مبادئ الأصول

ابن باديس، عبد الحميد

مبادئ الأصول إملاء الإمام عبد الحميد بن باديس تحقيق الدكتور عمّار الطالبي الشركة الوطنية للكتاب ENTREPRISE NATIONALE DU LIVRE

مبادئ الأصول إملاء الإمام عبد الحميد بن باديس تحقيق الدكتور عمّار الطالبي الطبعة الثانية المؤسسة الوطنية للكتاب 3، شارع زيروت يوسف الجزائر

رقم النشر: 2306/ 86 المؤسسة الوطنية للكتاب الجزائر، 1988

مقدمة الطبعة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة الطبعة الثانية يسعدني أن أقدم للقراء الطبعة الثانية من كتاب مبادئ الأصول لابن باديس. وقد حققت هذا النص على نسخة أخرى للشيخ صالح بالغريي تلميذ لابن باديس كتبها من إملاء الشيخ. سلمها لي الأستاذ الشيخ عبد القادر الأشهب الذي لاحظ مشكورا بعض الأخطاء المطبعية في الطبعة الأولى. وبهذا أصبح النص مصححا على نسختين: الأولى للشيخ محمد العربي ورمزها (أ). والثانية للشيخ صالح بالغربي ورمزها (ب). نرجو أن ينتفع بها طلاب العلوم الإسلامية في الجزائر وغيرها من البلدان الإسلامية. الجزائر في 26 ربيع الأول 1405 هـ 19/ 12/ 1984 م عمار الطالبي.

تصدير

تصدير يمثل علم الأصول في الثقافة الإسلامية منطق الاستدلال، ومنهج البحث والاستنباط في الشريعة، ولهذا العلم جوانب لغوية فلسفية في لسان العرب وأوضاعه ودلالاته، مما جعله بحق فلسفة للفقه الإسلامي ومنطقا له. ولا غرو بعد هذا أن يأتي الشيخ مصطفي عبد الرازق (ت 1366 هـ - 1947 م) فيعتبر (الأصول) من أهم مجالات الفكر الفلسفي الإسلامي، الذي بدت فيه أصالة هذا الفكر وإبداعه واستقلاله. هذا، وقد ألف فيه الإمام الشافعي (ت 204 هـ) رسالته المشهورة، ثم تتابع فيه التصنيف إلى يومنا هذا. ومن أمهات هذا العلم ما ألفه فيه الإمام أحمد بن علي أبو بكر الجصاص (305/ 370 هـ) وما صنفه أبو زيد الدبوسي عبيد الله بن عمر، (ت 430 هـ)، وكتاب (البرهان) لإمام الحرمين الجويني (ت 478 هـ) الذي نُعْنى منذ عدة سنوات بتحقيقه، وسيصدر قريبا للناس بإذن الله، وكتاب فخر الإسلام علي بن محمد بن الحسين البزدوي (ت 482 هـ)، وكتاب (المستصفي) للغزالي (ت 555 هـ) وكتاب الآمدي (ت 631 هـ)، و (منهاج الوصول إلى علم الأصول) للقاضي البيضاوي (ت 685 هـ) وكتاب (الموافقات) للشاطبي (ت 790 هـ) الذي نحا فيه مؤلفه نحوا من الإبداع

لم يسبق إليه، وسلك فيه منهجا بين فيه حكمة الشريعة، ومقاصدها الجليلة. ومن الذين ألفوا في هذا العلم من الجزائريين الإمام الأصولي الشريف محمد بن أحمد التلمساني (710 - 771 هـ) الذي وصلنا كتابه (مفتاح الأصول في ابتناء الفروع على الأصول (¬1)) الذي اشتهر بين علماء إفريقيا الشمالية، وإفريقيا الغربية وفقهائها إلى يومنا هذا. وكان زعيم الإصلاح في بلادنا الإمام ابن باديس يتولى تدريس هذا العلم خلال نصوص هذا الكتاب ويعلق (¬2) عليه، ويناقشه مع تلامذه. وأمام القارئ الكريم رسالة هامة من رسائل الإمام ابن باديس في علم الأصول، إتصل نشاطه العلمي فيها بنشاط أسلافه من القدماء، فأحيا بها البحث العلمي، والنظر في الأصول، وفي المنهج، ولم يكتفي بالفروع كما هو ديدن الفقهاء المتأخرين الذين اقتصروا على الجزئيات، ولم يلتفتوا إلى الكليات التي تنبني عليها إلا قليلا. عثرت على هذه الرسالة عند أحد تلاميذ الإمام في مدينة قسنطينة ألا وهو الأستاذ محمد العربي بن صالح الحركاتي البنعيسي كان قد أملاها (¬3) ابن باديس على تلاميذه سنة 1356 هـ (1938 م). أحاط فيها صاحبها على وجازتها بأهم مطالب هذا العلم ومسائله. ¬

_ (¬1) نشره الحاج السير أحمدو بيلو رئيس حكومة نيجيريا في ذلك العهد، باشراف الشيخ أبي بكر محمود قمى قاضي قضاة نيجيريا، دار الكتاب العربي، القاهرة 1382 هـ 1962 م، وطبع قبل هذا عدة طبعات. (¬2) لدي بعض تعليقاته على هذا الكتاب ولعلي أنشرها مع الكتاب المشار إليه. (¬3) وأود أن أشكر للأستاذ محمد العربي تكرمه بالإذن لي بنقل هذه الرسالة ونشرها.

وأردنا بنشر هذه المخطوطة النادرة أن نحيي بها ذكرى ابن باديس الأربعين لعل همما تبعث في هذا السبيل لنشر أصول الثقافة الإسلامية، والإهتمام بهذا العلم الجوهوي من علوم المسلمين، الذي كاد ينقطع درسه في هذا القطر المجاهد من أقطار الإسلام. ولعل الله ييسر لنا فيما يستقبل من أيامنا تحليل هذه الرسالة، وبيان مجمل ما اشتملت عليه من مسائل هذا العلم، الذي هو أداة المجتهد في حركة التجديد، وسلاحه في تأصيل ما يعرض للمسلمين في عصرنا هذا من مشكلات تدعو للاجتهاد والجهاد. نسأل الله أن يهييء لنا من أمرنا رشدا وأن ينير سبيلنا في كل عمل ينال رضاه. الجزائر: الخميس 3 جمادي الاولى عام 1400 هـ د. عمار طالبي.

علم الأصول

كِتَابُ مَبَادِئِ الأُصُولِ إِمْلاَءُ الْأُسْتَاذِ الْعَلاَّمَةِ الْجَلِيلِ الشَّيْخُ عَبْدُ الْحَمِيدَ بْنُ بَادِيسَ أَبْقَاهُ اللَّهُ لِنَفْعِ الْأَنَامِ (¬1) * * * 1 - عِلْمُ الْأُصُولِ: مَعْرِفَةُ الْقَوَاعِدِ الَّتِي يُعْرَفُ بِهَا كَيْفَ تُسْتَفَادُ أَحْكَامُ الْأَفْعَالِ مِنْ أَدِلَّةِ الْأَحْكَامِ فَلْنَحْصِرِ (¬2) الْكَلَامَ فِي أَرْبَعَةِ أَبْوَابٍ. ¬

_ (¬1) ب: هذا كتاب إملاءات الأصول للشيخ باديس (ض). (¬2) أ: فانحصر

الباب الأول في أفعال المكلفين

الْبَابُ الْأَوَّلُ فِي أَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ (¬3) 2 - مِنْ مُقْتَضَى عُبُودِيَّةِ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ أَن يَّكُونَ مُطِيعًا لَهُ فِي جَمِيعِ أَفْعَالِهِ (¬4) مِمَّا يَفْعَلُهُ بِجَوَارِحِهِ الظَّاهِرَةِ أَوْ بِجَوَارِحِهِ الْبَاطِنَةِ، وَذَلِكَ بِأَن يَّجْرِيَ عَلَى مُقْتَضَى طَلَبِ اللَّهِ وَإِذْنِهِ فَيَفْعَلُ مَا طُلِبَ مِنْهُ فِعْلَهُ، وَيَتْرُكُ مَا طُلِبَ مِنْهُ تَرْكَهُ، وَيَخْتَارُ (¬5) فِيمَا أُذِنَ لَهُ فِي فِعْلِهِ وَتَرْكِهِ، إِذْ كُلُّ فِعْلٍ مِنْ أَفْعَالِهِ لاَ بُدَّ أَن يَّكُونَ مَطْلُوبَ الْفِعْلِ أَوْ مَطْلُوبَ التَّرْكِ أَوْ مَأْذُوناً فِي فِعْلِهِ وَتَرْكِهِ. ¬

_ (¬3) ب: المكلف. (¬4) ب: أحواله. (¬5) ب: ويتخير.

الباب الثاني في أحكام الله تعالى

الْبَابُ الثَّانِي فِي أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى 3 - كُلُّ فِعْلٍ مِنْ أَفْعَالِ الْمُكَلَّفِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ لَابُدَّ أَن يَّكُونَ قَدْ تَعَلَّقَ بِهِ حُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى (¬1) لِأَنَّ الاِنْسَانَ لَمْ يُخْلَقْ عَبَثًا وَلَمْ يُتْرَكْ سُدًى، وَحُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى هُوَ طَلَبُهُ أَوْ إِذْنُهُ أَو وَّضْعُهُ (¬2). وَالطَّلَبُ إِمَّا لِلْفِعْلِ وَإِمَّا لِلتَّرْكِ، وَهُوَ فِي كِلَيْهِمَا إِمَّا عَلَى سَبِيلِ التَّحْتِيمِ وَإِمَّا عَلَى سَبِيلِ التَّرْجِيحِ. فَمَا كَانَ طَلَبًا لِلْفِعْلِ (¬3) عَلَى سَبِيلِ التَّحْتِيمِ فَهُوَ الِإيجَابُ. وَمَا كَانَ طَلَبًا لِلْفِعْلِ عَلَى سَبِيلِ التَّرْجِيحِ فَهُوَ النَّدْبُ أَوْ (¬4) الِاسْتِحْبَابُ. وَمَا كَانَ طَلَبًا لِلتَّرْكِ (¬5) عَلَى سَبِيلِ التَّحْرِيمِ فَهُوَ الْحَظْرُ وَالتَّحْرِيمُ. وَمَا كَانَ طَلَبًا (¬6) عَلَى سَبِيلِ التَّرْجِيحِ فَهُوَ الْكَرَاهِيَّةُ (¬7). وَإِذْنُهُ فِي الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ هُوَ (¬8) الْإِبَاحَةُ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ الطَّلَبُ وَالْإِذْنُ حُكْمًا، وَالْحُكْمُ ¬

_ (¬1) ب: من أن. (¬2) ب: أو وضعه. (¬3) ب: طلبا للفعل. (¬4) ب: وللترك. (¬5) ب: للترك. (¬6) ب: طلبا. (¬7) ب: الكراهة. (¬8) ب: فهو.

إِثْبَاتُ شَيْءٍ لِشَيْءٍ أَوْ نَفْيِهِ عَنْهُ. لِأَنَّ الْإِيجَابَ إِذَا تَعَلَّقَ بِالْفِعْلِ ثَبَتَ لَهُ هَذَا الْوَصْفُ وَهُوَ الْوُجُوبُ، فَيُقَالُ فِيهِ: وَاجِبٌ. وَلِأَنَّ الاِسْتِحْبَابَ وَالنَّدْبَ إِذَا تَعَلَّقَ بِالْفِعْلِ ثَبَتَ لَهُ هَذَا الْوَصْفُ وَهُوَ الاِسْتِحْبَابِيَةُ وَالْمَنْدُوبِيَةُ (1) فَيُقَالُ فِيهِ: مُسْتَحَبٌّ وَمَنْدُوبٌ. وَلِأَنَّ التَّحْرِيمَ وَالْحَظْرَ (2) إِذَا تَعَلَّقَ بِالْفِعْلِ ثَبَتَ لَهُ هَذَا الْوَصْفُ وَهُوَ الْحِرْمَةُ وَالْمَحْظُورِيَةُ، فَيُقَالُ فِيهِ: حَرَامٌ وَمَحْظُورٌ. وَلِأَنَّ الْكَرَاهِيَةَ (3) إِذَا تَعَلَّقَ بِالْفِعْلِ ثَبَتَ لَهُ هَذَا الْوَصْفُ وَهُوَ الْمَكْرُوهِيَةُ فَيُقَالُ فِيهِ: مَكْرُوهٌ. وَلِأَنَّ الإِذْنَ وَالْإِبَاحَةَ إِذَا تَعَلَّقَ بِالْفِعْلِ ثَبَتَ لَهُ هَذَا الْوَصْفُ وَهُوَ الْمَأْذُونِيَةُ وَالْإِبَاحَةُ فَيُقَالُ فِيهِ: مَأْذُونٌ فِيهِ وَمُبَاحٌ. وَتُسَمَّى هَذِهِ الْأَحْكَامُ الْخَمْسَةِ (4) أَحْكَامًا تَكْلِيفِيَّةً لِمَا فِي تَحْصِيلِ الْمَطْلُوبِ مِنَ الْكُلْفَةِ (5).

الوضع

الْوَضْعُ (¬1) 4 - وَأَمَّا وَضْعُهُ تَعَالَى: فَهُوَ جَعْلُهُ الشَّيْءَ سَبَبًا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ الْوُجُودُ، وَمِنْ عَدَمِهِ الْعَدَمُ لِذَاتِهِ، كَدُخُولِ الْوَقْتِ لِوُجُوبِ الصَّلَاةِ وَصِحَّتَهَا. أَوْ شَرْطًا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِهِ (¬2) العَدَمُ (¬3)، وَلَا يَلْزَمُ مِن وُّجُودِهِ وُجُودٌ وَلَا عَدَمٌ لِذَاتِهِ، كَالْوُضُوءِ لِصِحَّتِهَا. أَوْ مَانِعًا يَلْزَمُ مِن وُّجُودِهِ الْعَدَمُ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِهِ وُجُودٌ وَلَا عَدَمٌ لِذَاتِهِ، كَالْحَيْضِ لِوُجُوبِهَا وَصِحَّتِهَا. وَإِنَّمَا سُمِّيَ هَذَا الْوَضْعُ حُكْمًا لِأَنَّ مَا وَضَعَهُ اللَّهُ سَبَبًا ثَبَتَتْ (¬4) لَهُ السَّبَبِيَّةُ. وَمَا وَضَعَهُ (¬5) شَرْطًا ثَبَتَتْ (¬6) لَهُ الشَّرْطِيَّةُ. وَمَا وَضَعَهُ (¬7) مَانِعًا ثَبَتَتْ (¬8) لَهُ الْمَانِعِيَّةُ. وَتُسَمَّى هَذِهِ الْأَحْكَامُ الثَّلَاثَةِ وَضْعِيَّةٌ نِسْبَةً لِلْوَضْعِ وَالْجَعْلِ. ¬

_ (¬1) ب: الوضع. (¬2) أ: عدم. (¬3) أ: عدم. (¬4) ب: تثبت. (¬5) ب: الله (¬6) ب: تثبت. (¬7) ب: الله. (¬8) ب: تثبت.

تفريق ما بينهما

تَفْريِقُ مَا بَيْنَهُمَا 5 - مِمَّا يَفْتَرِقَانِ فِيهِ أَنَّ الْحُكْمَ التَّكْلِيفِيَّ (¬1) مُتَعَلِّقُهُ فِعْلَ الْمُكَلَّفِ مِنْ حَيْثُ طَلَبِهِ (¬2) وَالْإِذْنِ فِيهِ. وَإِنَّ الْحُكْمَ الْوَضْعِيَّ مُتَعَلِّقُهُ الْأَشْيَاءَ الَّتِي تُجْعَلُ شُرُوطًا وَأَسْبَابًا وَمَوَانِعَ، سَوَاءً كَانَتْ مِنْ فِعْلِ (¬3) الْمُكَلَّفِ كَالْوُضُوءِ شَرْطًا فِي الصَّلَاةِ، أَوْ (¬4) لَمْ تَكُنْ كَدُخُولِ الْوَقْتِ سَبَبًا فِي وُجُوبِهَا (¬5)، وَأَنَّ مُتَعَلِّقَ الْحُكْمَ التَّكْلِيفِيَّ يُطَالَبُ الْمُكَلَّفِ بِتَحْصِيلِهِ لِأَنَّهُ فَعَلَهُ. وَأَنَّ مُتَعَلِّقَ الْحُكْمَ الْوَضْعِيَّ لَا يُطَالَبُ الْمُكَلَّفِ بِتَحْصِيلِهِ إِذَا لَمْ يَكُن مِّنْ فِعْلِهِ كَدُخُولِ الْوَقْتِ وَمُرُورِ الْحَوْلِ، وَيُطَالَبُ بِتَحْصِيلِهِ إِذَا كَانَ مِنْ فِعْلِهِ كَالطَّهَارَةِ وَاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ، وَيَكُونُ الْفِعْلُ حِينَئِذٍ مُتَعَلِّقًا لِلْحُكْمَيْنِ بِاعْتِبَارَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ (¬6). ¬

_ (¬1) ب: التكليفية. (¬2) ب: أو. (¬3) ب: أفعال. (¬4) ب: أم. (¬5) ب: سببا فيها. (¬6) أ: مختلفين.

الأحكام الشرعية في الخطابات الإلهية

الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ فِي الْخِطَابَاتِ الْإِلَهِيَّةِ 6 - كُلُّ حُكْمٍ مِنْ أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ مُسْتَفَادٌ مِّنَ الْخِطَابَاتِ الْمُوَجَّهَةِ إِلَيْنَا. وَمَا تَضَمَّنَ مِنْهَا حُكْمًا تَكْلِيفِيًّا فَهُوَ خِطَابُ تَكْلِيفٍ. وَمَا تَضَمَّنَ (¬1) حُكْمًا وَضْعِيًّا فَهُوَ خِطَابُ وَضْعٍ، وَقَدْ يَتَضَمَّنُ الْخِطَابُ الْحُكْمَيْنِ مَعًا. أَمْثِلَةُ ذَلِكَ: فَمِنْ (¬2) قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَقِيمُوا الصَّلَاةَ} (¬3) عَرَفْنَا الْحُكْمَ الذَّي هُوَ الْإِيجَابُ لِلصلَّاَةِ. وَمِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا} (¬4) عَرَفْنَا الْحُكْمَ الذَّي هُوَ التَّحْرِيمُ لِلزِّنَا. وَمِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْعَامِدِ لِلصَّلَاةِ أَنَّهُ: «تُكْتَبُ لَهُ (¬5) بِكُلِّ خُطْوَةٍ حَسَنَةٌ وَتُمْحَى عَنْهُ بِالْأُخْرَى سَيِّئَةٌ» (¬6) عَرَفْنَا الْحُكْمَ الذَّي هُوَ اسْتِحْبَابُ كَثْرَةِ الْخُطَى إِلَى الْمَسَاجِدِ (¬7). وَمِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا ¬

_ (¬1) ب: منها. (¬2) ب: فمن. (¬3) ب: ورد هذا في آيات كثيرة أولها في البقرة آية 43 وآخرها في المزمل آية 20 فهي واردة في 16 آية. (¬4) ب: الاسراء 32. (¬5) ب: له. (¬6) ب: البخاري: باب الصلاة , مسلم: باب الصلاة أبو داود: باب الصلاة. وأخرج مسلم في باب المساجد ومالك في النداء: (أن يعمد الى الصلاة فهو في الصلاة). (¬7) المسجد.

أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (¬1) عَرَفْنَا الْحُكْمَ الذَّي هُوَ كَرَاهَةُ الْحَلْفِ عَلَى الاِمْتِنَاعِ مِنَ الصَّدَقَةِ. وَمِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ} (¬2) عَرَفْنَا الْحُكْمَ الذَّي هُوَ الْإِذْنُ فِي الاِنْتِشَارِ. وَمِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} (¬3) عَرَفْنَا الْحُكْمَ الذَّي هُوَ وَضْعُهُ تَعَالَى دُخُولُ الْوَقْتِ سَبَبًا لِإِقَامَةِ (¬4) الصَّلَاةِ. وَمِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لاَ يَقْبَلُ اللهُ صَلاةَ أَحَدِكُمْ إِذَا أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ» (¬5) عَرَفْنَا الْحُكْمَ الذَّي هُوَ وَضْعُهُ تَعَالَى الْوُضُوءُ شَرْطًا فِي الصَّلَاةِ. وَمِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَلَيْسَ إِذَا حَاضَتِ الْمَرْأَةُ لَمْ تُصَلِّ وَلَمْ تَصُمْ» (¬6) عَرَفْنَا الْحُكْمَ الذَّي هُوَ وَضْعُهُ تَعَالَى الْحَيْضُ مَانِعًا مِنَ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ. وَمِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} (¬7) الآية، عَرَفْنَا الْحُكْمَ الذَّي هُوَ إِيجَابُ الْوُضُوءِ، وَعَرَفْنَا الْحُكْمَ الذَّي هُوَ وَضْعُهُ تَعَالَى ¬

_ (¬1) النور آية 22. (¬2) الجمعة آية 15. (¬3) الاسراء آية 78. (¬4) ب: في إقامة. (¬5) أخرجه البخاري في باب الوضوء. ومسلم في باب الطهارة. والترمذي في باب الطهارة. وأبو داود في باب الطهارة. واُحمد ابن حنبل في باب الطهارة. (¬6) أخرجه البخارى في باب الحيض. (¬7) المائدة آية 6.

تتميم وتقسيم

الْوُضُوءُ شَرْطًا فِي الصَّلَاةِ فَاشْتَمَلَ هَذَا (¬1) الْخِطَابُ عَلَى الْحُكْمِ التَّكْلِيفِيِّ وَالْوَضْعِيِّ مَعًا. تَتْمِيمٌ وَتَقْسِيمٌ 7 - يَنْقَسِمُ الْحُكْمُ أَيْضًا إِلَى: عَزْمٍ وَتَرْخِيصٍ. فَمَا كَانَ حُكْمًا ابْتِدَائِيًّا عَامًّا فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ فَهُوَ عَزْمٌ، وَالْفِعْلُ الَّذِي تَعَلَّقَ (¬2) بِهِ يُسَمَّى عَزِيمَةٌ كَإِيجَابِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَتَحْرِيمِ الْخَمْرِ. وَمَا كَانَ حُكْمًا سَهْلًا شُرِعَ بَعْدَ حُكْمٍ صَعْبٍ فِي حَالَةٍ خَاصَّةٍ لِأَجْلِ الْعُذْرِ مَعَ قِيَامِ السَّبَبِ لِلْحُكْمِ الْأَصْلِيِّ فَهُوَ تَرْخِيصٌ، وَالْفِعْلُ الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ يُسَمَّى رُخْصَةً، كَقَصْرِ الصَّلَاةِ وَالْفِطْرِ فِي السَّفَرِ (¬3)، وَالْمَسْحِ عَلَى الْخُفِّ، وَإِسَاغَةِ الْغُصَّةِ بِالْخَمْرِ. تَصْحِيحٌ وَإِبْطَالٌ: 8 - وَيَنقَسِمُ (¬4) أَيْضًا إِلَى: تَصْحِيحٍ وَإِبْطَالٍ: فَالتَّصْحِيحُ (¬5): الْحُكْمُ بِالصِّحَّةِ فِي الْعِبَادَاتِ، وَعُقُودِ الْمُعَامَلَاتِ ¬

_ (¬1) أ: هذا. (¬2) ب: تعالى. (¬3) أ: في الصوم. (¬4) ب: تقسيم. (¬5) أ: التصحيح.

مقتضيات الحكم

وَهِيَ (¬1) اسْتِيفَاءُ الْعَقْدِ، وَالْعِبَادَاتِ (¬2) بِالشُّرُوطِ (¬3) الْمُعْتَبَرَةِ فِيهِ (¬4) شَرْعًا، وَسَلَامَتِهِ مِنَ الْمَوَانِعِ بِحَيْثُ يَقَعُ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ، وَمَا تَعَلَّقَتْ بِهِ الصِّحَةُ مِنْهُمَا (¬5) صَحِيحٌ، وَإِبْطَالُ (¬6) الْحُكْمِ لِإِبْطَالِ (¬7) الْعَقْدِ أَوْ الْعِبَادَةِ. وَالبُطْلَانُ وَالفَسَادُ هُوَ: اخْتِلَالُ العِبَادَةِ أَوِ الْعَقْدِ لِتَخَلُّفِ شَرْطٍ أَوْ وُجُودِ مَانِعٍ، بِحَيْثُ تَكُونُ الْعِبَادَةُ أَوِ الْعَقْدُ وَقَعَتْ عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ (¬8)، وَمَا تَعَلَّقَ بِهِ الإِبْطَالُ مِنْهُمَا فَهُوَ بَاطِلٌ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ» (¬9) رَوَاهُ الشَّيْخَانِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا. مُقْتَضَيَاتُ الْحُكْمِ (¬10) 9 - الْحَاكِمُ هُوَ اللهُ تَعَالَى. وَكُلُّ حَاكِمٍ مِنَ الخَلْقِ فَإِنَّمَا (¬11) يَكُونُ حَاكِمًا شَرْعًا إِذَا كَانَ يَحْكُمُ ¬

_ (¬1) أ: وهي. (¬2) ب: أو العبادة. (¬3) أ: للشروط. (¬4) ب: شرعا. (¬5) ب: فهو. (¬6) ب: والابطال. (¬7) ب: ببطلان. (¬8) ب: وجه مشروع. (¬9) أخرجه البخاري في باب الاعتصام والبيوع، وابن ماجة، وابن حنبل. (¬10) ب: مقتضى. (¬11) ب: إنما.

المحكوم فيه

بِحُكْمِ اللهِ: يَتَحَرَّاهُ وَيَقْصِدُهُ (¬1)؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} (¬2) {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} (¬3) {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ .. إلى .. اللَّهُ} (¬4) {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (¬5) {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (¬6) {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (¬7). الْمَحْكُومُ فِيهِ 10 - هُوَ فِعْلُ الْمُكَلَّفِ: الظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ، وَلَمْ يُكَلِّفِ اللهُ الْعِبَادَ إِلَّا بِمَا فِي مَقْدُورِهِمْ وَلَا حَرَجَ عَلَيْهِمْ فِيهِ؛ فَلَا تَكْلِيفَ بِغَيْرِ الْمَقْدُورِ كَقِيَامِ الْمُقْعَدِ لِلصَّلَاةِ، وَلَا بِمَا فِيهِ حَرَجٌ كَقِيَامِ الْمَرِيضِ لَهَا (¬8)؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {... رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ..} (¬9)، {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (¬10)، {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (¬11). ¬

_ (¬1) ب: وقصده. (¬2) الا نعام آية 57. (¬3) المائده آية 49. (¬4) {.. لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} - النساء آية 105. (¬5) المائده آية 44. (¬6) المائده آية 45. (¬7) المائده آية 47. (¬8) ب: فلا تكليف ... المرض لها. (¬9) البقرة 286. (¬10) البقرة 286. (¬11) الحج آية 78.

المحكوم عليه

الْمَحْكُومُ عَلَيهِ (¬1) 11 - وَهُوَ الْمُكَلَّفُ الْبَالِغُ الْعَاقِلُ الْمُخْتَارُ دُونَ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَالْمَعْتُوهِ وَالْمُكْرَهِ. الْمُخَاطَبُ بِالْأَحْكَامِ 12 - إِذَا كَانَ الْخِطَابُ بِحُكْمٍ وَضْعِيٍّ فَهُوَ عَلَى عُمُومِهِ لِلْمُكَلَّفِ وَغَيْرِهِ؛ وَلِهَذَا لَزِمَ (¬2) الصَّبِيَّ وَالْمَجْنُونَ أَرْشُ جِنَايَتِهِمَا، وَوَجَبَتِ الزَّكَاةُ بِمِلْكِ النِّصَابِ فِي مَالِهِمَا. وَإِنْ كَانَ الْخِطَابُ بِحُكْمٍ تَكْلِيفِيٍّ فَهُوَ لِخُصُوصِ الْمُكَلَّفِينَ. ثُمَّ الْخِطَابُ التَّكْلِيفِيُّ إِنْ كَانَ بِمَّا (¬3) تَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ مَصْلَحَةُ كُلِّ فَرْدٍ تَوَقُّفًا مُبَاشِرًا تَوَجَّهَ لِكُلِّ فَرْدٍ، وَسُمِّيَ الْخِطَابُ: خِطَابًا عَيْنِيًّا، وَيُسَمَّى الْمَطْلُوبُ بِهِ مَطْلُوبًا عَيْنِيًّا ـ وَاجِبًا كَانَ أَوْ مَنْدُوبًا ـ كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ وَالصَّدَقَةِ (¬4) فَرْضِهَا وَنَفْلِهَا، وَلَا يَسْقُطُ الطَّلَبُ فِيهِ (¬5) عَنْ أَحَدٍ بِقِيَامِ غَيْرِهِ بِهِ. وَإِنْ كَانَ بِمَّا (¬6) تَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ مَصْلَحَةُ الْمَجْمُوعِ وَمَصْلَحَةُ الْفَرْدِ مِنْ ¬

_ (¬1) ب: المحكوم عليه فهو المكلف، المكلف هو ... ب: + فلا تكليف بغير المقدور كقيام المقعد للصلاة ولا بما فيه حرج كقيام المريض لها. (¬2) ب: لزم. (¬3) أ: مما. (¬4) ب: القدتة. (¬5) ب: فيها. (¬6) أ: مما.

حَيْثُ إِنَّهُ جُزْءٌ مِنَ الْمَجْمُوعِ ـ تَوَجَّهَ لِلْمَجْمُوعِ، وَسُمِّيَ الْخِطَابُ (¬1) خِطَابًا كِفَائِيًّا، وَيُسَمَّى الْمَطْلُوبُ بِهِ مَطْلُوبًا (¬2) كِفَائِيًّا، وَاجِبًا كَانَ الْطَّلَبُ (¬3) كَطَلَبِ الْعِلْمِ وَالأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، أَوْ مَنْدُوبًا: كَإِفْشَاءِ السَّلَامِ وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ، وَيَسْقُطُ الطَّلَبُ عَنِ الْمَجْمُوعِ إِذَا قَامَ بِهِ بَعْضُهُمْ، وَيَكْفِي فِيهِ عَنْ كُلِّ أَحَدٍ غَيْرُهُ، وَمِنْ هَذَا الْقِسْمِ جَاءَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (¬4)، {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (¬5). ¬

_ (¬1) أ: الخطاب. (¬2) أ: مطلوبا. (¬3) ب: الطلب. (¬4) آل عمران آية 104. (¬5) التوبة آية 122.

الباب الثالث أدلة الأحكام من الكتاب والسنة والإجماع والقياس

الْبَابُ الثَّالِثُ (¬1) أَدِلَّةُ الْأَحْكَامِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَالْقِيَاسِ 13 - الْكِتَابُ: هُوَ القُرْآنُ الْعَظِيمُ، وَهُوَ الْكِتَابُ (¬2) الْمُنَزَّلُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الْمَكْتُوبُ فِي الْمَصَاحِفِ، الْمَنْقُولَةِ (¬3) إِلَيْنَا بِالتَّوَاتُرِ، الْمَحْفُوظُ بِحِفْظِ اللهِ مِنَ التَّبْدِيلِ وَالتَّغْيِيرِ. وَهُوَ أَصْلُ الْأَدِلَّةِ؛ إِذْ كُلُّهَا يَرْجِعُ إِلَيْهِ، وَاسْتَدَلَّ (¬4) عَلَى حُجِّيَّتِهَا بِهِ: فَالسُّنَّةُ بَيَانُهُ، وَالْإِجْمَاعُ لَا يَكُونُ إِلَّا عَنْ دَلِيلٍ مِنْهُ أَوْ مِنَ السُّنَّةِ، وَالْقِيَاسُ لَا يَكُونُ إِلَّا عَلَى أَصْلٍ ثَبَتَ حُكْمُهُ بِالْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ أَوِ الْإِجْمَاعِ. 14 - السُّنَّةُ: هِيَ مَا ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ أَوْ تَقْرِيرٍ، وَهِيَ حُجَّةٌ فِي دِينِ اللهِ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (¬5)، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ... إلى: تَأْوِيلًا} (¬6)، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا ¬

_ (¬1) ب: الباب الثالث. (¬2) ب: الكتاب. (¬3) ب: المنقول. (¬4) ب: ويستدل. (¬5) - الحشر آية 7. (¬6) - {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا}. النساء آية 59.

كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ ... إلى: مُبِينًا} (¬1)، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} (¬2) الآية، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ - إِلَى قَوْلِهِ: وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} (¬3) وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} (¬4). وَتَجِيءُ السُّنَّةُ لِبَيَانِ الْكِتَابِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (¬5)، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ} (¬6). وَتَسْتَقِلُّ بِالتَّشْرِيعِ (¬7) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ} (¬8) الآية. وَقَدْ رَوَى الشَّيْخَانِ: أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: (لَعَنَ اللهُ الْوَاشِمَاتِ وَالْمُسْتَوْشِمَاتِ، وَالنَّامِصَاتِ وَالْمُتَنَمِّصَاتِ، وَالْمُتَفَلِّجَاتِ لِلْحُسْنِ الْمُغَيِّرَاتِ خَلْقَ اللهِ). قَالَ: فَبَلَغَ ذَلِكَ امْرَأَةً مِنْ بَنِي أَسَدٍ يُقَالُ لَهَا: أُمُّ يَعْقُوبَ، وَكَانَتْ تَقْرَأُ القُرْآنَ ـ فَأَتَتْهُ فَقَالَتْ: مَا حَدِيثٌ بَلَغَنِي عَنْكَ أَنَّكَ لَعَنْتَ الْوَاشِمَاتِ (¬9)؟ فَقَالَ عَبْدُ اللهِ: وَمَا لِي لَا أَلْعَنُ مَنْ لَعَنَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ ¬

_ (¬1) {إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا}. الاحزاب آية 36. (¬2) النور آية 63. (¬3) النور آية 24. أ - حذفت هذه الآية. (¬4) {رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} - النساء آية 61. (¬5) النحل آية 44. (¬6) النحل آية 64. (¬7) ب: في التشريع. (¬8) الحشر آية 7. (¬9) ب: إعادة للحديث كاملا.

الإجماع

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي كِتَابِ اللهِ، فَقَالَتِ المَرْأَةُ: لَقَدْ قَرَأْتُ مَا (¬1) بَيْنَ لَوْحَيِ الْمُصْحَفِ فَمَا وَجَدْتُهُ. فَقَالَ لَهَا (¬2): إِنْ كُنْتِ قَرَأْتِيهِ لَقَدْ وَجَدْتِيهِ (¬3)، فَقَالَ اللهُ تَعَالَى (¬4): {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} (¬5) الآية. فَقَالَتْ (¬6): إِنِّي (¬7) أَرَى شَيْئًا مِنْ هَذا عَلَى امْرَأَتِكَ الْآنَ، قَالَ: اذْهَبِي فَانْظُرِي، قَالَ: فَدَخَلَتْ عَلَى امْرَأَةِ عَبْدِ اللهِ فَلَمْ تَرَ شَيْئًا، فَجَاءَتْ إِلَيْهِ فَقَالَتْ: مَا رَأَيْتُ شَيْئًا، فَقَالَ: أَمَا (¬8) لَوْ كَانَ ذَلِكَ لَمْ أُجَامِعْهَا (¬9). الْإِجْمَاعُ 15 - هُوَ اتِّفَاقُ مُجْتَهِدِي هَذِهِ الْأُمَّةِ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عَصْرٍ مِنَ الْأَعْصَارِ عَلَى حُكْمٍ شَرْعِيٍّ. وَهُوَ حُجَّةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} (¬10). وَهُوَ قِسْمَانِ: عَمَلِيٌّ: نَقَلَتْهُ الْأُمَّةُ كُلُّهَا كَالْصَّلَاةِ وَالْصِّيَامِ. ¬

_ (¬1) أ: من. (¬2) ب: لها. (¬3) كذا في الأصل. (¬4) ب: عز وجل. (¬5) الحشر آية 7. (¬6) ب: امرأة. (¬7) ب: فأني. (¬8) ب: أما. (¬9) ب: نجامعها. (¬10) النساء آية 115.

ونظري

وَنَظَرِيٌّ: وَهُوَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَبْنِيًّا عَلَى النَّظَرِ وَالْاِجْتِهَادِ (¬1) عَنْ أَدِلَّةٍ قَطْعِيَّةٍ أَوْ عَنْ أَدِلَّةٍ ظَنِّيَّةٍ، وَهَذَا وُقُوعُهُ مُمْكِنٌ، وَلَكِنَّ مَعْرِفَتَهُ مُتَعَذِّرَةٌ لِانْتِشَارِ الْمُجْتَهِدِينَ فِي الْآفَاقِ وَكَثْرَةِ عَدَدِهِمْ، إِلَّا إِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ قَبْلَ انْتِشَارِهِمْ؛ فَمُنْحَصِرٌ (¬2) عَدَدُ المُجْتَهِدِينَ مِنْهُمْ. الْقِيَاسُ 16 - هُوَ إِلْحَاقُ فَرْعٍ مَجْهُولِ الْحُكْمِ بِأَصْلٍ مَعْلُومِ الْحُكْمِ فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ لِوَصْفٍ جَامِعٍ مَا بَيْنَهُمَا يَكُونُ هُوَ سَبَبَ الْحُكْمِ الثَّابِتِ بِالْأَصْلِ، مَعَ انْتِفَاءِ الْفَارِقِ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ، كَإِلْحَاقِ النَّبِيذِ بِالْخَمْرِ فِي التَّحْرِيمِ لِلْإِسْكَارِ الْجَامِعِ مَا بَيْنَهُمَا الَّذِي هُوَ عِلَّةُ تَحْرِيمِهِ (¬3). ¬

_ (¬1) ب: مبنيا على النظر والاجتهاد. (¬2) ب: لحصر عددهم وعدد ... (¬3) ب: الجامع ما بينهما الذي هو علة تحريمه.

الباب الرابع في القواعد الأصولية

الْبَابُ الرَّابِعُ فِي الْقَوَاعِدِ الْأُصُولِيَّةِ 17 - تَمْهِيدٌ: الْأَدِلَّةُ قِسْمَانِ: أَدِلَّةٌ تَفْصِيلِيَّةٌ وَأَدِلَّةٌ إِجْمَالِيَّةٌ: فَالْأَوَّلُ (¬1) هِيَ آيَاتُ الْأَحْكَامِ، وَأَحَادِيثُ الْأَحْكَامِ. وَسُمِّيَتْ تَفْصِيلِيَّةً لِدَلَالَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا عَلَى حُكْمٍ مَخْصُوصٍ لِفِعْلٍ مَخْصُوصٍ. وَالثَّانِيَةُ: هِيَ الْقَوَاعِدُ الْأُصُولِيَّةُ، وَسُمِّيَتْ إِجْمَالِيَّةً لِدُخُولِ جُمْلَةٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الْأَدِلَّةِ التَّفْصِيلِيَّةِ تَحْتَ كُلِّ وَاحِدَةٍ (¬2) مِنْهَا: فَقَوْلُهُ (¬3) تَعَالَى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} دَلِيلٌ تَفْصِيلِيٌّ فِي حُكْمِ الصَّلَاةِ، وَقَاعِدَةُ الْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ دَلِيلٌ إِجْمَالِيٌّ لِشُمُولِهِ الْأَمْرَ الَّذِي فِي الْآيَةِ وَغَيْرَهُ. وَبِمَعْرِفَةِ الدَّلِيلِ التَّفْصِيلِيِّ وَمَا يَنْطَبِقُ عَلَيْهِ مِنَ الدَّلِيلِ الْإِجْمَالِيِّ يُسْتَفَادُ الْحُكْمُ؛ فَيُقَالُ مَثَلًا: {أَقِيمُوا الصَّلَاةَ} أَمْرٌ بِالصَّلَاةِ، وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ؛ فَـ {أَقِيمُوا الصَّلَاةَ} أَمْرٌ بِوُجُوبِ الصَّلَاةِ؛ فَالصَّلَاةُ (¬4) وَاجِبَةٌ، وَمَرْجِعُ الْأَدِلَّةِ التَّفْصِيلِيَّةِ: الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، وَمَا ذَكَرَهُ الْأَئِمَّةُ مِنَ الْإِجْمَاعَاتِ وَالْأَقْيِسَةِ. وَمَرْجِعُ الْأَدِلَّةِ الْإِجْمَالِيَّةِ: كُتُبُ الْأُصُولِ. ¬

_ (¬1) ب: الأولى. (¬2) ب: وحدة. (¬3) أ: قوله. (¬4) ب: الصلاة.

قاعدة في حمل اللفظ

قَاعِدَةٌ فِي حَمْلِ اللَّفْظِ 18 - يُحْمَلُ اللَّفْظُ عَلَى حَقِيقَتِهِ دُونَ مَجَازٍ إِلَّا لِقَرِينَةٍ أَوْ دَلِيلٍ، وَيُحْمَلُ اللَّفْظُ عَلَى الْمَعْنَى العُرْفِيِّ لِلْمُتَكَلِّمِ دُونَ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ أَوِ الْعُرْفِيِّ لِغَيْرِهِ، وَتُحْمَلُ أَلْفَاظُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى الْمَعَانِي الشَّرْعِيَّةِ دُونَ اللُّغَوِيَّةِ أَوِ الْعُرْفِيَّةِ غَيْرِ الشَّرْعِيَّةِ. قَاعِدَةٌ فِي الْأَمْرِ (¬1) 19 - صِيغَةُ الْأَمْرِ إِذَا جَاءَتْ لِلطَّلَبِ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْوُجُوبِ إِلَّا لِقَرِينَةٍ أَوْ دَلِيلٍ، وَلَا تَقْتَضِي فَوْرًا وَلَا تَكْرَارًا؛ فَلَا يُعْلَمَانِ إِلَّا بِقَرِينَةٍ أَوْ دَلِيلٍ، وَالْمَرَّةُ ضَرُورِيَّةٌ لِلاِمْتِثَالِ (¬2)، وَتَقْتَضِي النَّهْيَ عَنْ أَضْدَادِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَقْتَ الاِمْتِثَالِ (¬3)، وَتَقْتَضِي طَلَبَ مَا لَا يَحْصُلُ الْمَطْلُوبُ إِلَّا بِهِ. قَاعِدَةٌ فِي النَّهْيِ 20 - صِيغَةُ النَّهْيِ لِلتَّحْرِيمِ إِلَّا لِقَرِينَةٍ أَوْ دَلِيلٍ، وَتَقْتَضِي الْفَوْرَ وَدَوَامَ التَّرْكِ، وَتَقْتَضِي فِعْلَ ضِدٍّ مِنْ أَضْدَادِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ. قَاعِدَةٌ فِي الْأَخْذِ بِالْمَأْمُورِ (¬4) بِهِ 21 - يُفْعَلُ مِنَ الْمَأْمُورِ بِهِ الْمُسْتَطَاعُ (¬5)، وَيُتْرَكُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ جُمْلَةً؛ لِقَوْلِهِ ¬

_ (¬1) ب: في. (¬2) ب: لتحقيق الامتثال. (¬3) أ: وتقتضي النهي ... الامتثال. (¬4) ب: للمأمور. (¬5) ب: من المأمور بقدر المستطاع.

قواعد المفهوم والمنطوق

صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَخُذُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ (¬1). قَوَاعِدُ الْمَفْهُومِ وَالْمَنْطُوقِ 22 - كُلُّ مَعْنًى اسْتُفِيدَ مِنْ جَوْهَرِ اللَّفْظِ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَعْنَى الَّذِي وُضِعَ لَهُ الْلَّفْظُ فَهُوَ الْمَنْطُوقُ: كَالشَّخْصِ الْمَوْصُوفِ بِالْعِلْمِ مِنْ لَفْظَةِ «عَالِمٌ» فِي قَوْلِكَ: «إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ العَالِمَ». وَكُلُّ مَعْنًى اسْتُفِيدَ مِنْ ذِكْرِ اللَّفْظِ وَلَيْسَ الْلَّفْظُ مَوْضُوعًا لَهُ فَهُوَ الْمَفْهُومُ: كَالشَّخْصِ الْمَوْصُوفِ بِالْجَهْلِ فِي الْمِثَالِ الْمَذْكُورِ؛ فَإِنَّهُ يَخْطُرُ فِي الذِّهْنِ عِنْدَ ذِكْرِ الْعَالِمِ لِأَنَّهُ ضِدُّ مَعْنَاهُ، وَالضِّدُّ يَخْطُرُ بِالْبَالِ عِنْدَ خُطُورِ ضِدِّهِ. كُلُّ مَعْنًى اسْتُفِيدَ مِنْ ذِكْرِ اللَّفْظِ وَهُوَ ضِدُّ الْمَعْنَى الَّذِي وُضِعَ لَهُ الْلَّفْظُ فَإِنَّهُ يُعْطَى نَقِيضَ حُكْمِ الْمَنْطُوقِ وَيُسَمَّى: مَفْهُومَ مُخَالَفَةٍ؛ لِمُخَالَفَتِهِ لِلْمَنْطُوقِ فِي الْحُكْمِ كَمَا فِي الْمِثَالِ السَّابِقِ، وَيُسَمَّى: دَلِيلَ الْخِطَابِ. وَكُلُّ مَعْنًى اسْتُفِيدَ مِنْ ذِكْرِ اللَّفْظِ وَلَيْسَ ضِدًّا لِلْمَنْطُوقِ فَإِنَّهُ يُعْطَى حُكْمَ الْمَنْطُوقِ، وَيُسَمَّى: مَفْهُومَ مُوَافَقَةٍ. ثُمَّ إِنْ كَانَ مُمَاثِلًا لِلْمَنْطُوقِ فِي الْوَصْفِ الَّذِي اسْتَحَقَّ بِهِ الْحُكْمَ كَانَ مَفْهُومًا بِالْمُسَاوَاةِ (¬2)، وَيُسَمَّى: لَحْنَ الْخِطَابِ: كَتَحْرِيمِ إِتْلَافِ مَالِ الْيَتِيمِ مِنْ ¬

_ (¬1) ب: والنسائي. (¬2) ب: مفهوم موافقة بالمساواة.

أنواع دليل الخطاب

تَحْرِيمِ أَكْلِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَأكُلُواْ أَموَلَهُم إِلَى أَموَلِكُم} (¬1)؛ لِتَسَاوِيهِمَا فِي التَّعَدِّي وَالظُّلْمِ وَالتَّضْيِيعِ عَلَى الْيَتِيمِ. وَإِنْ كَانَ أَقْوَى مِنْهُ فِي الْوَصْفِ الَّذِي اسْتَحَقَّ بِهِ الْحُكْمَ كَانَ مَفْهُومَ مُوَافَقَةٍ بِالْأَحْرَوِيَّةِ وَيُسَمَّى: فَحْوَى خِطَابٍ: كَتَحْرِيمِ الضَّرْبِ مِنْ تَحْرِيمِ قَوْلِ {أُفٍّ} فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَا تَقُل لَّهُمَآ أُفّ} (¬2)؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ أَشَدُّ مِنَ الْقَوْلِ فِي الْإِسَاءَةِ. أَنْوَاعُ دَلِيلِ الْخِطَابِ 23 - مَفْهُومُ الصِّفَةِ: كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} (¬3) مَفْهُومُ الشَّرْطِ: كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} (¬4). مَفْهُومُ الْغَايَةِ: كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (¬5). مَفْهُومُ الْعَدَدِ: كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} (¬6). ¬

_ (¬1) النساء آية 2. (¬2) الاسراء آية 23. (¬3) النساء آية 25. (¬4) الطلاق آية 6. (¬5) البقرة آية 230. (¬6) النور آية 4.

مفهوم الحصر

مَفْهُومُ الْحَصْرِ: كَقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا الْوَلاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» (¬1). مَفْهُومُ الزَّمَانِ: كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} (¬2). مَفْهُومُ الْمَكَانِ: كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} (¬3). تَقْيِيدٌ 24 - لَا يُحْتَجُّ بِالْمَفْهُومِ إِذَا خَرَجَ الْكَلَامُ مَخْرَجَ الْغَالِبِ: كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} (¬4). أَوْ جَاءَ الْكَلَامُ لِتَصْوِيرِ الْوَاقِعِ: كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} (¬5). أَوْ جَاءَ حَسَبَ مَا هُوَ الْشَّأْنُ: كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} (¬6). أَوْ جَاءَ لِلتَّفْخِيمِ وَالتَّأْكِيدِ: كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} (¬7). ¬

_ (¬1) أخرجه البخارى في باب الصلاه، ومسلم في باب العتق، وابن ماجة والموطأ في باب الطلاق. (¬2) البقرة آية 184. (¬3) آل عمران آية 97. ب: مفهوم اللقب عند الأصوليين هو اسم جامد كلفظ زيد. (¬4) النساء آية 23. (¬5) آل عمران آية 130. (¬6) البقرة آية 187. (¬7) البقرة آية 236.

قاعدة النص

وَلَا إِذَا عَارَضَهُ نَصٌّ: كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ} (¬1) فَقَدْ ثَبَتَ فِي السُّنَّةِ الْقَوْلِيَّةِ وَالْفِعْلِيَّةِ قَصْرُ الصَّلَاةِ مَعَ عَدَمِ الْخَوْفِ. قَاعِدَةُ النَّصِّ 25 - كُلُّ مَا دَلَّ عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ دُونَ احْتِمَالٍ لِغَيْرِهِ فَهُوَ نَصٌّ فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى: كَالأَعْلَامِ وَأَلْفَاظِ الْأَعْدَادِ. قَاعِدَةُ الظَّاهِرِ 26 - كُلُّ مَا دَلَّ عَلَى مَعْنًى (¬2) وَاحْتَمَلَ غَيْرَهُ احْتِمَالًا مَرْجُوحًا فَهُوَ الظَّاهِرُ الدَّلَالَةِ عَلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى، وَيَتَعَيَّنُ حَمْلُهُ عَلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى: كَاسْمِ الْجِنْسِ فِي مَعْنَاهُ الْأَصْلِيِّ (¬3)، وَالْعَامِّ فِي اسْتِغْرَاقِ جَمِيعِ أَفْرَادِهِ. قَاعِدَةُ الْمُؤَوَّلِ 27 - كُلُّ مَا دَلَّ عَلَى الْمَعْنَى (¬4) الْمَرْجُوحِ بِسَبَبِ الْدَّلِيلِ فَهُوَ الْمُؤَوَّلُ إِلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى الَّذِي صَارَ الآنَ مُتَعَيِّنًا فِيهِ (¬5) كَاسْمِ الْجِنْسِ فِي غَيْرِ مَعْنَاهُ ¬

_ (¬1) النساء آية 101. (¬2) ب: معنى. (¬3) كاسم الجنس في معناه الأصلي. (¬4) أ: معنى. (¬5) أ: فيه.

قاعدة في المبين

الْأَصْلِيِّ لِأَجْلِ الْقَرِينَةِ، وَالْعَامِّ فِي بَعْضِ أَفْرَادِهِ لِأَجْلِ الْمُخَصِّصِ. قَاعِدَةٌ فِي الْمُبَيَّنِ (¬1) 28 - كُلُّ لَفْظٍ اسْتَقَلَّ بِنَفْسِهِ (¬2) فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْمُرَادِ مِنْهُ فَهُوَ الْمُبَيَّنُ، سَوَاءٌ كَانَ نَصًّا أَمْ ظَاهِرًا؛ فَيُحْمَلُ عَلَى مَعْنَاهُ دُونَ تَوَقُّفٍ فِيهِ. قَاعِدَةٌ فِي الْمُجْمَلِ (¬3) 29 - كُلُّ لَفْظٍ دَلَّ عَلَى مَعْنًى وَلَمْ يَتَعَيَّنِ الْمُرَادُ مِنْهُ بِنَفْسِهِ فَهُوَ الْمُجْمَلُ؛ فَيَجِبُ التَّوَقُّفُ فِيهِ حَتَّى يَتَّضِحَ الْمُرَادُ مِنْهُ بِبَيِّنَةٍ. أَسْبَابُ الْإِجْمَالِ 30 - مِنْهَا: الْاِشْتِرَاكُ (¬4) فِي الْوَضْعِ: كَالْقُرْءِ لِلطُّهْرِ وَالْحَيْضِ، وَالنَّقْلُ الشَّرْعِيُّ: كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، وَصَلُوحِيَّةُ الْوَصْفِ لِلشَّيْئَيْنِ (¬5): كَالَّذِي يَتَوَلَّى (¬6) عُقْدَةَ النِّكَاحِ (¬7) مِنَ الزَّوْجِ وَالْوَلِيِّ. ¬

_ (¬1) ب: في. (¬2) أ: بنفسه. (¬3) ب: في. (¬4) ب: اشتراك. (¬5) ب: لشيئين. (¬6) ب: بيده. (¬7) ب: بنفسه.

قاعدة المبين

قَاعِدَةُ (¬1) الْمُبَيِّنِ (¬2) 31 - كُلُّ مَا بَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ (¬3) بِسَبَبِ غَيْرِهِ فَهُوَ الْمُبَيِّنُ: قَوْلًا أَوْ فِعْلًا أَوْ غَيْرَهُمَا. قَاعِدَةٌ فِي الْعَامِّ 32 - كُلُّ لَفْظٍ اسْتَغْرَقَ مَا صَلَحَ لَهُ دُفْعَةً وَاحِدَةً مِنْ غَيْرِ حَصْرٍ فَهُوَ الْعَامُّ، وَيَجِبُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى عُمُومِهِ لِظُهُورِهِ فِي الْعُمُومِ حَتَّى يَثْبُتَ مَا يُخَصِّصُهُ بِبَعْضِ أَفْرَادِهِ؛ فَيَخْرُجُ مِنْهُ مَا اقْتَضَى الدَّلِيلُ الْمُخَصِّصُ إِخْرَاجَهُ، وَيَبْقَى عَلَى عُمُومِهِ فِيمَا عَدَاهُ. صِيَغُ الْعُمُومِ 33 - أَسْمَاءُ الشَّرْطِ: كَقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً فَهِيَ لَهُ» (¬4)، وَقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا أَبْقَتِ السِّهَامُ فَلِأَوْلَى عَصَبَةٍ ذَكَرٍ» (¬5). وأَسْمَاءُ الاِسْتِفْهَامِ: كَقَوْلِ السَّائِلِ: (مَا يَحِلُّ لِي مِنِ امْرَأَتِي وَهِيَ حَائِضٌ؟). ¬

_ (¬1) ب: في (¬2) ب: كل ما بان من بسبب غير فهو المبين كالصلاة والزكاة بعمد البيان النبوي. (¬3) ب: من غيره. (¬4) أخرجه البخاري في باب الحرب، وأبو داود في باب الامارة، والترمذي في باب الأحكام، ومالك في الموطأ باب الأقضية، والدارمى في باب البيوع وأحمد بن حنبل. (¬5) أخرجه البخاري ومسلم عن ابن عباس. ولفظ مسلم: «فلأولى رجل ذكر».

الموصولات

وَالمَوْصُولَاتُ: كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} (¬1). وَالْمُعَرَّفُ بِـ (الْ) الْجِنْسِيَّةِ الاِسْتِغْرَاقِيَّةِ فِيهِ: كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} (¬2). وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} (¬3). وَالنَّكِرَةُ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ أَوِ النَّهْيِ أَوِ الشَّرْطِ أَوِ الاِسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ: كَقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا زَكَاةَ فِي مَالٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ» (¬4)، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ} (¬5)، وَقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ آذَى ذِمِّيًّا كُنْتُ خَصْمَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ» (¬6) وقوله تعالى: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} (¬7). وَالْمُضَافُ إِلَى الْمَعْرِفَةِ عِنْدَمَا يُقْصَدُ بِهِ الاِسْتِغْرَاقُ: كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ تَفْضُلُ عَلَى صَلَاةِ الْفَذِّ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً» (¬8)، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} (¬9). ¬

_ (¬1) البقرة آية 234. (¬2) المائدة آية 38. (¬3) النساء آية 34. (¬4) أخرجه ابن ماجة في باب الزكاة. (¬5) الحجرات آية 11. (¬6) أخرجه الشيخان. (¬7) النمل آية 60. (¬8) أخرجه البخري في الأذان، ومسلم والنسائي ومالك وأحمد ابن حنبل. (¬9) محمد آية 33.

قاعدة في فرق العام

قَاعِدَةٌ فِي فِرَقِ الْعَامِّ 34 - كُلُّ عَامٍّ لَمْ يَدْخُلْهُ تَخْصِيصٌ فَهُوَ الْعَامُّ الْبَاقِي عَلَى عُمُومِهِ، وَإِلَيْهِ يَنْصَرِفُ لَفْظُ الْعَامِّ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ. وَكُلُّ عَامٍّ أُرِيدَ بِلَفْظِهِ عِنْدَ اسْتِعْمَالِهِ بَعْضُ أَفْرَادِهِ فَهُوَ الْعَامُّ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ، وَهُوَ ضَرْبٌ مِنَ الْمَجَازِ: كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَد جَمَعُواْ} (¬1)؛ إِذْ لَمْ يُرِدْ جَمِيعَ النَّاسِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ. وَكُلُّ عَامٍّ أُرِيدَ بِهِ جَمِيعُ أَفْرَادِهِ وَأُخْرِجَ مِنْهُ بَعْضُهَا بِمُخَصِّصٍ (¬2) فَهُوَ الْعَامُّ الْمَخْصُوصُ. قَاعِدَةٌ فِي التَّخْصِيصِ (¬3) 35 - كُلُّ إِخْرَاجٍ لِبَعْضِ أَفْرَادِ الْعَامِّ مِنَ اللَّفْظِ الْعَامِّ فَهُوَ تَخْصِيصٌ. لَا يَشْمَلُ الْأَفْرَادَ الْمُخْرَجَةَ حُكْمُ الْعَامِّ. قَاعِدَةٌ فِي الْمُخَصِّصِ وَتَقْسِيمِهِ 36 - كُلُّ مَا كَانَ بِهِ الْإِخْرَاجُ الْمَذْكُورُ فَهُوَ الْمُخَصِّصُ: ـ فَإِنْ كَانَ لَا يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ فَهُوَ الْمُخَصِّصُ الْمُتَّصِلُ. كَالاِسْتِثْنَاءِ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا ¬

_ (¬1) آل عمران آية 173. (¬2) أ: بمختص. (¬3) ب: قاعدة في الخاص: كل ما أريد به معين كعلم الشخص والجنس أو فرد مبهم كالنكرة في سياق الاثبات والامراد متعدد محصور كالمثنى والجمع وأسماء الأعداد فهو الخاص.

تَبِيعُوا الطَّعَامَ بِالطَّعَامِ إِلَّا بِسَوَاءٍ» (¬1)، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كَيفَ يَكُونُ لِلمُشرِكِينَ عَهدٌ عِندَ اللَّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَهَدتُّم عِندَ المَسجِدِ الحَرَامِ} (¬2). وَكَالشَّرْطِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَا استَقَمُواْ لَكُم فَستَقِيمُواْ لَهُم} (¬3). وَكَالصِّفَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (¬4) {إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا} (¬5). وَكَالْغَايَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ} (¬6) فَالتَّخْصِيصُ بِهَذِهِ تَخْصِيصٌ بِالْمَفْهُومِ. وَإِنْ كَانَ مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ فَهُوَ: الْمُخَصِّصُ الْمُنْفَصِلُ: كَتَخْصِيصِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} (¬7). وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} (¬8) تَخْصِيصًا لِلْكِتَابِ بِالْكِتَابِ. وَكَتَخْصِيصِ قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ الْعُشْرُ» (¬9) بِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَيْسَ فِيمَا دُونَ النِّصَابِ صَدَقَةٌ» (¬10) تَخْصِيصًا لِلسُّنَّةِ بِالسُّنَّةِ. ¬

_ (¬1) البخاري ... الا سواء بسواء وأخرجه مسلم بلفظ: مثلا بمثل. وأحمد بن حنبل في مسنده. (¬2) التوبة آية 7. (¬3) التوبة آية 7. (¬4) ب: في قوله (ص) لا تبيعوا. وكالصفة 0 في قوله تعالى. (¬5) التوبة آية 4. (¬6) التوبة آية 4. (¬7) البقرة 22. (¬8) الطلاق آية 4. (¬9) أخرجه البخاري في الباب 55 وهو باب الزكاة ومسلم في باب الزكاة. (¬10) أخرحه مسلم في الباب 5، 6 في الزكاة. والنسائي في الزكاة (الباب 21، 23) ب. دون خمسة أوساق.

قاعدة في المطلق والمقيد

وَكَتَخْصِيصِ قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَقْبَلُ اللهُ صَلَاةَ أَحَدِكُمْ حَتَّى يَتَوَضَّأَ» (¬1) بقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} (¬2) تَخْصِيصًا لِلسُّنَّةِ بِالْكِتَابِ (¬3). وَكَتَخْصِيصِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ} (¬4) الآيَةُ، بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَا يَرِثُ المُسْلِمُ الكَافِرَ، وَلَا يَرِثُ الكَافِرُ المُسْلِمَ» (¬5) تَخْصِيصًا لِلْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ. وَقَدْ يُخَصَّصُ اللَّفْظُ (¬6) بِالْقِيَاسِ: كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} (¬7) خُصِّصَ مِنْهُ الْعَبْدُ قِيَاسًا عَلَى الْأَمَةِ الْمُخَصَّصَةِ مِنْهُ (¬8) بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} (¬9). قَاعِدَةٌ فِي الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ 37 - كُلُّ مَا دَلَّ عَلَى فَرْدٍ أَوْ فَرْدَينِ أَوْ أَفْرَادٍ عَلَى سَبِيلِ الشُّيُوعِ بِدُونِ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري والترمذي في باب الطهارة وأحمد بن حبل. (¬2) النساء آية 43. (¬3) النساء آية 11. (¬4) النساء (¬5) أخرجه أحمد بن حنبل والبخاري في باب الحج (باب 44) ومسلم في باب 26 الفرائض. (¬6) ب: اللفظ. (¬7) النور آية 2. (¬8) أ: منه. (¬9) النساء آية 25.

قاعدة في حمل المطلق على المقيد

قَيْدٍ فَهُوَ الْمُطْلَقُ، سَوَاءٌ كَانَ اسْمًا أَوْ فِعْلًا؛ فَيُحْمَلُ عَلَى إِطْلَاقِهِ حَتَّى يَأْتِيَ مَا يُقَيِّدُهُ. وَكُلُّ مَا دَلَّ عَلَى مَا ذُكِرَ بِقَيْدٍ فَهُوَ الْمُقَيَّدُ، وَيَجِبُ اعْتِبَارُ قَيْدِهِ. قَاعِدَةٌ فِي حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ 38 - مَهْمَا اتَّحَدَتْ صُورَةُ (¬1) الْإِطْلَاقِ وَصُورَةُ (¬2) التَّقْيِيدِ فِي الْحُكْمِ إِلَّا وَحُمِلَ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ، سَوَاءٌ اتَّحَدَتَا فِي السَّبَبِ أَمْ لَا. فَالْأُولَى (¬3) كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} (¬4)، الْمُفِيدِ لِمَطْلُوبِيَّةِ ذِكْرٍ مُطْلَقٍ؛ فَحُمِلَ عَلَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «تَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ» (¬5) الْمُفِيدِ تَقْيِيدَ الذِّكْرِ بِالتَّكْبِيرِ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ فِي الصُّورَتَيْنِ وَاحِدٌ وَهُوَ إِرَادَةُ الدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ، وَالْحُكْمَ فِيهَا وَاحِدٌ وَهُوَ مَطْلُوبِيَّةُ مَا نَفْتَتِحُ بِهِ (¬6) مِنَ الذِّكْرِ. وَالثَّانِي: كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} (¬7) الْمُفِيدِ (¬8) تَحْرِيرَ رَقَبَةٍ مُطْلَقًا (¬9) فَحُمِلَ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} (¬10) المُفِيدِ ¬

_ (¬1) في الأصل (سورة). (¬2) في الأصل (سورة). (¬3) فالأول ب: (¬4) الأعلى آية 15. (¬5) أخرجه أبو داود في باب الطهاره والترمذى ومالك وابن ماجة وأحمد بن حنبل والدارمي. (¬6) ب: به. (¬7) المجادلة آية 3. (¬8) أ: مطلوبية. (¬9) ب: مطلقة. (¬10) النساء آية 92.

قاعدة في المحكم والمنسوخ والناسخ والنسخ

تَقْيِيدَهَا (¬1) بِالْإِيمَانِ وَالْحُكْمَ (¬2) فِي الصُّورَتَيْنِ وَاحِدٌ وَهُوَ مَطْلُوبِيَّةُ تَحْرِيرِ رَقَبَةٍ وَإِنِ اخْتَلَفَ السَّبَبُ؛ إِذْ هُوَ فِي الْأُولَى: الظِّهَارُ، وَفِي الثَّانِيَةِ: قَتْلُ الْخَطَإِ. وَمَهْمَا اخْتَلَفَ الْحُكْمُ فِي الصُّورَتَيْنِ إِلَّا وَامْتَنَعَ حَمْلُ الْمُطْلَقِ (¬3) فِي إِحْدَاهُمَا عَلَى الْمُقَيَّدِ فِي الْأُخْرَى، سَوَاءٌ اتَّحَدَ السَّبَبُ أَمِ اخْتَلَفَ. فَالْأَوَّلُ: كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} (¬4) الْمُفِيدِ مَطْلُوبِيَّةَ صِيَامِ الشَّهْرَيْنِ بِقَيْدِ التَّتَابُعِ، مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} (¬5) الْمُفِيدِ مَطْلُوبِيَّةَ الْإِطْعَامِ بِإِطْلَاقٍ؛ فَلَا يُحْمَلُ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ؛ لاِخْتِلَافِ الْحُكْمِ فِيهِمَا بِاعْتِبَارِ مُتَعَلَّقِهِ وَإِنِ اتَّحَدَ السَّبَبُ فِيهِمَا وَهُوَ الظِّهَارُ. وَالثَّانِي: كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} فَإِنَّ الْحُكْمَ فِي الْأُولَى هُوَ طَلَبُ الْقَطْعِ وَالسَّبَبَ فِيهَا هُوَ السَّرِقَةُ، وَالْحُكْمَ فِي الثَّانِيَةِ هُوَ طَلَبُ الْغَسْلِ وَالسَّبَبَ فِيهَا (¬6) إِرَادَةُ الْقِيَامِ لِلصَّلَاةِ. قَاعِدَةٌ فِي الْمُحْكَمِ وَالْمَنْسُوخِ وَالنَّاسِخِ وَالنَّسْخِ 39 - كُلُّ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ اسْتَمَرَّ حُكْمُهُ وَلَمْ يُرْفَعْ جُمْلَةً بِدَلِيلٍ آخَرَ مِنْهُمَا فَهُوَ الْمُحْكَمُ، وَكُلُّ دَلِيلٍ مِنْهُمَا رُفِعَ حُكْمُهُ جُمْلَةً بِدَلِيلٍ آخَرَ مِنْهُمَا فَهُوَ الْمَنْسُوخُ. ¬

_ (¬1) ب: بتقييدها. (¬2) لأن الحكم. (¬3) ب: المطلق. (¬4) المجادلة آية 4. (¬5) المجادلة آية 4. (¬6) ب: هو.

متى يحكم بالنسخ؟

وَكُلُّ دَلِيلٍ مِنْهُمَا رَفَعَ بِهِ الشَّرْعُ حُكْمًا ثَابِتًا بِدَلِيلٍ سَابِقٍ فَهُوَ النَّاسِخُ. فَكُلُّ رَفْعٍ لِحُكْمٍ ثَابِتٍ بِدَلِيلٍ مُتَقَدِّمٍ جُمْلَةً (¬1) بِدَلِيلٍ مُتَأَخِّرٍ لَوْلَاهُ لَاسْتَمَرَّ الْحُكْمُ الْأَوَّلُ فَهُوَ النَّسْخُ. مَتَى يُحْكَمُ بِالنَّسْخِ؟ 40 - يُحْكَمُ بِالنَّسْخِ إِذَا تَعَارَضَ الدَّلِيلَانِ الصَّحِيحَانِ (¬2) وَلَمْ يُمْكِنِ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا (¬3) وَعُلِمَ الْمُتَقَدِّمُ مِنَ الْمُتَأَخِّرِ، وَإِلَّا قُدِّمَ الصَّحِيحُ أَوْ جُمِعَ مَا بَيْنَهُمَا أَوْ تُوُقِّفَ. مَوْرِدُ النَّسْخِ 41 - يَدْخُلُ النَّسْخُ الْأَحْكَامَ وَلَا يَدْخُلُ الْأَخْبَارَ. حِكْمَةُ النَّسْخِ حِكْمَةُ النَّسْخِ مُرَاعَاةُ الْمَصْلَحَةِ، وَتَدْرِيبُ الْأُمَّةِ عَلَى تَلَقِّي الْأَحْكَامِ، وَالتَّنْبِيهُ عَلَى اعْتِبَارِ (¬4) الْمَصَالِحِ فِي التَّشْرِيعِ؛ فَقَدْ يُنْتَفَعُ بِذَلِكَ عِنْدَ اخْتِيَارِ مَا يُطَبَّقُ عَلَى الْأُمَّةِ (¬5) مِنْ أَقْوَالِ أَئِمَّةِ الْفَتْوَى وَالاِجْتِهَادِ. ¬

_ (¬1) ب: بدليل متقدم جملة. (¬2) ب: الصحيحان. (¬3) ب: ما بينهما. (¬4) أ: اعتبار. (¬5) ب: أمة.

وجوه النسخ وأقسامه

وُجُوهُ النَّسْخِ وَأَقْسَامِهِ 42 - يُنْسَخُ الرَّسْمُ وَيَبْقَى الْحُكْمُ: كَآيَةِ الرَّجْمِ وَهِيَ (الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ نَكَالًا مِنَ اللهِ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ). وَيُنْسَخُ الْحُكْمُ وَيَبْقَى الرَّسْمُ: كَآيَةِ الْحَوْلِ فِي الْعِدَّةِ، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ} (¬1) الآيَةُ. وَيُنْسَخُ الرَّسْمُ وَالْحُكْمُ: كَحَدِيثِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ «أُنْزِلَ عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ» (¬2)، فَنُسِخَ بِحُكْمِ (¬3)، «خَمْسٍ مَعْلُومَاتٍ» (¬4). وَيَكُونُ النَّسْخُ إِلَى بَدَلٍ: كَنَسْخِ اسْتِقْبَالِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ. وَإِلَى غَيْرِ بَدَلٍ: كَصَدَقَةِ الْمُنَاجَاةِ. وَيَكُونُ إِلَى مَا هُوَ أَخَفُّ: كَآيَةِ المُصَابَرَةِ فِي الْقِتَالِ. وَإِلَى مَا هُوَ أَثْقَلُ: كَنَسْخِ التَّخْيِيرِ بَيْنَ الْفِدْيَةِ وَالصَّوْمِ بِتَعْيِينِ الصَّوْمِ. ويُنْسَخُ الْكِتَابُ بِالْكِتَابِ: كَآيَةِ العِدَّةِ وَالْمُصَابَرَةِ. وَتُنْسَخُ السُّنَّةُ بِالْكِتَابِ: كَمَسْأَلَةِ الْقِبْلَةِ. ¬

_ (¬1) البقرة آية 240. (¬2) أخرجه الدارمي بلفظ (نزل القرآن بعشر رضعات معلومات)، ومسلم في باب الرضاع، ومالك في باب الرضاع. (¬3) ب: بحكم. (¬4) أخرجه أبو داود في باب النكاح، والدارمي في باب النكاح، ومالك في الوطأ في الرضاع.

تنبيه

وَتُنْسَخُ السُّنَّةُ بِالسُّنَّةِ: كَحَدِيثِ «كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا» (¬1). وَيُنْسَخُ الْكِتَابُ بِالسُّنَّةِ: كَآيَةِ الْوَصِيَّةِ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِحَدِيثِ: «لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» (¬2). تَنْبِيهٌ (¬3). 43 - مَا ذُكِرَ مِنَ الْقَوَاعِدِ يُطَبَّقُ عَلَى خُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَيَبْقَى مِنَ السُّنَّةِ فِعْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَقْرِيرُهُ. أَيُّ قَوَاعِدٌ فِي أَفْعَالِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ - 44 - كُلُّ مَا فَعَلَهُ النَّبِيُّ (¬4) صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ فِي الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ (¬5) فَهُوَ فِيهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ (¬6) لِلْأُمَّةِ، إِلَّا إِذَا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى تَخْصِيصِهِ بِهِ (¬7) (أَيْ فِي الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ). وَكُلُّ مَا فَعَلَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ فَهُوَ دَائِرٌ بَيْنَ ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في باب الجنائز والأضاحي، وأبو داود في باب الجنائز والأشربة. (¬2) أخرجه البخارى في باب الوصايا، وأبو داود في الوصايا والبيوع، والترمذي والنسائي وابن ماجة في الوصايا. (¬3) ب: أول. (¬4) ب: النبيء. (¬5) أ: في العبادات والمعاملات. (¬6) ب: حسنة. (¬7) ب: على الخصوصية.

قواعد في تقريره صلى الله عليه وسلم

الْوُجُوبِ وَالاِسْتِحْبَابِ، وَيَتَرَجَّحُ أَحَدُهُمَا بِالدَّلِيلِ (¬1). وَكُلُّ مَا وَاظَبَ عَلَيْهِ فَهُوَ أَرْجَحُ مِمَّا فَعَلَهُ مَرَّةً أَوْ نَحْوَهَا (¬2). وَكُلُّ مَا تَرَكَهُ مِنْ صُوَرِ (¬3) الْعِبَادَاتِ فَلَيْسَ بِقُرْبَةٍ. وَكُلُّ مَا فَعَلَهُ (لِلْخِلْقَةِ الْبَشَرِيَّةِ) (¬4) فَلَيْسَ فِي نَفْسِهِ مَحَلًّا لِلتَّأَسِّي، وَلَكِنَّ هَيْئَتَهُ الَّتِي أَوْقَعَهُ عَلَيْهَا هِيَ أَفْضَلُ هَيْئَةٍ، وَهِيَ مَحَلُّ الْأُسْوَةِ. قَوَاعِدٌ فِي تَقْرِيرِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ - 45 - كُلُّ مَا قِيلَ أَوْ فُعِلَ بَيْنَ يَدَيْهِ أَوْ بَلَغَهُ وَأَقَرَّهُ فَهُوَ (¬5) حَقٌّ عَلَى مَا أَقَرَّهُ عَلَيْهِ. وَكُلُّ مَا قِيلَ أَوْ فُعِلَ فِي زَمَانِهِ وَكَانَ مُشْتَهِرًا شُهْرَةً يَبْعُدُ أَنْ تَخْفَى عَلَيْهِ فَهُوَ مِثْلُ مَا فُعِلَ بَيْنَ يَدَيْهِ. تَنْبِيهٌ ثَانٍ 46 - تَخْتَصُّ السُّنَّةُ عَنِ الْكِتَابِ بِقَوَاعِدَ تَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ نَاحِيَةِ ثُبُوتِهَا؛ لِأَنَّهَا مِنْ هَذِهِ النَّاحِيَةِ لَيْسَتْ عَلَى دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ، بِخِلَافِ الْقُرْآنِ فَكُلُّهُ مُتَوَاتِرٌ. ¬

_ (¬1) ب: والإباحة. (¬2) ب: مما فعله مرة أو نحوها. (¬3) ب: مما يحسب من العبادات. (¬4) آ: للخلق البشرية. (¬5) ب: حق.

فَكُلُّ حَدِيثٍ صَحِيحٍ أَوْ حَسَنٍ فَإِنَّهُ صَالِحٌ لِلاِسْتِدْلَالِ بِهِ فِي الْأَحْكَامِ. وَكُلُّ حَدِيثٍ ضَعِيفٍ فَإِنَّهُ غَيْرُ صَالِحٍ لِذَلِكَ. وَكُلُّ مَا ثَبَتَ طَلَبُ فِعْلِهِ أَوْ تَرْكِهِ بِدَلِيلٍ مُعْتَبَرٍ فَإِنَّهُ يُقْبَلُ مَا جَاءَ لِلتَّرْغِيبِ فِيهِ أَوْ لِلتَّرْهِيبِ مِنْهُ فِي حَدِيثٍ ضَعِيفٍ لَمْ يَشْتَدَّ ضَعْفُهُ.

خاتمة في الاجتهاد والتقليد والاتباع

خَاتِمَةٌ فِي الاِجْتِهَادِ وَالتَّقْلِيدِ وَالاِتِّبَاعِ الاِجْتِهَادُ 47 - الاِجْتِهَادُ هُوَ بَذْلُ الْجُهْدِ فِي اسْتِنْبَاطِ الْحُكْمِ مِنَ الدَّلِيلِ (¬1) الشَّرْعِيِّ بِالْقَوَاعِدِ الْمُتَقَدِّمَةِ. وَأَهْلُهُ هُوَ: الْمُتَبَحِّرُ فِي عُلُومِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، ذُو الْإِدْرَاكِ الْوَاسِعِ لِمَقَاصِدِ (¬2) الشَّرِيعَةِ، وَالْفَهْمِ الصَّحِيحِ لِلْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ. التَّقْلِيدُ 48 - التَّقْلِيدُ هُوَ أَخْذٌ لقَوْلِ (¬3) الْمُجْتَهِدِ دُونَ مَعْرِفَةٍ لِدَلِيلِهِ، وَأَهْلُهُ هُوَ مَنْ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى فَهْمِ الدَّلِيلِ، وَهُمُ الْعَامَّةُ غَيْرُ (¬4) الْمُتَعَاطِينَ لِعُلُومِ الشَّرِيعَةِ وَاللِّسَانِ. الاِتِّبَاعُ 49 - هُوَ أَخْذُ قَوْلِ الْمُجْتَهِدِ مَعَ مَعْرِفَةِ دَلِيلِهِ، وَمَعْرِفَةِ كَيْفِيَّةِ أَخْذِهِ لِلْحُكْمِ مِنْ ذَلِكَ الدَّلِيلِ (¬5) حَسَبَ الْقَوَاعِدِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَأَهْلُهُ هُمُ المُتَعَاطُونَ ¬

_ (¬1) ب: بدليل. (¬2) ب: من المقاصد. (¬3) ب: قول. (¬4) ب: غير. (¬5) ب: لحكم ذلك الدليل.

لِلْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ وَاللِّسَانِيَّةِ، الَّذِينَ حَصَلَتْ لَهُمْ مَلَكَةٌ صَحِيحَةٌ فِيهِمَا؛ فَيُمْكِنُهُمْ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْمُجْتَهِدِينَ مَعْرِفَةُ مَرَاتِبِ الْأَقْوَالِ فِي القُوَّةِ وَالضَّعْفِ، وَاخْتِيَارُ مَا يَتَرَجَّحُ مِنْهَا، وَاسْتِثْمَارُ مَا فِي الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَعَارِفِ الْمُفِيدَةِ فِي إِنَارَةِ الْعُقُولِ وَتَزْكِيَةِ النُّفُوسِ وَتَقْوِيمِ الْأَعْمَالِ. وَلِهَذَا كَانَ حَقًّا عَلَى الْمُعَلِّمِينَ وَالْمُتَعَلِّمِينَ لِلْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ وَاللِّسَانِيَّةِ أَنْ يَجْرُوا فِي تَعْلِيمِهِمْ وَتَعَلُّمِهِمْ عَلَى مَا يُوصِلُ إِلَى هَذِهِ الرُّتْبَةِ عَلَى (¬1) الْكَمَالِ. انْتَهَى هَذَا الْكِتَابُ الْمُبَارَكُ يَوْمَ 28 ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ 1356 (¬2) عَلَى يَدِ كَاتِبِهِ الْفَقِيرِ إِلَى رَبِّهِ مُحَمَّد الْعَرَبِي ابْنِ صَالِحٍ الْحركَاتِيِّ ثُمَّ الْبَنْعِيسِيِّ، وَفَّقَهُ اللهُ إِلَى مَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ، وَأَحْسَنَ خِتَامَهُ وَجَعَلَ الْجَنَّةَ مَأْوَاهُ آمين. وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ، وَالْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (¬3). ¬

_ (¬1) ب: من. (¬2) الموافق لـ 30 جانفي 1938. (¬3) ب: وهذا آخر ما أملاه لنا على سبيل الاختصار وما هو في الواقع الا مقدمة واقليد للمطولات والحمد لله ابتدا، وانتهاء وكان الفراغ منه 30 في صفر لنة 1355 هـ.

طبعة المؤسسة الوطنية للفنون المطبعية وحدة الرغاية. 1988 - الجزائر

يمثل علم الأصول في الثقافة الإسلامية منطق الاستدلال، ومنهج البحث والاستنباط في الشريعة، ولهذا العلم جوانب لغوية فلسفية في لسان العرب وأوضاعه ودلالاته. مما جعله بحق فلسفة للفقه الإسلامي ومنطقا له. أمام القارئ الكريم رسالة هامة من رسائل الإمام ابن باديس في علم الأصول، اتصل نشاطه العلمي فيها بنشاط أسلافه من القدماء، فأحيا بها البحث العلمي، والنظر في الأصول، وفي المنهج، ولم يكتف بالفروع كما هو ديدن الفقهاء المتأخرين الذين اقتصروا على الجزئيات، ولم يلتفتوا إلى الكليات التي تنبي عليها الا قليلا.

§1/1