته، كذلك من قعد عن ذكر الله عز وجل لا يمكن أن يصل إلى درجة الإحسان. قال شيخ الإسلام: والذكر للقلب كالماء للسمك. فانظر كيف يكون حال السمك إذا أخرج من الماء؟! والذكر علاج قسوة القلب. قال رجل للحسن: يا أبا سعيد! أشكو إليك قسوة قلبي. قال: أذبه بالذكر. وشكوا إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قسوة قلوبهم. قالت: ادنوه من الذكر. أي: قربوه من الذكر، فالذكر يلين القلب القاسي. ومن فضائل الذكر وفوائده: أنه يورث ذكر الله عز وجل، كما قال تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة:152]، وكما في الحديث القدسي: (فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم). ومن ذلك: أن الجبال والقفار تتباهى إذا مر عليها ذاكر لله عز وجل، كما في بعض الآثار: إن الجبل لينادي الجبل باسمه فيقول له: هل مر عليك اليوم ذاكر لله عز وجل؟ فإن قال: نعم استبشر. ومن ذلك: أنه ليس هناك عمل يورث حلاوة العبادة مثل ذكر الله عز وجل، كما قال مالك بن دينار: ما تلذذ المتلذذون بمثل ذكر الله عز وجل. والله تعالى لم يحرم أهل الجنة من نعيم الذكر فدعواهم فيها: {سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس:10]، مع أن الجنة دار نعيم وليست دار تكليف، ولكن لما كان الذكر من أعظم نعيم الدنيا لم يحرم أهل الجنة من هذا النعيم. وكثرة الذكر أمان من النفاق؛ فإن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلاً، ولذلك لما سئل علي رضي الله عنه عن الخوارج أمنافقون هم؟ فقال: المنافقون لا يذكرون الله إلا قليلاً، وكان الخوارج معروفين بكثرة الذكر، وكان الذي يمر بمعسكرات الخوارج يسمع تلاوة القرآن كطنين النحل. قال بعض العلماء: ختم الله عز وجل سورة المنافقون بقوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المنافقون:9]، فالذكر أمان من النفاق. ومن فوائد الذكر كذلك أنه أمان من نسيان العبد لنفسه، فإذا نسى العبد ربه عز وجل أنساه الله عز وجل نفسه، كما قال تعالى: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة:67]، {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم:64]، والنسيان يأتي بمعنى: الترك، فالله عز وجل ليقسم لهم من توفيقه ولا يقسم لهم في الآخرة من رحمته، وقال تعالى: {نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} [الحشر:19]، فمن نسى ذكر الله عز وجل أنساه الله عز وجل نفسه فينسى أن يصلح نفسه وأن يقدم لحياته، ويكون حاله كحال من عنده زرع أو ماشية وما لا صلاح له إلا بالتعهد والعناية والرعاية فينساه فيهلك ولابد. ومن فوائد الذكر كذلك: أنه غراس الجنة، كما أخبر الخليل إبراهيم عليه السلام محمداً صلى الله عليه وسلم فقال: (أقرئ أمتك مني السلام وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة عذبة الماء وأنها قيعان وأن غراسها سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من قال: سبحان الله العظيم وبحمده غرست له بها نخلة في الجنة). ومن فوائد الذكر كذلك أنه يورث صلاة الله عز وجل على العبد، كما قال رجل لـ أبي أمامة: رأيت الملائكة تصلي عليك إذا دخلت وإذا خرجت، فقال: وأنتم لو شئتم صلت عليكم الملائكة، ثم تلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا * هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب:41 - 43]. ومن فوائد الذكر كذلك: أنه يغني عن غيره من نوافل العبادات حيث لا تغني جميع النوافل عن ذكر الله عز وجل كما في الأثر: إذا أعظمكم هذا الليل أن تكابدوه، وبخلتم بالمال أن تنفقوه، وجبنتم عن العدو أن تقاتلوه، فأكثروا من ذكر الله عز وجل. وقال ابن مسعود رضي الله عنه: لأن أسبح الله عز وجل تسبيحات أحب إلي من أن أنفق عددهن دنانير في سبيل الله عز وجل، ولما ذهب وفد الفقراء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: (ذهب أصحاب الدثور بال

شهر القرآن

مجالس رمضان_شهر القرآن وصف الله عز وجل شهر رمضان بأنه شهر القرآن، وهذا يدل على فضل القرآن في هذا الشهر، ومدى ارتباطه به، فشهر منوط بكلام الله عز وجل حري بالمؤمن أن يعتني به، وأن يستغله في فهم كتاب الله تعالى وكثرة تلاوته فيه مع التدبر والتعقل، ثم إتباع ذلك بالعمل.

خصوصية شهر رمضان بالقرآن

خصوصية شهر رمضان بالقرآن إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً. ثم أما بعد: فشهر رمضان ليس شهر الصيام والقيام فحسب، ولكنه كذلك شهر القرآن، فله خصوصية بالقرآن، قال الله عز وجل: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة:185]، فأنزل القرآن الكريم جملة في هذا الشهر المبارك، وفي ليلة مباركة وهي ليلة القدر، كما قال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا} [القدر:1 - 4]. فالله عز وجل أنزل هذا القرآن قيل: جملة واحدة، في مكان يسمى بيت العزة في السماء الدنيا، ثم نزل بعد ذلك منجماً على قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل: ابتدأ نزول القرآن في ليلة القدر من رمضان، والقرآن كله يسمى قرآناً، والآية الواحدة تسمى قرآناً. وقيل: ابتدأ نزول القرآن في هذا الشهر المبارك، وفي الليلة المباركة ليلة القدر، فالشهر له خصوصية بالقرآن. وروى الشيخان من حديث ابن عباس: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يعارض جبريل القرآن كل ليلة في رمضان). فكان يعرض القرآن على جبريل عليه السلام، وعارضه القرآن مرتين في السنة الأخيرة من عمره صلى الله عليه وسلم، وأسر إلى فاطمة الزهراء بحديث فبكت رضي الله عنها، ثم أسر إليها بحديث آخر فضحكت، فلما سألت عائشة رضي الله عنها فاطمة الزهراء عما أسر به رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها قالت: (ما كنت لأفشي سر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما لحق النبي صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى، أخبرت بأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرها بأن جبريل كان يعارضه القرآن مرة واحدة، وأنه في هذه السنة عارضه القرآن مرتين، وقال: ما أرى ذلك إلا لقرب أجلي، فبكت فاطمة رضي الله عنها، ثم أسر إليها بأنها أول أهله لحوقاً به فضحكت رضي الله عنها، وتوفيت فاطمة الزهراء بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بستة أشهر، فكانت أول أهله لحوقاً به). فهذا الشهر له خصوصية بالقرآن. كان الإمام مالك إذا دخل الشهر الكريم يترك الحديث ومجالسة أهل العلم، ويقبل على قراءة القرآن من المصحف. وكان سفيان الثوري يقول: إنما هو إطعام الطعام وقراءة القرآن، فينبغي على المسلم أن يتأسى برسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يدارس القرآن من هو أحفظ له منه في هذا الشهر المبارك. وكان من السلف من يختم القرآن كل عشرة أيام، ومنهم من يختم كل سبعة أيام، ومنهم من يختم في ثلاثة أيام، ورخص بعض العلماء في أن يختم القرآن في أقل من ثلاث في رمضان، لخصوصية يعني هذا الشهر الكريم بالقرآن. والقرآن جعله الله عز وجل هدى للمتقين كما أخبر الله عز وجل. والمؤمنون يزدادون إيماناً بسماع القرآن، ولا يزداد الذين في قلوبهم مرض إلا شكاً واضطراباً، كما قال الله عز وجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال:2]. فمقياس الإيمان الصحيح والصدق في الإيمان أن المسلم عندما يسمع القرآن يزداد إيماناً. وكما قال الله عز وجل: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة:124 - 125]. فأهل الإيمان الذين في قلوبهم صدق وإيمان ومحبة وإخلاص لله عز وجل عندما يستمعون للقرآن يزدادون إيماناً، والذين في قلوبهم ريب وشكوك ونفاق لا يزدادون إلا شكاً واضطراباً، فهذا القرآن هدى للمتقين، والله عز وجل جعله شفاء لما في الصدور. {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء:82]. فهو شفاء لما في الصدور.

أنواع الأمراض وعلاج القرآن لها

أنواع الأمراض وعلاج القرآن لها والقلوب تصاب بنوعين من الأمراض: أمراض الشبهات، وأمراض الشهوات. الأول: أمراض الشبهات كما قال الله عز وجل: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} [البقرة:10]. قال مجاهد وغيره: شك، فالمرض هنا: هو الشك، أي: عندهم شك في صدق القرآن وفي وعد الله عز وجل، وفي صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم. والنوع الثاني من الأمراض: أمراض الشهوات، كما قال الله عز وجل آمراً أمهات المؤمنين وبالأولى نساء الأمة: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب:32]. فالمرض هنا هو مرض الشهوة؛ لأن المريض يضره ما لا يضر السليم، والسليم يدفع بصحته وسلامته أضعاف ما يمكن أن يتحمله المريض. فالقرآن يعالج أمراض الشبهات ويعالج أمراض الشهوات يعالج أمراض الشبهات بما فيه من أدلة قطعية وبراهين ساطعة، كما قال الله عز وجل: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس:78 - 79]، قيل: نزلت هذه الآية في أحد الكفار، أتى بعظمة بالية ففركها ونفخها وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (أويحيي هذا الله بعد أن رم؟ قال: نعم، ويدخلك النار). أي: بعد أن صار رميماً وتراباً قال: (نعم ويدخلك النار). ونزلت هذه الآية الكريمة: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ} [يس:78]، أي: نسي هذا الكافر الجاحد أن الله عز وجل خلق الإنسان ولم يكن قبل ذلك شيئاً مذكوراً، فالذي يأتي إلى عمارة أو إلى منزل ويقول: لو سقط هذا المنزل لا يستطيع أحد أن يقيمه مرة ثانية، لاتهمه الناس بالخبل؛ لأن الذي أقامه في المرة الأولى قادر ولا شك على إقامته في المرة الثانية، وهو أهون عليه، أي: أسهل عليه، وكل شيء هين على الله عز وجل: {مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [لقمان:28]. فإماتة الخلق جميعاً وإحياء الخلق جميعاً سهل وهين على الله عز وجل، كإماتة نفس وإحياء نفس، فكل شيء هين على الله عز وجل. فعندما يسمع الإنسان هذه الآية الكريمة فإن أي شك في نفسه من البعث لا بد وأن يذهب، ولا بد أن يطمئن إلى صدق الله عز وجل: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس:78 - 79]. أما علاج القرآن لأمراض الشهوات فيكون بالتزهيد في الدنيا والترغيب في الآخرة، فعندما نقرأ القرآن لا نجده يحدثنا عن المشاكل الحياتية اليومية التي نعيشها، بل يأتي على الدنيا فينسفها نسفاً: {أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ} [الحديد:20]، فالقرآن يأتي على الدنيا فينسفها نسفاً ويصور لنا الآخرة أنها هي الحياة الباقية: {وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت:64]. فعندما يسمع المسلم القرآن أو يقرأ القرآن لا بد أنه يزهد في الدنيا ويرغب في الآخرة، فإن حب الخطير هو الذي يمحو عن القلب حب الحقير. فبذلك يعالج القرآن أمراض الشبهات وأمراض الشهوات؛ ولذلك عندما نستمع للقرآن نجد راحة في قلوبنا، ونجد اطمئناناً في نفوسنا؛ لأن القرآن يزيل الشبهات والشهوات من القلوب، وعندما تستريح القلوب من الشبهات والشهوات لا بد أن تطمئن، وأن تسعد وتفرح بالله عز وجل. قال الله عز وجل: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر:21]. فنسأل الله تعالى أن يوفقنا في هذا الشهر الكريم لتلاوة القرآن وتدبره، والاتعاظ بمواعظه، والقيام به بالليل، والعمل به بالنهار. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم. وصلى الله وسلم وبارك على محمد وآله وصحبه وسلم.

طريق الولاية

مجالس رمضان_طريق الولاية ولاية الله تعالى منزلة سامية لا يصل إليها إلا من آمن بالله حق إيمانه وحقق تقوى الله في السر والعلن، وقد آذن الله بمحاربة من حارب أولياء الله، ووعد أولياءه الصالحين بمحبته لهم وقربه منهم وإجابة سؤالهم واستجابة دعائهم.

حديث: (من عادى لي وليا) أشرف حديث في شأن الولاية

حديث: (من عادى لي ولياً) أشرف حديث في شأن الولاية إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً. ثم أما بعد: روى البخاري في أصح كتب السنة من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قال الله تعالى: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأنا أكره مساءته). فهذا الحديث كما قيل فيه: هو أشرف حديث في شأن الولي، فقد بدأ الحديث بإعلان الحرب من الله عز وجل على من عادى ولياً من أولياء الله عز وجل، فقال: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب)، أي: فقد أعلمته بأنني محارب له، حيث أنه كان محارباً لي بمعاداته ولياً من أوليائي، فأولياء الله عز وجل تجب موالاتهم، وتحرم معاداتهم، وأعداء الله عز وجل تجب معاداتهم، وتحرم موالاتهم.

صفات أولياء الله وخصائصهم

صفات أولياء الله وخصائصهم وولي الله -كما قال الحافظ ابن حجر - هو القائم بطاعته، المخلص في عبادته. فكل إنسان قائم بطاعة الله عز وجل، مخلص في عبادته فهو ولي من أولياء الله عز وجل. وذكروا في صفات الولاية: أن يكون مستجاب الدعوة، راضياً عن الله عز وجل في كل حال، مكثراً من طاعة الله عز وجل مشغولاً بها غير منشغل بالتكاثر من أعراض الدنيا، إذا وصل إليه القليل صبر، وإذا وصل إليه الكثير شكر، يستوي عنده المدح والذم، والظهور والخمول، والفقر والغنى، لأنه يرجو وجه ربه الأعلى لا يرجو وجوه الناس، حسن الصحبة، كثير الحلم، عظيم الاحتمال، كلما زاده الله عزاً ازداد في نفسه تواضعاً وخضوعاً، فيكون مستجاب الدعوة في منزلة تؤهله إلى أنه إذا دعا الله عز وجل أجابه، وإذا استعاذ بالله عز وجل أعاذه. قال أيوب السختياني: ينبغي للعالم أن يضع التراب على رأسه تواضعاً لله عز وجل.

من قصص وكرامات الأولياء

من قصص وكرامات الأولياء إن من وهب له هذه المواهب الجليلة، ومن تخلق بهذه الأخلاق العظيمة، لا نستكثر أن تجري على يده خارقة من الخوارق الرحمانية، وقد ثبتت الخارقة بالكتاب والسنة، كما في القرآن: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا} [آل عمران:37]، كما ذكر المفسرون كان يجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف، {قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [آل عمران:37]، ومريم لم تكن نبية، وإنما كانت من الأولياء. كذلك قصة أصحاب الكهف الذين لبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعاً، فهذه كرامة، حيث أنامهم الله عز وجل ثلاثمائة وتسع سنين، ثم بعثهم الله عز وجل. وفي الصحيح أن قصعة الصديق كلما أكلوا منها ربى من أسفلها أكثر منها، حتى أطعم منها النبي صلى الله عليه وسلم الجيش، فالكرامة ثابتة في الكتاب والسنة الصحيحة. وقد ورد عن السلف كرامات لا نجزم بصحة جميعها، ولكن وجود الأدلة عليها وثبوت هذه الأدلة يجعلنا نستأنس بهذه الروايات، فيروى أن سعد بن أبي وقاص -وكان مستجاب الدعوة- دعا على امرأة كذبت عليه أن تعمى وأن تموت في أرضها، فعميت ووقعت في حفيرة في أرضها فماتت. ودعا على الرجل الذي قال بأنه لا يحكم بالسوية، ولا يسير خلف السرية، فدعا عليه بأن يطيل الله عز وجل عمره، وأن يعظم فقره، وأن يعرضه للفتن، فصار شيخاً كبيراً سقط حاجباه يتعرض للجواري في السكك، ويقول: شيخ مفتون أصابتني دعوة سعد. ويروى أن صلة بن أشيم أحد العباد التابعين، ماتت فرسه في الغزو، فقال: اللهم! لا تجعل لمخلوق علي منة، ودعا الله عز وجل فأحيا له فرسه، فلما عاد إلى بيته قال لابنه: انزع السرج؛ فإن الفرس عارية، فنزع السرج فماتت الفرس. ويروى أن الحسن البصري دعا على رجل وقال: إن كنت كاذباً فجعل الله حتفك. فمات الرجل في مكانه. وأيضاً يروى أن زنيرة وكانت ممن عذب بمكة ذهب بصرها من تعذيب المشركين لها، فقال المشركون: ما أذهب بصرها إلا اللات والعزى، فقالت: كلا والله! ودعت الله عز وجل فرد الله عليها بصرها. كذلك يروى أن أبا مسلم الخولاني -وكان أحد أئمة التابعين- ألقي في النار، فوجد في النار قائماً يصلي، فقال فيه عمر رضي الله عنه: الحمد لله الذي لم يمتني حتى أراني في أمة محمد صلى الله عليه وسلم من صنع به كما صنع بإبراهيم. فالعبد لا يصل إلى هذه الدرجة العالية من إجابة الدعوة، إلا ويصل معها إلى درجات عالية من محبة الله عز وجل والرضا به، كما يروى أن سعد بن أبي وقاص كان معروفاً بإجابة الدعوة، فذهب بصره في آخر عمره، فقيل له: ألا دعوت لبصرك؟ فقال: قضاء الله أحب إلي من بصري. ويروى أن سعيد بن جبير عذبه الحجاج حتى قتله، وكان يمكن أن يدعو على الحجاج؛ لأنه كان مستجاب الدعوة ولكنه لم يفعل، فقد كان له ديك يوقظه للصلاة، فتأخر الديك يوماً عن الصياح فقال: ما له قطع الله صوته؟ فما صاح الديك بعد ذلك، فقالت له أمه: لا تدع على شيء بعدها أبداً. فدعا سعيد بأن يكون آخر من يقتله الحجاج، فكان كذلك، فقد مات الحجاج بعده بمدة يسيرة.

شرح حديث: (من عادى لي وليا)

شرح حديث: (من عادى لي ولياً) فنحن لا نستكثر هذه الكرامة، أو الخارقة الرحمانية على من وصف بهذه الصفات السالفة، وليست كل خارقة كرامة، وليس كل من أتت على يده خارقة من الخوارق نشهد بأنه ولي من أولياء الله، فالخارقة قد تكون خارقة رحمانية، وقد تكون خارقة شيطانية، والمقياس الذي نرجع إليه هو مقياس الكتاب والسنة، فلا بد أن يقاس الشخص بمقياس الكتاب والسنة، فيمكن أن تأتي الكرامة على يد مبتدع أو فاسق أو غير معروف بالصلاح، فلا بد أن يقاس نفس الشخص بمقياس الكتاب والسنة، وأن تقاس نفس الخارقة بمقياس الكتاب والسنة. ولا شك أن أفضل الأولياء هم الأنبياء، وأفضل الأنبياء هم المرسلون، وأفضل المرسلين هم أولو العزم وهم: محمد ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى صلى الله عليهم وسلم. وأفضل هؤلاء جميعاً نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ويليه في المرتبة إبراهيم الخليل، وقد رتب الحافظ ابن كثير أن بعد الخليل إبراهيم موسى الكليم عليه وعلى نبينا الصلاة والتسليم، ولم يرتب العلماء بين نوح وبين عيسى أيهما أفضل؟ فهؤلاء الخمسة أولوا العزم من الرسل هم أفضل الرسل والأولياء، وقد ذكرهم الله عز وجل في آيتين من كتابه. ثم يبين الحديث بعد ذلك كيف تكون ولاية الله عز وجل، وكيف يترقى العبد في درجات الولاية؟ فيقول: (وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه)، فينبغي أن يبدأ العبد بالفرائض، فكما قيل في الأثر: أفضل الأعمال أداء ما افترض الله، والورع عما حرم الله، وحسن النية فيما عند الله عز وجل، فينبغي على العبد أن يبدأ بالفرائض؛ لأنها أكثر تقريباً وتحبيباً لله عز وجل. فمن أراد طريق الولاية فليبدأ بالفرائض، ويراجع نفسه، فيؤدي الصلاة في الوقت الذي ينبغي على الوجه الذي ينبغي في الجماعة وفي أول الوقت، ويتم الركوع والسجود والخشوع، ويصوم الشهر كما شرع الله عز وجل، ويحج بيت الله الحرام إن استطاع إليه سبيلاً، ويخرج زكاة ماله إن كان عنده مال تجب فيه الزكاة، فيراجع العبد الواجبات التي افترضها الله عز وجل عليه، ويدخل فيها الواجبات التركية، كترك الغيبة والنميمة والغش والزنا، وشرب الخمر وغير ذلك، وهي من باب أولى كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فانتهوا). ويأتي بحد الاستطاعة في الأوامر دون النواهي، فينبغي على العبد أن يكمل الفرائض أولاً؛ لأنها رأس المال، ثم بعد ذلك يتحبب ويتقرب بكثرة النوافل، وفي الحديث القدسي: (ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه)، والنوافل هي ما عدا الفرائض من أجناس الطاعات، فلو جمعنا كل ما يحبه الله عز وجل ويرضاه واستثنينا من ذلك الفرائض فما بقي فهو النوافل. قال العلماء: ما بال النوافل كانت هي السبب الموصل إلى محبة الله عز وجل دون الفرائض؟ وأجابوا بأن العبد يفعل الفريضة مخافة العقوبة ورجاء الأجر، أما النافلة فيفعلها بنية التحبب والتقرب إلى الله عز وجل، فلما خلصت النية في النوافل كانت هي السبب الموصل إلى محبة الله عز وجل دون الفرائض. فالعبد ينبغي عليه أن يستكمل الفرائض، ثم يفتح على نفسه أبواب النوافل، وهي كثيرة متنوعة بحسب اختلاف استعدادات الناس وقابليتهم، فهناك نوافل في الصلاة: كالسنن الرواتب وهي اثنا عشر ركعة، كما قال ابن عمر رضي الله عنهما: (حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعاً قبل الظهر، واثنان بعد الظهر، واثنان بعد المغرب، واثنان بعد العشاء، واثنان قبل الصبح). وورد في فضل هذه النوافل حديث أم حبيبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من صلى في يوم وليلة اثنا عشر سجدة سوى المكتوبة بني له بيت في الجنة). ومن نوافل الصلاة: قيام الليل، قال صلى الله عليه وسلم: (أفضل الصلاة بعد المكتوبة قيام الليل) كما ورد في صحيح مسلم. ومن نوافل الصلاة: صلاة الضحى، وتحية المسجد، وسنة الوضوء، ومطلق التنفل بالصلاة في غير أوقات الكراهة. وهناك نوافل الصيام: كصيام ست من شوال، وصيام الإثنين والخميس، ويوم عرفة، ويوم عاشوراء، وصيام يوم وإفطار يوم، وهو أحب الصيام إلى الله عز وجل، وهو صيام داود عليه السلام. وهناك نوافل الإنفاق في سبيل الله عز وجل، ونوافل الذكر، ونوافل الحج والعمرة بعد أداء الواجب، فالمسلم بعد أن يستكمل الفرائض يبدأ يتحبب ويتقرب بالنوافل حتى يصل إلى محبة الله عز وجل، كما جاء في الحديث: (فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها) وفي بعض الروايات: (ورجله التي يمشي بها). قال الحافظ: وقد استشكل كيف يكون الباري جل وعلا سمع العبد وبصره ويده ورجله؟ ثم أورد سبعة أوجه في تفسير هذا الجزء من الحديث القدسي، وأقرب هذه الأوجه للصواب أن العبد بكليته يكون مشغولاً بالله عز وجل، فإذا سمع سمع ما يرضي الله، وإذا أبصر أبصر ما يرضي الله، وإذا مد يده فبط

فضائل شهر الصيام

مجالس رمضان_فضائل شهر الصيام جعل الله تعالى أوقاتاً ومواسم للخيرات، يزيد فيها الأجور، ويضاعف فيها الحسنات، رحمة منه سبحانه وتعالى بعباده وتفضلاً منه تعالى عليهم، ثم دعاهم سبحانه إلى اغتنام هذه الأوقات والمبادرة بالأعمال الصالحة فيها، ومن هذه المواسم شهر رمضان المبارك، فهو غنيمة المسلم وفرصته التي يتزود فيها بما يقربه إلى ربه ويوصله إلى مرضاته.

الحث على اغتنام شهر رمضان

الحث على اغتنام شهر رمضان الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين. أما بعد: يا من طالت غيبته عنا قد قربت أيام المصالحة! يا من دامت خسارته! قد أقبلت أيام التجارة الرابحة، من لم يربح في هذا الشهر ففي أي وقت يربح؟ من لم يقرب فيه من مولاه فهو على بعده لا يبرح. عباد الله! هبّت اليوم على القلوب نفحة من نفحات نسيم القرب، وسعى سمسار المواعظ للمهجورين في الصلح، ووصلت البشارة للمذنبين بالعفو، وللمنقطعين بالوصل، وللمستوجبين النار بالعتق. لما سلسل الشيطان في شهر رمضان وخمدت نيران الشهوات بالصيام انعزل سلطان الهوى، وصارت الدولة لحاكم العقل بالعدل، فلم يبق للعاصي عذر. يا غيوم الغفلة! عن القلوب تقشعي، يا شموس التقوى والإيمان! اطلعي، يا صحائف أعمال الصائمين! ارتفعي، يا عيون المتهجدين! لا تهجعي، يا أقدام المتهجدين! اسجدي لربك واركعي، يا ذنوب التائبين! لا ترجعي، يا أرض الهوى! ابلعي ماءك، ويا سماء النفوس أقلعي، يا همم العارفين! ارتعي، يا قلوب المحبين! بغير الله لا تقنعي. قد مدت في هذه الأيام موائد الإنعام للصوّام، فما منكم أحد إلا وقد دعي، {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ} [الأحقاف:31]، فطوبى لمن أجاب فأصاب، وويل لمن صُد عن الباب وما دُعي.

فضل شهر رمضان

فضل شهر رمضان عباد الله! قد أظلنا شهر كريم مبارك، شهر تفتّح فيه أبواب الجنان فلا يُغلق منها باب، وتُغلّق فيه أبواب الجحيم فلا يُفتح منها باب، وتسلسل فيه الشياطين. شهر تفتّح فيه أبواب السماء، وتفتّح فيه أبواب الرحمة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا دخل رمضان فُتّحت أبواب الجنة)، وفي رواية (فُتّحت أبواب الرحمة)، وفي رواية: (فُتّحت أبواب السماء، وغُلّقت أبواب النار، وصفّدت الشياطين، ونادى مناد: يا باغي الخير! أقبل، ويا باغي الشر! أقصر) فكيف لا يفرح المسلمون بفتح أبواب الجنة وأبواب السماء وأبواب الرحمة؟ وكيف لا يفرحون بغلق أبواب جهنم وبتصفيد الشياطين؟ وينادي مناد في كل يوم من هذا الشهر الكريم: يا باغي الخير! أقبل ويا باغي الشر! أقصر، فتجدون أهل الخير والصلاح أشد اجتهاداً في طاعة الله عز وجل، وفي طلب مرضاته في هذا الشهر الكريم، وتجدون أهل الشر والفساد تقل غوايتهم وشرهم، فيزداد أهل الإيمان إيماناً وإقبالاً على الله عز وجل وطاعة له عز وجل، وتقل غواية أهل الغي والفساد. فهو شهر كريم عباد الله، موسم من مواسم المغفرة والرحمة، مدرسة ربانية رحمانية تفتح أبوابها كل عام، يتدرب فيها العباد على تقوى الله عز وجل وعلى طاعته عز وجل؛ لعلهم عندما ينسلخ الشهر الكريم يصيرون من المتقين ومن عباد الله عز وجل الصالحين.

الغاية من الصيام

الغاية من الصيام شهر رمضان كله تدريب على تقوى الله عز وجل وعلى طاعته عز وجل، وعلى التشبه بالصالحين وبالمحسنين، قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183] فالعباد المسلمون في نهار هذا الشهر الكريم صائمون صابرون لله عز وجل، تركوا الطعام والشراب لله عز وجل، وبالأولى تركوا كل معصية لله عز وجل. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه) فالمسلم الذي ترك الطعام والشراب وما أباحه الله عز وجل في غير نهار هذا الشهر الكريم ينبغي له من باب أولى إذا كان يفهم حكمة الصيام أن يدع كل معصية للواحد العلام؛ لأنه إذا ترك ما أباحه الله عز وجل في غير نهار الشهر الكريم فبالأولى أن يترك ما حرمه الله عز وجل في هذا الشهر وغير هذا الشهر، لأن من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه، فإذا استمر على قول الزور والعمل بالزور فهو لم يفهم حكمة الصيام، ولم يفهم أن الصيام هو تدريب على تقوى الله عز وجل، وعلى ترك المعاصي، وعلى ترك إطلاق البصر وفضول الكلام والسماع المحرم وغير ذلك، كما قال جابر: إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك، ودع أذى الجار، وليكن عليك سكينة ووقار، ولا تجعل يوم صومك ويوم فطرك سواء. وكان السلف إذا صاموا جلسوا في المساجد، وقالوا: نحفظ صومنا ولا نغتاب أحداً.

أحوال الصائمين في نهارهم وليلهم

أحوال الصائمين في نهارهم وليلهم المسلم -عباد الله- في نهار رمضان ملتزم بأخلاق الصيام، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يفسق، وإن سابه أحد أو قاتله فليقل: إني صائم، إني صائم) فهو يتشبه بالمحسنين الذين يدرءون بالحسنة السيئة، فلا يجهل على الجاهل بمثل جهله، ولا يسفه على السفيه بمثل سفهه، (فإن سابه أحد أو قاتله فليقل: إني صائم، إني صائم) يتدرب على أخلاق المحسنين؛ لأن أخلاق الصائم هي أخلاق المحسنين، فإذا أتى الليل فهو فيه طاعم شاكر كما كان في النهار صائماً صابراً، وكما ترك الطعام والشراب والشهوة لله عز وجل في نهار هذا الشهر فإنه إذا أقبل عليه الليل يبادر بالإفطار، لأن أحب عباد الله عز وجل إليه أعجلهم فطراً، فيبادر بالإفطار طاعة لله عز وجل، ويفرح عند فطره؛ لأنه وفِّق لصيام هذا اليوم، ولأنه أتم العبادة كما أحبها الله عز وجل، فيفرح شرعاً ويفرح طبعاً، لأن العبد الذي منع من شيء تميل النفس إليه ثم رُخِّص له فيه وأُذِن له فيه يفرح بذلك بطبيعة الحال. فللصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه، عندما يرى أجر الصيام مدخوراً موفوراً عند الله عز وجل. فإذا كان الليل فلا يجلس المسلم أمام الأجهزة الخبيثة ولا يتمتع بالشهوات المحرمة، بل كما شُغل في النهار بالصيام فإنه يُشغل في الليل بالقيام، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من صام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه) فالمسلم في النهار صائم صابر، وفي الليل طاعم شاكر، فهو ينتقل من طاعة إلى طاعة، من عبادة إلى عبادة، ومن سعادة إلى سعادة، وجزاء الحسنة الحسنة بعدها، وهذا أمر من الأمور التربوية، فينبغي للعبد أن يُشغل نفسه دائماً بالطاعات، وألا يترك لنفسه فرصة لأن تعصي الله عز وجل، فإذا كان العبد مشغولاً بطاعة الله عز وجل فلن يكون محلاً للوساوس، وإذا غفل القلب ساعة عن ذكر الله عز وجل جثم عليه الشيطان، وأخذ يعده ويمنيه، فرمضان تدريب على الطاعة ودخول في عبادة الله عز وجل، وتدرب على أخلاق الصالحين والمحسنين. والصالحون عباد الله يقومون السنة كلها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم، ومقربة إلى ربكم، ومنهاة عن الإثم، ومطردة للداء عن الجسد) فالصالحون يقومون السنة كلها، ونحن نتدرب في هذا الشهر الكريم على أخلاق الصالحين، فنقوم شهراً كاملاً لعل الشهر ينسلخ وقد صرنا من الصالحين الذين يقومون طوال السنة، كما قال الله عز وجل: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9].

فضل قراءة القرآن وأداء العمرة في شهر رمضان وسائر أعمال الخير

فضل قراءة القرآن وأداء العمرة في شهر رمضان وسائر أعمال الخير وشهر رمضان -عباد الله- شهر اتصال بالقرآن؛ لأن شهر رمضان له خصوصية بنزول القرآن فيه، قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة:185]. وكان السلف إذا دخل الشهر الكريم يتركون مجالسة أهل العلم ويقبلون على قراءة القرآن من المصحف. وقال بعضهم: إنما هو إطعام الطعام وقراءة القرآن. فالشهر له خصوصية بالقرآن، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدارس جبريل القرآن كل ليلة في رمضان، وكان يعارضه القرآن كل ليلة في رمضان. فمن السنة عباد الله أن يتدارس المسلم القرآن مع من هو أحفظ وأتقن له منه، وأن يراجع محفوظه من القرآن. وهو شهر الصدقة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن، وكان جبريل يلقاه كل ليلة في رمضان، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة، فكان أجود الناس صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك يزداد جوده في هذا الشهر الكريم. وكذلك هو شهر العمرة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (عمرة في رمضان تعدل حجة)، (وعمرة في رمضان كحجة معي) فالعمرة في هذا الشهر الكريم لشرف الزمان يبلغ أجرها أجر حجة مع النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن العمل يشرف بشرف الزمان أو بشرف المكان. وكذلك هو شهر الاعتكاف، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف في العشر الأواخر من رمضان. وهو شهر الدعاء والاستغفار، والتوبة والرجوع إلى الله عز وجل، وقد كثرت في هذا الشهر الكريم أسباب المغفرة والرحمة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من صام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه). وقال صلى الله عليه وسلم: (ومن قام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه). وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (رغم أنف رجل دخل عليه رمضان ثم انسلخ ولم يُغفر له)؛ لكثرة أسباب المغفرة في هذا الشهر الكريم، فالشقي عباد الله من حُرم مغفرة الله عز وجل في هذا الشهر الكريم. وكان السلف رضي الله عنهم يدعون الله عز وجل ستة أشهر أن يبلغهم رمضان، ثم يدعونه ستة أشهر أن يتقبله منهم، وكان من دعاء بعضهم: اللهم سلمني إلى رمضان، وتسلمه مني متقبلاً. نسأل الله تعالى أن يتقبل منا صيامنا وقيامنا، وأن يوفقنا لطاعته، وأن يجعل خير أعمالنا خواتمها، وخير أيامنا يوم نلقاه. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

فقه التجارة مع الله

مجالس رمضان_فقه التجارة مع الله تجارة المرء في هذه الحياة إما تجارة دنيوية أو تجارة أخروية، فحري بالمسلم أن يقصد التجارة الأخروية مع من يملك خزائن السماوات والأرض، ومع من يعطي على الشيء القليل الأجر الكثير المضاعف، فخزائنه ملأى لا تغيضها النفقة ولا ينقصها شيء.

المسارعة إلى التجارة مع الله تعالى

المسارعة إلى التجارة مع الله تعالى الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً. أما بعد: فإن مهر المحبة والجنة بذل النفس والمال لمالكهما الذي اشتراهما من المؤمنين، فما للجبان المعرض المفلس وسوم هذه السلعة؟ فوالله ما هزلت فيستامها المبطلون، ولا كسدت فيبيعها بالنسيئة المعسرون، لقد أقيمت للعرض في سوق لمن يريد، فلم يرض لها ربها بثمن دون بذل النفوس، فتأخر البطالون، وقام المحبون، ينتظرون أيهم يصلح أن تكون نفسه الثمن، فدارت السلعة في أيديهم، ووقعت في يد أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين. لما كثر المدعون للمحبة، طولبوا بإقامة البينة على صحة الدعوى، فلو يعطى الناس بدعواهم، لادعى الخلي حرقة الشجي، فتنوع المدعون في الشهود، فقيل: لا تثبت هذه الدعوى إلا ببينة: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31]. فتأخر الخلق كلهم، وثبت أتباع النبي صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله، فقيل: لا تقبل هذه البينة إلا بتزكية: {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [المائدة:54]. فتأخر الخلق كلهم، وثبت المجاهدون، فقيل: إن نفوس المجاهدين وأموالهم ليست لهم: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة:111]، والعقد يوجب التسليم من الجانبين، لما رأى التجار عظمة المشتري وقدر الثمن، وجلالة قدر من وقع التبايع على يديه، علموا أن للسعلة قدراً وشأناً، فرأوا من الغبن الفاحش والخسران البين أن يبيعوها بثمن بخس دراهم معدودة، تذهب لذتها، وتبقى تبعتها، فعقدوا مع المشتري بيعة الرضوان، فقيل لهم: إن نفوسكم وأموالكم قد صارت إلينا، والآن فقد رددناها عليكم أوفر ما كانت وأضعاف أموالكم معها: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169]. فحي هلا إن كنت ذا همة فقد حدا بك حادي الشوق فاطو المراحلا. وقل لمنادي حبهم ورضاهم إذا ما دعا لبيك ألفاً كواملا. ولا تنظر الأطلال من دونهم فإن نظرت إلى الأطلال عدن حوائلا. ولا تنتظر بالسير رفقة قاعد ودعه فإن الشوق يكفيك حاملا فما هي إلا ساعة ثم تنقضي ويصبح ذو الأحزان فرحان جاذلا لقد حرك الداعي إلى الله عز وجل وإلى دار السلام النفوس الأبية، وأسمع منادي الإيمان من كانت له أذناً واعية، وأسمع الله من كان حياً، فهزه السماع إلى دار الأبرار، وحدا به في طريق سيره، فما حطت رحاله إلا بدار القرار. أرسل عبد الله بن المبارك -وكان مرابطاً بطرسوس- كتاباً إلى فضيل بن عياض الذي يلقب بعابد الحرمين يقول له: يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك بالعبادة تلعب. من كان يخضب خده بدموعه فنحورنا بدمائنا تتخضب أو كان يتعب خيله في باطل فخيولنا يوم الصبيحة تتعب. ريح العبير لكم ونحن عبيرنا رهج السنابك والغبار الأطيب. ولقد أتانا من مقال نبينا قول صحيح صادق لا يكذب. لا يستوي غبار خيل الله في أنف امرئ وغبار نار تلهب. هذا كتاب الله ينطق بيننا ليس الشهيد بميت لا يكذب. فلما وصل الكتاب إلى فضيل بن عياض بكى، وقال: صدق أبو عبد الرحمن ونصح، ثم قال للرسول: أتكتب الحديث، قال: نعم، قال: فاكتب هذا الحديث كراء حملك كتاب أبي عبد الرحمن إلينا، ثم أملاه بسنده رواية لحديث أبي هريرة: (أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: دلني على عمل يعدل الجهاد، قال: لا أجده، قال: هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تدخل مسجدك فتقوم ولا تفتر، وتصوم ولا تفطر؟ قال: ومن يستطيع ذلك؟ قال أبو هريرة: إن فرس المجاهد ليستن في طوله -أي: يحرك قدميه في موضع ربطه- فيكتب للمجاهد حسنات). فأعلى تجارة وأغلى تجارة هي التجارة ببذل النفس والمال لله عز وجل، تجارة بالجهاد في سبيل الله عز وجل، وكل معاملة شرعية مع الله عز وجل وكل عبادة لله عز وجل فهي تجارة، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ} [فاطر:29]. فكل عبادة لله عز وجل فهي تجارة مع الله عز وجل، وكل تجارة مع الله عز وجل لا يمكن أن تبور بحال من الأحوال، والدنيا -عباد الله- سوق والناس كلهم تجار، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الدنيا سوق قام ثم انفض، ربح فيه من ربح، وخسر من خسر، كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها). (يغدو) أي: يخرج غدوة أو في أول

الفرق بين التجارة مع الله عز وجل والتجارة مع غيره

الفرق بين التجارة مع الله عز وجل والتجارة مع غيره التجارة مع الله عز وجل نوع خاص من التجارات، تفترق عن سائر التجارات في الدنيا؛ لأنها معاملة بين العبد الفقير الضعيف المحتاج والرب الغني القادر القاهر. فكل أحد من الناس يريد أن يعامل غيره من أجل أن يربح منه، فهي معاملة بين فقير وفقير، وبين محتاج ومحتاج، فكل الناس يريدك لنفسه، والله عز وجل يريدك لك؛ لأن الله تعالى غني عنك وعن طاعتك وعن عبادتك: (لو أن الخلق كلهم على أتقى قلب رجل واحد منهم، ما زاد ذلك في ملك الله عز وجل شيئاً، ولو كانوا على أفجر قلب رجل واحد منهم، ما نقص ذلك من ملك الله عز وجل شيئاً). فالله عز وجل يريد منا أن نعامله من أجل أن نربح نحن أعظم الأرباح، والله غني عنا وعن طاعتنا وعن عبادتنا. الفرق الثاني بين تجارة الدنيا والتجارة مع الله عز وجل: أن تجارة الدنيا عرضة للمكسب والخسارة، قد تكسب مرة وتخسر مرة، أو تكسب مرات، وتخسر مرة، أما التجارة مع الله عز وجل فلا تبور بحال من الأحوال، وليس هناك احتمال للخسارة بحال من الأحوال: {يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ} [فاطر:29]. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من غازية تغزو في سبيل الله فيصيبون الغنيمة إلا تعجلوا ثلثي أجرهم في الدنيا، فإن لم يصيبوا الغنيمة تم لهم أجرهم)؛ لأن المجاهد ينتظر ثلاثة: ينتظر الثواب في الآخرة، وفرحة النصر، والغنائم، فإن انتصر نال فرحة النصر، ونال حظه من الغنائم، ويبقى أجر الآخرة، وإن لم ينتصر فيتم له أجره في الآخرة. فهكذا التجارة مع الله عز وجل لا تبور بحال من الأحوال. الفرق الثالث بين تجارات الدنيا والتجارة مع الله: أن تجارة الدنيا الأرباح فيها محدودة، والسلع قد تربح فيه (10%) أو (20%) غاية الأمر (100%) أو (200%)، فالدرهم يربح درهماً أو درهمين، ولكن لا يمكن أن توجد تجارة في الدنيا الدرهم فيها يربح سبعمائة درهم، لا يمكن أن توجد مثل هذه التجارة، ولكن تجارة الآخرة يقول عز وجل فيها: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} [البقرة:261]. إذاً: فيها أرباح عظيمة جداً. الفرق الخامس: أن تجارة الدنيا قد يدخلها الغش، وقد تكون هناك سلعة معيبة ويدلسها صاحبها ويخفي ما بها من عيب ويروجها فتروج. أما التجارة مع الله عز وجل لا يمكن أن يدخلها الغش؛ لأن الله عز وجل بصير خبير عليم، فلا يمكن أن يدخل التجارة مع الله عز وجل الغش. التجارة مع الله عز وجل نوع خاص من التجارات.

نماذج من فقه التجارة مع الله عز وجل

نماذج من فقه التجارة مع الله عز وجل وأكثر الناس يعرف كيف يتاجر في الدنيا، ولكن القليل منهم من يعرف كيف يتاجر مع الله عز وجل، فنحتاج أن نتعرف على فقه التجارة مع الله عز وجل. فمن فقه التجارة مع الله عز وجل أن يستصحب العبد الإخلاص في كل قول وعمل؛ لأن الله تعالى اشترط الإخلاص، فقال: {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر:3]. وقال: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة:5]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصاً، وابتغي به وجهه). فينبغي أن نستصحب الإخلاص في كل عبادة، وفي كل قول وعمل. ومن فقه التجارة مع الله عز وجل: أن يتاجر العبد بالمباحات مع الله عز وجل؛ لأن العمل المباح لو توافرت فيه نية صالحة فإنه يصير من الطاعات، ومن القربات، فلو نام العبد بنية صالحة من أجل أن يقوم من آخر الليل، أو يقوم لصلاة الفجر وأذكار الصباح، فإنه يؤجر على ذلك، كما قال معاذ: إني لأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي. فالطالب يذاكر من أجل أن يرضي والديه، ومن أجل أن ترتفع رتبته ووجاهته في الدنيا، ومن أجل أن تقبل دعوته ونصيحته. فالذي يسعى للمعاش يسعى من أجل أن يكفي نفسه وأولاده ذل السؤال، ومن أجل أن يقوم بالواجب عليه من النفقة على زوجته وأولاده، فكل عمل مباح يستطيع العبد أن يستحضر فيه نية صالحة، فيصير من القربات والطاعات، فيتاجر العبد بالمباحات مع الله عز وجل. كذلك أن يستحضر العبد في العمل الواحد نيات كثيرة صالحة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى). فقوله صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات) أي: أصل قبول العمل بتوافر النية الصالحة، ثم قال: (وإنما لكل امرئ ما نوى). وكما يقولون: الأصل في الشرع التأسيس، يعني: أن يؤسس قواعد جديدة، فليس قوله: (إنما لكل امرئ ما نوى) تكرار للقاعدة الأولى، ولكنها تأسيس لقاعدة جديدة، وهي أن ثواب العامل على عمله بمقدار ثواب النيات التي يجمعها العامل في هذا العمل: (وإنما لكل امرئ ما نوى) فيجمع العبد في العمل الواحد نيات كثيرة صالحة. ومن فقه التجارة مع الله عز وجل: أن يتأكد العبد أن أعماله وأقواله مطابقة لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، لقوله صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد). فكل عمل لا يندرج تحت شريعة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا تكون سنة النبي صلى الله عليه وسلم حاكمة عليه بالصحة فهو مردود على صاحبه، وغير مقبول، فيشترط أن يكون العمل مطابقاً للسنة. ومن فقه التجارة مع الله عز وجل: أن يجتهد العبد في أن يكون العمل سراً بينه وبين الله عز وجل، فإن هذا أدعى لحفظ العمل وأدعى لقبول العمل. فهناك أعمال لا بد أن تظهر، كالدعوة إلى الله عز وجل، وإمامة الناس، والخروج للحج والعمرة، ولكن قد يصلي العبد ركعات في جوف الليل، كما قال بعضهم: صلوا ركعتين في ظلمة الليل لظلمة القبور، وصوموا يوماً شديداً حره لحر يوم النشور، وتصدقوا بصدقة لشر يوم عسير قد يتصدق العبد بصدقة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث صحيح رواه مسلم: (حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه)، فهو يخفي هذه الصدقة. وكان السلف يجتهدون في إخفاء أعمالهم الصالحة، كما نجتهد نحن في إخفاء أعمالنا السيئة. فيروى أن رجلاً من السلف صام سنة كاملة ولم تعلم زوجته في بيته، فهو يخفي العمل عن أقرب الناس إليه، فقد كان يخرج بطعام إفطاره فيتصدق به، ثم يذهب إلى دكانه حتى غروب الشمس، ويعود فيفطر في بيته. وكان الواحد منهم إذا كان يقرأ في المصحف ودخل عليه داخل غطاه. وكان الواحد منهم يختم القرآن حفظاً ولا يعلم به جاره، فكانوا يجتهدون في إخفاء الأعمال الصالحة. ومن فقه التجارة مع الله عز وجل: أن يحفظ العبد أعماله الصالحة، فالعبد قد يعمل عملاً صالحاً موافقاً للسنة تتوافر فيه شروط الصحة، ثم يمن بهذا العمل، أو يؤذي من أدى إليه خدمة ويمن عليه، أو يصاب بشيء من الكبر أو العجب أو الرياء فيحبط بذلك عمله الصالح، والله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى} [البقرة:264]. فالمسلم ينبغي عليه أن يجتهد في أن يحفظ أعماله الصالحة من محبطات الأعمال، حتى يجد ثواب هذا العمل مذكوراً موفوراً عند الله عز وجل يوم القيامة. ومن فقه التجارة مع الله عز وجل: أن يداوم العبد على العمل الصالح، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل)؛ لأن العمل الدائم وإن كان قليلاً، فإنه يصير كثيراً بالمداومة عليه، بل يربو، ويكون أكثر من الكثير المنقطع، والله تعالى يحب أن يديم فضله وأن يوالي إحسانه، فيحب الله عز وج

قيام رمضان

مجالس رمضان_قيام رمضان قيام الليل شرف المؤمن، حث الله عباده عليه ليتقربوا به إليه سبحانه، ويستعينوا به على ما يواجههم في سائر حياتهم، وقد عظم الله شأن أهله، وضاعف أجورهم، ورفع منزلتهم، وحث على الاقتداء بهم، ويتأكد القيام ويعظم أجره في الأوقات المباركة، كشهر رمضان، والثلث الأخير من الليل، فينبغي للمؤمن اغتنام هذه الأوقات والتزود منها.

فضل صيام شهر رمضان وقيامه

فضل صيام شهر رمضان وقيامه الحمد لله الذي رضي من عباده باليسير من العمل، وتجاوز لهم عن الكثير من الزلل، وأفاض عليهم النعمة، وكتب على نفسه الرحمة، وضمن الكتاب الذي كتبه أن رحمته سبقت غضبه، دعا عباده إلى دار السلام فعمهم بالدعوة حجة منه عليهم وعدلاً، وخص بالهداية والتوفيق من شاء نعمة ومنة وفضلاً، فهذا عدله وحكمته وهو العزيز الحكيم، وذلك فضله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة عبده وابن عبده وابن أمته ومن لا غنى به طرفة عين عن فضله ورحمته، ولا مطمع له في الفوز بالجنة والنجاة من النار إلا بعفوه ومغفرته، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله، أرسله رحمة للعالمين، وقدوة للعاملين، ومحجة للسالكين، وحجة على العباد أجمعين، ترك أمته على الواضحة الغراء والمحجة البيضاء، فسلك أصحابه وأتباعه على أثره إلى جنات النعيم، وعدل الراغبون عن هديه إلى صراط الجحيم، {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال:42]، فصلى الله وملائكته وجميع عباده المؤمنين عليه كما وحد الله عز وجل وعرفنا به ودعا إليه وسلم تسليماً. أما بعد: عباد الله! شهر رمضان ليس شهر الصيام فحسب، ولكنه شهر الصيام والقيام، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه). وقال صلى الله عليه وسلم: (من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه).

مشروعية قيام رمضان

مشروعية قيام رمضان لقد رغب النبي صلى الله عليه وسلم في قيام رمضان كما رغب في صيامه، وصلى النبي صلى الله عليه وسلم بالصحابة الكرام غير ليلة، فقد صلى ليلة فصلى بصلاته ناس، ثم صلى في الليل التالية فصلى بصلاته ناس، فلما كانت الليلة الثالثة أو الرابعة ضاق المسجد بأهله فترك النبي صلى الله عليه وسلم الخروج إليهم وقال: (صلوا أيها الناس! في بيوتكم)؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم خشي أن يفرض على الناس قيام رمضان، أو يشترط لصحة القيام أن يكون في المسجد، فقال: (صلوا أيها الناس! في بيوتكم). فلما كانت الدولة العمرية خرج عمر رضي الله عنه فرأى الرجل يصلي لنفسه، والرجل يصلي فيصلي بصلاته الرجل، والرجل يصلي فيصلي بصلاته الرهط، فقال: لو جمعتهم على قارئ واحد لكان أعجب. فجمعهم على أبي بن كعب وتميم الداري، فكان أبي بن كعب وتميم الداري يتناوبان القيام بالصحابة الكرام في الدولة العمرية. وقال عمر: نعمت البدعة هذه، والتي ينامون عنها أفضل. ولم يقصد عمر رضي الله عنه البدعة من حيث الشرع، ولكن أراد البدعة اللغوية، وإلا فقيام الليل في المساجد في رمضان من السنة؛ لترغيب النبي صلى الله عليه وسلم في قيام رمضان، ولصلاته بالصحابة الكرام غير ليلة، ولكنه ترك الخروج إلى الناس؛ لأن الزمن كان زمن تشريع، فلما زالت هذه الخشية جمع عمر رضي الله عنه الصحابة على قارئ واحد في المسجد، وأقره بقية الصحابة على ذلك، وعلى ذلك استمر عمل الأمة. ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم دلنا على سنة الخلفاء الراشدين فقال: (فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ)، فسنة عمر رضي الله عنه من سنته صلى الله عليه وسلم، لأنه قال: (عضوا عليها)، ولم يقل: عليهما، لأنهم كانوا أعلم الناس بالسنة وأحرص الناس عليها وعلى اتباعها. فمن السنة قيام رمضان واجتماع الناس على القيام في المساجد بعد صلاة العشاء، ونحن نتدرب بقيام رمضان على هذه العبادة التي هي من أجل العبادات، وهي قيام الليل.

فضل قيام الليل

فضل قيام الليل قال النبي صلى الله عليه وسلم: (عليكم بقيام الليل، فإنه دأب الصالحين قبلكم ومقربة إلى ربكم ومنهاة عن الإثم ومطردة للداء عن الجسد). وقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم: (أفضل الصلاة بعد المكتوبة قيام الليل). ووصف الله عز وجل المؤمن فقال: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر:9]. وقال عز وجل: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17]. فعندما هدأت الأصوات وسكنت الحركات قاموا لربهم عز وجل يتملقونه ويدعونه رغباً ورهباً، فكما أخفوا العمل واستتروا بظلمة الليل عند ذلك أخفى الله عز وجل لهم الثواب، {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17]. وقال عز وجل في وصف المحسنين: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:17 - 18]. {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات:17]، أي: ينامون، قال بعض السلف: ما مرت عليهم ليلة إلا وأخذوا منها شيئاً. وقال بعضهم: ما ناموا ليلة حتى الصباح، بل لهم حظ من قيام الليل. فهذا وصف المتقين ووصف المحسنين في كتاب الله عز وجل. إذا ما الليل أقبل كابدوه فيسفر عنهم وهم ركوع أطار الخوف نومهم فقاموا وأهل الأمن في الدنيا هجوع منع القران بوعده ووعيده مقل العيون بليلها لا تهجع فهموا عن الملك الجليل كلامه فهماً تذل له الرقاب وتخضع

صفة الصحابة في القيام

صفة الصحابة في القيام وصف علي رضي الله عنه الصحابة الكرام فقال: رأيت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم أر اليوم شيئاً يشبههم، كانوا يصبحون شعثاً صفراً غبراً بين أعينهم أمثال ركب المعزى، قد باتوا سجداً وقياماً، يراوحون بين جباههم وأقدامهم، فإذا أصبحوا تمادوا كما يميد الشجر يوم الريح وهملت أعينهم بالدموع، فوالله لكأني بالقوم باتوا غافلين. وقال الحسن: أدركت أقواماً وخالطت طوائف ما كانوا يفرحون بشيء من الدنيا أقبل، ولا يأسفون على شيء منها أدبر، ولهي كانت في أعينهم أهون من التراب، ولقد كان الواحد منهم يعيش خمسين سنة أو ستين سنة لم يطو له ثوب ولم يوضع بينه وبين الأرض شيء، ولا أمر من في بيته بصنعة طعام قط، فإذا كان الليل فقيام على أقدامهم يراوحون بين جباههم وأقدامهم، فو الله ما سلموا من الذنوب، ولولا مغفرة الله ما نجوا، فرحمة الله عليهم ورضوانه.

هدي النبي صلى الله عليه وسلم في قيام الليل

هدي النبي صلى الله عليه وسلم في قيام الليل كان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم في قيام الليل أنه لا يزيد في رمضان ولا غيره على إحدى عشرة ركعة. وفي الحديث الآخر: (ثلاث عشرة ركعة). وقال بعضهم: ثلاث عشرة بضم سنة العشاء أو ركعتي الفجر؛ لأن كل صلاة بعد صلاة العشاء من قيام الليل. وكان يفتتح القيام بركعتين خفيفتين. وقيل: إن الحكمة في هاتين الركعتين فك عقد الشيطان، كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (يعقد الشيطان على قافية أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد، يضرب على مكان كل عقدة عليك ليل طويل فارقد، فإذا استيقظ فذكر الله انحلت عقدة، فإذا توضأ انحلت عقدة، فإذا صلى انحلت عقدة، فأصبح نشيطاً طيب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان)، فكأن افتتاح صلاة الليل بركعتين خفيفتين من أجل فك عقد الشيطان. وفي حديث عائشة رضي الله عنها: (أنه كان يصلي أربع ركعات فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي ثلاثاً)، فهذا كان هديه صلى الله عليه وسلم في قيام الليل. وكان يقوم كما أمره الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} [المزمل:1 - 4] فكان يصلي إلى نصف الليل أو أكثر قليلاً أو أقل قليلاً، أو ما بين ثلث الليل إلى نصف الليل، وقد دل الأمة على أحب القيام إلى الله عز وجل وعلى أحب الصيام إلى الله عز وجل، فقال: (أحب القيام إلى الله عز وجل قيام داود عليه السلام، وأحب الصيام إلى الله عز وجل صيام داود عليه السلام، كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه، وكان يصوم يوماً ويفطر يوماً)، فداود كان يجم نفسه أي: يريح نفسه بنوم طويل في نصف الليل الأول، ثم يقوم في النصف الأخير من الليل، وهو وقت النزول الإلهي والإذن العام، ففيه ينزل ربنا عز وجل ويقول: (هل من سائل فأعطيه؟ هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟)؟ ولا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم هو أولى الخلق بكل فضيلة، فكان من شأنه صلى الله عليه وسلم أن يقوم ثلث الليل تقريباً، وكان يقوم في الثلث الأخير من الليل، وثبت عنه أنه قام في أول الليل وفي وسطه وفي آخره، ولكن كان أكثر عادته صلى الله عليه وسلم أن يقوم في الثلث الأخير من الليل أو بعد منتصف الليل. وتقول السيدة عائشة رضي الله عنها: (ما ألفاه عندي إلا قائماً)، وهذا القيام أحب القيام إلى الله، فكان يقوم في هذا الوقت ثم ينام سدس الليل الأخير، أي: قبل صلاة الفجر؛ ليذهب بهذا النوم اصفرار الوجه وذبول العينين وأثر السهر، ولكون هذا أقرب إلى الإخلاص وأبعد عن الرياء، فإذا خرج لصلاة الفجر فكأنه نائم طوال الليل. فأما من يخرج من قيام الليل إلى صلاة الفجر فإنه يظهر عليه أثر السهر، فهذا أحب القيام إلى الله عز وجل، وهو قيام داود عليه السلام. وكان من هديه صلى الله عليه وسلم طول القيام، يقول حذيفة رضي الله عنه: (صليت ليلة خلف النبي صلى الله عليه وآله وسلم فافتتح سورة البقرة، فقلت: يركع عند المائة، فمضى، فقلت: يركع عند المائتين فمضى، فقلت: يركع بها، فافتتح النساء ثم قرأ آل عمران لا يمر بآية فيها تسبيح إلا سبح، ولا فيها سؤال إلا سأل)، فهذا كان هديه صلى الله عليه وسلم. ويقول ابن مسعود رضي الله عنه: (صليت ليلة خلف النبي صلى الله عليه وسلم فلم يزل قائماً حتى هممت بأمر سوء)، فكان من هديه صلى الله عليه وسلم طول القيام.

الأسباب المعينة على قيام الليل

الأسباب المعينة على قيام الليل هناك أسباب ميسرة لقيام الليل، وهي نوعان: أسباب ظاهرة وأسباب باطنة.

الأسباب الظاهرة المعينة على قيام الليل

الأسباب الظاهرة المعينة على قيام الليل فمن الأسباب الظاهرة الميسرة لقيام الليل: أن يترك العبد المعاصي بالنهار، قيل لبعض السلف: لا نستطيع قيام الليل، قال: أبعدتكم الذنوب. وقال سفيان الثوري: منعت قيام الليل خمسة أشهر بذنب أصبته. وكان الحسن البصري إذا دخل السوق فسمع لغوهم ولغطهم يقول: ما أرى ليل هؤلاء إلا ليل سوء. فمن كان نهاره في طاعة الله عز وجل فهو بالليل أقرب إلى رحمة الله عز وجل، ومن كان في المعاصي بالنهار فهو أبعد عن القيام بين يدي العزيز الغفار، والملوك لا يسمحون بالخلوة بهم ومناجاتهم إلا أهل الإخلاص في معاملتهم وفي طاعتهم. والله عز وجل لا يسمح لكل أحد ولا يوفق كل أحد للقيام بين يديه بالليل، فينبغي على العبد أن يترك الذنوب بالنهار حتى يوفق لقيام الليل. ومن ذلك: عدم الإكثار من الطعام خاصة وجبة العشاء؛ من أجل أن يخف لقيام الليل. ومن ذلك: أن يستعين بالقيلولة، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقيل قبل صلاة الظهر، وكان يبرد بصلاة الظهر غالباً؛ أي: يؤخر صلاة الظهر إلى ثلث الوقت حتى تنكسر شدة الحر، ويقيل قبل صلاة الظهر، فيستعين بالقيلولة على قيام الليل. ومن الأسباب الظاهرة كذلك التي تعين على قيام الليل: النوم مبكراً من أجل أن يوفق للقيام.

الأسباب الباطنة المعينة على قيام الليل

الأسباب الباطنة المعينة على قيام الليل وأما الأسباب الباطنة فمن ذلك: معرفة الآيات والأحاديث في فضيلة قيام الليل. ومن ذلك: خوف يغلب على قلب العبد فيجعله يقوم الليل يدعو الله عز وجل ويصلي له عز وجل. ومن ذلك: الشوق إلى الله عز وجل ومحبته عز وجل، كما قال بعضهم: عالجت قيام الليل سنة فتمتعت به عشرين سنة. فأهل الإحسان والطاعة والعبادة يخف عليهم القيام، أما من لم يكن من أهل الإحسان فيشق عليه القيام، فينبغي عليه أن يجبر نفسه على القيام فترة حتى يذوق حلاوة الطاعة والعبادة، ثم بعد ذلك تساعد النفس صاحبها على الطاعة والعبادة، ويوفق لطاعة الله عز وجل وعبادته عز وجل. نسأل الله تعالى أن يتقبل منا الصيام والقيام وتلاوة القرآن، وأن ينفعنا بصالح الأعمال. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

قيمة الزمن

مجالس رمضان_قيمة الزمن الوقت من أعظم نعم الله على عبده، فينبغي استغلاله في طاعة الله والتزود للقائه، فبالاجتهاد في الأوقات فاز المجدون، وسبقوا إلى رضوان الله وجنات النعيم، وبتضييع الأوقات خسر المبطلون واللاهون، وتأخروا في السباق، وفاتهم الركب.

أهمية الوقت وأدلته من الكتاب والسنة

أهمية الوقت وأدلته من الكتاب والسنة الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً. ثم أما بعد: فإن نعمة العمر والأوقات واللحظات والأنفاس يغفل عن قيمتها كثير من الناس، وبما أننا في زمن طيب مبارك فينبغي لنا أن نعرف قيمة الزمن والوقت والعمر؛ لأن أكثر الناس لا يعرف قيمة عمره ووقته وساعاته وأنفاسه. قال الله عز وجل: {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [إبراهيم:33 - 34]، فتسخير ساعات الليل والنهار من أجل أن نملأ هذه الساعات بالطاعات، ومن أجل أن نسابق الأوقات بالطاعات نعمة من الله عز وجل. وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان:62]. قال بعض السلف: من فاته طاعة الله عز وجل بالنهار كان له من أول الليل مستعتب، ومن فاته طاعة الله عز وجل بالليل كان له من أول النهار مستعتب. والله عز وجل أقسم بالفجر وأقسم بالعصر وأقسم بالضحى وأقسم بالليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى، والله تعالى يقسم بما شاء من خلقه؛ من أجل أن يلفت أنظارنا إلى خطر المقسوم به، والعبد لا يجوز له أن يحلف بغير الله (ومن حلف بغير الله فقد كفر أو أشر). قال الله عز وجل: {وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ} [الفجر:1 - 3]. {وَالْفَجْرِ} [الفجر:1] هنا هو فجر يوم النحر، {وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر:2] هي العشر الأول من شهر ذي الحجة، {وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ} [الفجر:3] الشفع: هو يوم النحر، والوتر: هو يوم عرفة. وقال عز وجل: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1 - 3]. وقال عز وجل {وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحى:1 - 3]. وقال عز وجل: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى * وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى} [الليل:1 - 3]. فالله تعالى أقسم بالزمن وبالوقت وبالعصر وبالضحى وبالفجر وبالليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى من أجل أن يبين لنا قيمة الزمن وقيمة العمر. كما دلت الأحاديث النبوية الشريفة على ما دلت عليه هذه الآيات القرآنية الكريمة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ). والمغبون هو: الذي باع شيئاً بأقل من ثمنه، أو اشترى شيئاً بأكثر من ثمنه، فمن باع سيارة مثلاً تساوي عشرة آلاف بخمسة آلاف فهو مغبون؛ لأنه أضاع حظه، وكذلك من اشترى سيارة تساوي خمسة آلاف بعشرة آلاف فهو أيضاً مغبون. فأكثر الناس مغبون في شيئين: في الصحة والفراغ؛ لأنهم لم يعرفوا قيمتها. ويوم القيامة هو يوم التغابن؛ لكثرة المغبونين في هذا اليوم، ولم يكن الغبن في يوم القيامة، ولكن يظهر مقدار الغبن وعدد المغبونين يوم القيامة، فمن أسماء يوم القيامة أنه يوم التغابن. فالزمن نعمة من الله عز وجل.

الأمور الدالة على أهمية استغلال الوقت

الأمور الدالة على أهمية استغلال الوقت دل على خطر الوقت والنَّفَس ثلاثة أمور: الأمر الأول: أنه لو تاجر العبد مع ربه عز وجل في كل نفس من أنفاسه لربح على الله عز وجل أعظم الأرباح، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اقرءوا القرآن فإنكم تؤجرون عليه، أما إني لا أقول: ألف لام ميم حرف، ولكن ألف عشر ولام عشر وميم عشر). وقال صلى الله عليه وسلم: (من قال: سبحان الله العظيم وبحمده غرست له بها نخلة في الجنة)، وقال: (من قرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] حتى يختمها عشر مرات بني له قصر في الجنة). فكل نفس جوهرة لو تاجر به العبد مع الله عز وجل. الأمر الثاني الذي يدل على خطر الوقت والأنفاس أن الأنفاس التي قدرها الله عز وجل لنا عددها مغيب عنا، كما قال الحسن البصري: المبادرة المبادرة! فإنما هي الأنفاس لو حبست انقطعت عنكم أعمالكم التي تتقربون بها إلى الله عز وجل، رحم الله امرأ نظر في نفسه ثم بكى على عدد ذنوبه، ثم قرأ: {إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا} [مريم:84]. آخر العدد خروج نفسك، آخر العدد فراق أهلك، آخر العدد دخولك في قبرك. فقوله: {إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا} [مريم:84] يعني: الأنفاس. أي: إن الله عز وجل قدر لكل عبد فينا عدداً محدداً من الأنفاس، فكلما تنفس نفساً سجل عليه هذا النفس، فيعد لكل واحد منا عد تنازلياً، كحال كل المشروعات العظيمة يحدد يوم للافتتاح، فكلما مضى يوم يقولون: بقي تسعة وعشرون يوماً، بقي ثمانية وعشرون يوماًن وهكذا حتى يصل إلى يوم الافتتاح. ونحن أيضاً كل إنسان فينا له عدد محدد مقدر في علم الله عز وجل، والملائكة تسجل عليه الأنفاس التي يتنفسها حتى يصل إلى آخر العدد، وعند ذلك خروج النفس وفراق الأهل ودخول القبر. فكون الأنفاس التي قدرها الله عز وجل لنا عددها مغيب عنا مما يدل على خطر الأوقات والأنفاس. والعبد إذاكان ماله بالمليارات فإنه لو أنفق الآلاف لا يؤثر كثيراً في رأس ماله، بخلاف من ماله بالآلاف، فإنه لو أنفق الآلاف لأثر ذلك في رأس ماله، ونحن لا ندري مقدار رأس المال، فتضييع الأوقات في غير الطاعات مخاطرة خاصة أننا لا ندري مقدار الباقي من أنفاسنا. الأمر الثالث: أن كل نفس ينفق في غير طاعة الله عز وجل قد يكون آخر الأنفاس. يا من بدنياه انشغل وغره طول الأمل الموت يأتي بغتة والقبر صندوق العمل فأي نفس ينفق في غير طاعة الله عز وجل قد يكون آخر الأنفاس، والعبرة بالخواتيم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالخواتيم)، أي: إن عاقبة العبد تتعلق بخاتمته، فمن ختم له بعمل من أعمال أهل الجنة دخل الجنة، ومن ختم له بعمل من أعمال أهل النار دخل النار والعياذ بالله. فالأعمال بالخواتيم. كم من وجوه خاشعة وقع على قصص أعمالها! {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ} [الغاشية:3]، كم من قارب مركبه ساحل النجاة فلما هم أن يرتقي لعب به الموج فغرق! كل العباد تحت هذا الخطر، (قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء)، وليس العجب ممن هلك كيف هلك، إنما العجب ممن نجا كيف نجا. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فوالذي نفسي بيده إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها).

من قصص السلف في المحافظة على أوقاتهم

من قصص السلف في المحافظة على أوقاتهم كان السلف رضي الله عنهم أحرص الناس على أوقاتهم، وكانوا يبخلون بالوقت والنفس أن ينفق في غير طاعة الله عز وجل، وكانوا أشد بخلاً بذلك من أشد الناس بخلاً بماله. وكانوا يعدون خصال الخير ويبكون على أنفسهم إن فاتهم شيء منها. دخل بعضهم على عابد مريض فنظر إلى قدميه وبكى وقال: ما اغبرتا في سبيل الله. وقال أحدهم: أعد ثلاثين خصلة من خصال الخير ليس في شيء منها. وقال بعضهم لأحد العلماء: قف أكلمك، فقال: أوقف الشمس، أوقف الشمس. وكان أحد العلماء إذا زاره الناس وجلسوا عنده وأطالوا الجلوس قال: أما تريدون أن تقوموا؟! إن ملك الشمس يجرها لا يفتر. فكانوا يجتهدون في طاعة الله عز وجل ولا يفوتون وقتاً بغير طاعة، فملئوا حياتهم عبادة وطاعة لله عز وجل، بل وتمنوا لو أنهم واصلوا العبادة بعد الموت، كما كان ثابت البناني يقول: يا رب! إن أذنت لأحد أن يصلي في قبره فأذن لي. وكان يزيد الرقاشي يبكي ويقول: يا يزيد! من يبكي بعد لك، من يترضى ربك عنك. ودخلوا على الجنيد وكان يصلي وكان في النزع فقالوا له: الآن! قال: الآن تطوى صحيفتي. ودخلوا على أبي بكر النهشلي وكان صائماً وكان في النزع فقالوا له: اشرب قليلاً من الماء، فقال: حتى تغرب الشمس. وبكى أحد الصالحين عند موته فسئل عن سبب بكائه فقال: أبكي لأن يصوم الصائمون ولست فيهم، ويصلي المصلون ولست فيهم. فهو يبكي لأنه يفارق الدنيا فيصوم الصائمون وليس هو فيهم، ويصلي المصلون وليس هو فيهم، ونحن والله في الدنيا يصوم الصائمون ولسنا فيهم، ويصلي المصلون ولسنا فيهم. فأين وصفنا من هذه الأوصاف؟ وأين شجرة الزيتون من شجر الصفصاف؟ لقد قام القوم وقعدنا، وجدوا في الجد وهزلنا، ما بيننا وبين القوم إلا كما بين اليقظة والنوم. لا تعرضن بذكرنا في ذكرهم ليس السليم إذا مشى كالمقعد فأماكن تعبدهم باكية، ومواطن خلواتهم لفقدهم شاكية، زال التعب وبقي الأجر، ذهب ليل النصب وطلع الفجر، يا ديار الأحباب! أين السكان؟ يا منازل العارفين! أين القطان؟ يا أطلال الوجد! أين البنيان؟ إن كنت تنوح يا حمام البان للبين فأين شاهد الأحزان أجفانك للدموع أم أجفاني لا يقبل مدع بلا برهان ونحن إنما ينطبق علينا -عباد الله- قول القائل: يا من إذا تشبه بالصالحين فهو عنهم متباعد! وإذا تشبه بالمذنبين فحاله وحالهم واحد! يا من يسمع ما يلين الجوامد وطرفه جامد! وقلبه أقسى من الجلامد! إلى متى تدفع التقوى عن قلبك؟ وهل ينفع الطرق في حديد بارد؟! أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.

معاني إيمانية شريفة

مجالس رمضان_معاني إيمانية شريفة إن دين الله عز وجل فيه معان عظيمة ومبادئ إسلامية راقية، ترقى بالمؤمن إلى أن يكون ذا عزة وعلو ورفعة على الكافرين، وخضوع وخشوع لله رب العالمين، وتواضع مع المؤمنين والصالحين.

معان وقيم إسلامية

معان وقيم إسلامية إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً. ثم أما بعد: فهذه جملة من المعاني الإيمانية الكريمة الشريفة العظيمة، نلقي عليها بعض الضوء، حتى تزداد رسوخاً ووضوحاً في قلوب المؤمنين.

التوكل على الله وتعليق القلب به تعالى

التوكل على الله وتعليق القلب به تعالى من هذه المعاني الكريمة الشريفة العظيمة: أن المؤمن لا يجوز له أن يعلق قلبه بغير الله عز وجل، فالله تعالى أمرنا بأن نأخذ بالأسباب، وقال: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال:60]، وقال مع ذلك: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [آل عمران:126]، فالعبد يأخذ بالأسباب بجوارحه، ولكن يعلق قلبه بالله عز وجل، ولا يجوز له أن يعلق قلبه بغير الله، أو يرجو الخير من عند غير الله عز وجل. وهذا هو التوكل: أن ينتظر العبد بقلبه الخير من عند الله عز وجل، لا يرجو ذلك من عند المخلوقين. وهذا يجعله يسأل الحوائج بعزة النفس؛ فإن الأمور تجري بالمقادير، والنبي صلى الله عليه وسلم علّم حبر الأمة ابن عباس بأن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوه بشيء لن ينفعوه إلا بشيء قد كتبه الله له، وإن اجتمعوا على أن يضروه بشيء لن يضروه إلا بشيء قد كتبه الله عليه.

الحب في الله والبغض في الله

الحب في الله والبغض في الله من هذه المعاني الشريفة الكريمة العظيمة: المحبة في الله والبغض في الله عز وجل، والموالاة في الله والمعادة في الله. فمن كمال حب الله عز وجل أن نحب الرسل الكرام، وأن نحب الملائكة الأطهار، وأن نحب العلماء، وأن نحب الدعاة إلى الله عز وجل، وأن نحب الملتزمين بشرع الله عز وجل، فهذا أمر لا يتكلفه المؤمن، بل هو الثمرة الطبيعية لحب الله عز وجل، قال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} [المجادلة:22]، فلا يمكن أن يحب المؤمن كافراً وإن كان أباه أو أخاه أو ابنه أو زوجته؛ لأن من كمال حب الله أن نحب أولياءه، ومن كمال حب الله عز وجل كذلك أن نبغض أعداءه، فالحب في الله والبغض في الله، والموالاة في الله والمعاداة في الله من كمال حب الله عز وجل، وليس هناك أحد يُحب لذاته إلا الله عز وجل، حتى محبة الرسول صلى الله عليه وسلم هي ثمرة من ثمرات محبة الله عز وجل؛ لأن الله تعالى اصطفاه وطهّره وجعله أكمل الخلق، وأرسله سراجاً منيراً وهداية للبشر، بل للإنس والجن، فليس هناك أحد يُحَب لذاته إلا الله عز وجل، أما محبة الأنبياء ومحبة الملائكة والأولياء فهي من تمام حب الله عز وجل.

عزة المؤمن ومذلة الكافر

عزة المؤمن ومذلة الكافر من هذه المعاني الكريمة الشريفة العظيمة: أن المؤمن عزيز وأن الكافر ذليل. لأنه ليس هناك مصدر للعزة إلا الله عز وجل، فالله عز وجل هو العزيز، قال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:10]. كان الإمام أحمد يدعو ويقول: اللهم أعزنا بطاعتك ولا تذلنا بمعصيتك. فالكافر ذليل وإن كان رئيساً وإن كان أميراً، كما قال الحسن البصري: إنهم وإن طقطقت بهم البغال وهملجت بهم البراذين، إن ذل المعصية لفي رقابهم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه. بل كتب الله عز وجل في اللوح المحفوظ بأن الذلة والصغار على من خالف أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم (وجُعلت الذلة والصغار على من خالف أمري)، فكل من خالف أمر النبي صلى الله عليه وسلم من الكفار والمنافقين والعصاة فهو ذليل، كل بحسب ما عنده من المخالفات. فالمؤمن عزيز والكافر ذليل، ولما جهل هذا المعنى الإيماني عبد الله بن أبي ابن سلول رأس النفاق، وقال في غزوة المريسيع (غزوة بني المصطلق): {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ} [المنافقون:8] وظن أنه هو الأعز، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم -وحاشاه من ذلك- هو الأذل، لُقّن درساً عملياً تعلم به أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، ولكن المنافقين لا يعلمون، حيث أن ابنه عبد الله -وكان مؤمناً صادقاً- لما سمع هذه المقالة الفاجرة وقف على باب المدينة شاهراً سيفه والمسلمون يمرون من تحت سيفه، فلما أراد أبوه أن يدخل المدينة قال: والله لا تدخل حتى يأذن لك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحتى تعلم من الأعز ومن الأذل. وقف له ولده وكان من أبر الناس بأبيه، ومنعه من دخول المدينة حتى يأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعلم بذلك أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون.

محبة الآباء والأبناء والإخوة والزوجات محبة طبيعية

محبة الآباء والأبناء والإخوة والزوجات محبة طبيعية من هذه المعاني الكريمة الشريفة العظيمة: أن محبة الآباء والأبناء والإخوة والزوجات محبة طبيعية فطرية. فالكافر يحب ابنه، وكذلك المؤمن يحب أباه ويحب ابنه ويحب زوجته، فهذه محبة طبيعية فطرية يقرها شرع الإسلام، ولكن الإسلام يهذبها، ولا يجيز لهذه المحبة الفطرية أو الطبيعية أن تزداد؛ فتكون هذه المحبة أكثر من حب المؤمن لله عز وجل أو لرسوله صلى الله عليه وسلم، أو للجهاد في سبيل الله، وإنما كان كذلك حتى يتحقق البذل وتتحقق التضحية، وحتى لا يعز المؤمن شيئاً على الله عز وجل، وحتى يبذل المؤمن كل شيء من أجل أن تعلو راية الله عز وجل، قال الله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:24]، فالله عز وجل تهدد كل من يحب أباه أو ابنه أو أخاه أو زوجته أو ماله أو تجارته أو داره أكثر من حبه لله عز وجل، أو لرسوله صلى الله عليه وسلم أو للجهاد في سبيل الله، تهدده بقوله: {فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [التوبة:24] وفسّقهم في نهاية الآية بقوله: {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:24]، فهذه بديهية من بديهيات الإسلام صارت اليوم -لغربة الإسلام- من الغرائب، بل صار المسلمون يضحون بدينهم من أجل أن تسلم لهم دنياهم، ويبخلون بالبذل في سبيل الله عز وجل، ولم يكن السلف كذلك، بل كان الواحد منهم يرحب بأن يندق عنقه ولا يُسلم دينه، كما أسرت قريش خبيب بن عدي وعذّبوه عذاباً شديداً، وقالوا: أتود أن محمداً مكانك، وأنك معافى في أهلك ومالك؟ فقال: والله ما أحب أنني معافى في أهل ومالي ويُشاك محمد صلى الله عليه وسلم بشوكة. وفي ذلك قيل: أسرت قريشاً مسلماً فمضى بلا وجل إلى السياف سألوه: هل يرضيك أنك سالم ولك النبي فدى من الإتلاف؟ فأجاب: كلا لا سلمت من الردى ويُصاب أنف محمد برعاف ولما أرادوا قتله أنشأ يقول: ولست أبالي حين أُقتل مسلماً على أي شق كان في الله مصرعي ما دام في ذات الإله وإن يشأ يبارك على أشلاء شلو ممزع مات يوم أحد زوج امرأة وأبوها وأخوها، فقالت: كيف رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقيل لها: هو على خير ما تحبين، قالت: دعوني أنظر إليه، فلما نظرت إليه قالت: كل مصيبة دونك جلل يا رسول الله! فهي لا تبالي إذا مات زوجها وأبوها وأخوها ما دام قد سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانوا يفدون الإسلام ورسول الإسلام بآبائهم وأمهاتهم وأبنائهم. فهذه الروح هي التي ارتفع بها الإسلام، وعلا بها دين الملك العلّام، ولكن المسلمين اليوم عباد الله يبخلون بالبذل في سبيل الله عز وجل، ولا يبالي الواحد منهم إذا سلم في نفسه وماله وأهله صارت الدولة للإسلام أو لأعداء الملك العلّام، وصار الناس يتحاكمون إلى شرع الرحمن أو إلى الطواغيت اللئام، فينبغي على العبد أن يفدي دين الإسلام بنفسه، فالله عز وجل يقول: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة:165]، فينبغي أن يكون حب المؤمن لله عز وجل أكثر من حبه للآباء والأبناء والإخوة والزوجات. من هذه المعاني الإيمانية الكريمة العظيمة: أن نعتقد أن النصر قادم، وأن جولة الإسلام قادمة، ولا بد كما قال الله عز وجل: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:47]. كان الصحابة رضي الله عنهم يعذّبون في ربوع مكة، والنبي صلى الله عليه وسلم يبشرهم بالنصر والتمكين، ويقول: (والذي نفسي بيده ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله) وفي رواية: (والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون)، ونزل قول الله عز وجل: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [القمر:45] وتحقق هذا الوعد الصادق في أول لقاء بين الكفر والإيمان في يوم الفرقان، يوم التقى الجمعان، فهزم جمع الكفر وولوا الدبر. وكان عند الصحابة ثقة بنصر الله عز وجل، حتى كان المنافقون والذين في قلوبهم مرض يتّهمون الصحابة الصادقين بالغرور، قال تعالى: {إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:49] فمن ثقة الصحابة بنصر الله ووعده كانوا يتهمونه بالغرور، وكان خالد بن الوليد يقول للروم وقد تحصّنوا بالحصون: أيها الروم انزلوا إلينا فوالله لو كنتم معلّقين في السحاب لرفعنا الله إليكم أو لأنزلكم إلينا. فينبغي للمسلمين أن يكونوا

علو الهمة والتنافس في درجات الآخرة

علو الهمة والتنافس في درجات الآخرة من هذه المعاني الإيمانية الكريمة الشريفة العظيمة: أن المؤمن ينبغي أن يكون عالي الهمة فلا يرضى بالدون، ولا يبيع الأعلى بالأدنى بيع الخاسر المغبون. لا ينافس في حطام الدنيا، بل ينافس في درجات الآخرة، قال تعالى: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26]؛ لأن الدنيا كلها لا تعدل عند الله جناح بعوضة، ولو كانت تعدل جناح بعوضة لما سقى كافراً منها شربة ماء، فالمؤمن ينبغي أن يكون عالي الهمة يطمع في جنة الله، بل في أعلى درجات الجنة. وقد كان الصحابة رضي الله عنهم الذين رباهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عندهم علو في الهمة، فقد سأله أحد الصحابة الكرام، وكان يكنى بـ أبي فراس. قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (سلني، فقال: أسألك مرافقتك في الجنة) فهو طلب أن يكون رفيق النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة، قال: (أو غير ذلك؟ قال: بل هو ذاك، قال: فأعني على نفسك بكثرة السجود)، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس، فإنه وسط الجنة وأعلى الجنة وسقفه عرش الرحمن) فالعبد عندما يدعو ويطمع في رحمة الله لا يرجو أن يكون آخر من يدخل الجنة، أو يكون في أدنى درجات الجنة، بل يطمع أن يكون في أعلى الدرجات، وفي الفردوس الذي سقفه عرش الرحمن. نسأل الله تعالى الفردوس. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.

وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون

مجالس رمضان_وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون خلق الله عباده في هذه الدنيا وأمرهم بعبادته وندبهم إلى طاعته، وما من عامل في الدنيا إلا ويرجو أن يجد ما عمله مدخراً له يوم القيامة ليجازى عليه بالحسنات، ودخول الجنات، ولكن الغبن الواضح والخسارة الفادحة لمن أتى يوم القيامة بأعمال يجعلها الله هباء منثوراً؛ لأن العبد لم يتقيد فيها بأوامر الله ولم يتبع منهج رسوله صلى الله عليه وسلم.

خوف السلف من لقاء الله عز وجل

خوف السلف من لقاء الله عز وجل إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً. أما بعد: لما أتت محمد بن المنكدر الوفاة بكى بكاءً شديداً، فأحضروا له أبا حازم من أجل أن يخفف عنه، فسأله أبو حازم عن سبب بكائه، فقال: سمعت الله عز وجل يقول: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:47]، فأخاف أن يبدو لي من الله عز وجل ما لم أكن أحتسب. فأخذ أبو حازم يبكي معه، فقالوا له: أتينا بك من أجل أن تخفف عنه فزدت في بكائه.

أقوال السلف في المعني بقوله تعالى: (وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون)

أقوال السلف في المعني بقوله تعالى: (وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون)

أن الآية نزلت في أهل الأهواء والرياء

أن الآية نزلت في أهل الأهواء والرياء وللسلف في هذه الآية الكريمة: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:47] أقوال: قال بعضهم: نزلت هذه الآية الكريمة في أهل الرياء الذين لم يخلصوا أعمالهم لله عز وجل، وقد قال الله تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23]، فكل عمل كان بإرادة غير الله مشوباً مغموراً يجعله الله عز وجل يوم القيامة هباءً منثوراً. قال الله تعالى في الحديث القدسي: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه). وقال بعض السلف: عملوا أعمالاً فظنوا أنها حسنات، فكانت سيئات، فبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون. وقال بعضهم: ويل لأهل الرياء من هذه الآية: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:47]، وإنما يشبهون من يعيد الله عز وجل بالرياء كمن دخل السوق وكيسه مملوء بالحصى، فكلما مر بأحد قال: ما أملأ كيسه! حتى إذا وقف عند البائع واختار ما أراد، أخرج ما في الكيس وضرب به وجهه، ولم يحصل به على شيء، ولم ينل إلا قول الناس: ما أملأ كيسه! فينبغي للعبد أن يخلص عمله لله عز وجل، حتى ينتفع بأعماله الصالحة يوم القيامة.

أن الآية نزلت في أهل البدع

أن الآية نزلت في أهل البدع وقيل أيضاً: نزلت هذه الآية الكريمة: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:47]، في أهل البدع الذين يظنون أنهم يتقربون إلى الله عز وجل، وهم إنما يبتعدون عن الله عز وجل، فكلما ازداد صاحب بدعة اجتهاداً ازداد من الله عز وجل بعداً، قال تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف:103 - 104]. وصف النبي صلى الله عليه وسلم الخوارج فقال: (يحقر أحدكم صلاته إلى صلاتهم، وصيامه إلى صيامهم، وقراءته إلى قراءتهم -ثم قال:- يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية). إذا لم يكن من الله عون للفتى فأول ما يجني عليه اجتهاده وقالوا: ليس لصاحب بدعة توبة؛ لأن البدعة تزين لأصحابها، ويظنون أنهم على هدى، ويظنون أنهم يتقربون إلى الله عز وجل، وهم إنما يبتعدون عن الله عز وجل. قيل لبعض العلماء: ما بال أهل الأهواء لهم محبة شديدة لأهوائهم؟ قال: ألم تسمع قول الله عز وجل: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ} [البقرة:93]، فقيل: نزلت هذه الآية الكريمة: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:47] في أهل البدع.

أن الآية نزلت فيمن غره طول الأمل والأماني الباطلة

أن الآية نزلت فيمن غره طول الأمل والأماني الباطلة قيل أيضاً: نزلت هذه الآية الكريمة: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:47] في أهل الغرور والأماني الباطلة، الذين خدعهم طول الأمل، وران على قلوبهم سوء العمل، فهم يقصرون في طاعة الله عز وجل، وينتهكون حرمات الله عز وجل، ويقولون: إن الله غفور رحيم. قال الحسن البصري: إن قوماً ألهتهم أماني المغفرة حتى خرجوا من الدنيا ولا حسنة لهم، وقالوا: نحن نحسن الظن بالله، وكذبوا. لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل. وقد تطرق فكر المرجئة الخاطئ إلى كثير من المسلمين، وظنوا أنه لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله، وأن العبد ما دام مسلماً فإنه لا تضره هذه الذنوب، والله عز وجل يرد على هذا الفكر الخاطئ فيقول عز وجل: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا} [النساء:123]. وقال عز وجل: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [الصافات:153 - 154]. وقال: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية:21]. وقال عز وجل: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:7 - 8]، فالمعاصي تضر أصحابها في الدنيا والآخرة. فقيل نزلت هذه الآية الكريمة: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:47]، في أهل الغرور والأماني الباطلة.

أن الآية نزلت فيمن أثقلوا ظهورهم بمظالم العباد

أن الآية نزلت فيمن أثقلوا ظهورهم بمظالم العباد وقيل أيضاً: نزلت هذه الآية الكريمة: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:47] في أناس أتوا بحسنات كثيرة عظيمة، ولكنهم أثقلوا ظهورهم بمظالم العباد، فهم يحسنون الظن بحسناتهم، ولكنهم غفلوا عما وقعوا فيه من مظالم العباد، روى الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع. قال: ولكن المفلس من أمتي من يأتي بحسنات كأمثال الجبال، ويأتي وقد شتم هذا وقذف هذا وسفك دم هذا، وأخذ مال هذا، فيأخذ هذا من حسناته، وهذا من حسناته، حتى إذا فنيت حسناته طرحوا عليه من سيئاتهم، ثم طرح في النار)، فيبدو له من الله عز وجل ما لم يكن يحتسب، فهو يحسن الظن بحسناته، ولكنه غافل عن مظالم العباد التي قال النبي صلى الله عليه وسلم فيها: (من كان لأخيه عنده مظلمة من مال أو عرض فليتحلله اليوم من قبل ألا يكون دينار ولا درهم إلا الحسنات والسيئات). فقيل: نزلت هذه الآية الكريمة: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:47] في أناس أتوا بحسنات كثيرة عظيمة، ولكنهم أثقلوا ظهورهم بمظالم العباد.

أن الآية نزلت فيمن ظنوا كبائرهم صغائر

أن الآية نزلت فيمن ظنوا كبائرهم صغائر وقيل أيضاً: نزلت هذه الآية الكريمة: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:47] في أناس أتوا بذنوب، وظنوا أن هذه الذنوب من الصغائر، وكانت هذه الذنوب من الكبائر، فبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون. عن أنس رضي الله عنه قال: إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعرة كإن كنا لنعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات. فمقياس التحقير والتعظيم مقياس نسبي، فبحسب إيمان العبد وتقواه يعظم الأمور أو يحقرها. وقول أنس هذا يدل على كمال يقين الصحابة وتقواهم رضي الله عنهم، كما قال ابن مسعود -ورواه البخاري معلقاً بصيغة الجزم- قال: (إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه في أصل جبل يوشك أن يقع عليه، وإن الكافر أو الفاجر يرى ذنوبه كذباب وقع على أنفه فقال به هكذا فطار) فالمؤمن لأنه يعظم حرمات الله، ويعظم شعائر الله عز وجل يرى ذنوبه كأنه في أصل جبل يوشك أن يقع عليه، لم يقل: مبنى أو شجرة؛ لأن هناك احتمالاً لنجاة من سقط عليه مبنى أو شجرة أو شيء أقل من الجبل، ولكن من سقط عليه جبل فليس هناك أدنى احتمال للنجاة. فالمؤمن يرى ذنوبه كأنه في أصل جبل يوشك أن يقع عليه، والفاجر أو الكافر أو المنافق يرى ذنوبه كذباب وقع على أنفه فقال به هكذا فطار. فقيل: هذه الآية الكريمة: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:47] نزلت في أناس أتوا بذنوب، وظنوا أن هذه الذنوب من الصغائر، فكانت هذه الذنوب من الكبائر، فبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون.

أن الآية نزلت فيمن يناقش الحساب يوم القيامة

أن الآية نزلت فيمن يناقش الحساب يوم القيامة وقيل أيضاً: نزلت هذه الآية الكريمة: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:47] في أناس شاء الله عز وجل أن يناقشوا الحساب. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من نوقش الحساب عذب). وفي رواية: (من نوقش الحساب هلك فقالت عائشة رضي الله عنها: ألم يقل الله عز وجل: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الانشقاق:7 - 8]؟ قال: إنما ذلك العرض)؛ أي: أن الحساب اليسير هو أن يعرض العبد على ربه عز وجل، ولكن لو نوقش العبد في أعماله وفي أقواله وفي أحواله فلا بد أن يهلك فلو حاسبنا الله عز وجل على نعمه علينا لم تف جميع أعمالنا الصالحة بأدنى شكر لنعم الله عز وجل علينا، فحق الله عز وجل أعظم من أن يقوم به العباد، ونعمه أكثر من أن يحصيها العباد، ولكن أصبحوا تائبين، وأمسوا تائبين. فمن نوقش الحساب عذب؛ لأن الله عز وجل إذا أراد نجاة عبد فإنه لا يسأله عن شكر نعمه عليه، ويتجاوز عن سيئاته ويدخله بحسناته الجنة وإن كانت قليلة، وإذا شاء الله عز وجل أن يهلك العبد ناقشه الله عز وجل وطالبه بشكر نعمه، فلا تفي جميع أعماله الصالحة في أدنى شكر لنعم الله عز وجل عليه، فتبقى بقية النعم بلا وفاء بالإضافة إلى الذنوب وإلى المغارم، فيهلك العبد بسبب ذلك، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لو أن الله عز وجل عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته خير لهم من أعمالهم). فقيل في تفسير هذا الحديث الذي رواه أبو داود بسند حسن: لو أن الله عز وجل عذب أهل سماواته وأهل أرضه لكان متصرفاً بذلك في ملكه والمتصرف في ملكه غير ظالم. وقيل: لو عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم ببعض حقه عليهم؛ ولأنهم لم يقوموا بشكر نعم الله عز وجل عليهم، فلو أن الله عز وجل عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته خيراً لهم من أعمالهم. فقيل: نزلت هذه الآية الكريمة: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:47]، في أناس شاء الله عز وجل أن يناقشوا الحساب، ومن نوقش الحساب عذب أو هلك.

أن الآية نزلت فيمن وقع في ذنوب منعت انتفاعه بحسناته

أن الآية نزلت فيمن وقع في ذنوب منعت انتفاعه بحسناته وقيل أيضاً: نزلت هذه الآية الكريمة: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:47] في أناس أتوا بحسنات كثيرة، ولكنهم وقعوا في ذنوب منعت انتفاعهم بهذه الحسنات، وقعوا في موالاة أعداء الله عز وجل أو في الصد عن سبيل الله عز وجل، فلم ينتفعوا بهذه الحسنات؛ لأن هذه السيئات التي وقعوا فيها أخرجتهم من ملة الإسلام، فلم ينتفعوا بأعمالهم الصالحة، كمن يصد عن سبيل الله أو يوالي أعداء الله عز وجل أو يسب دين الله عز وجل، أو يستهزئ بشرع الله عز وجل، فهو يحسن الظن بأعماله الصالحة؛ وهو غافل عن المعاصي التي وقع فيها؛ فأخرجته من ملة الإسلام. ومن ذلك: أن يكون هناك ذنوب تمنع انتفاعه مؤقتاً بحسناته، كالمرأة المتبرجة مهما أدت من حسنات ومن طاعات فإن هذه المعصية تجعلها لا تنتفع بهذه الحسنات كثيراً؛ لأن المعصية التي تقع فيها معصية كبيرة تحيط بها، وتذهب كثيراً من حسناتها وإن كانت لا تخرجها من ملة الإسلام. وقس على ذلك من الذنوب العظيمة التي قد يقع فيها العبد أو يبتلى بها، فتكون الحسنات محبطة بهذه السيئات، وإن كان إحباطاً ليس كإحباط الكفر للإيمان، ولكنه إحباط مؤقت لا ينتفع العبد يوم القيامة بحسناته، حتى يؤاخذ بسيئاته. فقيل: نزلت هذه الآية الكريمة: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:47] في أناس أتوا بحسنات، ولكنهم وقعوا في ذنوب منعت انتفاعهم بهذه الحسنات، فبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون. نسأل الله تعالى أن ينفعنا بالقرآن العظيم. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.

§1/1