مجالس التذكير من حديث البشير النذير

ابن باديس، عبد الحميد

ـ[مجالس التذكير من حديث البشير النذير]ـ للإمام المصلح الشيخ عبد الحميد بن باديس رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين من مطبوعات وزارة الشؤون الدينية الطبعة الأولى 1403هـ/1983م

مجالس التذكير من حديث البشير النذير للإمام المصلح الشيخ عبد الحميد بن باديس رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين من مطبوعات وزارة الشؤون الدينية الطبعة الأولى 1403هـ/1983م دار البعث

حقوق الطبع محفوظة لوزارة الشؤون الدينية

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

السنة

السنة كان - صلى الله عليه وسلم - يذكر بقوله وعمله وهديه وسمته، وكان ذلك كله منه على وفق هداية القرآن وحكمه. ــــــــــــــــــــــــــــــ عبد الحميد بن باديس

_ الشهاب: الجزء 1 المجلد 5 رمضان 1347ه فيفري 1929م.

المقدمة بقلم السيد: عبد الرحمان شيبان وزير الشؤون الدينية

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ المقدمة بقلم السيد: عبد الرحمان شيبان وزير الشؤون الدينية ــــــــــــــــــــــــــــــ الحمد لله رب العالمين، أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على كل دين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد بن عبد الله، خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه، ومن اتبع سنته إلى يوم الدين. من فضل الله على الجزائر، أن قيض لها ابنها البار، عبد الحميد بن باديس الذي دعاها لما يحييها، بما تستجيب له فطرتها، وهو دينها القويم وهدي سلفها الصالح. فقد تصدى لتدريس العلوم العربية والإسلامية المختلفة، بالجامع الأخضر في قسنطينة، عاصمة الشرق الجزائري، منذ عودته من الحجاز، سنة 1913م، بعد أدائه فريضة الحج؛ فختم تفسير القرآن الكريم، تدريسا، في خمسة وعشرين عاما، وذلك سنة 1357هـ (1938م). وقد أقيم، بتلك المناسبة، بقسنطينة، احتفال وطني عظيم حضرته وفود عن أنحاء القطر الجزائري. وفي السنة الموالية، أقيم احتفال ثان، بالمدينة ذاتها، بمناسبه ختمه كتاب"الموطأ " للإمام مالك في الحديث النبوي الشريف.

وقد كان احتفال الأمة بهذين الحدثين المشهودين. اللذين اهتزت لهما الجزائر كلها، "عهدا" منها لإمامها، على مواصلة السير، معه وبعده، نحو الحياة الحرة الكريمة، على هدي كتاب الله تعالى، وسنة رسوله الكريم، صلى الله عليه وسلم. وفسر الإمام ابن باديس، إلى جانب ذلك، بقلمه مجموعة من الآيات القرآنية الكريمة، والأحادث النبوية الشريفة. ونشرها افتتاحيات في مجلته "الشهاب"، تحت عنوان: "مجالس التذكير، من كلام الحكيم الخبير، وحديث البشير النذير". وقد كان لهذه الدروس، الشفوية والكتابية، أثر بالغ في نفوس المستضيئين بها، في تلك الحقبة المظلمة، سواء من كان يحضر دروسه التعليمية، من طلبته النضاميين، وطلاب المعرفة الإسلامية أو من كان يتابعها في افتتاحيات مجلة "الشهاب" الشهرية؛ فكانت، بحق، الشرارة الأولى التي فجرت النهضة الإصلاحية الحديثة في الجزائر. وتعميما لفائدة هذا الأثر العلمي النفيس، وحرصا على تعريف أجيال الاستقلال بآثار سلفها الصالح، من العلماء العاملين، أصدرنا القسم الأول الخاص بالآيات القرآنية المفسرة، المنشورة في مجلة "الشهاب" في كتاب "مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير" بمناسبة الذكرى العشرين للإستقلال الوطني. وها نحن، بعون الله وتوفيقه، نصدر القسم الثاني، الخاص بالأحاديث النبوية المشروحة وغيرها من الآثار المتعلقة

بالسنة وصاحبها، صلى الله عليه وسلم، التي نشرت في مجلة "الشهاب"، وفي غيرها من جرائد جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، في كتاب "مجالس التذكير من حديث البشير النذير"، بمناسبة الذكرى الثالثة والأربعين لوفاة ابن باديس رحمه الله تعالى. وبإصدارنا لهذا الجزء الثانى من كتاب "مجالس التذكير" نكون قد قدمنا لتلاميذ الإمام ابن باديس، وإلى قراء مجلته "الشهاب"- الذين كانوا يتلقون عنه دروسا حية في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، في نطاق محدود في الزمان والمكان- فرصة جديدة مديدة للاستفادة من عطاء أستاذهم الحكيم متى أرادوا وحيثما وجدوا؛ كما نقدم في الوقت ذاته، إلى الوعاظ والمربين، وإلى الأجيال الحاضرة والقادمة بصفة عامة- منارة تهدى، وثمرة تغذي، وأسوة تحقق لطلابها ما ينشدون من صلاح وفلاح بعون الله تعالى وتوفيقه. وإنه لمن دواعي الارتياح، أن يظهر هذا الأثر العلمي، في هذه الحقبة من حياتنا الوطنية، التي تسعى فيها الثورة الجزائرية إلى تعميق أسس شخصيتنا العربية الإسلامية، وإلى توطيد أركان الاستقرار النفسي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي، وتهيئة المناخ الصحي الذي يمكّن أجيالنا القادمة من العمل الجاد المنتج، الذي يضمن للفرد وللمجتمع، الطمأنينة والرخاء والاستقرار. فإلى جانب العمل من أجل النهوض بالصناعة والزراعة والصحة والسكن والتربية والتعليم-: جُدِّد المجلس الإسلامي الأعلى، ليواصل نشاطه، في مختلف مجالاته واختصاصاته،

للنهوض بحياتنا الروحية، وظهرت الصحيفة الإسلامية الجامعة "العصر" الأسبوعية، تعزز نشر الوعي الإسلامى الصحيح. في مختلف أنحاء الوطن؛ وصُودِق على ملفات الثقافة، والأعلام، والشباب؛ ونُصِّب المجلس الأعلى للغة الوطنية، والمجلس الأعلى للشباب؛ واتخذت قرارات بشأن إجبارية المواد الدينية في الامتحانات؛ وافتتح، بجامعة الجزائر، معهد العلوم الإسلامية، النواة الأولى "للجامعة الإسلامية الجزائرية"، كما درس ملف قانون الأسرة وفق مبادىء الشريعة الإسلامية. إن سير الجزائر، نحو التقدم والازدهار، على هدي كتاب الله، وسنة رسوله الكريم، صلى الله عليه وسلم، هو الذي يضمن النجاح لما تنجز من أعمال، وتخطط من مشاريع؛ قال الله تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (*). وقال عليه الصلاة والسلام: «تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما: كتاب الله وسنتي» (**). نعم! إن الذى يحقق لنا القوة والمناعة والازدهار، ويضمن النجاح لما نسعى إلى تحقيقه من مشاريع وأهداف، في مختلف مجالات الحياة المادية والروحية، هو انطلاقنا من قاعدة صلبة، وعقيدة أصيلة واضحة، تتخد "القرآن الكريم مصدرا للفكر، والسنة النبوية الشريفة دليلا للعمل"، كما أكد ذلك السيد الرئيس الشاذلى بن جديد، رئيس الجمهورية، الأمين العام لحزب جبهة التحرير الوطني.

_ (*) سورة الإسراء 9. (**) رواه الحاكم عن أبي هريرة في (فيض القدير).

فالإسلام هو الذي حفظ لشعبنا شخصيته، بالرغم مما تعرض له، طوال عهود الانحطاط والاحتلال، من عوامل الفناء والاضمحلال؛ والإسلام، هو الذي جعله يعي ذاته؛ ويناضل من أجل حياة حرة كريمة، عندما وجد من يريه أن التمسك بإسلامه عن وعي وبصيرة، هو الكفيل بأن يغير أوضاعه من حال الضعف إلى القوة، ومن اليأس إلى الرجاء، ومن الركود إلى العمل، ومن الاضطهاد والهوان، إلى الحرية والكرامة؛ فإليك - أيها القارىء الكريم- تصوير الإمام ابن باديس لما كان لثورة الإصلاح الدينى من أثر بالغ في النفوس والعقول، أخرج الجزائر من سباتها الطويل، وما صاحَبه من شلل عام للطاقات، إلى نور الصحوة الدافعة إلى الانطلاق والحياة، إذ يقول، مخاطبا الشعب الجزائري في المؤتمر السنوي لجمعية العلماء، سنة 1937م: " ... حوربَت فيكم العروبة حتى ظُن أن قد مَات منكُم عِرقُها، ومسخ فيكُم نطقُها، فجئتم، بعدَ قرن، تصدحُ بلابلُكم بأشعَارهَا فتُثير الشعورَ والمشاعرَ، وتهدرُ خطباؤُكم بشقَاشقها، فتدك الحصونَ والمعاقلَ، ويهز كتَّابكم أقلامَها، فتصيبُ الكلىَ والمفاصلَ. "وحورب فيكم الإسلامُ حتى ظُن أن قد طُمست أمامكم معالمُهُ وانتزُعت منكم عقائدُه ومكارمُه؛ فجئتم بعد قرن، ترفعون علَمَ التوحيد، وتَنشرون من الإِصلاح لواءَ التجديد، وتدعُون إلى الإسلام، كما جاء به محمد، صلى الله عليه وسلم، لا كماَ حرَّفَه الجاهلوُن وشوَّهَه الدَّجَّالون ورضيَهُ أعداؤُه. "وحورب فيكم العِلمُ حتى ظُن أن قد رضيتم بالجهالَة، وأخْلدتم للنذَالة، ونسيتُم كلَّ علم إلا ما يرشحُ به لكم، أو ما يمزجُ بما هو أضرُّ من الجهل عليكم؛ فجئتم بعد قرن،

ترفعون للعلم بناء شامخا، وتشيدون له صرحًا سامقًا. فأسستُم على قواعد الإسلام والعروبة والعلم والفضيلة، جمعيتَكُم هذه، جمعية العلماء المسلمين الجزائريين. "وحوربت فيكم الفضيلةُ، فسمتم الخسف، وديثتم بالصَّغار حتى ظن أن قد زالت منكم المرُوءَةُ والنجدةُ، وفارقَتْكُم العزةُ والكرامةُ، فرئمتم الضيم، ورضيتم الحيف، وأعطيتم بالمقادة؛ فجئتم بعد قرن، تنفضون غبارَ الذل، وتهَزْهِزون أُسسَ الظلم وتُهَمْهمُون همهمةَ الكريم المحنق، وتُزمجرُون زمجرةَ العزيز المُهان، وتطالِبون مطالبةَ من يعْرفُ له حقًا لابُدَّ أن يُعطَاهُ أو يَأخذَهُ" (2). حقا! لقد كانت الجزائر في وضع يهدد كيانها بالذوبان والفناء، ذلك أن الاستعمار الفرنسي كما يقول الإمام محمد البشير الإبراهيمي: " ... صليبي النزعة، فهو منذ احتل الجزائر عامل على محو الإسلام، لِأنه الدين السماوي الذي فيه من القوة ما يستطيع به أَن يسُودَ العالَمَ، وعلى محو العربية لأنها لسانُ الإسلام، وعلى محو العروبة لأَنها دعامةُ الإسلام. وقد استعمل جميعَ الوسائل المؤدية إلى ذلك، ظاهرةً وخفيةً، سريعةً ومتأنيةً، وأوشك أن يبلغَ غايتَه بعد قرن من الزمن متصل الأيام والليالى، في أعمال المحو، لولا أن عاجَلَتْه جمعيةُ العلماء المسلمين الجزائريين، على رأس القرن، بالقاومة لأعماله، والعمل على تغييب آماله" (3). لقد كانت نظرة ابن باديس الناقدة النافذة، تكشف له عما يكمن في الأمة الجزائرية من عناصر القوة والكمال، مما يؤهلها

_ (2) البصائر. السنة الثانية- العدد 83 - رجب 1356هـ (سبتمبر 1937م) (3) مشكلة العروبة في الجزائر. محاضرة ألقاها في ندوة الأصفياء، ص207 دار مصر للطباعة. عام 1955.

للحياة العزيزة الكريمة. فوضع منهاجه الإصلاحي العام القائم على الكتاب والسنة، فكان شعاره في دعوته إلى الحياة: "لَا يصْلُحُ آخرُ هذه الأمةِ إلاَّ بما صلُحَ بهِ أولُها" (*)، فالتغيير عنده، إنما هو استجابة طبيعية من الأمة، للحياة متى أحيينا فيها قيم الإسلام ومبادئه السامية؛ فتغير ما بنفسها، ليغير الله ما بها، فالدين هو الأساس الأول لكل إصلاح وتغيير، وقد قال، موضحا ذلك، ومعللا اختياره الدين، على السياسة، للنهوض بالأمة: "وبعد، فإننا اخترْناَ الخطةَ الدينيةَ على غيرها، عن علمٍ وبصيرةٍ وتمسكًا بما هو مناسبٌ لفطرتِنا وتربيتنِا من النصحِ والإِرشادِ، وبثِّ الخير والثباتِ على وجه واحدٍ والسيرِ في خطٍّ مستقيم. وما كنا لنجد هذا كلَّه إلا فيما تفرَّغنا له، من خدمة العِلم والدين، وفي خدمتِهما أعظمُ خدمة وأنفعُها للإنسانيةِ عامةً. "ولو أردنا أن ندخل الميدان السياسي لدخلناه جهرا، ولضربنا فيه المثل بما عرف عنا، من ثباتنا وتضحيتنا، ولقدْنا الأُمةَ كلَّها للمطالبةِ بحقوقها، ولكانَ أسهل شيءٍ علينا أن نسيرَ بها على ما نرسمُه لها، وأن نبلغَ من نفوسها إلى أقصى غاياتِ التأثير عليها؛ فإن مما نعلمُه، ولا يخفى على غيرنا أن القائدَ الذي يقول للأمة: "إنَّكِ مظلومةٌ في حقوقكِ، وإنَّنِي أريد إيصالَكِ إليها" يجد منها ما لا يجده من يقول لها: "إنكِ ضالةٌ عن أصولِ دينِك، وإنَّنِي أريد هدايتَك"، فذلك تُلبِّيهِ كلها، وهذا يقاومه معظمها أو شطرها وهذا كله نعلَمُه، وَلكننا اخترنا ما اخترنا لما ذكرنا وبيَّنّا، وإننا- فيما اخترناه- بإذن الله، لَمَاضُون، وعليه متوكِّلُون" (4).

_ (*) قولة للإمام مالك رضي الله عنه. (4) الصراط السوي. السنة الأولى- العدد 15 - قسنطينة رمضان 1352هـ (ديسمبر 1933م).

على أن اعتماد ابن باديس، الدين، أساسا للنهوض بالأمة، لم يكن منه، تزهيدا في السياسة؛ بل إنه يرى أن النضال من أجل الحرية والسيادة واحد، وإن تعددت مجالاته، وتنوعت أساليبه؛ فالدين والسياسة، عنده، متكاملان متلازمان، وقد كانت كل أعماله تؤكد ما قاله، في محاضرة بعنوان: "العلم والسياسة"، ألقاها بتونس، على جمعية الطلبة الجزائريين بالزيتونة- الذين يعدون وإخوانهم بالجامع الأخضر والقرويين والأزهر، من طلائع النهضة العلمية والوطنية كالجزائر- فقد قال: " ... وكلامُنا اليومَ عن العِلمِ والسياسةِ معا. وقد يَرى بعضُهم أن هذا البابَ صعبُ الدُّخول، لأنهم تعوَّدوا من العلماء الاقتصارَ على العِلمِ والابتعاد عن مَسالِكِ السِّياسةِ، مع أنه لاَبدَّ من ابمع بين العِلْم والسياسةِ، ولا ينهضُ العلمُ والدينُ، كل النهوض، إلا إذا نهضتِ السياسةُ بجدٍّ!! " (5). وقد أكد عمق هذه النظرة إلى الإصلاح، وشموليتها في الوقت نفسه، محمد البشير الإبراهيمى، الذي قال، في خطبة بعنوان "الإصلاحُ الدينى لا يتمُّ إلا بالإصلاح الإجتماعي"، منددا بالدين يريدون أن يقتصر نشاط الجمعية على الدين وحده بمفهومه الضيق: " ... وياَ ويحَ الجَاهلينَ أيُريدُون من كلمة الإصلاح أن نقول للمسلم قل: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ مذعنًا طائعًا، وصلِّ لربّك أوَّاها خاشعًا، وصُمْ له مبتهلاً ضارعًا، وحُجَّ ييتَ الله أوَّابا راجعًا، ثم كن ما شئت

_ (5) البصائر. السنة الثانية- العدد 71 - يونيو 1937م.

نهبة للناهب، وغنيمة للغاصب ومطية ذلولا للراكب. إن كان هذا ما يريدون فلا ولا قرة عين، وإنما نقول للمسلم إذا فصلنا: "كن رجلًا عزيزًا قويًا عالِمًا هاديًا محسنًا كسوبًا معطيًا من نفسك، آخذًا لها، عارفًا للحياة، سَبَّاقًا في ميادينها، صادقًا صابرًا، هيِّنا إذا أريد منك الخيرُ، صلبًا إذا أردت على الشره ونقول له، إذاَ أجْملْنا: كن مسلمًا كمَا يريدُ منكَ القرآنُ، وَكَفَى" (6). ولكن، أي إسلام هذا الذي يُحيى الأمم بعد موتها، عند ابن باديس؟ إنه الإسلام بمفهومه الصحيح، عقيدةً، وعبادةً، ومنهاجاً كاملاً شاملاً للحياة، يغنى عن كل المناهج، ولا يغني عنه أي منهج! " إن الاسلامَ عقدٌ اجتماعى عامٌّ، فيه جميعُ ما يحتاجُ إليه الإنسانُ، في جميع نواحِي الحياة، لسعادتِه، ورقيِّه، وقد دلَّت تجارب الحياة كثيرًا من علماء الأمم المتمدنة، على أن لا نَجاةَ للعالَم مما هو فيه، إلا بإِصلاحٍ عامٍ، على مباديء الإسلام، فالمسلمُ الفقيهُ في الإسلام، غنيٌّ به عن كل مذهبٍ من مذاهبِ الحياةِ" (7). وهذا الفهم العميق، الشامل للإسلام، جمله يصيح في الناس أن هناك فرقا جوهريا بين إسلامين: إسلام وراثى وإسلام ذاتى: " ... فالإسلام الوراثي حفظَ على الأمم الضعيفة المتمسكةِ به، وخصوصا العريية منها، شخصيتَهَا ولغَتَها، وشيئًا

_ (6) آثار الشيخ البشير الإبراهيمي- الجزء الأول. الطبعة الأول- ص216 الشركة الوطنية للنشر والتوزيع- الجزائر. (7) الشهاب: ج3، م12.

كثيرًا من الأخلاق ترجح به، لكن هذا الإسلام الوراثي لا يمكن أن ينهض بالأمم لأن الأمم لا تنهض إلا بعدَ تنبه أفكارها وتفتح أنظارها، والإسلامُ الوراثي مبني على الجمود والتقليد، فلا فكر ولا نظَرَ! " (8). " ... والإسلام الذاتي، هو إسلامُ من يفهم قواعدَ الإسلام، ويدركُ محاسن الإسلام، في عقائده وأخلاقه وآدابه وأحكامه وأعماله، ويتفقَّه، حسب طاقته، في الآيات القرآنية، والأحَاديث النبوية، ويَبنى ذلك كلَّه، على الفكرِ والنظرِ، فيفرِّق بين ما هو من الإسلام، بحسْنِه وبُرهانِه، وما ليس منه، بقبْحِه وبُطلانِه؛ فيحياَ حياةَ فكبرٍ وإِيمانٍ وعملٍ" (9). وكان من مقتضيات الدعوة التي قام بها الإمام ابن باديس للنهوض بالأمة، أن يعمل في جبهات كثيرة، ومجالات مختلفة؛ فاتصل بالزوايا، معاقل المحافظة على القرآن الكريم والثقافة الإسلامية، وأثر فيها؛ فجددت من أساليبها وحسنتها، وبعثت بأبنائها ليدرسوا عنه بقسنطينة، وأصبحوا دعاة للإصلاح، كما حارب بعض المنتَمين إلى الدين من الجامدين المتعاملين مع الإستعمار، الذي أدرك خطورة هذه الحركة الإصلاحية على وجوده في الجزائر؛ فعمل على إيقاف زحفها بكل أساليب الترغيب والترهيب؛ فإذا ارتفعت أصوات الشعب عاليا. تطالب بحقها في الحياة، سارع إلى توزيع المواد الغذائية لإسكاتها، زاعما أن الدافع لارتفاع تلك الأصوات هو البطون الجائعة. فيفصح ابن باديس ذلك الزعم بكلمة عنوانها: "ليس الخبز كل ما نريد"

_ (8) الشهاب: ج 3، المجلد 14. ص 105. (9) الشهاب: ج 3، المجلد 14. ص 105.

جاء فيها " ... جهِلَ قومٌ من ذوي السلطةِ فَحسبوا- وهم جد عالمين بما فيه الأمة من جوع وفاقة- أَنّنا قومٌ لا نريد إلا الخبزَ. وأن الخبزَ عندنا هو كلُّ شَيء، وأننا إذا مُلِئت بطونُنا مهَّدنا ظهورَنا، وأنهم إذا أَعطونا الخبزَ فقد أَعطونا كل ما نطلب؛ إذ الخبز- في زعمهم- هو كلُّ ما نريد، فإذا حادثناهم في حالنا سَكتوُا عن كلِّ شيء إلا عن الجوعِ والخبزِ ... " ... لا يا قومُ إننا أَحياء، وإننا نريد الحياةَ وللحياة خُلقْنا، وأن الحياة لا تكونُ بالخبزِ وحدَه، فهنالك ما علِمتم من مَطالبِنَا العِلمية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وكلُّها ضرورياتٌ في الحياة، ونحن نفهَم جيِّدا ضروريتَها للحيَاة. وقد بذلنا فيها لكم ما كان- يوما- سَبباً قوياً في حَياتِكم، فلا تبخَلوا علينا اليومَ بما فيه حياتُنا، إن كنتم مُنصِفِين، وللأيام والأمم مقدِّرين. وإلاَّ فاللهُ يحكمُ بينَنَا وبينَكُم، وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ" (10). وإذا لم يفلح المستعمر في كبت أصوات الحق بملء البطون عمد إلى ملء السجون، برجال السياسة والعلماء الأحرار، ليثنى الأمة عن عزيمتها، لكن ابن باديس يحول تلك الويلات إلى مصدر تفاؤل، يقوى الإرادات، ويبشر بالنصر القريب؛ فيعلن أن الحياة لا تكون شيئا إلا إذا ازدانت بالخطوب، وحفت بالمكاره، ويقرر أن السعادة إنما هي في التضحية والآلام، لا في السلامة والنعيم؛ فانظر إليه كيف يهنىء أمته المجاهدة بعيد الفطر المبارك، إذ يقول:

_ (10) الشهاب: ج 9، المجلد 12 - رمضان 1355هـ/ ديسمبر 1936م.

"كنا قبلَ اليوم، نهنِّئُ الأمةَ الجزائرية، بمثل هذا العيد وليس لها من مظاهرِ السعادةِ إلا ما نرجُوه لها وناملُ؛ أما اليوم، وهي في طور جديد من أطوار حياتها، هو أساس سعادتها، طورٌ سامت به شقيقاتِها،. هنا وهنالك؛ فنهنئُها، ومن أبنائها من هو سجين في سبيل العِلْم والهِدَاية، ومن هو سجين في سبيل السياسةِ والحقوقِ المغصوبةِ، وأمة أَخذتْ تقدمُ الضَّحايا في سبيل سعادتِها، حقيقةٌ بأن تنالَ السعادةَ وتهنأَ بهَا ... " (12). ... وقد صدقت الأيام رأي إمامنا الحكيم؛ فإن الجزائر لم تنتزع استقلالها وحريتها، ولم تحقق سيادتهما الكاملة إلا بتضحيات جسام، تتمثل في مليون ونصف مليون من الشهداء الأبرار، فليس غريبا أن تكرمه الثورة الجزائرية الوفية لمبادئها؛ فتربط، في عهد الاستقلال، ذكرى وفاته (16 أفريل) بيوم "العلم"، معبرة بذلك على أكثر من مغزى: فاحتفال الجزائر بيوم العلم، في ذكرى وفاته، إنما هو احتفاء بالمعاني التي يمثلها ابن باديس: احتفاء بالعلم الذي لا يتم شيء صالح للإنسان، في حياته المادية والروحية، بدونه؛ واحتفاء بقيم الشعب التي مثلها، إيمانا وسلوكا؛ واحتفاء بالتفاني في الجهاد من أجل الشعب والوطن. فابن باديس خير أنموذج يحتذيه شباب الجزائر، في الحاضر والمستقبل، كلما عبر عن ذلك، شاعر النهضة الجزائرية الحديثة، محمد العيد خليفة- رحمه الله- في مناجاته لروح الإمام الرائد إذ يقول:

عبدَ الحميد لعلَّ ذكرَكَ خالدٌ … ولعلَّ نُزْلَكَ جنَّةٌ وحريرُ ولعلَّ غرسَكَ في القرائحِ مثمِرٌ … ولعلَّ وَرْيَك للعقولِ منيرُ نَمْ هَادئاً؛ فالشَّعبُ بعدَك راشدٌ … يختَطُّ نهجَك في الهدَى ويسيرُ لا تخْشَ ضَيْعةَ ماَ تَركْتَ لنا سُدى … فالوارِثونَ لمَا تَركْتَ كَثيرُ (13) لقد كان الإمام عبد الحميد بن باديس يؤمن، إيمانا قويا، بأن نهضة الجزائر، من كبوتها، لن تكون إلا على سواعد شبابها؛ فعمل على إعداده- تعليما وتهذيبا- بواسطة مساجد الوعظ والإرشاد، ومدارس التربية والتعليم، ونوادي التثقيف والتوجيه، وجمعيات التكوين والتنظيم، والصحف والمجلات، لتحرير الوطن من أغلال الاحتلال والاضطهاد، مزودا بالأسلحة الضرورية لتحقيق النصر! يَا نشءُ أَنتَ رجاؤُنا … وبكَ الصَّباحُ قدِ اقتربْ خذْ للحياةِ سِلاحَهاَ … وَخُضِ الخُطُوبَ ولا تَهَبْ وقد طبق رجال ثورة نوفمبر الظافرة خطته المحكمة هذه - بعد أربعة عشر عاما من وفاته- وهي تتمثل في: أ- سحق الظالمين المحتلين: وأذَقْ نفوسَ الظالِمينَ … السُّمَّ يُمزَجُ بالرهبْ ب- استئصال حذور الخائنين الذين أعمتهم أنانيتهم عن واجبهم الوطني المقدس: واقلَعْ جُذورَ الخائِنينَ … فمِنهمُ كلُّ العَطَبْ

_ (13) من مقطوعة ارتجلها الشاعر عندما وقف، لأول مرة، عل قبر الإمام. وقد نقشت على رخامة ضريحه.

ج- تعبئة الجامدين حتى يكونوا للوطن لا مع اعدائه: واهزُزْ نفوُسَ الجامِدينَ … فرُبَّما حَيِيَ الخَشبْ د- أن يكون الاستقلال وسيلة إلى بناء مجتمع الكفاية والعدل: وارْفَع منارَ العدلِ والْإِحْسانِ … وَاصدُمْ مَن غَصَبْ ... مادة الكتاب، ومنهاج الإمام في شرح الحديث: هذا؛ وقد اعتمدنا، في إعداد هذا الكتاب: 1 - الأحاديث النبوية التي شرحها الإمام ابن باديس في مجلته (الشهاب)، تحت عنوان: ((مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير وحديث البشير النذير)). 2 - كل ما عثرنا عليه من آثاره المكتوبة، حول السنة النبوية وصاحبها، صلى الله عليه وسلم، المنثورة منها والمنظومة؛ مما نشر في مجلته (الشهاب)، وفي جرائد جمعية العلماء، المتعاقبة في الصدور، كالسنة والبصائر وغيرهما. ... أما منهجه في شرح الحدث، فيتمثل في الخطوات التالية: أ- تمهيد: يهيىء القارئ لإدراك الموضوع الذي يعالجه الحديث النبوى. ب- السند: يذكر فيه الرجال الذين رووا الحدث، ومصادره ورتبته العلمية والعملية. ج- المتن: يتعرض فيه إلى ألفاظ الحديث وعباراته، وإلى مختلف الروايات التي ترد بها بعض الأحاديث.

د- الألفاظ والتراكيب: يشرح ألفاط- الحديث شرحا لغويا يبرز معانيها، في عبارات واضحة، تساعد على فهم الحديث، متعرضا- في بعض الأحيان- إلى ما يتصل ببعض التراكيب من قواعد اللغة وبلاغتها، لمزيد من الإيضاح والبيان. ه- المعنى: يعمد فيه إلى إيضاح المعنى العام للحديث، يستوعب عناصره الأساسية، ويتعرض لمختلف الأوجه التي ترد بها بعض الأحاديث، في تركيز واعتدال. و- إستنباطات: يستنبط مما يرشد إليه الحديث النبوي من حقائق وأحكام وقيم مختلفة، نفسية وأخلاقية واجتماعية وتاريخية وتشريعية وكونية؛ مطبقا ذلك كله على البيئة الجزائرية والأمة الإسلامية، والمجموعة الإنسانية، على غرار منهاجه في تفسير القرآن الكريم. وهذه الخطوات، كما نرى، منهجية تربوية شاملة، تربط الماضي بالحاضر، وتطبق الأحكام المستنبطة على الواقع العملي، وتوجه إلى مواطن القدوة والأسوة، ببيان ما قامت عليه الأحكام الشرعية، والآداب الإسلامية، من علل وأسباب، وما ترمى إليه من حكم ومقاصد، كل ذلك بأسلوب عربى مبين، تتقبله القلوب والعقول بالرضا والانشراح، والاقتناع بأن مبادئ الإسلام، هي الكفيلة بإسعاد المؤمنين العاملين بهديها، من الأفراد والجماعات، في كل زمان ومكان. ... ومن المفيد أن نسجل لناشئتنا، الحريصة على معرفة تاريخ الدعوة الإسلامية ورجالها، أن المنهاج الذي اعتمده ابن باديس وصحبه، من علماء الإصلاح بالمغرب الإسلامي، إنما هو امتداد مبارك للثورة الإسلامية التي فجرتها روح الأفغاني،

وأرست دعائمها عبقرية الإمام عبده والشيخ رشيد رضا، بالمشرق الإسلامي ... وقد سجل هذه الحقيقة الشيخ المرحوم محمد العيد، إذ يقول مخاطبا ابن باديس، في الحفل الذي أقيم له بمناسبة ختمه تفسير القرآن الكريم: حكيْتَ جمَالَ الدِّينِ في نَظَراَته … كأَنَّ جمالَ الدين فِيكَ مصوَّرُ (14) وأَشْبهْتَ في فقه الشريعةِ عبدَه … فهلْ كنُتَه، أَمْ عبْدُه فيكَ يُنشَرُ؟ ومما يجب أن تعرفه ناشئتنا، أيضا، أن إمامنا ابن باديس لم يحقق للجزائر نهضتها المباركة، على أساس متين من كتاب الله وهدي رسوله، صلى الله عليه وسلم، إلا بالتعاون المتين إخوانه العلماء العاملين؛ فقد قال، رحمه الله، في معرض الحديث عمن كان لهم الفضل في تكوينه ونجاحه في أعماله، بعد والديه ومشائخه، ومشيدا بالروح الجماعية العالية التي تربط بين العلماء الجزائريين في عهده: " ... ثم (الفضل) لإخواني العلماء الأفاضل الذين وازروني في العمل، منذ فجر النهضة إلى الآن؛ فمن حسن حظ الجزائر السعيد، ومن مفاخرها التي تتيه بها على الأقطار، أنه لم يجتمع، في بلد من بلدان الإسلام- فيما رأينا وسمعنا وقرأنا- مجموعة من العلماء، وافرة الحظ من العلم، مؤتلفه القصد والاتجاه، مخلصة النية، متينة العزائم، متحابة في الحق، مجتمعة القلوب على الإسلام والعريية ... قد ألف يينها العلم والعمل مثلما اجتمع للجزائر في علمائها الأبرار؛

_ (14) ديوان محمد العيد، مطبعة البعث، قسنطينة 1967 - [ص:156].

فهؤلاء هم الذين ورى بهم زنادي، وتأثل بطارفهم تلادي. أطال الله أعمارهم ورفع أقدارهم" (15). رحم الله ابن باديس؛ فقد قضى كل حياته المباركة، من أجل الإسلام والجزائر، في جهاد مستمر كالزمان، وثبات لا يتزحزح كالجبل، وإيمان لا يتغير كالحق، ما أحجم عن غايته يوما، ولا عاقه عن أداء واجبه وعد أو وعيد، ولا نال من نفسه الأبية ترغيب أو ترهيب؛ بل ظل يواصل ثورته الإاصلاحية الشاملة، حتى النفس الأخير من عمره، الطافح بجلائل الأعمال، وحميد الخصال؛ مما يجعل ذكراه حية في النفوس، وذكره أنشودة ترددها الألسنة والأقلام، بحب واعتزاز، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} (16). وقال عليه الصلاة والسلام، فيما رواه مسلم عن أبي هريرة: «إِنَّ اللهَ تَعَالَى إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا، دَعَا جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقَالَ: إِنِّي أُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبَّهُ، فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ؛ ثُمَّ يُنَادِي فِي السَّمَاءِ، فَيَقُولُ: إِنَّ اللهَ يُحِبُّ فُلَانًا، فَأَحِبُّوهُ، فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، قَالَ: ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ». ... ذلكم، أيها القراء الكرام، الإمام عبد الحميد بن باديس، يقدم إليكم نفسه بنفسه، بما يساعدكم على فهم كتابه: ((مَجَالِسُ التَّذْكِيرِ مِنْ حَدِيثِ الْبَشِيرِ النَّذِيرِ))، وغيره من آثاره. والله نسأل أن يجعلنا خير خلف لخير سلف، عقيدة وجهادا من أجل الخير والحق والعدل؛ وصلى الله على سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين. عبد الرحمن شيبان

_ (15) ش: ج 4، م 14 - جمادى الأولى 1357ه - جوان 1938م. (16) سورة مريم- الآية 96 - تفسير القرطبي.

أقسام الكتاب

… أقسام الكتاب … ـ[القسم الأول: مجالس التذكير من حديث البشير النذير.]ـ يتضمن الأحاديث التي شرحها الإمام ابن باديس في مجلة (الشهاب) تحت هذا العنوان. ـ[القسم الثاني: أحاديث في أغراض مختلفة.]ـ يتضمن موضوعات تدور حول أحاديث نبوية شريفة نشرت في (الشهاب) وغيرها. ـ[القسم الثالث: موضوعات متصلة بالسنة.]ـ جمعت من مختلف صحف جمعية العلماء المسلمين الجزائريين. ـ[القسم الرابع: موضوعات متصلة بصاحب السنة صلى الله عليه وآله وسلم.]ـ يتضمن مقالات وقطعا شعرية كتبها الإمام ابن باديس بمناسبة ذكريات المولد النبوي الشريف، ونشرت في مختلف صحف جمعية العلماء المسلمين الجزائريين. ـ[القسم الخامس: الملحقات.]ـ درس ختم الموطأ- الاحتفال بختم الموطأ- المصلحون والسنة ــــــــــــــــــــــــــــــ

مجالس التذكير

مجالس التذكير ننشر في هذا الباب من (مجلة الشهاب) ما فيه تبصرة للعقول، أو تهذيب للنفوس من تفسير آية كريمة، أو حديث شريف، أو توضيح لمسألة في أصول العقائد أو أصول الأعمال معتضدين بأنظار أئمة السلف الذين لا يرتاب في رسوخ علمهم، وكمال إيمانهم، وأئمة الخلف الذين درجوا على هديهم في نمط وسط بين الاستقصاء والتقصير. ــــــــــــــــــــــــــــــ عبد الحميد بن باديس

_ الشهاب ج1، م5. رمضان 1347ه، فيفرى 1929م

خطبة الافتتاح

خُطْبَةُ الِافْتِتَاحِ ‹‹ نُورِدُ فِيمَا يَلِي الْخُطْبَةُ الَّتِي يَفْتَتِحُ بِهَا الشَّيْخُ ابْنُ بَادِيسَ دَرْسَهُ فِي التَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ›› ــــــــــــــــــــــــــــــ الْحَمْدُ للهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَتُوبُ إِلَيْهِ، وَنَعُوذُ بِهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا .. مِنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ ... وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ. وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ .. أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ ...

مجالس التذكير من حديث البشير النذير

مَجَالِسُ التَّذْكِيرِ مِنْ حَدِيثِ الْبَشِيرِ النَّذِيرِ

الآية الخالدة لنبوة خاتم الأنبياء والمرسلين - صلى الله عليه وسلم-

الْآيَةُ الْخَالِدَةُ لِنُبُوَّةِ خَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ‹‹أَبُو هُرَيْرَةَ قال: قَالَ رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «مَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ نَبِيٌّ إِلَّا اُعْطِيَ مِنَ الْآيَاتِ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُهُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللهُ إِلَيَّ، فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ». رواه البخاري ومسلم وغيرهما.›› ... ــــــــــــــــــــــــــــــ لما كان المقصود من الرسالة هو هداية الخلق، وإقامة الحجة عليهم، كان الرسل- صلوات الله عليهم- أكمل الناس في أخلاقهم، وأنزههم في سيرتهم، معروفين بذلك بين أقوامهم قبل نبوتهم، ثم إذا بعثهم الله تعالى آتاهم من العلم وقوة الإدراك ووضوح البيان ما تنهض به حجتهم، وتتضح به دعوتهم، ويقطع بكل من يعأرضهم بشبهة، ويموه بباطل. وإذا قرأت ما قصه علينا القرآن العظيم من مواقف الأنبياء في دعوتهم لأقوامهم- رأيت كيف أنهم كانوا يدعون الناس بالحجج والبراهين، والأدلة العقلية الجلية، وأنهم كانوا إذا سئلوا الآيات المعجزات الخارقة للعادة ردوا الأمر إلى الله، ونفوا أن تكون لهم قدرة على الإتيان

تفرقة وترجيح

بها إلا بإذن الله كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ}. فيظهر الله على أيديهم الآيات تأييدا لهم وتخويفا لأقوامهم، وقطعا لمشاغبتهم، فيخضع لها بعضهم، ويستمر الأكثرون على العناد، فما من نبي من الأنيياء إلا وقد أعطاه الله من الآيات والمعجزات ما مثله في وضوحه وظهوره، والعجز عن معأرضته ما يؤمن عليه العباد، ويتفقون عليه لولا ما يصدهم عنه من العناد، وهو معنى قوله- صلى الله عليه وآله وسلم- «ما من الأنبياء نبي إلا أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر». والنبي- صلى الله عليه وآله وسلم- قد أوتي مثل هذه الآيات، وقد نقل الكثير منها كثير من أصحابه- رضي الله عنهم- واشتهرت عند أئمة الحديث والنقل، غير أن آيته الخالدة الدائمة كعموم رسالته ودوامها هي: القرآن العظيم، وهو الوحي الذي أوحاه الله إليه، فهي المعول عليها في دوام الحجة على تعاقب العصور والأجيال، اذ لا يقوم غيرها مقامها في بقائها مشاهدة لجميع الناس، ولذا حصر آيته فيها فقال: «وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي». ‹‹تفرقة وترجيح››: آيات الرسل- صلوات الله عليهم- كانت معجزات كونية لا يشهدها إلا من حضرها ثم تبقى أخبارا يمكن للجاحد إنكارها، ويتأتى للمشاغب أن يصنع من الخزعبلات والمخارق ما يموه به على ضعفة العقول ويدعي مُمَاثلتها. وآية النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- وهي القرآن العظيم معجزة علمية عقلية يخضع لسلطانها كل من يسمعها ويفهمها ولا يستطيع معأرضتها، لا في لفظها وأسلوبها وبيانها الذي عجزت عن معأرضة أقصر سوره العرب على ما كان من حميتها وأنفتها وشدة رغبتها في إبطالها لو وجدت سبيلا

تفريع

إليها فقط- بل لا تستطاع معأرضتها فيما اشتملت عليه من أصول العلوم التي يحتاج إليها البشر في كمالهم وسعادتهم أفرادا وجماعات، وأمما وما اشتملت عليه من الأدلة القاطعة والحكم الباهرة، في كل ما دعت إليه إلى ما اشتملت عليه من حقائق كونية كانت مجهولة عند البشر حتى كشفها العلم في هذا العصر مثل انباء الخلق كله على أساس الزوجية في أشياء كثيرة. مصداق قوله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ}. فبهذا كانت آية النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- أعظم الآيات وأبقاها، وكانت مغنية عن غيرها كافية عما عداها، كما قال تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ}. ‹‹تفريع››: لما بقيت هذه الآية الكبرى على العصور- وانبنت على الاحتجاج بالعلم والعقل كان لها في كل عصر أتباعها الكثيرون عن اقتناع واطمئنان، ويزداد ويكثر عددهم بتوالي الأزمان، ويكثر الداخلون فيهم بقدر ما يزداد تقدم البشر في العلم والعرفان، وقد شوهد هذا اليوم وقبل اليوم، ونحن نرى في هذا العصر كيف ينتشر الإسلام تباعا لهذه الآية بين الأمم وفي علمائها دون نشر للدعوة من المسلمين تبينها، ولا قوة لهم تؤيدها، وإنما بما فيه من علم وحجة وأدب وحكمة تخضع العقول وتجذب القلوب، ولهذا فرع النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- على كون آيته وحيا رجاء أن يكون أكثر الأنبياء- صلوات الله عليهم- اتباعا يوم القيامة الذي تظهر فيه التابعية الصادقة فقال: «فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ».

إنفراده- صلى الله عليه وآله وسلم- بالاتباع من يوم بعثته

‹‹إنفراده- صلى الله عليه وآله وسلم- بالاتباع من يوم بعثته››: ليس المنتمون لموسى- صلى الله عليه وسلم- ولعيسى - صلى الله عليه وسلم- بأتباع لهم، لأن دعوة الأنبياء- صلوات الله عليهم- واحدة، ودينهم- وهو الإسلام- واحد، وإن اختلفت بعض الفروع العملية في شرائعهم، فمن لم يؤمن بواحد منهم كمن لم يؤمن بهم كلهم، وما كان محمد- صلى الله عليه وآله وسلم- بِدعاً من الرسل، وما جاء إلا بمثل ما جاؤوا به، وما جاء إلا مصدقا لهم. فالذين لم يتبعوه من المنتمين إليهما -عليهما السلام- غير متبعين لهما، فانقطعت تابعيتهما ببعثة محمد- صلى الله عليه وآله وسلم- فمن آمن به كان من اتباعه وإلا كان من الهالكين (1). وقد قال- صلى الله عليه وآله وسلم- «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ، وَلَا نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ، إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ» رواه مسلم. ‹‹إئتساء››: كل داع له من الأجر مثل أجور من اتبعه على دعوته لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، فرجا النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- كثرة أتباعهم، إذ في ذلك انتشار الهداية، وكان- صلى الله عليه وآله وسلم- أحرص الناس على هداية الناس وفي ذلك مضاعفة أجره وجزائه عند الله، فلنا فيه الأسوة الحسنة بالحرص على نشر هدايته، وتبليغ دعوته، ورجاء كثرة الأجر والثواب بكثرة ما نوفر من اتباعه، فليعمل العاملون لهذا وليجهدوا فيه. وقد رجا النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- كثرة أتباعه لدوام وظهور آيته الخالدة وهي القرآن العظيم، فعلى الناشربن لهدايته، والمبلغين لدعوته، أن يجعلوا القرآن أمامهم وحجتهم ومرجعهم، فإنه

_ (1) في الأصل: من المهالكين.

هو كتاب الدعوة، ومنشور الهداية، ومظهر الحجة. وأتباع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم- هم أتباع القرآن وخلفاؤه في التبليغ، وورتثه في العلم هم الذين يبلغون القرآن ويتلون القرآن، وينذرون بالقرآن كما كان هو- صلى الله عليه وآله وسلم- كذلك وكما قال الله فيه: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ}، {لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ}، {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ}. جعلنا الله ممن اتبعوا سنته، ونشروا هدايته، وبلغوا حجته غير مبدلين ولا مغيرين (1).

_ (1) ش: ج 3، م 11 - غرة ربيع الأول 1354ه- 3 جوان 1935م.

التوجه إلى الله برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

التَّوَجُّهُ إِلَى اللَّهِ، بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآَلِهِ وَسَلَّمَ قال أبو عيسى الترمذي: ‹‹حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ َنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ نَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ: أَنَّ رَجُلًا ضَرِيرَ البَصَرِ أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: أُدْعُ اللَّهَ أَنْ يُعَافِيَنِي. قَالَ: «إِنْ شِئْتَ دَعَوْتُ وَإِنْ شِئْتَ صَبَرْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ». قَالَ: فَادْعُهْ. قَالَ: فَأَمَرَهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ فَيُحْسِنَ وُضُوءَهُ وَيَدْعُوَ بِهَذَا الدُّعَاءِ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ وَأَتَوَجَّهُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ إِنِّي تَوَجَّهْتُ بِكَ إِلَى رَبِّي فِي حَاجَتِي هَذِهِ لِتُقْضَى لِيَ، اللَّهُمَّ فَشَفِّعْهُ فِيَّ»، - هذا حديث حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث أبي جعفر وهو غير الخطمي.›› ... ــــــــــــــــــــــــــــــ السند: محمود بن غيلان ثقة من رجال البخاري ومسلم. عثمان بن عمر هو ابن فارس العبدي المتوفي سنة 209ه ثقة روى عنه الستة، وهو الراوي عن شعبة ولهم عثمان بن عمر بن موسى التيمي متقدم غير هذا، أبو جعفر. هكذا عند الترمذي غير منسوب وقال فيه هو غير الخطمي يعني أبا جعفر يزيد بن عمير الأنصاري الخطمي، لكن ابن ماجة قال: حدثنا أحمد بن منصور

مخرجو الحديث

ابن يسار ثنا عثمان بن عمر ثنا شعبة عن أبي جعفر المدني إلى آخر السند والمتن. فصرح بأنَّ أبا جعفر هو المدني. وهذا هو أبو جعفر القاري يزيد بن القعقاع. قال ابن سعد: كان ثقة قليل الحديث وكان إمام أهل المدينة في القراءة فسمي القارئي لذلك. عمارة بن خزيمة بن ثابت الأنصاري روى له أصحاب السنن الأربعة، وثقه النسائي وابن حبان وابن سعد. عثمان بن حنيف هو الأنصاري الأوسي الصحابي المشهور. مخرجو الحديث: رواه ابن ماجة في باب ما جاء في صلاة الحاجة من سننه والنسائي والحاكم والبيهقي وابن خزيمة والطبراني. رتبة الحديث العلمية والعملية: قال فيه الترمذي كما تقدم: حسن صحيح غريب. فالصحيح ما رواه العدل الضابط عن مثله إلى آخر سنده سالما من العلة والشذوذ. فإذا خف الضبط في بعض رواته فهو الحسن. وما يقول فيه أبو عيسى الترمذي حسن صحيح أقوى مما يقول فيه حسن فقط لأن وصفه بالصحة مع وصفه بالحسن يفيد أن خفة الضبط في بعض رجاله تكاد لا تؤثر عليه حتى كأنها لم تحطه عن رتبة الصحيح التام. وأما الغريب فهو ما انفرد بروايته راوٍ فقط. وإذا كان ذلك المنفرد ثقة فذلك الانفراد لا يضر. فالغرابة لا تنافي الصحة والحسن، وغرابته جاءته من انفراد أبي جعفر به كما تقدم. وصححه أيضا ابن ماجة والحاكم والبيهقي والطبراني. فبعدما عرفنا من حال سنده وتصحيح هؤلاء الأئمة له حصل لنا العلم الكافي- وهو الظن الغالب- بثبوته. وحيث كان بهذه المنزلة من الثبوت فإنه صالح لاستنباط الأحكام الشرعية العملية منه.

ألفاظ المتن

ألفاظ المتن: زاد ابن ماجة بعد قوله: (فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه) قوله (ويصلي ركعتين) ولذلك أخرجه في باب ما جاء في صلاة الحاجة. وهذه زيادة عدل فهي مقبولة والأمر بالوضوء مما يؤيدها، وزاد النسائي بعد قوله: اللهم شفعه في: وشفعني في نفسي، فرجع وقد كشف الله عن بصره. المفردات: (التوجه) إلى الشيء هو القصد إليه فأتوجه إليك أي أقصد إليك و (الباء) في بنبيك وفي إني توجهت بك هي باء الاستعانة والمستعان به هو السبب المحصل للمستعان عليه ولذلك جعل بعضهم باء الاستعانة من باء السببية، فالنبي- صلى الله عليه وآله وسلم- مستعان به على السؤال أي على نجح السؤال بحصول الشيء المسؤول من الله تعالى ومستعان به على التوجه بمعنى القصد، أي على نجح ذلك القصد بحصول المطلوب منه تعالى فهو متوصل به إلى نجح السؤال ونجح القصد، وكل ما يتوصل به إلى الشيء يقال فيه وسيلة إليه، فالسؤال به توسل به، فيمكن أن تسمي هذه الباء باء التوسل وهي الداخلة على ما هو وسيلة في حصول شيء. و (الهاء) في قوله فادعه هاء السكت أو ضمير عائد على الله تعالى (الشفاعة) سؤال الخير لغير السائل، فقوله شفعه فيّ أي أقبله في أي أقبل دعاءه وسؤاله في. التراكيب: قوله أسالك وأتوجه إليك بنبيك، وقوله إني أتوجه بك، يحتمل أن يكون على ظاهره، فالسؤال والتوجه والتوسل بذات النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- نظرا لمقامه عند الله تعالى، ويكون هذا نظير قول القائل أسألك بالله من قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَّاءَلُونَ بِهِ} وفي سنن أبي داود والنسائي مرفوعا: «وَمَنْ سَأَلَكُمْ بِاللَّهِ فَأَعْطُوهُ» وقول القائل: أسألك بالرحم من قوله تعالى: {وَالْأَرْحَامٍ} بالجر في قراءة الشاميين، وقول عائشة لفاطمة رضي الله تعالى

المعنى

عنمها: "عزمت عليك بما لي عليك من الحق لما حدثتني ما قال لك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم" ويحتمل أن يكون على تقدير مضاف هكذا بدعاء نبيك في العبارة الأولى وبدعائك في العبارة الثانية لأنه إنما سأله أن يدعو له، فيكون التوسل بدعائه ولقوله فشفعه في، أي أقبل دعاءه لي. وجملة فشفعه معطوفة على جملة أسألك. وجملة إني توجهت بك معترضة بين المتعاطفين. المعنى: هذا رجل أعمى جاء النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- يسأله أن يدعو الله تعالى له أن يشفيه من العمى، فخير بين أن يدعو له وأن يصبر على بلواه، وأخبره أن الصبر خير له من جهة الأجر والمثوبة، فاختار الرجل أن يدعو له فأمر أن يتوضأ وضوءا حسنا مستكملا لفرائضه وفضائله في ظاهره وباطنه وأن يصلي ركعتين ويدعو بالدعاء المذكور. والظاهر أنه بعد الفراغ من الركعتين مثل ما جاء في دعاء الاستخارة بعد ركعتيها. وكان الدعاء سؤالا من الله تعالى وتوجها إليه وتوسلا بنبيه أو بدعائه وثناء على النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- بما بعثه الله من الرحمة المناسب ذكرها غاية المناسبة في مقام الدعاء والتوسل، وخطابا له عليه السلام بأنه توجه به إلى ربه لتقضى حاجته ثم رجوعا إلى سؤال الله تعالى أن يقبل فيه شفاعة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-. سؤال: الرجل قد اختار أن يدعو له فأمره أن يتوضأ ويصلي ويدعو بذلك الدعاء ولم يدع هو له مع أنه قال له في التخيير إن شئت دعوت وإن شئت صبرت. جوابه: الظاهر أنه دعا له وإن لم يصرح بذلك في متن الحديث لقول الأعمى اللهم شفعه في، أي اقبل دعاءه وسؤاله لي.

الأحكام

الأحكام: لم يدع الأعمى النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- ولم يسأله أن يشفيه هو لأن الدعاء لقضاء الحوائج وكشف البلايا ونحو ذلك هو العبادة، وفي حديث النعمان بن بشير المرفوع: (الدُّعاءُ هوَ العِبَادةُ) رواه أحمد وأصحاب السنن. والعبادة لا تكون إلا لله لم يدعه لا وحده ولا مع الله لأن الدعاء لا يكون إلا لله. وهذا بخلاف ما يفعله الجهال والضلال من طلبهم من المخلوقين من الأحياء والأموات أن يعطوهم مطالبهم ويكشفوا عنهم بلاياهم، وإنما سأله أن يدعو له الله تعالى أن يعافيه وهذا جائز أن يسأل المؤمن من أخيه في حال حياته أن يدعو الله تعالى له، ومن هذا حديث البخاري في سؤال أم أنس ابن مالك من النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- أن يدعو لأنس خادمه فدعا له، ومن هذا ما رواه الترمذي وأبو داود عن عمر بن الخطاب قال استأذنت النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- في العمرة فأذن لي وقال: أشركنا يا أخي في دعائك ولا تنسنا، زاد في رواية الترمذي فقال كلمة ما يسرني أن لي بها الدنيا. يعني قوله: أشركنا الخ ثم إنه توسل بذاته بحسب مقامه عند ربه، وهذا على الوجه الأول من الوجهين المتقدمين في فصل التراكيب، أو توسل بدعائه وهذا على الوجه الثاني منهما. فمن أخذ بالوجه الأول قال يجوز التوسل بذاته، ومن أخذ بالوجه الثاني قال إنما يتوسل بدعائه، ثم إن من أخذ بالوجه الأول فهذا الدعاء حكمه باق بعد وفاته كما كان في حياته، ومن أخذ بالوجه الثاني لا يكون بعد وفاته. لأن دعاءه إنما كان في حياته لمن دعا له. فالوجهان المتقدمان كما ترى- هما مثار الخلاف في جواز التوسل بذاته وعدم جوازه، فمن أخذ بالوجه الأول جوز، ومن أخذ بالثاني منع.

ـ[سؤال]ـ: فإن قلت قد عرفنا القولين وعرفنا مدركهما فما هو الراجح عندك منهما. ـ[جوابه]ـ: الراجح هو الوجه الأول الذي يجيز السؤال بذات النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- نظرا لمقامه العظيم عند ربه لوجهين، الأول: أن ذلك هو ظاهر اللفظ ولا موجب للتقدير ولا منافاة بين أن يكون في قوله أسالك وأتوجه إليك بنبيك وقوله إني توجهت بك قد سأل بذاته، وفي قوله اللهم شفعه في قد سأل قبول دعائه له وسؤاله - والثاني أنه لما كان جائزا السؤال من المخلوقين بما له من مقام عظيم عندهم فلا مانع من أن يسأل الله تعالى بنبيه بحسب مقامه العظيم عنده. ـ[سؤال آخر]ـ: بعدما رجحت جواز التوسل بذاته -صلى الله عليه وآله وسلم - نظرا لمقامه العظيم عند الله تعالى، فهل يقاس عليه غيره من كل ذي مقام عند الله تعالى فيتوسل به أو يكون هذا مقصورا عليه؟ ـ[جوابه]ـ: القياس في باب العبادات ضعيف وإذا ارتكب هنا فلا يقاس عليه إلا كل ذي مقام محقق عند الله تعالى. ـ[سؤال آخر]ـ: بعد ما عرفنا حكم سؤال الله تعالى بأهل المكانة عنده من مخلوقاته فهل الأفضل هو سؤاله بمخلوقاته أو سؤاله بأسمائه وصفاته وأعمال العبد في طاعاته؟ ـ[جوابه]ـ: الأفضل هو سؤاله تعالى بأسمائه وصفاته وأعمال العبد في أنواع طاعاته، وذلك لوجهين: الأول أن ذلك هو مقتضى النص القرآني الصريح القطعي في قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} ويشمل ذلك تسميته بها ونداءه بها. الوجه الثاني ما جاء في السنة العملية في أحاديث كثيرة ثابتة مستفيضة، كان سؤاله تعالى فيها كلها

بأسمائه وصفاته منها حديث: «أسالك بكل اسم هو لك سميت به نفسد الخ» رواه أحمد في مسنده عن عبد الله بن مسعود ومنها حديث رجل كان يصلي في المسجد فقال اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت الحنان المنان بديع السموات والأرض يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم أسألك. فقال النبي- صلى الله عليه وآله وسلم-: «دعا الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى». رواه أصحاب السنن الأربعة من طريق أنس. ومنها حديث، إني أسألك بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق، رواه النسائي والحاكم من طريق عمار بن ياسر، وهكذا سائر الأحاديث التي جاءت في هذا الباب كلها متواردة على دعاء الله تعالى بأسمائه وصفاته، وهي كلها تحقيق وبيان لقوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا}. هذا كله في دعائه تعالى بأسمائه وصفاته وأما ما جاء في دعائه والتوسل إليه بعمل العبد في أنواع طاعاته فمنها حديث بريدة أن رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- سمع رجلا يقول: اللهم إني أسألك بأني أشهد (والشهادة عمل العبد) أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفؤا أحد. فقال رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم-: لقد سألت الله بالإسم الأعظم الذي إذا سئل به أعطى وإذا دعي به أجاب. رواه أبو داوود والترمذي وحسنه وابن ماجة وابن حبان في صحيحه والحاكم إلا أنه قال: لقد دعوت الله باسمه الأعظم وقال صحيح على شرط الشيخين، قال الحافظ عبد العظيم المنذري قال شيخنا الحافظ أبو الحسن المقدسي: وإسناده لا مطعن فيه. ومنها حديث الثلاثة الذي آووا إلى غار فانحطت على فم غارهم صخرة من الجبل فانطبقت عليهم فقال بعضهم لبعض: أنظروا أعمالا عملتموها

صالحة لله فادعوا الله تعالى بها لعله يفرجها عنكم، فدعا أحدهم ببروره والديه فانفرجت منها فرجة، ودعا الثاني بعفته عن الزنا بعد ما كاد فانفرجت فرجة، ودعا الثالث بوفائه لأجيره فانفرجت البقية. وهذا حديث صحيح مشهور رواه الشيخان وغيرهما. ومن ذلك حديث سارة زوج إبراهيم عليه السلام لما مد الجبار الظالم إليها يده يريدها على السوء، قامت توضأ (1) وتصلي وقالت: (اللهم إن كنت آمنت بك وبرسولك، وأحصنت فرجي إلا على زوجي فلا تسلط علي الكافر) فغط حتى ركض برجله، فقالت: (اللهم إن يمت يقال هي قتلته) فأرسل فعاد إليها وعادت إلى الدعاء كالمرة الأولى، وفي الثالثة تركها وقال: ارجعوها إلى إبراهيم. رواه مفصلا البخاري في كتاب البيوع من صحيحه من طريق أبي هريرة، فانظر إليها كيف توسلت لربها بإيمانها الذي هو أشرف أعمالها، وبعفتها وإحصانها لفرجها، ولم تتوسل إليه برسوله وخليله زوجها إبراهيم عليه الصلاة والسلام. ـ[سؤال آخر]ـ: بعد ما عرفنا رجحان سؤاله تعالى بالأسماء والصفات والطاعات فهل ثبت عن الصحابة سؤالهم وتوسلهم بذاته؟ ـ[جوابه]ـ: لم يثبت عن واحد منهم شيئا (1) من ذلك فيما لدينا من كتب السنة المشهورة، بل ثبت عدولهم عن ذلك في وقت مقتض له لو كانوا يفعلونه وذلك في حديث استسقاء عمر بالعباس رضي الله تعالى عنهما، فقد أخرج البخاري في صحيحه بسنده عن أنس: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب، فقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا صلى الله عليه وسلم فتسقينا، وإنا

_ (1) أصله: تتوضأ فحذفت إحدى التائين للتخفيف

تلخيص وتحصيل

نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا. قال: فيسقون. ومعنى الحديث أنهم كانوا يتوسلون بالنبي- صلى الله عليه وآله وسلم- يدعو لهم في الاستسقاء ويودعون، ثم صاروا يتوسلون بالعباس فيدعو لهم ويدعون، فالتوسل هنا قطعا بدعائهما لا بذاتهما. ووجه الاستدلال بهذا الحديث على مرجوحية التوسل بالذات: أن الصحابة لم يقولوا في موقفهم ذلك: اللهم إنا نتوسل إليك بنبينا، أي بذاته ومقامه، بل عدلوا عن ذلك إلى التوسل بالعباس يدعو لهم ويدعون كما كان النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- يفعل في الاستسقاء. ولقد استدل بعضهم بعدول الصحابة عن التوسل بذات النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- في هذا المقام على منعه. ونحن لما بينا قبل من دليل جوازه إنما نستدل بعدولهم على مرجوحيته. ـ[سؤال آخر]ـ: قد عرفنا فيما تقدم مشروعية سؤال المؤمن من أخيه المؤمن في حياته أن يدعو له، فهل يشرع الذهاب إلى القبر وطلب الدعاء من الميت! ـ[جوابه]ـ: لو كان هذا جائزا لفعله الصحابة في الحديث المتقدم، ولذهبوا لقبر النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- يسألونه أن يدعو لهم كما كان يدعو لهم في حياته، ولم يرد في حديث عن واحد منهم أنه كان يذهب إلى القبر النبوي ويطلب منه- صلى الله عليه وآله وسلم- أن يدعو له. بل جاء عن ابن عمر- وهو من عرف بشدة اتباعه وتحريه- أنه كان يقف فيسلم على النبي- صلى الله عليه وآله وسلم-، ثم على أبي بكر، ثم على عمر رضي الله تعالى عنهما، ثم ينصرف، لا يزيد شيئا، خرجه مالك في الموطأ. تلخيص وتحصيل: تحصل لنا من جميع ما تقدم: 1 - أن دعاء المخلوق وحده أو مع الله ممنوع. 2 - وأن التوسل بدعائه في حياته -وهو من المؤمنين- مطلوب ومشروع.

3 - وأن التوسل بذات النبي- صلى الله عليه وآله ومسلم- جائز مرجوح. 4 - وأن التوسل بذات غيره من أهل المكانة المحققة له وجه في القياس. 5 - وأن التوسل بذات غيره ممن ليس لنا اليقين القاطع بمقامه لا وجه له. 6 - وأن طلب الدعاء منه بعد موته بدعة لم يفعلها الصحابة. 7 - وأن الراجح في التوسل إلى الله هو التوسل إليه بأسمائه وصفاته وأعمال العبد في أنواع طاعاته. هذه سبع مسائل كثر فيها هذه الأيام القال والقيل، وتعرض لها من الكتاب الأصيل والدخيل، وقد من الله بتحريرها على هذا الوجه الذي لم أره لغيري، وقد كنت في تحريرها -علم الله- باحثا منصفا متجردا، فما كان فيها من حق وصواب فهو من الله، وما كان فيها - عياذا بالله- من باطل وخطإ فهو مني، وأستغفر الله، والخير قصدت، وحسبنا الله ونعم الوكيل (1).

_ (1) ش: ج 3، م 8 - غرة ذي القعدة 1350هـ - مارس 1932م.

فضل السجود والحث عليه

فَضْلُ السُّجُودِ وَالْحَثِّ عَلَيْهِ. ‹‹قَالَ رَبِيعَةُ بْنُ كَعْبٍ الْأَسْلَمِيُّ كُنْتُ أَبِيتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فَأَتَيْتُهُ بِوَضُوئِهِ وَحَاجَتِهِ فَقَالَ لِي: «سَلْ»، فَقُلْتُ أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الْجَنَّةِ، قَالَ: «أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ؟»، قُلْتُ: هُوَ ذَاكَ، قَالَ: «فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ» ››. رواه مسلم، واللفظ له وأبو داوود والطبراني في الكبير. ... ــــــــــــــــــــــــــــــ الراوي: هو أبو فراس قديم الصحبة، كان من أهل الصفة يلازم النبي - صلى الله عليه وآله وسلم- في السفر والحضر، مات سنة ثلاث وستين. الألفاظ: مع: ظرف مكان مبهم واسع، وهو كان يبيت عند بابه كما في رواية الطبراني وذالك هو المراد من مع هنا. حاجته: ما يحتاج إليه في الوضوء أو على وجه تسكينها هي، أو التي للتخيير أو للإضراب، وعلى وجه فتح الواو هما كلمتان: همزة الاستفهام والواو العاطفة، هو أي مسؤولي ذلك أي المذكور وهو

التراكيب

المرافقة. الإعانة: مشاركة الفاعل في العمل ليخف عليه ويسهل وينتهي منه إلى غرضه. التراكيب: حذف مفعول سل للتعميم وهو المناسب لمقام الأفضال في النوال. غير: معطوف على موافقتك من عطف لفظ في كلام على لفط في كلام آخر عند ما يقصد المتكلم ربط كلامه بكلام المتكلم قبله لنحو تلقينه فيكون مجموع الكلام هكذا: أسألك مرافقتك في الجنة أو غير ذلك، والكلام وإن كان خبرا فهو في قوة الطلب ولذلك كانت أو للتخبير. هذا كله على وجه أو التي للتخبير، وإما إذا كانت للإضراب فتقدير الكلام: بل أسأل غير ذلك. وأما إذا كانت الهمزة للاستفهام فإن الواو عطفت على جملة وتقدير الكلام أتترك ما سألت وتسأل غير ذلك، والإستفهام هنا المراد به الطلب يطلب منه أن يترك سؤال المرافقة ويسأل غيره. هو ذاك هو تفيد الحصر أي مسؤولي، هو المرافقة لا غيرها. المعنى: كان هذا الصحابي- رضي الله تعالى عنه- يخدم النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- ويبيت عند باب بيته ليأتيه بما يحتاج إليه من ماء يتوضأ به أو غيره، فأراد النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- أن يجازيه على خدمته فأمره أن يسأله ليعطيه، فأعرض هذا الصحابي عن جميع مطالب الدنيا وسأله أعز مطلب في الآخرة وهو مرافقته له في الجنة، ولما كانت هذه المرافقة تقتضي درجة رفيعة في الجنة أخص من مطلق دخول الجنة وهذه الدرجة تقتضي العمل الشاق، حاول النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- صرفه عن هذا السؤال الذي فيه العمل الشاق الذي ربما لا يطيقه

زيادة بيان

إلى غيره مما هو أسهل من المطالب، فصمم الصحابي على سؤاله وأبى أن يسأل غيره، فقبل النبي - صلى الله عليه وآله وسلم- سؤاله على أن يعينه على نفسه لتحصيل المطلوب، وأرشده إلى ما هو وسيلة في رفع الدرجات، وهو كثرة السجود، فإن العبد لا يسجد لله سجدة إلا رفعه الله بها درجة وحط عنه بها خطيئة كما ثبت في الصحيح. زيادة بيان: قد جاء هذا الحديث عند الطبراني بأبسط من رواية مسلم، وذكر الرواية المطولة يوضح لنا الرواية المختصرة، ورواية الطبراني كما في ((الترغيب والترهيب)) هي هذه: (قال كعب: كنت أخدم النبي - صلى الله عليه وآله وسلم- نهاري فإذا كان الليل آويت إلى باب رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- فبت عنده. فلا أزل أسمعه يقول سبحان الله سبحان الله سبحان ربي حتى أمل أو تغلبني عيني فأنام، فقال يوما يا ربيعة سلني فأعطيك، فقلت أنظرني حتى أنظر، وتذكرت أن الدنيا فانية منقطعة، فقلت: يا رسول الله أسألك أن تدعو الله أن ينجيني من النار ويدخلني الجنة، فسكت رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- ثم قال من أمرك بهذا؟ قلت ما أمرني به أحد ولكني علمت أن الدنيا منقطعة فانية وأنت من الله بالمكان الذي أنت منه، فأحببت أن تدعو الله لي. قال: إني فاعل فأعنِّي على نفسك بكثرة السجود). النظر في الروايتين: بينت المطولة أنه كان يخدمه بالنهار والليل، وأنه ما سأل إلا بعد النظر والتفكر، وأنه لم يسأل النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- أن يعطيه الجنة وإنما سأله أن يدعو الله تعالى له لعلمه

الجمع والترجيح

أن دعاءه مستجاب، والنبي- صلى الله عليه وآله وسلم- وعده بأنه يفعل ما طلبه منه، وهو دعاء الله تعالى له. غير أن الرواية المطولة فيها أنه سأله النجاة من النار ودخول الجنة، والرواية المختصرة فيها أنه سأل مرافقته له في الجنة وهي أخص من مطلق الدخول. الجمع والترجيح: كل ما في المطولة مما هو زائد على المختصرة غير معأرض لشيء فيها، فهو مع المختصرة حديث واحد روى مطولا مختصرا وإن تفاوتت طريقاه. وما جاء فيها معأرضا لشيء في المختصرة وهو سؤال دخول الجنة المعأرض لسؤال المرافقة، فإننا نأخذ بما في المختصرة ترجيحا لها لقوة سندها. توجيه: المرافقة في الجنة لا تقتضي المساواة في المنزلة والكرامة، أصله قوله تعالى: {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ - إلى- وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} ولهذا سألها هذا الصحابي: ولما كان من الملازمين للنبي- صلى الله عليه وآله وسلم- في الدنيا توجهت همته إلى مرافقته في الأخرى فسأله ذلك. فوائد الأحكام: في الحديث جواز قبول التبرع بالخدمة من الناس وخصوصا لأهل المقامات العامة في مصالح الناس، وفيه فضل القيام من جوف الليل - من قوله آتيه بوضوئه - وفيه سنة مكافأة المحسن على إحسانه، وفيه مشروعية سؤال الدعاء وخصوصا ممن ترجى له الاستجابة، وفيه عدم الاكتفاء بالدعاء وحده عن التوسل

إرشاد وتحذير

بالطاعات ونوافل الخيرات، وفيه فضل السجود والحث عليه، وفيه دليل لمن يقول بأفضلية كثرة السجود على طول القيام. إرشاد وتحذير: سأل هذا الصحابي النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- أن يدعو له الله ولم يسأله هو أن يعطيه الجنة، لأن الذي يعطى هو الله تعالى، ولأن الذي يسأل منه العطاء هو الله تعالى، كما قال النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- لابن عباس فيما رواه: (وإذا سألت فاسأل الله)، فمن المخلوق تسأل الدعاء ومن الخالق تسأل العطاء. ومن أدلة الأول هذا الحديث، ومن أدلة الثاني حديث أبن عباس المذكور. وكثير من الناس يسألون ممن يعظمون نفس العطاء وخصوصا من الأموات- رحمهم الله- في قبورهم. فأرشدهم بمثل ما سمعت وحذار أن تكون منهم. الترمذي وقال حسن صحيح. بيان عقيدة وإبطال ادِّعاء: لما سأل هذا الصحابي النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- وعده بالدعاء وأرشده إلى العمل الصالح وهو كثرة السجود، ولم يقل له النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- إنني ضامن لك ذلك، ولا أنت مضمون، ولا أنت في ضماني، لأن العبد لا يجوز له أن يضمن على خالقه بدون إذنه شيئا، وإذا كانت الشفاعة التي هي طلب منه لا تكون عنده إلا بإذنه فكيف الضمان الذي هو التزام على القطع، فمن الغرور العظيم والجهل الكبير والجراءة الكبرى على الله تعالى قول بعض المدعين (روح راك مضمون) وقول آخرين (من دخل دار كذا فهو مضمون) و (أنا ضامني الشيخ) و (يا دار الضمان) ونحو ذلك، مما يقوله الجاهلون، وينكره العالمون، ويبرأ منه الصالحون.

حقيقة نفسية

حقيقة نفسية: العبد بين داعيين مختلفين، دينه يدعوه إلى الحسنى وينهض به للعلاء، ونفسه تدعوه إلى السوأى وتنحط به إلى الحضيض. ولا ينحط المسلم عن مقامات الكمال إلا بإجابته داعي نفسه وإعراضه عن داعي دينه. فالنفس هي الجاذب القوي إلى دركات الانحطاط. ولما كان دعاء النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- لهذا الصحابي سببا في رفع درجاته وكانت نفسه إذا خلاها على هواها مانعة له من ذلك الرفع فصار الدعاء النبوي والنفس الأمارة كالمتنازعين فيه- أمره بأن يعينه على نفسه بكثرة السجود. ولم يقل له أعني على مطلوبك أو تحصيل مرادك، بل قال له: أعني على نفسك. وفي هذا تنبيه له على أن النفس هي المعرقلة للعبد عن الصعود في سلم السعادة، وأنه إذا قهرها وغلبها فقد تيسرت له أسباب الكمال (1).

_ (1) ش: ج 4، م 8 - غرة ذي الحجة 1350ه - أفريل 1932م.

إتباع رمضان بستة من شوال.

إِتْبَاعُ رَمَضَانَ بِسِتَّةٍ مِنْ شَوَّالٍ. (عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ- رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ-، قَالَ رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ، كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ»). رواه مسلم وأصحاب السنن وغيرهم، وجاء بمعناه عن ثوبان وأبي هريرة وجابر بن عبد الله وابن عمر. ... ــــــــــــــــــــــــــــــ المفردات: تقول العرب: اتبع الفرس لجامها، أي ألحقه بها في العطاء. يضرب مثلا في الأمر، باستكمال المعروف واستتمامه. ويصدق هذا ولو كان بين العطاء الأول والعطاء الثاني مهلة، وكذلك جاء قوله تعالى: {فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا} أي ألحقنا بعض القرون ببعض في الهلاك الناشيء عن تكذيبهم، مع أن بين كل قرن وقرن مدة طويلة. فالإتباع هو الإلحاق لشيء بشيء في أمر، سواء أكان عن اتصال أو عن انفصال. الدهر: أصل معناه: مدة الدنيا، ويطلق على أمد من الزمان قل أو كثر. والمراد به هنا السنة كما جاء مصرحا به في بعض روايات الحديث.

التراكيب

التراكيب: أفادت ثم أن الاتباع متأخر عن الصوم. وإن كان قد جاء من طريق غير أبي أيوب العطف بالواو. والضمير في كان عائد على عمل المفهوم من الكلام السابق، أي كان عمله -وهو صومه شهرا وستة أيام. المعنى: من صام رمضان، وصام بعده ستة أيام من شوال كان ذلك من عمله كصيام الدهر، لأن الله تعالى جعل الحسنة بعشر أمثالها، فشهر رمضان بعشر أشهر، وستة أيام بعده بشهرين فذلك تمام السنة. وجاء هذا التفسير عند النسائي من طريق ثوبان مرفوعا. تطبيق: قد علمت أن الإتباع يصدق بالإلحاق متصلا أو منفصلا، والفصل هنا واجب بيوم الفطر، للعلم بحرمة صومه، فمن فصل به فقط فهو متبع، ومن فصل بأكثر منه فهو متبع، ومقتضى الإطلاق في لفظة (ستا) أنه لا فرق في حصول الفضل بين أن تكون متوالية أو متفرقة، وما تقدم في فصل المعنى من حديث ثوبان يؤيد هذا الإطلاق، لأن المقصود تحصيل ستة أيام لتكون بمقتضى جزاء الحسنة بعشر ستين يوما، وهذا حاصل عند تفرقها وعند اجتماعها. الأحكام: ذهب الشافعية والحنابلة وغيرهم- وهو المصحح عند الحنفية- إلى استحباب صوم هذه الأيام، محتجين بهذا الحديث

فقه مالك واحتياطه

الصحيح الصريح. وأما المالكية فقد قال يحيى إن يحيى راوي الموطأ: سمعت مالكا يقول في صيام ستة أيام بعد الفطر من رمضان أنه لم ير أحدا من أهل العلم والفقه يصومها، ولم يبلغني ذلك عن أحد من السلف، وأن أهل العلم يكرهون ذلك، ويخافون بدعته، وأن يلحق برمضان ما ليس منه أهل الجهالة والجفاء لو رأوا في ذلك رخصة عند أهل العلم ورأوهم يعملون بذلك. ا ه والذي يظهر من عبارات مالك أن المكروه هو صوم ستة أيام متوالية بيوم الفطر كما يفهم من قوله: (في صيام ستة أيام بعد الفطر) ومن قوله (وأن يلحق برمضان ما ليس منه أهل الجهالة والجفاء) وإنما يخشى هذا الإلحاق إذا كانت متوالية ومتصلة بيوم الفطر. فالكراهة إذا عنده منصبة على صومها بهذه الصفة من التوالي والاتصال، لا على أصل صومها، وهذا هو التحقيق في مذهبه. فقه مالك واحتياطه: انبنى فقه مالك واحتياطه على أصلين: الأصل الأول- أن العبادة المقدرة لا يزاد عليها ولا ينقص منها وهو أصل عام في جميع العبادات. وفي خصوص الصيام قد ثبت نهيه -صلى الله عليه وسلم- أن يتقدم شهر رمضان بصيام يوم أو يومين، وظاهر أن وجه هذا النهي هو خوف أن يعد ذلك من رمضان. فحمى الشارع بهذا النهي العبادة من الزيادة في أولها. فبنى مالك- بسعة علمه وبعد نظره- على ذلك حمايتها من الزيادة في آخرها، فكره صوم تلك الأيام متوالية متصلة بيوم الفطر مخافة- كما قال- أن يلحق برمضان ما ليس منه أهل الجهالة والجفاء. فكان احتياطه في الأخير

مطابقا لاحتياط النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- في الأول، وذلك كله لأجل المحافظة على بقاء العبادة المقدرة على حالها غير مختلطة بغيرها، وقد جاء نظير هذا الاحتياط في الصلاة، فقد روى أبو داود في سننه أن رجلاً دخل إلى مسجد رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- فصلى الفرض وقام ليصلي ركعتين فقال له عمر بن الخطاب- رضي الله عنه-: اجلس حتى تفصل بين فرضك ونفلك، فبهذا هلك من كان قبلنا. فقال له -عليه وآله الصلاة والسلام- أصاب الله بك يا ابن الخطاب. يعني أن الذين كانوا قبلنا وصلوا النوافل بالفرائض، فأدى ذلك إلى اعتقاد جهالهم، وجوب الجميع، فأدى ذلك إلى تغيير شرع الله وهو سبب الهلاك. لا يقال أن مقدار العبادة معلوم من الدين بالضرورة، فكيف يظن أنه قد يعتقد الجميع من الأصل والزيادة عبادة واحدة، لأننا نقول إذا دام وصل النافلة بالفريضة، وطال العهد، وخلفت الخلوف، أدى ذلك أهل الجهالة إلى ذلك الاعتقاد. والاحتياط للعبادة يقتضي قطع ذلك الاعتقاد من أصله بالنهي عما يؤدي إليه وهو من سد الذرائع الذي هو أحد أصول مالك في مذهبه. ومع هذا فقد نقل الإمام القرافي عن الإمام عبد العظيم المنذري أن الذي خشي منه مالك -رحمه الله تعالى- قد وقع بالعجم فصاروا يتركون المسحرين على عادتهم والقوانين (1) وشعائر رمضان إلى آخر الستة أيام فحينئذ يظهرون شعائر العيد ا ه. فلله مالك ما أوسع علمه، وما أدق نظره، وما أكثر اتباعه فرحمة الله تعالى عليه، وعلى أئمة الهدى أجمعين.

_ (1) كذا بالأصل ولعله القوالين.

الأصل الثاني

الأصل الثاني: أن ما ورد من العبادة مقيداً بقيد يلتزم قيده، وما ورد منها مطلقا يلتزم إطلاقه، فالآتي بالعبادة المقيدة دون قيدها مخالف لأمر الشرع ووضعه. والآتي بالعبادة المطلقة ملتزما فيه ما جعله بالتزامه كالقيد مخالف كذلك لأمر الشرع ووضعه وهو أصل في جميع العبادات، ومثال ما ورد من العبادة مقيدا: التسبيح والتحميد والتكبير ثلاثا وثلاثين مرة والختم بـ: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد وهو على كل شيء قدير. فقيدت هذه العبادة المحددة بإيقاعها دبر كل صلاة، فالإتيان بها في غير دبر الصلوات مخالفة للوضع الشرعي. ومثال ما ورد مطلقا (1) لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة (2) وسبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة فيلتزمها في وقت معين من النهار، فيخرج عن مقتضى الإطلاق في لفظ يوم من نص الحديث فيكون مخالفا للوضع الشرعي. ولفظ الحديث الوارد في هذه الأيام جاء مطلقا في الاتباع صادقا بالاتصال والانفصال. وفي لفظ ستة صادقا بتواليها وتفرقها، فالتزام اتصالها وتواليها تقييد لما أطلقه الشرع وتزيد عليه. إقتداء وتحذير: هذان الأصلان اللذان قررنا بهما فقه مالك، هما أصلان مجمع عليهما، كثيرة في الشريعة المطهرة أدلتهما، والفروع التي تنبني عليهما، فلنا في مالك وغيره من أئمة الهدى القدوة

_ (1، 2) رواهما مالك في الموطأ.

إمتثال

الحسنة في التمسك بهما. فنحتاط لعبادتنا، حتى لا نخلط بين فرضها ونفلها. ونتقبل ما جاء من العبادات مقيدا أو محددا بقيده وحده، ونتقبل ما جاء منها مطلقا على إطلاقه، فلا نلتزم فيه ما يخرجه عن الإطلاق. ولنحذر كل الحذر من الإخلال بقيود الشارع أو التقييد لمطلقاته، ففي ذلك استظهار عليه، وقلة أدب معه، وتبديل لوضعه، واختيار عليه، وإنما الخير لله ولرسوله، لا لأحد من الناس، وأن الغالب على الناس أنهم لا يتعمدون الإخلال بالقيود، وإنما يتعمدون التقييد للمطلقات وأنواع الالتزامات، مع أنهما في المخالفة سواء، فلنحذر من الوقوع في مثل هذا على الخصوص. إمتثال: نصوم هذه الستة كما رغبنا نبينا، طمعا في فضل ربنا، غير ملتزمين وصلها ولا موالاتها، والله يلهمنا والمسلمين أجمعين أنواع المبرات، وإقامتها بمنه وكرمه. آمين (1).

_ (1) ش: ج3، م 7 - غرة ذي القعدة 1349ه - مارس 1931م.

أثر النيات في الأعمال.

أَثَرُ النِّيَّاتِ فِي الْأَعْمَالِ. «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ»، أخرجه الشيخان في صحيحهما ... ــــــــــــــــــــــــــــــ الألفاظ: (الأعمال): هي الأفعال التي تصدر عن الجوارح فتدخل فيها الأقوال والغالب أن الأعمال أخص من الأفعال، فهذه فيما كان عن قصد وغيره وتلك فيما كان عن قصد. (النية): هي القصد إلى الفعل. (الهجرة): الترك والمراد هنا مفارقة دار الكفر إلى دار الإسلام خوف الفتنة على الدين بالمنع من إقامته. (يصيبها): يحصل عليها. (ينكحها): يتزوجها. التراكيب: بالنيات يتعلق بمحذوف تقديره معتبرة، ودل هذا المتعلق الخاص ما جاء بعده من التفصيل بين الهجرتين والمقام الذي ألقى فيه الكلام، كما سنبينه في مورد الحديث. ونظيره في هذا التقدير قولهم: المرء بأصغريه قلبه ولسانه أي معتبر بهما.

سبب الورود

والمرء بأدبه أي معتبر أو يعتبر به والباء سببية، وإنما للحصول والمحصور فيه هو الجار والمجرور، وما أفادته الباء من معنى السببية أي لا سبب تعتبر به الأعمال إلا النيات نظيره إنما زيد قوي بقومه أي لا سبب لقوته إلا قومه. فأفاد التركيب حصر اعتبار الأعمال في نياتها والمقصود بها لا في صورها وظواهرها. ولكل امرىء خبر ما نوى أي نواه قدم عليه ليحصر فيه بإنما فأفاد التركيب أن حظ كل عامل من عمله هو ما قصده أي عين ما قصده في كميته ومقداره دون ما لم يقصد. فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله أي قصدا فهجرته إلى الله ورسوله أي وقوعا واعتبارا ففعل الشرط وجوابه لم يردا على معنى واحد، ومثل هذا يقال في الشرط الثاني وجوابه وذكر تزوج امرأة بعد دنيا يصيبها تخصيص بعد تعميم لأن ذلك الخاص هو سبب الحديث. واللام في الدنيا لام الأجل والعلة فتفيد أن طلب الدنيا أو طلب التزوج هو العلة الباعثة له دون قصد طاعة الله فلا يدخل فيه ما إذا كان الباعث هو الطاعة، وطلب هذه الأشياء، جاء على سبيل التبع. سبب الورود: قال القسطلاني: قد اشتهر أن سبب هذا الحديث قصة مهاجر أم قيس المروية في المعجم الكبير للطبراني بإسناد رجاله ثقات من رواية الأعمش. ولفظه: (عن أبي وائل عن ابن مسعود قال كان فينا رجل خطب امرأة يقال لها أم قيس فأبت أن تتزوجه حتى يهاجر فهاجر فتزوجها. قال: فكنا نسميه مهاجر أم قيس).

المعنى

المعنى: إن أعمال الناس قد تشترك في صورها ومظاهرها، حتى لا يكون في ذلك فرق بينها، ولكنها بذلك التساوي الصوري الظاهري لا تكون متساوية في الاعتبار والحقيقة وما يتبعها من القبول والرد في نظر الشرع، فقد هاجر مهاجر أم قيس كما هاجر سائر المهاجرين. الجميع قد كان منهم مفارقة الديار وترك دار الكفر إلى دار الإسلام واللحوق بالنبي- صلى الله عليه وآله وسلم- فالعمل عمل واحد قطعا ولكن القصد مختلف فقد كان قصدهم بهجرتهم طاعة الله ورسوله، وكان قصده بهجرته التزوج بأم قيس، فكانت هجرتهم واقعة عند الله تعالى موقعها محصلة لهم رضاه ومثوبته، وكانت هجرته لا موقع لها عند الله ولا حظ لها من ثوابه، وكانت معتبرة من عمله الدنيوي لا من عمله الديني، ومثله كل من قصد بهجرته غرضا من أغراض الدنيا ما حمله على الهجرة إلا هو. هذا معنى الجملة الأولى من الحديث الشريف. وـ[معنى الجملة الثانية]ـ: أن الأعمال المعتبرة عند الله التي قصد بها طاعته تتساوى أيضا في صورها ومظاهرها ولكنها لا تتساوى منازلها في الاعتبار والقبول والمثوبة. بل تتفاوت حظوظ أصحابها في ذلك بحسب تفاوتهم في مقاصدهم منها، فيهاجر المهاجران- مثلا- كلاهما يقصد بهجرته طاعة الله ورسوله هذا لا يقصد إلا ذلك وذاك يقصد معه على سبيل التبع غرضا دنيويا من تجارة أو تزوج. فحظ الأول من هجرته هو طاعة الله ورسوله وحدها غير متبعة بشيء، وحظ الثاني هو الطاعة المتبعة بشيء. وثواب الأولى- قطعا- أعظم من ثواب الثانية، أو يكون أحدهما قصد الهجرة وما يكون معها من جهاد بالنفس والمال ومصاحبة النبي- صلى الله عليه وآله وسلم-

الأحكام

وخدمته وصحبته والتفقه عليه وتكثير سواد أصحابه وعمارة مدينته. والآخر لم يخطر بباله شيء من هذا. فحظ الأول من عمله عظيم وثوابه كثير على حسب كثرة مقاصده وتنوعها، وحظ الثاني واحد وهو الهجرة، وثوابه عليها بالخصوص. وذلك على حسب قصده ونيته، ومثل هذين القاصدان للمسجد لأجل الصلاة واحدهما يقصد مع ذلك عمارة المسجد وحبس الجوارح على الطاعة وإرشاد الضال وتنبيه الغافل وتعليم الجاهل وتكثير الجماعة والتعاون على الخير بحضور مشاهده وبعث غيره على الاقتداء به فيه. والآخر لم يخطر بباله شيء من هذا. فحظ الأول من عمله وثوابه عليه أكثر بكثير من حظ الثاني وثوابه وإن كانا كلاهما في طاعة الله. فالنيات والمقاصد كما تفرق بين العملين المتماثلين وتؤثر فيها بالقبول والرد وهو مقتضى الجملة الأولى -كذلك- تفرق بين العملين المقبولين وتؤثر فيهما باختلاف مقدار الثواب وحظ العامل منه وهو مقتضى الجملة الثانية وهذا أثر كبير للنيات في الأعمال. الأحكام: أفاد الحديث أن العمل الديني لا يكون مقبولا حتى تقصد به طاعة الله وإن من قصد به غير ذلك فعمله مردود عليه وأن أجر العامل يقل ويكثر على حسب نيته بعمله، وأنه يمكنه أن يقصد مقاصد كثيرة من الخير بعمل واحد، فيتضاعف ثوابه عليه بحسب نيته وإن لم يقع ذلك فعلا بعمله، كقصد إرشاد الضال في المسجد ولم يجده، أو تعليم الجاهل ولم يلقه، وقصد الجهاد من الهجرة ومات قبله، وأمثال ذلك كثيرة.

تفريع

تفريع: كما أثرت النية في الأفعال التعبدية بالقبول والرد أو بتفاوت الأجر، كذلك تؤثر في الأعمال المباحة، فإن المباحات في نفسها لا يثاب ولا يعاقب عليها ولكنها بالنية والقصد منها يدخلها ذلك وتلحق بما أريد منها إلحاق الوسائل بمقاصدها. فالمشي- مثلا- مباح وقد ينوي به الذهاب إلى التعلم فيصير عمل طاعة فيثاب عليه ولو لم يجد المعلم فلم يتعلم، وقد ينوي به الذهاب إلى السرقة فيصير عمل معصية فيأثم به وإن حيل بينه وبين ما قصد فلم يسرق وكذا سائر المباحات. إرشاد وترغيب: كما علينا أن نجتهد في تطهير أعمالنا من المخالفات وقصرها على الطاعات والمباحات -كذلك علينا أن نجتهد في طاعتنا أن تكون خالصة لوجه الله، وأن نبعد عنا كل خاطر يلفتنا إلى غيره حتى يسلم لنا القصد كله خالصا والعمل كاملا، أو يسلم لنا القصد الأول الذي هو شرط القبول، فإذا كان شيء آخر بعده يكون لاحقا وتابعا، وأن نتفقه ونتدبر بعد ذلك في نيتنا بطاعتنا فنوفرها ونستثمرها ونقصد بها ما حضرنا من وجوه الخير التي يمكن أن تقصد بها. وأن ننظر مثل ذلك في أعمالنا المباحة كأكلنا وشربنا ونومنا ومشينا وراحتنا ورياضتنا، فنقصد بها الاستعداد للطاعات والتقوى لفعل الخيرات وكل ما يمكن أن تؤدي إليه أو تعين عليه من معروف، فتصير أعمالنا المباحات من قسم الطاعات، فما أسعدنا حينئذ وما أعظم ثروتنا من الخير. نحن لا نسلم من مخالفة وتقصير وفي ذلك علينا خسار كثير ولا يجبر ذلك الخسار إلا بسلوك هذا الطريق الشرعي القويم

تنبيه وتحذير

فهلم أيها الإخوان في الله إليه، ففيه- والله- التجارة الرابحة، والحياة الناجحة وإرضاء الرحمن وإرغام الشيطان والسعادة في الدارين. تنبيه وتحذير: الأعمال إما طاعات لأنها مأمور بها وجوبا أو استحبابا وإما مخالفات لأنها منهي عنها تحريما أو كراهة، واما مباحات لأنها غير مأمور بها ولا منهي عنها. فالمخالفات بقسميها لا تقبلها النيات طاعات لأنها في نسمها غير عمل صالح ولأننا علمنا بالنهي عنها، أن قصد الشارع هو تركها وعدم وجودها، فقصد المكلف مضاد لقصد الشارع فكان ساقطا لا عبرة به ولا أهلية له لقلب الموضع الشرعي .. والطاعات بقسميها هي التي تؤثر فيها النية بالقبول والرد بحسب قصد الله بها وقصد غيره أو بتفاوت درجات القبول وبحسب المقصود على ما تقدم وهي المقصودة بالقصد الأول من الحديث. والمباحات مثلها تؤثر فيها النيات فتقبلها طاعة أو معصية لأن الشرع لما أباحها علمنا أنه لا قصد له لا في وجودها ولا في عدمها من حيث ذاتها، فكان لقصد المكلف حينئذ سبيل إلى التأثير فيها. وقد غفل عن هذه الحقيقة أقوام- عفا الله عنهم- فتراهم يستدلون على أعمالهم بقوله - صلى الله عليه وآله وسلم-: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرىء ما نوى» قاصدين إلى تبريرها غير ملتفتين إلى كونها من قسم الطاعات أو المخالفات أو المباحات. وكثيرا ما يرتكبون البدع كدعاء المخلوقات وكالحج إلى الأضرحة وإيقاد الشموع عليها والنذور لها وكالرقص وضرب الدف في بيوت الله وغير هذا من أنواع البدع والمنكرات

ويتوكأون في ذلك كله على (إنما الأعمال بالنيات). كلا، ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب فإن البدع كلها من قسم المخالفات وأن المخالفات لا تنقلب طاعات بالنيات. فحذار أيها الأخوان في الله من هذا الجهل الذي أدى إلى تحريف الكلم عن مواضعه وإلى المداومة على المنكر والفرح به، ونعوذ بالله- لنا ولجميع إخواننا المسلمين- أن نكون من الذين ضلَّ سعيُهم في الحياة الدنيا وهم يَحْسبُونَ أنَّهم يُحسنُون صُنعاً. ونسأله تعالى لنا ولإخواننا المسلمين أن نكون من الذين يرجون لقاء ربهم فيعملون الأعمال الصالحة ولا يشركون بعبادة ربهم أحدا (1).

_ (1) ش: ج1، م 7 - رمضان 1349ه - فيفري 1931م.

مجالس العلم الإقبال عليها والإعراض عنها.

مَجَالِسُ الْعِلْمِ الْإِقْبَالُ عَلَيْهَا وَالْإِعْرَاضُ عَنْهَا. عَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: ‹‹بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- جَالِسٌ فِي المَسْجِدِ وَالنَّاسُ مَعَهُ إِذْ أَقْبَلَ نَفَرٌ ثَلاَثَةٌ فَأَقْبَلَ اثْنَانِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وَذَهَبَ وَاحِدٌ. فَلَمَّا وَقَفَا عَلَى مَجْلِسِ رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- سَلَّمَا، فَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَرَأَى فُرْجَةً فِي الْحَلْقَةِ فَجَلَسَ فِيهَا. وَأَمَّا الْآخَرُ فَجَلَسَ خَلْفَهُمْ، وَأَمَّا الثَّالِثُ فَأَدْبَرَ ذَاهِبًا. فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ عَنِ النَّفَرِ الثَّلَاثَةِ، أَمَّا أَحَدُهُمْ فَأَوَى إِلَى اللَّهِ فَآوَاهُ اللَّهُ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَاسْتَحْيَا فَاسْتَحْيَا اللَّهُ مِنْهُ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَأَعْرَضَ فَأَعْرَضَ اللَّهُ عَنْهُ» ››. ... ــــــــــــــــــــــــــــــ السند: خرجه مالك وتلقاه من طريقه الأئمة البخاري ومسلم والترمذي والنسائي رضي الله عنهم. ألفاظ المتن: الفرجة: الخلل بين الشيئين. أوى: أوى إلى منزله نزله واستقر فيه، وأوى إلى الله، لجأ إليه ودخل مجلس ذكره ومنزل أوليائه.

البيان

آواه: آنزله منزله وأدخله مسكنه، وآواه الله قبله وضمه إلى أهل مجلس ذكره وأناله ما ينيلهم من رحمته. استحيا: الحياء تغير وانكسار يعتري الإنسان عند خوف ما يذم به أو يلام عليه فيمنعه منه فاستحيا هذا معناه امتنع من الذهاب كما ذهب صاحبه أو ترك المزاحمة في الحلقة. فاستحيا الله منه: ترك عقابه ولم يحرمه من ثواب. أعرض: التفت إلى جهة أخرى فذهب إليها. فأعرض الله عنه: حرمه من الثواب. البيان: كان النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- يجلس في المسجد النبوي لأصحابه ويجلسون إليه حلقة فيعلمهم القرآن والحكمة ويعظهم ويرشدهم، فجاء هؤلاء الثلاثة من طرف المسجد والنبي- صلى الله عليه وآله وسلم- في حلقته، فأقبل اثنان وذهب الثالث، ودخل أحد الاثنين في الحلقة فسد فرجة وجلس الآخر خلف الحلقة، فلما فرغ النبي-صلى الله عليه وآله وسلم- من درسه أراد أن يعرف القوم بصنيع الثلاثة ليعلموا حكم عمل كل واحد منهم في الشرع، فبين لهم أن الأول نال الأجر والمدح بإقباله على مجلس العلم وسده الفرجة، وأن الثاني سلم من الذم ولم يكن له من الأجر ما للأول، وأن الثالث حرم من الأجر وتحمل الملامة. تحرير: فسر الإعراض بالغضب والسخط، وفسرناه بالحرمان من الأجر مع الملامة -لأن ترك الإتيان ليس تركا لواجب حتى يستوجب صاحبه الغضب والسخط الذي من مقتضاه الإثم، بدليل أن النبي- صلى الله عليه وسلم- لم يمنعه من الذهاب، ويؤيد تفسيرنا ما جاء عن أنس عند الحاكم، ولفظه (فاستغنى فاستغنى الله عنه)

الفوائد والأحكام

وهذا ظاهر أن معناه لم يقبل على ما فيه أجر وثواب فلم يعط أجرا ولا ثوابا. وفسر بعضهم استحياء الثاني بأنه لم يدخل للحلقة وفسره آخرون بأنه استحيا من الذهاب عن الجلس، والتفسير الثاني أرجح، لأن سد الفرجة مطلوب فلا يمدح بالاستحياء منه. ولأنه جاء في رواية أنس عند الحاكم (ومضى الثاني قليلا ثم جاء فجلس). وهذا نص في المراد. الفوائد والأحكام: الأولى: الجلوس في المساجد حلقا للتعلم والتعليم. الثانية: تعليم الناس ووعظهم وإرشادهم في المساجد، وهذان مما أجمع عليه المسلمون في جميع الأعصار والأمصار وجرى عليه عملهم وعلم بالضرور عندهم فلا يتعرض لهم فيها إلا ظالم من شر الظالمين، له في الدنيا خزي وله في الآخرة عذاب عظيم. الثالثة: التحليق للعلم وتنظيم الحلقة وسد فرجها فهي في ذلك كصفوف الصلاة فيجوز التخطي لسد الخلل كما فعل الأول ويجلس خلفها إذا لم يكن موضع فيها كما فعل الثاني. الرابعة: فضل الإقبال على مجالس العلم وكراهة الإعراض عنها إلا لعذر.

الخامسة

الخامسة: بيان أحكام الأعمال التي تقع أمام الناس حين وقوعها ليرسخ علمها ويتعظ بما فيها. السادسة: لوم من زهد في الخير ولم يحرص عليه وإن لم يكن ذلك الخير من الواجبات عليه في تلك الحال. إهتداء: إن من يؤمن بأنه يحاسب على مثاقيل (1) ذرة من أعماله لا يكون إلا حريصا على الخير أقل القليل منه، ومن شأن الحريص على الخير أن يسارع إليه ويسابق فيه فلا يرى موطنا يشغله بين أهله إلا ملأه ولا نقصا يمكنه تكميله إلا كمله حتى إذا سبق إلى خير وقف عندما حصل وكان له بنيته أجر من سبق. فهذا المجلس النبوي الكريم مثله في المعنى جميع مواطن الخير ومشاهد الفلاح. بصرنا الله بالخير وحببنا فيه وأعاننا عليه وجعلنا من أهله (*).

_ (1) في الأصل ميثاقيل. (*) ش: ج 3، م 13 - غرة شعبان 1356ه - 2 ماي 1937م.

تعلم اللغات المحتاج إليها.

تَعَلُّمُ اللُّغَاتِ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهَا. ‹‹زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ قَالَ: أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أَنْ أَتَعَلَّمَ لَهُ كِتَابَ يَهُودٍ. قَالَ: «إِنِّي وَاللَّهِ مَا آمَنُ يَهُودٍ عَلَى كِتَابٍ» قَالَ: فَمَا مَرَّ بِي نِصْفُ شَهْرٍ حَتَّى تَعَلَّمْتُهُ. قَالَ: فَلَمَّا تَعَلَّمْتُهُ كَانَ إِذَا كَتَبَ إِلَى يَهُودَ كَتَبْتُ إِلَيْهِمْ، وَإِذَا كَتَبُوا إِلَيْهِ قَرَأْتُ لَهُ كِتَابَهُمْ››. رواه الترمذي وحسنه ورواه غيره ــــــــــــــــــــــــــــــ لما نزل النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- بالمدينة مهاجرا، كان بها وبضواحيها مع الأوس والخزرج- رضي الله عنهم- اليهود، فأقرهم النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- وكتب بينه وبينهم عهدا، وكانت الكتب تدور بينه وبينهم في الشؤون والمصالح من الطرفين. فكانوا يكاتبونه بالخط العبراني، كانت لغتهم العربية، ولكنهم كانوا يكتبون بالخط العبري، فأمر النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- كاتبه زيد بن ثابت- رضي الله عنه- أن يتعلم الخط العبري، ليكتب له إليهم، ويقرأ له ما يرد عليه منهم، فيكون على يقين من كلامهم إليه، وبلوغ كلامه إليهم، وما كان ليحصل له هذا اليقين- وهم ليسوا بمحل الثقة- لو تولى ذلك واحد منهم، فقد لا يكتب عنه كل ما يقوله لهم وقد لا يقول له كل ما كتبوا إليه، فتعاطى زيد تعلم الخط العبراني، فما مضى عليه نصف شهر حتى حذقه، وتولى الكتابة عن النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- والقراءة له.

الفوائد والأحكام

الفوائد والأحكام: الأولى: كل قوم تربط بينهم المصالح لا بد لهم من التعاون، ولا يتم التعاون إلا بالتفاهم، والتفاهم بالمشافهة والكتابة، فعلى القوم المترابطين بالمصلحة أن يفهموا بعضهم لغة بعض وخطه. وبقدر ما تكثر الأقوام المترابطة بالمصلحة تكثر اللغات والخطوط ويلزم تعلمها، لأن العلة هي الحاجة. وسواء كانت المصلحة التي تربط الأقوام عمرانية أو علمية، لأن المصلحة من حيث هي مصلحة محتاج إلى تحصيلها، والنبي- صلى الله عليه وآله وسلم- أمر زيدا بتعلم الكتابة لأن اللغة كانت عربية، ولو كانت لغة أخرى لأمره بتعلمها لعلة الحاجة، والحكم يدور مع العلة، وقد جاء عن زيد من طريق أخرى- ذكرها الترمذي- أن النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- أمره أن يتعلم السريانية. فنحن اليوم وقد ربطت بيننا وبين أمم أخرى مصالح، علينا أن نعرف لغتهم وخطهم، كما عليهم هم أن يعرفوا لغتنا وخطنا. الثانية: هذه السنة أصل في اتخاذ الكتبة والتراجمة في الدولة، وما يشترط فيهم من العلم والأمانة. الثالثة: كان في إمكان النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- أن يكاتبهم بالخط العربي، ويلزمهم أن يكاتبوه به، ولكن تسامح الإسلام واحترامه لمحترمات الأمم في دينهم وقوميتهم قضيا بترك اليهود يكتبون ويكاتبون بخطهم، فأقرهم النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- على ما أرادوا، وكلف هو من تعلم خطهم، وتركها لاتباعه سنة بعده.

الرابعة

الرابعة: هذه السنة أصل في ضبط أمور الدولة بالكتابة فيما يصدر عنها وفيما يوجه إليها. ومثلها ضبط كل المعاملات، فهي أصل في التسجيل على العموم. وهكذا تجد سنة النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- إذا تتبعتها- قد قررت - بالفعل- أصولا كثيرة من أصول المدنية والعمران، ولهذا كان على قاريها أن يتناولها للفهم والاستنباط والتطبيق على الأحوال (1).

_ (1) ش: ج 2، م 11 - غرة صفر 1354ه - 5 ماي 1935م.

لا لوم على من صدق المتاب محاجة آدم وموسى عليهما السلام.

لَا لَوْمَ عَلَى مَنْ صَدَقَ الْمَتَابَ مُحَاجَّةُ آَدَمَ وَمُوَسَى عَلَيْهِمَا السَّلامُ. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَنَّ رَسُولَ اللهِ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «تَحَاجَّ آدَمُ وَمُوسَى، فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى. قَالَ لَهُ مُوسَى: أَنْتَ آدَمُ الَّذِي أَغْوَيْتَ النَّاسَ وَأَخْرَجْتَهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ. فَقَالَ لَهُ آدَمُ: أَنْتَ مُوسَى الَّذِي أَعْطَاهُ اللهُ عِلْمَ كُلِّ شَيْءٍ وَاصْطَفَاهُ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَتِهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: أَفَتَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِّرَ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ». رواه الأئمة. ... ــــــــــــــــــــــــــــــ تمهيد: الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- بعد موتهم الدنيوي أحياء حياة برزخية روحية أسمى وأرقى من حياة غيرهم بمقتضى كمالاتهم ومقاماتهم، فتتلاقى أرواحهم في العالم العلوي القدسي ويكون بينهما التعارف والتخاطب، وعلى هذا الوجه وقعت هذه المحاجة بين آدم وموسى عليهما السلام. وقصها علينا النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- لنستفيد ما فيها من العلم ونقتدي بما فيها من عمل. الألفاظ: تحاجَّ: تنازعا وذكر كل واحد حجته، فحج آدم موسى: غلبه في الحجة. أغويت الناس: أضللتهم أي كنت سببا في إخراجهم

المعنى

إلى الأرض فأغوتهم وأضلتهم الشياطين. وأخرجتهم: أي كنت سببا في إخراجهم بأكلك من الشجرة. علم كل شيء: أي مما يحتاج إليه في هداية الناس. واصطفاه على الناس: من غير المرسلين. قدر علي أي سبق به علم الله ومضت به إرادته في الأزل. المعنى: إلتقى هذان النبيان الكريمان التقاءً روحيا في العالم العلوي، فوجه موسى إلى آدم لومه على ما كان منه من الأكل من الشجرة والمخالفة مما أدى إلى إخراجه من الجنة فنسل ذريته بالأرض فكان سببا في خروجهم إليها وتمكنت منهم الشياطين في دار التكليف فأغوت وأضلت من أغوت وأضلت منهم وكان ذلك كله بسببه. فدفع آدم هذا اللوم بأن ما كان منه كان مقدرا عليه قبل أن يخلق. فلا لوم عليه فيه إذ لا دخل له في التقدير، وعرض آدم لموسى بأنه ما كان ينبغي له أن يكون منه هذا اللوم على المقدر مع علو مقامه بالعلم والاصطفاء, فغلب آدم موسى وقامت حجته عليه. بسط وبيان: دلت الأدلة القطعية أن ما يكون من العبد سبق به علم الله ومضت به إرادته وكتب عليه قبل أن يخلق: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}، {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ}، {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} كما دلت الأدلة القطعية على أن الإنسان مؤاخذ بعمله ملوم عليه لما عنده من التمكن وما له من الاختيار {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ}، {لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} وأنه لا مؤاخذة

دفع شبهة

عليه بعد التوبة ولا لوم: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ}. وآدم عليه السلام كانت منه المخالفة على التأويل وتاب الله عليه، وكل ذلك قد كان في حياته فلم يبق عليه لوم بعد ذلك المتاب. فلما لامه موسى لم يكن سبب اللوم من ناحيته- وهو المخالفة- قائما لزواله بما كان من التوبة، ولم يبق إلا التقدير السابق وهو لا دخل له فيه فكيف يلام، فقلت حجته على موسى بسبب انعدام ما يوجب عليه اللوم وهو المخالة فكان لوم موسى في غير محله. دفع شبهة: قد احتج آدم بالقدر السابق فنهضت حجته. فهل يحتج كل مخالف بالقدر السابق فتنهض حجته؟ كلا: فإن الأدلة القطعية المتقدمة تمنع من ذلك منعا قاطعا. والتحقيق أن المخالف له حالتان: حالة التوبة الصادقة التي أسقطت المؤاخذة وهذه هي حالة آدم التي احتج فيها فنهضت حجته. وحالة عدم التوبة وهذه لا حجة فيها بالقدر لوجود المؤاخذة بالعمل المكتسب. وآدم وإن لم يذكر توبته بمقاله فهي مفهومة من حالة معروفة مما أنزله الله من كتبه على موسى وغيره. دفع شبهة أخرى: فإذا كان آدم لا لوم عليه لسقوط المؤاخذة بالتوبة فكيف لامه موسى؟ والجواب: أن موسى لا يجهل هذا ولكنه غفل عنه أو غفل عما كان من آدم من التوبة، وتجوز عليه الغفلة وهو

إقتداء

ليس في دار التكليف ولا في مقام التبليغ. فلما ذكر آدم دليله ذكر موسى ما غفل عنه فسلم. إقتداء: المناظرة في العلم والدين والمحاجة بالحق عن الأصول الشرعية والكمالات الإنسانية لا يتعالى عنها كبير لكبره، ولا يحتقر فيها صغير لصغره، فالحق هو الحق على أي لسان ظهر، والحجة هي الحجة من أي ناحية قامت، وعلى هذا الأصل حاج موسى آدم وهو أبوه. ومن حق المناظر أن يذكر كل ما يراه من الحجة الحقة لإثبات قوله ولو كان فيه ثقل على خصمه، وعلى هذا الأصل نسب موسى لآدم الإغواء والإخراج -وإن لم يكن من فعله- لأنه متسبب عنه. ومن الواجب على من لاح له الحق في حجة خصمه أن يسكت ويسلم. فقد علمنا أن النبيان الكريمان كيف يعتمد على الحجة في البداية وكيف يخضع لها في النهاية والقدوة هما صلى الله وسلم عليهما (1).

_ (1) ش: ج5، م 15 - جمادى الأولى 1358ه - جوان 1939م.

من رغب عن سنتي فليس مني

السنة مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي قَالَ رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ-: «إِذَا سَمِعْتَ الرَّجُلَ يَقُولُ هَلَكَ النَّاسُ فَهُوَ أَهْلَكُهُمْ». ... ــــــــــــــــــــــــــــــ السند: رواه مالك عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة. ومسلم يحيى عن ابن يحيى عن مالك. المتن: روي بوجهين ثابتين، الأول فهو أهلكهم برفع الكاف: اسم تفضيل، والثاني بفتح الكاف فعل ماض. الألفاظ: الهلاك: الاستحالة إلى الفساد وذهاب حالة الصحة والاستقامة التي تصدر عنها الفوائد، ويكون بها الاستعداد، يقال هلك زيد إذا مات، وهلك الطعام إذا تغير واستحال فهلاك الناس فسادهم في أحوالهم بفساد عقائدهم وأخلاقهم وأعمالهم وذلك

المعنى

عنوان ذهابهم واضمحلالهم. وأهلكُهم على الوجه الأول: أشدهم هلاكا، وعلى الوجه الثاني: أوقعهم في الهلاك. المعنى: ـ[على الوجه الأول]ـ إذا سمعت الرجل يقول هلك الناس يعيبهم وينقصهم ويحقر من أمر جماعتهم فقد صار بذلك أعظم هلاكا منهم لارتكابه معصية كبيرة تعدت إلى غيره وعمتهم وهي معصية الكبر الذي هو احتقار المرء من عداه، فهذا قد تكبر على جميع الناس فكان عظم هلاكه على حسب عظم معصيته بهذا العموم في الكبر والاحتقار. ـ[وعلى الوجه الثاني]ـ إذا سمعت الرجل يقول هلك الناس يثبطهم ويقنطهم فهو بذلك التثبيط والتقنيط أيأسهم من رحمة الله وصدهم عن الرجوع إليه وبالتوبة ودفعهم إلى الاستمرار فيما هم عليه، فأوقعهم بكلمته تلك في الهلاك: هلاك البؤس والقنوط والاندفاع في الشر. الأحكام: ـ[على الوجه الأول]ـ لا يجوز الحكم على عموم الناس بالشر والفساد ولو كان ذلك ظاهراً بينهم فاشيا فيهم لأنه حكم بدون علم. وظن سوء بمن قد يكون في غمار الناس على خلاف ما عليه أكثرهم. هذا إذا حكم حكما لمجرد الإخبار فأحرى وأولى إذا زاد على ذلك تحقيرهم. ـ[وعلى الوجه الثاني]ـ لا يجوز لمن رآى الناس في حالة سيئة أن يقنطهم من رحمة الله وإمكان تدارك أمرهم واصلاح حالهم. هذا إذا كان يحمله على ذلك ما تعظمه من سوء حالهم

توجيه

في ظاهر أكثرهم وأحرى وأولى إذا كان يحمله على ذلك صدهم وتثبيطهم عن التوبة والأخذ بأسباب الإصلاح. توجيه: كان الحديث الشريف مفيدا لعدم الجواز لما ذكر -لأنه سيق مساق الذم لهذا القول ووصف قائله بأنه أعظم الناس هلاكا أو أوقع الناس في الهلاك وما أدى إلى أحد هذين لا يكون إلا ممنوعا. ويؤيد هذا الحديث في المنع الأدلة الدالة على منع الحكم بدون علم. وظن السوء بالناس وتحقيرهم وتقنيطهم عن الخير وصدهم عنه. تقييد وتعميم: قد يقول الإنسان هلك الناس إشفاقا عليهم وتحزنا لما هم فيه فلا يكون مثل من قاله تحقيرا وتقنيطا، غير أنه يبقى في عبارته ذلك التعميم الذي هو حكم بغير علم. مع ما توقعه هذه العبارة من القنوط -خصوصا إذا تكررت- ولو لم يقصده القائل، فلا ينبغي أن تقال هذه العبارة ومثلها من كل ما يفيد هلاك جميع الناس. الآداب: ـ[على الوجه الأول]ـ على من يريد أن يرشد المسلمين ويعمل لإصلاح حالهم أن ينظر إليهم بعين الشفقة والحنانة لا بعين الزراية والاحتقار.

فإن الشفوق تدفعه شفقته إلى المبالغة في العناية بتتبع الأدواء واستقصاء أنواع العلاج. بخلاف الزاري المحتقر فإنه يترفع بنفسه عن الناس ويتركهم فيما هم عليه، وإن باشر شيئا من معالجتهم فإنه يباشره من استثقال واشمئزاز لا يصل معهما إلى داء الأمة شيء من علاجه ولن يستطيع هو معهما صبرا على الاستمرار في عمله أو على إتقان القليل منه. على أن الشفوق تشعر نفوس الأمة منه بتلك الشفقة فتقابله بمثلها وبالامتثال لما يأتيها منه لمعالجتها واثقة منه بنصحه منقادة لإرشاده راجية نيل الخير على يده، والزاري المحتقر تشعر منه الأمة بذلك فتقابله بمثله وتنقبض نفوسها عنه وتقوي ريبتها في قوله وفعله وقد تصارحه ببعضه فتؤدي الحال بينهما إلى العداوة والمقاطعة. ويكون خيرا له لو تركهم من أول الأمر وشأنهم. ـ[وعلى الوجه الثاني]ـ على مرشدي المسلمين أن يعانوا أدواءهم بالعلاجات النافعة ويشخصوها لهم عند الحاجة بالعبارات الرقيقة المؤثرة، في رفق وهوادة مجتنبين كل ما فيه تقنيط أو تثبيط. وأن يعرفوهم بأنهم- وإن ساءت نواح من أحوالهم- فهنالك نواح ما تزال صالحة. وهنالك علاجات من الإسلام قريبة ناجعة، وأن يعرفوا ما فيهم من فضائل وما لهم من مجد، وما لهم بهذا الإسلام من قدر وعز ليثيروا فيهم النخوة ويبعثوهم على العمل والخير. وإذا ذكروا لهم سيئاتهم ذكروا لهم قرب السبيل إلى النجاة منها بالإقلاع عنها فيسرعون بالتوبة والإنابة.

أصل عام في التربية

أصل عام في التربية: هذا الحديث أصل عظيم في التربية المبنية على علم النفسية البشرية فإن النفوس عندما تشعر بحرمتها وقدرتها على الكمال تنبعث بقوة ورغبة وعزيمة لنيل المطلوب. وعندما تشعر بحقارتها وعجزها تقعد عن العمل وترجع إلى أحط دركات السقوط. فجاء هذا الحديث الشريف يحذر من تحقير الناس وتقنيطهم وذلك يقتضي أن المطلوب هو احترامهم وتنشيطهم. وهذا الأصل العظيم الذي دل عليه هذا الحديث الشريف يحتاج إليه كل مرب سواء أكان مربيا للصغار أم للكبار، وللأفراد أم للأمم، إذ التحقير والتقنيط وقطع حبل الرجاء قتل للنفوس نفوس الأفراد والجماعات وذلك ضد التربية، والاحترام والتنشيط وبعث الرجاء إحياء لها وذلك هو غرض كل مرب ناصح في تربيته. فاللهم صل على هذا النبي الكريم العظيم الرحيم الذي علمته ما لم يكن يعلم وكان فضلك عليه وعلينا به عظيما، فكم من علوم وأسرار انطوت عليها أحاديثه الشريفة قد أتت على ما لم تعرفه البشرية إلا بعد حين، ولا عجب فهو الذي أوتي جوامع الكلم واختصر له الكلام اختصارا. صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم (1).

_ (1) ش: ج3، م 10 - غرة ذي القعدة 1352ه - 15 فيفري 1934م.

لا يجزم لأحد أنه من أهل الجنة إلا بنص من الشارع

لَا يُجْزَمُ لِأَحَدٍ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ إِلَّا بِنَصٍّ مِنَ الشَّارِعِ. ‹‹قال ابن شهاب أَخْبَرَنِي خَارِجَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ أُمَّ العَلاَءِ -امْرَأَةً مِنَ الأَنْصَارِ- بَايَعَتِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أَخْبَرَتْهُ أَنَّهُ اقْتُسِمَ المُهَاجِرُونَ قُرْعَةً فَطَارَ لَنَا عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ فَأَنْزَلْنَاهُ فِي أَبْيَاتِنَا فَوُجِعَ وَجَعَهُ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ وَغُسِّلَ وَكُفِّنَ فِي أَثْوَابِهِ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، فَقُلْتُ: رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ أَبَا السَّائِبِ فَشَهَادَتِي عَلَيْكَ لَقَدْ أَكْرَمَكَ اللَّهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «وَمَا يُدْرِيكِ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَكْرَمَهُ؟» فَقُلْتُ: بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَنْ يُكْرِمُهُ اللَّهُ؟ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «أَمَّا هُوَ فَقَدْ جَاءَهُ اليَقِينُ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرْجُو لَهُ الخَيْرَ، وَاللَّهِ مَا أَدْرِي وَأَنَا رَسُولُ اللَّهِ مَا يُفْعَلُ بِي.» قَالَتْ: فَوَاللَّهِ لاَ أُزَكِّي أَحَدًا بَعْدَهُ أَبَدًا›› رواه البخاري في صحيحه من طرق في عدة أبواب. ... ــــــــــــــــــــــــــــــ المتن: ثبت عند البخاري أيضا {مَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ} وثبت عنده أيضا «ما أدري ما يفعل به».

ترجمة شخصي الحديث

ترجمة شخصي الحديث: شخصا الحديث هما اللذان كانا سببا في وروده وهما أم العلاء المزكية وعثمان المزكى. فأما أم العلاء فهي بنت الحارث بن ثابت الأنصاري الخزرجية، وهي أم خارجة بن زيد الراوي عنها. وأما عثمان بن مظعون فهو أبو السائب بن حبيب بن وهب القرشي الجمحي من السابقين، أسلم بعد ثلاثة عشر رجُلا، هاجر الهجرتين، وشهد بدرا، وهو أول من مات من المهاجرين بالمدينة، وأول من دفن بالبقيع منهم. الشرح: لما جاء المهاجرون إلى المدينة ولا أهل لهم ولا مال، نزلوا على الأنصار من الأوس والخزرج فاقتسمهم الأنصار بالقرعة فطار في قسمة بيت زيد بن ثابت عثمان بن مظعون فأنزلوه في أبياتهم فمرض مرضه الذي توفي فيه فلما توفي وغسل وكفن في أثوابه دخل رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم- فقامت أم العلاء في حضرة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم- تثني على عثمان فدعت له بالرحمة وشهدت له جازمة بأن الله أكرمه أي بالجنة لأنها هي دار كرامة الله لعباده، فأنكر عليها النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- وقال لها وما يدريك أن الله أكرمه؟ أي من أين علمت ذلك. ففدته بأبيها تأدبا معه- صلى الله عليه وآله وسلم- في الخطاب وقالت فمن يكرمه الله أي إذا لم يكرم عثمان مع سابقيته وهجرته وبدريته فمن يكرم! فبين لها النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- ما يجوز أن يقطع به وما لا يجوز أن يتعدى حد الظن، فقال لها أما هو فقد أتاه اليقين، يعني الموت وهذا مقطوع به، وإني لأرجو له الخير، وهذا هو الذي لا يجاوز حد الظن، ثم بين لها أن الغيب لا يعلمه إلا الله وأن البشر لا يعلمون الغيب حتى الأنبياء- عليهم السلام- فإنهم لا يعلمون

توضيح

إلا ما علمهم، فقال لها: «والله لا أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي» فاهتدت إلى ما هداها إليه النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- وقالت والله لا أزكي أحدا بعده أبداً. تعني مثل هذه التزكية التي قطعت له فيها بالكرامة. توضيح: ما في لفظ الحديث موافق لما في سورة الأحقاف المكية من قوله تعالى: {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ}. قال البيضاوي أي في الدارين على التفصيل إذ لا علم بالغيب. يعني إلا ما علمه الله وقد أعلمه الله بأنه مغفور له ما تقدم وما تأخر في سورة الفتح المدنية وأعلمه بما أخبر به في الصحيح من منازله الكريمة يوم القيامة ومقامه المحمود وغيره من أنواع الخصوصية والكرامة. الأحكام: في الحديث اقتسام أهل القدرة أهل العجز عند الضرورة والشدة. وفيه الدخول على الميت بعد تسجيته في أكفانه، وفيه الدعاء للميت بالرحمة، وفيه المنع من القطع لأحد بالجنة دون نص شرعي، وفيه المبادرة بإنكار القول الباطل في الدين فور سماعه، وفيه مراجعة المعلم بإبداء وجه النظر الذي وقع الخطأ فيه، وفيه جواز ظن ورجاء الخير لأهله. تفرقة: ذكر الميت بما علم من حاله في حياته ثناء عليه جائز والقطع له بالنجاة ممنوع، فأما هذا الثاني فدليل منعه من الحديث المذكور، وأما الأول فدليل جوازه ما رواه مسلم في

تحذير وإرشاد

صحيحه عن أبن عباس قال: وضع عمر بن الخطاب على سريره فتكنفه الناس يدعون ويثنون ويصلون عليه قبل أن يرفع وأنا فيهم، قال فلم يرعني إلا برجل قد أخذ بمنكبي من ورائي فالتفت إليه فإذا هو علي فترحم على عمر وقال ما خلفت أحدا أحب إليَّ أن ألقى الله بمثل عمله منك، وأيم الله إن كنت لأظن أن يجعلك الله مع صاحبيك، وذلك أني كنت أكثر ما أسمع رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- يقول: جئت أنا وأبو بكر وعمر ودخلت أنا وأبو بكر وعمر. وخرجت أنا وأبو بكر وعمر فإن كنت لأرجو ولأظن أن يجعلك الله معهما. وهذا في ذلك الجمع دليل على إجماعهم على جوازه وهو لم يخرج عن ذكره بما علمه منه في حياته وظن الخير له بذلك بعد مماته. تحذير وإرشاد: لقد ابتلى كثير من الناس بالغلو فيمن يعتقدون فيهم الصلاح فيجزمون لهم بما لا يعلمه إلا الله، ثم زادوا على هذا فيزعمون أن فلانا مات في رتبة كذا، وحصل عند الله على منزلة كذا، ثم زادوا على هذا فيزعمون أن فلانا يشفع لأتباعه ويعديهم على الصراط أو يجعله في بطنه ويمر بهم وأنه يحضر لهم عند الموت ويحضر لهم عند السؤال ويكون معهم في مواقف يوم القيامة، وكل هذه الدعاوى انبنت على الجزم بأنه ممن أكرمه الله وأنه من أهل الجنة ذلك الجزم الذي سمعت النهي والإنكار صريحين فيه من النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- على أم العلاء في رجل من السابقين الأولين البدريين، وليست هذه الدعاوى المبنية على المخالفة لهذا النهي النبوي الصريح قاصرة على العوام بل تجدها عند غيرهم وتسمعها ممن يرفعون أنفسهم عن طبقتهم، وتقرأها في الكتب التي عدلت عن الأحاديث

النبوية الصحيحة والطريقة النبوية الواضحة وذهبت في نيات الطريق فكانت بلاء على العامة وأشباههم ووبالا، فاحذر أيها الأخ المسلم من عقيدة الجزم بالكرامة والجنة لغير من نص عليه المعصوم عليه وآله الصلاة والسلام. ومن تلك الدعاوى الباطلة التي انبنت عليها. ولا تجزم بالكرامة على الله لأحد غير المنصوص عليه وإن كان عظيما، فإن قول رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- أحق وأعظم وأنْفُ من لا يقول هذا ولا يقبله مرغم. وكل من استعظمته ممن هو على جانب من الصلاح والخير فإنه لا يداني مقام عثمان بن مظعون البدري في الصلاح والخير وقد سمعت ما سمعت من النهي النبوي عن القطع له بالكرامة. ومهما أعدنا القول في هذا وأكدنا فإننا لا نفيه حقه من الإنكار والاستئصال لما نعلمه من رسوخ هذه الضلالة وقدمها والتهاون فيها وعظيم التجري على الله بها. وهذا الحديث النبوي هو دواؤها والقاطع لها، فليتأمله قراؤنا ولينشروه في المسلمين وليذيعوه بالتلاوة والتفسير والتأكيد والتقرير عسى أن يشفي الله به القلوب من داء الغلو والادعاء والغرور والتغرير، وليظن المسلم الخير بأهل الخير وليرج لهم حسن الجزاء والمصير كما رجا النبي - صلى الله عليه وآله وسلم- الخير لعثمان بن مظعون- رضي الله تعالى عنه- بعد ما نهى عن الجزم بالكرامة له، وهذا هو دين الله الحق الوسط السالم من الغلو والتقصير. والله نسأل لنا ولجميع المسلمين أن يقف بنا عند حدود الشرع الشريف. ويحفظنا من الغلو والتقصير والتحريف، إنه هو الولي الحفيظ اللطيف (1).

_ (1) ش: ج11، م 8 - غرة رجب 1351ه - نفمبر 1932م.

تكثير السواد ‹‹من كثر سواد قوم فهو منهم››

تَكْثِيرُ السَّوَادِ ‹‹مَنْ كَثَّرَ سَوَادَ قَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ›› عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ قَالَ: قُطِعَ عَلَى أَهْلِ المَدِينَةِ بَعْثٌ فَاكْتُتِبْتُ فِيهِ فَلَقِيتُ عِكْرِمَةَ فَأَخْبَرْتُهُ فَنَهَانِي أَشَدَّ النَّهْيِ ثُمَّ قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ أُنَاسًا مِنَ المُسْلِمِينَ كَانُوا مَعَ المُشْرِكِينَ يُكْثِرُونَ سَوَادَ المُشْرِكِينَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فَيَأْتِي السَّهْمُ فَيُرْمَى فَيُصِيبُ أَحَدَهُمْ فَيَقْتُلُهُ أَوْ يَضْرِبُهُ فَيَقْتُلُهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ المَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ}، رواه البخاري في كتاب الفتن. ... ــــــــــــــــــــــــــــــ الألفاظ: سواد القوم: أشخاصهم. قطع عليهم: بعث: فرض عليهم جيش يبعث للقتال. اكتتبت: كتب اسمه في جملة الجيش. المعنى: كان عبد الله بن الزبير قائما بمكة، وكان عبد الملك بن مروان بالشام، والفتنة مشتعلة بين المسلمين، بسبب النزاع ما بينهما، فكان عبد الله بن الزبير يبعث البعوث من الحجاز إلى قتال عبد الملك بالشام ففرض على أهل المدينة جيشا

المطابقة

فكتب فيه أبو الأسود محمد ابن عبد الرحمن الأسدي اسمه ليكون من جملته. ثم لقي عكرمة مولى ابن عباس، فذكر ذلك له، فنهاه عكرمة عن أن يكون في ذلك الجيش وأخبره عن ابن عباس بما كان من سبب نزول قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ}، وهو أن قوما من المسلمين كان المشركون يخرجونهم معهم، لا ليقاتلوا المسلمين، وإنما ليكثروا سواد المشركين، ويظهروا عظم جيشهم، وكثرة عددهم في أعين المسلمين. فكانوا يقتلون بما يصيبهم من رمي السهام وضرب السيوف فأخذهم الله لمجرد تكثيرهم سواد المشركين، وإن لم يشاركوهم في القتال، ولا حضروه طائعين، وأنزل الآية الكريمة فيهم. المطابقة: ذكر عكرمة هذا لأبي الأسود لأنه أفاد حكم الله فيمن كثر سواد المقاتلين للمسلمين دون أن يقاتل، أو يكون راضيا أو طائعا بالحضور. فكيف بمن اكتتب للقتال مثل أبي الأسود؟ ولا فرق في المؤاخذة في قتال المسلمين، بين أن يكون مع المشركين أو مع المسلمين في الفتنة. الأحكام: من حضر مع قوم وكثر جمعهم فهو منهم وشريك لهم في عملهم، سواء أكان خيرا أم شرا كما يفيده الحديث الذي جعلناه ترجمة. وهو في مسند أبي يعلي. فأما في الشر فالنص فيه حديث ابن عباس هذا، وأما في الخير فحديث أبي هريرة في الصحيح، في القوم الذين يجتمعون فيسبحون الله ويكبرونه ويهللونه ويحمدونه ويسألونه ويستجيرونه ويستخيرونه ويستغفرونه، فيقول الله للملائكة عليهم السلام، قد غفرت

الإهتداء

لهم فأعطيتهم ما سألوا وأجرتهم مما استجاروا، فتقول الملائكة: رب فيهم فلان عبد خطاء، إنما مر فجلس معهم، فيقول تعالى: «وله غفرت، هم القوم لا يشقى بهم جليسهم». الإهتداء: فحق على المسلم أن يختار من يصاحب من رفقة، أو يجالس من جماعة، أو يكثر من سواد قوم، فإنه محاسب على أعماله ومن أعماله مجرد حضور بدنه. (1).

_ (1) ش: ج 4، م 15 - ربيع الثانى 1358ه - ماي 1939م.

دعوى الجاهلية أو الكلمة المنتنة

دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ أَوِ الْكَلِمَةُ الْمُنْتِنَةُ. ‹‹عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْه ِوَآلِهِ وَسَلَّمَ - فِي غَزَاةٍ فَكَسَعَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ. فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ يَا لَلْأَنْصَارِ، وَقَالَ الْمُهَاجِرِيُّ يَا لَلْمُهَاجِرِينَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْه ِوَآلِهِ وَسَلَّمَ -: «مَا بَالُ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ!» قَالُوا يَا رَسُولَ اللهِ كَسَعَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَالَ: «دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ» ››. ... ــــــــــــــــــــــــــــــ السند: رواه الشيخان وغيرهما. الألفاظ: كسعه: ضرب دبره بيده أو صدر قدمه. رجل .. رجلا: كان الرجلان من الموالي. يا للأنصار، يا للمهاجرين: استغاثة من كل بقومه ومواليه لينصروه على الآخر. دعوى الجاهلية: الدعاء الذي كان يدعو به الجاهلية بنعرة العصيبة لإثارة الحمية يدعو الرجل قومه لينصروه ولو على الباطل. دعوها: اتركوها. منتنة: مكروهة في العقل والدين ككراهة الشيء المنتن في الشم ومفرقة للجمع كما يفرق النتن المجتمعين.

المعنى

المعنى: كان الرجل في الجاهلية- إذا نزل له أمر- استنصر بقبيلته وتعضد بهم ودعاهم إلى معونته ونصرته، بما بينه وبينهم من عصبية قبلية فتثور حميتهم فيندفعون إلى مؤازرته فيؤيدونه ظالما أو مظلوما، فإذا كان ظالما زادوا في ظلمه، وإذا كان مظلوما لم ينتهوا عند حد في الانتقام له من ظالمه، فلما جاء الإسلام أبطل الانتصار بالعصبية والتعضد على الانتقام بالقبيلة. وجعل الحكم بالقضاء الشرعي والتوصل إليه بالبينات والحكام. فلو أن ذلك المكسوع كان ممن تأدب بالإسلام وتغلغلت روح الإسلام في قلبه لكان دعا بدعوى الإسلام فقال يامسلمون قد ضربني هذا، وأقام عليه البينة وساقه إلى النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- ليقتص له منه، ولما لم يكن كذلك وكانت الروح الجاهلية لا تزال منها عقابيل (1) في صدره دعا بدعوى الجاهلية، وكان صاحبه مثله فقابله بمثلها، فلما سمع النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- ذلك منهما سأل عن السبب الذي أثار تلك الدعوى فلما عرفوه بسببها نهى عنها وحذر منها، فأبرزها في أقوى صورة تنفر منها إبرازا للمعقول في صورة المحسوس لأنه أبلغ في التأثير على السامع فوصفها بأنها منتنة. الدعويان وأثرهما: دعوى الجاهلية- يا بني عمي، أو يا قومي، أو يا أهل بلدي، أو يا أهل وطني- انتقموا لي، فإذا دعا بها وقعت التفرقة بين عشيرة وعشيرة أو بين قوم وقوم أو بين بلد وبلد، أو بين وطن ووطن، وأثارت الحمية في كل واحدة من الناحيتين على الأخرى ودفعت إلى الإسر اف والتعدي فأوسعت الظلم والشر،

_ (1) العقابيل: الشدائد وبقايا العلة أو العداوة مفردة (عقبول).

تفرقة وتمييز

وأبقت الإحن والأحقاد والتّرات مما يسترسل معه الظلم والفساد في المستقبل. أما دعوى الإسلام فهي يا عباد الله، أو يا مسلمون إني ظلمت فأنقذوني أشهدوا لي. فإذا دعا بها كانت جامعة لا تفريق فيها وأهابت بالسامعين كلهم كذات واحدة كلهم ينصرون الحق فيكفوا الظلم إن كان واقعا على المظلوم في الحال ويشهدون بالظلم عند الحاكم ليجري العدل مجراه. فأين تلك الآثار من هذه الآثار؟ ولقد ظهرت آثار الأولى في الأمة العربية في جاهليتها، وظهرت آثار الثانية فيها بعد إسلامها، فأرى الله العباد- عيانا جهرة- اختلاف الأثرين في أمة واحدة في زمن قريب وأقام عليهم حجته، ولكن أكثر الناس لا يعلمون. تفرقة وتمييز: كل من سعى إلى تحصيل شيء مستعينا بذوي عصبية له لنسبة جنس أو قبيلة أو بلد أو شيخ أو حرفة أو فكرة غير ناظر إلى أمة على حق أو على باطل -فقد دعا دعوى الجاهلية وكل من أجابه فقد شاركه في دعواه. أما من عرف الحق وتيقن من نفسه الصدق في طلبه واستعان على تحصيله بمن تربطهم به روابط خاصة ولا يأبى أن يعينه عليه من لم يكن من جماعته لأن قصده إلى تحصيل الحق بإعانة أي كان- فهذا لا يكون دعا دعوى الجاهلية بل دعا دعوى إسلامية لأنها لم تخرج عن التعاون على الحق وهو من التعاون على البر والتقوى.

إستدلال

إستدلال: ثبت في صحيح مسلم في غزوة حنين أن رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- قال: «أي عباس ناد أصحاب السمُرة» فنادى بأعلى صوته: أين أصحاب السمرة؟ وكانت الدعوة: يا معشر الأنصار، يا معشر الأنصار ثم قصرت على بني الحرث بن الخزرج فصارت: يا بني الحرث بن الخزرج يا بني الحرث بن الخزرج. فكانت الدعوة- في ذلك اليوم الشديد- لمن جمعتهم بيعة الرضوان وهم أهل السمرة ثم لمن جمعهم اسم الأنصار ثم لمن جمعهم اسم أب. وكان ذلك كله حقا لأنه دعوة إلى الحق. تحذير وإرشاد: ليحذر المسلم من كل كلمة مفرقة من كل ما يثير عصبية للباطل وحمية جاهلية يدعو بها ولا يجيب من دعا إليها فإن بلاء كثيراً حل بنا وفتنة كثيرة أصابتنا من تلك الكلمات المفرقة. ولتكن دعوته- إذا دعا- بالكلمات الجامعة التي تشعر بالأخوة العامة وتبعث على القيام بالواجب بأيد متشابكة وقلوب متحدة حتى إذا دعا جماعة خاصة يعلم منه نفعا خاصا في مكان خاص فليكن بما يفهمهم أنه إلى الحق دعاهم وعلى القيام به استعان بهم دون إباية من انضمام كل من ينضم إليهم، فإنه ما توجه قوم إلى نصرة الله- ورضا الله قصدهم إلا كان الله معهم: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (1).

_ (1) ش: ج 2، م 13 - 1356ه - 13 أفريل 1937م.

الشرك والوثنية ودعوى النبوة

الشِّرْكُ وَالْوَثَنِيَّةُ وَدَعْوَى النُّبُوَّةِ. عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَلْحَقَ قَبَائِلُ مِنْ أُمَّتِي بِالمُشْرِكِينَ وَحَتَّى يَعْبُدُوا الأَوْثَانَ، وَإِنَّهُ سَيَكُونُ فِي أُمَّتِي ثَلَاثُونَ كَذَّابُونَ كُلُّهُمْ يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ وَأَنَا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ لَا نَبِيَّ بَعْدِي». رواه الترمذي. وقال: هذا حديث صحيح. ... ــــــــــــــــــــــــــــــ كان النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- يعرف أصحابه بما يكون في أمته من بعده، وهو تعريف للأمة بما يكون فيها، يعرفهم بذلك ليحذروه ويجتنبوا أسبابه، ويبادروا إلى معالجته عند وقوعه. لا يستبعد مسلم صدور الشرك والوثنية ودعوى النبوة من غير المسلمين، وإنما يستبعد ويستنكر أن يكون شيء من هذا ممن يقولون أنهم مسلمون، ولهذا قدم النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- هذا التعريف والإنذار، حتى إذا وقع شيء من هذا من هذه الأمة بودر إلى إنكاره وعلاجه، ولم يتساهل معهم في شيء من ذلك لأنهم يقولون أنهم مسلمون.

اللحوق بالمشركين

اللحوق بالمشركين: من اعتقد مثل عقيدتهم أو فعل مثل أفعالهم أو قال مثل أقوالهم فقد لحق بهم، وقد يكون اللحوق تاما مخرجا عن أصل الإسلام، وقد يكون دون ذلك. فأصل عقيدة الشرك عند عرب الجاهلية أنهم يعلمون أن الله هو خلقهم وهو يرزقهم وهو المالك لجميع مخلوقاته، ولكنهم كانوا يجعلون توجههم وتقربهم وتضرعهم لآلهتهم على اعتقاد أنها هي تقربهم إلى الله. وفي الناس اليوم طوائف كثيرة تتوجه لبعض الأموات وتتضرع لهم وتقف أمام قبورهم بخضوع وخشوع تامين وتتضرع وتناديهم على اعتقاد أنهم يقربونها إلى الله ويتوسطون لها إليه. ويزيدون أنهم يتصرفون لها بقضاء الحوائج وجلب الرغائب ودفع المصائب. ومن أعمال المشركين في الجاهلية أنهم يسوقون الأنعام لطواغيتهم فينحرونها عندها طالبين رضاها ومعونتها. وفي الناس اليوم طوائف كثيرة تسوق الأنعام إلى الأضرحة والمقامات تنحرها عندها إرضاءً لها وطلبا لمعونتها أو جزاء على تصرفها وما جلبت من نفع أو دفعت من ضر. ومن أقوال المشركين في الجاهلية حلفهم بطواغيتهم تعظيما لها. وفي الناس اليوم طوائف كثيرة يحلفون بالله فيكذبون ويحلفون بمن يعظمونه من الأحياء أو الأموات فلا يكذبون.

عبادة الأوثان

فهذه الطوائف الكثيرة كما قد لحقت بالمشركين وصدق رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- في قوله: «لا تقوم الساعة حتى تلحق قبائل من أمتي بالمشركين». عبادة الأوثان: كانت عبادة الأوثان في الجاهلية بالخضوع والتذلل لها ورجاء النفع وخوف الضر منها، فينذرون لها النذور وينحرون لها النحائر يلطخونها بالدماء ويتمسحون لها. وفي الناس اليوم طوائف كثيرة لها أشجار ولها أحجار تسميها بأسماء وتذكرها بالتعظيم وتذبح عندها الذبائح وتوقد عليها الشموع وتحرق عندها البخور وتتمسح بها وتتمرغ عليها. مثل فعل الجاهلية أو تزيد. فصدق عليهم رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم-: «وحتى يعبدوا الأوثان». هذا كله واقع في الأمة لا شك فيه، وكما كان من نصح نبيها- صلى الله عليه وآله وسلم- أن أنذرها بوقوعه فيها قبل وقوعه - فإن من نصح علمائها لها أن يعرفوها به اليوم بعد وقوعه، ويصوروه لها على صورته الشركية الوثنية التي ينفر منها المسلم بطبعه. ولو أن الأمة سمعت صيحات الإنكار من كل ذي علم لأقلعت عن ضلالها. ورجعت إلى رشدها فما أسعد من نصحها من أهل العلم وجاهد لإنقاذها. وما أشقى من غشها وزادها رسوخا في ضلالها، وتماديا في هلاكها، فحيهلا على العمل أيها المصلحون الناصحون المخلصون، فإن عهد الغش والخديعة قد آذن بذهاب، وأن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب.

دعوى النبوة

دعوى النبوة: قد ضلت وهلكت باتباع أشخاص أدعوا النبوة من هذه الأمة - طوائف كثيرة، وقد كان منهم أول الإسلام مسيلمة الكذاب، والأسود العنسي، ثم كان المختار بن عبيد الثقفي ثم كان منهم في عصرنا قبيله الباب، وإليه تنسب البابية والبهاء، وإليه تنسب البهائية، وغلام القادياني وإليه تنسب القاديانية، وقد كادت هذه القاديانية تدخل الجزائر على يد طائفة الحلول وشيخها، لولا أن قام في وجوههم العلماء المصلحون وفضحوهم على صفحات ((الشهاب)) أيام كان أسبوعيا، فرد الله كيدهم، ووقى الله الجزائر شراً عظيما. وقد أخبر النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- عن هؤلاء الكذابين بأنهم ثلاثون فلا بد أن يصلوا إلى هذا العدد، وقد تكون بقيتهم في أحشاء الأيام. وقد أخبر -صلى الله عليه وسلم- أنهم كذابون، وأنه لا نبي بعده، وقد صدق قوله -صلى الله عليه وآله وسلم- فما من واحد منم إلا وقد ظهر من كذبه ما عسر تأويله على أصحابه، ومن غلطه وخلطه ما يدل على أنه لا مستند له من اليقين. فصلى الله على خاتم الأنبياء وإمام المرسلين (1).

_ (1) ش: ج1 - م11 - غرة محرم 1354ه - 5 أبريل 1935م.

إتحاد المؤمنين وتعاونهم

إِتِّحَادُ الْمُؤْمِنِينَ وَتَعَاوُنِهِمْ. «الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا». ثُمَّ شَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ. رواه البخاري عن أبي موسى الأشعري، ومسلم عنه أيضا إلى قوله بعضا. ... ــــــــــــــــــــــــــــــ المفردات: المؤمن: ال في اللفظين جنسية استغراقية، فالمراد جميع الأفراد، للمؤمن: اللام لام الاختصاص، يشد: يقوي بعضه بعضا بالتضام والالتحام، شبك: أدخل أصابع اليمنى بين أصابع اليسرى، وأصابع اليسرى بين أصابع اليمنى. التراكيب: الجملة الأولى خبرية لفظا، طلبية معنى، أي ليكن المؤمن للمؤمن كالبنيان، وجيء بالطلب على صورة الخبر تنبيها على أن هذا المطلوب هوالشأن الذي لا ينبغي أن يكون سواه، فهو بحيث يخبر عنه لا أن يطلب، والجملة الثانية استئنافية لبيان وجه التشبيه.

المعنى

المعنى: الواجب على كل فرد من أفراد المؤمنين أن يكون لكل فرد من أفراد المؤمنين كالبنيان في التضام والالتحام، حتى يكون منهم جسد واحد كما قال - صلى الله عليه وآله وسلم - في الحديث الآخر: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى». زيادة بيان: لقد قرر الحديث الشريف معنى الاتحاد الذي يجب أن يكون بين جميع أفراد المؤمنين على أكمل وجه في التصوير، وأبلغه في التأثير، فقد شبههم بالبنيان، وذلك وحده كاف في إفادة الاتحاد، وزاد عليه التصريح بالشد والتقوية ليبين أن في ذلك الاتحاد القوة للجميع تأكيدا للزوم الاتحاد بذكر فائدته، ثم زاد عليه التصوير بالمحسوس، لما شبك -صلى الله عليه وآله وسلم- بين أصابعه. هذا كله ليبين للمؤمنين لزوم الاتحاد وضرورته. تبصر: ألا ترى البنيان كيف يتركب من الحجارة الكبيرة، والحجارة الصغيرة والمواد الأخرى التي تلحم بها الحجارة وتكسى، وكل ذلك محتاج اليه في تشييد البنيان، فكذلك بنيان المؤمنين فإنه متكون من جميع أفرادهم، على اختلاف طبقاتهم، فالكبير والجليل له مكانه، والصغير والحقير له مكانه، وعلى كل حال أن يسد الثغرة التي من ناحيته، مع شعوره بارتباطه مع غيره من جميع أجزاء البنيان التي لا غناء لها عنه، كما لا غناء له عن كل واحد منها فكل واحد من المؤمنين عليه تبعته، بمقدار

تفقه

المركز الذي هو فيه، والقدرة التي عنده، ولا يجوز لأحد وان كان أحقر حقير أن يخل بواجبه من ناحيته، فإنه إذا أزيل حجر صغير من بنيان كبير دخل فيه الخلل بمقدار ما أزيل، وإذا ابتدأ الخلل من الصغير تطرق للكبير. ثم ألا ترى أصابعك وفيها القوي وفيها الضعيف، حتى إذا شبكتها صارت كشيء واحد له قوة ومتانة زائدة، وكل أصبع منها يمكن أن يلوى ما دام وحده، فإذا شبكتها عسر ليها وقوي أمرها، فكذلك المؤمنين (1) باتحادهم وفيهم القوي وفيهم الضعيف تكون لهم قوة عامة زائدة، وكل واحد منهم بمفرده يمكن قهره فأما إذا اتحدوا فإنهم يكونون بقوة اتحادهم في مأمن من كل قهر. تفقه: لما قال -صلى الله عليه وآله وسلم-: (المؤمن للمؤمن .. الخ). علق الحكم على الوصف، فاقتضى ذلك أن هذا هو واجب كل مؤمن من حيث انه مؤمن مع كل مؤمن من حيث انه مؤمن، فيجب لهذا أن تطرح في مقام الاتحاد والتعاون جميع المفرقات من المذاهب والمشارب، وينظر إلى وصف الايمان فقط. فهذه المذاهب وهذه المشارب، أهلها كلهم أهل إيمان، لا يدفع بعضهم بعضا عن ذلك، والنبي- صلى الله عليه وآله وسلم- قد أمرهم بالاتحاد والتعاون باعتبار الوصف الأصلي الذين هم مشتركون فيه، ليكون الاتحاد والتعاون في مكنتهم، دون التفات إلى ما أحدثوه من مفرقاتهم، فمن تعامى عن وصف الايمان الموجب للاتحاد ونظر إلى مذهب أو مشرب من موجبات الافتراق فقد عصى أبا القاسم- صلى الله عليه وآله وسلم-

_ (1) كذا في الأصل، والصواب: المؤمن.

سلوك

وحاد الله ورسوله، وأعرض عن دعوة الحق، وأجاب داعي الشيطان. سلوك: علينا أن نعتقد بقلوبنا أن الاتحاد واجب، أكيد، محتم علينا مع جميع المؤمنين، وأن فيه قوتنا وحياتنا، وفي تركه ضعفنا وموتنا، وأن نعلن ذلك بألسنتنا في كل مناسبة من أحاديثنا، وأن نعمل على تحقيق ذلك بالفعل باتحادنا وتعاوننا مع إخواننا في كل ما يقتضيه وصف الايمان الجامع العام. والله المستعان وعليه التكلان (1).

_ (1) ش: ج 7، م 7 - غرة ربيع الأول 1350ه - جويلية 1931م.

قيمة الرجل بقيمة قومه

قِيمَةُ الرَّجُلِ بِقِيمَةِ قَوْمِهِ. لما قَالَ النَّبِيُّ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ، وَتَرَاحُمِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى سَائِرُهُ بِالْحُمَّى وَالسَّهَرِ». نبه على معنى عظيم في ارتباط كل فرد بأمته ارتباط الجزء بكله، وهذا الارتباط يقتضي أمورا كثيرة منها ما جاء نصا في الحديث الشريف، ومنها ما يؤخذ مما يقتضيه التشبيه، ومن هذا أن الفرد منظور إليه في النظر الاجتماعي العام بما ينظر به إلى أمته، سواء أساواها في المستوى الذي هو فيه من رقي وانحطاط أم كان أسمى منها أو أدنى، فقيمته في النظر الاجتماعي العام هي قيمتها. ... ــــــــــــــــــــــــــــــ جمعتني ليلة بثلاثة من شبابنا المتعلم التعليم الأوروبي، والمتأدب الأدب الإفرنجي ممن لا ينقصه شيء عن الطبقات الراقية منهم، وانساق بنا الكلام إلى ما تكتسب به الأمم والأفراد الاحترام في عين غيرها، واتفقنا على أن الأمة التي لا تحترم مقوماتها من جنسها ولغتها ودينها وتاريخها لا تعد أمة بين الأمم، ولا ينظر إليها إلا بعين الاحتقار مع القضاء عليها في ميادين الحياة بالتقهقر والاندحار. وأن الفرد الذي لا يحافظ على ذلك من أمته لتأخرها في سير الزمان بما أحاط بها من

ظروف الحياة، وأن تحلى بأعظم وأحسن ما يتحلى به الراقون من أمة أخرى لا ينظر إليه إلا بالعين التي ينظر بها إلى أمته. أخذ أولئك الشبان- وقد زالت عن أبصارهم غشاوة الغرور والغفلة لما أقنعتهم بأن قيمة الرجل بقيمة أمته- يقصون علي من الوقائع التي وقعت لهم هم أنفسهم ما يثبت تلك الحقيقة ويؤيدنها. قلت لأولئك الأخوان- وقد اندهشت مما لم أكن أحسبه يقع-: لا تلوموا من عاملكم بما تقتضيه نظرة اجتماعية عامة، ولكن لوموا أنفسكم إن جهلتم هذه الحقيقة، وأنتم أبناء دين قررها من أول أيامه في مثل الحديث الشريف الذي افتنحنا به هذا المقال. واليوم- وقد تجلت لكم الحقيقة علميا وعمليا- عليكم أن تلتفتوا إلى أمتكم فتنشلوها مما هي فيه بما عندكم من علم وما اكتسبتم من خبرة محافظين لها على مقوماتها سائرين بها في موكب المدنية الحقة بين الأمم، وبهذا تخدمون أنفسكم وتخدمون الإنسانية بإنهاض أمة عظيمة تاريخية من أممها، ثم لا يمنع هذا من أخذ العلم عن كل أمة وبأي لسان واقتباس كل ما هو حسن مما عند غيرنا ومد اليد إلى كل من يريد التعاون على الخير والسعادة والسلام (1).

_ (1) ش: ج 8، م 11 - شعبان 1354ه - نفامبر 1935م.

إنما يؤخذ الدين من العلماء

إِنَّمَا يُؤْخَذُ الدِّينُ مِنَ الْعُلَمَاءِ. قَالَ عَلَيْه وَآلِهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا فَسَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ فَدُلَّ عَلَى رَاهِبٍ فَأَتَاهُ فَقَالَ إِنَّهُ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ: لَا، فَقَتَلَهُ، فقال: فَكَمَّلَ بِهِ مِائَةً، ثُمَّ سَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ فَدُلَّ عَلَى رَجُلٍ عَالِمٍ فَقَالَ: إِنَّهُ قَتَلَ مِائَةَ نَفْسٍ فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، وَمَنْ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ؟ انْطَلِقْ إِلَى أَرْضِ كَذَا وَكَذَا فَإِنَّ بِهَا أُنَاسًا يَعْبُدُونَ اللهَ فَاعْبُدِهُ مَعَهُمْ وَلَا تَرْجِعْ إِلَى أَرْضِكَ فَإِنَّهَا أَرْضُ سَوْءٍ، فَانْطَلَقَ حَتَّى إِذَا نَصَفَ الطَّرِيقَ أَتَاهُ الْمَوْتُ فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلَائِكَةُ الْعَذَابِ، فَقَالَتْ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ: جَاءَ تَائِبًا مُقْبِلًا بِقَلْبِهِ إِلَى اللهِ. وَقَالَتْ مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ: إِنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ، فَأَتَاهُمْ مَلَكٌ فِي صُورَةِ آدَمِيٍّ فَجَعَلُوهُ بَيْنَهُمْ، فَقَالَ: قِيسُوا مَا بَيْنَ الْأَرْضَيْنِ فَإِلَى أَيَّتِهِمَا كَانَ أَدْنَى فَهُوَ لَهُ، فَقَاسُوا فَوَجَدُوهُ أَدْنَى إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي أَرَادَ، فَقَبَضَتْهُ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ» رواه الشيخان عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. ... ــــــــــــــــــــــــــــــ

الألفاظ

الألفاظ: الراهب: هو العابد وكانت الرهبنة فيمن قبلنا بالانقطاع عن الناس والتفرغ للعبادة، ابتدعها أهلها دون أن يكتبها الله عليهم كما في سورة الحديد. ثم جاء الإسلام فشرع الجمعة والجماعة فأبطل الانقطاع عن الناس للعبادة إلا من فرَّ بدينه أيام الفتنة خوفا على نفسه منها. والعالم من له دراية وملكة واشتغال بالعلم، والمقابلة ما بينهما في الحديث تقتضي أن الراهب لم يكن عنده من العلم ما يقال في صاحبه عالم. والعالم لم يكن عنده من الانقطاع للعبادة ما يقال في صاحبه راهب. قال الإمام محمد السنوسي- رادا على الأبي-: تسمية النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- الرجل الثاني بالعالم والأول بالراهب يدل على أن الراهب ليس بعالم، والحجة فيما دل عليه لفظه صلى الله عليه وآله وسلم من أن كل واحد إنما ثبت له في نفس الأمر معنى الوصف الذي أطلقه عليه، وأما دلالة الدال على الراهب وهو إنما سئل عن العالم فليس فيه دليل على أن الراهب كان عالما لاحتمال أن يكون الدال رجلا جاهلا، ولا يعرف العالم إلا من هو عالم، لا سيما والرهبانية كثيرا ما يعتقد الجهلة ملازمتها للعلم. والترهب إن سلم أنه يقتضي العلم فإنما يقتضي العلم بما يحتاج إليه في ترهبه وإلا فكم من مترهب جاهل. ا ه المعنى: هذا رجل جنى هذه الجنايات العديدة ثم ذكر الله تعالى فأراد الرجوع إليه فسأل عن أعلم أهل الأرض ليوجده سبيلا إلى ذلك، فدله من دله على راهب لاعتقاد العامة العلم في كل مظهر للتعبد، فلم يجد عنده مخرجا من جنايته فكمل بقتله المائة محمولا على

الأحكام

ذلك باليأس والجرأة والاستهانة بقتل النفس. ولكنه بقي مع ذلك يطمع أن يجد عند غيره سبيلا، فدل على عالم فأفتاه بإمكان التوبة مستدلا بأنه لا شيء يحول بينه وبينها، وأشار عليه بمفارقة أرضة التي ضري فيها على الجنايات فإنها كانت أرض سوء عليه، وأمره أن يذهب إلى أخرى بها قوم صالحون يعبدون الله ويسيرون بطاعته فيصاحبهم ويعبد الله معهم لإصلاح نفسه بمعاشرة الصالحين وتحقيق توبته بالعمل الصالح معهم، فذهب الرجل على هذه النية وأدركه الموت قبل أن يصل إلى تلك الأرض، واختصمت فيه ملائكة الرحمة وحجتهم نيته التي خرج عليها، وملائكة العذاب وحجتهم أنه لم يعمل عملا صالحا، فكان القضاء لملائكة الرحمة تغليبا لجانب القصد والنية وتأيدت النية بجده في السير إلى الأرض التي قصد حتى كان أقرب إليها من الأرض التي خرج منها. الأحكام: في الحديث لزوم السؤال للجهال. وفيه أن أهل العلم هم الذين يسألون عنه لا غيرهم وإن كان أكثر عبادة، ولذا قال مالك رحمه الله: (لا يؤخذ العلم عن أربعة: سفيه معلن السفه، وصاحب هوى يدعو إليه، ورجل معروف بالكذب في حديث الناس وإن كان لا يكذب على الرسول عليه وآله الصلاة والسلام، ورجل له فضل وصلاح لا يعرف ما يحدث به)، ذكره ابن عبد البر في جامع العلم. وفيه صحة توبة القاتل وهو مذهب جمهور السلف وهذا الحديث من أدلتهم. عبرة وتحذير: العلم قبل العمل ومن دخل في العمل بغير علم لا يأمن على نفسه من الضلال ولا على عبادته من مداخل الفساد والاختلال، وربما

إستشهاد

اغتر به الجهال فسألوه فاغتر هو بنفسه فتكلم بما لا يعلم فضل وأضل. فهذا الراهب قد دل عليه من دل عليه يحسبه أعلم أهل الأرض فسئل فأجاب بما لا يعلم فعادت مصيبة ذلك عليه وعلى سائله، ولو دل هو سائله على غيره من العلماء لسلم هو وسلم السائل، فحذار من التقصير في العلم اللازم للعبادة. وحذار من الكلام في دين الله، والإفتاء للناس بغير علم مؤهل لذلك. وحذار من صرف الناس عن العلم وأصله إذا رأيتهم قد افتتنوا بك. إستشهاد: جاء في حديث رواه الترمذي وابن ماجة وغيرهما عن ابن عباس- رضي الله عنهم- وخرجه ابن عبد البر في جامع العلم عنه وعن أبي هريرة- رضى الله عنه- أن فقيها واحداً أشد على الشيطان من ألف عابد. وواقع هذا حديثنا مما يشهد لذلك، فقد رأيت ماذا جر الراهب على نفسه وعلى غيره، وكيف أنقذ العالم ذاك الشرير من الهلاك. نسأل الله الفقه في الدين وعمل الصالحين وتوبة الأوابين لنا ولجميع المسلمين آمين يا رب العالين (1).

_ (1) ش: ج12، م 8 - غرة شعبان 1351ه - ديسمبر 1932م.

كلمات الشرك (النهي أن يقال: ما شاء الله وشئت)

كَلِمَاتُ الشِّرْكِ (النَّهْيُ أَنْ يُقَالَ: مَا شَاءَ اللَّهُ وَشِئْتَ) (1). قال الإمام ابن ماجة في سننه: "حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ ثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ رَأَى فِي النَّوْمِ أَنَّهُ لَقِيَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَقَالَ: نِعْمَ الْقَوْمُ أَنْتُمْ لَوْلَا أَنَّكُمْ تُشْرِكُونَ تَقُولُونَ مَا شَاءَ اللَّهُ وَشَاءَ مُحَمَّدٌ، وَذَكَرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْه ِوَآلِهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: «أَمَا وَاللَّهِ إِنْ كُنْتُ لَأَعْرِفُهَا لَكُمْ قُولُوا: مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ شَاءَ مُحَمَّدٌ». حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي الشَّوَارِبِ ثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ عَنِ الطُّفَيْلِ بْنِ سَخْبَرَةَ أَخِي عَائِشَةَ لِأُمِّهَا عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْه ِوَآلِهِ وَسَلَّمَ- بِنَحْوِهِ". ... ــــــــــــــــــــــــــــــ السند الأول: هشام ثقة أخرج له البخاري والأربعة، وابن عيينه أحد أئمة الإسلام المشهورين، وابن عمير روى له الستة، وابن حراش مثله، وحذيفة الصحابي الشهير.

_ (1) ما بين الهلالين هو ما ترجم به ابن ماجة على الباب.

السند الثاني

السند الثاني: ابن أبي الشوارب ثقة روى عنه مسلم والترمذي والنسائي، وأبو عوانه أحد الأعلام روى له الستة، وعبد الملك وربعي تقدما، والطفيل صحابي. رتبة الحديث: الحديث صحيح بسنديه مرفوع بهما ولا يضر إبهام الرجل الرائي لأن حذيفة قال أنه من المسلمين والمسلمون يومئذ هم الصحابة وكلهم عدول ولأن حذيفة نقل بلوغ الرؤيا للنبي- صلى الله عليه وآله وسم- ونقل قوله عند سماعها. مزيد بيان: ذكر أبو عمر بن عبد البر في كتاب الاستيعاب: (أن سفيان وشعبة وزائدة) يعني ابن قدامة ثقة روى له البخاري وجماعة رووا عن عبد الملك بن عمير عن ربعي بن حراش عن الطفيل حديثه هذا. وقال أبو عمر: وفي حديث زائدة عن الطفيل أنه رأى في المنام أن قائلا يقول له من اليهود: نعم القوم أنتم لولا قولكم ما شاء الله وما شاء محمد ثم رأى ليله أخرى رجلا من النصارى فقال له مثل ذلك فأخبر بذلك النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- فقام خطيبا فقال: «لا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد وقولوا ما شاء الله وحد» وزاد بعضهم فيه ثم ما شاء محمد. فأفادنا كلام ابن عبد البر تعدد الرواة عن عبد الملك، وبينت لنا رواية زائدة بن قدامة أن الرائي هو الطفيل بن سخبرة وأن الرؤيا تكررت، وأن النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- قام خطيبا في الناس لمزيد العناية والاهتمام بالأمر، وأنه قال: ما شاء الله وحده.

الجمع

الجمع: لا تعأرض بين الروايات فيعمل بها كلها، وقوله في رواية زائدة ما شاء الله وحده لا ينافي ثم ما شاء محمد فيكفي الاقتصار على ثم ما شاء محمد، كما عند ابن ماجة. والأحسن أن يزيد قبله لفظة وحده ليأتي بجميع الوارد. الألفاظ: تشركون: أي تقرنون بين مشيئة الخالق ومشيئة المخلوق بعبارة تفهم التسوية وهي العبارة المذكورة في الجملة التالية المبينة وهي قوله: «تقولون ما شاء الله وشاء محمد» وهذه العبارة قد تكون في نحو قولهم: افعل ذلك ما شاء الله وشاء محمد أو لا أفعله ما شاء الله وشاء محمد. وفي الاستثناء في اليمين نحو إلا ما شاء الله وشاء محمد، وفي باب اليمين أورد الحديث ابن ماجة. إن كنت لأعرفها لكم. ان نافية واللام في لاعرفها لام الجحود والفعل بعدها منصوب فنفى معرفته بهذه العبارة منهم على وجه يفيد أنها شيء ما كان ليخطر في باله لمنافاته لإيمانهم وتوحيدهم وعدم مناسبتها لحالهم. ثم: تفيد انحطاط مشيئة المخلوق عن مشيئة الخالق وتأخرها وتلك هي رتبتها وقد شاء الله ما شاء وحده ثم كانت مشيئة المخلوق، فلفظة وحده أصرح في استقلال مشيئة الله. المعنى: كان بعض من الصحابة يقولون هذه العبارة دون أن يعلم بهم النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- فأراد الله أن يطلع عليها نبيه لينهاهم عنها، وكان من حكمتها أن اطلعهُ عليها بهذا الوجه. أرى بعض الصحابة رؤيا فيها تعبير لهم بالشرك الذي

الأحكام

هو أبغض الأشياء إليهم من بعض أهل الكتاب وهم الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم ليكون ذلك أشد في الزجر وأعظم في التوبيخ، فذكرت الرؤيا للنبي- صلى الله عليه وآله وسلم- وكانوا يقصون عليه رؤاهم فنفى علمه بصدور تلك العبارة منهم، وأظهر إنكاره وتعجبه من صدور تلك العبارة الشركية التي ما كان ليظن صدورها منهم، وفي هذا ما فيه من اللوم والتعنيف، فقام خطيبا فيهم فنهاهم عن العبارة الشركية الباطلة، وبين عبارة التوحيد والحق الصحيحة، وهي أن يقولوا ما شاء الله وحده ثم ما شاء محمد أو ما شاء الله ثم ماشاء محمد. الأحكام: أفاد الحديث النهي عن القرن بين مشيئة الخالق ومشيئة المخلوق بالواو وجواز القرن بينهما بثم وأثبت للمخلوق مشيئة ولكنها مقيدة ومتأخرة بخلاف مشيئة الخالق فإنها سابقة ومطلقة مستقلة {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} وأفاد أن القرن بين مشيئة الخالق ومشيئة المخلوق شرك، وأن من فعل ذلك يقال له قد أشركت لأنه لما قصت عليه الرؤيا وفيها قوله لولا أنكم تشركون أقر ذلك ولم ينكره. وأن كلمة الشرك لا يجوز أن تقال ولو كان قائلها لا يعتقد المساواة بين الخالق والمخلوق، كما هو حال الصحابة الذين لا يشك في عملهم بذلك، وأن قائل كلمة الشرك هذه وإن كان يقال له أشركت كما تقدم لا يخرج بذلك من الإيمان حيث كان لا يعتقد التسوية فإنه لم يحكم بردتهم بتلك الكلمة وإنما نهاهم عن قولها.

تأييد

تأييد: روى ابن ماجة في هذا الباب بسند حسن عن ابن عباس قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم-: «إذا حلف أحدكم فلا يقل ما شاء الله وشئت ولكن ليقل ما شاء الله ثم شئت». وهذا الحديث في معنى الحديث الذي تكلمنا عليه. تفصيل أول: الشرك يكون بالاعتقاد وهذا مخرج عن الإيمان ويكون بالقول مثل الكلمة المتقدمة وهذا لا يخرج صاحبه من الإيمان وإنما يحرم عليه النطق به. تفصيل ثان: من الصفات ما يثبت لله على ما يليق بجلاله ويثبت للمخلوق على ما يليق بحدوثه وافتقاره كالمشيئة وكالعطاء، عندما تكون للمخلوق أسباب فيها، فهذا يسند إليهما ويحرم أن يسوى بينهما في العبارة، ويجب الإتيان بعبارة صريحة في عدم التسوية، فأما المشيئة فقد تقدمت وأما العطاء فكأن تقول لمن أعطاك شيئا هذا من فضل الله ثم من فضلك، ومنها ما لا يجوز أن يجمع فيه بين الإسناد للمخلوق والخالق أبدا كالعطاء الذي لا دخل للمخلوق فيه لخروجه عن الأسباب الممكن هو منها فلا يجوز أن تقول في غيث نزل مثلا هذا من الله ومن فلان ولا ثم من فلان لأنه لا دخل لأحد فيما وراء الأسباب. تطبيق: إذا نظرنا في حالة السواد الأعظم منا معشر المسلمين الجزائريين فإننا نجهد هذه الكلمات شائعة بينهم فاشية على ألسنتهم وهي (بربي والشيخ) وهم يعنون أن ما يفعلونه هو بالله وبتصرف الشيخ (بربي والصالحين) (بربي والناس الملاح) (إذا حب ربي والشيخ) (شوف ربي والشيخ). وهي كلها من

العلاج

كلمات الشرك كما ترى، فأما قولهم: (بربي والشيخ) ونحوه فمما لا يجوز أن يذكر فيه المخلوق مع الخالق قطعا لأن ما تفعله هو بالله وحده أي بتقديره وتيسيره ولا دخل للمخلوق فيه، وأما قوله: (إذا حب الله والشيخ) فمما لا يجوز إلا بلفظة ثم. فيكون بمعنى إذا شاء الله ثم شاء الشيخ إذا كان هذا الشيخ حيا وكان الأمر مما يكن أن تدخل مشيئته فيه. ولقد شب على هذه الكلمات ونحوها الصغير، وشاب عليها الكبير، وانقطع عنها النهي والتغيير، حتى صارت كأنها من الكلمات المشروعة، وصار قلعها من الألسنة من أصعب الأمور، وأصبحت كلمة بالله وحده ونحوها مهجورة لديهم منسية عندهم ثقيلة على أسماعهم ثقل من يدعوهم إليها ويلهج بها على قلوبهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. العلاج: على من عرف هذا الحديث النبوي أن يعمل به في نفسه وأن ينشره بين الناس وأن يعالجهم به بتفهيمهم فيه وتحذيرهم من مغبة مخالفته والإصرار على معاندته. ولأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم. فإلى التوحيد أيها المسلمون، وإلى الإرشاد أيها العالمون، والله مع الصابرين (1).

_ (1) ش: ج 6، م 8 - غرة صفر 1351ه - جوان 1932م.

الصدق والكذب أين يهدي كل واحد منهما

الصِّدْقُ وَالْكَذِبُ أَيْنَ يَهْدِي كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. ((قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- «عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ. وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقًا، وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ. وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ كَذَّابًا»، رواه البخاري ومسلم في صحيحهما واللفظ لمسلم. ... ــــــــــــــــــــــــــــــ المفردات: عليكم: اسم فعل بمعنى تمسكوا. وإياكم منصوب على التحذير في معنى احذروا. والصدق: مطابقة الخبر للواقع وتصويره على ما هو عليه. والكذب: عدم مطابقة الخبر للواقع وتصويره على خلاف مما هو عليه. يهدي إلى كذا: يعني يوصل إليه، بتحري الشيء: يقصده ويتعمده ولا ينحرف عنه، البر: اسم جامع للخير كله، والفجور: الانبعاث في الشر، الصدّيق: الكثير الصدق، والكذّاب: الكثير الكذب.

التراكيب

التراكيب: عبر بالمضارع في يصدق ويكذب ويتحرى ليفيد التجدد وأن ذلك هو شأنه الذي يتكرر منه. المعنى: تمسكوا بالصدق والزموه فإن الصدق يوصل إلى العمل الصالح الخالص من كل مذموم، وإن العمل الصالح يوصل إلى الجنة، وإن الرجل ليتكرر منه الصدق ويتكرر منه تعمد الصدق والقصد إليه والتزامه حتى يكتب عند الله كتابة خاصة صديقا فيثاب ثواب الصديقين ويرضى عليه رضاهم. واحذروا الكذب واجتنبوه فإن الكذب يوصل إلى الشر والانبعاث فيه وأن الشر يوصل إلى النار. وأن الرجل ليتكرر منه الكذب ويتكرر منه تعمده والقصد إليه حتى يكتب عند الله كتابة خاصة كذابا فيؤثم إثم الكذابين ويسخط عليه سخطهم. تفصيل وتقسيم: الصدق والكذب يكونان باللسان على ما تقدم من التفسير وهو الأصل في إطلاقهما. وعليه محمل الحديث، ويكونان - في القلب من حيث الاعتقاد، فالعقد الحق الجازم صدق، والعقد الباطل كذب، ويكونان في الجوارح من حيث الأفعال فالفعل الموفر حقه الواقع على وجهه صدق، والفعل الناقص الواقع على غير وجهه كذب، وجماعها كلها الحق والكمال في الصدق والباطل والنقص في الكذب فأقسام كل منهما مرتبط بعضها ببعض ارتباطا يكاد لا ينفصل ويكاد من التزم بعضها أن لا يفارق الآخر. ولا يكمل العبد في مقام الصديقة إلا بكماله في أقسام الصدق كلها وبعده عن أقسام الكذب كلها.

توجيه وتعليل

توجيه وتعليل: كان الصدق يوصل إلى البر والكذب يوصل إلى الفجور لوجوه، الأول: ما بيناه في الفصل السابق من الارتباط بين أقسام كل منهما ورجوعهما إلى أصل واحد. الثاني: أن إلتزام الصدق يحمل على الوفاء بالعقود والعهود والوعود في معاملة الناس فتجري أعمال المرء مع غيره على سداد واستقامة، والكذب بضد ذلك. الثالث: أن الملتزم للصدق يمسك نفسه عن أعمال السوء مخافة أن يسئل عنها فيصدق فيجر على نفسه سوءا أو يكذب وهو لا يرضى مواقعة الكذب فتجري أعماله على البر سالمة من الفجور، والملتزم للكذب الضاري عليه يرتكب العظائم ولا يبالي أن ينفي عن نفسه كاذبا. أما البر فوصل إلى الجنة لأنها دار المتقين، وأما الفجور فوصل إلى النار لأنها دار الفاسقين، وأما كتابة الملازم للصدق صدّيقا فجزاء له من جنس عمله، فإنه داوم على الصدق وثبت عليه حتى رسخ فيه وتمكن خلقا من أخلاقه فأثبت اسمه كذلك في الصديقين، ومثاله ملازم الكذب. إستفادتان: الأولى: أن بين الخصال خصال البر وخصال الشر تناسبا وتوالدا أو هذا أصل يحتاج إليها في تهذيب الأخلاق وتزكية النفوس وعلاج أدوائها فإن من عرف المرض الأصلي الذي نشأت منه أمراض أخرى سهل عليه إذا عالجه أن يقتلع- بإذن الله- الباقي، ومن عرف أصل الخير سهل عليه إذا تمسك به أن يحصل على فروعه. الثانية: إن تكرر العمل بمقتضى خلق من الأخلاق يقويه ويثبته وأن العمل على مقتضى ضده يضعه ويزيله، وهذا أصل عظيم أيضا في التربية يعلمنا أن التساهل في الأعمال

إستنتاج

السيئة ولو كانت في نظرنا طفيفة يفضي بنا إلى استعصاء داء الرذيلة، وأن القيام بالأعمال الحسنة ولو كانت طفيفة يبلغ بنا إلى رسوخ الفضيلة. إستنتاج: قد كتب الله مقادير الأشياء قبل أن يخلق السموات والأرض وجفت الأقلام وجرت المقادير كما في الصحيح، فهذه الكتابة كناية أخرى من باب الجزاء للعامل على عمله يستحق بها صاحبها وصف الصديقين وثوابهم أو وصف الكذابين وعقابهم ويظهر بذلك في الملا الأعلى عند ملائكة الرحمن ويكسي حلته بين الناس ويعرف به {وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ}. ترهيب: إن من داوم على الكذب حتى كتب من الكذابين يخشى عليه أن يحرم من التوفيق إلى التوبة وتلك هي أكبر مصيبة، فإن الله من فضله على هذه الأمة أن فتح أمامها أبواب التوبة، وإذا داوم العبد على الإعراض عن باب سيده متهاونا بمخالفة أمره حتى كتب عنده في سىجل الشريرين كان ذلك خطرا عظيما عليه في أن يسد في وجهه الباب ويضرب بسوط الحرمان، ففي هذا الحديث الشريف ترهيب شديد من سوء عاقبة هذه الحال. تحذير: مواطن الهزل ومجالس البسط مما يتساهل فيها الناس فيلقون فيها الكلام بلا ضبط وتجري ألسنتهم بالكذب من غير مبالاة ولا احتياط فيقعون في الإثم على الكذب والإثم على التهاون بالمعصية ويتعودون ذلك التساهل حتى يقعوا في الوعيد المذكور

تحذير أوكد

في هذا الحديث، فليحذر المسلم من مثل هذه الحال وليتفطن لنفسه في مثل هذه المقامات. تحذير أوكد: من قلة الاحتياط في الدين وعدم الاحترام للعلم ما يجري على ألسنة كثير من الناس قولهم (قال رسول الله) - صلى الله عليه وآله وسلم -. دون معرفة برتبة الحديث عند أهله، ومصيبة بعض المتسمين بالعلم والقائمين بالخطب الجمعية في هذا أشد وأضر لتعديها منهم إلى غيرهم ونشرهم الموضوعات الكثيرة في الناس، ولا يكفيهم أنهم سمعوا أو وجدوا فقالوا، فقد قال النبي- صلى الله عليه وآله وسلم-: «كفى بالمرء كذبا أن يُحدِّث بكلِّ ما سمع» رواه مسلم في مقدمة صحيحه، والكذب عليه- صلى الله عليه وآله وسلم- عظيم والتحري فيما دونه واجب فكيف به، خصوصا وقد قال هو عليه وآله الصلاة والسلام: «يكون في آخر الزمان دجَّالُون كذَّابون يأتونَكُم من الأحاديث بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤُكم فإِيَّاكم وإِياهم لا يُضلُّونَكم ولا يُفتنُونَكُم»، رواه مسلم في مقدمة صحيحه. وقال الإمام سيدي محمد السنوسي- رحمة الله عليه- في شرحه لهذا الموضع: (وعلماء السوء والرهبان على غير أصل سنة كلهم داخلون في هذا المعنى وما أكثرهم في زماننا (القرن التاسع) نسأل الله تبارك وتعالى السلامة من شر هذا الزمان وشر أهله) انتهى كلامه. سلوك: على العاقل أن يضبط لسانه في الجد والهزل، وأن يحترس من الكذب في الجليل والحقير، وأن يتثبت فيما ينقل ويروي من حديث الناس، وأن يتثبت أكثر وأبلغ فيما يروي في الدين

والعلم، وأن يتحرى الصدق وتصوير الحقائق وأن يجعل ذلك من همه وأعظم قصده، وأن يبادر بالتوبة فيما يزل به لسانه إلى ربه، ويعمل دائما على أن يطابق بين عقدهِ بقلبه ونطقه بلسانه وعمله بجوارحه حتى يكون متحريا للصدق بجميع أقسامه ويكتب به بفضل الله ورحمته في الصديقين. وفقنا لهذا ويسرنا له نحن والمسلمين أجمعين يا رب العالمين يا أرحم الراحمين (1)

_ (1) ش: ج 10، م 8 - جمادى الثانية 1351ه - أكتوبر 1932م.

الراعي الغاش لرعيته

الرَّاعِي الْغَاشُّ لِرَعِيَّتِهِ. ((عَادَ عُبَيْدُ اللهِ بْنُ زِيَادٍ مَعْقِلَ بْنَ يَسَارٍ الْمُزَنِيَّ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، فَقَالَ مَعْقِلٌ: إِنِّي مُحَدِّثُكَ حَدِيثًا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-. لَوْ عَلِمْتُ أَنَّ لِي حَيَاةً مَا حَدَّثْتُكَ بِهِ، إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللَّهُ رَعِيَّةً يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ إِلَّا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ»)). رواه مسلم. ... ــــــــــــــــــــــــــــــ الصحابي الجليل والأمير الظالم: معقل بن يسار - رضي الله عنه -: أسلم قبل الحديبية، وشهد بيعة الرضوان. سكن البصرة، وبها مات في خلافة معاوية - رضي الله عنه-، وحفر نهرا بالبصرة بأمر عمر- رضي الله عنه- وإليه ينسب، وفيه جاء المثل: (إذا جاء نهر الله بطل نهر معقل). عبيد الله بن زياد: أبوه زياد بن سمية، ألحقه معاوية بأبي سفيان فنسب إليه. ولاه (عبيد الله) معاوية البصرة وأقره عليها يزيد، وعبيد الله هذا هو الذي جهز الجيوش لقتال الحسين بن علي- رضي

ترك الموعظة خوف المفسدة

الله عنهما- وهو ألزمهم بقتاله- قتله الله- وقد قتله إبراههيم بن الأشعث بعد، وخبره مذكور ومعروف. ترك الموعظة خوف المفسدة: كان معقل بن يسار يرى من ظلم عبيد الله بن زياد وغشه للرعية ولم يستطع ان يواجهه بما في هذا الحديث من الموعظة، خوف أن يبطش به، فتثور من أجل قتله أو إذايته ثائرة بالبصرة تؤدي إلى سفك دماء المسلمين دون ان تكف ابن زياد عن ظلمه، فاتقاء لهذا لم يواجهه بالموعظة، حتى جاء عبيد الله لعيادته، وقد علم معقل أنه في مرض موته فاغتنم الفرصة وجابهه بالموعظة لما خلصت للمصلحة وأمن المفسدة. ما الراعي وما الرعية؟: الرعاية حفظ الشيء، وتفقد أحواله، وإعطاؤه ما يحتاج إليه، وصرفه عما يؤذيه، وما لا فائدة له فيه، ووقايته مما يعدو عليه، وكل من جعل الله تحت يده شيئا من مخلوقاته فقد استرعاه ذلك الشيء أي: جعله في رعايته، وطالبه وكلفه بأن يرعاه فصار مسؤولا عنه عند الله، وما من بالغ عافل ذكرا أو انثى إلا وقد جعل الله شيئا في رعايته، ولو لم يكن من ذلك إلا نفسه وعقله وبدنه وأعظم بهما من شيء تجب رعايته. وهذا معنى التعميم في الحديث. الواجب على الراعي في رعيته: يجب على كل راع - بالتعميم المتقدم المستفاد من الحديث السابق- أن ينصح لما استرعاه الله من رعية في القول والعمل، وأن لا يدخر شيئا من جهده في حفظه وتفقد أحواله، وإعطائه ما يحتاج إليه، وصرفه عما يؤذيه وما لا فائدة له فيه، ووقايته

توجيه

من كل ما يعدو عليه، وان يستصفي له من الآراء والأعمال والأقوال أبلغ ما يقدر عليه، فإذا قصر في شيء من هذا فقد غش رعيته بما يدخله عليها من الضرر في ولايته عليها، وارتكب بذلك الكبيرة التي توعد عليها بالنار. توجيه: لما كانت أعظم الرعايات رعاية أمر العامة بالأمرة والولاية، حدث معقل بن يسار بهذا الحديث عبيد الله بن زياد لأنه كان أميرا لمصر عظيم، فيكون من أول من يشمله عموم لفظ: «ما من أحد». وهذا هو وجه تخريج مسلم لهذا الحديث في كتاب الامارة، وأما اللفط فهو على عمومه. الوعيد: معناه، وشرطه، وعمومه: توعد الله على لسان نبيه- صلى الله عليه وآله وسلم- الراعي الغاش بتحريم الجنة عليه، والتحريم هو المنع، ويكون موقتا موقوتا ويكون مؤبدا، فإن مات الغاش مستحلا للغش أو عوقب على إصراره بسوء الخاتمة -عياذا بالله- فتحريمها عليه مؤبد، وإن مات مسلما مصرا فتحريمها عليه مؤقت، يدخل النار بغشه ثم يخرج منها بما في قلبه من إيمان: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}. وهذا المعنى -على تفصيله- عام بحسب صريح لفظه، لكل راع غاش واقتضى قوله - صلى الله عليه وآله وسلم- في الحديث: «يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته» أن هذا الوعيد فيمن مات مصراً ولم يتب، فأما من تاب ولم يمت يوم مات على غشه فليس داخلا في هذا الوعيد.

تطبيق

نعم، ينجو التائب من عقوبة الغش بتوبته، ولكنه تبقى عليه تبعات العباد وما ألحق بهم من ضرر، وهي حقوق أخرى جنى عليها زيادة على أصل الغش، فلهما عقوباتها والقصاص عليها. تطبيق: كل من تولى أمراً من أمور الأمة فهو من رعاتها المسؤولين عنها، المتوعدين بهذا الوعيد الشديد إذا غشوها على أي وجه كانت تلك الولاية من الوجوه التي تختلف باختلاف الأمم وأوضاعها، ومما هو من أعظم الولاية على الأمة اليوم بحسب وضعها -النيابة عنها، والتكلم بلسانها من أدنى درجات تلك النيابة إلى أعلاها، فليعلم هذا من يتقدم لهذه الولاية، وليراقب الله فيها، كما على كل راع أن يعلم هذا الوعيد ويحذر ان يقتحمه. نسأل الله لنا وللمسلمين أن يوفقنا إلى القيام بأحسن الرعاية، في كل ما استرعانا من أنفسنا وغير أنفسنا (1).

_ (1) ش: ج 4، م 11 - غرة ربيع الثاني 1354ه - جوليت 1935م.

التستر بالنقائص

التَّسَتُّرُ بِالنَّقَائِصِ. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلَّا المُجَاهِرِينَ، وَإِنَّ مِنَ المُجَاهَرَةِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلًا ثُمَّ يُصْبِحَ -وَقَدْ سَتَرَهُ اللَّهُ- فَيَقُولَ: يَا فُلاَنُ عَمِلْتُ البَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا، وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ عَنْهُ». رواه البخاري في الأدب ومسلم في الزهد والرقائق. ... ــــــــــــــــــــــــــــــ الكلمات: المعافى من العافية وهي السلامة، فالمعافى هو السالم، ويحتمل أن يكون المراد هنا سلامة العرض من القدح، أو سلامة البدن من الحد، أو سلامة العاقبة من المؤاخذة بالذنب، والمجاهر هو المعلن بفسقه. المعنى: قد يرتكب المذنب المعصية مع شعوره بقبح ما أتى، وخجله به من ربه، وانكسار قلبه من أجل معصيته، فهو لذلك يتستر بذنبه فلا يطلع عليه غيره لا بقول ولا بفعل، فهذا قد سلم منه الناس فلم يؤذهم بشره ولم يدعهم إلى الاقتداء به، وسلم

منه الشرع فلم يكسر من هيبته، ولم ينقص عند الناس من حرمته، فسلم له هو عرضه من القدح، وبدنه من الحد، وسلم له أصل إيمانه، وهو حياؤه من الله، وخوفه منه، واحترامه لدينه، وبعضه لما يأتي من معصيته، فيوشك بهذه الحياة التي في قلبه أن يقلع عن ذنبه ويتوب فيسلم عن المؤاخذة بسبب التوبة، وقد يترجح ما في قلبه من خوف وخجل، واحترام وبغض للمعصية وتألم بها- على نفس المعصية فيسلم من المؤاخذة بها عند الموازنة يوم القيامة. فصدق فيه هذا الوعد بأنه معافى من ذنبه، وسالم من المؤاخذة به. أما الذي يجاهر بمعصيته ويعلن بها، فهذا قد تعدَّى على مجتمع الناس بما أظهر من فساد، وما أوجد من قدوة سيئة، وما عمل لمجاهرته على شيوع الفاحشة فيهم. وقد تعدى على الشرع بما انتهك من حرمته، وجرأ من السفهاء عليه. وهو بمجاهرته قد دل على استخفافه بحق الله وحق عباده وعلى عناده للدين، وخلو قلبه من الخوف والحياء، وأي إيمان يبقى بعدهما. ولما كانت المجاهرة بالمعصية تطلق في الغالب على من يعلن أمره للجماعات، بين النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- أن مجاهرة الفرد كمجاهرة الجماعة من باب التنبيه على الجزئي الخفي من جزئيات المنهي عنه، لأنه هو الذي شأنه أن لا يتنبه له فيتساهل فيه، ومن تساهل في الجزئي الخفي أداه ذلك إلى التساهل في غيره. وهذا الجزئي الخفي هو أن يعمل عملا يستره الله فيه ثم يحدث به رفيقه فيكشف ستر الله عنه.

إستنباط

إستنباط: قد تبين ما في المجاهرة من المفاسد والظلم، وقد دل الحديث على أن أهلها غير معافين فهم هالكون، فهي حرام ومعصية زائدة في أصل المعصية. فالمجاهر بمعصيته ارتكب معصيتين: المعصية والمجاهرة بها، وقد تجر عليه المجاهرة آثاما كثيرة بما يتسبب عن معصيته من شيوع الفاحشة وسوء القدوة، ويستمر ذلك يكتب عليه من آثاره ما بقي متسبب عن آثاره إلى يوم القيامة. فيا لفداحة الحمل يوم الفزع الأكبر. وكما يحرم تحدث الشخص بمعصية نفسه لما فيه من المجاهرة كذلك يحرم عليه أن يتحدث بمعصية غيره ولو كان هو الذي حدثه، لما في ذلك من إذاعة الفاحشة ومن الغيبة. تنبيه وتحذير: المجاهر بفسقه الذي لا يستتر من أحد يجوز ذكره بفسقه الذي جاهر به، إذا كان في ذكره به مصلحة أو دفع مفسدة، ويجب أن يحذر من ذكره لغير ذلك فإنه من الغيبة وإذاعة الفاحشة. إعتبار: هذا في الأفراد، ومثلها الأمم، فالأمة التي تقوم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتضرب على يد سفهائها وأهل الفساد منها، وتهجرهم وتنبذهم من مجتمعها تسلم من الشرور والبلايا، وتقل أو تنعدم منها المفاسد والمنكرات، والأمة التي تسكت عن سفهائها وأهل الشر من كبرائها، وتدعهم يتجاهرون فيها بالفواحش والقبائح - هي أمة هالكة، متحملة جريرة المجاهرة، بالمعاصي، بالهلاك في الدين والعذاب في الآخرة.

تربية

تربية: روى الحاكم في مستدركه عن ابن عمر- رضي الله عنهما- أن رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- قال: (اجتنبوا هذه القاذورات التي نهى الله عنها، فمن ألم بشيء منها فليستتر بستر الله). فليعمل المسلم على اجتناب المعاصي كلها. حتى إذا ألم بشيء منها فليجتهد في إخفائه وستره، وليضرع إلى الله تعالى في سجوده أن يتوب عليه من ذنبه، وليتوسل إليه -تعالى- بإيمانه به، وحيائه وخوفه منه، واحترامه لشرعه وعباده، فهو - جل جلاله - يحب التوابين ويحب المتطهرين (1).

_ (1) ش: ج11، م 11 - غرة ذي القعدة 1354ه - فيفري 1935م.

تفاوت الصدقات بنسبتها لأموال المتصدقين

تَفَاوُتُ الصَّدَقَاتِ بِنِسْبَتِهَا لَأَمْوَالِ الْمُتَصَدِّقِينَ. (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «سَبَقَ دِرْهَمٌ مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ». فَقَالَ رَجُلٌ: وَكَيْفَ ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «رَجُلٌ لَهُ مَالٌ كَثِيرٌ أَخَذَ مِنْ عُرْضِهِ مِائَةَ أَلْفٍ دِرْهَمٍ تَصَدَّقَ بِهَا وَرَجُلٌ لَيْسَ لَهُ إِلَّا دِرْهَمَانِ فَأَخَذَ أَحَدَهُمَا فَتَصَدَّقَ بِهِ»)، رواه النسائي وابن خزيمة، وابن حبان في صحيحه واللفظ له والحاكم، وقال صحيح على شرط مسلم، المنذري. ... ــــــــــــــــــــــــــــــ الألفاظ: السبق: الوصول للغاية قبل غيره. وأصله في الأبدان، ويكون للعقول في الوصول للفهم، وللأعمال في الوصول للأجر والفضيلة ومنه هذا. العرض- بضم العين- هو الجانب كعرض الحائط أي جانبه. المعنى: يقول- صلى الله عليه وآله وسلم- إن درهما واحدا تصدق به صاحبه نال به من الأجر والفضل أعظم مما نال صاحب مائة ألف درهم تصدق بها، فبلغ درهمه إلى غاية من الأجر والفضل

توجيه

ولم يبلغ إليها الآخر. ولما خفي وجه هذا على السائل لأن المعروف أن ثواب الكثير أكثر، بين له- صلى الله عليه وآله وسلم- أن هذا حيث يكون الدرهم بالنسبة لمال صاحبه كثيرا، فإن درهم ذى درهين هو شطر ماله، وتكون المائة ألف بالنسبة لمال صاحبها قليلة، فإنها لم تكن إلا من جانبه، وسلم أصله ومعظمه. توجيه: الأجر على قدر المشقة، والثواب على قدر النصب وما يجده ذو الدرهمين من إنفاق أحدهما وهما كل ما يملك من المشقة والنصب أعظم مما يجده ذو المائة ألف وهي بعض ماله الكثير. وذو الدرهمين كان عنده من الإيمان واليقين ما أنفق به شطر ماله، فهو أعظم إيمانا ممن أنفق جزءا من مائة منه، وما عند ذى الدرهمين من خلق الإيثار والتضحية والبذل في سبيل الله أعظم بكثير مما عند ذى المائة ألف فهو أعظم منه أجرا وفضلا، فقد كان أعظم منه مشقة، وأقوى منه إيمانا، وأبلغ منه تضحية، وبذل جهد في سبيل الله وإيثارا. لا جرم كان أعظم منه فضلا واجرا. تبصرة: يقعد الشيطان للقليل المال في طريق الإنفاق فيزهده فيه، ومن مداخله عليه أنه يحقر له ما ينفقه من قليل بأنه لا غناء فيه، فيقبض يده عن الصدقة بذلك القليل الذي يستطيعه فيفوته أجر كبير، فبصرنا نبينا- صلى الله عليه وآله وسلم- بالحقيقة وبين لنا أن ذلك القليل بالنسبة لمال صاحبه هو كثير، حتى أنه يسبق كثير غيره من أهل المال العظيم، ليشارك فقيرنا غنينا بقليله، فيكون من السابقين إلى الأجر الكثير.

تربية

تربية: الأخلاق الفاضلة التي هي موجودة في فطرة الإنسان بأصولها وتنمو بحسن التربية، وتنطمس بالإهمال - قد حفظهما الله تعالى علينا بما وفقنا إليه من الإسلام، وما علمنا من آداب، وما شرعه لنا من أعمال، ومما ينمي تلك الأخلاق ويقويها المداومة على الأعمال التي تنشأ عنها، ومن أعظم تلك الأخلاق وأدخلها في باب النهوض بجلائل الأعمال، وحفظ سعادة الاجتماع خلق البذل، فجاء هذا الحديث الشريف وغيره يبين لنا عظيم أجر صدقة المقل، ليحثه على مشاركة الغني في العطاء بما استطاع، فيكون البذل من الجميع عاما. والسخاء بينهم مشتركا، وآثاره عليهم ظاهرة، فينمو خلقه بذللك في الأمة كلها، وترسخ أصوله في نفوسها، فتصبح وهي أمة سخية بما عندها في سبيل ما ينفعها، متعاونة بالبذل في مهماتها، مشتركة بجميع طبقاتها في كل مشروع خيري من مشاريعها، وإذا تربت الأمة على هذه الصفة، وتدرجت إلى الكمال فيها، فذلك عنوان نجحها وفوزها وبلوغها غاية آمالها، وسعادتها في الدارين. وفقنا الله لبذل كل عزيز وغال في سبيله، والمسلمين أجمعين (1).

_ (1) ش: ج4، م7 - غرة ذي الحجة 1349ه - أفريل 1931م.

السيادة في البر لمن ساد في البحر

السِّيَادَةُ فِي الْبَرِّ لِمَنْ سَادَ فِي الْبَحْرِ (1). (مَالِك عَنْ إِسْحَقَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ إِذَا ذَهَبَ إِلَى قُبَا يَدْخُلُ عَلَى أُمِّ حَرَامٍ بِنْتِ مِلْحَانَ فَتُطْعِمُهُ -وَكَانَتْ أُمُّ حَرَامٍ تَحْتَ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ- فَدَخَلَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ فَأَطْعَمَتْهُ وَجَلَسَتْ تَفْلِي فِي رَأْسِهِ فَنَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- يَوْمًا ثُمَّ اسْتَيْقَظَ وَهُوَ يَضْحَكُ قَالَتْ: فَقُلْتُ: مَا يُضْحِكُكَ؟ قَالَ: نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي عُرِضُوا عَلَيَّ غُزَاةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَرْكَبُونَ ثَبَجَ هَذَا الْبَحْرِ مُلُوكًا عَلَى الْأَسِرَّةِ أَوْ مِثْلَ الْمُلُوكِ عَلَى الْأَسِرَّةِ - يَشُكُّ إِسْحَقُ - قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، فَدَعَا لَهَا ثُمَّ وَضَعَ رَأْسَهُ فَنَامَ ثُمَّ اسْتَيْقَظَ يَضْحَكُ، قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا يُضْحِكُكَ؟ قَالَ: نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي عُرِضُوا عَلَيَّ غُزَاةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ مُلُوكًا عَلَى الْأَسِرَّةِ أَوْ مِثْلَ الْمُلُوكِ عَلَى الْأَسِرَّةِ، كَمَا قَالَ فِي الْأُولَى، قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، قَالَ: أَنْتِ مِنْ الْأَوَّلِينَ، قَالَ: فَرَكِبَتْ الْبَحْرَ فِي زَمَانِ مُعَاوِيَةَ بن أبي سفيان فَصُرِعَتْ عَنْ دَابَّتِهَا حِينَ خَرَجَتْ مِنْ الْبَحْرِ فَهَلَكَتْ). ... ــــــــــــــــــــــــــــــ السند: ثبت عند البخاري من طريق الليث تصريح أنس بالرواية عن أم حرام خالته فكان أنس مرة يصرح بها ومرة لا يصرح،

_ (1) العنوان من وضع المشرف على طبع الكتاب.

المتن

وإذا روى الصحابي ما هو من أقوال النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- وشؤونه عن غيره فلا يقدح في حديثه عدم تصريحه بمن روى عنه لأن غيره صحابي مثله والصحابة كلهم عدول. ورواة هذا الحديث - غير مالك- أقارب، فإن اسحاق ابن عم أنس وأم حرام خالة أنس. وقد روى هذه القصة بلفظ أخصر عن أم حرام راوٍ آخر هو عمير بن الأسود العنسي خرجه البخاري. المتن: جاء عنه بألفاظ متقاربة كلها متفقة على أصل المعنى وخرجه البخاري بتلك الألفاظ في مواضع من صحيحه. العربية: فلي الرأس تفتيشه لإخراج الهوام أو للتنظيف من غبار ونحوه والمقصود هنا الثاني، لأن الأخبار متواترة تواتراً معنويا بنظافة جسمه- صلى الله عليه وآله وسلم- وطيب ريحه وعرقه. وثبج البحر وسطه وهو معظمه ومحل هوله. سؤال وجوابه: ما وجه دخوله- صلى الله عليه وآله وسلم- عليها وتمكينها من فلي رأسه؟ كانت محرما له بالخؤولة أو بالرضاعة حكاه الأئمة. تحقيق تاريخي: أول ما ركب المسلمون البحر للغزو في خلافة عثمان- رضي الله عنه- استأذنه معاوية- رضي الله عنه- فأذن له فغزا قبرص سنة سبع وعشرين. ذكره ابن الأثير وغيره. وأول ما غزا المسلمون القسطنطينية وركبوا إليها البحر كان في خلافة معاوية، سنة 28 وكان في ذلك الجيش أبو أيوب الأنصاري دفينها.

تطبيق على هذا التحقيق

تطبيق على هذا التحقيق: خرجت أم حرام مع زوجها وركبت البحر في زمان معاوية أي في زمان إمارته وكان ذلك أول جيش ركب البحر وكانت هي معهم وتوفيت بعد خروجها من البحر ونزولها في أرض قبرص كما ذكره ابن عبد البر وغيره. وأما الجيش الثاني فهو الجيش الذي غزا القسطنطينية ولم تكن أم حرام معهم، وما جاء في صحيح البخاري صريح فيما قلناه من تعين الجيش الأول والجيش الثاني. ونصه من طريق عمير بن الأسود عن أم حرام قالت سمعت رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- يقول: أول جيش من أمتي يغزون البحر قد أوجبوا، قالت أم حرام قلت: يا رسول الله أنا فيهم قال: أنت فيهم ثم قال النبي- صلى الله عليه وآله وسلم-: أول جيش من أمتي يغزون مدينة قيصر مغفور لهم. فقلت: أنا فيهم يا رسول الله؟ قال: لا. فكانت مع أول جيش غزا البحر وهو جيش معاوية إلى قبرص لا غيره كما حققنا. الأحكام: فيه دخول الرجل على محرمة دون حضور الزوج، وفيه سنة إطعام الزائر، وفيه تصرف المرأة فيما تحت يدها من مال زوجها من الطعام بالمعروف، وفيه مباشرة محرم الرجل له في غير العورة. وفيه سنة القيلولة، وفيه سنة إظهار السرور بالنعم والطاعات، وفيه جواز سؤال من بدر منه ما لا يعرف سببه، وفيه الاهتمام بكل ما يصدر منه- صلى الله عليه وآله وسلم-، وفيه جواز ركوب البحر، وفيه جواز التوسع بالحلال، وفيه فضل الغزو

الفوائد

في البحر، وفيه سؤال الشهادة، وفيه سنة طلب الدعاء ممن ترجى إجابته، وفيه الدعاء ممن طلب منه، وفيه غزو النساء مع الرجال. الفوائد: منها أن رؤيا الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- وحي محفوظ، وقد كان الصحابة يعلمون هذا علما عاما، ولذلك سألت أم حرام أولا وثانيا سؤال المتيقن بوقوع الغزو على الوجه الذي ذكر- صلى الله عليه وآله وسلم- ثم قد تكون رؤياهم بالمثال كما رأى النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- بقرا تنحر، فأولها بمن قتل من أصحابه في غزوة أُحُد، وقد تكون بالصريح الذي لا يحتاج إلى التأويل كما هنا. ومنها تحقيق استجابة دعائه إذا دعا، ولهذا قال لها في الثانية- جازما- أنت من الأولين. وهذا فيما لم يعلم بالمنع منه كما في حديث وسألته أن لا يذيق بعضهم بأس بعض. يعني أمته فمنعنيها. ومنها أن من معجزاته- صلى الله عليه وآله وسلم- إخباره بأمور غيبية لم يكن شيء مما يدل عليها أو يقتضي وقوعها يوم أخبر فوقعت كما أخبر، فركب أصحابه البحر وغزوا الروم ومدينة قيصر من بعده، بينما كانوا يوم أخبر بهذا من أبعد الأمم عن ركوب البحر والبراعة فيه، وكانت أم حرام مع الطائفة الأولى كما أخبرها، وكانت منهم على أبلغ وجه حيث فازت بالثمرة المقصودة من الغزو وهي الشهادة وإن كان موتها في غير مباشرة القتال، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ومن قتل في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في سبيل الله فهو شهيد. رواه مسلم. ولقوله تعالى: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ}.

الموعظة

الموعظة: علم الله أن السيادة في البر لمن ساد في البحر. وأن أقسام الأرض المتقاطعة وأصناف الأمم المتباينة - لا يقرب بينها. ويفتح الطريق لتواصلها وتعارفها، وينقل مدنياتها من بعض إلى بعض منها إلا ركوب البحر وملك ناصيتها، فجاءت الآيات القرآنية العديدة في ذكر البحر وصفاته ومنافعه وسفنه وبديع الصنعة فيه وعظيم النعمة به، وجاء هذا الحديث يبشر الأمة الإسلامية بما هيء لها من أسباب السيادة ويعرفها أنها أمة ملك وسلطان وقوة وأنها ستملك البحار، وتغزو الأمصار الكبار، يعرفها بهذا ويدعوها إليه لتعد له عدته وتأخذ له طريقه وتتوصل إليه بأسبابه. إذ لا يكون ملك إلا بأسباب الملك. ولا تكون قوة إلا بأسباب القوة ولا تكون السيادة إلا بأسباب السيادة، وقد علمت من دينها أن السيادة لا تكون إلا بالملك. وأن الملك لا يكون إلا بالقوة: قوة الأبدان وقوة العقول وقوة الأخلاق وقوة المال- وبهذه يكون العدل الذي هو أساس الملك وأن لا قوة إلا بالعلم والعمل والتهذب، فإذا دعاهم هذا الحديث إلى السيادة فقد دعاهم إلى هذا كله ونبههم على هذا التقدير المحكم الذي ارتبط بعضه ببعضه، وعلى أنه لا سبيل إلى غايته إلا بإتيانه من بدايته. وقد فهم المسلمون هذا دهرا فسلكوه فأنجز لهم الله وعده. وجهلوه أدهارا فتركوه فأذاقهم الله بأسَه، وما ربك بظلَّام للعبيد. ولئن عادوا إليه ليعودن إليهم، ولن يُخلف اللهُ الميعادَ (1).

_ (1) ش: ج1، م 10 - غرة رمضان 1352ه - جانفي 1934م.

الصحة والفراغ إستغلالهما والاستفادة منهما

الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ إِسْتِغْلَالَهُمَا وَالاِسْتِفَادَةَ مِنْهُمَا. قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ». البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهم. ... ــــــــــــــــــــــــــــــ اللغة: النعمة: ما يفعل على وجه الإحسان ضد النقمة، وهي ما يفعل على وجه العقوبة. المغبون: المنقوص في حقه أصله من غبن في البيع إذا نقص من حقه، ثم يستعمل في كل من نقص من حظه في كل شيء. الصحة: اعتدال المزاج، وقوة البنية ضد المرض. الفراغ: الخلاء ومصدر فرغ يفرغ إذا كان خاليا من الشغل. وهذا هو المراد هنا. التراكيب: مغبون خبر مقدم لكثير، والجملة نعمتان والصحة والفراغ خبر لهما مقدر، والجملة مستأنفة بيانيا.

المعنى

المعنى: إن كثيرا من الناس يكونون في صحة من أبدانهم، وفراغ من أشغالهم، ولا يعمرون أوقاتهم الفارغة بطاعة الله تعالى، ولا يستعملون أبدانهم الصحيحة فيها، فتضيع عليهم تلك الأوقات وتلك الصحة باطلا، فيخسرونهما ولا يستفيدون منهما فيكون ما خسروه منهما نقصا في حظهم من حياتهم، وإذ كانت الحياة هي أغلى شيء عند الإنسان يحافظ عليه، ولا يبذل شيئا منه إلا بحقه، فهؤلاء الذين نقصوا حظهم في حياتهم هم أعظم المغبونين. فقه الحديث ومقصوده: عمر الإنسان أنفس كنز يملكه، ولحظاته محسوبة عليه، وكل لحظة ثمرة معمورة بعمل مفيد فقد أخذ حظه منها وربحها وكل لحظة تمر فارغة فقد غبن حظه منها وخسرها. وكذلك بدنه فهو أنفس آلة عنده، وإنما فائدة الآلة بالعمل، فإذا كانت الآلة، في عمل فهو ربح وزيادة، وإذا كانت في بطالة فهو في نقص وخسران. فالرشيد الرشيد هو من أحسن استعمال ذلك الكنز الثمين، وتلك الآلة العظيمة، فعمر وقته بالأعمال، وداوم على استعمال ذاته فيها فربحهما. والسفيه السفيه من أساء التصرف فيهما فأخلى وقته من العمل، وعطل ذاته عن الشغل فخسرها. ولما كان الإنسان مضطرا إلى السعي في معاشه، فيشغله ذلك عن وجوه الطاعات من العلم ونوافل الصلاة والصوم والحج وغيرها، ومعرضا للأمراض فتمنعه منها. ولكنه لا يخلو من حالة يكون فيها فارغا من الشغل لمعاشه، ومعافى من المرض في بدنه - ذكره هذا الحديث الشريف بما عليه في هذه الحالة من

تفريغ على الحديث

المحافظة عليها، وعمارتها بالطاعات حتى لا يخسرها، وتنقص من عمره بلا فائدة، فيكون مغبونا فيها. تفريغ على الحديث: فإذا عمر الإنسان وقت فراغه من الكد لعيشه، بطاعة من طاعات الله واستعمل بدنه مغتنما فرصة صحته فيها، ثم عرض شغل من اشغال عيشه فقطعه عنها، او طرأ عليه مرض فمنعه منها ونيته المداومة على تلك الطاعة لولا الشاغل والمانع، فإنه يكتب له في شغله وفي مرضه، ثواب ما كان يعمله في صحته وفراغه، ومن الدليل على ذلك حديث البخاري -رضي الله عنه- عن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنهم- سمعت أبا موسى مرارا يقول: قال رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم-: «إذا مرض العبد أو سافر كتب له مثل ما كان يعمل مقيما صحيحا، والسفر نوع من الشغل». تفريغ آخر: وإذا كان المؤمن عاملا في طاعة الله تعالى أيام صحته وفراغه ثم مرض فإن له أجرين: أجرا على ما كان يعمل في صحته بدليل ما تقدم، وأجرا على مرضه. لقوله -صلى الله عليه وآله وسلم-: «مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ وَلاَ وَصَبٍ وَلاَ هَمٍّ وَلاَ حَزَن حتَّى الشَّوْكَةُ يُشَاكُها إِلاَّ كفَّر اللَّه بهَا مِنْ خطَايَاه». رواه البخاري- رضي الله عنه- وكذلك إذا شغل بالسعي على نفسه أو على العيال، فإن له أجرين أجر ما شغل عنه، وأجر سعيه على عياله، وأدلة ثواب الساعي على عياله كثيرة، منها حديث الرجل الذي رأى الصحابة- رضي الله عنهم- من جلده ونشاطه، فقالوا: يا رسول الله: لو كان في سبيل الله. فقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم-: «إن خرج

سلوك العاملين بهذه الأحديث

يسعي على ولده صغارا فهو في سبييل الله، وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على نفسه يعفها فهو فبي سبيل الله». رواه الطبراني بسند صحيح. ومثله من شغل بطاعة عن طاعة، كمن شغل بالرباط عن نافلة الحج مثلا، لأنه إذا كان المشغول بالسفر المأذون فيه يكتب له ما كان يعمله مقيما، لأن نيته المداومة لولا عأرض السفر- فالمشغول بالطاعة عن طاعة كان ينوي فعلها لولا عروض الطاعة الأخرى- أحرى وأولى. سلوك العاملين بهذه الأحديث: يعمرون أوقاتهم كلها بالأعمال، أعمال القلب، أو أعمال اللسان، وأعمال الجوارح، فلا يشتغلون عن طاعة إلا بطاعة. ولا يخرجون من عمل إلا إلى عمل، فإذا مرضوا صبروا واحتسبوا، وأتوا بما يستطيعون، فتتضاعف أجورهم بأعمالهم وبنيانهم، ويربحون جميع حياتهم، وأولئك هم الفائزون. سلك الله بنا وبالمسلمين مسلكهم بمنه وكرمه. آمين (1).

_ (1) ش: ج 2، م 7 - غرة شوال 1349ه - مارس 1931م.

نظام الغذاء

نِظَامُ الْغِذَاءِ. «مَا مَلَأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ. بِحَسْبِ ابْنِ آدَمَ أُكُلَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ، فَإِنْ كَانَ لَا مَحَالَةَ فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ، وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ، وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ». رواه الترمذي وغيره وقال حسن صحيح ... ــــــــــــــــــــــــــــــ إن الإنسان بجزئه الترابي، وهو بدنه- مخلوق أرضي، وبجزئه النوراني- وهو روحه- مخلوق سماوي، فإذا جذبه جزؤه الترابي بزمام الشهوة إلى السفليات الأرضية، طار به جزؤه النوراني على بساط العقل إلى علويات السماء. وهو لن يزال دائما بين هذا وذاك في انحطاط واعتلاء. لم يخلق الإنسان للأرض وإن خلق منها، وإنما خلق للسماء وللملإ الأعلى، وآخر كلمة قالها النبي- صلى الله عليه وآله وسلم-: «اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ الْأَعْلَى» وإنما ينتهي إلى هذا بصفاء روحه واستنارة عقله، وما البدن الترابي إلا آلة لهما، لاستكمال قوتهما، ومظر لتلك الاستنارة وذلك الصفاء. وعيار على ما فيهما من قوة وضعف بما يكسبانه ويكتسبانه في طريق الاختبار والابتلاء. لينال الإنسان ما يستحقه على حسن تصرفه أو سوء تصرفه من عادل الجزاء، بعد خروجه من دار الفناء إلى دار البقاء.

فالجسد آلة بديعة للروح لازمة لها في الدنيا وملازمة لها في الأخرى. فمن العدل الإلهي أن يكون لها حظها هنالك كما كان لها حظها هنا، ومن العدل الواجب على الإنسان أن يعطيها -كما يعطي الروح- حقها من الاعتناء، فكما يغذي روحه بما ينير عقلها من العلوم والمعارف، وما يزكيها من الأخلاق والآداب، وما يقويها من صالح العمل، ومفيد السعي في وجوه الحياة. ويحفظها من كل ما يغشى العقل من جهالات وأوهام، وما يدسي النفس من رذائل، وما يضعفها من كسل وبطالة - كذلك عليه أن يغذي بدنه بما ينميه وما يصلحه وما يقويه، ويحفظه من كل ما يفسده أو ينهكه أو يؤذيه. يتوقف هذا البدن وصلاحه على الغذاء، وقد جعل الله فيه وعاء وأي وعاء، وهو المعدة: مخزن الغذاء وبيت الداء وعلى حفط نظام هذا الوعاء تترتب الصحة والمرض والسقم والشفاء. فإذا ملأ ابن آدم بطنه كان عليه شر وعاء، وانبعثت منه شر الأدواء: أسقام للبدن، وأثقال على الروح، وظلمات للعقل، فانقلب على الانسان مع انتفاع به إلى أصعب الشر وأقسى البلاء. وإذا اقتصر على أكلات تقيم الصلب وتمسك البدن حصل من البدن على العمل، وسلم من آلام المرض، ونعم بالعافية، وكان انتفاعه بالآلة البدنية خالصا من شوائب الضرر. وإذا غلبته الشهوة، وكان- لا محالة- منقادا للذة، فليقف دون الشبع ولا يملأ كل الملأ المعدة حتى لا تثقل حركتها في الهضم، وحتى لا تنتفخ في البطن فتسد مجاري النفس، وبذلك

ليس الخبز كل ما نريد

يكون قد عدل بين أصول الحياة البدنية الثلاث طعامه وشرابه ونفسه، فأعطى لكل واحد الثلث من بطنه. غير أن الإنسان إذا كان هكذا تغلبه الشهوة، وتقوده اللذة، فإنه بمظنة أن يتجاوز- ولو في بعض الأحيان- العدل إلى الامتلاء. فشرع له الصوم ليقاوم شر ذلك بما فيه من راحة للمعدة ونقاء، وتربية على امتلاك زمام نفسه عن الشهوات والملذات، وعلى استطاعة حملها على الجوع والعطش عند الاقتضاء. هذا للمعتدل وللمالئي للبطن الملوك للشهوة بالأحرى والأولى. أما ذاك المقتصر على الأكلات فهو له زيادة في القوة ورسوخ لما تمكن منه من العادة المشروعة الحسنة. فالصوم ضرورة لنظام الغذاء وحفظ الصحة البدنية وعون للإنسان على حسن استعماله لآلته الترابية الأرضية للترقي إلى آفاقه الروحية النورانية وكمالاته العلوية. فالحمد لله الذي شرع لنا الصيام وفرض علينا رمضان ووفقنا إلى القيام به في كل عام. نسئله المزيد إنه الحميد المجيد. ليس الخبز كل ما نريد: نحن- المسلمين- ربينا تربية إسلامية على إلفة الجوع، والتقلل من الأكل والاقتصار على قدر الحاجة، والمواساة في المطعم والمشرب. فطعام الواحد عندنا يكفي الاثنين وطعام الاثنين يكفي الأربعة وطعام الثلاثة يكفي الستة وطعام الأربعة يكفي الثمانية ونعتقد عن تجربة أن الرجل لا يهلك عن نصف قوته.

بهذه التربية استطعنا أن نبقى ونعيش في مثل ما عليه حالة معظم الأمة الجزائرية من الفاقة والعوز والجوع والمسغبة، بينما هي تنظر إلى ما ينعم فيه غيرها من النعمة والرخاء، مما لو أصاب أمة أخرى لاجتاحها وأفناها، أو لأثارها ودفعها إلى موارد العذاب والردى. وكما ربانا الإسلام هذه التربية من ناحية الغذاء فقد ربانا تربية أخرى من نواحي أخرى. ربانا على محبة العلم والمعرفة والرغبة فيهما والتلهف على ما فات منهما والاحترام لمن كان له حظ فيهما. وبهذه التربية استطعنا - رغم الفاقة ورغم الجوع ورغم التثبيط والمعاكسة أن نحافظ على قرآننا وخطنا وبقايا علوم لغتنا وديانتنا وجملة معارفنا، واندفعنا إلى تأسيس المكاتب العربية رغم ما يحول بينها وبيننا واندفعنا إلى المكاتب الحكومية فضاقت عنا وبقيت مئات الآلاف في أنياب الجهل والفقر من أبنائنا. ولولا تلك التربية الإسلامية التي زرعتها القرون فاستقرت في قرارات النفوس، وصارت من الخلق الموروث، لكان ما نحن فيه من ظلم وتعاسة وتقديم كل أحد علينا في وطننا والترك لمعامل التجويع والتجهيل تخرج آلاتها الفتاكة المتنوعة للقضاء علينا - شاغلا لنا عن العلم وعن الشعور به وعن طلبه وعن المزاحمة عليه. جهل قوم من ذوي السلطة هذا الخلق منا فحسبوا- وهم جد عالمين بما فيه الأمة من جوع وفاقة- أننا قوم لا نريد إلا الخبز، وأن الخبز عندنا هو كل شيء، وأننا إذا ملئت بطوننا مهدنا ظهونا، وأنهم إذا أعطونا الخبز فقد أعطونا كل ما نطلب

اذ الخبز- في زعمهم- هو كل ما نريد، فإذا حادثناهم في حالنا سكتوا عن كل شيء إلا عن الجوع والخبز، وإذا رفعنا أصواتنا بمطالبتهم بحقوقنا لديهم، أو بإنجاز مواعيدهم خرجت المراسيم بتوزيع قناطير القمح أو الفرينة أو الدقيق أو سلفات البذر التي لا ينال المحتاج الحقيقي منها ما يسد حاجته، وتذهب في أثناء توزيعها في تعاريج والتواءات أخرى ... فإذا صدرت تلك المراسم طبل المطبلون وزمر المزمرون، وحسب المغرورون أننا قد رضينا وفرحنا وانتهى أمرنا. يا قوم، إنتا أحياء، وإننا نريد الحياة وللحياة خلقنا. وأن الحياة لا تكون بالخبز وحده، فهنالك ما علمتم من مطالبنا العلمية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية وكلها ضروريات في الحياة. ونحن نفهم جيدا ضروريتها للحياة، وقد بذلنا فيها لكم ما كان -يوما- سببا قويا في حياتكم فلا تبخلوا علينا اليوم بما فيه حياتنا إن كنتم منصفين، وللأيام والأمم مقدرين. وإلا فالله يحكم بيننا وبينكم وهو خير الحاكمين (1).

_ (1) ش: ج9، م 12 - رمضان 1355ه - ديسمبر 1936م.

نظافة الطرق والمجالس أو مصلحة من مصالح البلدية

نَظَافَةُ الطُّرُقِ وَالْمَجَالِسِ أَوْ مَصْلَحَةٌ مِنْ مَصَالِحِ الْبَلَدِيَّةِ. " قَالَ رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «اتَّقُوا اللَّعَّانَيْنِ» قَالُوا: وَمَا اللَّعَّانَانِ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «الَّذِي يَتَخَلَّى فِي طَرِيقِ النَّاسِ أَوْ فِي ظِلِّهِمْ». رواه مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنهما-. ... ــــــــــــــــــــــــــــــ المفردات: اتقوا: اجتنبوا، اللعانين: الكثيرو اللعن، واللعن الابعاد من رحمة الله، واللعان في الحقيقة من يصدر منه اللعن بكثرة، وقيل في التخلي في الطريق، والتخلي في الظل، لعانان لأنهما سبب في صدور اللعن بكثرة من الناس لفاعلهما، فأسند ما في معنى الفعل إلى سببه مجازا. التخلي أصل معناه الذهاب إلى الخلاء، والمراد به هنا قضاء الحاجة البشرية من بول أو غائط. وأطلق التخلي عليها لأن الشأن أن تكون في الخلاء. ففي اسمه أدب من آدابه. المعنى: إذا أردتم قضاء الحاجة، فاجتنبوا الطرقات، وانجتنبوا الأماكن التي اتخذها الناس للجلوس في ظلها، ومن تخلى في واحد من هذين فإنه يجلب على نفسه لعنا كثيرا.

الحكم

الحكم: التخلي في طرقات الناس وأماكن جلوسهم متعد عليهم مؤذ ظالم لهم فهو داخل في لعن الله للظالمين، وشأن الناس عندما يجدون القذر في طرقاتهم وأماكن جلوسهم أن يلعنوا من آذاهم بذلك، وهم مظلومون منه، فيكون لعنهم من دعوة المظلوم، ودعوة المظلوم مستجابة، فصار المتخلي قد أوقع نفسه في لعنة الله ولعنة الناس المظلومين، والذنب الذي يؤدي إلى هذا اللعن لا يكون إلا من الكبائر، فالتخلي في طربق الناس أو في ظلهم كبيرة من الكبائر. تعميم: تشمل الطرق الطرق إلى البيوت، والأسواق، والقرى، وموارد الماء، والطرقات كلها. ومثل المكان الذي اتخذه الناس للجلوس في ظله. كل مكان اتخذوه للجلوس فيه لمنفعة من منافعهم فيدخل في ذلك الأسواق والمنتزهات وغيرها، فكل ذلك مما يحرم التخلي فيه، ويلحق بالتخلي وضع القذر، والوسخ، والزبل، والشوك، وكل ما فيه مضرة، لما في الجميع من التعدي والإذاية. تتميم: كما انتظم الحديث الصحيح المتقدم النهي عن تقذير الطرقات والأماكن العامة بذلك الترهيب الشديد، كذلك جاء الترغيب في تنقيتها وإزالة الأذى عنها شاملا ذلك، ما كان من المستقذرات وغيرها من كل ما فيه أذى، فقد ثبت في الصحيح اأن أبا برزة الأسلمي -رضي الله عنه- قال للنبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: يا نبي الله علمني شيئا انتفع به؟ فقال -صلى

تطبيق

الله عليه وآله وسلم-: «أَعْزِلِ الْأَذَى عَنْ طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ» وثبت قول صلى الله عليه وسلم: «بينما رجل يمشي بطريق وجد غصن شوك على الطريق فأخره فشكر الله له فغفر له» وإذا كانت إزالة الأذى عن الطريق - ومثلها كل مجتمع عام- فيها الأجر والمثوبة فوضع الأذى فيه الإثم والعقوبة. تطبيق: من أحسن المصالح التي يقوم عليها اجتماع الناس في التمدن الحاضر وألزمها - مصلحة التنظيف في الإدارات البلدية وأنت ترى أن الأحاديث النبوية المتقدمة قد انتظمت ذلك التنظيف بالترهيب من التقذير وكل مؤذ، والترغيب في إزالتهما. فوضع الإسلام بذلك أصل هذه المصلحة قبل أن يعرفها تمدن اليوم. فعلى المسلم أن يلتزم ذلك كأمر ديني يثاب عليه عند ربه، ليكون دافعه إلى القيام به من نفسه، ورقيبه في تنفيذه ضميره الديني وإيمانه، وقد شهد التاريخ لمدن الإسلام أيام مدنيته الزاهرة بانفرادها بين مدن عصرها النظافة وحسن المظهر، وما ذلك إلا من تطبيق مثل ما تقدم مما وضعه الإسلام من أصول المصالح التي تقوم عليها الحياة، ويترقى بها المجتمع. فعلينا -معشر المسلمين- أن نعني بما دعتنا إليه هذه الأحاديث النبوية الشريفة لنكون بين الناس مثلا حسنا راقيا في النظافة البلدية، لنفع أنفسنا ومجتمعنا ونرفع اسم ديننا، ونفوز بالأجر والرضى من ربنا. وفقنا الله لإحياء معالم الدين، ورفع اسم الإسلام والمسلمين (1).

_ (1) ش: ج4، م11 غرة جمادى الأولى 1354ه - 1 أوت 1935م.

بناء المساجد على القبور من فعل شرار الخلق عند الله يوم القيامة

بِنَاءُ الْمَسَاجِدِ عَلَى الْقُبُورِ مَنْ فِعْلِ شِرَارِ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. - 1 - عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ وَأُمَّ سَلَمَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- ذَكَرَتَا كَنِيسَةً رَأَيْنَهَا بِالحَبَشَةِ فِيهَا تَصَاوِيرُ، فَذَكَرَتَا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ- صَلَّى اللهُ عَلَيْه ِوَآلِهِ وَسَلَّمَ- فقال: «إِنَّ أُولَئِكَ إِذَا كَانَ فِيهِمُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ فَمَاتَ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا، وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّوَرَ، فَأُولَئِكَ شِرَارُ الخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ القِيَامَةِ»، رواه الشيخان رحمة الله عليهما. ... ــــــــــــــــــــــــــــــ هذا الحديث أحد الأحاديت الكثيرة المستفيضة التي جاءت في التحذير من بناء المساجد على القبور، والتنبيه على أن ذلك يؤدي إلى عبادتها، والتأكيد لذلك بذكر ما كان ممن قبلنا من ذلك وما أداهم إليه، فأخبر النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- في هذا الحديث أن أصحاب تلك الكنيسة كانوا يبنون المساجد على قبور صلحائهم، ويصورون صورهم وإنما يفعلون ذلك تعظيما لهم واستئناسا بصورهم، وليعبدوا الله تعالى عند قبورهم تبركا بهم، فكانوا بسبب فعلهم من بناء المساجد على القبور، ونحتهم للصور شرار الخلق عند الله يوم القيامة،

الأحكام

لأن تعريف المسند إليه بالإشارة- وهو أولئك- يفيد أن المشار إليه الموصوف بصفات- وهي بناء المساجد على القبور، وتصوير الصور- حقيق وجدير بما يذكر بعد اسم الإشارة، وهو قوله: شرار الخلق - من أجل اتصافه بتلك الصفات. وذلك لأن القبر المعظم ببناء المسجد عليه، والصورة المعظمة لتمثيلها ذلك الصالح يصيران مما يعبد ويعتقد فيه النفع والض، ر والعطاء والمنع، فيدعى ويسأل، وتطلب منه الحوائج وتخشع عنده القلوب، وتنذر له النذور، وهذه من العبادة التي لا تكون إلا لله، وقد جاء في صحيح البخاري عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما-: أن وُداًّ وسُوَاعًا ويَغُوثَ ويَعُوقَ ونَسْراً التي كانت أصناما لقوم نوح، وعبدتها العرب من بعدهم - كانت أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصابا وسموها بأسمائهم ففعلوا، فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك - الذين نصبوها - وتنسخ - تغير - العلم عبدت، فعلم من هذا أن ما يكون موضوعا في أصله بقصد حسن يمنع وينهى عنه إذا كان يؤدي بعد ذلك إلى مفسدة. الأحكام: هذا الحديث نص صريح في المنع من بناء المساجد على قبور الصالحين، وتصوير صورهم، وفيه الوعيد الشديد على ذلك، ونظيره حديث جندب- رضي الله عنه- عند مسلم- رضي الله عنه- سمع رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- يقول- قبل أن يموت عليه السلام بخمسة أيام-: «ألا وأن من كان قبلكم يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، إني أنهاكم عن ذلك».

تطبيق

تطبيق: هذه هي حالتنا اليوم معشر مسلمي الجزائر وأحسب غيرنا مثلنا. تجد أكثر أو كثيرا من مساجدنا مبنية على القبور المنسوب أصحابها إلى الصلاح، ومنهم من كانوا معروفين بذلك ومنهم المجهولون. فإن قيل: إنما بنيت المساجد على تلك القبور للتبرك بأصحابها لا لعبادتهم. قلنا: إن النهي جاء عاما لبناء المسجد على القبر، بقطع النظر على قصد صاحبه به، ولو كانت صورة البناء للتبرك مرادة بالنهي لاستثناها الشرع، فلما لم يستثنيها علمنا أن النهي على العموم، وذلك لأنها وإن لم تؤد إلى عبادة المخلوق في الحال فإنها في مظنة أن تودي إلى ذلك في المآل. وذرائع الفساد تسد، لا سيما ذريعة الشرك ودعاء غير الله التي تهدم صروح التوحيد. وانظر إلى ما جاء في حديث ابن عباس في أصنام قوم نوح وكيف كان أصل وضعها، وكيف كان مآلها، وتعال إلى الواقع المشاهد نتحاكم إليه، فإننا نشاهد جماهير العوام يتوجهون لأصحاب القبور ويسألونهم، وينذرون لهم، ويتمسحون بتوابيتهم، وقد يطوفون بها، ويحصل لهم من الخشوع والابتهال والتضرع ما لا يشاهد منهم إذا كانوا في بيوت الله التي لا مقابر فيها. فهذا هو الذي حذر منه الشرع قد أدت إليه كله، وهبها لم تؤد إلى شيء منه أصلا، فكفانا عموم النهي وصراحته، والعاقل من نظر بإنصاف ولم يغتر بكل قول قيل. إيمان وامتثال: علينا أن نصدق بهذا الحديث بقلوبنا، فنعلم أن بناء المساجد على القبور من عمل شرار الخلق كما وصفهم النبي- صلى الله عليه وآله وسام- وأن تنطق بذلك ألسنتنا كما

لعن من اتخذ المساجد على القبور

نطق به هذا الحديث الشريف، وأن نبني عليه أعمالنا، فلا نبني مسجداً على قبور ولا نعين عليه، وأن ننكره كما ننكر سائر المنكرات حسب جهدنا، ومن أعظم الإنكار تبليغ هذا الحديث بنصه، وتذكير الناس به، والعمل على نشره حتى يصير معروفا عند عامة الناس وخاصتهم، إذ لا دواء للبدع الشيطانية إلا نشر السنة النبوية، ولا نستعظم انتشار هذه البدعة وكثرة ناصريها فإنها ما انتشرت وكثر أهلها إلا بالسكوت عن مثل هذا الحديث والجهل به. ولنكن في إرشادنا مقتصرين على إيراد لفط الحديث وشرحه -على أنه واضح مفهوم بنفسه- دون أن نمس شيئا من شؤون أولئك المقبورين، فإنهم إخواننا سبقونا بالإيمان، فلهم علينا حق الدعاء والاستغفار، فإذا عملنا كلنا على هذا من حسن قصد ومحبة في الخير للمسلمين، رجونا أن يؤيدنا الله تعالى، ويجعل النفع بأيدينا، {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (1). لَعْنُ مَنِ اتَّخَذَ الْمَسَاجِدَ عَلَى الْقُبُورِ. - 2 - «لَعَنَ اللَّهُ اليَهُودَ وَالنَّصَارَى، اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ». البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-. ... لما أخبر عليه وآله الصلاة والسلام أن الله لعن اليهود والنصارى بين علة وسبب لعنهم، وهي اتخاذهم قبور أنبيائهم مساجد. وذلك بأن بنوا عليها المساجد أي أماكن العبادة كما هو صريح في حديث آخر هكذا: «بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا»

_ (1) ش: ج5، م 7 - غرة محرم 1350ه - ماي 1931م.

النهي عن البناء على القبور

وسنذكره في الجزء الآتي إن شاء الله، فالمتخذ للمساجد على القبور ملعون بنص هذا الحديث الصحيح الصريح. فيا أيها المؤمنون بمحمد- صلى الله عليه وآله وسلم- المصدقون لحديثه، إياكم والبناء على القبور، إياكم واتخاذ المساجد عليها إن كنتم مؤمنين، وعليكم بتبليغ هذا الحديث والتذكير به والتكرير لذكره يكن لكم أجر المجاهدين في سبيل رب العالمين، وثواب العاملين لإحياء سنة سيد المرسلين، عليه وعليهم الصلاة والسلام أجمعين (1). النَّهْيُ عَنِ الْبِنَاءِ عَلَى الْقُبُورِ. - 3 - «نَهَى رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يُجَصَّصَ الْقَبْرُ وَأَنْ يُقْعَدَ عَلَيْهِ، وَأَنْ يُبْنَى عَلَيْهِ». مسلم من طريق جابر بن عبد الله رضي الله عنه. ... هذا حديث صحيح صريح في النهي عن البناء على القبر، ومعضداته من السنة كثيرة، وهو من الظهور والصراحة بحيث لا يحتاج إلى تفسير، وإنما نسأل كل مؤمن بقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} وقوله: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} وقوله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا}، نسأل كل مؤمن بهذه الآيات أن يعمل بنهي النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- عن البناء على القبر، فلا يبن على قبر، ولا يعن بانيا، ويعلن هذا الحديث

_ (1) ش: ج3، م9 - غرة ذي القعدة 1351ه - مارس 1933م.

بناة المساجد على القبور من شرار الخلق عند الله يوم القيامة

في الناس ويذكرهم به ولا يفتأ يقرع به أسماع الغافلين، ويفتح به أعين الجاهلين {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (1) بُنَاة الْمَسَاجِدِ عَلَى الْقُبُوْرِ مِنْ شِرَارِ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. - 4 - (إِنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ وَأُمَّ سَلَمَةَ ذَكَرَتَا كَنِيسَةً رَأَيْنَهَا بِالحَبَشَةِ، فِيهَا تَصَاوِيرُ، لرسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْه ِوَآلِهِ وَسَلَّمَ- فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ أُولَئِكَ إِذَا كَانَ فِيهِمُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ فَمَاتَ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّوَرَ، فَأُولَئِكَ شِرَارُ الخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ عزَّ وجلَّ يَوْمَ القِيَامَةِ»). البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها. ... كانوا شرار الخلق بسبب بنائهم المساجد على قبور صالحيهم واتخاذ الصور لهم، وكلاهما ذريعة الشرك والوثنية، وإن كان النصارى يقصدون التبرك بآثار الصالحين. ولا يقال أن هذا فيمن جمع بين البناء والتصوير، لأنه قد جاء لعنهم على البناء وحده، كما في الحديث المتقدم في جزء مضى، ولا يقال أن هذا لأنهم نصارى، لأن المقصود النهي عن مثل فعلهم هذا، والتحذير منه ببيان العقاب المترتب عليه، حتى لا يفعل المسلمون هذا الفعل فيترتب عليه عقابه. فحذار أيها المسلم من فعل أهل الضلال ومشاكلة الأشرار ولا تغتر بكثرة الهالكين (2).

_ (1) ش: ج 2، م 9 - غرة شوال 1351ه - فيفري 1933م. (2) ش: ج 6، م 9 - غرة محرم 1352ه - ماي 1923م.

تأكيد النهي عن اتخاذ القبور مساجد

تَأْكِيدُ النَّهْيِ عَنِ اتِّخَاذِ القُبُورَ مَسَاجِدَ. - 5 - عَنْ جُنْدَبِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِخَمْسٍ يَقُولُ: «إِنِّي أَبْرَأُ إِلَى اللهِ أَنْ يَكُونَ لِي مِنْكُمْ خَلِيلٌ، فَإِنَّ اللهِ تَعَالَى قَدِ اتَّخَذَنِي خَلِيلًا كَمَا اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ -عليه السلام- خَلِيلًا، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ أُمَّتِي خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا. أَلَا وَإِنَّ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ وَصُلَحَائِهِمْ مَسَاجِدَ، أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ، إِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ». رواه مسلم ... ــــــــــــــــــــــــــــــ هذا الحديث كالأحاديث الماضية، صريح في النهي عن اتخاذ القبور مساجد، وذلك ببناء المساجد عليها كما تقدم في حديث أم حبيبة وأم سلمة- رضي الله عنهما- في الجزء الماضي وبالصلاة إليها كما فيما سننقله في الجزء الآتي. وفي هذا الحديث تأكيد النهي بكلمة "ألا" مرتين، وبتكرير النهي المستفاد أولا من "لا" وثانيا من الجملة الأخيرة المصرح فيها بمادة النهي مع التأكيد بأن. وبعد هذا التأكيد في هذه الصراحة لا يبقى من يشك أو يشكك في معناه إلا من أعمى الله بصيرته واستولى الغرض والهوى على لبه. وان كسبه على قلبه عياذا بالله. هذا وإننا بعد أن نفرغ من نقل متون هذه الأحاديث الصحيحة الصريحة، نأتي بكلام الأئمة من شراحها عليها، ثم بكلام الأئمة من فقهائنا المالكية، رحم الله الجميع، ونفعنا بمحبتهم، وحشرنا في زمرتهم، لا مبدلين ولا مغيرين، آمين (1).

_ (1) ش: ج 7، م 6 - غرة صفر 1352ه - جوان 1933م.

من اتخاذ القبور مساجد الصلاة إليها

مِنِ اتِّخَاذِ الْقُبُورِ مَسَاجِدَ الصَّلَاةُ إِلَيْهَا. - 6 - (عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، عَنِ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قَالَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ: «لَعَنَ اللَّهُ اليَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ». قَالَتْ: وَلَوْ ذَلِكَ لَأُبْرِزَ قَبْرُهُ، غَيْرَ أَنِّي أَخْشَى أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا). رواه الشيخان واللفظ للبخاري. ... ــــــــــــــــــــــــــــــ أفادت عائشة- رضي الله عنها- أنهم لم يبرزوا قبره- صلى الله عليه وآله وسلم- للناس خوفا من أن يتخذ مسجدا بالصلاة إليه، فاتخاذ القبور مساجد، الذي تكرر النهي عليه، ولعن مرتكبه، يكون بالبناء عليها كما في الأحاديث الماضية، وبالصلاة أيها كما في هذا الحديث (1).

_ (1) ش: ج 8، م 9 - غرة ربيع الأول 1352ه - جوليت 1933م.

حق النساء في التعليم

حَقُّ النِّسَاءِ فِي التَّعْلِيمِ. عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ- رضي الله عنه-: قَالَتِ النِّسَاءُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: غَلَبَنَا عَلَيْكَ الرِّجَالُ فَاجْعَلْ لَنَا يَوْمًا مِنْ نَفْسِكَ. فَوَعَدَهُنَّ يَوْمًا لَقِيَهُنَّ فِيهِ، فَوَعَظَهُنَّ وَأَمَرَهُنَّ. فَكَانَ فِيمَا قَالَ لَهُنَّ: «مَا مِنْكُنَّ امْرَأَةٌ تُقَدِّمُ ثَلاَثَةً مِنْ وَلَدِهَا إِلَّا كَانَ لَهَا حِجَابًا مِنَ النَّارِ» فَقَالَتِ امْرَأَةٌ: وَاثْنَتَيْنِ، فَقَالَ: «وَاثْنَتَيْنِ». رواه البخاري. ... ــــــــــــــــــــــــــــــ الشرح: كان الرجال يلازمون النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- فيحيطون به للتعلم فلا يستطيع النساء مزاحمتهم عليه، وكنّ يجلسن في آخر صفوف المسجد، فإذا تحدث النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- بالعلم بعد الصلاة لا يتمكنَّ من كمال السماع، وكانت لهن رغبة في العلم مثل الرجال، إذ كلهن يعلمن أنهن مكلفات بأحكام الشريعة مثلهم. فلذا سألن رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- أن يعين لهن يوما باختياره هو يخصصهن به. فأجابهن إلى ما طلبن ووعدهن يوما يعينه ووفى لهن بوعده فلقيهن في ذلك اليوم وحدهن فوعظهن وأمرهن بأشياء مما عليهن من أمر الدين. وأخبرهن بأن كل واحدة منهن يموت لها ثلاثة من ولدها فتقدمهم قبلها فإن ذلك التقديم يكون لها حجابا ووقاية من النار لعظم الأجر بعظم المصيبة، فطمعت إحداهن في فضل الله وخافت أن يكون هذا الفضل محصورا فيمن قدمت ثلاثة

الأحكام والفوائد

فسألت عمن قدمت اثنتين فأخبرها رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- بأنه لمن قدمت اثنتين أيضا. الأحكام والفوائد: النساء شقائق الرجال في التكليف فمن الواجب تعليمهن وتعلمهن، وقد علمهن- صلى الله عليه وآله وسلم- وأقرهن على طلب التعلم، واعتز بهن، وتفقدهن كما في حديث ابن عباس: أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم- خرج ومعه بلال فظن أنه لم يسمع النساء فوعظهن وأمرهن بالصدقة فجعلت المرأة تلقي القرط والخاتم وبلال يأخذ في طرف ثوبه. لا يجوز اختلاط النساء بالرجال في التعلم، فأما أن يفردن بيوم كما في هذا الحديث، وإما أن يتأخرن عن صفوف الرجال كما مر في حديث ابن عباس- رضي الله عنه-. يجعل لتعليم النساء يوم خاص بهن ويتكرر هذا اليوم بقدر الحاجة. ولما كانت الحاجة دائمة فاليوم مثلها. فيه عظيم أجر من أصيب في أفلاذ كبده إذا حزن ولم يقل قبيحا، وجاء التنصيص على الرجال فهم مثل النساء في هذه المثابة. وفيه البداية في التعليم بما تشتد إليه حاجة المتعلم. فإن حنان النساء وضعفهن يحملانهن على الجزع الشديد وقد يخرج بهن إلى القبيح، فذكر لهن ما يكون عدة لهن ووقاية عند نزول المصيبة. وفيه ما ينبغي من تهيئة القلوب وتحضير النفوس لتلقي التكاليف الشرعية لتنشرح لها الصدور وتنشط فيها الجوارح ولذا قدم الوعظ على الأمر (1).

_ (1) ش: ج 2، م 15 - صفر 1358ه - مارس 1939م.

تعليم النساء الكتابة

تَعْلِيمُ النِّسَاءِ الْكِتَابَةَ. عَنِ الشِّفَاءِ بِنْتِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وَأَنَا عِنْدَ حَفْصَةَ فَقَالَ لِي: «أَلَا تُعَلِّمِينَ هَذِهِ رُقْيَةَ النَّمْلَةِ كَمَا عَلَّمْتِهَا الْكِتَابَةَ». رواه ابو داوود. ... ــــــــــــــــــــــــــــــ السند: رجاله رجال الصحيح إلا إبراهيم بن مهدي البغدادي فلم يخرج له فيهما، لكنه ثقة. وثقه أبو حاتم وابن نافع وابن حيان وقد تابعه غيره وخرج الحديث أيضا النسائي والبيهقي في السنن الكبرى والإمام أحمد. المتن: ـ[الأشخاص]ـ: الشفاء هي بنت عبد الله القرشية العدوية من السابقات والمهاجرات الأول- رضي الله عنها- وحفصة هي بنت عمر بن الخطاب أم المؤمنين رضي الله عنهما. الألفاظ: النمِلة: قروح تخرج في الجنب. ورقيتها: كلام كانوا يقولونه عليها مما لا محظور فيه، فأقره النبي- صلى الله عليه وآله وسلم-. ولم يذكر الرواة نصه.

المعنى

المعنى: عرف - صلى الله عليه وآله وسلم- أن الشفاء كانت علمت حفصة الكتابة وكانت الشفاء من عاقلات النساء وعارفاتهن، فدعاها إلى تعليم حفصة رقية النمِلة وحثها عليها، ونشطها لذلك بتذكيرها بتعليمها لها الكتابة فمن كان من شأنه عمل من الأعمال خف عليه القيام به. مبينا لها بذلك أن تعليم هذه مثل تعليم تلك في النافع وفعل الخير. الأحكام والفوائد: فيه مشروعية الرقية وذلك بشرط أن تكون بالكلام المفهوم الذي لا محظور فيه كما دلت عليه الآثار. وإذا كانت الأدوية سببا للشفاء بخواصها فبعض الأقوال تكون في ذلك مثلها، تلك من ناحية البدن وهذه من ناحية الروح، وقد دلت على هذا وذاك التجربة وأقرت الجميع الشريعة. وفيه تعلم الرقية وتعليمها مثل كل ما يمكن أن ينتفع به على الوجه المشروع، وفيه حث العارف بشيء مما يحتاج إليه الناس أن ينشره بينهم ويعلمهم إياه. وفيه تعليم النساء الكتابة، واستدل به على ذلك جماعة من الأئمة منهم الخطابي في شارح السنن، وصاحب المنتقى. توسع في الاستدلال: وأقوى منه في الاستدلال العمومات القرآنية المتكاثرة الشاملة للرجال والنساء، فإن مذهب الجماهير وهو المذهب الحق أن الخطاب بصيغة التذكير شامل للنساء إلا بمخصص يخرجهن من نص إو إجماع أو بضرورة طبيعية. لأن النساء شقائق

الاقتداء

الرجال في التكليف، ولا خلاف في أنه إذا اجتمع النساء والرجال، ورد الخطاب أو الخبر مذكرا على طريقة التغليب. وتأمل قوله تعالى: {وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ} وقوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} كيف نص في الثانية على الرجال لما كان الحال مقتضيا لهم وأطلق في الأولى فدل على أنه لا فرق بين أن يكون الكاتب رجلا أو امرأة وهو من أدلته مشروعية تعلم النساء الكتابة. وكل آية دعت للعلم، قد دعت للكتابة لأن الله قد بين لنا أنه علم بالقلم ليبين لنا أن القلم هو طريق العلم وآلة حفظه وتدوينه، وأقسم بالقلم تنويها بشأنه وجاء ذلك كله على الخطاب العام الشامل للنساء شموله للرجال، والعمومات إذا تكاثرت أفادت القطع ولهذا جعلنا هذا الطريق من الاستدلال أقوى من الاستدلال بالحديث الذي هو خبر آحاد وخبر الآحاد- من حيث ذاته- يفيد الظن وإن كان صحيحا. وحيث تواردت تلك العمومات وثبت هذا الحديث فقد بلغ الدليل بنصه وقطعيته غاية القوة والبيان. الاقتداء: فاستنادا إلى هذه الأدلة، وسيراً على ما استفاض في تاريخ الأمة، من العالمات الكاتبات الكثيرات- علينا أن ننشر العلم بالقلم في أبنائنا وبناتنا، في رجالنا ونسائنا، على أساس ديننا وقوميتنا إلى أقصى ما يمكننا أن نصل إليه من العلم الذي هو تراث البشرية جمعاء، وثمار جهادها في أحقاب التاريخ المتطاولة. وبذلك نستحق أن نتبوأ منزلتنا اللائقة بنا والتي كانت لنا بين الأمم (1).

_ (1) ش: ج 3، م 15 - ربيع الأول 1358ه - أبريل 1939م.

خير النساء

خَيْرُ النِّسَاءِ. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- خَطَبَ أُمَّ هَانِئٍ بِنْتَ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللهِ: إِنِّي قَدْ كَبِرْتُ وَلِي عِيَالٌ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «خَيْرُ نِسَاءٍ رَكِبْنَ الإِبِلَ نِسَاءُ قُرَيْشٍ، أَحْنَاهُ عَلَى وَلَدٍ فِي صِغَرِهِ، وَأَرْعَاهُ عَلَى زَوْجٍ فِي ذَاتِ يَدِهِ». رواه مسلم ... ــــــــــــــــــــــــــــــ السند: الحديث ثابت في الصحيحين، وإنما انفرد مسلم بهذه الرواية التي فيها ذكر سبب ورود الحديث وهو خطبة النبي- صلى الله وآله وسلم- أم هانيء- رضي الله عنها- وما أجابت به. الكلمات: حنا عليه يحنو حنوا: عطف. فالأحنى هو الأكثر عطفا. وحنت المرأة على ولدها حنوا فهي حانية إذ لم تتزوج بعد أبيه، فإذا تزوجت فلا يقال فيها حانية. رعى الشيء يرعاه رعاية: حفظه. فالأرعى هو: الأحفظ، وذات اليد هي: الأموال. لأنها صاحبة اليد تجعل فيها.

التراكيب

التراكيب: ركبن الإبل كناية عن نساء العرب، وقصد بها التعميم، أي خير نساء العرب كلهن. وجملة أحناه مستأنفه لبيان ما كن به خير النساء، وأفرد الضمير في أحناه باعتار الجنس. الأشخاص: أم هانيء بنت أبي طالب كانت تزوجت هبيرة بن عمر المخزومي، أسلمت عام الفتح، وهرب زوجها إلى نجران، فأولادها منه هم العيال الذين اعتذرت به، وأبت أن تتزوج عليهم، فقبل النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- عذرها. المعنى: خير نساء العرب نساء قريش، لجمعهن بين: الرأفة بالولد والشفقة عليه والعناية به في تربيته، حتى يتركن التزوج من أجل التفرغ للقيام به، وحفظهن للمال وحسن التدبير فيه والأمانة عليه، فيكفين الزوج أعز شيء لديه وهو ماله وولده اللذان بهما حسن حاله وبقاء أثره. تنبيه على استلزام: لا تستطيع ترك التزوج بعد تأيمها للتفرغ لتربية أولادها، إلا المرأة الكاملة العفاف، الشديدة الرأفة، التي أنساها حبها في أولادها والشفقة عليهن داعية النفس إلى الزواج، وما استطاعت ذلك إلا بما عندها من ملكة العفاف فوصفها بأنها حانية يستلزم أنها عفيفة.

توجيه

توجيه: لا بقاء لأمة من الأمم إلا بانتظام أسرها وحفظ نسلها، وقد خصص الله المرأة للقيام بهذين الأمرين العظيمين. وزودها من الرحمة والشفقة ما يعينها عليهما، وإنما تقوم بهما إذا جمعت ما بين العفة في نفسها، والاقتصاد في نفقتها، والتفرغ للقيام بأولادها، ولهذا لما جمع نسوة قريش ذلك كله كن خير نساء العرب. إرشاد: يبين لنا هذا الحديث الشريف ما خلقت له المرأة من العمل العظيم في الحياة. ويرشدنا بذلك لوجوب القيام عليها وتهيئتها لذلك بالتربية والتعليم، فتكون تربيتنا وتعليمنا لها بما يقوي فيها هذه الصفات: العفة وحسن تدبير المنزل والنفقة فيه، والشفقة على الولد وحسن تربيته، وكل زيادة على هذه - بعد تهذيب أخلاقها، وتصحيح دينها، وتحبيبها في قومها- فهي ضارة بها، أو مخرجة لها عن مهمتها العظيمة، ملحقة الضرر بقومها، فلنجعل هذا الحديث الشريف دليلنا ومرشدنا في كل ما نسعى إليه من تعليم النساء والبنات. الأحكام: امتنعت أم هانيء من التزوج للقيام بأولادها، فأقرها النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- وأثنى على المتصفات به، فدل ذلك على استحسانه لمن ملكت عفتها وقدرت عليه. وثناء النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- على نساء قريش بوصفهن دليل على ما ينبغي من اختيار المرأة المتصفة بمثل هذا الوصف، ودليل ما ينبغي أن يتخير من معادن النساء في بيوتهن وأقوامهن فإن الأخلاق تتوارث، والبنات متأثرات بالأمهات في الغالب.

تصديق

تصديق: إن نساء أنجبن من أنجبن من رجالات قريش في الجاهلية والإسلام، وولدن محمدا- صلى الله عليه وآله وسلم- لهن خير نساء في كل ما توصف به النساء من خير. فصدق رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- وبر وشهدت بصدقه الأيام (1).

_ (1) ش: ج 9، م11 - غرة رمضان 1354ه - ديسمبر 1935م.

النساء والكمال

النِّسَاءُ وَالْكَمَالُ. عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «كَمُلَ مِنْ الرِّجَالِ كَثِيرٌ، وَلَمْ يَكْمُلْ مِنْ النِّسَاءِ غَيْرُ مَرْيَمَ بِنْتِ عِمْرَانَ وَآسِيَةَ امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ. وَإِنَّ فَضْلَ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ». رواه البخاري ومسلم ... ــــــــــــــــــــــــــــــ تمهيد: إن الكمال الإنساني متوقف على قوة العلم وقوة الإرادة وقوة العمل، فهي أسس في الخلق الكريم، والسلوك الحميد، اللذين ينهض بهما بجلائل الأعمال، ويبلغ بهما إلى أسمى غايات الشرف والكمال، والمرأة لما خلقت لقسم الحياة الداخلي أعطيت من القوى الثلاث القدر الذي تحتاج إليه منها وهو دون ما يحتاج إليه الرجل الذي خلق للقيام بقسم الحياة الخارجي، فكانت بخلقتها أضعف منه في العلم والإرادة والعمل، فكانت لذلك دونه في الكمال. وتقسيم الحياة إلى قسميها ضروري لبقاء النسل وحفظه، وتقسيم وظيفة الحياة بين الرجل والمرأة، وإعطاء كل واحد منهما القدر الذي يحتاج إليه في وظيفته - من بديع صنع الحكيم الخبير. فلو لم يعط الرجل ما أعطى

الإرشاد النبوي

من كمال القوى لما استطاع القيام بالأعمال الكبيرة في قسمه ولو أعطيت المرأة مثل ما أعطى لما صبرت على البقاء في قسمها فأخلته، فاختل النظام فحصل الفساد. ونحن نرى اليوم المرأة في المدنية الغربية ومقلديها لما خيل إليها أنها قوية مثل الرجل هجرت وظيفتها أو أهملتها، وخرجت تزاحم الرجل في وظيفته فأضرت بالقسم الداخلي من الحياة بإهماله واضطرابه، وأضرت بالقسم الخارجي بمزاحمة الرجل وزحزحة قسم كبير منه عن العمل، وتعريضه للفتن، والأمم الغربية اليوم تشكو مر الشكوى من تفكك نظام الاسرة وانحلال رباط الأخلاق الزوجية وبعضها عاجز عن تدارك أمره بما فيه من فوضى الآراء، وتشعب الأهواء، وتأصل الداء، وبعضها قد أخذ يعالج الحالة بما فرضه على العزابة من ضريبة مالية، وما جعله من مكافآت المتزوجين والمتزوجات. الإرشاد النبوي: فأراد النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- أن يعرفنا بهذا الضعف في جنس المرأة حتى لا نعدو بها ما خلقت له من وظيفة القسم الداخلي من الحياة، فنظلمها ونظلم الحياة، وأراد أن يدلنا على ضعفها بدليل تاريخي مشاهد للأجيال، فذكر لنا تخلفها عن الرجل في بلوغ ذروة الكمال، فأخبرنا أنه قد كمل في الأمم الماضية من الرجال كثير، وما كمل منهم من النساء غير امرأتين. وذكر فضل عائشة على نساء وقتها كفضل الثريد على الطعام من أطعمة العرب، ليجمع بين الحديث على الأمم الماضية وأمته، ويدل على استمرار الكمال في النساء مثل استمراره في الرجال كل بما قدر ويسر له.

إلى أي درجات الكمال بلغتا؟

إلى أي درجات الكمال بلغتا؟: قد بينت درجات الكمال في قوله تعالى: {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ}. وقد ذهب بعض الناس إلى أن كمال مريم وآسية ببلوغهما درجة النبوة. وذهب الأكثرون إلى أنهما لم تبلغا إليها، وإنما بلغتا ما دونها من رتبة الصديقية، واستدلوا بما تقتضيه رتبة النبوة من الظهور لهداية الناس وإرشادهم وذلك غير ما خلقت له المرأة، وهذا الحديث ليس نصا في كمال النبوة فلا تقوم الحجة. وقد جاء في صحيح مسلم من طريق علي- رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- يقول: «خير نسائها مريم بنت عمران وخير نسائها خديجة». فأخبر بخير نساء الدنيا في الأمم الماضية، وخير نساء الدنيا في هذه الأمة، فكما لم تكن هذه نبية، لم تكن تلك نبية. على ظاهر الفرق ما بينهما في الخيرية. وذهب قوم إلى نبوة مريم بدليل أن الملائكة خاطبتها باصطفاء الله لها وأمرها بالقنوت والسجود والركوع في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} وهذه هي النبوة: تبليغ الملائكة وحي الله بالاصطفاء والتكليف لمن يشاء من عباده. فهذا الدليل القوي دليل على خصوصية مريم البرة النقية عليها السلام بهذه المزية بين بنات حواء كلهن.

الاقتداء

الاقتداء: هؤلاء السيدات الكاملات كلهن قد كملن في الدين، فمنهن أمُّ نبي، ومنهن زوجة نبي، ومنهن منقذة نبي. فعلينا أن نكمل النساء تكميلا دينيا يهيئن للنهوض بالقسم الداخلي من الحياة وإعداد الكاملين ومساعدتهم للنهوض بالقسم الخارجي منها. وبذلك تنتظم الحياة انتظاما طبيعيا تبلغ به الإنسانية سعادتها وكمالها (1).

_ (1) ش: ج6، م 11 - جمادى الثانية 1354ه - 1935م.

ستر وجه المرأة من الدين على ما فيه من تفصيل

سِتْرُ وَجْهِ الْمَرْأَةِ مِنَ الدِّينِ عَلَى مَا فِيهِ مِنْ تَفْصِيلٍ. (مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْمُنْذِرِ أَنَّهَا قَالَتْ: كُنَّا نُخَمِّرُ وُجُوهَنَا وَنَحْنُ مُحْرِمَاتٌ وَنَحْنُ مَعَ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا). ... ــــــــــــــــــــــــــــــ السند: هذا سند من بيت البركات على المسلمين، بيت الصديق رضي الله عنه، فعروة هو ابن الزبير وأمه أسماء. والمنذر أخوه شفيقه. وهشام وفاطمة زوجان وأبناء عم، وجدتهما أسماء -رضي الله عنهم-. المتن: خمير الوجه تغطيته بغير النقاب وما في معناه مما يشد على الوجه، وذلك بأن تسدل الثوب على وجهها نازلا من رأسها، وجاء هذا مبينا في حديث عائشة الذي رواه أحمد وأبو داوود وابن ماجة وغيرهم، قالت: كان الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- محرمات فإذا حاذوا بنا أسدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها، فإذا جاوزونا كشفناه). الاحتجاج: أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما من أهل العلم والدين، فما كان يخفي عليها ما جاء من نهي المرأة

التأييد

عن النقاب - وهي محرمة فلو كان التخمير مثله لما أقرتهن عليه وما كانت لتفرق بينهما برأيها، وفي كليهما ستر وتغطية، لولا أنها على توقيف من النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- في التفريق ما بينهما، ولهذا احتج مالك رضي الله عنه بتقريرها فخرجه في موطئه. التأييد: يؤيد هذا حديث عائشة المتقدم وفيه تقرير النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- لهن على ما فعلن. وهو حديث محتج به، والذي وقع فيه كلام من رواته- وهو يزيد بن أبي زياد- قد قبله مسلم وجعله ممن يشمله اسم الستر والصدق وتعاطي العلم. كما في مقدمة صحيحه. الأحكام والاستدلال: ستر وجه المرأة عن رؤية الأجنبي مشروع بالتقرير النبوي له في وقت الإحرام الذي هو وقت كشف وجه المرأة، ولذلك كن- كما في حديث عائشة- يكشفن وجوههن إذا جاوزهن الركبان. وما نهيت المرأة عن النقاب في الإحرام إلا وقد كان النقاب من شأنها وعادتها- والعادة التي يقرها النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- لمصلحة تصير من الدين باستنادها إلى التقرير النبوي الذي هو أصل من أصول التشريع. والمصلحة المراعاة هنا هي سد ذريعة افتتان الرجال بالنساء بسبب النظر، ودفع هذه الفتنة على اعتباره القول والفعل النبويان كما في حديث الخثعمية الآتي قريبا، ولما لم يكن وقوع الافتتان محققا دائما لم يكن ستر الوجه حتما لازما في كل حال، بل يجوز للمرأة الكشف عند عدم تحققها، كما في حديث الخثعمية أيضا على ما سيأتي من البيان.

حديث الخثعمية

حديث الخثعمية: عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: كان الفضل بن عباس رديف رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- فجاءته امرأة من خثعم تستفتيه فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه، فجعل رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر. ا. ه. المقصود منه: رواه مالك والجماعة. وفي رواية الترمذي من طريق علي كرم الله وجهه قال: واستفتته جارية شابة من خثعم فقالت: أبي شيخ كبير قد أدركته فريضة الله في الحج أفيجز لي أن أحج عنه، قال: حجي عن أبيك، قال- علي- ولوى عنق الفضل، فقال العباس: يا رسول الله لم لويت عنق ابن عمك؟ قال: «رأيت شابا وشابة فلم آمن الشيطان عليهما». ففي قوله- صلى الله عليه وآله وسلم- لم آمن عليهما الشيطان أن الفتنة لم تقع وإنما خاف وقوعها فسد ذريعتها. وفي قوله هذا وفعله دليل على مراعاة الفتنة وسد ذريعتها. وفي عدم أمره للمرأة بستر وجهها دليل على جواز ذلك لها وهذا بناء على أنها كانت مكشوفة الوجه كما هو الظاهر من نظر الفضل إليها ومن خوف الفتنة، وهو الذي فهمه أكثر الناس، وإن احتمل أن تكون مستورة الوجه بما سدلته من رأسها كما قاله ابن العربي. تحصيل: ستر وجه المرأة مشروع راجح وكشفه عند أمن الفتنة جائز وعند تحققها واجب، وأمر الفتنة يختلف باختلاف الأعصار والأمصار والأشخاص والأحوال فيختلف الحكم باختلاف ذلك ويطبق في كل بحسبه.

تطبيق

تطبيق: من المسلمين اليوم أقوام- معظمهم من غير أهل المدن والقرى- ألفوا خروج نسائهم سافرات فلا يلفتن أنظارهم بذلك فهؤلاء لا يطالبن بستر الوجوه مع بقاء حكم غض البصر وحرمة تجديد النظر. ومن المسلمين أقوام- معظمهم من أهل المدن أو القرى- ألفوا ستر وجوه النساء فكشف المرأة بينهم وجهها يلفت الأنظار إليها. ويغري أهل الفساد بها ويفتح بابا للقال والقيل في شأنها وشأن أهلها وعشيرتها. فهؤلاء يجب عليهن ستر وجوههن اتقاء للشر والفتنة والوقيعة في الأعراض. هذه أحكام عامة لنساء المؤمنين، ولأمهات المؤمنين زوجات النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أحكام خاصة بهن (1) على أنهن خير القدوة للنساء أجمعين. تفرقة وتحذير: هنا سفور إسلامي وهو كشف المرأة وجهها -دون شعرها وعنقها- عند أمن الفتنة، مع عدم إظهار الزينة - غير الوجه والكفين، وعدم إثارة الفتنة بروائح الطيب وخشخشة الحلي ورنين الخلخال. وهنالك سفور إفرنجي فيه كشف الشعر والعنق والأطراف مع التبرج بالزينة وما إليها فعلينا- معشر المسلمين- أن نوجه قوتنا كلها إلى منع السفور الافرنجي الذي قد طغى حتى على نساء أمراء الشرق المسلمين ووزرائه، وأن نحذر كل ما يؤدي إليه وأن نحافظ على الوضعية الإسلامية العفيفة الطاهرة بسفورها

_ (1) وفي الأصل: بهم.

توصية

- إذا كان سفور على ما فصلناه- في دائرة محدودة ليس فيها إثارة ولا إغراء. توصية: على المربين لأبنائنا وبناتنا أن يعلموهم ويعلموهن هذه الحقائق الشرعية ليتزودوا وليتزودن بها وبما يطبعوهم ويطبعوهن عليه من التربية الإسلامية العالية لميادين الحياة فيكونوا ويكن - إن شاء الله تعالى- مثال الطهر والعفاف والصون للأجيال. حقق لله الآمال ويسّر الصالح من الأعمال، إنه عظيم الفضل كريم النوال (2).

_ (1) ش: ج1، م13 - غرة محرم 1356ه - 14 مارس 1937م.

خروج النساء إلى المساجد

خُرُوجُ النِّسَاءِ إِلَى الْمَسَاجِدِ. (روى مسلم في صحيحه بسنده عَنْ سَالِمٍ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّ عَبْدَ اللهَ بْنَ عُمَرَ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «لَا تَمْنَعُوا نِسَاءَكُمُ الْمَسَاجِدَ إِذَا اسْتَأْذَنَّكُمْ إِلَيْهَا». قَالَ: فَقَالَ بِلَالُ بْنُ عَبْدِ اللهِ: وَاللهِ لَنَمْنَعُهُنَّ. قَالَ: فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ عَبْدُ اللهِ فَسَبَّهُ سَبًّا سَيِّئًا مَا سَمِعْتُهُ سَبَّهُ مِثْلَهُ قَطُّ. وَقَالَ: أُخْبِرُكَ عَنْ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وَتَقُولُ: وَاللهِ لَنَمْنَعُهُنَّ). ... ــــــــــــــــــــــــــــــ الشرح: قد صح من السنة العملية والسنة القولية خروج النساء إلى المساجد وحضورهن مشاهد الخير، وثبت نهي الرجال عن منعهن من ذلك، ومنه ما في هذا الحديث. وعليهن قبل الخروج أن يستأذن الرجال كما هو مقتضى قوله: (إِذَا اسْتَأْذَنَّكُمْ إِلَيْهَا) كما ثبت أيضا نهيهن عن مس الطيب إذا أردن الخروج، وعليهن لا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها، وأن يضربن بخمرهن على جيوبهن، وأن يدنين عليهن من جلابيبهن، وهي ما يجعل فوق الثياب كلها كالملاءة ونحوها، وأن لا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن، فلا يسمع منها خشخشة الحلي،

نفي تعارض

ولا رنين الخلخال، وأن يمشين في حافات الطريق، ولا يحاققن الطريق، أي لا يمشين في وسطه. وهذه كلها مأخوذة من الآيات والأحاديث في هذا الباب ولما سمع بلال بن عبد الله أباه يحدث بهذا الحديث عن رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- قابله بالرد وقال والله لنمنعهن، فغضب أبوه غضبا شديدا وسبه وشتمه سبا سيئا مقابلا لقوله السيء ومقابلته للحديث النبوي بالمعأرضة. نفي تعأرض: ثبت عن عائشة أنها قالت: لو أن رسول الله- صلى الله عليه وآله ولسلم- رأى ما أحدث النساء لمنعهن المسجد كما منعت نساء بني إسرائيل، وهذا لا يعأرض ما تقدم لأن الذي أحدثته هو الطيب والزينة، وهو نهي عن منعهن ونهاهن عن مس الطيب عند إرادة الخروج، فلو رأى ما أحدثن لمنعهن لإخلالهن بالشرط حتى يلتزمنه، ولا يمنعهن منعا يكون إبطالا لنهيه الأول عن منعهن. قدوة: لما سمع عبد الله بن عمر ابنه بلالا يصارحه بمعأرضة السنة ومخالفتها لم يملك نفسه واستشاط غضبا حتى سبه سبا سيئا لم يكن من عادة ابن عمر صدور مثله منه. وهكذا كل مسلم غيور على الإسلام والكتاب والسنة يسمع من أهل الإسلام التكذيب بهما أو التعدي عليهما أو المعأرضة لهما بالرأي والهوى أو تحريفهما عن مواضعهما كذلك، فإنه لا يملك نفسه أن يدافع عنهما، وقد يملكه الغضب لله فيكون منه بعض ما ليس من عادته أن يصدر منه من قول.

تحذير وإرشاد

تحذير وإرشاد: هذا الذي وقع من بلال كثيرا ما يقع مثله أو نحوه من أهل الجهل والبدعة الذين شبوا عليهما وشاخوا حتى صارت البدعة عندهم سنة والسنة بدعة، فإذا ذكرت لهم الحكم الشرعي بدليله من الكتاب والسنة صدوا ونفروا وأبوا واستكبروا وصارحوا بالمخالفة أو سكتوا وأضمروا الخلاف وما هذا شأن المؤمنين. فحذار إذا سمعت حكما شرعيا ونصا قرآنيا أو حديثا صحيحا نبويا أن تقابل بالخلاف أو تضمر الخلاف، بل انشرح بذلك صدرا، ولا يكن في صدرك من حرج مما قضى الله ورسوله وسلم تسليما (1).

_ (1) ش: ج5، م 8 - غرة محرم 1351ه - ماي 1932م.

تحريم الخلوة بالأجنبية خصوصا على الأقارب

تَحْرِيمُ الْخُلْوَةِ بِالْأَجْنَبِيَّةِ خُصُوصًا عَلَى الْأَقَارِبِ. (أخرج مسلم في صحيحه عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إِيَّاكُمْ وَالدُّخُولَ عَلَى النِّسَاءِ». فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَرَأَيْتَ الحَمْوَ؟ قَالَ: «الحَمْوُ المَوْتُ»). ... ــــــــــــــــــــــــــــــ المفردات: الحمو على وزن دلو، قال الليث بن سعد: هو أخ الزوج وما أشبهه من أقارب الزوج ابن العم ونحوه، فالأحماء أقارب الزوج، والأختان أقارب الزوجة، والأصهار يقال عليهما. التراكيب: نصب إياكم على التحذير. أفرأيت: معناه أخبرني. الحمو الموت: تشبيه بليغ كزيد أسد وفي الموت استعارة تصريحية، شبه فساد البيوت وخرابها وانحلال روابطها بالموت بجامع الهلاك والزوال في كل. فجاء عليه وآله الصلاة والسلام بهذا التركيب البليغ البالغ للمبالغة في التحذير والبلوغ إلى غاية التأثير.

المعنى

المعنى: حذر عليه وآله الصلاة والسلام الرجال من الدخول على النساء - وكانوا يتساهلون في الدخول على نساء أقاربهم - فسأل هذا الأنصاري - رضي الله تعالى عنه- عن أقارب الزوج، فأجابه -صلى الله عليه وآله وسلم- بأن الخوف منه أكثر والشر منه أقرب والفتنة به أشد لأنه متمكن الدخول إلى بيت أخيه دون إنكار عليه فيتوصل إلى المرأة ويخلو بها دون كلفة ولا مراقبة، بخلاف الأجنبي فهو بعيد عن الدار ينكر عليه دخولها ويخشى من مراقبة أهلها، فإذا كان الأجنبي ممنوعا من الخلوة بالأجنبية فأحرى وأولى قريب زوجها وبين عليه وآله الصلاة والسلام أن الخلوة بالأحماء مؤدية إلى الهلاك والفتنة في الدين وإلى خراب البيت وفساد الأسرة واضمحلالها. الأحكام: حرم الحديث الخلوة بالأجنبية خصوصا على الأقارب أما المحرم كزوجة الإبن أو زوجة الأب فلا تحرم الخلوة بها للمحرمية، وأما الدخول دون خلوة فإذا انتفت الريبة فهو غير ممنوع. العمل بالحديث: الناس- إلا من شاء الله- بهذا الحديث جاهلون. وعن سوء العاقبة التي حذر منها غافلون. وفي الهلاك الديني والعرضي واقعون. فحق على من قرأ هذا الحديث أن يعلمه للناس وينشره فيهم ويحث نفسه وإياهم على العمل به والسير على أدبه، ولا يستعظمن ما يراه من جهل، فإنه ما جاء إلا من قلة نشر العلم فإذا نشر العلم -ولو كان في أوله قليلا- فإنه لا يلبث بإذن الله أن يصير كثيرا، {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} (1).

_ (1) ش: ج 9، م 8 - غرة جمادى الأولى 1351ه - سبتمبر 1932م.

على رسلكما، إنما هي صفية

عَلَى رِسْلِكُمَا، إنما هي صفية. عَنْ صَفِيَّةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ: أَنَّهَا جَاءَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- تَزُورُهُ فِي اعْتِكَافِهِ فِي المَسْجِدِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ فَتَحَدَّثَتْ عِنْدَهُ سَاعَةً ثُمَّ قَامَتْ تَنْقَلِبُ، فَقَامَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- يَقْلِبُهَا حَتَّى إِذَا بَلَغَتْ بَابَ المَسْجِدِ عِنْدَ بَابِ أُمِّ سَلَمَةَ مَرَّ رَجُلاَنِ مِنَ الأَنْصَارِ فَسَلَّمَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالَ لَهُمَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «عَلَى رِسْلِكُمَا إِنَّمَا هِيَ صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ»، فَقَالاَ: سُبْحَانَ اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَبُرَ عَلَيْهِمَا. فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «إِنَّ الشَّيْطَانَ يَبْلُغُ مِنَ الإِنْسَانِ مَبْلَغَ الدَّمِ وَإِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِي قُلُوبِكُمَا شَيْئًا». رواه البخاري ومسلم وغيرهما. ... ــــــــــــــــــــــــــــــ الألفاظ: تنقلب: ترجع إلى بيتها، يقلبها: يردها ويمشي معها. وما يزال هذا الفعل قلب بمعنى رد مستعملا في اللغة الدارجة بالقاف المعقودة، على رسلكما: على هينتكما أي مشيتكما، الهينة التي لا عجلة فيها أي لا تسرعا. كبر عليهما: عظم وشق، يبلغ مبلغ الدم: يصل حيث يصل. أن يقذف: أن يرمي.

الأشخاص

الأشخاص: صفية بنت حيي بن أخطب تزوجها النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- سنة سبع من الهجرة سبيت في فتح خيبر فأعتقا النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- وتزوجها، توفيت في شهر رمضان سنة (50ه). المعنى: كان النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- يواظب على الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان، فجاءته زوجته صفية ليلة تؤنسه وتحادثه، فلما أرادت الانصراف إلى بيتها قام معها النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- يؤنسها إلى بيتها، كما جاءت هي إليه، وبلغ معها باب المسجد، فمر بهما رجلان من الأنصار فأسرعا في مشيهما واستحييا لما رأيا رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم-، فخشي النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- عليهما من وسوسة الشيطان المسلط على الإنسان بأن يلقي في قلوبهما شيئا من وجود امرأة مع النبي- صلى الله عليه وآله وسلم-، والشيطان يقنع بالخطرة يلقيها في قلب المؤمن يؤلمه بها ولو كان صدق إيمانه يرد عنه كيد الشيطان ويدفعه، ويقنع بإذاية المؤمن ولو بخطرة السوء تمر بالقلوب تمسه في دينه أو عرضه، فأراد النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- أن يسد في وجه الشيطان باب الكيد لذينك الرجلين الصحابيين- رضي الله عنهما- ويقطع عليه طريق إذايتهما وإذايته معهما، فقال لهما تمهلا ولا تسرعا في مشيكما وأعلمهما بأنها زوجته صفية، وكان الصحابيان الجليلان لم يقع في قلوبهما شيء ولم يخطر أدنى خاطر منه في بالهما، فاستعظما وكبر عليهما واشتد عليهما أن يظن النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- فيهما خطور مثل هذا ببالهما، حتى يحتاج إلى تعريفهما، وهما كانا يريان أنفسهما بصدق إيمانهما أبعد ما يكون عن هذا، فبين لهما النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- الداعي الذي دعاه إلى تعريفهما بالواقع وهو الخوف عليهما مما قد يكون

الأسوة - ولكم في رسول الله أسوة حسنة

بإلغاء الشيطان دون قصد منهما لا شيء هو واقع منهما وبين لهما ما يعرفهما بإمكان ذلك وسهولته بما فعل للشيطان من التمكن من إلقاء الوسواس للإنسان وبلوغه منه في الإحاطة والتمكن مبلغ الدم. الْأُسْوَةُ - وَلَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ حماية الأعراض من التهم: كما على المسلم أن يقي عرضه من طعنات الألسن بالسوء، عليه أن يقيه من هواجس النفوس به فإن الهواجس مبادي الظنون، والظنون مطايا الأقوال، والأقوال سهام نافذة، وقلما يثبت غرض على كثرة الرمي، ومن خسر عرضه خسر قيمته وخسر كل شيء، فلخطر هذه النهاية لزم الاحتفاظ على العرض من تلك البداية. فلا ينبغي للمسلم أن يرى حيث تقع في أمره شبهة وتتوجه عليه تهمة ولو كان عند نفسه بريئا، وعما يرمي به بعيدا، فليس الإنسان يعيش في هذه الدنيا لنفسه بل يعيش لنفسه ولإخوانه، وإذا تعرض للتهم خسر نفسه وخسره إخوانه، وأدخل على نفسه البلاء منهم وأدخل البلاء عليهم به فكانت مصيبته على الجميع وضرره عائدا على الإسلام وجماعة المسلمين خصوصا إذا كان المؤمن يقتدى به ويرجع إليه فإن زوال الثقة به خسارة كبرى وهدم لأركان الدين وتعطيل لانتفاع الناس بالعلم وانتفاعه هو بعلمه، وإذ وقف الإنسان موقفا مشروعا وخاف أن تتطرق إليه في خواطر الناس شبهة كان عليه أن يبادر للتصريح بحقيقة حاله والتعريف بمشروعية موقفه. وليس لأحد، بعد رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم-، أن يغتر بمنزلته عند الناس فلا يبالي بما قد يخطر لهم. بل ذو المنزلة أحق

مدافعة الشيطان عن القلوب

بالتبيين والتصريح لعظيم حاجة الناس إلى بقاء ثقتهم به وتوقف استفادتهم منه وقيامه بما ينفعهم على تلك الثقة. قال الإمام ابن دقيق العيد رحمه الله: (في الحديث دليل على التحرز مما يقع في الوهم نسبة الإنسان إليه مما لا ينبغي. وهذا متأكد في حق العلماء ومن يقتدي بهم، فلا يجوز لهم أن يفعلوا فعلا يوجب ظن السوء بهم وإن كان لهم فيه مخلص، لأن ذلك سبب إلى إبطال الانتفاع بعلمهم). مدافعة الشيطان عن القلوب: علينا - وقد علمنا أن الشيطان متمكن من الوسوسة لنا من جميع نواحينا متصلا بنا اتصالا وقريبا منا قربا مثل اتصال وقرب الدم لا يمكننا الانفصال عنه كما لا يمكننا الانفصال عن الدم - أن نأخذ جميع الحيطة لرد كيده وإبطال تدبيره وإحباط وسوسته وذلك بالمبادرة إلى الاستعاذة بالله منه بالاستعاذة الثانية عن النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- في الأحوال المختلفة وبمقابلة كل نوع من وسوسته بما يبطله من ذكر الله، فإذا جاء من ناحية الإيمان بادرنا إلى لا إله إلا الله، وإذا جاء من ناحية التنزيه بادرنا إلى سبحان الله، وإذا جاء من ناحية الإنعام: بادرنا إلى الحمد لله وإذا جاء من ناحية التخويف من الخلق بادرنا إلى الله أكبر، وهكذا نبادر إلى رد ما يوسوس به من كلمات الباطل إلى ضدها من كلمات الحق، وكما على المؤمن أن يدفع ذلك عن قلبه عليه أن يدفعه عن قلب أخيه بمصارحته بما يزيل إساءة الظن به أو حمل شيء عليه أو نفرة من ناحيته أو إشغال لأمره، وأن يبين له ما يقصد بذلك من مدافعة الشيطان ورده عن نفسه

وعن أخيه ليكون عينا له على قصده، فيرجع الشيطان عنهما مذموما مدحورا. وهذه المدافعة للشيطان وحماية القلوب منه من أعظم الجهاد وأوجبه وألزمه بل هي أصل الجهاد كله فإنه هو أصل البلاء كله فالسلامة منه هي السلامة من كل سوء، والتمكن من نيل كل خير والفوز بكل سعادة في الدنيا والآخرة (1).

_ (1) ش: ب 2، م 10 - غرة شوال 1352ه - جانفي 1934م.

أحاديث في أغراض مختلفة

أحاديث في أغراض مختلفة

1) العلم وفضله

1) العلم وفضله. 1 - عن سفيان بن عينية قال سمعت جعفر ابن محمد يقول: "وجدنا علم الناس كله في أربع أولها أن تعرف ربك، والثاني أن تعرف ما صنع بك .. والثالث أن تعرف ما أراد منك، والرابع أن تعرف ما تخرج به من ذنبك". ذكره الحافظ أبو عمر عبد البر (1: 3). وكل ما ننقله عنه من غير عزو إلى كتاب فمن كتابه ((جامع بيان العلم وفضله)). 2 - عن ابن عباس - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "فضل المؤمن العالم على المؤمن العابد سبعون درجة". رواه ابن عبد البر (1. 22). 3 - من جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يبعث الله العالم والعابد، فيقال للعابد ادخل الجنة، ويقال للعالم اشفع للناس كما أحسنت أدبهم" رواه ابن عبد البر (1. 22) (1). 4 - قال عمر بن الخطاب رضى الله عنه: لموت ألف عابد قائم الليل صائم النهار أهون من موت العاقل البصير بحلال الله وحرامه. ذكره ابن عبد البر (1. 26).

_ (1) السنة- السنة الأولى، العدد 3، 29 ذي الحجة 1351ه 24 أبريل 1933م.

2) السنة والبدعة

5 - قال عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - من عمل في غير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح. رواه ابن عبد البر بسنده (1. 27). 2) السنة والبدعة. 1 - عن العرباض بن سارية - رضي الله عنه - قال: "وعظنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موعظة بليغة، وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون فقلنا يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا. قال: أُوصيكُم بتقوَى الله والسَّمعِ والطاعةِ وإِن تأَمَّر عليكم عبد حبشيٌّ. وإنه من يعش منكم فسَيَرى اختلافاً كثيراً. فعليكُم بسنَّتي وسنَّةِ الخُلفَاءِ الرَّاشِدِين المهدِيِّينَ. عَضُّوا عليهَا بالنوَاجِذِ، وإياكم ومُحدَثاتِ الأمورِ فإن كل بدْعَة ضَلاَلة ". رواه أبو داود والترمذى وقال حسن صحيح. 2 - عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: "خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الناسَ فحمِد الله وأَثنَى علَيهِ ثم قال: إن أفضلَ الهديِ هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-. وشرَّ الأمورِ محدثَاتُها، وكل بدعة ضلالةٌ" رواه مسلم مطولا، ورواه مختصرا بهذا اللفظ الحافظ محمد بن وضاح المالكى المتوفى سنة 286 في كتابه "البدع والنهى عنها" (ص 23) وكل ما ننقله عنه من غير وعز إلى كتاب فمنه. 3 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "سيكون في أمتِي دجَالون كذابونَ يأتوُنَكم بِبِدَع من الحَديثِ لم تسمعوا أَنتُم ولَا آبَاؤكم، فإياكم وإياهُم لاَ يَفتنوُنَكُم" رواه ابن وضاح (27) وأخرجه مسلم في صحيحه (1).

_ السنة: السنة الأولى العدد 5، 13 محرم 1352ه 8 ماى 1933م.

3) من أسد إلى أسد

3) من أسد إلى أسد روى ابن وضاح عن غير واحد أن أسد بن موسى كتب إلى أسد بن الفرات: إعلم أي أخي إنما حملني على الكتاب إليك ما ذكر أهل بلادك من صالح ما أعطاك الله من إنصافك الناس وحسن حالك مما أظهرت من السنة، وعيبك لأهل البدعة وكثرة ذكرك لهم، وطعنك عليهم، فقمعهم الله بك وشد بك ظهر أهل السنة وقواك عليهم بإظهار عيبهم والطعن عليهم فأذلهم الله بذلك وصاروا ببدعتهم مستترين. فأبشر أي أخي بثواب ذلك وأعتد به أفضل حسناتك من الصلاة والصيام والحج والجهاد وأين تقع هذه الأعمال من إقامة كتاب الله وإحياء سنة رسوله، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أحيا شيئا من سنتي كنت أنا وهو في الجنة كهاتين" وضم بين أصبعيه. وقال: "أيما داع دعا إلى هذا فاتبع عليه كان له مثل أجر من تبعه إلى يوم القيامة" فمن يدرك أجر هذا بشيء من عمله؟ وذكر أيضا أن لله عند كل بدعة كيد بها الإسلام وليا لله يذب عنها وينطق بعلاماتها. فاغتمنم يا أخي هذا الفضل وكن من أهله فإن النبي صلى الله عليه وسلم، قال لمعاذ حين بعثه إلى اليمن وأوصاه وقال: لأن يهدي الله بك رجلا خيرٌ لكَ من كذا وكذا- واعظم القول فيه- فاغتنم ذلك وادع إلى السنة حتى يكون لك في ذلك ألفة وجماعة يقومون مقامك إن حدث بك حادث، فيكونون أئمة بعدك فيكون ذلك ثواب لك إلى يوم القيامة كما جاء الأثر. فاعمل على بصيرة ونية وحسبة فرد الله لك المبتدع المفتون الزائغ الحائر فتكون خلفا من نبيك صلى الله عليه وسلم فإنك

لن تلقى الله بعمل يشبهه وإياك أن يكون لك من أهل البدع أخ أو جليس أو صاحب فإنه جاء الأثر (من جالس صاحب بدعة نزعت منه العصمة ووكل إلى نفسه ومن مشى إلى صاحب بدعة مشى في هدم الإسلام). وجاء "ما من إله يعبد من دون الله أبغض إلى الله من صاحب هوى". وقد وقعت اللعنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل البدع وأن الله لا يقبل منهم صرفا ولا عدلا ولا فريضة ولا تطوعا وكلما ازدادوا اجتهادا وصوما وصلاة ازدادوا من الله بعدا، فارفض مجالسهم وأذلهم وأبعدهم كما أبعدهم الله وأذلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأئمة الهدى بعده". هذا مثال من رسائل الأوائل يريك عناية السلف بالسنة والذب عنها، وبغضهم للبدعة ومحاربتهم لأهلها، ومن عرف مقام الأسدين المخاطِب والمخاطَب عرف مكانة تلك الرسالة. فالمخاطِب (بالكسر) هو أسد بن موسى بن إبراهيم ابن الخليفة الوليد بن عبد المالك بن مروان. كان ثقة حافظا يلقب بأسد السنة. استشهد به البخاري واحتج به أبو داود والنسائى. وذكر الحافظ الذهبي في الميزان أنه لا يعلم به بأسا وأن ابن حزم الظاهري ضعفه وتضعيفه مردود- وكانت وفاته سنة 212. والمخاطَب (بالفتح) هو أسد بن الفرات بن سنان، تفقه بأصحاب مالك، ثم ارتحل فسمع من مالك موطأه وغيره وأخذ عن أصحاب أبي حنيفة. قال في الديباج: "وكان ثقة لم يزن ببدعة" وتوفى غازيا بصقلية سنة 312 (1).

_ (1) السنة - السنة الأولى العدد 7، محرم 1352ه، ماي 1933م.

4) العلم وتعلمه

4) العلم وتعلمه: 1 - عن أبي الأحوص قال قال عبد الله: "إن الرجل لا يولد عالما. وإنما العلم بالتعلم" رواه ابن عبد البر (1001). 2 - عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنه - قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من جاءه أجله وهو يطلب علما ليحيى به الإسلام لم تفضله النبيون إلا بدَرَجَة». رواه ا بن عبد البر (1: 90) وروى نحوه من مرسل الحسن وسعيد بن السيب (1. 46). 3 - عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: "لما قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا شاب قلت لشاب من الانصار يا فلان هلم فلنسأل أصحاب رسوله الله - صلى الله عليه وسلم - ولنتعلم منهم فإنهم كثير. قال العجب لك يا ابن عباس! أترى الناس يحتاجون إليك وفي الأرض من ترى من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال فتركت ذلك وأقبلت على المسألة، وتتبع أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإن كنت لآتي الرجل في الحديث يبلغنى أنه سمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأجده قائلا، فأتوَسَّد ردائي على بابه، تسفى الريح على وجهي حتى يخرج فإذا خرج قال: يا ا بن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما لك؟ فأقول بلغني حديث عنك أنك تحدثه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأحببت أن أسمعه منك. قال فيقول فهل بعثت إلي حتى آتيك فأقول أنا أحق أن آتيك؟ فكان الرجل بعد ذلك يراني وقد ذهب أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، واحتاج الناس إلي فيقول كنت أعقل مني. رواه ابن عبد البر (1: 85 - 86). (السنة): إن هذا الحبر الجليل وإنه ليشتمل على فوائد تنبه القاريء إلى اثنتين منها خشية أن يتنبه لهما.

5) العلم وتعليمه

أولاهما حسن أدب آل رسولا الله صلى الله عليه وعليهم وسلم مع العلم وأهله وعدم اعتزازهم بشرفهم واغترارهم بقرابتهم القريبة المحققة. ثانيهما سعى ابن عباس في العلم ذلك السعي وهو الذي روى عنه البخارى في صحيحه أنه قال: "ضمني النبى (ص) إلى صدره وقال اللهم علمه الحكمة" فلم يتكل على دعاء رسول الله (ص) وهو يؤمن بقبوله لأنه يفهم أن الدعاء بالشيء دعاء بتيسير أسبابه فالدعاء لا ينافى تعاطي الأسباب. بل من الداعي أو المدعو له أن لا يهمل الأسباب اكتفاء بالدعاء. 5) العلم وتعليمه: 1 - عن أبي حنيفة عن حماد عن إبراهيم قال: "بلغني أنه إذا كان يوم القيامة توضع حسنات الرجل في كفة وسيآته في الكفة الأخرى. فتشيل حسناته. فإذا أيس وظنَّ أنها النار جاء شيء مثل السحاب حتى يقع في حسناته. فتشيل سيآته. قال فيقال له أتعرف هذا من عملك؟ فيقول لا. فيقال هذا ما علَّمت الناس من الخير فعمل به من بعدك". رواه ابن عبد البر (1: 46) وحماد هو ابن أبي سليمان وإبراهيم هو النخعي. 2 - عن معاذ بن جبل (ض) مرفوعا وموقوفا: " تعلموا العلم فإن تعليمه لله خشية. وطلبَه عبادة. ومذاكرتَه تسبيح. والبحث عنه جهاد. وتعليمَه لمن لا يعلمه صدقة وبذلَه لأهله قربة. لأنه معالم الحلال والحرام. ومنار سبل أهل الجنة، وهو الأنس في الوحشة والصاحب في الغربة، والمحدث في الخلوة. والدليل على السراء والضراء، والسلاح على الأعداء، والزين

6) العلم وتعليمه بالمساجد

عند الاخلاء يرفع الله به أقواما فيجعلهم في الخير قادة وأيمة تقص آثارهم ويقتدى بأفعالهم وينتهي إلى رأيهم ترغب الملائكة في خلتهم وبأجنحتها تمسحهم يستغفر لهم كل رطب ويابس وحيتان البحر وهوامه وسباع البر وأنعامه. "لأن العلم حياة القلوب من الجهل ومصابيح الابصار من الظلم يبلغ العبد بالعلم منازل الاخيار والدرجات العلا في الدنيا والآخرة. "التفكر فيه يعدل الصيام ومدارسته تعدل القيام به توصل الأرحام. وبه يعرف الحلال من الحرام. "هو إمام العمل. والعمل تابعه، ويلهمه السعداء ويحرمه الأشقياء". رواه ابن عبد البر (1. 54. 55). 3 - عن كعب قال: " أوحى الله إلى موسى (ص) تعلم الخير، و علمه الناس، فانى منور لمعلم العلم ومتعلمه قبورهم حتى لا يستوحشوا لمكانهم". رواه ابن عبد البر (1 - 61). 6) العلم وتعليمه بالمساجد: 1 - أواخر كتاب العلم: "باب ذكر العلم والفتيا في المسجد". 2 - عن علي الأزدي، قال: "ساْلت ابن عباس عن الجهاد، فقال ألا أدلك على ما هو خير لك من الجهاد؟ تبنى مسجدا تعلم فيه القرآن وسنن النبى (ص) والفقه في الدين". رواه ابن عبد البر (1: 62) وروى نحوه (1: 31). 3 - عن أبي بكر بن عبد الرحمن أنه كان يقول: " من غدا أو راح إلى المسجد لا يريد غيره ليتعلم خبرا أو ليعلمه، ثم رجع

7) العلم واحترام أهله

إلى بيته كان كالمجاهد في سبيل الله رجع غانما ". رواه مالك في الموطأ (1: 34، ط مصر 1248). 7) العلم واحترام أهله: 1 - عن أبي الحسن المدائني قال: "خطب زياد ذات يوم على منبر الكوفة، فقال: أيها الناس، إني بت ليلتي هذه مهتما بخلال ثلاث، رأيت أن أتقدم إليكم فيهن بالنصيحة: (رأيت أعظام ذوى الشرف واجلال ذوى العلم وتوقير ذوى الاسنان، والله لا أوتى برجل رد على ذى شرف ليضع بذلك منه الا عاقبته ولا أوتى برجل رد على ذى شيبة ليضعه بذلك إلا عاقبته، انما الناس بأعلامهم وعلمائهم وذوى أسنانهم". رواه ابن عبد البر (1: 53). 2 - عن الشعبي قال: " صلى زيد بن ثابت (ض) على جنازة، ثم قربت له بغلة ليركبها، فجاء ابن عباس (ض) فأخذ بركابه، فقال له زيد خل عنه يا ابن عم رسول الله (ص) فقال ابن عباس هكذا يفعل بالعلماء والكبراء". رواه ابن عبد البر (1: 128). 3 - روى عن النبي (ص) أنه قال: "ارحموا من الناس ثلاثة. عزيز قوم ذل، وغني قوم افتقر، وعالما بين جهال". ذكره ابن عبد البر (131:1) (1). 8) شكوى علماء الدين من الأرذال المفسدين روى ابن عبد البر في (جامع بيان العلم وفضله) عن الحسن البصري أحد كَبار علماء التابعين أنه قال: (اللهم إليك نشكو

_ السنة الأولى، العدد 7: محرم 1352ه، ماي 1933م.

تعليق

هذا الغثاء الذي كنا نحدث عنه. إن أجبناهم لم يفقهوا، وإن سكتنا عنهم وكلناهم إلى عيى شديد. والله لولا ما أخذ الله على العلماء في علمهم ما أنبأناهم بشيء أبدا) (1: 6). تعليق: الغثاء في الأصل ما يخالط زبد السيل من أعشاب وأوراق، والمراد به هنا أراذل الناس وسقطهم. وقد أفاد الأثر أولا: أن علماء الدين المرشدين كانوا من قديم الزمان يعانون متاعب في الإرشاد، ويتحملون إذايات المفسدين، ويتلقون اعتراضات من أدعياء العلم المفتونين. وثانيا: أن تلك المتاعب والإذايات والاعتراضات لا تسقط عن العالم فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا تنجيه من تبعة الكتمان الثابتة بقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} وبقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «من سُئل علماً عَلِمَه فكتمَهُ جاء يوم القيامة ملجما بلجام من نار» رواه ابن عبد الله في الجامع وأبو داود والترمذي وابن حبان والحاكم البيهقى وغيرهم بروايات متحدة المعنى متقاربة الألفاظ. وثالثا: أن العلم أمانة عند العلماء، وهم مكلفون بأدائها لمستحقيها، وليس العلم ملكا لهم يستغلونه فيكتمونه إن رأوا الكتمان أوفق بمصالحهم الشخصية وينشرون منه ما لا يصادم أهواء العامة، بل يزيدهم جاها لديهم. ولا أبخس صفقة ممن اشترى الحياة الدنيا بالآخرة.

9) حكم طلب العلم

9) حكم طلب العلم: روى ابن عبد البر في جامعة عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم-: (أطلبوا العلمَ ولو بِالصين، فإن طلبَ العلم فَريضة على كل مُسلم) (1: 7). تعليق: أفاد الحديث أمرين: أحدهما وجوب طلب العلم، وثانيهما عدم اعتبار المشقة في طلبه مانعا من وجوبه، بلغت المشقة ما بلغت. والحديث رواه ابن عبد البر من طرق متعددة ثم قال: ( ... في أسانيده مقال لأهل العلم بالنقل، ولكن معناه صحيح عندهم وإن كانوا قد اختلفوا فيه اختلافا متقاربا). ومثار الخلاف الذي أشار إليه ابن عبد البر ما في لفظة العلم من الإجمال، فإن المراد من العلم العلم الديني قطعا، لكن مسائل الدين منها ما هو فرض ومنها ما هو غير فرض، ومنها ما هو فرض عيني ومنها ما هو فرض كفائي. وقد أورد ابن عبد البر أقوال الأئمة في معنى الحديث، فروى عن إسحاق بن راهويه أنه قال: (معناه أنه يلزمه طلب علم ما يحتاج إليه من وضوئه وصلاته وزكاته إن كان له مال وكذلك الحج وغيره، وما وجب عليه من ذلك لم يستأذن أبويه في الخروج إليه وما كان فضيلة لم يخرج إليه حتى يستأذن أبويه). وروى عن مالك أنه سئل عن طلب العلم أهو فريضة على الناس؟ فقال: لا، ولكن يطلب من المرء ما ينتفع به في دينه. وروى عن ابن المبارك أنه سئل عن معنى هذا الحديث فقال: فريضة على من وقع في شيء من أمر دينه أن يسأل عنه حتى

10) براءة رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- ممن غير دينه

يعلمه. وروى عن ابن عيينة أنه قال: فريضة على جماعتهم ويجزيء فيه بعضهم عن بعض وتلا هذه الآية: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ}. ثم أورد ابن عبد البر جملة من المسائل الواجبة وجوبا عينيا، وجملة من الواجبات الكفائية ونحن لا نرى لزوما للتفصيل فإنه يلوح من كلام الأئمة المتقدم أن طلب العلم على وجهين: أحدهما الاشتغال بتحصيل مسائله والانقطاع إلى تعلم قواعده. وهذا هو الواجب كغاية. وثانيهما السؤال عن حكم ما نزل به من أمر دينه واستفتاء أهل العلم فيه، وهذا واحب عينا فاحفظ هذا الضابط واعتبر به مسائل دينك يسهل عليك الفرق بين ما هو واجب على عموم المسلمين يسقط عنهم بوجود عالم بينهم، وما هو واجب عليك في خاصة نفسك لا تبرأ منه ذمتك إلا بمعرفته (1). 10) براءة رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- ممن غير دينه: روى مالك في الموطأ، وروى غيره أيضا عن أبي هريرة- رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- خرج إلى المقبرة فقال: «السلام عليكُم دارَ قوم مُؤمنِينَ، وإِنَا إن شاء اللهُ بكمُ لاحقُونَ، وددتُ أني قد رأيت إخوانَنا». فقالوا: يا رسول الله ألسنا بإخوانك؟ قال «كلا، أنتُم أصحابى، وإخوانُنا الذينَ لم يأتوا بَعْدُ، وأنا فرطهم على الحوض». فقالوا: يا رسول الله، كيف تعرف من يأتى بعدك من أمتك؟ قال: «أرأيتَ لو كان لرجل خيل غرٌ محجلة في خيل دهم بهم ألا يعرف خيلَه؟» قالوا بلى يا رسول الله. قال: فإنهم يأتون يوم القيامة غُراَ محجلين من أثَرِ الوضوء، وأنا

_ (1) الصراط - السنة الأولى العدد 12، شعبان 1352ه ديسمبر 1933م.

تعليق

فرطهم على الحوض. فليذادن رجال عن حوضي كلما يذاد البعير الضال، أناديهم: ألا هلم، ألا هلم، ألا هلم. فيقال: إنهم قد بدَّلوا بعدك. فأقول: فسحقا، فسحقا، فسحقا». تعليق: قد أتينا هذه المرة بحديث فيه طول. ولكن ما فيه من الفوائد نعتقد أنه يكون حافزا للقارىء إلى حفظه. وليس حفظ الحديث الجليل بكثير على همة المستفيدين وفوائد هذا الحديث: أولاها: جواز زيارة القبور، غير أن الجواز مقيد بكونها على الصفة التي وقعت من رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- ومن أصحابه - رضوان الله عليهم-وصفة الزيارة في هذا الحديث مركبة من ثلاثة أشياء: أحدها حق الدعاء للموتى. ثانيها الإعتبار بحالهم. ثالثها دعاء الزائر لنفسه بحسن الخاتمة. الأول مستفاد من جملة السلام عليكم. والثانى مستفاد من جملة وإنا بكم لاحقون. والثالث مستفاد من جملة إن شاء الله. فقد قال أبو القاسم الجوهري: معناه (لا نبدل ولا نغير، نموت كل ما متم عليه إن شاء الله تعالى) نقله الباجي في شرح الموطأ. الفائدة الثانية: تسميته- صلى الله عليه وآله وسلم- لمن لم يره من أمته بإخوانه، فنحن من إخوانه- صلى الله عليه واله وسلم- وكفى بهذه النسبة شرفا، فما على المسلم إلا أن يعمل بسنة نبيه- صلى الله عليه وآله وسلم- حتى تتحقق فيه هذه النسبة، وليس من الأدب ولا من الإيمان أن يستضعف المسلم

هذه النسبة ويحاول تقويتها بنسبة أخرى إلى شخص آخر ككونه خوني فلان أو حبيبه أو درويشه. وعدم تسميته- صلى الله طيه واله وسلم- لأصحابه بالإخوان يدل على فضل الصحبة وأن لها مزية زائدة على مطلق الأخوة، وهذا لا خلاف فيه. الفائدة الثالثة: عنايته- صلى الله عليه وآله وسلم- بأمته في الآخرة، كما كان حريصا على هدايتهم في الدنيا، يدل على هذه العناية قوله: (وأنا فرطهم على الحوض) قال الباجى في شرحه: يريد أن يتقدمهم إليه ويجدونه عنده. رواه ابن حبيب عن مالك. يقال فرطت القوم إذا تقدمتهم لترتاد لهم الماء وتهيىء لهم الماء والرشاء. الفائدة الرابعة: أن عنايته- صلى الله عليه وآله وسلم- بأمته في الآخرة خاصة بالثابتين على سنته منهم، فأما المبتدعون الذين بدلوا سنته وأحلوا محلها بدعتهم فإنه- صلى الله عليه وآله وسلم- يبعدهم عنه بقوله: (فسحقا، فسحقا، فسحقا). ثم هذا الابعاد معناه الحرمان من ماء الحوض في وقت شدة الحاجة إليه، فإن كان الابتداع والتبديل بالمروق من الدين فالابعاد حرمان من الشفاعة أيضا، ويبقى ذلك المبتدع مخلدا في النار، وإن كان الابتداع لا يخرج من الدين، فالابعاد عن الحوض لا يمنع المبتدع أن تناله الشفاعة، غير أن في الابعاد عن الحوض عذابا بالظما وخزيا بالطرد. نسأل الله أن يحيينا على سنة رسوله الكريم، وأن لا يحرمنا من ماء حوضه العذب ولا من شفاعته المرجوة (1).

_ (1) الصراط: السنة الأولى العدد 13، شعبان 1352ه ديسمبر 1933م.

11) الترغيب في الذكر

11) الترغيب في الذكر: قال الحسن البصري وأبو العالية والسدي والربيع بن أنس: "أن الله يذكر من ذكره، ويشكر من شكره، ويعذب من كفره". نقله الحافظ ابن كثير في تفسيره: (1: 360). تعليق: الأحاديث والآثار في فضل الذكر والترغيب فيه كثيرة، وليس فيها- على كثرتها- ما يدل على احتياج الذاكر إلى إذن في ذكره من غيره، وليس فيها- على كثرتها- ما يدل على أن الله قد نصب بعض عباده لإعطاء الإذن في ذكره لمن يريده. فاذكروا الله أيها المؤمنون، ولا تتخذوا وسطاء بينكم وبين الله في الإذن بالذكر ولا في قبوله، وما أصدق قول الناس: "باب الله ما عليه بواب". 12) ما هو الذكر؟ ومن هو الذاكر؟ عن خالد بن أبي عمران قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-: " من أطاع الله فقد ذكر الله وإن قلت صلاته وصيامه وتلاوته القرآن. ومن عصى الله فقد نسى الله وإن كثرت صلاته وصيامه وتلاوته القرآن". أخرجه سعيد ابن منصور وابن المنذر والبيهقي في شعب الإيمان، نقل ذلك السيوطى في الدر المنثور (1: 149). وعن سعيد بن جبير أنه قال- في جواب مسائل سأله عنها عبد الملك ابن مروان-: "وتسأل عن الذكر، فالذكر طاعة الله، فمن أطاع الله فقد ذكر الله، ومن لم يطعه فليس بذاكر وإن أكثر

تعليق

التسبيح وتلاوة القرآن". ونقله ابن غيلان في شرحه على حلية الأبرار للنووي (1: 15). تعليق: قد جمعنا بين الحديث المرفوع والأثر الموقوف على سعيد ابن جبير من كبار علماء التابعين لاتحادهما في المعنى وورودهما على غرض واحد، وقدمنا الحديث لأنه الأصل، وأخرنا الأثر لأنه الفرع الشاهد المقوى لسند ذلك الحديث .. وقوله في الحديث: وإن قلت صلاته ... الخ. يريد صلاة ْالتطوع وصيام التطوع. أما من قلت صلاته الواجبة أو صيامه الفرض فإنه عاص لا يوصف بالطاعة. وبهذا الحديث وذلك الأثر تعلم المراد من الآيات الآمرة بالذكر كقوله تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} وقوله: {اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} فليس المراد من الذكر في أمثال هاتين الآيتين خصوصا الذكر اللسانى، بل المراد الطاعة بجميع أنواعها من صلاة وصيام وصدقة ونصيحة وتلاوة القرآن وتسبيح وتحميد وتهليل وغير ذلك، فإن المطيع إنما أطاع الله لكونه ذكره بقلبه أو بلسانه. وغرضنا من تقديم هذين الحديث والأثر إلى القراء أن يعلموا أولا: أن معنى الذكر أوسع مما يتخيلون، وأن بعض من يعدونهم من العباد في غير الذاكرين هم في عرف الشرع من الذاكرين. وأن يعلموا ثانيا: أن ما عليه كثير من العوام من الاعتماد على السبح (1) دون الطاعة هو غرور في غرور، وان كثيرا

_ (1) كذا في الأصل. ولعل الصواب: التسبيح.

13) هل ينفع الذكر مع تعدى حدود الله؟

ممن يعد نفسه ويعده الناس من الذاكرين هو في عرف الشرع من الغافلين. فيا أيها المسلمون تثبتوا في الحقائق الشرعية واطلبوا تفسيرها من صاحب الشريعة أو ممن قرب زمنه من زمنه، ولا تعتمدوا في فهم حقائق دينكم على عرفكم وعادتكم، فإن الجهل بالسنة وخروج أمر العامة من يد العاملين بها مما ابتليت به الأمة الإسلامية قديما. 13) هل ينفع الذكر مع تعدى حدود الله؟ عن أبي هند الداري عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: "قال الله: أذكرونى بطاعتي أذكركم بمغفرتي، فمن ذكرني وهو مطيع فحق علي أن أذكرَه بمغفرتى، ومن ذكرَنِي وهو لي عاص فحق علي أن أذكرَه بمقت". أخرجه الديلمي وابن عساكر ونقله السيوطى في الدر المنثور (1: 148). وعن ابن عمر- رضي الله عنه- أنه قيل له: أرأيت قاتل النفس وشارب الخمر والزانى يذكر الله وقد قال الله: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} (اذا ذكر الله هذا ذكره الله بلعنته حتى يسكت). أخرجه عبد الله بن حميد وابن أبي حاتم نقله في الدر المنثور (1: 149). تعليق: إن في ذلك الحديث وهذا الأثر لذكرى لقوم يؤمنون، كثيرا ما يعظ المسلم أخاه وينكر عليه تكاسله في الواجبات ونشاطه في المنهيات فيجيبه بقوله: إن الله غفور رحيم، أو نحن أخذنا

14) الحث على تعلم القرآن

الورد عن سيدى فلان، وقد ضمن لمن يذكر ورده الجنة، فليعلم المسلمون أن ذكر الله على هاته الصفة ونحوها مما يوجب مقت الله ولعنته. أيها المسلمون من وعظ منكم فليتعظ، ومن نهى عن منكر فلينته، ومن أمر بمعروف فليأتمر {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (1). 14) الحث على تعلم القرآن: عن عثمان بن عفان- رضي الله عنه- عن النبي- صلى الله عليه وآله وسلم-: (خَيركم مَن تَعَلمَ الْقُرْآنَ وعَلمَهُ). أخرجه البخاري في كتاب فضائل القرآن. تعليق: قد تقاصرت همم المسلمين في هذه المدة الأخيرة عن تعليم القرآن وتعلمه، فقل الحافظون له، فعلى كل من نصب نفسه لإرشاد المسلمين في دينهم أن يحثهم على العناية بحفظ كتاب ربهم، وعلى الكتاب أن يطرقوا هذا الموضوع الكثير النواحي. هذا يأتيه من ناحية فضيلة القرآن، وذلك من ناحية اختيار المعلمين وما هي الصفات المطلوبة فيهم، والآخر من ناحية أسلوب التعليم وما هو الأقرب إلى التحصيل من أي الأساليب، ورابع من ناحية تحسين حال المعلمين وتوفير أجرتهم، وكل من هذه النواحى يلزم أن تتعدد فيها الكتابة حتى تحدث تأثيرا في المجتمع وتكون رأيا عاما في الموضوع. وحسبنا في هذا الباب باب الآثار والأخبار ما أرشدنا إليه. والحديث صريح في فضل من جمع بين تعلم القرآن وتعليمه لغيره وأنه خير من غيره، وإنما ثبتت له هذه المزية لأن المراد من متعلمه من حفظه وفهمه وعمل

_ (1) الصراط: السنة الأولى العدد 14، رمضان 1352ه ديسمبر 1933م.

15) الإعتصام بكتاب الله

به، والمراد من معلمه من يلقنه غيره ويفسره له ويرشده إلى العمل به. وإذا كان هذا النوع الممدوح في الحديث المفضل على غيره بشهادة الصادق المصدق مفقودا من بيننا أو كالمفقود فالواجب علينا السعي في تكوينه، ولهذا دعونا الكتاب إلى العناية بهذا الموضوع. قال الحافط ابن حجر في بيان وجه خيرية معلم القرآن ومتعلمه: "ولا شك أن الجامع بين تعلم القرآن وتعليمه مكمل لنفسه ولغيره، جامع بين النفع القاصر والنفع المتعدى، ولهذا كان أفضل، وهو من جملة من عنى سبحانه وتعالى بقوله: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}. والدعا إلى الله يقع بأمور شتى من جملتها تعليم القرآن، وهذا أشرف الجميع". هذا كلام ابن حجر، ثم أفاد أن ليس المراد بهذا الحديث من كان قارئا أو مقرئا محضا لا يفهم شيئا من معاني ما يقرأه أو يقرئه. 15) الإعتصام بكتاب الله: عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب- رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- يقول: "أتانى جبريل فقال يا محمد أمتك مختلفة بعدك، قال: فقلت له: فأين المخرج يا جبريل؟ قال: فقال: في كتاب الله، به يقصم الله كل جبار، من اعتصم به نجا، ومن تركه، هلك (مرتين) قول فصل، وليس بالهزل، لا تخلقه الألسن، ولا تفنى عجائبه، فيه نبأ من كان قبلكم، وفصل ما بينكم، وخبر ما هو كائن بعدكم". أخرجه الإمام أحمد، نقله الحافظ ابن كثير أوائل كتابه فضائل القرآن الذى ختم به تفسيره.

تعليق

تعليق: صدق رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- فقد وقع الاختلاف، وقد دعونا الناس إلى المخرج، وهو كتاب الله، وسنة رسوله المبينة له، فقال المعاندون ما قالوا، إلا من كان يؤمن بأن محمدا رسول الله فليمتثل إرشاده، وقد أرشدنا إلى المخرج من هذا الاختلاف، فلنعمل بإرشاده، وهدانا إلى طريق الحق عند الالتباس فلنهتد. وقد وصف الله كتابه بقوله: {هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ}. فهو هدى بين واضح، لا يلتبس على مريد الحق التماس الهدى منه. وإذا كانت طباعنا العربية وسلائقنا في فهم لسان العرب قد حالت وفسدت وصعب علينا أو تعذر فهم كلام ربنا، فإن في تعلم اللغة العربية وعلومها ما يجعل لنا سلائق مكتسبة، وأن فيما كتبه أئمة التفسير قبلنا ما يجبر نقص السليقة الكسبية عن السليقة الفطرية. وقد أوصل الجهل بكتاب الله بعض أدعياء العلم إلى أن جعلوا الدعوة إلى توحيد الله ونبذ ضروب الشرك طريقة خاصة بابن تيمية على معنى أنها بدعة حصلت بعد انعقاد الاجماع، فمن سلك هذه الطريقة فقد عرض دينه للخطر، ولو نظروا في كتاب الله وتأملوه لوجدوا جل آياته دعوة إلى التوحيد ونبذ الشرك. وإذا ذكرت لهم هذا قالوا: تلك آيات نزلت في مشركي مكة، فكيف تطبقونها على من يشهد الشهادتين؟ وهذا نوع آخر من جهالاتهم وتلبيس إبليس عليهم، فإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب وقد قال الله تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ}. قال المفسرون: معناه من بلغه القرآن، فتخصيص انذاره بمشركي مكة تعطيل للقرآن. قال الغزالى في الإحياء: "وينبغى للتالى أن يقدر أنه المقصود بكل خطاب في

16) مدح العامل بالقرآن

القرآن، فإن سمع أمرا أو نهيا قدر أنه المنهي والمأمور، وكذا إن سمع وعدا أو وعيدا، وكذا ما يقف عليه من القصص فالمقصود به الاعتبار. قال تعالى: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ}. وقال تعالى: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ}. وقال: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ}، قال محمد بن كعب القرظي: "من كلمه القرآن فكأنما كلمه الله عز وجل" ا ه كلام الغزالى (1). 16) مدح العامل بالقرآن عن أبي موسى الأشعري- رضي الله عنه- عن النبي- صلى الله عليه وآله وسلم-: «المُؤْمِنُ الَّذِي يَقْرَأُ القُرْآنَ وَيَعْمَلُ بِهِ كَالأُتْرُجَّةِ طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَرِيحُهَا طَيِّبٌ. وَالمُؤْمِنُ الَّذِي لاَ يَقْرَأُ القُرْآنَ وَيَعْمَلُ بِهِ كَالتَّمْرَةِ طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَلاَ رِيحَ لَهَا. وَمَثَلُ المُنَافِقِ الَّذِي يَقْرَأُ القُرْآنَ كَالرَّيْحَانَةِ رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ. وَمَثَلُ المُنَافِقِ الَّذِي لاَ يَقْرَأُ القُرْآنَ كَالحَنْظَلَةِ طَعْمُهَا مُرٌّ وَرِيحُهَا مُرٌّ».رواه البخاري ومسلم وغيرهما. تعليق: جعل رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- طيب الطعم دائرا مع العمل، وجعل طيب الرائحة صفة للتلاوة. والمجدى على المرء هو عمله. أما التلاوة وحدها فإنها لا تجدى. فالمنافق يتلو القرآن ولكنه في الدرك الأسفل من النار. وقد دل الحديث على أن العمل بالقرآن درجتين (1) أعلاهما الجمع بين التلاوة والعمل. ودل على أن لمخالفة أوامره ونواهيه

_ (1) الصراط: السنة الأولى العدد 15 رمضان 1352 ديسمبر 1933م. (1) في الأصل: والصواب (درجتان).

17) ذم المباهي والمتعيش بالقرآن

دركته أدناها الجمع بين الإمراض عن حفظه والإضراب عما دعا إليه. والعمل بالقرآن يقتضي فهم معانيه، وكذلك كان المخاطبون بهذا الحديث، فإن القرآن بلغتهم نزل. ولهذا لم يقل في الحديث: "المؤمن الذى يقرأ القرآن ويفهمه ويعمل به". لأن ذكر الفهم لأولئك المخاطبين حشو، تتحاشى عنه البلاعة النبوية فيا أيها القراء المؤمنون تطلبوا معاني ما تقرأون، واعملوا بما تفهمون، كي تكونوا أترجة، ويا أيها المؤمنون الأميون، اسألوا أهل الذكر والعلم بكتاب ربكم وتحروا العمل بما دعاكم إليه كي تكونوا تمرة. وقد دلت مقابلة القارىء العامل بالقارىء المنافق على تسمية من يخالف ما يقرأه منافقا، والمنافقون في الدرك الأسفل من النار وهم أخس صنوف الكفار. ولكنا نجد من الناس من لا يختلف في إيمانه ثم هو يخالف ما يقرأه. وقد قال العلماء: إن هذا النوع من المؤمنين يسمى نفاقهم نفاق عمل لا نفاق كفر، ويسمون منافقين مجازا لأن فيهم خصلة من خصالهم وهي المخالفة للأوامر. فالقارىء إن لم يعمل بما يقرأه فهو منافق حقيقة أو مجازا. أعاذنا الله وإياكم من النفاق حقيقته ومجازه وجعلنا ممن يتلو كتابه عالما بمعانيه عاملا بما يفهمه منه. 17) ذم المباهي والمتعيش بالقرآن: عن أبي سعيد الخدري- رضي الله عنه- عن النبي- صلى الله عليه وآله وسلم-: «تعلموا القرآن واسألوا الله به قبل أن يتعلمه قوم يسألون به الدنيا. فإن القرآن يتعلمه ثلاثة نفر: رجل يباهى به، ورجل يستأكل به، ورجل يقرأه لله» رواه أبو عبيد في فضائل القرآن، وصححه الحاكم، نقله الحاكم في فتح الباريء (9: 82).

تعليق

تعليق: حدث أبي سعيد أخرجه الإمام أحمد بلفظ آخر، وفي آخره: "ويقرأ القرآن ثلاثة: مؤمن ومنافق وفاجر". وفسر الراوي عن أبي سعيد الفاجر بمن يتأكل بالقرآن. فقوله في رواية أبي عبيد: (ورجل يستأكل به) بمعنى الفاجر في رواية الإمام أحمد. ويكون حينئذ قوله في رواية أبي عبيد (رجل يباهى به) بمعنى قوله في الرواية الأخرى: (ومنافق). وقد دل الحديث على ذم المباهى بتلاوته. وكثيرا ما يقصد قراء زماننا المباهاة بأصواتهم والفخر بحفظهم، ولا سيما إذا كانوا يمكلون مجتمعين بصوت واحد، فليحذر من يجد هذا من نفسه وليعلم أن كتاب الله هداية تخشع لها القلوب، وتستسلم الجوارح. ودل أيضا على ذم المسترزق بالقرآن، وكثير من قراء زماننا لا يقصدون من حفظه إلا التوسل به للتلاوة على الموتى بأجرة ونحو ذلك من الأغراض الدنيوية المحضة. ولا يتناول هذا الذم من يأخذ الأجرة على تعليم القرآن إذا كانت في مقابلة تعبه، وشغل وقته، ولم يتخذ تعليمه صناعة من الصناعات المادية المحضة، بل على هذا المعلم- إن أراد السلامة من ذلك الذم- أن يكون هو نفسه عاملا بكتاب الله، وأن يقصد من تعليمه الدعوة إلى العمل به. 18) الغاية من قراءة القرآن: عن ابن مسعود- رضى الله عنه- أنه كان يقول: (أنزل عليهم القرآن ليعملوا به، فاتخذوا درسه عملا. إن أحدهم ليتلو القرآن من فاتحته إلى خاتمته، ما يسقط منه حرفا وقد أسقط العمل به). نقله الثعالبي في تفسيرة (1: 9).

تعليق

تعليق: ذم ابن مسعود من اتخذ تلاوة القرآن عملا. فكيف حال من آجر نفسه لتلاوة، وباع عمله ذلك؟ وللفقهاء خلاف في حصول الأجر لمن يقرأ القرآن من غير فهم ولا تأمل. وهذا إذا قصد التالي بتلاوته وجه الله تعالى، لأن الإخلاص شرط شرعي لترتيب الثواب الأخروي، فهل هذا الذي يتلو القرآن من غير فهم بأجرة مخلص لله في تلاوته حتى يختلف في إثابته على التلاوة؟ وقد فتحنا بابا للبحث في موضوع "الفداوي" واللبيب يكفيه ما اقتصرنا عليه (1). 19) معنى ليلة القدر قال الشوكلانى: "قيل سميت ليلة القدر، لأن الله سبحانه وتعالى يقدر فيها ما شاء من أمره إلى السنة القابلة، وقيل: لعظيم قدرها وشرفها، وقيل: لأن للطاعات فيها قدرا عظيما وثوابا جزيلا. وقال الخليل: لأن الأرض تضيق فيها بالملائكة كقوله تعالى: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} أي ضيق. تفسير الشوكانى (5: 59). تعليق: هذا كلام الشوكانى حذفنا منه كلمات قليلة لا تؤثر في فهم الرأي، والأقوال الثلاثة، الأول ذكره أيضا محيي السنة أبو محمد البغوى في تفسيره.

_ (1) الصراط: السنة الأولى العدد 16، رمضان 1352ه جانفي 1934م.

ولا أرى مانعا من صدق هذه الأقوال مجتمعة، فهي ليلة قدر بمعنى تقدير الأرزاق والآجال وغيرها، لوقوع هذا التقدير فيها وهي ليلة قدر وشرف لنزول القرآن فيها وللطاعات فيها قدر وفضل على الطاعات في غيرها، وهى ليلة تكثر فيها الملائكة بالأرض كثرة لا تكون في غيرها لقوله تعالى: {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا}. وعلى تفسير القدر بمعنى تقدير أمور الخلق يقال كيف يتجدد هذا التقدير كل سنة وقدر الله أزلى؟ وقد نقل البغوي جواب هذا السؤال في تفسيره فقال: "قيل للحسن بن الفضل: أليس قد قدر الله المقادير قبل أن يخلق السموات والأرض؟ قال: نعم. قيل فما معنى ليلة القدر؟ قال: سوق المقادير التي خلقها إلى المواقيت تنفيذا للقضاء المقدر". وقد استبان من هذا أن الليلة التي تقدر فيها أمور الخلق، هي الليلة التي قال الله فيها: {خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ}. وسماها في آية الدخان مباركة، إذ قال: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ}. فليلة القدر والليلة المباركة إسمان لليلة واحدة، وهي ليلة إنزال القرآن. وهذه الليلة في رمضان، لقوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ}. وليست في شعبان كما يظنه العوام الذين يفرقون بين ليلة القدر والليلة المباركة، ويعتقدون اعتقادا مخالفا للقرآن، أن الليلة المباركة ليلة النصف من شعبان، وبعض العوام يسمون ليلة النصف من شعبان "ليلة قسام الأرزاق" ولهم في هذه الليلة خرافات يبنونها على أساس الجهالات، وغرضنا من هذا التنبيه، إرشاد المسلمين إلى معرفة هذه الليلة معرفة صحيحة كما نطق الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وبهذه المعرفة على هذا الوجه، تتطهر عقولهم من خرافات وتزول عنهم جهالات.

20) معنى خيرية ليلة القدر

20) معنى خيرية ليلة القدر عن أنس قال: "العمَل في ليلةِ القدْر والصَدقة والصلاةُ والزكاة أفضل من ألفِ شهْر". أخرجه عبد الله بن حميد، نقله في الدر المنثور (6: 370). تعليق: بين هذا الأثر- وفي معناه آثار كثيرة- أن خيرية ليلة القدر راجعة إلى تفضيل الطاعة فيها والعمل الصالح على غيرها من الليالى والأيام. وهذا يفيد أن المسلم الذي يتطلب ليلة القدر إنما يتطلبها ليعمل فيها صالحا ويجد في العبادة، فالمؤمن إنما يطلبها للدين لا للدنيا. وقد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة- رضي الله عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- قال: "من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه". 21) الدعاء ليلة القدر: عن عائشة- رضي الله عنها- أنها قالت: يا رسول الله، إن وافقت ليلة القدر فما أدعو؟ قال: قولي: "اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني". رواه أحمد والترمذي والنساني وابن ماجه والحاكم، نقله ابن كثير في تفسيره (9: 261). تعليق: ليلة القدر من أوقات الاستجابة، فينبغي للمؤمن أن يكثر فيها من الدعاء، ولهذا سألت عائشة- رضي الله عنها- عن صيغة تدعو بها تلك الليلة، وقد بين رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- لزوجه الكريمة عليه صيغة الدعاء- فيتعين أن يكرر المسلم هذا الدعاء ليلة القدر، وأن يفضله على ما

22) علامات ليلة القدر

سواه، لأنه لفظ أفضل الخلق الذي علمه لأحب زوجاته. ثم هذا يؤكد ما قدمناه من أن ليلة القدر تراد للدين لا للدنيا، وكثير من العوام يتمنى لو يعلم ليلة القدر ليطلب بها دنياه، فليتب إلى الله، من وقع له هذا الخاطر السيء. فإن الله يقول في كتابه العزيز: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ}. وكثير من العوام يعتقدون في بعض البيوتات الغنية أن مؤسس ذلك البيت رأى ليلة القدر، فسأل الله ان يجعل ماله ونسله خيرا من مال الناس ونسلهم، فكان ذلك. ثم يجعلون هذه الميزة الدنيوية دليلا على ولاية ذلك الداعي وصلاح ذريته. وحديث عائشة- رضي الله عنها- وآية {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ} وما في معنى ذلك من الآيات والآثار شاهدة بفساد ذلك الاعتقاد، وضلال تلك الأفكار، وأن الفرق بين التقي والفاجر هو الإقبال على الآخرة أو الإقبال على الدنيا. ولسنا ننكر على من يطلب الدنيا بأسبابها التي جعلها الله تعالى. وإنما ننكر على من يكون همه الدنيا دون الآخرة حتى أنه يترصد ليلة القدر ليطلب فيها الدنيا غافلا عن الآخرة. ثم يعتقد أن من نال ثروة دنيوية بغير أسباب ظاهرة لديه، فإنما ذلك لولايته ودعائه ليلة القدر. 22) علامات ليلة القدر عن ابن عباس: أن رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- قال في ليلة القدر: "ليلة سمحة طلقة، لا حارة ولا باردة، وتصبح شمس صبيحتها ضعيفة حمراء". أخرجه أبو داود الطياليسى. ونقله ابن كثير (9: 257).

تعليق

تعليق: الأحاديث في تعيين ليلة القدر كثيرة متضاربة، والصحيح أنها في رمضان. والراجح أنها في العشر الأواخر منه. وهذه العلامات التي ذكرها الرسول- صلى الله عليه وآله وسلم- ليلة القدر ليس فيها أن السماء تنشق وأنه ظهر فيها ألوان من نور، كل نور له لون خاص، إلى غير ذلك من خرافات العوام. وأن مما يؤسف المؤمن أن الأوقات المفضلة في ديننا قد غمرناها بالخرافات، وصرفنا أنفسنا عما يراد فيها من الطاعات، فحرمنا من خير كثير، وقلما تجد وليا صالحا، أو وقتا فاضلا، إلا وهو محاط بخرافات تعين إبليس على إبراز قسمه في الإغراء، وتقف حجر عثرة أمام الداعي المرشد إلى الصراط المستقيم. وأن مما يؤسف المؤمن أن هذا الشهر، شهر رمضان الذي جمع الله لنا فيه بين الصيام والقيام، وأودع فيه أفضل ليال العام يقطعه أكثرنا في اللهو والقمار، والنوم والشجار. أيها المسلمون: طهروا عقولكم من الخرافات، ونوروا قلوبكم بالطاعات، وانتهزوا فرصة الأوقات المفضلات، ولا تهملوها فتعود عليكم بالحسرات. اللهم صل وسلم على من أنزلت عليه: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ} (1).

_ (1) الصراط: السنة الأولى العدد 17، رمضان 1352ه جانفي 1934م.

موضوعات متصلة بالسنة

موضوعات متصلة بالسنة

الصلاة على النبي -صلى الله عليه وآله وسلم - 1 -

الصلاة على النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- - 1 - مكانتها - ثمرتها - القسم العلمي - معناها لغة - معناما شرعا - مزية لفظها - من تكون منه - من تكون عليه - نفي الاشتراك عنها - تفسيرها باللازم. ــــــــــــــــــــــــــــــ تمهيد: الصلاة على النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- من أصول الأذكار في الإسلام ومن أعظمها. فإن الله تعالى أمر بها المؤمنين على أبلغ أسلوب في التأكيد، وأكمل وجه في الترغيب، وجعلها من الأذكار اليومية المتكررة في الصلوات، وهي ذكر لساني بتلاوة لفضلها، وقلبي بتدبر معانيها، ومثمرة لرسوخ الإيمان وشدة المحبة وتمام التعظيم له صلى الله عليه وآله وسلم المثمرين لاتباعه، المحصل لمحبة الله عبده. وتلك غاية سعادة المخلوق ونهاية كماله. {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.

القسم العلمي

فمما يتأكد على كل مسلم أن يكون على شيء من العلم بهذا الكنز العظيم، وسنأتي من ذلك بما يفتح الله تعالى به في هذا المقال. القسم العلمي: الصلاة في لسان العرب قبل الإسلام وردت بمعنى الدعاء، قال الأعشى: وَصَهْبَاءَ (1) طَافَ يَهُودِيُّهَا … وأَبْرَزَهَا وَعَلَيْهَا خَتَمْ وَقَابَلَهَا الرِّيحُ فِي دَنِّهَا … وَصَلَّى عَلَى دَنِّهَا وَارْتَسَمْ قال صاحب اللسان: دعا لها أن لا تحمض ولا تفسد. وقال الأعشى أيضا: عَلَيْكِ مِثْلُ الَّذِي صَلَّيْتِ فَاغْتَمِضِي … نَوْمًا فَإِنَّ لِجَنْبِ الْمَرْءِ مُضْطَجَعَا أي دعوت. فالدعاء هو معناها اللغوي الأصلي وعليه جاءت كلمات كثيرة في الكتاب والسنة فمنها "وصلوات الرسول" أي دعواته "وصل عليهم"، أي أدع لهم وحديث: «إذا دعي أحدكم لطعام فليجب فإن كان مفطرا فليطعم وإن كان صائما فليصل» أي فليدع لأرباب الطعام و (الصلوات لله) أي الأدعية التي يراد بها تعظيم الله هو مستحقها لا تليق بأحد سواه كما في (اللسان). جاءت هذه الكلمات وأمثالها على المعنى اللغوي الأصلي، وجاء مثل قوله تعالى {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا}.

_ (1) الصهباء: الخمر سميت بذلك للونها، واللون الأصهب الذي يخالط بياضه حمرة.

وقوله - صلى الله عليه وسلم- «لا صلاة لجار المسجد في غير المسجد» مراداً به عبادة مخصوصة ذات أقوال وأفعال وتروك على هيئة خاصة من جملة أجزائها الدعاء. ولا شك أن إطلاقها على هذا المعنى إنما هو إطلاق شرعي ولكنه غير خارج عن أساليب كلام العرب، فإنه من باب تسمية الشيء باسم جزئه، فإطلاق هذا اللفظ على هذه العبادة المخصوصة حقيقة شرعية، مجاز لغوي، وليس هذا هو مرادنا هنا. وقد كان الظاهر لما كانت بمعنى الدعاء أن تتعدى بالكلام ولكنها تعدت بعلى لما فيها من معنى العطف، فصلى عليه يؤدي معنى قولنا: دعا له عاطفاً عليه وهذا هو السر في اختيار لفظها على لفظه لتؤدي المعنيين: الدعاء والعطف. وإن كان لفظ الدعاء يقتضي عطفاً فذلك بطريق الاستلزام، وهو دون دلالة التضمن. تكون هذه الصلاة من المخلوق على المخلوق ومن الخالق على المخلوق. فمن الأول صلاة النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- على المؤمنين كما في آيتي سورة التوبة المتقدمتين ومنها قوله - صلى الله عليه وآله وسلم- «اللهم صل على آل أبي أوفى» فقد دعا لهم وسأل الله تعالى أن يصلي عليهم. وصلاته على نفسه في تشهده في الصلاة. ومنه صلاة الملائكة على النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- كما في آية الصلاة من سورة الأحزاب، وصلاتهم على المؤمنين كما في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ}، ويفسر هذه الآية قوله تعالى: {وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ}، وهذا منهم دعاء عام. وقوله تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا}. وهذا دعاء خاص. وكما في حديث: «من صلى علي صلاة صلت عليه الملائكة عشرا»، وحديث «إذا صلى أحدكم ثم جلس في مصلاه لم تزل الملائكة تصلي عليه اللهم اغفر له اللهم ارحمه».

ومنه صلاة المؤمنين على النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- وعلى الأنبياء وعلى الملائكة وعلى عامة المؤمنين بطريق التبع فهي سؤالهم من الله تعالى ودعاؤهم إياه أن يصلي على نبيه ومن ذكر قبل معه فهذه كلها من القسم الأول وهو صلاة المخلوق على المخلوق وكلها لم تخرج عن معنى الدعاء. وأما القسم الثاني وهو صلاة الخالق على المخلوق فمنها صلاته على المؤمنين في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا}. وصلاته على الصابرين في قوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}. وعلى نبيه محمد- صلى الله عليه وآله وسلم- في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}. قد تنوعت عبارات العلماء سلفاً وخلفاً في تفسير صلاته تعالى على من ذكر من خلقه ففسرت بالرحمة- والجمع في قوله {صَلَوَاتٌ} باعتبار أنواع آثارها ومواقعها، وقوله بعدها {وَرَحْمَةٌ} نوع منها خاص- وفسرت بالمغفرة، وفسرت بثنائه عند ملائكته على المصلي عليه- من باب ذكرته في ملاء خير منه- وفسرت بإعطائه وإحسانه، وفسرت بتعظيمه، ولا خلاف في الحقيقة بين هذه التفاسير فإن مغفرته من رحمته وأن ثناءه من رحمته وأن إعطاءه وإحسانه من رحمته وأن تعظيمه من رحمته، فرجعت كلها إلى تفسيرها بالرحمة. لو قلنا بعد هذا أن الصلاة لها معنيان الدعاء والرحمة لكانت من باب المشترك، والاشتراك خلاف الأصل، فلذا نقول- كما قال جماعة من المحققين- إن الصلاة معناها واحدة وهو الدعاء فأما من المخلوق فبدعائه الخالق وهو ظاهر، وأما من الخالق

فبدعائه ذاته لإيصال الخير والنعمة للمصلي عليه على تفاوت المراتب، ومن لازم هذا رحمته له بالمغفرة والثناء والتعظيم وأنواع العطاء والإحسان. فالذين فسروا الصلاة من الله بالرحمة فسروها باللازم والذين فسروا بغير الرحمة، فسروا بمقتضيات ذلك اللازم فلها إذن معنى واحد وهو الدعاء ولكنه يحمل في كل واحد من الجانبين على ما يليق به (1).

_ (1) ش: ج 5، م 5 - غرة محرم 1348ه - جوان 1929م.

الصلاة على النبي -صلى الله عليه وآله وسلم -2 -

الصلاة على النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- - 2 - تاريخ مشروعيتها - آية مشروعيتها - شيء من تفسير الآية. ــــــــــــــــــــــــــــــ الصلاة على النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- من أذكار الصلاة ولكنها لم تشرع يوم شرعت الصلاة بمكة بل كانت مشروعيتها بعد بضع سنوات من الهجرة، وذلك يوم نزلت آية الأمر بها من سورة الأحزاب وهي سورة مدنية، ففي الترمذي وغيره- عن كعب بن عجرة-: لما نزلت {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ} الآية قلنا يا رسول الله قد علمنا السلام فكيف الصلاة، فعلمهم حينئذ كيفيتها كما يأتي بيانه. قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} - هو آية الأمر بالصلاة على أبلغ أسلوب في التأكيد وأكمل وجه في الترغيب فمن التأكد للأمر التوطئة له بجملتين: الجملة الإسمية المصدرة بحرف التأكيد، والجملة الفعلية الندائية، ومن أعظم الترغيب في امتثال هذا الأمر جعل امتثاله اقتداء بالله وملائكته.

وفي عطف الملائكة عليه تعالى تنبيه على ثمرة الامتثال والاقتداء وهي نيل أشرف المنازل العليا - فإن الملائكة - عليهم السلام بإمتثالهم أمر ربهم واقتدائهم به- جل اسمه في الصلاة على أكرم خلقه -صلى الله عليه وآله وسلم- نالوا شرف اقتران اسمهم باسمه، وفي هذا ووراءه من الشرف والسعادة ما فيه. وقوله- تعالى-: {يُصَلُّونَ} على معناه اللغوي والأصلي وهو الدعاء. غير أن الملائكة يدعون ربهم له - صلى الله عليه وآله وسلم- والله تعالى يدعو نفسه، والمراد- وتذكر ما قدمنا- لازم ذلك وهو إنعامه الخاص الذي يرضاه لأكرم خلقه، وتقصر عقولنا عن الإحاطة به، وقد عبر الناس عنه بعبارات نقلنا بعضها في القسم الأول. وفي صيغة الفعل المضارع دليل على تجدد هذه الصلاة، فالملائكة- عليهم السلام- لا يفتؤون يصلون ويدعون، والله - تعالى- لا تنقطع إنعاماته على هذا النبي الكريم وهو- صلى الله عليه وآله وسلم- بتلك الإنعامات الربانية لا يزال أبدا مترقيا في درجات الكمال، ويؤيد هذا عموم قوله تعالى: {وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى}. وفي هذا ترغيب للمؤمنين في مداومة الصلاة عليه حسب الجهد والطاقة في الصلاة وغيرها. وقيل هنا {عَلَى النَّبِيِّ} ولم يقل على الرسول وهو- صلى الله عليه وآله وسلم- نبي ورسول، ذلك لأن الرسول هو المبعوث لأداء الرسالة من الخالق إلى الخلق، فالجانب الأول الأساسي لمعناه يرجع إلى معنى التلقي والأخذ عن الذي أرسله، والنبي هو المخبر المبلغ للرسالة إلى الخلق من الخالق، والجانب الأول الأساسي لمعناه يرجع إلى معنى إعلام الخلق وإرشادهم وهدايتهم بما جاء به من عند خالقهم. فاختير اسم النبي هنا على اسم الرسول لوجهين:

الأول: - التنبيه على أنه قام بأعباء الرسالة وبلغ الأمانة ونصح الخلق ونفعهم فجازاه الله على هذا العمل العظيم بهذا الجزاء العظيم، وكما كان هو- صلى الله عليه وآله وسلم- معلنا بتوحيد الله وتسبيحه وتقديسه وحمده أمام العالم بأسره، كذلك أعلن الله فضله ومكانته بصلاته عليه أمام جميع خلقه، وفي هذا تنييه للمؤمنن على عظم الجزاء عند عظم العمل، وعلى إعلائه- تعالى- شأن العاملين على إعلاء كلمته على قدر جهادهم في سبيله وإخلاصهم في ابتغاء مرضاته. الثاني: - أنه بذلك التبليغ قد جلب للمؤمنين أعظم النفع وأكمل الخير وهو سعادة الإيمان في العاجل والآجل. فمن بعض حقه عليهم أن يقوموا- لتعظيمه وتكريمه- بالصلاة عليه. فتكون صلاتم عليه- وهي سبب أجر عظيم ونفع كبير لهم- كالجزاء لعظيم إحسانه، والاعتراف بجزيل جميله. فاسم {النَّبِيِّ} بهذين الوجهين، أنسب بالمقام، وأدخل في التأكيد والترغيب ولهذا اختير. وقوله- تعالى-: {وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} أمر ثان معطوف على الأمر الأول، فيفيد النَّسق طلب الجمع بين مدلوليهما في الامتثال، ولذاكره العلماءُ إفراد الصلاة عن السلام. وسلم: يأتي بمعنى الانقياد ويتعدى باللام ومنه قوله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}. ويأتي بمعنى قال له السلام عليكم، ويتعدى بعلى ومنه قوله- تعالى-: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً}، ومنه هنا {وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} أي حيوه بتحية الإسلام. وقد ثبت عن الصحابة- رضي الله عنهم- أنهم لما

سألوه عن كيفية الصلاة قالوا له: السلام قد علمنا فبين لهم كيفيتها، وقال لهم والسلام كما قد علمتم، وقد كان علمهم كيفية السلام في التشهد وهي: ((السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته)) كما في حديث ابن مسعود الثابت في الصحيح. وبعد هذا لا يبقى وجه لتجويز حمل التسليم هنا على معنى الانقياد كما زعمه الجصاص وغيره، ويالله من الجري وراء الاحتمالات، والغفلة عن التفسير النبوي الصحيح الثابت المأثور. وقوله تعالى: {تَسْلِيمًا}، مصدر مؤكد والتأكيد بالصدر يكون لرفع احتمال المجاز كما في "قتلته قتلا" دفعا لتوهم المجاز عن الضرب الشديد، ويكون لتثبيت معنى الفعل من جهة الحدث ببيان أنه فرد كامل من نوعه لا نقص فيه كما في "أكرمت زيدا إكراماً" بمعنى أن الذي كان منك له هو إكرام لا شبهة فيه، والتأكيد هنا من هذا النوع، فإن المسلِّم على النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- لا يكمل سلامه إلا إذا طابق قلبه ولسانه وجرى على مقتضاهما عمله، فلم تكن منه للنبي- صلى الله عليه وآله وسلم- إلا السلامة في دينه وكتابه وأمته، وهذا هو الذي يقال فيه أنه سلم تسليما. ونظير هذا ما في الآية الأخرى: {وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} فيكون منهم الإنقياد التام لحكمه في الظاهر والباطن بلا أدنى شبهة في العقل ولا أدنى حزازة في القلب ولا أدنى توقف في العمل. فقد أمرنا بالآيتين بالتسليم الكامل بمعنييه، ليكون هو الغاية التي نرمي إليها، ونسعى في تحصيلها، وحتى إذا أخطانا مرة أصبنا مرات، وإذا انحرفنا رجعنا إلى الجادة من قريب، ومن داوم على القصد أعين على الوصول: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}.

ومن لازم التوبة أتحف بالقبول، {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ}، وفي قول المربي الأكبر -عليه- وآله الصلاة والسلام: «استقيموا ولن تحصوا»، وقوله «سددوا وقاربوا»، جماع السلوك الإسلامي كله إلى غايات الكمال، والله المستعان (1).

_ (1) ج 6، م 5 - غرة صفر 1348ه - جوليت 1929م.

الصلاة على النبي -صلى الله عليه وآله وسلم -3 -

الصلاة على النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- - 3 - توقف الصحابة (رضي الله عنهم) -وجوه توقفهم -سؤالهم -أولا من سأل منهم -مما يستفاد من هديهم في هذا المقام -لزوم الاقتداء بهم -حديث بيان الكيفية -رواته -ألفاظه -الجمع بينها -الإقتصار على الصحيح من الروايات -كلام الحافظ ابن العربي. ــــــــــــــــــــــــــــــ لما سمع الصحابة -رضي الله عنهم- الأمر بالصلاة على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم- من الآية المتقدمة فهموا أنهم أمروا بالدعاء له لأن الدعاء هو معنى الصلاة لغة كما قدمنا. وإنما الذي أشكل عليهم هو كيفية هذا الدعاء، ووجه هذا الإشكال أمور: الأول: علمهم بكمال النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- ورفعة مقامه عند ربه وجزيل إنعامه لديه، فلم يدروا ما هو النوع الأكمل من الإنعام اللائق بمنصبه الرفيع ليدعوا له به. الثاني: إن ألفاظ الدعاء كثيرة، وصفاتها مختلفة فما هو أنسبها بمقامه الشريف؟

الثالث: إن الصلاة عليه- صلى الله عليه وآله وسلم- أمر تعبدي، والعبادات لا سبيل إليها إلا التوقيف، وأكد لهم هذا أن الصلاة قد قرنت بالسلام وقد تقدم لهم التوقيف في السلام فترقعوا مثله في الصلاة. فلما أشكل عليهم الأمر طلبوا منه- صلى الله عليه وآله وسلم- البيان. ففي الترمذي عن كعب بن عجرة لما نزلت: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ} الآية، قلنا يارسول الله قد علمنا السلام فكيف الصلاة، وقوله: "لما" يفيد أن سؤالهم كان عند النزول، وقوله "قلنا" يفيد أن السؤال كان من جميعهم ولو كان السائل المتكلم واحد فإنه يتكلم بلسان الجميع لأنهم له موافقون، ومثل هذا قول أبي حميد "إنهم قالوا يا رسول الله كيف نصلي عليك" وقول أبي سعيد "قلنا يا رسول الله هذا السلام عليك فكيف نصلي" وأول من سأله فيما أرى، بشير بن سعد الأنصاري لأنه لما سأله -صلى الله عليه وآله وسلم- كيف نصلي عليك" سكت ثم أجابه بالبيان. والظاهر أن سكوته كان لانتظار الوحي إليه. فلما أوحى إليه بالبيان بين. وجاء البيان متأخرا عن نزول الآية واقعا بعد سؤالهم لأنه من البيان التفسيري وجائز تأخره على الصحيح وهذا من أمثلته. وهنا نكت من هدى الصحابة -رضوان الله عليهم- في هذا المقام ينبغي التنبه لها والتدبر فيها. فمنها شدة تعظيمهم للنبي- صلى الله عليه وآله وسلم- وتمام تحريهم في إجلال ذكره واحترام كل ما يتصل بجنابه. ومنها حرصهم على الإتيان بعين ما يختاره الله لهم ويرضاه منهم عن اللفط الأكمل الأفضل الذي يتقربون به إليه في تعظيم حبيبه ومصطفاه- صلى الله عليه وآله وسلم-. ومنها شدة تحريهم لدينهم بتوقفهم فيما كان عندهم محتملا، ولم يقطعوا فيه بشيء. ومنها شدة عنايتهم بالعلم

فبادروا إلى طلب البيان. ومنها وقوفهم في باب العبادة عند حد التوقيف، لأنه لا مجال فيها للرأي ولا مدخل فيها للقياس. كل هذا من هديهم -رضوان الله عليهم- حق على المسلمين أن يتدبروه ويتبعوهم فيه وينظروا في أمورهم ما هو منها موافق لهديهم أو قريب منه وما هو مباين له بعيد عنه، فلا وربك لا يكون الخير إلا في موافقتهم ولا غيره إلا في مخالفتهم. وكل امرئ -بعد هذا- بنفسه بصير. عدنا إلى حديث بيان كيفية الصلاة. ونقتصر من متونه على الصحيح الثابت المتفق عليه مما في الوطأ والصحيحين. وقد جاء فيها عن أربعة من الصحابة -رضوان الله عليهم-. الأول: أبو حميد الساعدي عند الثلاثة، والشيخان خرجاه عنه من طريق مالك. قال- رضي الله عنه- "إنهم قالوا يا رسول الله كيف نصلي عليك فقال قولوا: اللهم صل على محمد وأزواجه وذريته كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وأزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد" وفي رواية مسلم "وعلى أزواجه" بزيادة "على" في الموضعين. الثاني: أبو مسعود الأنصاري في الموطأ وصحيح مسلم، ومن طريق مالك رواه مسلم قال - رضي الله عنه -: "أتانا رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- في مجلس سعد بن عبادة فقال له بشير بن سعد "ابن ثعلبة" أمرنا الله أن نصلي عليك يا رسول الله فكيف نصلي عليك؟ قال فسكت رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- حتى تمنينا أنه لم يسأله (لأنهم كانوا يكرهون كل ما يرونه أنه يكرهه أو يشق عليه) ثم قال: قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، والسلام

كما قد علمتم". وفي بعض روايات الموطأ "كما صليت على إبراهيم" و"كما باركت على إبراهيم" بدون لفظة "آل" في الموضعين وفي بعضها بدونها في الأول. الثالث: كعب بن عجرة في الصحيحين قال- رضي الله عنه- "سألنا رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- فقلنا: يا رسول الله كيف الصلاة عليكم أهل البيت فإن الله قد علمنا كيف نسلم، قال قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد"، هكذا أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء من كتاب بدئ الخلق. وخرجه في سورة الأحزاب من كتاب التفسير وفي كتاب الدعوات هكذا: "كما صليت على آل إبراهيم" و "كما باركت على آل إبراهيم" بدون "على إبراهيم" في الموضعين وعلى هذا الوجه خرجه مسلم. الرابع: - أبو سعيد الخدري عند البخاري في أحاديث الأنبياء والتفسير قال- رضي الله عنه-: "قلنا يا رسول الله هذا السلام عليك فكيف نصلي قال قولوا اللهم صل على محمد عبدك ورسولك كما صليت على إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم" وفي رواية أخرى للبخاري "كما صليت على آل إبراهيم" بزيادة لفظة "آل" وليس في آخرها وعلى آل إبراهيم. وهذه المتون الصحيحة كلها قد اتفقت، واختلفت، اتفقت في عمود الكلام وصلب المعنى ومعظم الكلمات، واختلفت في كلمات قليلة. فمنها لفظة "على" كما في حديث أبو حميد وهي كلمة ذكرها كحذفها من جهة المعنى لأن حرف العطف مغن عنها، فقد تكون في الأصل وأسقطها الراوي نسيانا أو اختصارا وقد

لا تكون وزادها من زادها نسيانا أو بيانا، ومنها لفظة "الآل" في حديث أبي مسعود فهي ثابتة في رواية من أثبتها وتحتمل السقوط على وجه النسيان في رواية من أسقطها، ويحتمل أنه كذلك سمع بدونها، وأن النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- مرة ذكرها ومرة حذفها. ومنها زيادة عبدك ورسولك في حديث أبي سعيد وزيادة في العالمين في حديث ابن مسعود وذكر الأزواج والذرية بدون الآل في حديث أبي حميد، والظاهر في هذه أن النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- تنوع بيانه في المقامات فاختلفت الروايات وهي مختلفة غير متناقضة فتفيد المعاني المتغايرة غير المتضاربة وهي بهذا نظير اختلاف القراءات في صحيح الروايات. هذا الذي ذكرناه من الروايات هو الصحيح المتفق على صحته وثبوته، ووراءها روايات ليست في درجتها رأينا الاكتفاء بالصحيح عنها. وقد قال الإمام الحافظ ابن العربي في تفسير سورة الأحزاب من أحكامه بعد ما ذكر ثماني روايات-: (من هذه الروايات صحيح ومنها سقيم، وأصحها ما روى مالك "حديث أبي حميد وحديث أبي مسعود فاعتمدوه". ورواية من روى غير مالك من زيادة الرحمة مع الصلاة وغيرها "غير الرحمة" لا يقوى. وإنما على الناس أن ينظروا في أديانهم نظرهم في أموالهم وهم لا يأخذون في البيع دينارا معينا وإنما يختارون السالم الطيب، كذلك في الدين لا يؤخذ من الروايات عن النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- إلا ما صح سنده لئلا يدخل في خبر الكذب على النبي- صلى الله عليه وآله وسلم-. فبينما هو يطلب الفضل إذا به قد أصاب النقص، بل ربما أصاب الخسران المبين) (1).

_ (1) ج 7، م 5 - غرة ربيع الأول 1348ه - أوت 1929م.

الصلاة على النبي -صلى الله عليه وآله وسلم -4 -

الصلاة على النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- -4 - صيغ الصلاة الثانية - تفسير الصيغ: لفظ البركة - الأزواج - الذرية - الآل - معناه - اشتقاقه - موارد استعماله - توجيه الخلاف في تفسيره - الراجح منها - آل إبراهيم، تفسيره - دخول إبراهيم فيه - توجيه في ذلك. ــــــــــــــــــــــــــــــ قد حصل لنا مما تقدم في روايات حديث بيان الصلاة أربع صيغ لها: الأولى: "اللهم صل على محمد وأزواجه وذريته كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وأزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد".

الثانية: "اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم في العالمين. إنك حميد مجيد". الثالثة: "اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد". الرابعة: "اللهم صل على محمد عبدك ورسولك كما صليت على إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم". فأما الصلاة المطلوبة من الله تعالى في جميع هذه الصيغ فهي مغفرته وثناؤه وتعظيمه وإحسانه وإعطاؤه وكلها ترجع إلى رحته- كما تقدم. وأما البركة المطلوبة في جميعها أيضا فهي- لغة- النماء والزيادة. والمقصود هنا زيادة الخير والكرامة وتكثير الأجر والمثوبة. وفسرت بدوام ذلك وثباته لأن أصل مادة - ب ر ك - يدل على الثبوت ومنها بروك الإبل وثبوتها على الأرض وقد يعتبر في الشيء الثابت قوته وزكاوة أصله فيستلزم ذلك كثرته ونماؤه وعلى هذا الاعتبار جاء لفظ البرك (كحبل) اسما للإبل الكثيرة، في قول متمم بن نويرة:

إِذَا شَارِفٌ مِنْهُنَّ قَامَتْ وَرَجَّعَتْ … حَنِيناً فَأَبْكَى شَجْوُهَا الْبَرْكَ أَجْمَعَا فتفسيرها بالنماء والزيادة مأخوذة فيه ثباتها ورسوخها فلا يكون خارجا عن المعنى الأصلي للمادة. وأما أزواجه في الصيغة الأولى فهن أمهات المؤمنين الطيبات، الطاهرات، عليهن الرضوان، وأما ذريته فيها أيضا فهم من كان للنبي- صلى الله عليه وآله وسلم- ولادة عليه من ولده وولد ولده ممن آمن به. وأما الآل في جميعها فهو- لغة- أهل الرجل وعياله، وهو أيضا الاتباع، ومن الأول قوله - صلى الله عليه وآله وسلم- "إن الصدقة لا تحل لآل محمد، إنما هي أوساخ الناس"، ولا خلاف أن المراد بالآل هنا ذوو قرابته من بني هاشم والمطلب أو من بني هاشم فقط أو من بني قصي أو قريش كلها على اختلاف بين الفقهاء في تحديد القرابة المرادة. ومن الثاني قوله تعالى: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ}، والمراد هنا اتباعه في ملته وملكه وسلطانه. ومنه قول الأعشي: فَكَذَّبُوهَا بِمَا قَالَتْ فَصَبَّحَهُمْ … ذُو آلِ حَسَّانَ يُزْجِي السَّمَّ والسَّلَعَا قال في "اللسان" يعنى جيش تبع. وفسر هنا بجميع أمته ممن آمن به، وإليه ذهب مالك. قال النووي: وهو اختيار الأزهري وغيره من المحققين. وفسر بقرابته، وفسر بأهل بيته -صلى الله عليه وآله وسلم- أزواجه وذريته، وتحقيق هذه المسألة أن لفظة "آل" أصله

أول من مادة - ا- و-ل- وقد ثبت تصغيره على أويل فرد التصغير ألفه إلى الواو أصلها فعرفت بذلك مادته المذكورة. وزعم بعضهم أن أصله أهل وادعوا أنه صغر على أهيل ولا حجة لهم في ذلك لأننا نسلم مجيء أهيل عن العرب وتمنع أن يكون تصغيرا لآل بل هو تصغير لأهل. وكونه تصغيرا لأهل ظاهر ملفوظ وكونه تصغيرا لآل دعوى لا دليل عليها، وما كان في نفسه دعوى بلا دليل لا يصلح أن يكون دليلا لدعوى أخرى فلم يقم حينئذ دليل على أن آل أصله أهل يعارض الدليل الذي قام على أن أصله أول. وإذا ثبت أن آل من مادة- ا- و-ل-، وهي بمعنى الرجوع، تقول آل إلى خير بمعنى رجع إلى خير- فآل الشيء هو ما يرجع إلى ذلك الشيء وينتهي إليه بوجه من الوجوه. وعلى هذا جاء استعماله في كلام العرب. قال الفرزدق: نَجَوْتَ وَلَمْ يَمْنُنْ عَلَيْكَ طَلَاقَةً … سِوَى رَبَّةُ التَّقْرِيبِ مِنْ آلِ أَعْوَجَا عني فرسا من نسل اعوج وهو فحل مشهور في خيل العرب تنسب إليه الأعوجيات فناله نسله لأنه يرجع إليه بالنسب. وقال عبد المطلب بن هاشم - في قصة أبرهة الحبشي لما جاء لهدم البيت داعيا ومستنصرا الله على أبرهة وجنده: لا هم ان العبد يمـ … ـنع رحله فامنع رحالك لا يغلبن صليبهم … ومحالهم غذوا محالك وانصر على آل الصليب … وعابديه اليوم آلك

فآل الصليب هم الحبشة النصارى عباد الصليب فرجعوا إليه بوجه العبادة والتعظيم. وآل الله هم قريش سدنة بيته وقطان حرمه، وأواة حجيجه فرجعوا إلى الله تعالى بهذه الأسباب. فاتباعه- صلى الله عليه وآله وسلم- وأقاربه وأزواجه وذريته- كل يصدق عليه آل لأنهم كلهم يرجعون إليه. وإنما الخلاف في ترجيح المعنى الذي ينبغي حمل اللفط عليه. في أحاديث الصلاة، فمن فسره بالأزواج والذرية قال لأنهم هم المصرح بهم في الرواية الأولى فحمل إحدى الروايتين على الأخرى. ومن فسره بالأقارب حمل حديث الصلاة على حديث تحريم الصدقة. والآل هنالك بمعنى الأقارب فلا خلاف. فرجع بالمخنلف فيه إلى المتفق عليه. ومن فسره بالاتباع رأى أن أتباعه بالإيمان به أمر لا بد منه في الدخول تحت لفط الآل هنا، فإن من كان من أقاربه غير متبع له -كأبي لهب- غير داخل في لفط الآل هنا قطعا. فحمل اللفظ على الاتباع لأنه المعنى المشتمل على الوصف الذي لا بد منه في هذا المقام. وروى أيضا أن هذا المعنى أعم فهو الأنسب بمقام الدعاء وكما أن مساق حديث الصدقة عين معنى الأقارب هنالك كذلك مقام الدعاء يرجح معاني الاتباع هنا. ولا معارضة بين الروايات التي فيها لفط الآل مراد به الاتباع، والرواية التي فيها الأزواج والذرية، لأن تلك جاءت بالمعنى العام وهذه خصصت بالذكر نوعا من ذلك العام لمزية فيه.

فأزواجه وذريته -رضوان الله تعالى عليهم- مصلى عليهم في اللفظ العام على وجه العموم، وباللفظ الخاص على وجه الخصوص لما لهم من مزيد الاختصاص. ولهذه الأدلة نرى هذا التفسير ارجحها. وأما آل إبراهيم فقد قال قوم هم ذريته، وقال ابن عباس- رضي الله عنه- هم اتباعه على ملته. ونزع بقوله تعالى: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ} واقتصر على قوله ابن جرير الطبري في تفسير الآية من تفسيره الكبير. فابن عباس في تفسيره الآل بالاتباع هو سلف مالك في تفسيره له بذلك. وابن جرير في ترجيحه لقوله هو سلفنا في الترجيح. قال الإمام ابن عبد البر: "آل إبراهيم يدخل فيه إبراهيم وآل محمد يدخل فيه محمد". ومن هنا جاءت الآثارة مرة بإبراهيم ومرة بآل إبراهيم وربما جاء ذلك في حديث واحد. ومعلوم أن قوله تعالى: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} أن فرعون داخل فيهم. وهذا من طريق مفهوم الإضافة الأحروي لأن المضاف إذا تعلق به حكم بعلة الإضافة فالمضاف إليه أحرى بذلك الحكم وأولى كما تقول: - ما ثبت للتابع بعلة التابعية فالمتبوع أحرى به وأولى، فإذا كان آل إبراهيم مصطفين ومصلى عليهم لأنهم آله أي اتباعه- فهو مصطفى ومصلى عليه بطريق الأحرى للوجه الذي ذكرنا (1).

_ (1) ج 8، م 5 - غرة ربيع الثانى 1348ه - سبتمبر 1929م.

الصلاة على النبي -صلى الله عليه وآله وسلم -5 -

الصلاة على النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- - 5 - معنى العبد في اللغة - استعماله فيها - ما أقره الإسلام وما أبطله - معنيا الملك - عموم العبودية - وجها إضافة العبد لله - معنى العبادة - لمن تكون؟ مقام العبودية - أكمل العباد - أصدق وصف المخلوق - تواضعه - معنى الرسول - توجيه الترتيب - حديث الإطراء ومعناه. ــــــــــــــــــــــــــــــ أما قوله "عبدك" في حديث أبي سعيد عند البخاري فالعبد قال الأئمة (خلاف الحر) والحر من لا ملك لأحد عليه. فالعبد هو المملوك والعبودية هي طاعته مع الخضوع والتذلل (1)، والملوكية التي هي أصل المعنى مستلزمة لها. وجاء في كلامهم مضافا إضافة ملك للبشر فقالوا عبد زيد أي مملوكه، وإلى الخالق تعالى مالك الجميع فقالوا عبد الله، وإلى معبوداتهم الباطلة فقالوا عبد العزى وعبد اللات بناء على شركهم وزعمهم أن

_ (1) قال بعضهم أن العبد مأخوذ من الطريق المعبد أي المدلل يوطيء الأقدام وهذا ليجعلوا الذل من مفهوم العبد. وأنا أرى أن الذل لازم لمفهوم العبد وهو المملوك، وأنه هو أصل المادة، وأن المعبد - اسم مفعول مشتق - هو المأخوذ منه فمعبد معناه مذلل كما يذلل العبد.

طواغيتهم تملك مع الله وإن كان هو مالك الجميع. كما كانوا يقولون في تلبيتهم (لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك). جاء الإسلام فأقر إضافتين وأبطل واحدة، وذلك أن الملك إما ملك حقيقي ثابت بالخلق والحفظ والإنعام وهذا ليس إلا لله، فكل أحد فهو عبد الله. وأما ملك مجازى متنقل بسبب معاوضة أو عطية أو إرث وهذا هو ملك العباد وعلى هذا المعنى يقال عبد زيد أي مملوكه. وأما الطواغيت فلا ملك لها بالوجهين فلا تجوز إضافة العبد إليها. وقد جاء في إضافة الملك المجازي قوله- صلى الله عليه وآله وسلم- فيما رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه "لا يقولن أحدكم عبدي فكلكم عبيد الله ولكن ليقل فتاي، ولا يقل العبد ربي ولكن ليقل سيدي". والنهي عن هذا لما فيه من التطاول والتعاظم والارتفاع، ولا بأس به إذا كان في النادر للبيان والتعريف. العبودية لله وصف عام ثابت في كل مخلوق، فكل مخلوق هو عبد لله مملوك له، في دائرة خلقه وقبضة أمره، خاضع ذليل منقاد لتصرفات قدره. والعبد يضاف لله تعالى بهذا المعنى إضافة عامة لا فرق فيها بين بر وفاجر، وقد قال تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا}. ويضاف إليه إضافة خاصة إذا كان العبد قد عرف عبوديته لربه علما، وقام بواجبها عملا، فأطاع مولاه طاعة المملوك لمالكه عن علم واختيار، بذل وخضوع وانكسار، بلا امتناع ولا اعتراض ولا استكبار، وقد جاء على هذا قوله تعالى: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى}، {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ

لَيْلًا}، {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ}، {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ}، {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ}، {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ}، ومنه قوله {عَبْدُكَ} هنا. والعبد المضاف إلى الله تعالى بهذا الوجه هو المملوك المطيع، وطاعته بذل وخضوع هي عبادته. ولما كان ليس مملوكا إلا لله فلا تكون طاعته إلا لله فلا يجوز لأحد أن يطيع أحداً إلا في طاعة الله فتكون طاعته في الحقيقة لله. فطاعتنا للنبي- صلى الله عليه وآله وسلم- هي- بالقطع- طاعة لله، وطاعتنا لغيره لا تجوز إلا إذا عرفنا أنها في مرضاة الله، وقد قال- صلى الله عليه وآله وسلم-: «لا طاعة لأحد في معصية الله، إنما الطاعة في المعروف» رواه الشيخان وأبو داوود والنسائي عن علي رضي الله عنه وقال -صلى الله عليه وآله وسلم-: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» رواه أحمد في مسنده والحاكم في مستدركه عن عمران والحكم بن عمر والغفاري -رضي الله عنه-. ولما كانت الطاعة -التي هي العبادة- بها يحصل الكمال الإنساني للفرد في عقله وأخلاقه وأعماله، وللنوع في اجتماعه وعمرانه، وهذا الكمال هو سعادة الدنيا المفضية إلى السعادة الكبرى في الحياة الأخرى - كانت العبودية أشرف حال وأعظم مقام وأفضل وصف للإنسان وكان أفضل إنسان أرسخ الناس قدما في هذا المقام. ولما كان النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- كذلك كان أفضل الخلق، وكان -كما قال- صلى الله عليه وآله وسلم-: «سيد ولد آدم ولا فخر» - ولهذا ذكر بوصف العبودية في مقام التقريب والتكريم في قوله تعالى: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} وفي مقام الترفيع والتعظيم في آية الإسراء، وجاء على مقتضى ذلك وصفه به في ذكر الصلاة ومقام الثناء والدعاء. ولفط العبد كما أنه أكمل وصف للإنسان على ما بينا - هو أصدق وصف له - وأشده بعدا عن الكبرياء والعظمة والترفع.

ولذا لما خير النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- بين أن يكون نبياً ملكاً وأن يكون نبياً عبداً اختار أن يكون نبيا عبدا، فإن الملك لا بد له من مظاهر السيادة والسلطان، وإن كان بعدل وحق كملك داوود وسليمان- عليهما الصلاة والسلام- فاختار -صلى الله عليه وآله وسلم- أن يكون نبيا بدون هذا المظهر وكان الذي اختار أفضل. وكان- صلى الله عليه وآله وسلم- في جميع حياته على أكمل حال في التواضع الذي هو من مظاهر كمال عبوديته لربه وكان يقول - صلى الله عليه وآله وسلم-: «إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد وأجلس كما يجلس العبد». وأما قوله "ورسولك" في الحديث المذكور فإن الرسول هو من بعثه الله تعالى- فضلا منه- ليبلغ شريعة. وقيامه بأعباء الرسالة هو من طاعته وعبوديته لربه. فقدم لفط العبد على لفط الرسول تقديم العام على الخاص وتقديم (1) الشرط على المشروط، فإن الرسالة لا يفضل بها الله تعالى إلا أكمل عباده، و {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}، وتقديم الترتيب لأنه كان عبدا قبل أن كان رسولا ولأن العبودية للخالق، والرسالة فيها انصراف - بأمر الله - للخلق. والعبودية والرسالة هما الوصفان اللذان أمرنا النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- أن لا نتجاوز حدهما في الثناء عليه، فقد قال- صلى الله عليه وآله وسلم-: «لا تطرونى كما أطرت النصارى عيسى، إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله»، فنهانا عن إطرائه في المدح وهو المبالغة والغلو

_ (1) لا تنس أن الشرط لا يلزم من وجوده الوجود فلا يلزم من وجود كمال العبادة - فرضا - وجود الرسالة. لأن النبوة لا تكتسب.

بوصفه بما لا يجوز كما غلت النصارى في عيسى- عليه الصلاة والسلام- فادعت فيه الألوهية ونسبت إليه ما لا يكون إلا لله. وبيّن لنا طريقة مدحه- صلى الله عليه وآله وسلم- بذكر كل ما لا يخرج به عن كونه عبداً من كل كمال، وبذكر كل ما يليق برسالته من عظيم الخصال، عليه وآله الصلاة والسلام (2).

_ (2) ش: ج 9، م 5 - غرة جمادى الأولى 1348ه - أكتوبر 1929م.

الصلاة على النبي -صلى الله عليه وآله وسلم -6 -

الصلاة على النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- -6 - مبلغ صلاة الله على محمد - صلى الله عليه وآله وسلم- وجهان في معنى التشبيه - نكتة التشبيه - سؤال على الوجه الثاني وجوابه - نكتة أخرى في التشبيه - معنى في العالمين - معنى حميد مجيد - نكتة الختم بهذه الجملة. ــــــــــــــــــــــــــــــ وقوله: (كما صليت على آل إبراهيم) و (كما باركت على آل إبراهيم) في حديث أبي حميد وابن مسعود. و (كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم) و (كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم) في حديث كعب بن عجرة - يفيد أن المصلي يسأل من الله تعالى صلاة وبركة لمحمد وآله في المستقبل مثل ما كان منه تعالى من صلاة وبركة على إبراهيم وآله في الماضي. هذا يسأله المصلي في كل مرة من صلاته ويستجاب سؤاله كلما سأل. فكم تكون صلوات الله تعالى وبركاته على محمد وآله في المستقبل، وهي أثر كل صلاة مصل تكون مثل ما حصل في الماضي منه تعالى لإبراهيم وآله. أن مقاديرها - على هذا - تبلغ إلى ما تعجز عن حصره العقول وهي لا تزال متزايدة بقدر صلاة المصلين تزايداً فوق متصور البشر.

والكاف في قوله (كما) تفيد التشبيه والإلحاق وهذا يحتمل وجهين: الوجه الأول: أن يكون ذلك في أصل الصلاة بقطع النظر عن مقدارها فلكل ما يناسب مقامه في الفضل والأفضلية من المقدار، كما تقول لمن تقدمت منه عطية لبعض أقاربه: أعط هذا القريب الأقرب كما أعطيت ذاك القريب. تقصد أصل العطاء دون مقداره ضرورة أن ما يستحقه القريب الأقرب أكثر مما يستحقه القريب. وجاء على هذا الأسلوب قوله تعالى: {وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ}، فالمقصود أن يكون منه إحسان كما كان من الله تعالى إليه. ولا يمكن أن يكون ما يصدر منه من إحسان مماثلاً لما لله عليه منه. وتكون نكتة التشبيه إلحاق المتأخر وهو الصلاة والبركة المسؤولتان لمحمد وآله بالسابق المشتهر وهو الصلاة والبركة المعطاتان لإبراهيم وآله. فالمقصود أن تكون هاته ظاهرة مشتهرة في الخلق كما كانت تلك فيهم. الوجه الثاني: أن يكون التشبيه في مقدار الصلاة والبركة ويكون المطلوب هو المقدار المماثل، كما تقول لمن أعطى زيدا عشرة دراهم: أعط عمرا كما أعطيت زيدا. ونكتة التشبيه في هذا الوجه هي نكتته في الأول. وعلى هذا الوجه يقال كيف يطلب له- صلى الله عليه وآله وسلم- صلاة وبركة مثلما حصل لغيره وهو أفضل من غيره، وبمقتضى كونه أفضل لا يطلب له إلا ما هو أفضل. ويجاب بأن النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- كان شديد التعظيم لأبيه إبراهيم- عليه السلام- والتواضع في جانبه، فكان هذا الطلب على مقتضى ذلك التعظيم وذلك التواضع. وفي ذلك تعليم وتأديب لأمته.

ثم في هذا التشبيه إشادة بذكر إبراهيم- عليه السلام- وإبقاء له على ألسنة هذه الأمة. وفي هذا اعتراف بفضل هذا النبي القانت الحنيف الذي هو على ملته. واحتجاج على أهل الكتاب الذين يعظمونه مثلنا وقد حادوا عن ملته الحنيفية بذهابهم في أودية الشرك واتخاذ بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله. وجزاء له - عليه السلام- في دعوته لنبينا فيما حكاه القرآن بقوله: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}. وقوله "في العالمين" أي في أجناس الخلق- يفيد أن صلاته تعالى وبركاته على إبراهيم وآله كانت ظاهرة مشتهرة -علما وأثرا- في أجناس المخلوقات. وقد سئل في صيغة الصلاة أن تكون صلاته وبركاته على محمد وآله مثل ذلك. ولفط "في العالمين" مذكور في القسم الثاني قسم البركة دون القسم الأول قسم الصلاة، وأرى ذلك من الإيجاز بالحذف من الأوائل لدلالة الأواخر. وقوله "حميد" من الحمد إما بمعنى حامد، حول ليفيد التكثير وهو جل جلاله يحمد فعل الخير من عباده ويثيبهم على القليل بالكثير. ومناسبة اسم "حميد" لختم هذه الصلاة أن هؤلاء من عبادك المتقين الذين تتفضل عليهم بحمدك، فمن حمدك لهم أن تصلي وتبارك عليهم. وإما بمعنى محمود ومناسبته حينئذ أنك ذو الكمال والإنعام اللذين تحمد عليهما، فمن إنعامك وإحسانك صلاتك وبركتك.

وقوله "مجيد" من المجد والشرف بمعنى ماجد يفيد عظمة مجده وشرفه في ذاته وصفاته وأفعاله. ومناسبته للإسم السابق أن حمده لخلقه -وطاعتهم بفضله وتيسيره- من مجده وشرفه، أو أن كماله وإنعامه اللذين يحمد عليهما، هما فوق كل كمال وفوق كل إنعام على ما يليق بمجده وشرفه ومناسبة ختم الصلاة بهذا الإسم أن من مجده وشرفه- جل جلاله- هذه الإنعامات العظيمة والخيرات الجسيمة المتوالية على مخلوقاته ومنها هذه الصلاة والبركة المسؤولتان لأكرم خلقه وجميع آله. وبهذا التقرير يظهر أن جملة "إنك حميد مجيد" هي تذييل للكلام السابق وتأكيد له بما هو عام ومشتمل على معناه -فإن الصلاة والبركة من مقتضى الحمد والمجد- نظير قوله تعالى: {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} (1).

_ (1) ش: ج 10، م 5 - غرة جمادى الثانية 1348ه - نفمبر 1929م.

الصلاة على النبي -صلى الله عليه وآله وسلم -7 -

الصلاة على النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- -7 - القسم العملي: - حكمها - القصد بها - أفضلها - استعمال صيغها - المحافظة على الوارد منها - التحذير: من الغفلة - من اللحن - من تركها عند ذكره - من ذكرها للغضبان - من ذكرها للزغرته - من هجر الوارد - من كتاب التنبيه. ــــــــــــــــــــــــــــــ الصلاة عليه- صلى الله عليه وآله وسلم- واجبة مرة في العمر- وذهب الشافعي إلى وجوبها في التشهد الثاني من الصلاة، وقيل بوجودها عند ذكره، وثبت الترغيب فيها أثر حكاية الأذان ويوم الجمعة وليلتها، وعند الدعاء ثم ما شاء حسب الطاقة. ويقصد المصلي بصلاته امتثال أمر الله ورجاء ثوابه والتقرب إليه بذكر نبيه على وفق أمره وقضاء بعض حقه والمكافأة بقدر جهدنا لبعض إحسانه وإظهار تمام المحبة فيه والاحترام له وصحة العقيدة في دينه. وصيغ الصلاة كثيرة والأمر فيها واسع وأرفعها قدراً وأعظمها نفعاً هي الصيغة التي قالها النبي- صلى الله عليه وآله وسلم-

التحذير

لأصحابه -وقد سألوه- في معرض البيان، وبيانه لهم بيان لجميع الأمة بعدهم، وهو أعلم الناس بما ينفع وأحرص الناس على جلبه لأمته فلا أنفع ولا أرفع مما جاء به من عند ربه، واختاره لأمته، والأكمل أن يحفط الصيغة النبوية بروايتها ويستعملها مرة برواية ومرة بغيرها حتى يكون قد استعملها كلها ولو اقتصر على بعضها لكان كافيا. وعندما يأتي بالصلاة النبوية بإحدى رواياتها يحافظ على لفظها بدون زيادة شيء من عنده عليها ولا أن ينقص شيئا منها، لأن الصيغة الواردة توقيفية متعبد بها، والتوقفي في العبادات يؤتى بنص لفظه بلا زيادة ولا تنقيص ولا تبديل. وأصل هذا حديثُ البراء بن عازب -رضي الله عنه- في الصحيح لما قال: "وبرسولك الذي أرسلت" قال له النبي- صلى الله عليه وآله وسلم-: «لا وبنبيك الذي أرسلت» فلم يقره على تبديل لفظ النبي بلفظ الرسول على تقاربهما لأن الصيغة متعبد بها، والحديث في باب: "إذا بات طاهراً" من كتاب الدعوات من صحيح البخاري. التحذير: مظهر الصلاة على النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- كسائر الأذكار وهو اللسان، وثمرتها في الأعمال، ومنبتها هو القلب، فليحذر المصلي من الغفلة عند جريان الصلاة على لسانه. والصلاة النبوية صيغة تعبدية فليحذر من اللحن فيها. وجاء وعيد فيمن تركها عند ذكر النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- فليحذر من تركها عنده وخصوصاً من اعتياد تركها. وقد اعتاد بعضهم أن يقول لصاحبه عند الغضب "صل على النبي" وهذا وضع لها في غير محلها وتعريض للإسم الشريف

إلى ما لا يليق، من قد يكون عند جنون الغضب من تقصير أو سوء أدب، فليحذر من هذا ومثله. وقد جرت عادة بعض الناس في ليالي زرداتهم أن يرفعوا أصواتم مرة على مرة "الصلاة على النبي" فتجيبهم النساء من وراء الحجاب برفع أصواتهن بالزغرتة حتى يرتج المكان. ومن أبشع المنكر أن تستعمل عبادة من أشرف العبادات في إثارة هذه المعصية النسوانية، فليحذر من ذلك وليغيره بما قدر عليه. وقد هجر الناس الصلاة النبوية التوقيفية واقتصروا على غيرها، وزاد بعضهم فقال أن غيرها أنفع منها، فليحذر من هذا الهجر ومن هذا القول، فمحمد- صلى الله عليه وآله وسلم- أنفع الخلق وأرفعهم. وفعله أرفع الأفعال وأنفعها، وقولها أرفع الأقوال وأنفعها. فليجعل أصل صلاته الصلاة النبوية المروية وليجعل بعدها ما شاء. ومن الكتب المشهورة بين الناس في الصلاة على النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- كتاب "تنبيه الأنام" وفيه موضوعات كثيرة لا أصل لها فبينما قارئه في عبادة الصلاة إذا هو في معصية الكذب فليكن منه على حذر. والله يفتح علينا في العلم ويوفقنا في العمل. له الحمد في الأولى والآخرة رب العالمين (1).

_ (1) ش: ج 11، م 5 - غرة رجب 1348ه - ديسمبر 1929م.

الدعاء منه عادة ومنه عبادة

الدعاء منه عادة ومنه عبادة (الدعاء هو النداء لطلب شيء من المدعو، ولذلك لا يدعي إلا العاقل أو ما نزل منزلته مجازا من الجمادات، أو ما كان له فهم لبعض الأصوات من العجماوات، وإذا كان لشيء معظم ليطلب منه ما وراء الأسباب العادية وفوق الطاقة البشربة فهو عبادة ولا يكون إلا من المخلوق لخالقه وإذا لم يكن كذلك فهو عادة وهو دعاء المخلوقين بعضهم بعضا لغرض من الأغراض). الشهاب ج 12، م 6، شعبان 1349. ــــــــــــــــــــــــــــــ يجب أن نمهد لمناقشته: (الشيخ الدجوي) بيان معنى الاستغاثة وتقسيمها، فالاستغاثة هي طلب الغوث وهو تخليص من شدة أو إعانة على دفع مشقة فهي من أقسام النداء والدعاء، وتكون من المخلوق لخالقه عبادة وتكون من المخلوق لمثله عبادة فيدعو المخلوق ويستغيث به فيما هو مقدوره كقولك يا زيد أسقني ماء، ويا عمرو أدعوك لتنصحني، وإنني في عسر مالي فأغثني وفرج عني بما تقرضني. وعلى هذا جاء قوله تعالى: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} فقد طلب منه أن ينصره عليه بما عنده من

القوة البدنية، {فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} ولم يطلب منه أن (يتصرف) له فيه بتصرف باطن وعليه جاء قوله تعالى: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} أي طلبوا منكم النصرة بالقوة التي في يديكم من العدد والعدة لا أنهم طلبوا منكم أن تنصروهم بطريق الغيب و"التصرف". ويدعو المخلوق خالقه ويستغيثه في تيسير الأسباب العادية وفيما هو وراء تلك الأسباب من الألطاف الخفية وما هو فوق الطاقة البشرية، وعلى هذا جاء قوله تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ} فتوجهوا إليه بالدعاء وطلب التخليص من المكروه بالنصر على الأعداء. وقد كان النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- بين ظهرانيهم فلم يستغيثوه لعلمهم أن الاستغاثة فيما وراء الأسباب لا تكون إلا لله. فعلم من هذا أن الاستغاثة قسمان: إستغاثة بما هو في طوق البشر ودائرة الأسباب وهذه تكون للمخلوق لأنها عادة، واستغاثة فيما هو خارج عن طوق البشر ودائرة الأسباب وهذه لا تكون إلا للخالق لأنها عبادة، وعلى هذين القسمين نزلنا آيات التنريل. أفخفي هذا على فضيلته حتى أخذ يستدل بآية الاستغاثة العادية التي تكون بين المخلوقين على الاستغاثة التعبدية التي لا تكون إلا لله. إن خفاء هذا على مثله لعجيب! ثم هذا التقسيم الذي ذكرنا في الاستغاثة هو بنفسه يجري في الدعاء، وما الاستغاثة إلا نوع منه، فما كان منه لشيء معظم ليطلب منه ما هو وراء الأسباب العادية وفوق الطاقة البشرية فهو عبادة ولا يكون من المخلوق إلا لخالقه، وإذا لم يكن كذلك فهو عادة وهو دعاء المخلوقين بعضهم لبعض لغرض من الأغراض.

لا يجوز دعاء غير الله ولا أحد مع الله

ومن الأول قوله تعالى: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} فنصره الله تعالى بما ليس من صنع البشر، ومن الثاني قوله تعالى: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ}، فدعا موسى قومه وطلب منهم ما هو في مكنتهم). ج 6، م 7 صفر 1350ه. جهل هذا كله من كلامنا أو تجاهله بعض الطلبة فادعى علينا بالباطل وكتب في بعض الصحف يقول: (والملخص مما يدور عليه كلامكم هو كون الدعاء عبادة بإطلاق) ثم أخذ بناء على دعواه هذه المبنية على جهله أو تجاهله يندد ويشنع ويتعجب، وقد وجد مادة - د ع و - وأمامه واسعة فنقل معظمها فانتفخ بها بطن المقال دون أن تكون به حاجة إليها في المقام. لا يجوز دعاء غير الله ولا أحد مع الله. الدعاء عبادة، وكل عبادة فإنها لا تكون إلا لله: فالدعاء لا يكون إلا لله، هذا قياس من الضرب الأول من الشكل الأول مقدمته الصغرى دليلها من نفسها لأنها من لفظ الحديث الصحيح الذي رواه الترمذي وغيره، ومقدمته الكبرى معلومة من الدين بالضرورة ومن أدلتها: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} فإذا كان سيدي الطالب له إلمام بقواعد المنطق الأولية فهذا يكفيه، وإذا أراد التوسع فليتفهم ما نقلناه سابقا من المجلد السادس والسابع، وليراجع بقية ردنا على الشيخ الدجوي في المجلد السابع وبقية مجالس التذكير في المجلد السادس، وليجد الفهم فيما كتبناه في الدعاء، بالمجلد الثامن. من دعا غير الله فقد عبده. لما كان الدعاء عبادة فمن دعا فقد عبد ومن دعي فقد عبد، ولهذا تواردت نصوص الآيات والأحاديث على النهي عن دعاء

التوسل بالنبي- صلى الله عليه وآله وسلم- غير دعائه

غير الله دون استثناء لشيء من مخلوقاته مثل قوله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً}، {وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا}، {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ}، {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ}، {فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا}. وقال عليه وآله الصلاة والسلام في وصيته لابن عباس- رضي الله عنهما-: «وإذا سألت فاسأل الله» رواه الترمذي وقال حسن صحيح. وهو في الأربعين النووية. فإذا أراد سيدي الطالب أن يزداد بصيرة فليطالع شراحها. فإن قلت أن الداعي للمخلوقات لا يسمى دعاؤه عبادة. قلت أن من فعل ما يسميه الشرع عبادة كان فعله عبادة، لأن العبرة بتسمية الشرع لا بتسميته، ولأن العبرة في التسمية الشرعية بالعمل، لا بتسمية العامل كمن حلف بغير الله فقد أشرك بتسمية النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- ذلك منه شركا في قوله: «من حلف بغير الله فقد أشرك» رواه الترمذي وحسنه والحاكم وصححه. وإن لم يسم الحالف فعله ذلك شركا. وراجع ص 20 - 721 من المجلد السادس من الشهاب تزدد علما. التوسل بالنبي- صلى الله عليه وآله وسلم- غير دعائه: دعاؤه هو الطلب منه قضاء الحوائج وهذا ممنوع بالأدلة المتقدمة، والتوسل به أن تطلب من الله وتسأله به -صلى الله عليه وآله وسلم- مثل أن تقول: اللهم إنني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، مثل ما في حديث الأعمى الذي تكلمنا عليه في الجزء الثالث من المجلد الثامن، وذكرنا دلالته على جواز التوسل به عليه الصلاة والسلام، ومن التوسل به التشفع أو لاستشفاع به وكله بمعنى الطلب من الله به، فالله هو المدعو وهو المطلوب منه. وهذا كله جائز لا كلام لنا فيه،

نصيحة بنصيحة

غير أن سيدي الطالب لم يفرق بين دعائه والتوسل به، فذهب يستدل بالجائز على الممنوع مسويا بينهما، وما ذكره عن البيهقي وفي العتبي- على تسليم صحته وعلى ما في سنده- لا يخرج عن التوسل والاستشفاع به صلى الله عليه وآله وسلم، وهو غير دعائه وطلب الحوائج منه الذي قامت الأدلة على منعه من كل مخلوق لأنه من العبادة التي لا تكون إلا للخالق، وما نقله من كلام الشيخ ابن تيمية هو في بيان أن استجابة دعاء الداعي لا تكون دليلا على أن دعاءه مشروع كما هو صريح كلامه، ويكفي دليلا على مراده هذا هذه العبارة الأخيرة مما نقله من كلامه وهي قوله: (فهذا القدر إذا وقع يكون كرامة لصاحب القبر إما أنه يدل على حسن حال السائل فلا) وكون السؤال وقع من بعض الناس له مخالفين أمره، وقوله إذا سألت فاسأل الله - شيء، وكونه شرعه لنا ودعانا إليه شيء آخر - وقد خفي على سيدي الطالب هذا القدر من الفرق ما بينهما فجعل سؤال بعض الناس دليلا على المشروعية، ولو تأمل الفصل الطويل الذي نَقلَ بعضه من كلام الشيخ ابن تيمية لظهر له الفرق جليا. نصيحة بنصيحة: نصحني سيدي الطالب إذا يسر الله لي زيارة القبر الشريف أن أسأله عليه وآله الصلاة والسلام الشفاعة، وقد يسر الله لي ذلك وله الحمد والمنة منذ عشرين سنة، وقد دعوت الله وحده، وتوسلت له بنبيه، وتوجهت إليه به أن يميتني على ملته ويجعلني من أنصار سنته وأهل شفاعته إلى أشياء أخرى قد استجاب الله تعالى بعضه وأنا أرجو الاستجابة في الباقي. وجزاء نصيحتك أيها الأخ أنني أنصحك بالتأمل الجيد فيما تقرأ وتكتب، والتثبت التام فيما تعزو وتنقل، فإننا لا ندين إلا بما ثبت عن رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- من آية قرآنية أو سنة نبوية

قولية أو فعلية وما كان عليه السابقون مما رواه الأئمة في كتب الإسلام المشهورة، فعليك إذا نقلت أن تبين الكتاب وتعين المحل المنقول منه ليكون لقولك قيمة في مقام البحث والنظر، والله يتولى إرشادك وتسديد خطاك في سنن العلم والدين (1). عبد الحميد بن باديس

_ (1) ش: ج 2، م 9 - غرة شوال 1351ه - فيفري 1933م.

تبليغ الرسالة

تبليغ الرسالة ملخص المحاضرة التي ألقاها الأستاذ عبد الحميد بن باديس بنادي الترقي بالعاصمة في حفلة المولد الشريف. ــــــــــــــــــــــــــــــ مقدمة: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا}. [سورة الأحزاب، الآيات 46 - 47 - 48] ... أيها السادة الحياة ماض ومستقبل وحال، وما أقل حظنا من الحياة لو حظنا منها هو الحال خاصة. ذلك الجزء اليسير من الزمن الذي ما يجيىء حتى يذهب ولا يثبت حتى يزول ولكن حظنا من الحياة عظيم بالماضي المديد والمستقبل البعيد. بالماضي إذا كانت لنا ذكريات نشعر بها، وبالمستقبل إذا كانت لنا آمال نتوق إلى تحقيقها، وإنه لتتسع حياة الشخص الماضية بقدر ما تمتد ذكرياته في سوالف الأزمان وتمتد آماله في غابرها. حتى يكون كأنه -وهو شخص واحد- قد عاش أعمار الأجيال والأمم من السابقين واللاحقين. فالذكريات والآمال- أيها السادة- هي مقياس الأعمار.

المقصد

ذكريات الشخص وآماله في حياته الخاصة لا تجعله يتجاوز نطاق ما قدر له أن يعيش من أمد محدود قصير جداً بالنسبة إلى عمر التاريخ الطويل. ولكن الذكريات والآمال الخارجة عن حياته الشخصية هي التي تجعله كأنه قد عاش الدهور الطوال. فنحن في حفلنا هذا بذكرى المولد النبوي الكريم التي هي الثانية بعد الأربعمائة والألف من ولادة محمد بن عبد الله- صلى الله عليه وآله وسلم- نشعر بالحياة الإسلامية في هذه القرون كلها حتى كأننا عشناها فعلا. ونريد أن نحلي شعورنا بهذه الذكرى بذكر ناحية من نواحي حياة هذا النبي الكريم- صلى الله عليه وآله وسلم- ليبعث فينا العلم بتلك الناحية آمالا عظيمة في المستقبل الإسلامي القريب والبعيد، ويدفعنا إلى تحقيق تلك الآمال بما استطعنا. فنكون كأننا نعيش مع الأجيال الآتية من أبناء الإسلام. المقصد: الرسول- صلى الله عليه وآله وسلم- جاء بالرسالة من الحق، لهداية الخلق. فكيف بلغ هاته الرسالة؟ هاته هي الناحية التي نريد الكلام عليها. فصل علمي: قد بلغ- صلى الله عليه وآله وسلم-، رسالة ربه بالقول والعمل إلى آخر رمق من حياته، وكان تبليغه كما أمره ربه على درجات حسب التدريج الذي هو من سنة الله في خلقه وفي شرعه.

الدرجة الأولى - الأمر بالتبليغ المطلق

الدرجة الأولى - الأمر بالتبليغ المطلق: بدأ رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- من الوحي بالرؤيا الصادقة التي هي تلقي الروح من عالم الملائكة عند تخليها بعض التخلي عن الجسد في حالة النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم جاءه الملك بالوحي فكان أول ما أنزل من القرآن قوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} ولم يكن في هذا أمر بالتبليغ لغيره. فرجع إلى بيته فأعلم زوجته خديجة رضوان الله عليها فصدقته. وقوته بذكر صفاته العالية وأخلاقه الكريمة الطيبة التي لا يجازي الله صاحبها إلا بالكريم الطيب وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان، فقالت له: فوالله لا يخزيك الله أبدا، فوالله إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، فكانت هي أول مصدق له. ثم فتر الوحي، ثم رأى الملك المرة الثانية ولم يكن قد اعتادت بشريته رؤية الملائكة، فرجع إلى أهله يقول لهم: دثروني دثروني فدثروه أي غطوه بثياب فأنزل عليه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ}. فكان هذا أول أمر بالتبليغ والإنذار فكان تبليغه لزوجته وهي مصدقة له، وكان يبلغ الفرد والفردين، وكان أبو بكر الصديق أول من آمن من الناس، وكان علي كرم الله وجهه في كفالته مستمسكا بأذياله ما عرف باتباعه، فكان من أول من آمن به. الدرجة الثانية - الأمر بتبليغ العشيرة: ثم أمر بإنذار قومه قريش بقوله تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} فخرج حتى صعد إلى الصفا ثم نادى يا صباحاه وكانت

الدرجة الثالثة - الأمر بتبليغ العرب حوالي مكة

العرب إذا دعا الرجل بياصباحاه اجتمحت إليه عشيرته. فاجتمعت إليه عشيرته فاجتمعت إليه قريش عن بكرة أبيها فقال لهم: أرايتكم لو أخبرتهم أن خيلا تخرج من سفح الجبل وأن العدو مصبحكم أو ممسيكم. أكنتم مصدقي؟ قالوا: ما جربنا عليك كذبا. قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد. ثم قال: يا آل كعب بن لؤي يا آل مرة ابن لؤي يا آل قصي يا آل عبد شمس يا آل عبد مناف، يا آل هشم، يا آل عبد المطلب، يا صفية أم الزبير- وهي عمته- يا فاطمة بنت محمد أنقذوا أنفسهم من النار إني لا أملك لكم من الله شيئا. فكانت هذه دعوته العامة لقومه من قريش. الدرجة الثالثة - الأمر بتبليغ العرب حوالي مكة: ثم كان أمره بأن ينذر العرب خارج مكة بمثل قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} فكان يعرض نفسه على قبائل العرب في مواسم الحج إلى أن كانت بيعة العقبة وإيمان الأنصار. الدرجة الرابعة - الأمر بالتبليغ العام لمن في عصره ولمن بعدهم: ثم أمر بالتبليغ العام بمثل قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا}. فكاتب الملوك خارج جزيرة العرب كسرى وقيصر والقوقس وغيرهم. وقد بلغ من جاء بعده من الأمم بما ترك لهم من كتاب الله لقوله تعالى: {لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ}، أي لأنذركم بالقرآن وأنذر من بلغ القرآن فعم ذلك كله من بلغه. فصل عملي: كل من آمن بمحمد -صلى الله عليه وآله وسلم- فهو مأمور بتبليغ رسالته على الخصوص والعموم لمقتضى ما نطالب به من

خاتمة

التأسي والاقتداء به - صلى الله عليه وآله وسلم- ولقوله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي}. فجعل من اتبعه داعيا معه إلى الله على بصيرة ولقد عرف السلف هذا فكانوا دعاة إلى الله بأقوالهم وأعمالهم المطابقة لها، حتى انتشر الإسلام في أقل من ربع قرن في المعمور، أما نحن فقد قصرنا في هذا الواجب غاية التقصير. فتركنا تبليغ الدين إلى الأمم حتى لنخشى أن يكون من أوزارنا بقاء الأمم الضالة على ضلالها لتقصيرنا في التبليغ إليها وأكبر من هذا تقصيرنا في تبليغ الدين إلى أنفسنا بإهمالنا جانب التعليم الديني والوعظ والإرشاد. واليوم وقد عرفنا كيف بلغ النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- رسالة ربه فلنعقد العزم على الاجتهاد في التبليغ ولنبدأ بأهلينا ومن إلينا ولنفكر ثم لنعمل في تبليغ الدين كما جاء به النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- إلى أمة الإجابة وأمة الدعوة، وليكن تفكيرنا في هذا واهتمامنا به ثمرة إحيائنا لهذه الذكرى الكريمة وعلمنا بهذا النزر من حياة ذلك النبي الكريم ولنا- بعد عون الله تعالى- من الإيمان والمحبة فيه ما يعيننا على ذلك ويقوي أملنا فيه ويبلغنا إليه. خاتمة: أيها السادة قد عدنا من هذه الذكرى بمسألة تبليغ الرسالة وعدنا بأمل تبليغ الهداية وقد انبثق من هذه الذكرى في صدورنا نور وجددت مننها في قلوبنا قوة ولن تستطيع ظلمات ظلم الحياة وإن كثفت أن تطفيء ذلك النور ولن تستطيع نكبات الزمان وإن جلت أن تبطل تلك القوى. أبداننا للأيام فلا بد لها من تصرفاتها، أما قلوبنا فهي لنا، لنا مؤمنة مطمئنة

بدين الله ومحبة محمد- صلى الله عليه وآله وسلم- وأن قلوبا وضعنا فيها اسم الله واسم محمد لهي بمأمن من عمل الظالمين وكيد الخائنين. فجددوا نورها وقوتها بمثل هذه الذكرى واعملوا لتحقيق ما تحييه فيكم الذكريات من أمل ورجاء، وأقصروا أعمالكم وجملوها بالإحسان والتقوى. {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} (1).

_ (1) ش: ج 9، م 6 - جمادى الأولى 1349ه - أكتوبر 1930م

الراعي

الراعي من هذا الغلام العربي في عباءته؟ من هذا الراعي الصغير في غنيمته؟ من هذا الصبي الناشيء على الحمل والرعاية من طفولته؟ من هذا اليافع الذي يأبى إلا أن يعيش من كد يمينه، ويأكل خبزه إلا بعرق جبينه؟. هذا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب يتيم الأبوين مكفول عمه أبي طالب، الذي كان يرعى غنما لأهل مكة لقومه وأهل بلده بالقراريط حتى لا يكون كلا على عمه. هذا هو المهيأ برعايته الغنم، لرعاية الأمم، هذا هو المنشأ على الكد في العمل الصغير، إعدادا له للنهوض بأعباء العمل الكبير، هذا هو المربي على العمل بالفلس، ليشب على خلق الاعتماد على النفس، هذا هو المعد لختم النبوة والرسالة وإظهار أكمل مثال للبشربة، يحمل أعظم آية من وحي الله، ويدعو إلى السعادة الدنيوية والأخروية وأقصى ما يمكن أن يصل إليه الناس من كمال. شب محمد- صلى الله عليه وآله وسلم- يتيما في كفالة عمه، وكان عمه مقتراً في شظف من العيش، فأخذ محمد- صلى الله عليه وآله وسلم- يعمل بأجرة ليخفف على عمه ولما شب ضرب في الأرض تاجراً كعادة قومه، فلما ولد لأبي طالب علي كفله. وهو في الثلاثين، جزاء على كفالته. فكان في

طفولته وشبابه وكهولته كواحد من قومه في عيشته وكسبه وأميته. وإن كان ممتازا بينهم لخلقه وفضله حتى بعثه الله نبيا ورسولا بما يستحيل- وقد عرفوا طفولته وشبابه وكهولته- أن يكون شيء منه من عنده، ولذا أمره الله أن يحتج عليهم بقوله: {قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}. كان محمد- صلى الله عليه وآله وسلم- ميسرا من طفولته لما كان عليه اخوانه من الأنبياء والمرسلين- صلوات الله عليهم- قبله محفوظا مما حفظوا ملهما ما ألهموا وقد ألهم الله الأنبياء قبله لرعي الغنم وهي حيوان ضعيف تمرينا على القيام على الضعاف بالحلم والرفق والشفقة وحسن الرعاية باختيار مسارحها ودفع العوادي عنها ودوام تعهدها وذلك كله تهيئة لم إلى ما يوكل إليهم من سياسة أمتهم. وقد ذكر هو- صلى الله عليه وآله وسلم- هذا العهد من طفولته وهذه العادة الربانية في مثله من إخوانه اعترافا بنعمة الله وتنبيها على ما في ذلك من الحكمة وما فيه من حسن القدوة فقال يوما لأصحابه: «ما بعث الله نبياً إلا رعى الغنم، فقال أصحابه: وأنت؟ فقال: نعم كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة» رواه البخاري من طريق أبي هريرة- رضي الله عنهم- (1).

_ (1) ش: ج 3، م 11 - ربيع الأول 1354ه - جوان 1935م.

أعظم قائد يرجع إلى رأي جندي

أعظم قائد يرجع إلى رأي جندي (1) ــــــــــــــــــــــــــــــ ارتحل النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- من مبيته صبيحة يوم بدر حتى نزل على أدنى ماء إليه وبقي الماء أمامه لو جاء العدو لنزل عليه فيكون الجيشان على ماء. وكان الصحابة يعلمون أن رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- يتصرف بالوحي فيكون تصرفه حتما ويتصرف بالنظر في السياسة والحرب فيشاور ويراجع وهو المعصوم فلا يقر على الخطأ فانبرى الحباب بن المنذر بين الجموع يبدي رأيه وما يعتقده صوابا في مكان النزول فقال: (يا رسول الله أرأيت المنزل هذا أمنزلا أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدم أو نتأخر عنه أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟). فقال رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم-: «بل هو الرأي والحرب والمكيدة» فقال الحباب: "إن هذا ليس بالنزل فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم فننزله، ثم نعور ما وراءه من القلب (2) ثم نبني عليه حوضا نملؤه ماء ثم

_ (1) من سيرة ابن هشام وغيرها. (2) القلب ج قليب وهو بير غير مطوية أي مبنية وعور القليب إذا ردمه بالتراب.

نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون". أراد أن يستولي الجيش على الماء ويمنع منه العدو فيكون ذلك أنكى فيه وأعون عليه وهذا هو الرأي الموافق لما تقتضيه الحرب من تضعيف العدو ومكايدته بالأسباب التي تسرع بقهره. وظهر هذا للنبي- صلى الله عليه وآله وسلم- فقال له: «لقد أشرت بالرأي» ونهض بالناس حتى نزل المنزل الذي أشار به الحباب وفعل ما أشار به ورجع أعظم قائد إلى رأي جندي من جنوده لما ظهر له صواب إشارته. قد عصم الله نبيه- صلى الله عليه وآله وسلم- فلا يستقر أمره في جميع سياسته وتدبيره إلا على أحسن الوجوه بما يهدي إليه من نفسه- وهو الكثير- وما يرجع إليه مما يشير به أصحابه- وهو القليل- والحكمة في هذا القليل أن يسن لأمته حرية إبداء الرأي في الشؤون العامة من الكبير والصغير، والرجوع للصواب إذا ظهر من أي أحد كان. هذا الأصلان: حرية إبداء الرأي من جميع أفراد الرعية والرجوع إلى الصواب من رعاتها، عليهما تبنى سعادة الأمة وعظمتها، وبهما تشعر الأمة والوحدة بين الرعية ورعاتها، ومنهما تستمد الأمة النظم اللازمة لها في حياتها، وقد قررهما الإسلام وبينهما النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- تبيينا عمليا في هذه القصة (1).

_ (1) ش: ج 1، م 11 - غرة محرم 1354ه - أفريل 1935م.

خلوا بيني وبين ناقتي

خلوا بيني وبين ناقتي كان الأعراب يجيئون للنبي- صلى الله عيه وآله وسلم- يسألونه ويستجدونه في غلظة وجفوة من القول فكان يعطيهم ويتجاوز عن جفائهم ويعذرهم ببداوتهم. فجاءه أعرابي يطلب منه شيئا فأعطاه إياه ثم قال له النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- «أأحسنت إليك؟» ليعرف ما عنده من الاعتراف بالإحسان أو ليعرف اكتفاءه بما أعطاه فقال له الأعرابي: (لا ولا أجملت) أي ما أتيت لا بحسن ولا بجميل. فغضب المسلمون وقاموا إليه ليوقعوا به جزاء سوء أدبه فأشار إليهم النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- أن كفوا ثم قام النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- ودخل منزله وأرسل إلى الأعرابي وزاده شيئا ثم قال له: «أأحسنت إليك؟» فقال الأعرابي: "نعم. فجازاك الله به من أهل وعشيرة خيرا". هكذا توسل النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- إلى تأديبه واستخراج الاعتراف بالجميل منه ليتربى عليه وحمله على النطق بالكلام الطيب بزيادة الإحسان إليه. فاعترف بالإحسان ودعا الله بالجزاء للنبي- صلى الله عليه وآله وسلم- بسبب إحسانه وشعر بأن النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- كان له أهلا وعشيرة، وهذه كلها معارف وآداب وشعور طيب جاء بها هذا

الأعرابي الجافي بسبب تربيته بزيادة الإحسان إليه. وأراد النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- أن لا يتركه يرى بين الصحابة- رضي الله عنهم- بالعين التي كانوا يرونه بها لجفائه وسوء أدبه وأن لا يترك في قلوبهم شيئا عليه، فقال له: «إنك قلت ما قلت وفي أنفس أصحابي شيء فإن أحببت فقل بين أيديهم ما قلت بين يدي حتى يذهب ما في صدورهم عليك»، دعاه بألطف القول وألينه دون أمر ولا إلزام فقال الأعرابي: "نعم" فلما كان الغد أو العشي جاء الأعرابي لمجلس النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- فقال النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- لأصحابه: «إن هذا الأعرابي قال ما قال فزدناه فزعم أنه رضي. أكذلك، فقال نعم، فجزاك الله من أهل وعشيرة خيرا». ثم أراد النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- أن يضرب مثلا لأصحابه- رضي الله عنهم- يبين لهم به كيف يكون رد الشارد وجذب النفور وتأليف الجافي، وأن المتصدي لتربية الناس أعرف من غيره بما يصلحهم وأن الرئيس المتبوع أعرف بطباع أتباعه وأحق بتأليفهم وتربيتهم من الاتباع بعضهم في بعض، فقال لهم- صلى الله عليه وآله وسلم-: «مثلي ومثل هذا مثل رجل له ناقة شردت عليه فاتبعها الناس فلم يزيدوها إلا نفوراً فناداهم صاحبها: خلوا بيني وبين ناقتي فإني أوفق بها منكم وأعلم. فتوجه لها بين يديها فأخذ لها من قمام الأرض فردها حتى جاءت واستناخت (بركت) وشد عليها رحلها واستوى عليها» ثم قال لهم: «وإني لو تركتكم حيث قال الرجل ما قال فقتلتموه دخل النار» فقد استحق النار لو مات على تلك الحال فأشفق عليه النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- فعالجه بما

أنقذه منها وهكذا تكون رعاية الأفراد والأمم باللين والإحسان والإنقاذ من مصارع السوء والحمل بالرفق والعلم على السير في أحسن السبل فصلى الله عليه وسلم من نبي حريص على الخير رفيق بالخلق عليم بطبهم، {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (1، 2).

_ (1) ذكرها في الشفاء وأصلها في البزار كما ذكره الشراح. (2) ش: ج 4، م 11 - غرة ربيع الثاني 1354ه - جوان 1935م.

كن خير آخد

كن خير آخد قام قائم الظهيرة وأصهرت الأرض شمس الصحراء، فنزل الجيش ليقيل، وتفرق الصحابة تحت أشجار البادية يستظلون بها، وانتبذ النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- عن أصحابه تحت ظل شجرة وانفرد بها فنزع سلاحه وعلق سيفه في غصن من أغصانها ونام. كان غورث بن الحرث أحد شجعان العرب وفتاكهم يتتبع الجيش متخفيا، يتحين فرصة انفراد النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- للفتك به، وقد واتته تلك الفرصة الآن، فجاء حيث النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- نائم وسيفه معلق بالشجرة، فاخترط السيف فانتبه النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- وغورث قائم على رأسه والسيف صلتا بيده. فصاح الفاتك بالنبي- صلى الله عليه وآله وسلم-: "أتخافني؟ " فقال له النبي- صلى الله عليه وآله وسلم-: «لا» قال: "ومن يمنعك مني؟ " فقال: «الله». الاسم الأعظم ينطق به الرسول الأعظم، وهو أعزل من سلاحه إلا سلاح الإيمان، وقد شهر الباطل سيفه بيد ضال مغرور، يريد أن يصيبه في سيد أنصاره وأعظم أبطاله. فلو كان هذا الفاتك جبلا وقد صدعت كلمة الله سمعه لخشع وتصدع، ولو كان قلبه من حديد لذاب وسال.

انخلع قاب الفاتك واضطربت يده وسقط السيف منها، فتناول النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- السيف ورفعه على رأسه وقال لغورث: من يمنعك مني؟ فقال له غورث: كن خير آخذ. إلتجأ الفاتك إلى حلم الني- صلى الله عليه وآله وسلم- وعفوه وكرمه ودعاه إلى أن يكون خير آخذ لعدوه، وخير الآخذين هو الذي يعفو بعد القدرة، ويسمح بعد الغلب، وما دعى النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- إلى خير إلا أجاب ولا وقع بين أمرين إلا اختار أفضلهما، وما انتقم لنفسه قط، فترك غورثا وعفا عنه فرجع إلى قومه يقول لهم: جئتكم من عند خير الناس. في هذه القصة تجلت الثقة بالله في أجلى مظاهرها واندحرت قوة السيف أمام قوة الإيمان، إيمان من لا يخاف إلا الله ولا يخاف غيره، ولو كان السيف مصلتا على رأسه وضرب النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- المثل الكامل في العفو والتجاوز وحسن التآلف للناس وجلبهم إلى الإيمان فلهذا العفو ولقول غورث لقومه: جئتكم من عند خير الناس، من الأثر في القلوب ما لا تفعله الجيوش من فتحها للإسلام أو كفها عن أذى المسلمين (1). رزقنا الله الاقتداء بهذا النبي الكريم ذي القلب الرحيم والخلق العظيم (2).

_ (1) أصل القصة في الصحيحين والشفاء ومسند أحمد وقد اختلف في إسلام غورث. (2) ش: ج 5، م 11 - غرة جمادى الأولى 1354ه - أوت 1935م.

رقية الله

رقية الله كان ضماد- وهو رجل من أزد شنؤة- من أطباء العرب في الجاهلية وكان يعالج بالطب والرقية. قدم مرة مكة، وقد بلغه نبأ الدعوة الجديدة فلما قدمها سمع من سفهائها ما كانوا يرمون به صاحب هذه الدعوة من الجنون فود لو رآه فرقاه لعل الله يشفيه على يديه، فعمل لذلك حتى لقيه، فقال: يا محمد، إني أرقي من هذه الريح - ريح الجنون- وإن الله يشفي على يدي من شاء فهل لك؟ فما أجابه النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- بكلمة ترد عليه وما زاد على أن قال: «إن الحمد لله نحمده ونستعينه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أما بعد» فما تركه ضماد يشرع فيما بعد أما بعد، فقد عملت هذه الكلمات الجوامع عملها من نفسه وأثرت أثرها في قلبه فبادره بقوله: أعد علي كلماتك هؤلاء، فأعادها عليه رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- ثلاث مرات فتجلى لضماد من توحيد الله وتنزيهه والثقة به والاعتماد عليه والحمد له ما بهره منه المعنى الكبير الكثير، في اللفط البين القليل، وعرفه أن هذا لا يخرج من قلب مجنون. وكيف؟ وهو لم يطرق سمعه مثلهن فيما سمع من كلام الناس فقال، معلنا لإيمانه

العبرة

مبينا لدليله وبرهانه: لقد سمعت قول الكهنة، وقول السحرة، وقول الشعراء، فما سمعت مثل كلماتك هؤلاء، ولقد بلغن قاعوس البحر (كقاموس عمق البحر ولجته) ثم قال: هات يدك أبايعك على الإسلام فبايعه، فقال له رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم-: وعلى قومك؟ فقال: وعلى قومي (1). العبرة: جاء الضماد لا يحمل في قلبه على محمد- صلى الله عليه وآله وسلم- حقداً ولا بغضا، بل كان ينظر إليه بعين الشفقة نظر الطبيب إلى المريض. فلما سمع الحق بلغ من قلبه ذلك المبلغ. فأعظم ما يحول بين الحق وبين الناس وما تنطوي عليه قلوبهم من بغض أو حقد على من دعاهم إليه. فعلى من يريد أن يعرف الحق أن يخلي قلبه- ما استطاع- من كل إحنة على من يريد أن يعرف ما عنده من الحق عندما يريد أن يعرف، وعلى كل داع إلى الحق أن يبذل كل جهده أن لا يظهر بمظهر العدو أو البغض لمن يدعوه. فإنه إذا سلم القلب، وحصل الفهم أثرت كلمة الحق أثرها لا محالة. الأسوة: كتاب الله ومثل هذا الكلام النبوي الوارد في هذه القصة المأخوذة، من كتاب الله، هو الدواء الناجع من أدواء النفوس وأمراض القلوب، وهو الرقية الشافية، - رقية الله- من وساوس الأهواء وهواجس الضلال، فإن النبي -صلى الله عليه

_ (1) القصة في صحيح مسلم.

وآله وسلم- لم يزد في استشفاء ضماد على أسماعه ذلك الكلام الجامع المختصر. فعلى الدعاة إلى الحق أن تكون دعوتهم بكلام الله ومثل هذه الكلمات من حديث رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- فإن في ذلك الاتباع والانتفاع، وحصول الهداية إن شاء الله آمين (1).

_ (1) ش: ج 3، م 13 - غرة شعبان 1356ه - 2 ماي 1937م.

الفن الأدبي في الحديث النبوي

الْفَنُّ الْأَدَبِيُّ فِي الْحَدِيثِ النَّبَوِيِّ. كَانَ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- حَادٍ يُقَالُ لَهُ أَنْجَشَةُ، وَكَانَ حَسَنَ الصَّوْتِ. وكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فِي مَسِيرٍ لَهُ، فَحَدَا الحَادِي وَكَانَ يَحْدُو بِهِنَّ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: «وَيْحَكَ يَا أَنْجَشَةُ رُوَيْدَكَ سَوْقًا بِالْقَوَارِيرِ». قَالَ أَبُو قِلاَبَةَ: فَتَكَلَّمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بِكَلِمَةٍ لَوْ تَكَلَّمَ بِهَا بَعْضُكُمْ لَعِبْتُمُوهَا عَلَيْهِ، قَوْلُهُ: «سَوْقَكَ بِالْقَوَارِيرِ». رواه البخاري في باب ما يجوز من الشعر والرجز والحداء وما يكره منه وفي باب المعاريض وغيرهما من طريق أبي قلابة وثابت البناني وقتادة ثلاثتهم عن أنس - رضي الله تعالى عنهم- وسقناه من مجموع ألفاظهم. ... ــــــــــــــــــــــــــــــ الأشخاص: أنجشة غلام حبشي كان يحدو في السفر بالنساء كما كان البراء بن مالك يحدو بالرجال. أبو قلابة: إمام شهير من فقهاء التابعين نزل الشام ومات بها.

المفردات

المفردات: الحدو والحداء: سوق الإبل والغناء لها لتنشط وتسرع في السير. ويح: كلمة تقال لمن وقع في بلية أو توقعت له رحمة له، بخلاف ويل، فإنها تقال لمن وقع في عذاب أو توقع له وهو يستحقه ولا يرحم فيه، وانجشة هنا شارف أن يقع في بلية كسر القوارير، فخوطب خطاب رحمة من الوقوع في ذلك. رويدك: مصدر مصغر بمعنى امهال، القوارير: جمع قارورة، وهي الزجاجة، سميت بذلك لاستقرار الشراب فيها. القوارير: النساء. التراكيب: ويحك منصوب على المفعولية المطلقة بفعل محذوف لم يستعمل، وتقدير الكلام هلكت هلاكك الذي تستحق عليه الرحمة. رويدك مثله وتقديره أمهل امهالك. ونصب سوقك على التوسع بإسقاط الخافض أي في سوقك، ولما كان يدعوه إلى الرفق اقتضى الحال أن يعبر عن المطلوب الرفق به وهن النساء بالقوارير على طريق الاستعارة التصريحية، حيث شبهن بها بجامع الرقة واللطف والضعف، وحذف لفظ المشبه وذكر لفظ المشبه به. فكانت اللفظة المجازية بالغة غاية البيان عن حالة النساء وكان التركيب بها بالغا غاية البلاغة باشتماله على ما اقتضاه حال الدعاء إلى الرفق مما صورهن بصورة تدعو إلى الرفق وتستوجبه. المعنى: لما غنى انشجة للإبل وعلى ظهورها النساء نشطت واعنقت في السير فاتعبتهن، فأشفق النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- عليهن

الفن

فأمر أنجشة بالرفق بهن لأنهن ضعيفات عن تحمل شدة الاضطراب فوق ظهور الإبل المسرعة. الفن: إدراك صفات الشيء على ما هي عليه من حسن وقبح إدراكا صحيحا، والشعور بها كذلك شعورا صادقا. والتصوير لها تصويرا مطابقا، بالتعبير عنها بعبارات بليغة في الإبانة والمطابقة للحال، ذلك هو الفن الأدبي. والنفوس تميل إلى الحسن وتنشرح له، وتنفر من القبيح وتنقبض عنه، ولذا كان أكثر الفن الأدبي في تصوير الحسن وعرضه على الناس ليشاركوا الفنان في إدراك ذلك الحسن والشعور به والتذوق للذة، ذلك الإدراك والشعور، وفي ذلك تربية لملكة الذوق الحسن في النفوس. وأن النفوس لفي أشد الحاجة إلى تلك الملكة لتنعم بصور هذا الكون العظيم وما فيها من حسن فتقاوم بذلك ما تعانيه من متاعب الحياة وأوصابها وتدفع بلذة ذلك الشعور بالحسن ما تجده من آلامها، وإذا رجعت إلى القرآن العظيم فإنك تجد العدد العديد من آياته الكريمة يعرض علينا أنواعا من مخلوفات الله تعالى في صورها الحسنة الجذابة. واقرأ في ذلك- مثلا- سورة الرحمن فإنك واجد ما قلناه. وكذلك في الأحاديث النبوية عدد كثير من مثل ذلك، ومنها هذا الحديث الشريف الذي بين أيدينا، فقد صور النساء في صورة حسنة جذابة بما في القوارير من بياض ولمعان ودقة ولطف، مع التصوير لحقيقة حالهن في الضعف الخلقي وفي الضعف القلبي وسرعة انكسار قلوبهن وعسر انجبارها، فكانت هذه العبارة آية من آيات الفن الأدبي، التي تدخل على النفوس بهجة وانشراحا وتثير فيها حاسة الذوق للحسن والجمال. وقد القى كعب بن زهير قصيدته المشهورة في حضرة النبي- صلى الله عليه

الرد على المتشددين

وآله وسلم- فوصف المرأة والماء الذي مزجت به الخمرة، والناقة وصورها تصويرا فنيا ولم ينكر عليها (1) لأنه لم يكن يصف شخصا معينا يؤدي وصفه إلى اثارة الشهوة البهيمية نحوه وإنما كان يعرض صوراً من محاسن تلك الأشياء التي تلذ للنفوس البشرية صورها الجمالية وتنمي فيها قوة الشعور والذوق. الرد على المتشددين: علم أبو قلابة -رضي الله تعالى عنه- تشددا وتنطعا مما كان حدثهم بهذا الحديث يحملانهم على الامتناع من الكلمات التي فيها بعض وصف النساء، فرد عليهم بتكلم النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- بهذه الكلمة التي لو تكلم بها أحدهم لعابوها عليه وبين لهم أن لا عيب فيها وفي مثلها مما لا فحش في لفظه، ولا قبح في معناه ولا غاية سوء من ذكره. فقه: في الحديث سماع النساء لصوت الحادي وفيه للعناية بهن في السفر والرفق بهن فيه، وفيه التنبيه على المحافظة على قلوبهن وعواطفهن ليدوم ودهن وسلامتهن ويدوم الهناء معهن والاستمتاع بهن لأنهن ضعيفات القلوب رقيقات العواطف شديدات الإحسان (2) يصبرن على كل شيء من الرجل إلا على كسر قلوبهن ومس عواطفهن، فهذا الحديث الشريف من الأحاديث

_ (1) كذا ورد في الأصل وصوابه: (عليه). (2) كذا في الأصل، والصواب: الإحساس.

الكثيرة التي جاءت في الوصاية بالنساء والمحافظة عليهن ومراعاة جانبهن ويمتاز هذا الحديث بما فيه من ذكر السبب الذي يوجب ذلك ويقتضيه، على أبين تصوير وأبلغه فليكن دائما على بالنا، في معاملتنا للنساء وحياتنا معهن والله المستعان (3).

_ (3) ش: ج 2، م 8 - غرة شوال 1350ه - فيفري 1932 م.

رسول الله يشتم بين أيدينا ويهان

رسول الله يُشتَم بين أيدينا ويُهان لقد تحملنا كل أنواع العذاب، وصبرنا على كل مكروه نالنا في ديننا ودنيانا، وعشنا عيشة الذل والهوان التى لا نعتقد أن غيرنا من الأمم تحمل مثلها وصبر عليها، فقلنا تجاه كل ذلك: حسبنا الله ونعم الوكيل، هذا ما قدره الله ولا مرد لقدر الله. لكننا ان تحملنا عيشة الذل بصبر، وتحملنا الفتنة في الدين بصبر، فإننا لا نتحمل ولن نتحمل، ولو رأينا أمامنا الموت الزؤام، والبلاء الأعظم، أن تمتد يد الإهانة والسوء إلى الشخصية المقدسة التي هي أعز على كل مسلم، منذ انبثق فجر الإسلام إلى قيام الساعة، شخصية محمد رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم. لقد أنصف الكثير من المؤرخين هذا الرسول الذي هو سيد الوجود، ودرسوا سيرته الطاهرة فإذا بهم يرونها المثل الأعلى للأخلاق الفاضلة والنبل، والشمم، والهمة، والوفاء. والإخلاص، والتضحية، ولبعض الغربيين في ذلك تآليف جمة، وكتب قيمة. لكن بعض المؤرخين الذين سفلت أخلاقهم، وخربت ذممهم، وأعمى التعصب المسيحي الممقوت بصيرتهم، قد عمدوا للحقائق

فطمسوها، وافتروا الأكاذيب حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق، فقالوا فى محمد بن عبد الله ما سولت لهم أنفسهم الخبيثة أن يتقولوه. والله من ورائهم محيط. لكننا رغم علمنا بوجود كمية من هذه الحشرات السامة التي لا علم لها ولا فضل ولا شرف في النفس، لم نك نعلم أن منها من يتجرأ خبثا وشناَنا على مقام الرسول الأعظم، وهو في بلاد عربية إسلامية، متينة الإسلام، رغم كل سعي، ورغم كل محاولة، محتقرا بذلك دين خمسة ملايين ونيف من البشر الذين تعهدت لهم دولته باحترام دينهم، وكف يد العدوان عنه، دائسا بذلك، وهو في أرض هي أرضهم -وأنفه راغم- وهو بين ظهرانيهم، كرامتهم وعواطفهم ومقدساتهم كلها. سحقا ودفرا للنفس الخبيثة السافلة، تسير مع الأغراض والهوى فتعمى عن الحقائق، وتنكر المحسوس، وتصادم العلم والتاريخ. لجريدة "الايكو دالجى" اليومية في الجزائر، عبد من عبيد الأقلام المأجورة، يدعى "روبير راندو" يحرر كل جمعة فصلا أدبيا فيه نقد الكتب الجديدة. ففي عدد الجمعة 23 أوت 1935م. أخذ ينقد كتابا ألفه إثنان من كبار الكتاب الفرنسيين، هما الأخوان: " طاروا " واسم ذلك الكتاب: " فرسان الله" وقد حاول فيه مؤلفاه أن يسطرا تاريخ الإسلام بصفة روائية مستمدة من الحقائق التاريخية ووفقا في ذلك بعض التوفيق. لكن "روبير راندو" لم يكد يخط السطور الأولى من هجوه المقذع، ولا أقول من نقده الأدبي، حتى تورط في حملة طائشة خبيثة ضد الإسلام وضد التاريخ الإسلامي، فالفتوحات

الإسلامية عنده كانت " وافدة كالأوبئة الفتاكة، ماحقة مثل الطوفان" ولم تكن إلا سلسلة من الفتك والظلم والإرهاق وإزهاق النفوس بدعوى جلب الناس لدين الله، إلى غير ذلك من الترهات التي لا تهمنا، فإذا علم الناس أن شخصا مثل راندو يقول هذا، وأن عالما من أساطين البيان والتفكير والتاريخ يدعى "سيديو" يقول: "لم يعرف التاريخ فاتحا أرحم من العرب" وأن علما من أعلام البحث والفلسمفة هو: "قوستاف لوبون" يقول عن الإسلام ما يقوله في كتابه "المدنيات العربية" علم الناس أي قول يأخذون، وأي قول يرمون به محتقرين في سلة القاذورات. إنما نفس "راندو" الخبيثة لم تقف به عند هذا الحد، بل زادت رسوبا في حمأة السقوط والدنس، فتجرأ على مقام رسولنا الأعظم، منقذ الإنسانية، وفخر السلالة البشرية، بعبارات بذيئة قذرة، تدل على نجاسة الإناء الخبيث الذي تدفقت منه. لم يستح من العلم، ولم يستح من التاريخ، ولم يستح من جماعة المسلمين الذين يعيش عيشة الفاتح المتسيطر في أرضهم فقال- قبحه الله من ماكر أشر-: "هو رجل مظلم النواحي (1) فوق الرجال، به ظاهر من الرحمة والبساطة، إنما له من التحيل والخداع (2) ومن الخيانة والنفاق (3) ما لا يدرك له غور". ثم يقول: إن الأخوين "طارو" قد استطاعا أن يصورا محمدا- عليه صلاة الله وسلامه- بمثل هذه الصورة، ولهما بذلك أسوة بمن سبقهما من المؤرخين.

لقد دلس "راندو" على الأخوين تدليسا شنيعا. فهما على ما نعلم لم يستعملا في كتابهما ولا فيما كتبا من قبل مثل هذه العبارات البذيئة التي يتنزه عنها الكاتب الذي يحترم مهنته، ويحترم كرامته، ويحترم القلم الموضوع بين يديه، بل همافوق ذلك لم يحاولا الحط من قيمة الرسول العربي الأعظم، ولا من قيمة أصحابه. وإن كانا قد وقعا في أغلاط طالما وقع فيها قبلهم بعض المؤرخين، وذلك لابتعادهم عن البحث والتنقيب في كتب التاريخ الصحيحة، وإقدامهم على نقل ما يقع بين أيديهم من غث وسمين. فكيف يتحمل من في قلبه ذرة من كرامة ومروءة وشرف، ولوكان غير مسلم، ولو كان غير متقيد بدين على الإطلاق مثل هذه الكلمات الجارحة الخارجة عن حدود الأدب واللياقة والمروءة والشرف. إن مثل هذه الكلمات السافلة توشك أن تحدث فتنة نحن في غنى عنها، وشر الفتن ما كان مصدره الغضب للدين. وإننا لتمنعنا آدابنا الإسلامية، وتعاليمنا الراقية من أن ننحط لمثل هذا الميدان فنشتم دين الذي يشتم ديننا، ونحقر اعتقاد الذي يحقر اعتقادنا، ونصف رسل الأمم الأخرى- صلوات الله وسلامه عليهم- بمثل ما يصف رجال الأمم الأخرى رسولنا. فنحن نستلفت بكل شدة أنظار ولاة الأمور، وخاصة السيد الوالي العام، والسيد مدير الأمور الأهلية، لمثل هذه الحادثة المزرية بالمروءة، والمخلة بالشرف، ونحتج بكل قوانا وبكل ما في أنفسنا من ألم وكدر وتقزز واشمئزاز على هؤلاء الذين يغتنمون فرصة ضعفنا ورضوخنا، وأن لا حول ولا قوة بأيدينا فيوغلون في احتقارنا وامتهان كرامتنا إلى درجة شتم رسولنا وسبه، ووصفه بأحقر الأوصاف-

اللهم إنك لتعلم كيف أمسينا وكيف أصبحنا، اللهم إنك لتعلم أن لا قدرة لنا على تغيير هذا المنكر بأكثر من هذا، اللهم انتقم لرسولك الذي بعثته هدى ورحمة للناس وأنت المهيمن الجبار (1).

_ (1) ش: ج 6، م 11 - جمادى الثانية 1354 ه - سبتمبر 1935م.

موضوعات متصلة بصاحب السنة - صلى الله عليه وسلم -

موضوعات متصلة بصاحب السنة - صلى الله عليه وسلم -

ذكرى المولد النبوي الكريم في (نادي الترقي) بالعاصمة

ذكرى المولد النبوي الكريم في (نادي الترقي) بالعاصمة ألقى الأستاذ الإمام الشيخ عبد الحميد بن باديس في هذه الذكرى خطابا ارتجله ارتجالا في ذلك المقام وقد نشرناه فيما يلي حسبما بقي في الذهن فكان طبق أصله إلا في القليل: ــــــــــــــــــــــــــــــ بسم الله الرحمن الرحيم، وعلى اسم الجزائر الراسخة في إسلامها، المتمسكة بأمجاد قوميتها وتاريخها- افتتح الذكرى (1) الأولى بعد الأربعمائة والألف من ذكريات مولد نبي الإنسانية ورسول الرحمة سيدنا ومولانا محمد بن عبد الله- عليه وعلى آله الصلاة والسلام- في هذا النادي العظيم الذي هو وديعة الأمة الجزائرية عند فضلاء هذه العاصمة ووجهائها. لسنا وحدنا في هذا الموقف الشريف لإحياء هذه الذكرى العظيمة، بل يشاركنا فيها نحو خمسمائة مليون من البشر في أقطار المعمور كلهم تخفق أفئدتهم فرحا وسرورا وتخضع أرواحهم إجلالا وتعظيما لمولد سيد العالمين.

_ (1) نحن في سنة 1348 من الهجرة وعاش هو-صلى الله عليه وآله وسلم- 53 سنة في مكة قبل الهجرة فتلك: 1401 سنة فمولد هذه السنة هو الواحد بعد الأربعمائة والألف كما ذكرنا.

قلوب خمسمائة مليون! هذه قوة كبيرة في هذا العالم مرتبطة بالحب متدرعة بالإيمان. فلو شعرت حقيقة الشعور ببعضها لأثمرت للإنسانية فوائد كبرى وعملتلها أعمالا عظيمة. بل تشاركنا في موقفنا هذا الإنسانية كلها وإذا لم يكن بلسان مقالها فبلسان حالها. فمن الإسلام الذي جاء به صاحب هذه الذكرى عرفت الإنسانية وذاقت حرية العقول والرقاب، ومنه عرفت وذاقت العدل على أتم معناه، ومنه عرفت وذاقت المساواة بين العباد فيما هم متساوون فيه، وبهذه الأصول العظيمة أمكن اشتراك أمم كثيرة تحت راية الإسلام في خدمة العلم والمدنية حتى أزهرت رياضهما وسمت صروحهما في الشرق والغرب واغترفت من معينهما أبناء الإنسانية جمعاء. نقلت المدنية الإسلامية أصول المدنيات السابقة نقل الأمين، ونخلتها نخل الناقد البصير، وزادت عليها من نتائج أفكارها وثمار أعمالها ما كان الأساس المتين لمدنية اليوم. هذا الذي نقوله يعترف به العلماء المنصفون من الغربيين أنفسهم ويشهد به مثل قانون ابن سينا الذي لا زال يدرس إلى القرن الثامن عشر في جامعاتهم ومثل مقدمة ابن خلدون التونسي تلميذ مواطنينا شيوخ تلمسان، واضع علم الاجتماع المترجمة إلى جميع لغاتهم. كنا نسمع هذا الاعتراف من الأفراد، ولكننا اليوم صرنا نسمعه من الأمم ففي العام الماضي كان احتفال إسبانيا أمتها وحكومتها بانقضاء ألف سنة على تأسيس الخلافة الإسلامية في قرطبة، ومعنى ذلك الاعتراف لهذه الخلافة الإسلامية العربية بفضلها على مدنية اليوم، ورفعها منار العلم والعمران أيام كانت أمم الغرب في همجية عمياء، وفي هذه السنة كان

ما الداعي إلى إحياء هذه الذكرى؟

الاحتفال في جامعة ألمانيا ببرلين بذكرى أبي القاسم الزهراوي الأندلسي الطبيب الجراح الذي لا تزال نظرياته واستنباطاته معتمدا عليها إلى اليوم. وكان الاحتفال في القاعة الكبرى التي لا يحتفل فيها إلا بأكابر العلماء الذين خدموا الإنسانية خدمة جليلة. ومعنى هذا الاعتراف لعلماء العرب بخدمة العلم والإنسانية في ظل الإسلام منذ قرن. فالإسلام الذي جاء به صاحب هذه الذكرى هو أبو المدنية أمس واليوم - وأعني بمدنية اليوم المدنية من جهة العلم والعمران، لا من جهة الأخلاق والاجتماع فهنالك ما يتبرأ منه الإسلام. لا عجب بعد هذا البيان أن نقول أن الإنسانية تشاركنا بالاحتفال في هذا المقام. ما الداعي إلى إحياء هذه الذكرى؟ المحبة في صاحبها. إن الشيء يحب لحسنه أو لإحسانه وصاحب هذه الذكرى قد جمع - على أكمل وجه - بينهما. فله من الحسن ما كان به أكمل الناس حتى اضطلع بالقيام بأعباء ما جاء به ويعرف ذلك الكمال من درس أي خلق من أخلاقه وأي يوم من أيامه. وله من الإحسان ما أنقذ به البشرية وكان رحمة خاصة وعامة، وعم الإنسانية جمعاء على ما قدمنا في البيان. فمن الحق والواجب أن يكون هذا النبي الكريم أحب إلينا من أنفسنا وأموالنا ومن الناس أجمعين ولو لم يقل لنا في حديثه الشريف: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين» وكم فينا من يحبه هذه المحبة ولم يسمع بهذا الحديث؟

ما الغاية من تجديد هذه الذكرى؟

فهذه المحبة تدعونا إلى تجديد ذكرى مولده في كل عام. ما الغاية من تجديد هذه الذكرى؟ إستثمار هذه المحبة. إن محبتنا فيه تجعلنا نحب كل خلق من أخلاقه وكل عمل من أعماله. ففي ذكريات مولده نذكر من أخلاقه ومن أعماله ما يزيدنا فيه محبة ويحملنا على الاقتداء به فنستثمر تلك المحبة بالهداية في أنفسنا، ونشرها في غيرنا، تلك الهداية التي لا يسعد العالم سعادة حقة إلا إذا تمسك بها. ماذا نريد أن نذكر في مجلسنا هذا منها؟ عندما أصل إلى هذا المقام وأقف أمام أخلاقه وأعماله- عليه وعلى آله الصلاة والسلام- أجدني أمام ما يتقاصر عنه علمي ويتضاءل أمامه شخصي وأنشد ما قاله شاعرنا العربي: هو البحر من أي الجهات أتيته … فلجته المعروف والجود ساحله ومن أين لعاجز مثلي أن يفي خلقا من أخلاقه أو عملا من أعماله حقه من البيان؟ لكنني سأقول على كل حال حسب جهدي، وأقتصر على ذكر خلقين من أخلاقه أراهما ركنين أساسيين في حياته وفي شريعته وهما: الرحمة، والقوة. إذا أراد الله تعالى شيئاً هيأ أسبابه. فمع علمنا بأن ما كان له - صلى الله عليه وآله وسلم- من الرحمة والقوة هو من العطاء الرباني والفيض الإلهي الذي تقصر عنه وسائل العباد - فإننا لا نمتنع من ذكر ما هيأ الله له من أسباب مناسبة لهذين الخلقين. فمن العبادة الفكرية النظر في صنع الحكيم العليم في ربط الأمور بعضها ببعض واقترانها في الوجود والتقدير. فلنبحث في هذين

مبدأ رحمته

الخلقين وما هيء لهما من حال مناسب، وما نشأ عنهما من أخلاق فاضلة، وما كان لهما من ثمار محمودة، ومظاهر في حياته وشريعته جليلة جلية - لنزداد بصيرة في العلم، وهداية في الاقتداء فنقول: مبدأ رحمته: كان -صلى الله عليه وآله وسلم- يتيما في صغره مات أبوه وهو حمل وماتت أمه وهو ابن بضع سنوات فأورثه ذلك اليتم رقة في قلبه. وما كانت كفالة جده ولا عمه، ولا حضانة نسائهم بمغنية عن عطف الأم وحنانها. ولا جابرة صدع القلب من فقدها. وهذه الرقة هي فيه أساس الرحمة. مبدأ قوته: وكان- صلى الله عليه وآله وسلم- ابن بيت عظيم، يشهد مجالس جده عبد المطلب شيبة الحمد وأعمامه من حوله. ويرى هيبتهم ومكانتهم في قومهم فأورثه ذلك عظمة وعزة نفس: عزة أنفة وإباية، وعظمة وشرف وكرم وترفع عن الدنايا. ولا ينكر تأثير اسم العائلة وتاريخها ومشاهدة حال أفرادها - في أبنائها. وأنا أعرف شخصاً ما قرأ العلم ولا اجتهد فيه - في أول أمره - إلا لعلمه بأن أجداده كانوا علماء. وهذه العظمة هي أساس القوة. مظاهر رحمته: كانت رحمته بالمرسل إليهم: فأدمي ساقه، وشج وجهه، وكسرت رباعيته- وهو يقول: «اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون». وقال تعالى في رحمته بمن أرسل إليهم: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ "قاتل" نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} وكان كما قال تعالى: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} ورحمته للعالم كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}.

مظاهر قوته

مظاهر قوته: كانت قوته لتحمل أعباء الرسالة وتبليغها للخلق، قوة أدبية وقوة حربية. فمن الأولى ثباته في مواقف التبليغ. كقوله لعمه أبي طالب - وقد فهم منه أنه ضعف عن نصره وأنه مسلمه-: «يا عم والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته». ومن الثانية في ميادين القتال ومواقف البأس كما ولى عنه الناس يوم حنين - وهو يقول راكبا على البغلة التي لا يركبها إلا من لا يفر-: «أَنَا النَّبِيُّ لاَ كَذِبْ…أَنَا ابْنُ عَبْدِ المُطَّلِبْ» معلنا مكانه مظهرا نفسه أمام الأعداء الآتين من كل صوب. آثار القوة والرحمة في أخلاقه: كان- صلى الله عليه وآله وسلم- صادقا أمينا عادلا، معروفا بهذه الصفات بين قومه قبل نبوته. الأمانة: هي حفظ الشخص ما استودع، وأول ذلك حفظه نفسه فيثق به الناس في حفظ ما يستودعونه. وقد كانت قريش- وهي كافرة به- تودع عنده أموالها. ولما خرج مهاجرا ومعه الصديق رضي الله تعالى عنه خلف ابن عمه حيدرة علي بن أبي طالب كرم الله وجهه لينام على فراشه معرضا نفسه لسيوف قريش المتآمرين على قتل النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- في تلك الليلة، وليرد أمانات الناس إليهم ويلحقه بأهله.

الصدق

الصدق: هو قول الحق في جميع المواطن. وقد شهد له أبو سفيان - وهو إذ ذاك أكبر عدو له- في مجلس قيصر بالصدق: سأله قيصر هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال (أبو سفيان): لا. قال قيصر: قد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله. العدل: وهو الإنصاف في الحكم. وقد رضيت به قريش حكما بين كبرائها لما تنازعوا في رفع الحجر الأسود إلى محله أيام جددوا بناء الكعبة. ذلك لما عرفوا من عدله. والرحمة والقوة أساسان لهاته الأخلاق. فمن الرحمة بالنفس وبصاحب الشيء، ومن القوة على النفس وعلى النزعات والعواطف تكون الأمانة، ومن الرحمة بالمظلوم والقوة على الظالم يكون الحكم العادل. فإن القاسي العديم الرحمة لا يبالي بالمظلوم وأن الضعيف تكسره رهبة الظالم عن الصدع بالحكم ويقصر عن تنفيذه - وضعيف القلب تؤثر عليه المؤثرات حتى مرققات العواطف، ولهذا قال جمهور أئمة الإسلام: أن المرأة لا تصلح للحكم لرقة عواطفها وضعف قلبها. فقد تخدعها الدموع الكواذب، وقد تميل بها عاطفة الحب والقرابة. والصدق- وهو من مقتضيات الأمانة لأنه حفط اللسان- لا يقوم به إلا رحيم بالسامعين يشفق عليهم لا يخدعهم، قوي شجاع لا يبالي في قول الحق بهم. إهتمامه بالخلق: كان هذا العظيم النفس الرقيق القلب، الرجل القوي الرحيم - يرى انحطاط قومه في المعتقد والأخلاق والمجتمع

إنقباضه عنهم

فتسمو به نفسه العظيمة عن البقاء في تلك البيئة المنحطة والوسط المريض. وتأبى عليه رحمته أن يتركهم فيما هم عليه فكان دائم الاهتمام بهم، دائم التفكير في الطريق الذي يسلكه لإنقاذهم. إنقباضه عنهم: كان ينعزل عنهم ويذهب إلى غار حراء الليالي العديدة حاملا عبء همه غارقا في تفكيره. ولم يكن اختلاؤه في غار حراء مثل اختلاء متصوفة الهند الذين ينعزل أحدهم عن الناس ويذهب في أودية الخيال لتحصيل حالة نفسية خاصة به يعدها نعيما روحيا. بل كان اختلاؤه وانعزاله للتفكير في طريق خلاص العالم من الضلال والقيام بخدمة عظيمة عامة للبشر. وشتان ما بين الحالتين. نبوته: جاءه جبريل بالوحي وهداه الله بالنبوة إلى طريق الخلاص وشرح صدره لما جاءه من الحق، ووضع عنه عبء ذلك الهم الثقيل وبعثه للعالمين بشيرا ونذيرا. الرحمة والقوة في شريعته: ولو تتبعت أصول شريعته وفروعها وآدابها لوجدتها كلها مبنية على أساسي الرحمة والقوة. فليس من الإسلام ذلك التماوت وذلك التمسكن الذي يتظاهر به بعض الناس. وقد قال عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- وقد رأى قوما من هذا الصنف: "لا تميتوا علينا ديننا أماتكم الله"، وقالت عائشة- رضي الله تعالى عنها- وقد رأت قوما يتماوتون في مشيتهم

من هؤلاء؟ فقيل لها قوم من القراء، فقالت: (لقد كان عمر سيد القراء وكان إذا مشى أسرع، وإذا تكلم أسمع، وإذا ضرب أوجع). ولو بحثت عن أسباب انتشار المملكة الإسلامية المبنية على الشريعة المحمدية لوجدت أصل تلك الأسباب هذين الأساسين: الرحمة والقوة. فإن الضعيف مغلوب، وإن القاسي مبغوض، ولا يسود ويحب -كما كان للإسلام- إلا القوي الرحيم. رزقنا الله القوة في قلوبنا وعقولنا وأرواحنا وأبداننا. وأشعرنا الرحمة بأنفسنا وببعضنا وبغيرنا، إنه القوي المتين، الرحمن الرحيم (1).

_ (1) ش: ج 9، 10، م 5 - جمادى الأولى 1318ه - أكتوبر نوفمبر 1929م.

على ذكرى المولد النبوي الشريف

على ذكرى المولد النبوي الشريف التجدد في كل مولد ــــــــــــــــــــــــــــــ ما كانت هذه الدار الدنيا دار بقاء وإنما هي دار فناء. وما بقيت عناصرها المادية في الوجود إلا بما أجراه الله عليها من سنة التجديد في الخلق ليقوم الجديد مقام ما أتى عليه الفناء. وهذا الإنسان المثال المصغر من العالم الأكبر قال فيه العلماء: إنه في كل سبع سنوات تفنى جميع أجزائه المادية وتخلفها أجزاء أخرى. فذاته على رأس السنوات السبع اللاحقة غير ذاته على رأس السنوات السبع السابقة، وهكذا حتى يستكمل ما قدر له من البقاء في الدنيا. وتاريخ البشرية من أقدم عصورها يدل على أنها لم تفارقها هذه السنة: سنة التجديد إثر الفناء. وقد كان الأنبياء والمرسلون عليهم الصلاة والسلام، هم أساس كل تجديد في تاريخ البشرية كلٌّ في الأمة التي أرسل إليها. حتى إذا كان الفساد العام في شؤون الدنيا بطواغيت الملك، وفي شؤون الدين بطواغيت الكهنوتية، وفنيت معالم الحضارة

بمثل الحروب الرومانية الفارسية واندثرت حقائق الدين وشوهت بالمجادلات المذهبية، والرسوم والأوضاع البدعية - حتى إذا كان هذا الفساد والفناء العامان أرسل الله تعالى محمد بن عبد الله بن عبد المطلب رحمة للعالمين بالتجديد العام. فيوم ولادته -صلى الله عليه وآله وسلم- هو يوم ولد في العالم ولادة جديدة. فلنجعل يوم ولادته من كل عام يوما نعزم فيه على تجديدنا تجديدا روحيا وعقليا وأخلاقيا وعمليا وتاريخيا تجديدا إسلاميا محمديا في جميع ذلك. لنولد في عامنا الجديد ولادة جديدة وهكذا نجدد ونتجدد في كل ذكرى مولد. علينا أن نتفقد عقائدنا وأخلاقنا وأعمالنا ونعزم فيما اندثر منها على التجديد، ولنعين بعضها ولنجعله على الخصوص محل العناية الكبرى بالتجديد منا حتى نحاسب أنفسنا عليه في الذكرى الآتية. أما كاتب هذه السطور فقد عزم على تجديد ما فني من قلوب المسلمين من عقيدة "إنهم بالإسلام هم أفضل الأمم" ليدعوهم بذلك إلى التمسك بأخلاق الإسلام وآداب الإسلام وعدل الإسلام وإحسان الإسلام. إذ في ذلك سعادتهم وسعادة البشرية كلها ممهم وافه المستعان (1).

_ (1) ش: ج 7، م 10 - غرة ربيع الأول 1353ه - 14 جوان 1934م.

محمد -صلى الله عليه وآله وسلم-

محمد -صلى الله عليه وآله وسلم- رجل القومية العربية ــــــــــــــــــــــــــــــ لا يستطيع أن ينفع الناس من أهمل أمر نفسه. فعناية المرء بنفسه -عقلا وروحا وبدنا- لازمة له ليكون ذا أثر نافع في الناس على منازلهم منه في القرب والبعد، ومثل هذا كل شعب من شعوب البشر لا يستطيع أن ينفع البشرية ما دام مهملا مشتتا لا يهديه علم، ولا يمتنه خلق، ولا يجمعه شعور بنفسه ولا بمقوماته ولا بروابطه. وإنما ينفع المجتمع الإنساني ويؤثر في سيره من كان من الشعوب قد شعر بنفسه فنظر إلى ماضيه وحاله ومستقبله، فأخذ الأصول الثابتة من الماضي، وأصلح من شأنه في الحال، ومد يده لبناء المستقبل يتنأول من زمنه وأمم عصره ما يصلح لبنائه معرضا عما لا حاجة له به أو ما لا يناسب شكل بنائه الذي وضعه على مقتضى ذوقه ومصلحته. فمحمد- صلى الله عليه وآله وسلم- وهو رسول الإنسانية كانت أول عنايته موجهة إلى قومه، وكانت دعوته على ترتيب حكيم بديع لا يمكن أن يتم إصلاح إنسانيا أو شعبيا إلا بمراعاته فكان "أول دعوته -صلى الله عليه وآله وسلم- لعشيرته، لقوله تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} فلما نزلت صعد الصفا ثم نادى «يا صباحاه» - وكان دعوة الجاهلية إذا دعاها

الرجل اجتمعت إليه عشيرته - فاجتمعت إليه قريش عن بكرة أبيها، فعم وخص فقال: «أرأيتكم لو أخبرتكم أن العدو مصبحكم أكنتم مصدقي». قالوا ما جربنا عليك كذبا. قال: «فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد. يا بني كعب ابن لؤي، يا بني مرة بن لؤي، يا آل عبد شمس، يا آل عبد مناف، يا آل هشام، يا آل عبد المطلب، ياصفية، يا فاطمة، سلوني من مالي ما شئتم، وأعلموا أن أوليائي يوم القيامة المتقون، فإن تكونوا يوم القيامة مع قرابتكم فذلك، وإياي، لا يأتي الناس بالأعمال وتأتون بالدنيا تحملونها على أعناقكم فأصد بوجهي عنكم فتقولون يا محمد فأقول هكذا - وصرف وجهه إلى الشق الآخر - غَيْرَ أَنَّ لَكُمْ رَحِمًا سَأَبُلُّهَا بِبَلَالِهَا ... » ثم وجه دعوته إلى بقية العرب لقوله تعالى: {لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ} وهم عامة العرب، فكان يعرض نفسه على قبائل العرب في مواسم الحج وما يتصل بها من أسواقهم، ثم عمم دعوته لقوله تعالى: {لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} فكاتب ملوك الأمم وقد عمت دعوته العرب وتهيأ أمرهم لعموم دخولهم في الإسلام، وكان ذلك أيام هدنته مع قريش قبيل فتح مكة. ثم تجد أكثر السور المكية قد وجه فيها الخطاب إلى قريش وإلى العرب وعولجت فيه مفاسدهم الاجتماعية وضلالاتهم الشركية، وما كان منهم من تحريف وتبديل لملة إبراهيم، فكان أول الإصلاح متوجها إليهم ومعنيا بهم حتى ينتشلوا من وهدة جهلهم وضلالهم وسوء حالهم وتستنير عقولم وتتطهر نفوسهم وتستقيم أعمالهم فيصلحوا لتبليغ دين الله وهدى رسوله- صلى الله عليه وآله وسلم- للأمم بالقول والعمل. ثم لأجل أن يشعروا بأن القرآن هو كتاب هداية لهم كلهم، وأن الرسول لهم كلهم، أنزل القرآن على سبعة أحرف، فعم جميع لهجاتهم، وكان النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- يخاطبهم بتلك اللهجات وينطق بالكلمات

منها ليس من لهجة قريش. وكان في هذا ما أشعرهم بوحدتهم بالتفافهم حول مركز واحد ينتهون كلهم إليه ويشتركون فيه. وقد نبه على هذا المعنى قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} فأخبره أن القرآن شرف له ولقومه- نزل بلغتهم ونهض بهم من كبوتهم وأخرجهم من الظلمات إلى النور وهيأهم لهداية الأمم وإنقاذها من الهلاك وقيادتها لعزها وسعادتها- وأنهم يسئلون عن هذه النعمة. يقول هذا ليعملوا بالقرآن ويعلموا أن شرفه إنما هو للعالمين. على أن العرب رشحوا لهداية الأمم التي تدين بالإسلام وتقبل هدايته ستتكلم بلسان الإسلام وهو لسان العرب فينمو عدد الأمة العربية بنمو عدد من يتكلمون لغتها، ويهتدون مثلها بهدي الإسلام. علم هذا فبين أن من تكلم بلسان العرب فهو عربي وإن لم يتحدر من سلالة العرب، فكان هذا من عنايته بهم لتكثير عددهم لينهضوا بما رشحوا له. بين هذا في حديث رواه ابن عساكر في تاريخ بغداد بسنده عن مالك الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: (جاء قيس بن مطاطية إلى حلقة فيها سلمان الفارسي وصهيب الرومي وبلال الحبشي فقال: هذا الأوس والخزرج قد قاموا بنصرة هذا الرجل "يعني النبي صلى الله عليه وسلم" فما بال هذا "يعني الفارسي والرومي والحبشي ما يدعوهم إلى نصره وهم ليسوا عربا مثل قومه" فقام إليه معاذ بن جبل- رضي الله عنه - فأخذ بتلبيسه (ما على نحره من الثياب) ثم أتى النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- فأخبره بمقالته، فقال النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- مغضبا يجر ردائه (لما أعجله من الغضب) حتى أتى المسجد ثم نادى: "الصلاة جامعة" (ليجتمع الناس)، وقال- صلى الله عليه وآله وسلم-: «أيها الناس، الرب واحد

والأب واحد، وأن الدين واحد، وليست العربية بأحدكم من أب ولا أم، وإنما هي اللسان، فمن تكلم بالعربية فهو عربي»، فقام معاذ فقال: فما تأمرني بهذا المنافق يا رسول الله؟ قال: «دعه إلى النار» فكان قيس ممن ارتد في الردة فقتل. تكاد لا تخلص أمة من الأمم لعرق واحد، وتكاد لا تكون أمة من الأمم لا تتكلم بلسان واحد، فليس الذي يكون الأمة ويربط أجزاءها ويوحد شعورها ويوجهها إلى غايتها هو هبوطها من سلالة واحدة، وإنما الذي يفعل ذلك هو تكلمها بلسان واحد: ولو وضعت أخوين شقيقين يتكلم كل واحد منهما بلسان وشاهدت ما بينهما من اختلاف نظر وتباين قصد وتباعد تفكير، ثم وضعت شاميا وجزائريا- مثلا- ينطقان باللسان العربي ورأيت ما بينهما من اتحاد وتقارب في ذلك كله، لو فعلت هذا لأدركت بالمشاهدة الفرق العظيم بين الدم واللغة في توحيد الأمم. فانظر بعد هذا إلى ما قرره هذا النبي الكريم، رسول الإنسانية، ورجل القومية العربية، في الحديث المتقدم، فقضى بكلمته تلك على العصبية العنصرية الضيقة المفرقة، فنبه على تساوي البشر في أنهم كلهم مخلوقون لله، فربهم واحد، وأنهم كلهم كل من عنصر واحد فأبوهم آدم واحد، وذكر بأخوة دين الإسلام دين الأخوة البشرية والتسامح الإنساني، ثم قرر قاعدة عظمى من قواعد العمران والاجتماع في تكوين الأمم، ووضع للأمة العربية قانونا دينيا اجتماعيا طبيعيا لتتسع دائرتها لجميع الأمم التي رشحت لدعوتها إلى الإسلام بلغة الإسلام. وقد كان ذلك من أعظم ما سهل نشر الهداية الإسلامية وتقارب عناصر البشرية وامتزاجها بعضها ببعض حتى كان ثمرة اتحادها

وتعاونها ذلك التمدن الإسلامي العربي الذي أنار العالم شرقا وغربا، وكان السبب في نهضة الغرب والأساس لمدنية اليوم. وبذلك أيضا كانت الأمة العربية اليوم تجاوز السبعين مليونا عدا لا تخلو منهم قارة من قارات المعمور. كون رسول الإنسانية ورجل القومية العريبة أمته هذا التكوين المحكم العظيم ووجهها لتقوم للإسلام والبشرية بذلك العمل الجليل. فلم يكونها لتستولي على الأمم، ولكن لتنقذهم من سلطة المتسولين باسم الملك أو باسم الدين. ولم يكونها لتستخدم الأمم في مصالحها، ولكن لتخدم الأمم في مصالحهم. ولم يكونها لتدوس كرامة الأمم وشرفها ولكن لتنهض بهم من دركات الجهل والذل والفساد، إلى درجات العز والصلاح والكرامة. وبالجملة: لم يكونهم لأنفسهم بل كونهم للبشرية جمعاء. فبحق قال فيهم الفيلسوف العظيم غوستاف لوبون: "لم يعرف التاريخ فاتحا أرحم من العرب"، نعم لأنهم فتحوا فتح هداية لا فتح استعمار، وجاءوا دعاة سعادة لا طغاة استعباد. هذا هو رسول الإنسانية ورجل القومية العربية الذي كان له الفضل -بإذن الله- عليهما، ويشهد المنصفون من غير العرب وغير المسلمين له بهذا الفضل، ويتغنى العرب غير المسلمين بذكره. وكم دبجت أقلام الكتاب والشعراء من إخواننا نصارى العرب بالشرق من حلل البيان في الثناء عليه والإشادة بفضله. هذا هو رسول الإنسانية ورجل الأمة العربية الذي نهتدي بهديه، ونخدم القومية العربية خدمته، ونوجهها توجيهه، ونحيا لها ونموت عليها، وإن جهل الجاهلون ... وخدع المخادوعون ... واضطرب المضطربون ...

وإلى أعتابه الكريمة نتقدم بهذه الكلمة في مولده الشريف، الذي هو عيد الإسلام والعروبة والإنسانية كلها (1) عاد الله فيه باللطف والرحمة على الجميع (2).

_ (1) كتب الأستاذ الإمام هذا الموضوع المولدي على غرار موضرع " العرب في القرآن" تفنيدا لمحاولات المسخ والتشويه والتغريب .. التي كان يقوم بها الاستعماريون -خداعا وتضليلا- فهو رجل الإسلام والقرآن، يكتب عن العرب من الناحية التي تخدم الإسلام والقرآن .. (2) ش: ج 3، م 12 - غرة ربيع الأول 1355ه - جوان 1936م.

إلى محمد أيتها الإنسانية

إلى محمد أيتها الإنسانية … أيها المسلمون! ……… أيها العرب! ………… أيها البشر! ــــــــــــــــــــــــــــــ أيها المسلمون! في مثل هذا اليوم انبثق النور الذي هداكم الله به إلى الإسلام، فأخرجكم من الضلمات إلى النور وجعلكم خير أمة أخرجت للناس مادمتم تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله، فعودوا بالذكرى إلى حياة هذا النبي الكريم، فاستمدوا منها نور إيمانكم، وجددوا بها صرح توحيدكم، وحصنوا بها قلوبكم من جهالات الغفلة وظلمات الشرك ونزغات الشياطين، وانظروا إليه في نشأته، وقبل نبوته، كيف كان بعيدا عن حياة الجاهلية وهو بين أهله، كيف كان يتوجه إلى الله، والعرب غارقة في وثنيتها، وكيف كان يحمل مما يرى من الشرك والضلال أثقالا ينوء بحملها، حتى جاءه الحق الصريح، والهدى البين، والنبأ الصادق، والرسالة العامة، فقام بأعباء ما حمل، مبلغا عن الخالق، شاهدا على الخلق، مبشرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، فجاهد وجالد وصبر وصابر، وقضاها ثلاثا وعشرين سنة،

مثالا أسمى للإحسان والكمال ونورا ساطعا للأجيال، حتى تمم الله النعمة وأكمل الدين، ودخل الناس في دين الله أفواجا، وتركها بيضاء نقية لن يهلك عليها إلا هالك. فإلى هذا الطريق أيها المسلمون، ففيه نجاتكم وسعادتكم إلى يوم الدين. أيها العرب: في مثل هذا اليوم ولد النبي العربي، فتفتحت العروبة عن زهرة ماضميها، وبذرة مستقبلها، فوصل الله به مجدكم القديم بمجدكم الحديث، وأشاع لغتكم في الألسنة وتفكيركم في العقول، وعنصركم في الأمم، فخلدتم في التاريخ، خلود التاريخ، وبقيتم على الزمن، بقاء الزمن، فعودوا بالذكرى إلى حياة هذا العربى العظيم، كيف نشأ في صميم العروبة، وترعرع في أحضانها، ودرج على الكريم الصلب من أخلاقها، فحدب عليها، عمره كله، يهديها ويحوطها ويجمع أشتاتها ويؤلف وحدتها، يكونها ليكون الله الأمم بها، ويرشحها للسيادة، لتسود بها البشرية جمعاء. فما فارق الدنيا حتى تركها أمة شعرت بعزتها، وعرفت غايتها، وأخدت للحياة عدتها، وتقدمت للبشرية تحمل مشاعل العلم والحرية والإخاء العام، فمن حياة هذا العربي الصميم، استمدوا- أيها العرب- حياتكم، وعلى ما شاده من ماضيكم، ابنوا حاضركم ومستقبلكم ومن تاريخه الحافل، استوحوا مناهج حياتكم، ومن سيرته الجليلة، اجمعوا عناصر نهضتكم ومواد بنائكم القومي، فلسانه لسانكم، وقوميته قوميتكم، وتاريخه تاريخكم، فاتخذوه مثلكم الأسمى في الحياة، تتخذكم الحياة مثلما كنتم، مثلها الأسمى وقادتها الراشدين. أيها البشر: في مثل هذا اليوم، ولد محمد بن عبد الله ابن عبد المطلب فولدت الإنسانية ولادة جديدة وأشرق على الكون نور لم يلح من قبل، أضاء لبني آدم طريق العلم والعمل والحرية

والسلام في حظيرة الإخاء العام، فعودوا بالذكرى، إلى حياة هذا الرجل الإنساني، كيف ارضعته بدوية عربية وحضنته أمة حبشية، وتبنى مملوكا رقيقا ثم اتخذه أخا ومولى، ثم عقد ألوية الإمارة للموالي على العرب، غير مرة، وأدنى بلالا الحبشي وسلمان الفارسي وصهيبا الرومي، لفضلهم وسابقتهم على كثير من كبراء العرب وساداتهم وذاق آلام الإنسانية في اليتم والفقر والفقد، وباشر العمل في الرعى وتاجر، وبلا الحياة في الشدة والرخاء والسلم والحرب، فقضى حياته يرفع طبقات وضعها الظلم والجهل، ويخفض طبقات رفعها الطغيان والجبروت حتى سوى بين بني آدم، في الكرامة البشرية، وأسقط اعتبار الأجناس والألوان في الأفضلية، وأعلن أن لا فضل لأحد على أحد إلا بتقوى الله، فعودوا إلى الأصول التي جاء بها هذا الرجل، إنها جربت، فصحت تجربتها، فقد بنيت عليها مدنية، ما في مدنية اليوم من خير هو من أثرها. ولن تسعد الإنسانية إلا بالاحترام والتسامح والتعاون وبالوفاء في التعاقد. وتلك أمهات مما جاء به، فاتبعوه تعيشوا في رغد آمنين (1).

_ (1) البصائر العدد 164 السنة الرابعة 13 ربيع الأول 1358ه الموافق لـ 5 مايو 1939م.

تحية المولد الكريم

تحية المولد الكريم ألقيت ليلة حفلة جمعية التربية والتعليم الإسلامية بقسنطينة ــــــــــــــــــــــــــــــ حييت يا جمع الأدب … ورقيت سامية الرتب وَوُقِيتَ شر الكائديـ … ـن ذوي الدسائس والشغب ومنِحْت في العلياء ما … تسمو إليه من أرب أحييت مولد من به … حيِي الأنام على الحِقَبْ أحييت مولده بما … يُبري النفوس من الوصب بالعلم والآداب والـ … ـأخلاق في نشء عجب نشء على الاسلام أسـ … ـس بنائه السامي انتصب نشء بحُبِّ محمد … غذاة أشياخ نجب فبه اقتدى في سيره … وإليه بالحق انتسب وعلى القلوب الخافقا … ت إليه رايته نصب بالروحِ يفديها وما … يغرى النفوس من النشب وبخلقه يحمي حما … ها أو ببارقة القضُبْ

حتى يعودَ لقومه … من عزهم ما قد ذهبْ ويرى الجزائرَ رجعت … حقَ الحياةِ المستلب يا نشءً يا ذخر الجزا … ئر في الشدائد والكُرَب صدحت بلابلك الفصا … حُ فعم مجمعنا الطرب وأذقتنا طعما من الـ … ـفصحى أَلذ من الضرَب وأريت للأبصار ما … قد قررته لك الكتب: "شعبُ الجزائر مسلم … وإلى العروبة ينتسبْ" "من قال حال عن أصله … أو قال مات فقد كذب" "أو رام إدماجا له … رام المحال من الطلبْ" يا نشءُ أنت (رجاؤنا) … وبك (الصباح) قد اقترب خذ للحياة سلاحها … وخض الخطوب ولا تهب وارفع منار العدل والـ … ـإحسان واصدم من غصبْ وأذق نفوس الظالميـ … ـن السم يمزَجُ بالرهبْ واقلع جذورَ الخائنيـ … ـن فمنهمُ كل العطبْ واهزز نفوس الجامديـ … ـن فربما حيِيَ الخشب يا قومُ هذا نشؤكم … وإلى المعالي قد وثبْ كونوا له يكن لكم … وإلى الأمام ابنا وأب

نحن الأولى عرف الزما … ن قديمنا الجم الحسب ومَعين ذاك المجد في … نسلِ العروبة ما نضَب وقد انتبهنا للحيا … ة آخدين لها الأهبْ لنحل مركزنا الذي … بين الأنام لنا وجب فنزيد في هذا الورى … عضوا شريفا منتخبْ ندعو إلى الحسنى ونو … لي أهلهَا منا الرغب من كان يبغى وُدنا … فعلى الكرامة والرحبْ أو كان يبغى ذلنا … فله المهانة والحرب هذا نظامُ حياتنا … بالنور خُط وباللهب هذا لكم عهدي به … حتى أوَسدَ في الترَبْ فإذا هلكتُ فصيحتي … تَحْياَ (اَلجزَائِرُ) و (العرب)

_ (1) ش: ج 4، م 13. قسنطينة يوم الاثنين 13 ربيع الاول 1356ه- 11 جوان 1937م.

القومية والإنسانية

القومية والإنسانية ألقيت ليلة احتفال جميعية التربية والتعليم الإسلامية بالمولد الشريف - بقسنطينة ــــــــــــــــــــــــــــــ الحمد لله ثم المجد للعربِ … مَن أنجبوا لبَنِى الإنسان خيرَ نبيِ ونشروا ملة في الناس عادلةً … لا ظلمَ فيها على دين ولا نسَبِ وبذلوا العلم مجانا لطالبه … فنال رُغْبَاهُ ذو فقر وذو نشَبِ وحرروا العقلَ من جهل ومن وهَم … وحرروا الدينَ من غِش ومن كذِبِ وحرروا الناسَ من رق الموك ومن … رق القَداسة باسم الدين والكتبِ قَومي هم وبنُو الانسان كلهُم … عشيرتي، وهدى الاسلام مطلبِى أدعو الى الله لا أَدعو الى أحد … وفي رضى الله مما نرجو من الرغَبِ (1)

_ (1) ش: ج 3، م 14، غرة ربيع الأول 1357ه - فيفرى 1938م.

السياسة في نظر العلماء هي التفكير والعمل والتضحية

السياسة في نظر العلماء هي التفكير والعمل والتضحية بهذه الأبيات ختم الأستاذ عبد الحميد بن باديس خطابه التاريخي في الجلسة الختامية للمؤتمر الثاني لجمعية العلماء في سنة 1937م. (*) ــــــــــــــــــــــــــــــ أشعب الجزائر روحي الفدى … لما فيك من عزة عربية بنيت على الدين أركانها … فكانت سلاماً على البشرية خلدتم بها وبكم خلدت … بهذي الديار على الأبدية فدوموا على العهد حتى الفنا … وحتى تنالوا الحقوق السنية تنالونها بسواعدكم … وإيمانكم والنفوس الأبية فضحوا وها أنا بينكم … بذاتي وروحي عليكم ضحية ) 5 (ض: ج هـ م 13، غرة جمادلى الثانية 1356 ص أوت 1937 م. أدرجناما لامميتها ولان الاستاذ أ الامام لم نرف عنه فى هجال المنظوم غير ما أوركل نا فى هذا ال! تاب.

إشهدي ياسما

إشهدي ياسما اِشْهَدِي يَاسَمَا … وَاكْتُبَنْ يَا وُجُودْ أَنناَ لِلحِمَى … سنكُونُ الجنُودْ فنَزيحُ البلاَ … ونَفُك الْقيُودْ وننُيلُ الرِضَى … مَن وَفَى بالعهُودْ ونُذِيقُ الرَّدَى … كُل عَاتِ كَنُود فيَرىَ جيلُنا … ذِكْريَاَتِ الجُدود ويَرى قومُنا … خافِقاتِ البُنُودْ وَيرَى نَجمُنا … لِلعُلا في صُعُود فتَضُمُّ اسمَناَ … صفحاتُ الخلود هَكذَا هَكَذَا … هَكَذا سَنَعُود فَاشهَدي يَاسَمَا … واكتُبَنْ ياَوجودْ أَنَناَ للْعُلاَ … أَننًا للخُلودْ (*)

_ (1) هذ النشيد ارتجله الأستاذ الشيخ عبد الحميد بن باديس في حفل أقامته مدرسة الترببة والتعليم بقسنطينة يوم 27 رمضان 1356ه بمناسبة إحياء ليلة القدر، وقد أدرجناه لأميته. نشر في جريدة البصائر عدد 92 بتاربخ 20 شوال 1356ه 24 ديسمبر 1937م.

ملحقات

ملحقات

درس ختم الموطأ

دَرْسُ خَتْمِ الْمُوَطَّأِ كما نقله في وقت الإلقاء بعض التلامذة وقد اجتهد أن يؤدي أغلب المقصود. ــــــــــــــــــــــــــــــ أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. وَبِهِ ثِقَتِي وَأَسْتَعِينُ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ الْأَسْعَدِ الْكَرِيمِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا. الْحَمْدُ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ. بالسند المتصل إلى الإمام أبي عبد الله مالك بن أنس- رضي الله عنه- قال: (أَسْمَاءُ النَّبِيِّ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-) وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ أَنَّ النَّبِيَّ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «لِي خَمْسَةُ أَسْمَاءٍ: أَنَا مُحَمَّدٌ وَأَنَا أَحْمَدُ وَأَنَا الْمَاحِي الَّذِي يَمْحُو اللهُ بِيَ الْكُفْرَ وَأَنَا الْحَاشِرُ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى قَدَمِي وَأَنَا الْعَاقِبُ». ... السند: روى مالك هذا الحديث مرسلا، ورواه عنه كذلك يحيى بن يحيى والأكثرون، وجاء مرويا عنه مسندا عن محمد

المتن

ابن جبير بن مطعم عن أبيه وكثيرا ما يروي مالك الحديث مسندا ومرسلا. ولا يرسل مالك ولا يأتي ببلاغ في الغالب إلا وهو على علم بمن يترك من السند أنه محل الثقة والقبول والاعتماد. فأما إذا شك فإنه يصرح بشكه. وتصريحه بالشك حين يشك يدلنا على ما عنده من العلم واليقين عندما يسكت دون أن يصرح بالراوي. ومن الدليل على أنه إذا كان على شك من الأمر يصرح ما تقدم لنا قريبا في باب التعفف عن المسألة، فلما روي عن العلاء بن عبد الرحمن قوله: ((ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبداً بعفو إلاَّ عزَّ وما تواضع عبد إلا رفعه الله)) قال لا أدري أيرفع هذا الحديث إلى النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- أم لا. ثم إن هذا الحديث قد جاء مسندا في الصحيحين وغيرههما. ... المتن: في قوله- صلى الله عليه وآله وسلم- لي خمسة أسماء، مفهومان: مفهوم الحصر ومفهوم العدد. فأما الأول: فمن تقديم الجار والمجرور، وأما الثاني: فمن لفظ خمسة، لكن المفهومين ليسا سواء، فإن مفهوم العدد- غير معتبر كما هو أصح الأقوال، نعم يسئل عن وجه الاقتصار على هذا العدد إذ كان هناك غيره، فإن النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- له أسماء كثيرة قد أنهاها بعضهم إلى الألف. فاقتصاره هنا على ذكر خمسة لا بد أن يكون لوجه اقتضى الاقتصار عليها. ووجه ذلك أنها هي التي سمي بها في الكتب المنزلة. وهي الخمسة التي يختص بها وليس لغيره ألفاظها ولا معانيها كما سيتبين. وإذا كان سمي بغيرها في الكتب المتقدمة فهذه هي الأشهر والأكثر وكفى بهذا الذي ذكرنا وجها لتخصيصها بالذكر.

وأما مفهوم الحصر في قوله لي خمسة أسماء أي ليست لغيري فهو مفهوم معتبر وهو حصر صحيح ثابت من جهة المعنى ومن جهة اللفط. فأما الأول: فإننا نجد معانيها ليست إلا له- صلى الله عليه وآله وسلم- مختصا بها بين إخوانه من الأنبياء والمرسلين- عليهم الصلاة والسلام- وهم المشاركون له في الكمالات ولكن الله يفضل منهم من يشاء بما يشاء لا لنقص في الفضل عليه ولكن لخصائص زائدة في المفضل، وأما الثاني: فكذلك أيضا على ما سنبين. ـ[«أَنَا مُحَمَّدٌ»]ـ: مشتق من الحمد، والحمد هو الثناء بذكر الكمالات والصفات الفاضلة المشتملة على ما هو من صفات الذات، أو من صفات الأفعال وعلى ما هو من باب الكمالات أو من باب الإنعام. وإنما يعبر من الثناء ما كان حقا وصدقا بمطابقته للواقع وبمطابقته لما في القلب. ومحمد: اسم مفعول من حمد المضاعف العين، وهو يقتضي التكثير، فالحمد هو ذو الخصال الكثيرة الحميدة التي تقتضي حمده مرة بعد أخرى. فالمحمود هو من وقع عليه الحمد ولو مرة وأما المحمد فالذي يكثر حمده. وهو في الأصل صفة وقد نقل من الوصفية إلى العلمية وجعل دالا على الذات المسماة بهذا الاسم. والمسمى له بهذا الاسم هو جده عبد المطلب بإلهام من الله. والإلهام من الله هو ما يوفق الله إليه العبد ويهديه إليه دون علم سابق ولا دليل ظاهر، وإنما هي هداية ربانية تكون بإرشاد القلب إلى الشيء الملهم إليه. فهذا الاسم النبوي علم منقول من الصفة وهو وإن كان موضرعا للذات، فإن الواضع يلاحظ عند الوضع معنى تلك الصفة التي نقل منها. ويدل لهذا ما جاء أن عبد المطلب لما سئل عن تسمية ابنه بهذا الاسم ولم يكن

من أسماء آبائه وأجداده، ومن عاداتهم أن يحيوا ذكر آبائهم وأجدادهم بتسمية أبنائهم بأسمائهم. أجاب إني لأرجو أن يحمده أهل الأرض كلهم. فدل هذا على أن العربي الواضع للعلم الوصفي يلاحظ معناه لما كان صفة، وبهذا يكون الاسم وغيره- مع العلمية- منطويا ومشتملا على الثناء عليه. ولهذا يعبر القاضي عياض بقوله: "فمن خصائصه تعالى له- صلى الله عليه وآله وسلم- أن ضمن أسماءه ثناءه، فطوى أثناء ذكره، عظيم شكره" وما كانت الأسماء منطوية على الثناء إلا مع ملاحظة ما كانت عليه قبل العلمية. والثناء الذي يشتمل عليه هذا الاسم الشريف هو ما دل عليه من كثرة خصاله التي يحمد عليها ويكون حمده عليها متجددا. وهذا قد تحقق وهو واقع مشاهد فإنه- صلى الله عليه وآله وسلم- قد حمده الخلق ويمحدونه دنيا وأخرى ويزداد ذلك في المواطن التي يزداد علم الناس بما أعطاه الله من كمالات وما أظهر على يده من إنعامات ويزداد علمهم بذلك بقدر ما يزداد تقدمهم في العلم والمعرفة، حتى أننا نرى في عصرنا هذا من غير المسلمين ممن ينصفونه فيذكرون من كمالاته والخير الذي أصاب البشرية على يده، فيشكرونه ويكررون الثناء عليه. فأما من أهل الإيمان به فهو كثير شهير، ثم إن الخلق كلهم يوم القيامة يحمدونه بما يشاهدون من النعم التي أعظمها وأجلها موقفه في الشفاعة العامة، فيحمدونه الحمد المتجدد المتكرر عندما يشاهدون ما لم يكونوا من قبل يعرفون. ـ[«وَأَنَا أَحْمَدُ»]ـ: وهو مشتق أيضا من الحمد، غير أن فعله حمد السالم المسند إلى الفاعل، وهو علم منقول من اسم التفضيل، والأحمد هو الأكثر حمدا من غيره. وقد علمنا أن النقل تصحبه تلك الملاحظة، فقد سمي أحمد على اعتبار أنه أكثر الخلق حمدا

لله، فالخلق كلهم يحمدون الله بلسان الحال أو بلسان المقال. وهو أكثرهم حمدا لله على كل حال. هذا وقد ذهب قوم إلى أن أحمد من فعل حمد المبني للغائب على معنى أنه أكثر محمودية من غيره. وتنتفي مرادفته للأول بجعل الأول راجعا للملكية أي لكثرة الصفات التي يحمد عليها، وجعل هذا راجعا للكيفية أي أفضلية ما يحمد به. والذي يقرر هذا هو الإمام ابن قيم الجوزية ويقول في تقريره: "لو كان أحمد من المبني للفاعل لكان الأولى أن يسمى حمادا لأنه هو الذي يفيد كثرة الحمد". وهذا من هذا الإمام على جلالته سهو وغفلة فإن أحمد عندما يكون منقولا من اسم التفضيل المسند للفاعل يفيد تفضيله على جميع الحامدين المقلين والمكثرين فهو الأكثر حمدا لله من كل من أقل أو كثر. وأما حماد فإنما يفيد كثرة حمده ومن كثر حمده قد يساويه أو يفوقه فيه غيره فأما أحمد فيفيد- خصوصا مع حذف المتعلق- أنه بلغ من كثرة الحمد إلى مقام كان فيه أكثر حمدا لله من كل حامد. على أن هنالك شيئا آخر لا بد من ملاحظته وهو أن الإسمين يراد بهما الدلالة على تكميل الله له من ناحيتين، الناحية التي يكون فيها في مقام التعظيم والتكريم بالثناء عليه وهو ما يقتضيه اسم محمد. والناحية التي يكون فيها في مقام الخضوع والخشوع بحمده لله تبارك وتعالى وثنائه عليه، وهو ما يقتضيه اسم أحمد المنقول من المسند للفاعل، فمحمد دلنا على مقامه الأول الذي يكثر فيه له الحمد، وأحمد دلنا على مقامه الثاني الذي يكثر فيه منه الحمد، ودلنا على أنه في هذا المقام قد فاق سواه وكان فيه لا نظير له. وهذا المعنى لا يمكن أبدا أن يستفاد من حماد. على أن أحمد المأخوذ من السند إلى الفاعل هو الذي

يجري القياس، والمتبادر إلى الأذهان عند سماع اسم التفضيل هو الإسناد إلى الفاعل ولا يفهم الاسناد إلى المفعول إلا بقرينة. وحمده الله الذي فاق فيه كل حامد لا يكون إلا عن إيمانه ومعرفته لكلمات الله وإنعاماته فيقتضي أنه فاق فيهما جميع الخلق. والايمان والمعرفة يقتضيان الطاعات الظاهرة والباطنة فيكون قد فاق في الطاعة جميع الخلق وبهذا كان الاسم متضمنا لأكمل الثناء عليه بأنه أكمل عبد لله علما وعملا. وهذان الاسمان الشريفان مرتبان في التسمية بهما للخلق والأسبق منهما عند قوم وهم الأكثرون هو أحمد وهو الذي سماه الله به في الإنجيل كما في سورة الصف: {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ}. ثم محمد الذي سماه به جده توفيقا من الله وهو اسمه في القرآن العظيم كما في سورة الفتح: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ}. فالسابق إذا هو أحمد. والذين يذهبون إلى هذا يقولون أن الترتيب بينهما في التسمية على حسب الترتيب الذي بين المقامين المدلولين لهما فإن المقام الأول هو مقام عبوديته وحمده لله، والمقام الثاني هو مقام كماله بأخلاقه وصفاته وأعماله. فهو قد حمد الله أكثر الحمد في مقام عبوديته فجازاه على ذلك بأن كان محمودا مكررا حمده في مقام كمالاته والجزاء من جنس العمل فهو ما كان محمدا حتى كان أحمد وهذا ترتيب ظاهر وجيه. ويكون وجه تقديم اسم محمد في هذا الحديث على هذا القول أنه أشهر أسمائه وأنه اسمه في القرآن العظيم. وذهب قوم إلى أسبقية اسمه محمد، وأنه سمي به في التوراة، واستدلوا على هذا بأدلة، ونقلوا من التوراة نقولا، ووجه التقديم لاسم محمد على هذا القول أنه نظر إلى أنه يوجد على فطرة الكمال ويشب على الكمالات والأخلاق الفاضلة التي يتكرر

حمده عليها، وقد حمده أهله صبيا رضيا، وحمده قومه شابا سريا وسموه بالأمين ثم لما أنعم الله عليه بالنبوة كان أحمد الخلق لله بما كان له حينئذ من العلم بكمالات الله وإنعاماته. وهو وإن كان مفطورا على الإيمان والعلم والكمال وقد كان حامدا لله من يوم إدراكه لكن حمد النبي الرسول ليس كحمد من لم يكن بعد نبيا رسولا. فعلى هذا النظر من الترتيب يظهر وجه الأسبقية لاسم محمد على هذا القول. ـ[«وَأَنَا الْمَاحِي الَّذِي يَمْحُو اللهُ بِيَ الْكُفْرَ»]ـ: والمحو هو الإزالة. وفسر لنا- صلى الله عليه وآله وسلم- هذا الاسم دون الاسمين السابقين لأن اشتقاقهما كاف في ظهور معناهما، بخلاف الماحي فإنه قد يخفى المراد منه باعتبار الشيء الممحو ولذلك بينه بقوله الذي «يمحو الله بي الكفر». وهذا المحو الذي كان به- صلى الله عليه وآله وسلم- علمي واما عملي وقد حصل المحو به- صلى الله عليه وآله وسلم- للكفر علميا وعمليا فأما الأول فقد جاء النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- بأدلة قاطعة وبراهين ساطعة على صدقه في كل ما جاء به من الحق والهدى والنور جاء من ذلك بما لم يأت به غيره وكل ذلك محو وإزالة للكفر في العالم العالمي. وأما الثاني فإنه صلى الله عليه وآله وسلم جاء والأرض في ظلمة من الكفر بين ضلال أهل الكتاب ووثنية المشركين وأنواع أخرى من كفر الكافرين، فدعا إلى الله وصبر وجاهد، فما مات - صلى الله عليه وآله وسلم- حتى انتشر الإسلام في جزبرة العرب كلها التي كانت سببا في إنقاذ البشربة ومصدرا لهدايتها فهذا محو عملي ومحو آخر وهو أنه- صلى الله عليه وآله وسلم- قد زويت وطويت له الأرض حتى شاهد مشارقها ومغاربها وقيل له أنه ستبلغ دعوته إلى ما زوي له منها. وقد كان ذلك كذلك، ففي الأمد القصير ظهر الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها، وانمحى سلطان الكفر، وانهدت عروش

الجبابرة عرش القياصرة بالشام وعرش الأكاسرة بالعراق وتتابع المحو والإزالة. قال: يمحو الله، لأن الخالق إنما هو لله. ويقول: بي لأنه هو السبب. ويفيد المضارع أن المحو يتجدد وكذلك كان فما زال المحو العلمي يتجدد فما نجمت ضلالة إلا وكان فيما جاء به حجة دامغة لها وما زال المحو العلمي كذلك يتجدد والإسلام ينتشر من نفسه انتشارا لا يلحقه فيه غيره ممن ينفقون في نشر نحلهم الأموال الطائلة ويسخرون القوات المتنوعة الهائلة وليس انتشاره في خصوص الأمم المنحطة بل في الأمم الراقية والذين سبقوا إليه منها هم علماء مما يدل على أن أكبر آيات الإسلام هي آياته العلمية الخالدة. فالمحو يتجدد تجددا مشاهدا مستمرا بهذا النبي الكريم عليه وآله الصلاة والسلام. ـ[«وَأَنَا الْحَاشِرُ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى قَدَمِي»]ـ الحشر: الجمع وتقدير الكلام على أثر قدمي وجمع الناس على أثر قدمه كناية عن اتباعهم له. والمعنى: أن الله يجمع الناس كلهم على شريعته جمعا تشريعيا، فلا يقبل من أحد شيئا إلا باتباعه في شريعته والسير على أثر إقدامه، سواء أكان من أهل الملل الأخرى أو من أهل ملته فلا نجاة لكافر من ضلال الكفر إلا باتباع شريعته، ولا نجاة لمسلم من ضلال البدعة إلا باتباع سنته. ويفيد المضارع في قوله (يحشر) أن هذا الجمع متجدد لأن شريعته دائمة وسنته باقية فما من جيل إلا وهو مكلف بالسير على قدمه وذلك معنى تجدد جمع الناس جمعا تشريعيا على اتباعه. وأسند الحشر لنفسه في قوله الحاشر لأنه الكاسب المباشر المبلغ عن الله شرعه لعباده وقال يحشر بإسناد الحشر إلى الله وحذف الفاعل للعلم به من المعنى وسياق الكلام، لأنه

هو الخالق المشرع على وزان قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ}، وقوله: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا}. ـ[«وَأَنَا الْعَاقِبُ»]ـ: هو الذي يخلف شيئا ويأتي بعده، وهو صلى الله عليه وآله وسلم جاء بعد جميع الأنبياء والمرسلين- عليهم الصلاة والسلام- وخلفهم. وقد جاء في رواية مسلم مفسرا فقال: «وأنا العاقب الذي لا نبي بعده» وعند غير مسلم «الذي لا نبي بعدي» وأفاد بالتفسير أنه لا يعقبه غيره فهو خاتم الأنبياء والمرسلين، صلى الله وسلم عليهم أجمعين. تقدم لنا في صدر الدرس أن قوله- صلى الله عليه وآله وسلم- لي خمسة أسماء يقتضي اختصاصه بها وهو اقتضاء صحيح ومطابق للواقع فهذه الأسماء ليست إلا له إذ لم يسم الله نبيا ولا رسولا بواحد منها فهو مختص بالتسمية بها من الله بين سائر إخوانه من الأنبياء والمرسلين- عليهم الصلاة والسلام-. نعم قد سمى بعض العرب أبناءهبم محمدا قبل البعثة بقليل، وهم نفر قليل ولم يعرفوا بنبوة، ومنهم من أسلم فكان من أتباع النبي- صلى الله عليه وآله وسلم-، فكان ذلك القليل النادر في حكم العدم، على أن القصود بتخصيصه تخصيصا من بين سائر الانبياء والشيء إنما يفضل بالنسبة لمن في منزلته. فمحمد- صلى الله عليه وآله وسلم- لما تذكر فضائله وخصوصياته إنما تذكر بالنسبة للأنبياء والمرسلين فإذا قلنا أن محمدا- صلى الله عليه وآله وسلم- خص بكذا بهذا الاسم مثلا فمعنى ذلك أننا لا نجده لمثله من الأنبياء والمرسلين. فهذا الاختصاص اللفظي بهذه التسمية. وكذلك هو مختص بها من جهة معانيها فله من الكمالات التي يتحلى بها والإنعامات التي جعله الله سببا فيها والمواقف التي يقفها ما ليس لغيره، فليس ينال غيره من الحمد مثل ما يكون له،

من الله ومن الناس، وهو يقابل تلك النعم الربانية عليه بالحمد، فلا يكون الحمد من أحد مثل الذي يكون منه لله. وكفى في هذا حديث الشفاعة الثابت المشهور فإنه لما يخر ساجدا لله يفتح عليه بأنواع من الحمد لم يكن يعرفها هو من قبل فقد بلغ في حمده لله مقاما لم يبلغه أحد. ولما يتقبل الله شفاعته العامة في فضل القضاء يحمده أهل الموقف كلهم في ذلك المقام المحمود، فقد بلغ من حمد الناس له مقاما لم يبلغه غيره. فبان اختصاصه- صلى الله عليه وآله وسلم- بمعنى الإسمين الشريفين محمد وأحمد دون جميع الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام. وكذلك الاسم الثالث فإنه مختص بمعناه، وإذا راجعنا تواريخ الأنبياء والمرسلين- عليهم الصلاة والسلام- فإننا لا نجد أحدا منهم محي به من الكفر ما محي بمحمد- صلى الله عليه وآله وسلم- ولنقتصر على هذين النبيين الكريمين موسى وعيسى- عليهم الصلاة والسلام- فأنتم تعرفون من القرآن ما قاسى موسى من بني إسرائيل الذين ما جفت أقدامهم من ماء البحر حتى قالوا اجعل لنا إلهاً كما لهه آلهة. وما تقصه كتبهم يدل أنهم لم ترسخ لهم قدم في الإيمان، فأي محو هنا. وأما عيسى- عليه الصلاة والسلام- فقد رفعه الله إليه وما آمن به إلا أفراد ثم بقيت دعوته مغمورة. وما انتشرت النصرانية المنسوبة إليه باطلا إلا بعد ثلاثمائة سنة على يد ملك بيزنطا قسطنطين. على أنهما- عليهما الصلاة والسلام- لم يرسلا رسالة عامة حتى يعم المحو بهما وإنما أرسلا رسالة خاصة لبني إسرائيل كما لم يأتيا من الآيات بمثل ما أتى به لمحو كل كفر وباطل، وكفى بآية القرآن الخالدة على الزمان المتجددة على الأجيال. فهذا يبين لكم أن المحو العلمي والعملي بأكمله وأشمله إنما هو خصوصية له عليه الصلاة والسلام. ولعلكم تقولون أن العرب قد ارتدت بعد موته- صلى الله عليه وآله وسلم- فأين هو المحو؟ فالجواب: أن الردة لم تكن عامة، فإن الأكثر والأظهر

هم الذين ثبتوا على الإسلام والطاعة لخليفة رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- ولم يبدلوا شيئا، وطائفة كثيرة بقيت على الإسلام وإنما امتنعت عن أداء الزكاة، وهذه هي التي توقف عمر وغيره في قتالها وشرح الله صدر أبي بكر لقتالها ورجع الصحابة- رضي الله عنهم- إليه، وطائفة أخرى ارتدت عن الإسلام جملة كأصحاب طليحة وسجاح -وقد راجعا الاسلام بعد- والأسود ومسيلمة وكان في غمار هؤلاء المرتدين أفراد من المؤمنين يقاومون وتوقفت طائفة تنتظر لمن تكون الغلبة. وكان السر الأكمل في هذه الردة على تفصيلها أن يتبين للناس أن الذين اتبعوه اتبعوه لأنه نبي لا لأنه عربي. لقد ثبت المحو به مباشرة في الأكثر الأظهر، وثبت المحو بواسطة خليفته ومن معه ممن انطبق عليهم قول الله: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}. والمحو على يد هؤلاء السادة محو به، وهكذا كل محو يقع على يد أتباعه إلى يوم الدين فهو محو به وله مثل حسنات مباشريه على قاعد السابق للخير والبارىء به والداعي إليه. وكذلك الإسم الرابع فهو مختص بمعناه لأن الله لم يجمع الناس جمعا تشريعيا على نبي قبله فقد كان النبي يرسل إلى قومه خاصة وأرسل هو - صلى الله عليه وآله وسلم- إلى الناس عامة. وكذلك الإسم الخامس فهو المختصر، بختم الأنبياء والمرسلين صلى الله وسلم عليهم أجمعين. ... هذه الأسماء الشريفة نأخذ منها حظ العلم وحظ العمل، فأما حظ العلم فقد تقدم، وأما حظ العمل فعلينا إذ علمنا معنى

اسمه محمد أن نستكثر من الأخلاق الطيبة والأعمال النافعة والمواقف الشريفة مما ننال به الحمد من الله والناس. وعلينا إذ علمنا معنى اسمه أحمد أن نكثر من حمد الله على نعمه نعم الخلقة ونعم الهداية، فنحمده إجمالا وتفصيلا، ويتضمن هذا علمنا بهذا النعم وذلك يقتضي توسيع دائرة معلوماتنا بخلقه وبشرعه فنتناول كل ما نستطيع من العلوم والمعارف التي توصلنا إلى ذلك وقدلنا عليه. وعلينا إذا علمنا معنى اسمه الماحي أن نعمل على محو الكفر والضلال والشر والباطل وكل ما ينهي عنه الإسلام وما ابتدعه المبتدعون وحملوه إياه. نمحو ذلك كله من أنفسنا وحيثما استطعنا ولا سبيل إلى هذا المحو إلا بالعلم والعمل وإظهار الإسلام بسلوكنا في الحياة أمام الناس في مظهره الصادق الصحيح فأعظم ما محى به الكفر، سلفنا الصالح، هو هديهم وسلوكهم وتطبيقهم للإسلام تطبيبقا صحيحا على الحياة في أنفسهم وفي غيرهم في جميع الأحوال. وعلينا إذ علمنا معنى اسمه الحاشر أن نتقيد بشريعته وسنته فلا نقول ولا نعمل ولا نعتقد إلا مالا يخرج عنهما، فيكون قولنا دائما ماذا قال محمد- صلى الله عليه وآله وسلم- وماذا فعل وكيف كان في مثل هذا الموقف في مثل هذا الحال في كل ما نقفه من مواقف وما يعترضنا من أحوال، وبهذا نكون قد حشرنا أنفسنا على أثره. وعلينا أن ندعو الناس إلى اتباع شريعته وسنته بما نبين لهم من براهين الحق وأدلة الصدق وبما نذكر لهم من محاسنه ومحاسن ما جاء به، وبذلك نكون قد عملنا على حشر ما استطعنا من الناس على شريعته، وجمعنا ما أمكننا من القلوب على تعظيمه ومحبته، وفي ذلك الخير والسعادة للناس أجمعين.

وعلينا إذ علمنا معنى اسمه العاقب وهو الخاتم أن نرد كل ما يحدثه المحدثون من زيادة في شريعته، ونعد كل من يأتي ذلك ويتظاهر بالإسلام دجالا من الدجاجلة، وقد أخبر النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- أنه يكون بعده دجاجلة وكذابون وأولهم مسيلمة والمتنبؤون الكذبة فلا قول إلا قوله ولا هدى إلا هديه ولا إسلام إلا ما جاء به. ... ها ان مالكا- رحمه الله تعالى ورضي عنه وجازاه عنا أحسن الجزاء - قد ختم كتابه الجليل بهذا الحديث الشريف المشتمل على هذه الأسماء النبوية الكريمة فهل هنالك من نكتة؟ إن هذا الموطأ هو أقدم كتاب لنا ألفه إمام عظيم من أتباع التابعين، وهو كتاب يعلمنا العلم والعمل، ويعرفنا كيف نفهم وكيف نستنبط وكيف نبني الفروع على الأصول، يعطينا هذا كله وأكثر منه بصريح بيانه وبأسلوب ترتيبه للأحاديث والآثار والمسائل. وإن شراح هذا الكتاب الجليل لم يوفوه حقه -في نظري القاصر- من هذه الناحية وهي من أعظم نواحيه. ومما هو مشهور من ابتكار مالك في كتابه هذا الكتاب الجامع الذي ختم به الموطأ فإنه نظر إلى مسائل عديدة من أمهات الشريعة في العقائد والأخلاق والآداب والأحكام وغيرها فنظمها في سلك واحد وسماها بالكتاب الجامع، وهذه الأصول التي نظمها في هذا الباب بنى عليها من جاء بعده فروعا وعقد عليها أبوابا كالبخاري وغيره. وإن مالكا لم يذكر في موطئه كتابا خاصا بالسيرة النبوية كما فصل ذلك غيره ممن جاء بعده، ولكنه ذكر أسماءه الشريفة- صلى الله عليه وآله وسلم- فكفاه، وذكر أسمائه متضمنا لسيرته- صلى الله عليه وآله وسلم- فكفاه في ذكر حياته- صلى الله عليه وآله وسلم- أن يذكر أسماءه.

ولما كانت سيرته من بدايتها إلى نهايتها هي المثال الصادق للشريعة كلها والسفر الجامع للدين الإسلامي كله. ختم كتابه بهذا الحديث المشتمل على هذه الأسماء المتضمنة لها. وهو كالتحصيل بعد التفصيل. ونكتة أخرى وهو أن كل ما نأخذه من الشريعة المطهرة علما وعملا فإننا نأخذه لنبلغ به ما نستطيع من كمال في حياتنا الفردية والاجتماعية، والمثال الكامل لذلك كله هو حياة محمد- صلى الله عليه وآله وسلم- في سيرته الطيبة، فهذا الحديث بعد ما تقدمه من الكتاب كله مثل الغاية من الوسيلة. فسيرته- صلى الله عليه وآله وسلم- هي الجامعة لمحاسن الإسلام والغاية لكل كمال. ومن أبدع المناسبة لختم الكتاب أن كان آخر هذه الأسماء الشريفة هو العاقب، والعاقب هو الخاتم، عليه وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وجميع الآل والتابعين أفضل الصلاة وأزكى التسليم - سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين (1).

_ (1) ش: ج7، م 15 - غرة رجب 1348ه - أوت 1939م.

الإحتفال بختم الموطأ

الإحتفال بختم الموطأ بقلم الأستاذ الشيخ الجيلاني بن محمد ــــــــــــــــــــــــــــــ بسم الله الرحمن الرحيم إستهلال: وبعد. فإن من دواعي الغبطة والسرور وبواعث البهجة والارتياح أن أزف إلى المسلمين كافة وإلى أبناء الوطن العزيز خاصة هذه البشرى الجليلة والمفخرة الخالدة بختم الأستاذ عبد الحميد بن باديس لموطأ إمام الأئمة ومستودع الشريعة مالك بن أنس - رضي الله عنه - بعد ما قضى في خدمته وهداية الأمة به درسا بضع عشرة سنة بعمل متواصل وجد جاد يحرر أسانيده ويعزز مسانده ويرفع مراسله ويستجلي أسراره ويكتسح به غيوم البدع وضلال العقائد، فهذب العقول وطهر النفوس وحرك الهمم وقوى العزائم وأفعم الصدور بأنوار السنة المحمدية. فانزاحت دياجي الجهل وشبه الضلال وعوارض الغفلة وعوامل الجمود واستفاقت الأمة من سباتها العميق على ضوء السنة الوهاج فاندفعت تعمل لصالح الدارين ورائدها كتاب الله وسنة رسول الله وهدي السلف الصالح.

ويسرني جدا أن أزف هذه البشرى الثانية بختم الحديث الشريف إلى القراء الكرام بعد أن يكون قد استقر في أيديهم العدد الخاص من "الشهاب" يحمل بين جوانحه البشرى الأولى بختم تفسير القرآن العظيم مدبجة أصوله ومحررة فروعه بيراع العالم العلامة أديبنا الأكبر وكاتبنا البليغ الأشهر الأستاذ البشير الإبراهيمى فهي بشرى على بشرى وخير يقفوه خير وفتح بعد فتح ونهوض بكتاب الله وسنة رسول الله يستتبع - إن شاء الله - نهوض الأمة وتقدمها ماديا وأدبيا إذ لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها. فما أعظمها من منة وما أسبغها من نعمة. كان ختم الأستاذ الجليل- حفظه الله - للموطأ لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الثاني عام 1358 - الموافق لفاتح جوان 1939 وكان الاحتفال به رائعا وطيب حديثه في الحواضر والبوادي ذائعا، وأريج عرفه في المجالس والنوادي متضوعا. وسيرى القارئ وصف هذا الاحتفال العظيم فيما بعد إن شاء الله. إن من أراد أن يصلح أمة قد عششت في أذهانها البدع، وامتصت قوتها العقلية أدواء الجهل الفتاك، والتهمت حرياتها سلطات المستبد، وأثقلت عاتقها فوادح الخطوب، يجب عليه- قبل كل شيء- أن يعتام لعلاجها أنجع الأدوية وأقوى المراهم رتقا لكلومها، ولا دواء أنفع لأمة هذه علتها، وهذا مرضها من معالجتها بكتاب الله، وتضميد جراحاتها بسنة رسول الله، فهما ترياق كل علة وبلسم كل مرض. وقد ظهرت على الأمة الجزائرية- والحمد لله- علائم الشفاء وطلائع الإبلال وبوادر الصحة بعد ما قضى هذا الحكيم النطاسى

في معالجتها بكتاب الله وسنة رسوله، ردحا من الدهر بذل فيه جهده وروحه، يتتبع هذه الأدواء ويتقصاها في كل حاضرة وفي كل قرية، في كل سهل وفي كل جبل، يقتل البدعة ويحيى السنة، يطارد الجهل ويحارب الأمية، يميت اليأس من النفوس ويبعث فيها الأمل، يغشى البلدة أو القرية وقلوب أهلها متفرقة وأهواؤها متشاكسة وآراؤها متضاربة فلا يبرحها إلا والقلوب مجتمعة، والأهواء متحدة، والآراء متعاضدة، شعارها الوحيد قوله جل شأنه: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ}. ولعل أبلغ الظواهر دلالة يقظة الأمة وتفشي روح النهوض في أفكار أبنائها وسريان الهداية النبوية فيها. ذلك التطور الفكري الذي نراه يزداد يوما فيوما بالرغم من العراقيل المنصوبة في سبيله والسدود المضروبة لإيقافه. ولكنه تيار إلهي قوي فاض على النفوس لا يمكن إيقافه- إن الله بالغ أمره- ولو كره الكافرون. فختم كتاب الله وسنة رسول الله في هذه الديار التي حل فيها الطارئ محل الأصلى، والسالب محل الكاسب، والدخيل محل الأصيل، على ضرب من الأسلوب يشرح -بحق- فصول الحياة المعقدة للأمة ويوضح لها مناهج السلوك ويأخذ بيدها في طريق لاحب وصراط سوي. هو ختم مؤذن بختم عصر الجمود والركود وإقبال عصر النهوض والتقدم. الحديث الشريف هو المصدر الثانى- بعد كتاب الله- للتشريع الإسلامي وهو البيان الشافي والتحليل الفلسفي لكتاب الله، قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} وتبيينه يكون بأقواله - صلى الله عليه وسلم - وأفعاله وتقريراته، فالصد عن الحديث صد عن الذكر الحكيم والانحراف عنه إنحزف عن شرعة القرآن الكريم.

ولقد نال الحديث الشريف من الحيف والإعراض ما نال القرآن العظيم فقد انصرف الناس عنه انصرافهم عن القرآن وضلوا متشبثين بكتب ملئت بالأقوال الجدلية والمماحكاة اللفظية والألغاز التركيبية التي لا تجدي نفعا. وبعد فإن الموطأ الذي نحن بصدد الحديث عنه هو من أصح كتب الحديث وأعمها نفعا لما اشتملت عليه من صحيح الأخبار وبالغ الآثار. قال الشافعي - رضي الله عنه -: "ما على ظهر الأرض كتاب بعد كتاب الله أصح من كتاب مالك". وفي لفظ: "ما وضع على الأرض كتاب هو أقرب إلى القرآن من كتاب مالك" - ولاحظ أنها شهادة الشافعي- وقال القاضي أبو بكر بن العربي في شرح الترمذي: (الموطأ هو الأصل واللباب، وكتاب البخاري هو الأصل الثاني في هذا الباب وعليهما بنى الجميع كمسلم والترمذي) وقد شمله مالك - رضي الله عنه - بعناية عظيمة واحتفاء كبير فأجال فيه يد التهذيب والتنقيح حتى أخرجه على هذا الأسلوب العجيب والشكل الجميل من حسن الترتيب وسهولة التعبير وإتقان الوضع وإجادة الصنع وصحة الخبر وغزارة الأثر ذكر ابن الهباب أن مالكا رحمه الله روى مائة ألف حديث جمع منها في الموطأ عشرة آلاف ثم لم يزل يعرضها على الكتاب والسنة ويتخير بالآثار والأخبار حتى رجعت إلى خمسمائة. وقال سليمان بن بلال: "لقد وضع مالك الموطأ وفيه أربعة آلاف حديث أو أكثر ومات وهي ألف حديث ونيف يخلصها عاما فعاما بقدر ما يرى أنه أصلح للمسلمين وأمثل في الدين". وقال سعدون الورجيني من قصيدة في فضل الموطأ: فبادر موطأ مالك قبل فوته … فما بعده - إن نات- للحق مطلب

أسلوب الأستاذ الحكيم في التدريس

ودع للموطأ كل علم تريده ... فإن الموطأ الشمس والعلم كوكب هو الأصل طاب الفرع منه لطيبه ... ولم لا يطيب الفرع والأصل طيب هو العلم عند الله بعد كتابه ... وفيه لسان الصدق بالحق معرب لقد أعربت آثاره ببيانها ... فليس لها في العالمين مكذب هذه شذرات من كلام الأئمة نظما ونثرا في فضل الموطأ تبين لنا أنها أعظم كتاب في السنة الشريفة وأجل تراث خلفه لنا مالك - رضي الله عنه - وجزاه عن الإسلام خيرا. فخدمة هذا الكتاب خدمة لكتاب الله ونشر لهداية رسول الله وتعميم لما انطوى عليه من خيرات وأسرار بين المسلمين. وقد قام بهذا العمل الجليل وفاز بهذا الأجر الجزيل أستاذنا الجليل عبد الحميد بن باديس رعاه الله وجزاه بأحسن ما يجازى به عباده المخلصين. أسلوب الأستاذ الحكيم في التدريس: الأساليب ثلاثة: أسلوب علمي، وأسلوب خطابى، وأسلوب أدبي، وأبرع الناس فصاحة وأقواهم عارضة وأبلغهم تأثيرا في النفوس وأشدهم أخذا بمجامع القلوب وأقدرهم استيلاء على العقول الجامحة والأهواء المستعصية. في رزق المقدرة على هذه الأنواع ووهب ملكة التمييز بينها والاقتدار عليها فكان أسلوبه في التدريس غير أسلوبه في الخطابة وأسلوبه فيهما غير أسلوبه في الأدب، ثم كان في كل واحد من الثلاثة أقدر على التعبير وأمهر في التصوير وأحذق في التقرير، فلا تعجزه عبارة ولا يفوته مراد.

وصف الحفلة الرائعة بختم الموطأ

والأستاذ الحكيم رجل آتاه الله ما كان به موصوف تلك الصفات ومنعوتها ومبتدأها وخيرها. يصوغ المعاني الغزيرة في الجمل القليلة النبيلة قد خرجته بلاغة القرآن وفصاحة الحديث والجيد من كلام العرب منظومه ومنثوره. من أبرز صفاته في التدريس- بل وفي الحديث المعتاد- العربية الفصحى فلا يجنح للعبارات العلمية ليستعين بها ولا الكلمات الدورية التي يعتادها بعض المدرسين في كلامهم. وأما أسلوبه في التفسير والحديث فهو بأسلوب الأستاذ الإمام محمد عبده أشبه وإليه أقرب وأبرز ميزاته فيهما التطبيق والتحقيق وسوق العبر وصوغ العظات. وصف الحفلة الرائعة بختم الموطأ: قبيل الاحتفال وجهت مراسيم الدعوة الخاصة للعلماء والأدباء والأعيان من عمالة قسنطينة مصحوبة ببيان الزمان والمكان، وتألفت لجنة أدبية للنظر في شؤون الحفلة وكانت متشكلة من: الأديب الناشط السيد أحمد بوشمال مدير مجلة (الشهاب) الغراء، وأساتذة مدرسة التربية والتعليم، وكاتب هذه السطور وفي قاعة مكتب المدرسة قررت اللجنة برنامجها الأدبي مساء يوم الاثنين على الساعة الثامنة. وما كادت الشمس تجنح للغروب أصيل يوم الأربعاء حادي عشر ربيع الثانى حتى تقاطرت وفود الدعوة على مدرسة التربية والتعليم المحروسة حيث وجدوا إخوانهم لقسنطينيين ينتظرون قدومهم السعيد بمزيد التشوق، فتهللت الوجوه، وتفتحت الشفاه ببسمات المودة واللقاء، ونطقت الألسنة بالتحيات المباركة والترحيبات القلبية، وتعانقت الأرواح قبل الأشباح، وتكاملت الوفود في المدرسة. وبعد أداء صلاة المغرب انبرى أهالي

قسنطينة المضاييف الكرام يتنافسون في تكريم ضيوفهم- كما هي عادتهم- فذهبوا بتلك الوفود الكريمة النازلة على الرحب والسعة إلى بيوتهم لتناول وجبة العشاء. وما كاد مؤذن العشاء يعتلي المنار حتى تكاملت تلك الوفود المكرمة في الجامع الأخضر المعمور حيث يؤدون صلاة العشاء ويسمعون بعدها درس الختم من الأستاذ الحكيم. وبعد الفراغ من الصلاة وضع كرسي الدراسة في وسط الجامع وحلق حوله الوفود والمستمعون وانتظمت الصفوف الأمامية من العلماء والأدباء. ولما اتسقت قلائد الحلقات واكتمل نظام الصفوف وعلت السكينة وساد السكوت كأن على الرؤوس الطير، طلع الأستاذ من مقصورته كالبدر ليلة تمامه في موكب من الجمال الإلهي والجلال النبوي، فاشرأبت الرؤوس لطلعته المباركة وتطلعت النفوس وخفقت الأفئدة في الصدور خفقة السرور فاعتلى كرسي الدراسة وأنشأ ينتشر على مستمعيه الكرام تلك الدرر الغالية والحكم البالغة بفصاحة نادرة وبلاغة ساحرة ونبرات موسيقية تمتزج بالأرواح امتزاج الماء بالراح، فهز النفوس بعظاته (الحسنية) وخلب العقول بتحقيقاته العلمية وأبحاثه النفيسة. إستغرق في الدرس نحو ساعة ونصف مرت كلمح البصر من شدة فناء الأرواح في لذة الدرس وأغرق النفوس في الإصغاء - واللذائذ الروحية أوسع من الزمن- وختم الأستاذ درسه بدعوات مأثورة وتلى على الحاضرين آخر ما كتب بنسخة الموطأ اليدوية الأثرية فبين أنها مكتوبة بخط صاحبها في القرن السابع الهجري فيما أظن-. ولما انتهى الدرس وصداه يتردد في النفوس ومعانيه السامية تملأ فضاء القلوب، أمر الناس بالجلوس في أماكنهم فقدمت إليهم صحون الزلابيا التي تبرع بها الكريم الخير المفضال السيد

الحاج حموش، فتناولوها شاكرين مسرورين هاتفين بحياة العلم والعلماء. ثم بالغ القسنطينيون الكرام في الحفاوة والتكريم فتقدموا لسائر الحاضرين بمضخات ماء الزهور فضمخوا الجميع حتى عبقت الروائح وامتزج مسك الختام بطيب الوئام. ثم خرجت تلك الجماعات المباركة- وعبارات الشكر والثناء- ملء الأفواه- تتهادى في انهج المدينة الجميلة قاصدة مدرسة التربية والتعليم المرعية حيث تجدها مفتحة الأبواب مهيأة الأقسام مفسوحة الردهات والجوانب مزينة بالأضواء تتوسط هالتها الجميلة ثريا كهربائية عظيمة قلبت ليلها نهارا وجدرانها نضارا هنالك- وقد ذهب الهزيع الأول من الليل- أقيمت للوفود الكريمة حفلة أدبية شيقة هدرت فيها شقاشق الخطباء وصدحت بلابل الشعراء وسالت فيها أحاديث الأنس الممتعة، وكان المشرف على الحفلة كاتب هذه الجمل بإلحاح من زميله الأديب السيد أحمد بوشمال فصعد منبر الخطابة وارتجل كلمة وجيزة باسم طلبة الجامع الأخضر المعمور رحب فيها بالزائرين، ونوه بأعمال الأستاذ الجليلة وأياديه البيضاء، ثم أخذ يقدم إخوانه الخطباء والشعراء واحدا فواحدا فتقدم الأديب السيد محمد الغسيرى الأستاذ بالمدرسة المذكورة فألقى خطبة بارعة هز بها النفوس هزات وأثار حماسها كرات، وتلاه الأديب السيد محمد الصالح رمضان الأستاذ بالمدرسة المذكورة أيضا فألقى قصيدة كلها عيون بعد ما مهد لها بكلمات كلها شذرات، ثم تلاه الشاب الظريف الأديب السيد محمد الطاهر الورتلاني فألقى خطبة نفيسة شنف بها الأسماع وأمتع النفوس، ثم تلاه الأستاذ عمر بن البسكري المدرس بمدرسة الفتح بسطيف فألقى قصيدة رنانة أعيد بعض أبياتها لمزيد حسنها، ثم تلاه خفيف الروح الأستاذ الأديب

عباس بن الشيخ الحسين فارتجل خطابا حماسيا أثار به كوامن الحماس في النفوس ثم تلا الجميع العالم العلامة المؤرخ الكبير الأستاذ مبارك الميلى مدير جريدة "البصائر" الغراء فارتجل خطابا بليغا قارن فيه بين مكانة العلماء من نفوس العامة اليوم ومكانتهم من نفوسها بالأمس أعني قبل الإصلاح وبعد الإصلاح، فجاء بتحقيقات جليلة وتعليلات صائبة وأبحاث دقيقة، شأنه في كل المواضيع فأجاد وأفاد وكان المتتظر أن يكون خاتمة الخطباء لكن قام بعده التلميذ النجيب السيد محمد المديني فارتجل كلمات حماسية حمل فيها على قانون 8 مارس المشؤوم وما شاكله من قوانين الظلم والغطرسة، وتلاه الأخ البصيري فارتجل كلمات نفيسة هي إلى الفلسفة الروحية أقرب، ثم ختمت الحفلة بكلمة شكر وتقدير من كاتب هذه السطور ثم وزعت المشروبات على الحاضرين. هذه صورة مصغرة لهذه الحفلة الرائعة ولو صادفت قلما سيالا وفكرا فسيحا لأبرزها في أبهى حللها وأجمل مناظرها.

_ (1) ش: ج 7، م 15 - رجب 1358ه - أوت 1939م (بتصرف).

المصلحون والسنة

المصلحون والسنة تقوم الدعوة الإصلاحية على أساس الكتاب والسنة فلا جرم كان رجالها من المعتنين بالسنة القائمين عليها رواية ودراية الناشرين لها يين الناس ومن عنايتهم تحريهم فيما يستدلون به ويستندون إليه منها فلا يجوز عليهم إلا ما يصلح للاستدلال والاستناد ولا يذكرون منها شيئا إلا مع بيان مخرجه ورتبته حتى يكون الواقف عليه على بينة من أمره مما لو التزمه كل عالم- كما هو الواجب- لما راجت الموضوعات والواهيات بين الناس فأفسدت عليهم كثيرا من العقائد والأعمال. ونحن ننشر إثر هذا حوارا دار بين مصلحين يدل على ما ذكرناه في المصلحين من الاعتناء والتحرير: ميلة في 15 رمضان 1354ه ... المعلم النصوح والمتعلم البحاثة الأخ الشيخ الفضيل الورتلاني السلام عليكم ورحمة الله. منذ يومين وقع بصري في خاتمة الجزء الأول من الحاوي للفتاوي فتاوي السيوطي على هذا الحديث: روى الحاكم في المستدرك وصححه والبيهقى في شعب الإيمان عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تنزلوهن الغرف، ولا تعلموهن الكتابة، يعنى النساء، وعلموهن الغزل وسورة النور».

فذكرت أنك كنت سألتني عنه فلم تجد عندي علما به. واليوم لما وقفت عليه ورأيت أن الحاكم صححه ظهر لي أن أبحث عنه. فإن الحاكم على جلالته في علم الحديث لا يعول كثيرا على تصحيحه حتى أن النقاد قالوا لو لم يؤلف المستدرك لكان خيرا له. طالعت فهرست كتاب "حسن الأسوة فيما ثبت من الله ورسوله في النسوة" لصديق خان فلم أجد مبحثا يناسب هذا الحديث. وتتبعت خاتمته التي خصها لذكر الأحكام الخاصة بالمرأة. فلم أجد هذه المسألة. ورجعت إلى التفاسير. فوجدت البغوي قد روى آخر سورة النور هذا الحديث بسنده إلى محمد ابن إبراهيم الشامي قال حدثنا شعيب بن اسحق عن هشام ابن عروة عن أبيه عن عائشة. فذكره. هنا رجعت إلى ميزان الاعتدال للحافظ الذهبي لأتعرف هل في هذا السند ضعفاء. فألفيته يذكر في ترجمة محمد ابن إبراهيم الشامي عن الدارقطني أنه كذاب. وعن ابن عدي أن عامة أحاديثه غير محفوظة وعن ابن حبان أنه لا تحل الرواية عنه إلا عند الاعتبار كان يضع الحديث. ثم خرج له أحاديث منها حديثه عن شعيب ابن اسحق عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة. فذكره كما أورده السيوطي إلا قوله يعني النساء. والظاهر أن الحاكم رواه من طريق هذا الشامي لأنه لو كان له متابع في هذا الحديث لم يورده الذهبي في ترجمته ولم يصح قول ابن عدي أن عامة أحاديثه غير محفوظة. ولو كان عندنا المستدرك لاسترحنا من هذا الخرص. وبعد فلنكتف بما لدينا ولا نقف ما ليس لنا به علم. والسلام عليكم من أخيكم "مبارك بن محمد الميلى".

_ ش: ج 1، م 12 غرة محرم 1355 ه أبريل 1936.

رسالة شكر وتقدير

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ــــــــــــــــــــــــــــــ رسالة شكر وتقدير حضرة الشيخ عبد الرحمن شيبان وزير الشؤون الدينية السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أما بعد؛ فقد تلقى الشعب الجزائري كتاب "مجالس التذكير" بابتهاج واغتباط. وإني -باسمي الخاص ونيابة عن أسرتنا- أشكر لوزارتكم الموقرة هذه الجهود التي تبذلها من أجل إحياء الثقافة الإسلامية، ونعلن لكم -سيدي الوزير- عن امتناننا، بما أصدرته وزارتكم وما تعتزم إصداره من آثار الأستاذ الإمام الشيخ عبد الحميد بن باديس، نشرا للوعي الإسلامي الصحيح، وخدمة للصالح العام، داعين لكم بالتأييد، ودوام التوفيق. وتقبلوا - يدي الوزير - فائق الشكر والتقدير. حرر بتاريخ 22 جمادى الثانية 1403 ه الموافق لـ 06/ أفربل 1983م المخلص: عبد الحق بن باديس أخو الإمام وتلميده

كلمات خالدة

كلمات خالدة "لن يصلح المسلمون حتى يصلح علماؤهم؛ فإنما العلماء من الأمة بمثابة القلب، إذا صلح صلح الجسد كله، وإذا فسد فسد الجسد كله، وصلاح المسلمين إنما هو بفقههم الاسلام وعملهم له؛ وإنما يصل إليهم هذا على يد علمائهم، فإذا كان علماؤهم أهل جمود في العلم، وابتداع في العمل، فكذلك المسلمون يكونون. فإذا أردنا إصلاح المسلمين، فلنصلح علماءهم. ولن يصلح العلماء إلا إذا صلح تعليمهم. فالتعليم هو الذي يطبع المتعلم بالطابع الذي يكون عليه في مستقبل حياته، وما يتقبل من عمله لنفسه وغيره، فإذا أردنا أن نصلح العلماء فلنصلح التعليم. ونعني بالتعليم التعليم الذي يكون به المسلم عالما من علماء الإسلام، يأخذ عنه الناس دينهم. ولن يصلح هذا التعليم إلا إذا رجعنا به للتعليم النبوي في شكله وموضوعه، في مادت وصورته، فيما كان يعلم - صلى الله عليه وآله وسلم- وفي صورة تعليمه، فقد صح عنه- صلى الله عليه وآله وسلم- فيما رواه مسلم أنه قال: «إنما بعثت معلما ... ». الإمام عبد الحميد بن باديس

_ الشهاب: الجزء 11 - المجلد 10 رجب 1353ه- أكتوبر1934م

§1/1