مباحث في علوم القرآن لمناع القطان

مناع القطان

مباحث في علوم القرآن

مباحث في علوم القرآن مقدمة ... بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة الطبعة الأولى للطبعة الجديدة: الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أُقَدِّم هذه الطبعة للدارسين والقراء، وهي طبعة جديدة خاصة بمكتبة المعارف للنشر والتوزيع في الرياض، بعد أن لقي هذا الكتاب قبولًا بتوفيق الله تعالى ما كنت أتوقعه، وترجم إلى عدة لغات، وتقررت دراسته في أكثر الجامعات الإسلامية. ولست أدعي أنه لا يعدله كتاب آخر في مادته العلمية، ولكنني بذلت جهدي ما استطعت في اصطفاء موضوعاته، واستخلاص لبها، وانتقاء المفيد منها، وصغت ذلك بأسلوب عذب شائق، وعبارات واضحة جلية، وترتيب محكم دقيق. وكان رواج الكتاب إعلانًا عن قبوله ومدى الحاجة إليه. وأسأل الله أن يرزقنا العلم النافع، وأن ينفعنا وينفع بنا، إنه سميع مجيب. مناع خليل القطان الأستاذ بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية والمشرف على الدراسات العليا في 20/ 2 /1413هـ

التعريف بالعلم وبيان نشأته وتطوره

التعريف بالعلم وبيان نشأته وتطوره: القرآن الكريم هو معجزة الإسلام الخالدة التي لا يزيدها التقدم العلمي إلا رسوخًا في الإعجاز، أنزله الله على رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم ليُخرج الناس من الظلمات إلى النور، ويهديهم إلى الصراط المستقيم، فكان صلوات الله وسلامه عليه يبلغه لصحابته –وهم عرب خُلَّصٌ- فيفهمونه بسليقتهم، وإذا التبس عليهم فهم آية من الآيات سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها. رَوَى الشيخان وغيرهما عن ابن مسعود قال: "لما نزلت هذه الآية: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} 1, شق ذلك على الناس، فقالوا: يا رسول الله، وأيُّنا لا يظلم نفسه؟ قال: "إنه ليس الذي تعنون، ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} 2, إنما هو الشرك". وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُفَسِّرُ لهم بعض الآيات. أخرج مسلم وغيره عن عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول وهو على المنبر: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} 3, "ألا إن القوة الرمي". وحرص الصحابة على تلقي القرآن الكريم من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وحفظه وفهمه، وكان ذلك شرفًا لهم. عن أنس رضي الله عنه قال: "كان الرجل منا إذا قرأ البقرة وآل عمران جَدَّ فينا" أي عَظُم. وحرصوا كذلك على العمل به والوقوف عند أحكامه.

_ 1 الأنعام: 82. 2 لقمان: 13. 3 الأنفال: 60.

رُوِيَ عن أبي عبد الرحمن السلمي أنه قال: "حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن، كعثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما أنهم كانوا إذا تعلَّموا من النبي -صلى الله عليه وسلم- عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعًا"1. ولم يأذن لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في كتابة شيء عنه سوى القرآن خشية أن يلتبس القرآن بغيره. رَوَى مسلم عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تكتبوا عني, ومَن كتب عني غير القرآن فليمحه، وحدِّثوا عني ولا حَرَج، ومَن كَذَبَ عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار". ولئن كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد أذن لبعض صحابته بعد ذلك في كتابة الحديث فإن ما يتصل بالقرآن ظل يعتمد على الرواية بالتلقين في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفي خلافة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما. جاءت خلافة عثمان2 رضي الله عنه، واقتضت الدواعي -التي سنذكرها فيما بعد3– إلى جمع المسلمين على مصحف واحد، فتم ذلك، وسُمِّيَ بالمصحف الإمام، وأُرْسلت نسخ منه إلى الأمصار، وسُمِّيَتْ كتابته بالرسم العثماني، نسبة إليه، ويُعتبر هذا بداية "لعلم رسم القرآن". ثم كانت خلافة عليٍّ -رضي الله عنه- فوضع أبو الأسود الدؤلي بأمر منه قواعد النحو، صيانة لسلامة النطق، وضبطًا للقرآن الكريم، ويُعتبر هذا كذلك بداية لـ"علم إعراب القرآن".

_ 1 أخرج عبد الرزاق ما في معناه عن معمر عن عطاء بن السائب عن أبي عبد الرحمن السلمي، وأخرجه ابن جرير في مقدمة تفسيره عن عطاء عن أبي عبد الرحمن وصححه أحمد شاكر، فإن أبا عبد الرحمن السلمي تابعيٌّ لا يُحَدِّثُ إلا عن الصحابة. 2 لقد جُمِعَ القرآن أول جمع في عهد الخليفة أبي بكر -رضي الله تعالى عنه- بعد معركة اليمامة كما سيأتي. 3 انظر بحث جمع القرآن في عهد عثمان.

استمر الصحابة يتناقلون معاني القرآن وتفسير بعض آياته على تفاوت فيما بينهم، لتفاوت قدرتهم على الفهم، وتفاوت ملازمتهم لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتناقل عنهم ذلك تلاميذهم من التابعين. ومن أشهر المفسرين من الصحابة: الخلفاء الأربعة، وابن مسعود، وابن عباس، وأُبَيُّ بن كعب، وزيد بن ثابت، وأبو موسى الأشعري، وعبد الله بن الزبير. وقد كثرت الرواية في التفسير عن: عبد الله بن عباس، وعبد الله بن مسعود، وأُبَيِّ بن كعب، وما رُوِيَ عنهم لا يتضمن تفسيرًا كاملًا للقرآن، وإنما يقتصر على معاني بعض الآيات، بتفسير غامضها، وتوضيح مجملها. أما التابعون، فاشتهر منهم جماعة، أخذوا عن الصحابة، واجتهدوا في تفسير بعض الآيات. فاشتهر من تلاميذ ابن عباس بمكة: سعيد بن جبير، ومجاهد، وعِكرمة مولى ابن عباس، وطاوس بن كيسان اليماني، وعطاء بن أبي رباح. واشتهر من تلاميذ أُبَيِّ بن كعب بالمدينة: زيد بن أسلم، وأبو العالية، ومحمد بن كعب القرظي. واشتهر من تلاميذ عبد الله بن مسعود بالعراق: علقمة بن قيس، ومسروق، والأسود بن يزيد، وعامر الشعبي، والحسن البصري، وقتادة بن دعامة السدوسي. قال ابن تيمية: "وأما التفسير، فأعلم الناس به أهل مكة، لأنهم أصحاب ابن عباس، كمجاهد، وعطاء بن أبي رباح، وعِكرمة مولى ابن عباس، وغيرهم من أصحاب ابن عباس، كطاوس، وأبي الشعثاء، وسعيد بن جبير وأمثالهم، وكذلك أهل الكوفة من أصحاب ابن مسعود، ومن ذلك ما تميزوا به عن غيرهم، وعلماء أهل المدينة في التفسير، مثل: زيد بن أسلم الذي أخذ عنه مالك التفسير، وأخذ عنه أيضًا ابنه عبد الرحمن، وعبد الله بن وهب"1.

_ 1 مقدمة ابن تيمية في أصول التفسير: ص15.

والذي رُوِيَ عن هؤلاء جميعًا يتناول: علم التفسير، وعلم غريب القرآن، وعلم أسباب النزول، وعلم المكي والمدني، وعلم الناسخ والمنسوخ، ولكن هذا كله ظل معتمدًا على الرواية بالتلقين. جاء عصر التدوين في القرن الثاني، وبدأ تدوين الحديث بأبوابه المتنوعة، وشمل ذلك ما يتعلق بالتفسير، وجمع بعض العلماء ما رُوِيَ من تفسير للقرآن الكريم عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو عن الصحابة، أو عن التابعين. واشتهر منهم: يزيد بن هارون السلمي المتوفى سنة 117 هجرية، وشُعْبَة بن الحجاج المتوفى سنة 160 هجرية، ووكيع بن الجراح المتوفى سنة 197 هجرية، وسفيان بن عُيينة المتوفى سنة 198 هجرية، وعبد الرزاق بن همام المتوفى سنة 211 هجرية. وهؤلاء جميعًا كانوا من أئمة الحديث، فكان جمعهم للتفسير جمعًا لباب من أبوابه، ولم يصلنا من تفاسيرهم شيء مكتوب سوى مخطوطة تفسير عبد الرزاق بن همام. ثم نهج نهجهم بعد ذلك جماعة من العلماء وضعوا تفسيرًا متكاملًا للقرآن وفق ترتيب آياته، واشتهر منهم ابن جرير الطبري المتوفى سنة 310 هجرية. وهكذا بدأ التفسير أولًا بالنقل عن طريق التلقي والرواية، ثم كان تدوينه على أنه باب من أبواب الحديث، ثم دُوِّنَ على استقلال وانفراد، وتتابع التفسير بالمأثور، ثم التفسير بالرأي. وبإزاء علم التفسير كان التأليف الموضوعي في موضوعات تتصل بالقرآن ولا يستغني المفسر عنها. فألَّف عليُّ بن المديني شيخ البخاري المتوفى سنة 234 هجرية في أسباب النزول. وألَّف أبو عبيد القاسم بن سلام المتوفى سنة 224 هجرية في الناسخ والمنسوخ، وفي القراءات.

وألَّف ابن قتيبة المتوفى سنة 276 هجرية في مُشْكَل القرآن. وهؤلاء من علماء القرن الثالث الهجري. وألَّف محمد بن خلف المرزبان المتوفى سنة 309 هجرية "الحاوي في علوم القرآن". وألَّف أبو بكر محمد بن القاسم الأنباري المتوفى سنة 328 هجرية في علوم القرآن. وألَّف أبو بكر السجستاني المتوفى سنة 330 هجرية في غريب القرآن. وألَّف محمد بن عليٍّ الأدفوي المتوفى سنة 388 هجرية "الاستغناء في علوم القرآن". وهؤلاء من علماء القرن الرابع الهجري. ثم تتابع التأليف بعد ذلك. فألَّف أبو بكر الباقلاني المتوفى سنة 403 هجرية في إعجاز القرآن. وعليُّ بن إبراهيم بن سعيد الحوفي المتوفى سنة 430 هجرية في إعراب القرآن. والماوردي المتوفى سنة 450 هجرية في أمثال القرآن. والعز بن عبد السلام المتوفى سنة 660 هجرية في مجاز القرآن. وعلم الدين السخاوي المتوفى سنة 643 هجرية في علم القراءات. وابن القيم المتوفى سنة 751 هجرية في "أقسام القرآن". وهذه المؤلَّفات يتناول كل مؤلف منها نوعًا من علوم القرآن وبحثًا من مباحثه المتصلة به. أما جمع هذه المباحث وتلك الأنواع –كلها أو جلها- في مؤلف واحد فقد ذكر الشيخ محمد عبد العظيم الزرقاني في كتابه "مناهل العرفان في علوم

القرآن"1 أنه ظفر في دار الكتب المصرية بكتاب مخطوط لعلي بن إبراهيم بن سعيد الشهير بالحوفي، اسمه "البرهان في علوم القرآن" يقع في ثلاثين مجلدًا، يوجد منها خمسة عشر مجلدًا غير مرتبة ولا متعاقبة، حيث يتناول المؤلف الآية من آيات القرآن الكريم بترتيب المصحف فيتكلم عما تشتمل عليه من علوم القرآن، مفردًِا كل نوع بعنوان، فيجعل العنوان العام في الآية: "القول في قوله عز وجل ... " ويذكر الآية، ثم يضع تحت هذا العنوان: "القول في الإعراب" ويتحدث عن الآية من الناحية النحوية واللغوية، ثم "القول في المعنى والتفسير" ويشرح الآية بالمأثور والمعقول، ثم "القول في الوقف والتمام" ويبين ما يجوز من الوقف وما لا يجوز، وقد يُفْرِد القراءات بعنوان مستقل فيقول: "القول في القراءة"، وقد يتكلم عن الأحكام التي تؤخذ من الآية عند عرضها. والحوفي بهذا النهج يعتبر أول من دَوَّن علوم القرآن، وإن كان تدوينه على النمط الخاص الآنف الذكر، وهو المتوفى سنة 430هـ. ثم تبعه ابن الجوزي سنة 597 هجرية في كتابه "فنون الأفنان في عجائب علوم القرآن"2. ثم جاء بدر الدين الزركشي المتوفى سنة 794 هجرية وألف كتابًا وافيًا سماه "البرهان في علوم القرآن"3. ثم أضاف إليه بعض الزيادات جلال الدين البلقيني المتوفى سنة 824 هجرية في كتابه "مواقع العلوم من مواقع النجوم".

_ 1 انظر جـ1 ص27 وما بعدها، ط. الحلبي. 2 توجد منه نسخة مخطوطة غير كاملة في المكتبة التيمورية. 3 نشره وحققه الأستاذ محمد أبو الفضل إبراهيم في أربعة أجزاء.

ثم ألف جلال الدين السيوطي المتوفى سنة 911 هجرية كتابه المشهور "الإتقان في علوم القرآن". ولم يكن نصيب علوم القرآن من التأليف في عصر النهضة الحديثة أقل من العلوم الأخرى. فقد اتجه المتصلون بحركة الفكر الإسلامي اتجاهًا سديدًا في معالجة الموضوعات القرآنية بأسلوب العصر، مثل كتاب "إعجاز القرآن" لمصطفى صادق الرافعي، وكتابي "التصوير الفني في القرآن" و"مشاهد القيامة في القرآن" للشهيد سيد قطب. و"ترجمة القرآن" للشيخ محمد مصطفى المراغي، وبحث فيها لمحب الدين الخطيب، و"مسألة ترجمة القرآن" لمصطفى صبري، و"النبأ العظيم" للدكتور محمد عبد الله دراز، ومقدمة تفسير "محاسن التأويل" لمحمد جمال الدين القاسمي. وألف الشيخ طاهر الجزائري كتابًا سماه "التبيان في علوم القرآن". وألف الشيخ محمد علي سلامة كتابه "منهج الفرقان في علوم القرآن" تناول فيه المباحث المقررة بكلية أصول الدين بمصر تخصص الدعوة والإرشاد. وتلاه الشيخ محمد عبد العظيم الزرقاني فألف كتابه "مناهل العرفان في علوم القرآن". ثم الشيخ أحمد أحمد علي في "مذكرة علوم القرآن" التي ألقاها على طلابه بالكلية، قسم إجازة الدعوة والإرشاد. وصدر أخيرًا "مباحث في علوم القرآن" للدكتور صبحي الصالح. وللأستاذ أحمد محمد جمال، أبحاث "على مائدة القرآن". هذه المباحث جميعها هي التي تُعرف بعلوم القرآن، حتى صارت علمًا على العلم المعروف بهذا الاسم.

والعلوم: جمع عِلم، والعلم: الفهم والإدراك. ثم نُقِلَ بمعنى المسائل المختلفة المضبوطة ضبطًا علميًّا. والمراد بعلوم القرآن: العلم الذي يتناول الأبحاث المتعلقة بالقرآن من حيث معرفة أسباب النزول، وجمع القرآن وترتيبه، ومعرفة المكي والمدني، والناسخ والمنسوخ، والمُحْكَمِ والمتشابه، إلى غير ذلك مما له صلة بالقرآن. وقد يسمى هذا العلم بأصول التفسير, لأنه يتناول المباحث التي لا بد للمفسر من معرفتها للاستناد إليها في تفسير القرآن1.

_ 1 اكتفينا بهذا العرض التاريخي مع التعريف الإجمالي عن البحث في لفظ "علوم القرآن" باعتباره مركبًا إضافيًّا، وباعتباره علمًا على هذا الفن.

القرآن

القرآن مدخل ... القرآن: من فضل الله على الإنسان أنه لم يتركه في الحياة يستهدي بما أودعه الله فيه من فطرة سليمة، تقوده إلى الخير، وترشده إلى البر فحسب، بل بعث إليه بين فترة وأخرى رسولًا يحمل من الله كتابًا يدعوه إلى عبادة الله وحده، ويبشر وينذر، لتقوم عليه الحجة: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} 1. وظلت الإنسانية -في تطورها ورقيها الفكري- والوحي يعاودها بما يناسبها ويحل مشكلاتها الوقتية في نطاق قوم كل رسول، حتى اكتمل نضجها، وأراد الله لرسالة محمد -صلى الله عليه وسلم- أن تشرق على الوجود، فبعثه على فترة من الرسل. ليكمل صرح إخوانه الرسل السابقين بشريعته العامة الخالدة، وكتابه المنزَّل عليه، وهو القرآن الكريم ... "مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتًا فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون به، ويعجبون منه، ويقولون: لولا هذه اللبنة، فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين" 2. فالقرآن رسالة الله إلى الإنسانية كافة وقد تواترت النصوص الدالة على ذلك في الكتاب والسٌّنَّة: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} 3.. {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} 4، "وكان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس كافة" 5، ولن يأتي بعده رسالة أخرى {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} 6.

_ 1 النساء: 165. 2 متفق عليه. 3 الأعراف: 158. 4 الفرقان: 1. 5 في الصحيحين من حديث: "أُعطِيتُ خمسًا لم يُعْطَهُنَّ أحد قبلي". 6 الأحزاب: 40.

فلا غرو من أن يأتي القرآن وافيًا بجميع مطالب الحياة الإنسانية على الأسس الأولى للأديان السماوية: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} 1.. وتحدى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- العرب بالقرآن، وقد نزل بلسانهم، وهم أرباب الفصاحة والبيان، فعجزوا عن أن يأتوا بمثله، أو بعشر سور مثله، أو بسورة من مثله، فثبت له الإعجاز، وبإعجازه ثبتت الرسالة. وكتب الله له الحفظ والنقل المتواتر دون تحريف أو تبديل، فمن أوصاف جبريل الذي نزل به: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ} 2, ومن أوصافه وأوصاف المنزل عليه: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ, ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ, مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ, ومَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ, وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ, وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} 3، {إَنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٍ, فيِ كِتَابٍ مَّكَنُونٍ, لاَ يَمَسُّهُ إلاَّ المُطَهَّروَنَ} 4.. ولم تكن هذه الميزة لكتاب آخر من الكتب السابقة لأنها جاءت موقوتة بزمن خاص، وصدق الله إذ يقول: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} 5. وتجاوزت رسالة القرآن الإنس إلى الجن: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ, قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ, يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ} 6.. والقرآن بتلك الخصائص يعالج المشكلات الإنسانية في شتى مرافق الحياة، الروحية والعقلية والبدنية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية علاجًا حكيمًا، لأنه تنزيل الحكيم الحميد، ويضع لكل مشكلة بَلْسَمَها الشافي في أسس عامة،

_ 1 الشورى: 13. 2 الشعراء: 193. 3 التكوير: 19، 24. 4 الواقعة: 77-79. 5 الحجر: 9. 6 الأحقاف: 29-31.

تترسم الإنسانية خُطاها، وتبني عليها في كل عصر ما يلائمها، فاكتسب بذلك صلاحيته لكل زمان ومكان، فهو دين الخلود، وما أروع ما قاله داعية الإسلام في القرن الرابع عشر: "الإسلام نظام شامل، يتناول مظاهر الحياة جميعًا، فهو دولة ووطن، أو حكومة وأمة، وهو خُلُقٌ وقوة، أو رحمة وعدالة، وهو ثقافة وقانون، أو علم وقضاء، وهو مادة وثروة، أو كسب وغِنَى، وهو جهاد ودعوة، أو جيش وفكرة، كما هو عقيدة صادقة، وعبادة صحيحة سواء بسواء"1. والإنسانية المعذَّبة اليوم في ضميرها، المضطربة في أنظمتها، المتداعية في أخلاقها، لا عاصم لها من الهاوية التي تتردى فيها إلا القرآن: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى, وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} 2. والمسلمون هم وحدهم الذين يحملون المشعل وسط دياجير النظم والمبادئ الأخرى، فحري بهم أن ينفضوا أيديهم من كل بهرج زائف، وأن يقودوا الإنسانية الحائرة بالقرآن الكريم حتى يأخذوا بيدها إلى شاطئ السلام. وكما كانت لهم الدولة بالقرآن في الماضي. فإنها كذلك لن تكون لهم إلا به في الحاضر.

_ 1 من رسالة التعاليم: للإمام الشهيد حسن البنا. 2 طه: 123، 124.

تعريف القرآن

تعريف القرآن: "قرأ": تأتي بمعنى الجمع والضم، والقراءة: ضم الحروف والكلمات بعضها إلى بعض في الترتيل، والقرآن في الأصل كالقراءة: مصدر قرأ قراءة وقرآنًا. قال تعالى: {إنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وقَرُآنَهُ, فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} 1. أي قراءته، فهو مصدر على وزن "فُعلان" بالضم:

_ 1 القيامة: 17، 18.

كالغفران والشكران، تقول: قرأته قرءًا وقراءة وقرآنًا، بمعنى واحد. سمي به المقروء تسمية للمفعول بالمصدر. وقد خص القرآن بالكتاب المنزل على محمد -صلى الله عليه وسلم- فصار له كالعلم الشخصي. ويطلق بالاشتراك اللفظي على مجموع القرآن، وعلى كل آية من آياته، فإذا سمعت من يتلو آية من القرآن صح أن تقول إنه يقرأ القرآن: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} 1.. وذكر بعض العلماء أن تسمية هذا الكتاب قرآنًا من بين كتب الله لكونه جامعًا لثمرة كتبه، بل لجمعه ثمرة جميع العلوم. كما أشار تعالى إلى ذلك بقوله: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} 2، وقوله: {مَا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِنْ شَيءٍ} 3.. وذهب بعض العلماء إلى أن لفظ القرآن غير مهموز الأصل في الاشتقاق، إما لأنه وضع علمًا مرتجلًا على الكلام المنزل على النبي -صلى الله عليه وسلم- وليس مشتقًا من "قرأ"، وإما لأنه من قرن الشيء بالشيء إذا ضمه إليه، أو من القرائن لأن آياته يشبه بعضها بعضًا فالنون أصلية، وهذا رأي مرجوح، والصواب الأول. والقرآن الكريم يتعذر تحديده بالتعاريف المنطقية ذات الأجناس والفصول والخواص. بحيث يكون تعريفه حدًّا حقيقيًّا، والحد الحقيقي له هو استحضاره معهودًا في الذهن أو مُشاهدًا بالحس كأن تشير إليه مكتوبًا في المصحف أو مقروءًا باللسان فتقول: هو ما بين هاتين الدفتين، أو تقول: هو من {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ, الحَمْدُ للَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ} 4 ... إلى قوله: {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} 5..

_ 1 الأعراف: 204. 2 النحل: 89. 3 سياق الآية يدل على أن المراد بالكتاب هنا اللوح المحفوظ. ولكن القرآن ثبت في اللوح المحفوظ، "والآية من سورة الأنعام: 38". 4 الفاتحة: 1، 2. 5 الناس: 6.

ويذكر العلماء تعريفًا له يُقَرِّبُ معناه ويميزه عن غيره، فيُعَرِّفُونَهُ بأنه: "كلام الله، المنزل على محمد -صلى الله عليه وسلم- المتعبد بتلاوته". فـ "الكلام" جنس في التعريف، يشمل كل كلام، وإضافته إلى "الله" يُخْرِجُ كلام غيره من الإنس والجن والملائكة. و"المنزَّل" يُخْرِج كلام الله الذي استأثر به سبحانه: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} 1، {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّه} 2. وتقييد المنزَّل بكونه "على محمد, صلى الله عليه وسلم" يُخرج ما أُنْزِلَ على الأنبياء قبله كالتوراة والإنجيل وغيرهما. و"المتعبد بتلاوته" يُخرج قراءات الآحاد، والأحاديث القدسية -إن قلنا إنها منزَّلة من عند الله بألفاظها- لأن التعبد بتلاوته معناه الأمر بقراءته في الصلاة وغيرها على وجه العبادة، وليست قراءة الآحاد والأحاديث القدسية كذلك.

_ 1 الكهف: 109. 2 لقمان: 27.

أسماؤه وأوصافه

أسماؤه وأوصافه: وقد سماه الله بأسماء كثيرة: منها "القرآن". {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} 1. و"الكتاب". {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ} 2. و"الفرقان". {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} 3.

_ 1 الإسراء: 9. 2 الأنبياء: 10. 3 الفرقان: 1.

و"الذكر".. {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} 1.. و"التنزيل".. {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} 2.. إلى غير ذلك مما ورد في القرآن. وقد غلب من أسمائه: "القرآن" و"الكتاب"، قال الدكتور محمد عبد الله دراز: "رُوعِيَ في تسميته "قرآنًا" كونه متلوًّا بالألسن، كما رُوعِيَ في تسميته "كتابًا" كونه مدوَّنًا بالأقلام، فكلتا التسميتين من تسمية شيء بالمعنى الواقع عليه". وفي تسميته بهذين الاسمين إشارة إلى أن من حقه العناية بحفظه في موضعين لا في موضع واحد، أعني أنه يجب حفظه في الصدور والسطور جميعًا، أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى، فلا ثقة لنا بحفظ حافظ حتى يوافق الرسم المجمع عليه من الأصحاب، المنقول إلينا جيلًا بعد جيل على هيئته التي وُضِعَ عليها أول مرة، ولا ثقة لنا بكتابة كاتب حتى يوافق ما هو عند الحفَّاظ بالإسناد الصحيح المتواتر. وبهذه العناية المزدوجة التي بعثها الله في نفوس الأمة المحمدية اقتداء بنبيها. بقي القرآن محفوظًا في حرز حريز، إنجازًا لوعد الله الذي تكفَّل بحفظه حيث يقول: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} ولم يصبه ما أصاب الكتب الماضية من التحريف والتبديل وانقطاع السند"3. وبيَّن سر هذه التفرقة بأن سائر الكتب السماوية جِيء بها على التوقيت لا التأبيد، وأن هذا القرآن جِيء به مُصَدِّقًا لما بين يديه من الكتب ومهيمنًا عليها، فكان جامعًا لما فيها من الحقائق الثابتة زائدًا عليها بما شاء الله زيادته، وكان سائرًا مسيرها، ولم يكن شيء منها ليسد مسده، فقضى الله أن يبقى حجة إلى

_ 1 الحجر: 9. 2 الشعراء: 192. 3 النبأ العظيم: ص12، 13- ط. دار القلم بالكويت.

قيام الساعة، وإذا قضى الله أمرًا يَسَّر له أسبابه -وهو الحكيم العليم- وهذا تعليل جيد. ووصف الله القرآن بأوصاف كثيرة كذلك: منها "نور".. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا} 1.. و"هدى" و"شفاء" و"رحمة" و"موعظة".. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} 2. و"مبارك".. {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْه} 3. و"مبين".. {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} 4. و"بشرى".. {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} 5. و"عزيز".. {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ} 6. و"مجيد".. {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ} 7. و"بشير" و"نذير".. {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ, بَشِيرًا وَنَذِيرًا} 8. وكل تسمية أو وصف فهو باعتبار معنى من معاني القرآن.

_ 1 النساء: 174. 2 يونس: 57. 3 الأنعام: 92. 4 المائدة: 15. 5 البقرة: 97. 6 فصلت: 15. 7 البروج: 21. 8 فصلت: 3، 4.

الفرق بين القرآن والحديث القدسي والحديث النبوي سبق تعريف القرآن، ولكي نعرف الفرق بينه وبين الحديث القدسي والحديث النبوي نعطي التعريفين الآتيين: الحديث النبوي: الحديث في اللغة: ضد القديم، ويُطلق ويراد به كلام يُتحدث به ويُنقل ويَبلغ الإنسان من جهة السمع أو الوحي في يقظته أو منامه، وبهذا المعنى سُمِّيَ القرآن حديثًا: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} 1، وسُمِّيَ ما يُحَدَّثُ به الإنسان في نومه: {وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ} 2.. والحديث في الاصطلاح: ما أُضِيفَ إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- من قول أو فعل أو تقرير أو صفة. فالقول: كقوله, صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى.." 3. والفعل: كالذي ثبت من تعليمه لأصحابه كيفية الصلاة ثم قال: "صَلُّوا كما رأيتموني أُصَلِّي" 4، وما ثبت من كيفية حجه، وقد قال: "خذوا عني مناسككم" 5. والإقرار: كأن يُقِرَّ أمرًا عَلِمَهُ عن أحد الصحابة من قول أو فعل. سواء أكان ذلك في حضرته -صلى الله عليه وسلم- أما في غيبته ثم بلغه، ومن أمثلته: "أكل الضب على مائدته, صلى الله عليه وسلم"، "وما رُوِي من أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعث رجلًا على سرية، وكان يقرأ لأصحابه في صلاته فيختم بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أحَدٌ} 6, فلما رجعوا ذكروا ذلك له عليه الصلاة والسلام، فقال: سلوه لأي شيء يصنع ذلك؟ فسألوه، فقال: لأنها صفة الرحمن وأنا أحب أن أقرأ بها، فقال النبي, صلى الله عليه وسلم: "أخبروه أن الله يحبه" 7.

_ 1 النساء: 87. 2 يوسف: 101. 3 من حديث طويل رواه البخاري ومسلم عن عمر بن الخطاب. 4 رواه البخاري. 5 أخرجه مسلم وأحمد والنَّسائي. 6 الإخلاص: 1. 7 رواه البخاري ومسلم.

والصفة: كما رُوِيَ: "من أنه -صلى الله عليه وسلم- كان دائم البِشر، سهل الخُلُق، لَيِّنَ الجانب، ليس بفظٍّ ولا غليظٍ ولا صخَّاب ولا فحَّاش ولا عيَّاب ... ". الحديث القدسي: عرَّفنا معنى الحديث لغة, والقدسي: نسبة إلى القدس، وهي نسبة تدل على التعظيم، لأن مادة الكلمة دالة على التنزيه والتطهير في اللغة، فالتقديس: تنزيه الله تعالى، والتقديس: التطهير، وتقدَّس: تطهَّر، قال الله تعالى على لسان ملائكته: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} 1, أي نُطَهِّرُ أنفسنا لك. والحديث القدسي في الاصطلاح: هو ما يضيفه النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى الله تعالى، أي إن النبي -صلى الله عليه وسلم- يرويه على أنه من كلام الله، فالرسول راوٍ لكلام الله بلفظ من عنده، وإذا رواه أحد رواه عن رسول الله مُسْنَدًا إلى الله عز وجل، فيقول: "قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما يرويه عن ربه عز وجل....". أو يقول: "قال رسول الله, صلى الله عليه وسلم: قال الله تعالى - أو يقول الله تعالى ... ". ومثال الأول: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما يرويه عن ربه عز وجل: "يد الله ملأى لا يغيضها نفقة، سحَّاء الليل والنهار ... " 2. ومثال الثاني: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: يقول الله تعالى "أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأٍ ذكرته في ملأٍ خير منه ... " 3.

_ 1 البقرة: 30. 2 أخرجه البخاري. 3 أخرجه البخاري ومسلم.

الفرق بين القرآن والحديث القدسي

الفرق بين القرآن والحديث القدسي: هناك عدة فروق بين القرآن الكريم والحديث القدسي أهمها: 1- أن القرآن الكريم كلام الله أَوْحَى به إلى رسول الله بلفظه، وتحدى به العرب، فعجزوا عن أن يأتوا بمثله، أو بعشر سور مثله، أو بسورة من مثله، ولا يزال التحدي به قائمًا، فهو معجزة خالدة إلى يوم الدين. والحديث القدسي لم يقع به التحدي والإعجاز. 2- والقرآن الكريم لا يُنْسَب إلا إلى الله تعالى، فيقال: قال الله تعالى. والحديث القدسي -كما سبق- قد يُرْوَى مضافًا إلى الله وتكون النسبة إليه حينئذ نسبة إنشاء فيقال: قال الله تعالى، أو: يقول الله تعالى، وقد يُرْوَى مضافًا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتكون النسبة حينئذ نسبة إخبار لأنه عليه الصلاة والسلام هو المُخْبِرُ به عن الله، فيقال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما يرويه عن ربه عز وجل. 3- والقرآن الكريم جميعه منقول بالتواتر، فهو قطعي الثبوت، والأحاديث القدسية أكثرها أخبار آحاد، فهي ظنية الثبوت. وقد يكون الحديث القدسي صحيحًا، وقد يكون حسنًا، وقد يكون ضعيفًا. 4- والقرآن الكريم من عند الله لفظًا ومعنًى، فهو وحي باللفظ والمعنى. والحديث القدسي معناه من عند الله، ولفظه من عند الرسول -صلى الله عليه وسلم- على الصحيح فهو وحي بالمعنى دون اللفظ، ولذا تجوز روايته بالمعنى عند جمهور المحدِّثين. 5- والقرآن الكريم مُتَعَبَّدٌ بتلاوته، فهو الذي تتعين القراءة به في الصلاة: {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} 1, وقراءته عبادة يُثيب الله عليها بما جاء في الحديث: "من قرأ حرفًا من كتاب الله تعالى فله حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول "ألم" حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف" 2.

_ 1 المزمل: 20. 2 رواه الترمذي عن ابن مسعود وقال: حديث حسن صحيح.

والحديث القدسي لا يجزئ في الصلاة، ويثيب الله على قراءته ثوابًا عامًّا، فلا يصدق فيه الثواب الذي ورد ذكره في الحديث على قراءة القرآن، بكل حرف عشر حسنات.

الفرق بين الحديث القدسي والحديث النبوي

الفرق بين الحديث القدسي والحديث النبوي: الحديث النبوي قسمان: "قسم توقيفي" وهو الذي تلقى الرسول -صلى الله عليه وسلم- مضمونه من الوحي فبيَّنه للناس بكلامه، وهذا القسم وإن كان مضمونه منسوبًا إلى الله فإنه -من حيث هو كلام- حَرِي بأن يُنسب إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- لأن الكلام إنما يُنسب إلى قائله وإن كان ما فيه من المعنى قد تلقاه عن غيره. و"قسم توفيقي" وهو الذي استنبطه الرسول -صلى الله عليه وسلم- من فهمه للقرآن، لأنه مبيِّن له، أو استنبطه بالتأمل والاجتهاد. وهذا القسم الاستنباطي الاجتهادي يقره الوحي إذا كان صوابًا، وإذا وقع فيه خطأ جزئي نزل الوحي بما فيه الصواب1 وليس هذا القسم كلام الله قطعًا. ويتبين من ذلك: أن الأحاديث النبوية بقسميها: التوقيفي، والتوفيقي الاجتهادي الذي أقره الوحي، يمكن أن يقال فيها إن مردها جميعًا بجملتها إلى الوحي، وهذا معنى قوله تعالى في رسولنا, صلى الله عليه وسلم: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى, إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} 2.. والحديث القدسي معناه من عند الله عز وجل، يُلْقَى إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- بكيفية من كيفيات الوحي -لا على التعيين- أما ألفاظه فمن عند الرسول -صلى الله عليه وسلم- على

_ 1 ومثاله ما كان في أسرى بدر، فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أخذ برأي أبي بكر وقبل منهم الفداء، فنزل القرآن الكريم معاتبًا له: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى} [الأنفال: 67] . 2 النجم: 3، 4.

الراجح ونسبته إلى الله تعالى نسبة لمضمونه لا نسبة لألفاظه، ولو كان لفظه من عند الله لما كان هناك فرق بينه وبين القرآن، ولوقع التحدي بأسلوبه والتعبد بتلاوته. ويرد على هذا شبهتان! الشبهة الأولى: أن الحديث النبوي وحي بالمعنى كذلك، واللفظ من الرسول -صلى الله عليه وسلم- فلماذا لا نسميه قدسيًّا أيضًا؟ والجواب: أننا نقطع في الحديث القدسي بنزول معناه من عند الله لورود النص الشرعي على نسبته إلى الله بقوله, صلى الله عليه وسلم: "قال الله تعالى، أو يقول الله تعالى" ولذا سميناه قدسيًّا، بخلاف الأحاديث النبوية فإنها لم يرد فيها مثل هذا النص، ويجوز في كل واحد منها أن يكون مضمونه معلَّمًا بالوحي "أي توقيفيًّا" وأن يكون مستنبطًا بالاجتهاد "أي توفيقيًّا" ولذا سمينا الكل نبويًّا وقوفًا بالتسمية عند الحد المقطوع به، ولو كان لدينا ما يميز الوحي التوقيفي لسميناه قدسيًّا كذلك. الشبهة الثانية: أنه إذا كان لفظ الحديث القدسي من الرسول -صلى الله عليه وسلم- فما وجه نسبته إلى الله بقوله, صلى الله عليه وسلم: "قال الله تعالى، أو يقول الله تعالى". والجواب: أن هذا سائغ في العربية، حيث ينسب الكلام باعتبار مضمونه لا باعتبار ألفاظه، فأنت تقول حينما تنثر بيتًا من الشعر: يقول الشاعر كذا، وحينما تحكي ما سمعته من شخص: يقول فلان كذا، وقد حكى القرآن الكريم عن موسى وفرعون وغيرهما مضمون كلامهم بألفاظ غير ألفاظهم، وأسلوب غير أسلوبهم، ونسب ذلك إليهم: {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ, قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ, قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ, وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ, وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ

فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ, قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآياتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ, فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ, أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرائيلَ, قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ, وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ, قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ, فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ, وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائيلَ, قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ, قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ} 1.

_ 1 من ذهب إلى أن الحديث القدسي وحي باللفظ كذلك يجعل هذا فرقًا أساسيًّا بينه وبين الحديث النبوي، ويبقى الفرق بينه وبين القرآن الكريم في عدم التحدي وعدم الإعجاز وعدم التعبد بتلاوته وعدم التواتر في معظمه "والآيات من سورة الشعراء: 10، 24".

الوحي

3- الوحي: إمكانية الوحي ووقوعه: ازدهرت الحياة العلمية وبددت أشعتها كل ريبة كانت تساور الناس إلى عهد قريب فيما وراء المادة من روح، وآمن العلم المادي الذي وضع جل الكائنات تحت التجربة والاختبار بأن هناك عالمًا غيبيًّا وراء هذا العالمَ المشاهَد، وأن عالَم الغيب أدق وأعمق من عالَم الشهادة، وأكثر المخترعات الحديثة التي أخذت بألباب الناس تحجب وراءها هذا السر الخفي الذي عجز العلم عن إدراك كنهه وإن لاحظ آثاره ومظاهره، وقَرَّبَ هذا بُعْدَ الشقة بين التنكر للأديان والإيمان بها مصداقًا لقوله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} 1، وقوله: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} 2.. فالبحوث النفسية الروحية لها في مضمار العلم الآن مكانتها، ويساندها ويُقرِّبها إلى الأفهام تفاوت الناس في مداركهم وميولهم وغرائزهم، فمن العقولِ العبقريُّ الفذ الذي يبتكر كل جديد، ومنها الغبي الذي يستعصي عليه إدراك بديهي الأمور، وبين المنزلتين درجات. والنفوس كذلك، منها الصافي المشرق، والخبيث المعتم. وجسم الإنسان يطوي وراءه روحًا هي سر حياته، وإذا كان الجسم تبلى ذرَّاته وتفنى أنسجته وخلاياه ما لم يتناول قسطه من الغذاء، فجدير بالروح أن يكون لها غذاء يمدها بالطاقة الروحية كي تحتفظ بمقوماتها وقيمها. وليس ببعيد على الله تعالى أن يختار من عباده نفوسًا لها من نقاء الجوهر وسلامة الفطرة ما يعدها للفيض الإلهي، والوحي السماوي، والاتصال بالملأ

_ 1 فصلت: 53. 2 الإسراء: 85.

الأعلى، ليُلقي إليها برسالاته التي تسد حاجة البشر في رقي وجدانه، وسمو أخلاقه، واستقامة نظامه، وهؤلاء هم رسله وأنبياؤه. ولا غرابة في أن يكون هذا الاتصال بالوحي السماوي. فالناس اليوم يشاهدون التنويم المغناطيسي، وهو يوضح لهم أن اتصال النفس الإنسانية بقوة أعلى منها يُحدث أثرًا يُقرِّب إلى الأفهام ظاهرة الوحي؛ حيث يستطيع الرجل القوي الإرادة أن يتسلط بإرادته على من هو أضعف منه فينام نومًا عميقًا، ويكون رهن إشارته، ويُلَقِّنه ما يريد فيجري على قلبه ولسانه، وإذا كان هذا فعل الإنسان بالإنسان فما ظنك بمن هو أشد منه قوة؟ 1. ويسمع الناس الأحاديث المسجلة التي تحملها اليوم موجات الأثير، عابرة الوهاد والنجاد، والسهول والبحار، دون رؤية ذويها، بل بعد وفاتهم. وأصبح الرجلان يتخاطبان في الهاتف، أحدهما في أقصى المشرق، والآخر في أقصى المغرب، وقد يتراءيان مع هذا التخاطب، ولا يسمع الجالسون بجانبهما شيئًا سوى أزيز كدوي النحل الذي في صفة الوحي. ومَن منا ليس له حديث نفس في يقظته أو منامه يدور في خلده دون أن يرى متكلمًا أمامه؟ هذه وغيرها أمثلة تفسر لعقولنا حقيقة الوحي. وقد شاهد الوحي معاصروه، ونُقِلَ بالتواتر المستوفي لشروطه بما يفيد العلم القطعي إلى الأجيال اللاحقة، ولمست الإنسانية أثره في حضارة أمته، وقوة أتباعه، وعزتهم ما استمسكوا به وانهيار كيانهم وخذلانهم ما فرَّطوا في جنبه، مما لا يدع مجالًا للشك في إمكان الوحي وثبوته. وضرورة العودة إلى الاهتداء به إطفاء للظمأ النفسي بِمُثُلِهِ العليا، وقيمه الروحية.

_ 1 انظر النبأ العظيم ص75.

ولم يكن رسولنا -صلى الله عليه وسلم- أول رسول أُوحِيَ إليه، بل أَوْحَى الله تعالى إلى الرسل قبله بمثل ما أَوْحَى إليه: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا, وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} 1.. فليس هناك في نزول الوحي على محمد -صلى الله عليه وسلم- ما يدعو إلى العجب، ولذا أنكر الله على العقلاء هذا في قوله: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ} 2..

_ 1 النساء: 163، 164. 2 يونس: 2.

معنى الوحي

معنى الوحي: يقال: وحيت إليه وأوحيت: إذا كلَّمته بما تخفيه عن غيره، والوحي: الإشارة السريعة، وذلك يكون بالكلام على سبيل الرمز والتعريض، وقد يكون بصوت مجرد، وبإشارة ببعض الجوارح. والوحي مصدر، ومادة الكلمة تدل على معنيين أصليين، هما: الخفاء والسرعة، ولذا قيل في معناه: الإعلام الخفي السريع الخاص بمن يوجَّه إليه بحيث يخفى على غيره، وهذا معنى المصدر، ويُطلق ويُراد به الوحي، أي بمعنى اسم المفعول. والوحي بمعناه اللغوي يتناول: 1- الإلهام الفطري للإنسان، كالوحي إلى أُم موسى {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} 1..

_ 1 القصص: 7.

2- والإلهام الغريزي للحيوان، كالوحي إلى النحل {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ} 1. 3- والإشارة السريعة على سبيل الرمز والإيحاء كإيحاء زكريا فيما حكاه القرآن عنه: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} 2.. 4- ووسوسة الشيطان وتزيينه الشر في نفس الإنسان: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} 3، {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} 4.. 5- وما يُلقيه الله إلى ملائكته من أمر ليفعلوه: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} 5.. ولغة القرآن الفاشية "أوحى" بالألف -ولم يستعمل مصدرها- وإنما جاء فيه مصدر الثلاثي: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} 6.. ووحي الله إلى أنبيائه قد عرَّفوه شرعًا بأنه: كلام الله تعالى المُنَزَّلُ على نبي من أنبيائه. وهو تعريف له بمعنى اسم المفعول أي الموحى. والوحي بالمعنى المصدري اصطلاحًا: هو إعلام الله تعالى مَن يصطفيه من عباده ما أراد من هداية بطريقة خفية سريعة. وعرَّفه الأستاذ محمد عبده في رسالة التوحيد بأنه: "عرفان يجده الشخص من نفسه مع اليقين بأنه من قِبَلِ الله بواسطة أو بغير واسطة، والأول بصوت يتمثل لسمعه أو بغير صوت. ويُفَرَّقُ بينه وبين الإلهام

_ 1 النحل: 68. 2 مريم: 11. 3 الأنعام: 121. 4 الأنعام: 112. 5 الأنفال: 12. 6 النجم: 4.

بأن الإلهام: وجدان تستيقنه النفس فتنساق إلى ما يُطلب على غير شعور منها من أين أتى؟ وهو أشبه بوجدان الجوع والعطش والحزن والسرور"1. وهو تعريف للوحي بالمعنى المصدري، وبدايته وإن كانت توهم شبهه بحديث النفس أو الكشف، إلا أن الفرق بينه وبين الإلهام الذي جاء في عجز التعريف ينفي هذا.

_ 1 انظر كتاب: الوحي المحمدي، للشيخ محمد رشيد رضا، ص44.

كيفية وحي الله إلى ملائكتة

كيفية وحي الله إلى ملائكته: 1- جاء في القرآن الكريم ما ينص على كلام الله لملائكته: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} 1. وعلى إيحائه إليهم: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} 2. وعلى قيامهم بتدبير شئون الكون حسب أمره: {فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا} 3، {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا} 4. وهذه النصوص متآزرة تدل على أن الله يُكَلِّمُ الملائكة دون واسطة بكلام يفهمونه. ويؤيد هذا ما جاء في الحديث عن النوَّاس بن سمعان رضي الله عنه قال: قال رسول الله, صلى الله عليه وسلم: "إذا أراد الله تعالى أن يوحي بالأمر تكلم بالوحي، أخذت السموات منه رجفة -أو قال: رعدة- شديدة خوفًا من الله عز وجل، فإذا سمع ذلك أهل السموات صعقوا وخرُّوا لله سجَّدًا، فيكون أول من يرفع رأسه جبريل، فيُكَلِّمُهُ الله من وحيه بما أراد، ثم يمر جبريل على الملائكة، كلما مر

_ 1 البقرة: 30. 2 الأنفال: 12. 3 الذاريات: 4. 4 النازعات: 5.

بسماء سأله ملائكتها: ماذا قال ربنا يا جبريل؟ فيقول جبريل: "قال الحق وهو العلي الكبير" فيقولون كلهم مثل ما قال جبريل، فينتهي جبريل بالوحي إلى حيث أمره الله عز وجل"1. فهذا الحديث يبين أن كيفية الوحي تكلم من الله، وسماع من الملائكة، وهول شديد لأثره، وإذا كان ظاهره -في مرور جبريل وانتهائه بالوحي- يدل على أن ذلك خاص بالقرآن فإن صدره يبين كيفية عامة، وأصله في الصحيح: "إذا قضى الله الأمر في السماء ضرب الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله كأنه سلسلة على صفوان".. 2- وثبت أن القرآن الكريم كُتِبَ في اللَّوح المحفوظ لقوله تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ, فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} 2. كما ثبت إنزاله جملة إلى بيت العزة من السماء الدنيا في ليلة القدر من شهر رمضان: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} 3، {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} 4، {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} 5.. وفي السٌّنَّة ما يوضح هذا النزول، ويدل على أنه غير النزول الذي كان على قلب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فعن ابن عباس موقوفًا: "أُنزل القرآن جملة واحدة إلى السماء الدنيا ليلة القدر، ثم أُنزل بعد ذلك بعشرين سنة ثم قرأ: {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} 6، {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا} 7، 8، وفي رواية: "فُصِلَ القرآن من الذكر فوُضِعَ في بيت العزة من السماء الدنيا فجعل جبريل ينزل به على النبي, صلى الله عليه وسلم" 9.

_ 1 أخرجه الطبراني. 2 البروج: 21، 22. 3 القدر: 1. 4 الدخان: 3. 5 البقرة: 185. 6 الفرقان: 33. 7 الإسراء: 106. 8 أخرجه الحاكم والبيهقي والنَّسائي. 9 أخرجه الحاكم وابن أبي شيبة.

ولذلك ذهب العلماء في كيفية وحي الله إلى جبريل بالقرآن إلى المذاهب الآتية: أ- أن جبريل تلقفه سماعًا من الله بلفظه المخصوص. ب- أن جبريل حفظه من اللَّوح المحفوظ. جـ- أن جبريل أُلقي إليه المعنى - والألفاظ لجبريل، أو لمحمد, صلى الله عليه وسلم. والرأي الأول هو الصواب، وهو ما عليه أهل السٌّنَّة والجماعة، ويؤيده حديث النوَّاس بن سمعان السابق. ونسبة القرآن إلى الله في أكثر من آية: {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} 1.. {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} 2.. {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} 3. فالقرآن الكريم كلام الله بألفاظه لا كلام جبريل أو محمد. أما الرأي الثاني فلا اعتبار له، إذ إن ثبوت القرآن في اللَّّوح المحفوظ كثبوت سائر المغيبات التي لا يخرج القرآن عن أن يكون من جملتها. والرأي الثالث أنسب بالسٌّنَّة لأنها وحي من الله أُوحي إلى جبريل، ثم إلى محمد -صلى الله عليه وسلم- بالمعنى، فعبَّر عنه رسول الله بعبارته: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى, إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} 4.. ولذا جازت رواية السٌّنَّة بالمعنى لعارف بما لا يحيل المعاني دون القرآن..

_ 1 النمل: 6. 2 التوبة: 6. 3 يونس: 15. 4 النجم: 3، 4.

ويُجاب على من قال: إنه كلام جبريل، بأن هذا قول فاسد لوجوه: أحدها: أن المسلمين أجمعين إذا تلوا آية قالوا: قال الله تعالى، ولو كان هذا قول جبريل لقالوا: قال جبريل. الثاني: أن هذا الذي بين دفتي المصحف بإجماع المسلمين هو كتاب الله، وعلى قولهم فإنه يكون كتاب جبريل. الثالث: أن الله تعالى قال: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} 1. وعلى قولهم، ما نزَّله من ربك، إنما نزَّله من كلام نفسه. الرابع: أن الله تعالى قال: {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ} 2، وقال: {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ} 3.. وعلى قولهم لا يكون هذا صحيحًا، وإنما يكون المسموع كلام جبريل. ويُجاب على من قال: إنه كلام محمد بأن هذا باطل لتلك الوجوه الآنفة الذكر كلها. ومن وجه آخر، فإنهم وافقوا الوليد بن المغيرة في قوله: {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} 4.. فدخلوا معه في الوعيد بقوله تعالى: {سَاُصْلِيهِ سَقَرَ} 5.. ويرد عليهم من الجواب ما أجاب الله تعالى به المشركين بقوله سبحانه: {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ, فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} 6.. وسبق أن ذكرنا الفرق بين القرآن والحديث القدسي والحديث النبوي. فمن خصائص القرآن: 1- أنه مُعْجِز. 2- قطعي الثبوت. 3- يُتَعَبَّدُ بتلاوته. 4- ويجب أداؤه بلفظه، والحديث القدسي -على القول بنزول لفظه- ليس كذلك.

_ 1 النحل: 102. 2 التوبة: 6. 3 البقرة: 75. 4 المدثر: 25. 5 المدثر: 26. 6 الطور: 33، 34.

والحديث النبوي قسمان: الأول: ما اجتهد فيه الرسول -صلى الله عليه وسلم- وهذا ليس وحيًا ويكون إقرار الوحي له بسكوته إذا كان صوابًا. والثاني: ما أُوحِيَ إليه بمعناه واللَّفظ لرسول الله، ولذا يجوز روايته بالمعنى. والحديث القدسي -على القول الراجح بنزول معناه دون لفظه- يكون من هذا القسم ونسبته إلى الله في الرواية لورود النص الشرعي على ذلك دون الأحاديث النبوية.

كيفية وحي اللله إلى رسله

كيفية وحي اللله إلى رسله ... كيفية وحي الله إلى رسله يوحي الله إلى رسله بواسطة وبغير واسطة. فالأول: بواسطة جبريل مَلك الوحي وسيأتي بيانه. والثاني: هو الذي لا واسطة فيه. أ- منه الرؤيا الصالحة في المنام: فعن عائشة رضي الله عنها قالت: "أول ما بُدِئَ به -صلى الله عليه وسلم- الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح"1. وكان ذلك تهيئة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى ينزل عليه الوحي يقظة وليس في القرآن شيء من هذا النوع لأنه نزل جميعه يقظة، خلافًا لمن ادَّعى نزول سورة "الكوثر" منامًا للحديث الوارد فيها، ففي صحيح مسلم عن أنس, رضي الله عنه: "بينما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذات يوم بين أظهرنا في المسجد إذ أغفى إغفاءة ثم رفع رأسه مبتسمًا فقلت: ما أضحكك يا رسول الله؟ فقال: "نزلت عليَّ آنفًا سورة"، فقرأ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ, إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ, فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ, إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} 2.. فلعل الإغفاء هذه هي الحالة التي كانت تعتريه عند الوحي.

_ 1 متفق عليه. 2 سورة الكوثر.

ومما يدل على أن الرؤية الصالحة للأنبياء في المنام وحي يجب اتباعه ما جاء في قصة إبراهيم من رؤيا ذبحه لولده إسماعيل1: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ, فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ, فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ, وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ, قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ, إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ, وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ, وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ, سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ, كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ, إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ, وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} 2.. ولو لم تكن هذه الرؤيا وحيًا يجب اتباعه لما أقدم إبراهيم عليه السلام على ذبح ولده لولا أن منَّ الله عليه بالفداء. الرؤيا الصالحة ليست خاصة بالرسول، فهي باقية للمؤمنين، وإن لم تكن وحيًا، قال عليه الصلاة والسلام: "انقطع الوحي وبقيت المبشرات، رؤيا المؤمن" 3. والرؤيا الصالحة في المنام للأنبياء هي القسم الأول من أقسام التكليم الإلهي المذكور في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} 4. ب- ومنه الكلام الإلهي من وراء حجاب بدون واسطة يقظة، وهو ثابت لموسى عليه السلام {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} 5، {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} 6.

_ 1 هذا هو الصواب، خلافًا لمن ذهب إلى أنه إسحاق، فإن البشارة كانت أولًا بإسماعيل قبل إسحاق، وإسماعيل هو الذي نشأ في الجزيرة العربية حيث كانت قصة الذبح، وهو الحري بأن يوصف بالحلم، وقد ذهب اليهود إلى أنه "إسحاق" حقدًا وحسدًا، لأنه أبوهم، وإسماعيل أبو العرب، والقرآن يرده لأنه لما ذكر البشارة بغلام حليم ذكر أنه الذبيح ثم قال بعد ذلك: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات: 112] . 2 الصافات: 101، 122. 3 أصل الحديث في الصحيحين وغيرهما، ولفظ البخاري: "لم يبق من النبوة إلا المبشرات" قالوا: وما المبشرات؟ قال: "الرؤيا الصالحة". 4 الشورى: 51. 5 الأعراف: 143. 6 النساء: 164.

كما ثبت التكلم على الأصح لرسولنا -صلى الله عليه وسلم- ليلة الإسراء والمعراج. وهذا النوع هو القسم الثاني المذكور في الآية: {أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} وليس في القرآن شيء منه كذلك.

كيفية وحي الملك إلى الرسول

كيفية وحي المَلَكِ إلى الرسول: وحي الله إلى أنبيائه إما أن يكون بغير واسطة، وهو ما ذكرناه آنفًا. وكان منه الرؤيا الصالحة في المنام، والكلام الإلهي من وراء حجاب يقظة، وإما أن يكون بواسطة مَلَك الوحي وهو الذي يعنينا في هذا الموضوع لأن القرآن الكريم نزل به. ولا تخلو كيفية وحي المَلَكِ إلى الرسول من إحدى حالتين: الحالة الأولى: وهي أشد على الرسول، أن يأتيه مثل صلصلة الجرس، والصوت القوي يثير عوامل الانتباه فتُهَيَّأ النفس بكل قواها لقبول أثره، فإذا نزل الوحي بهذه الصورة على الرسول -صلى الله عليه وسلم- نزل عليه وهو مستجمع القوى الإدراكية لتلقيه وحفظه وفهمه، وقد يكون هذا الصوت حفيف أجنحة الملائكة المشار إليه في الحديث: "إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانًا لقوله كالسلسلة على صفوان" 1 وقد يكون صوت المَلَكِ نفسه في أول سماع الرسول له. والحالة الثانية: أن يتمثل له المَلَكُ رجلًا ويأتيه في صورة بشر، وهذه الحالة أخف من سابقتها، حيث يكون التناسب بين المتكلم والسامع، ويأنس رسول النبوَّة عند سماعه من رسول الوحي، ويطمئن إليه اطمئنان الإنسان لأخيه الإنسان. والهيئة التي يظهر فيها جبريل بصورة رجل لا يتحتم فيها أن يتجرد من

_ 1 رواه البخاري.

روحانيته، ولا يعني أن ذاته انقلبت رجلًا، بل المراد أنه يظهر بتلك الصورة البشرية أُنْسًا للرسول البشري، ولا شك أن الحالة الأولى -حالة الصلصلة- لا يوجد فيها هذا الإيناس، وهي تحتاج إلى سمو روحي من رسول الله يتناسب مع روحانية المَلَكِ فكانت أشد الحالتين عليه، لأنها كما قال ابن خلدون: "انسلاخ من البشرية الجسمانية واتصال بالمَلَكِيَّةِ الروحانية، والحالة الأخرى عكسها لأنها انتقال المَلَكِ من الروحانية المحضة إلى البشرية الجسمانية". وكلتا الحالتين مذكور فيما رُوِيَ عن عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها- أن الحارث بن هشام رضي الله عنه سأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "يا رسول الله.. كيف يأتيك الوحي؟ فقال رسول الله, صلى الله عليه وسلم: "أحيانًا يأتيني مثل صلصلة الجرس، وهو أشد عليَّ، فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال، وأحيانًا يتمثل لي المَلَكُ رجلًا فيكلمني فأعي ما يقول". وروت عائشة رضي الله عنها ما كان يصيب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من شدة فقالت: "ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقًا"1. والحالتان هما القسم الثالث من أقسام التكليم الإلهي المشار إليه في الآية: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ 1- إِلَّا وَحْيًا 2- أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ 3- أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} 2.. أما النفث في الرُّوع -أي القلب- فقد ذُكِرَ في قول الرسول, صلى الله عليه وسلم: "إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها، فاتقوا الله وأجمِلوا في الطلب" 3. والحديث لا يدل على أنه حالة مستقلة,

_ 1 رواه البخاري. 2 الشورى: 51. 3 رواه أبو نعيم في الحلية بسند صحيح.

فيحتمل أن يرجع إلى إحدى الحالتين المذكورتين في حديث عائشة، فيأتيه المَلَكُ في مثل الصلصلة وينفث في روعه، أو يتمثل له رجلًا وينفث في روعه، وربما كانت حالة النفث فيما سوى القرآن الكريم.

شبه الجاحدين على الوحي

شُبَهُ الجاحدين على الوحي: وقد حرص الجاهليون قديمًا وحديثًا على إثارة الشُّبَهِ في الوحي عتوًّا واستكبارًا، وهي شُبَهٌ واهية مردودة. 1- زعموا أن القرآن الكريم من عند محمد صلى الله عليه وسلم ابتكر معانيه، وصاغ أسلوبه، وليس وحيًا يُوحَى. وهذا زعم باطل، فإنه عليه الصلاة والسلام إذا كان يدَّعي لنفسه الزعامة ويتحدى الناس بالمعجزات لتأييد زعامته فلا مصلحة له في أن ينسب ما يتحدى به الناس إلى غيره، وكان في استطاعته أن ينسب القرآن لنفسه، ويكون ذلك كافيًا لرفعة شأنه، والتسليم بزعامته، ما دام العرب جميعًا على فصاحتهم قد عجزوا عن معارضته، بل ربما كان هذا أدعى للتسليم المطلق بزعامته لأنه واحد منهم أتى بمالم يستطيعوه. ولا يقال إنه أراد بنسبة القرآن إلى الوحي الإلهي أن يجعل لكلامه حرمة تفوق كلامه حتى يستعين بهذا على استجابة الناس لطاعته وإنفاذ أوامره، فإنه صدر عنه كلام نسبه لنفسه فيما يسمى بالحديث النبوي ولم ينقص ذلك من لزوم طاعته شيئًا، ولو كان الأمر كما يتوهمون لجعل كل أقواله من كلام الله تعالى. وهذا الادعاء يفترض في رسول الله أنه كان من أولئك الزعماء الذين يعبرون الطريق في الوصول إلى غايتهم على قنطرة من الكذب والتمويه، وهو افتراض يأباه الواقع التاريخي في سيرته عليه الصلاة والسلام، وما اشتهر به من صدق وأمانة شهد له بهما أعداؤه قبل أصدقائه.

لقد اتهم المنافقون زوجه عائشة بحديث الإفك، وهي أحب زوجاته إليه، واتهامها يمس كرامته وشرفه، وأبطأ الوحي، وتحرَّج الرسول -صلى الله عليه وسلم- وتحرَّج صحابته معه حتى بلغت القلوب الحناجر، وبذل جهده في التحري والاستشارة، ومضى شهر بأكمله، ولم يزد على أنه قال لها آخر الأمر: "أما إنه بلغني كذا وكذا، فإن كنتِ بريئة فيسيبرِّئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله" 1, وظل هكذا إلى أن نزل الوحي ببراءتها، فماذا كان يمنعه لو أن القرآن كلامه من أن يقول كلامًا يقطع به ألسنة المتخرصين، ويحمي عرضه؟ ولكنه ما كان ليذر الكذب على الناس، ويكذب على الله: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ, لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ, ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ, فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} 2. واستأذن جماعة في التخلف عن غزوة تبوك وأبدوا أعذارًا، وكان منهم مَن انتحل هذه الأعذار من المنافقين وأذن لهم، فنزل القرآن الكريم معاتبًا له لخطأ رأيه: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} 3. ولو كان هذا العتاب صادرًا عن وجدانه تعبيرًا عن ندمه حين تبين له فساد رأيه لما أعلنه عن نفسه بهذا التعنيف الشديد والعتاب القاسي. ونظير هذا معاتبته -صلى الله عليه وسلم- في قبول الفداء من أسرى بدر: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ, لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} 4. ومعاتبته في توليه عن عبد الله بن أم مكتوم الأعمى -رضي الله عنه- اهتمامًا بنفر من أكابر قريش في دعوتهم إلى الإسلام: {عَبَسَ وَتَوَلَّى, أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى, وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى, أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ

_ 1 راجع حديث الإفك في الصحيحين وفي غيرهما، وتفسير القصة في سورة النور. 2 الحاقة: 44-47. 3 التوبة: 43. 4 الأنفال: 67، 68.

الذِّكْرَى, أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى, فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى, وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى, وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى, وَهُوَ يَخْشَى, فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى, كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ} 1.. والمعهود في سيرته -صلى الله عليه وسلم- أنه كان منذ نعومة أظفاره مثلًا فريدًا في حسن الخُلُق، وكريم السجايا، وصدق اللَّهجة، وإخلاص القول والعمل، وقد شهد له بهذا قومه عندما دعاهم في مطلع الدعوة وقال لهم: "أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلًا بظهر هذا الوادي تريد أن تُغير عليكم أكنتم مُصَدِّقِيَّ؟ " قالوا: نعم، ما جرَّبنا عليك كذبًا"2. وكانت سيرته العطرة مهوى أفئدة الناس إليه للدخول في الإسلام، عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال: "لما قَدِمَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة، انجفل الناس إليه، وقيل: قَدِمَ رسول الله، قَدِمَ رسول الله، فجئتُ في الناس لأنظر إليه فلما استثبت وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عرفت أن وجهه ليس بوجه كذَّاب"3. وصاحب هذه الصفات العظيمة التي يُتَوِّجها الصدق ما ينبغي لأحد أن يمتري في قوله حينما أعلن نفسه بأنه ليس واضع ذلك الكتاب: {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} 4. 2- وزعم الجاهليون قديمًا وحديثًا أنه عليه الصلاة والسلام كان له من حدة الذكاء، ونفاذ البصيرة، وقوة الفراسة، وشدة الفطنة، وصفاء النفس، وصدق التأمل، ما يجعله يدرك مقاييس الخير والشر، والحق والباطل، بالإلهام، ويتعرف على خفايا الأمور بالكشف والوحي النفسي، ولا يخرج القرآن عن أن يكون أثرًا للاستنباط العقلي، والإدراك الوجداني عبر عنه محمد بأسلوبه وبيانه. وأي شيء في القرآن يعتمد على الذكاء والاستنباط والشعور؟ فالجانب الإخباري -وهو قسم كبير من القرآن- لا يماري عاقل في أنه لا يعتمد إلا على التلقي والتعلم.

_ 1 عبس: 1-11. 2 رواه البخاري ومسلم. 3 رواه الترمذي بسند صحيح. 4 يونس: 15.

لقد ذكر القرآن أنباء من سبق من الأمم والجماعات والأنبياء والأحداث التاريخية بوقائعها الصحيحة الدقيقة كما يذكر شاهد العيان مع طول الزمن الذي يضرب في أغوار التاريخ إلى نشأة الكون الأولى بما لا يدع مجالًا لإعمال الفكر ودقة الفراسة، ولم يعاصر محمد -صلى الله عليه وسلم- تلك الأمم وهذه الأحداث في قرونها المختلفة حتى يشهد وقائعها وينقل أنباءها، كما لم يتوارث كتبها ليدرس دقائقها ويروي أخبارها: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ, وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} 1.. {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا} 2.. {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} 3.. {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} 4.. ومنها أنباء دقيقة تتناول الأرقام الحسابية التي لا يعلمها إلا الدارس البصير، ففي قصة نوح: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ} 5. وهذا موافق لما جاء في سفر التكوين من التوراة. وفي قصة أصحاب الكهف: {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا} 6.. وهي عند أهل الكتاب ثلاثمائة سنة شمسية، والسنون التسع هي فرق ما بين عدد السنين الشمسية والقمرية. فمن أين أتى محمد -صلى الله عليه وسلم- بهذه الدقائق الصحيحة لو لم يكن يُوحى إليه وهو الرجل الأمي الذي عاش في أمة أمية لا تكتب ولا تحسب؟ وقد كان أهل الجاهلية الأولى أذكى من ملاحدة الجاهلية المعاصرة، فإن

_ 1 القصص: 44، 45. 2 هود: 49. 3 يوسف: 3. 4 آل عمران: 44. 5 العنكبوت: 14. 6 الكهف: 25.

أولئك لم يقولوا إن محمدًا استقى هذه الأخبار من وحي نفسه كما يقول هؤلاء، بل قالوا إنه درسها وأُمليت عليه {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} 1. ولم يتلق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- درسًا على معلم قط -كما سيأتي- فمن أين جاءته هذه الأنباء فجأة بعد أن بلغ الأربعين؟ {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} 2.. هذا في الجانب الإخباري. أما في سائر العلوم التي تضمنها القرآن فإن قسم العقائد يتناول كذلك أمورًا تفصيلية عن بدء الخلق ونهايته، والحياة الآخرة وما فيها من الجنة ونعيمها، والنار وعذابها، وما يتبع ذلك من الملائكة وأوصافهم ووظائفهم - وهذه معلومات لا مجال فيها لذكاء العقل وقوة الفراسة البتة: {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} 3.. {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} 4.. ناهيك بما تضمنه القرآن من أحكام قاطعة عن أخبار المستقبل التي تجري على سُنن الله الاجتماعية، في القوة والضعف، والصعود والهبوط، والعزة والذلة، والبناء والدمار: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شيئًا} 5، {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ, الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} 6

_ 1 الفرقان: 5. 2 النجم: 4. 3 المدثر: 31. 4 يونس: 37. 5 النور: 55. 6 الحج: 40، 41.

{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} 1.. أضف إلى هذا أن القرآن الكريم قد حكى عن رسول الله اتباعه للوحي: {وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي} 2. وأنه بشر لا يعلم الغيب ولا يملك من أمر نفسه شيئًا {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} 3. {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} 4. وقد كان عليه الصلاة والسلام عاجزًا عن إدراك حقيقة ما وقع بين خصمين شاهدين أمامه ليقضي بينهما وهو يسمع أقوالهما فهو بلا شك أشد عجزًا عن إدراك ما فات وما هو آت: سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خصومة بباب حجرته فخرج إليهم فقال: "إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي، فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأحسب أنه صدق، فأقضي له بذلك، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار، فليأخذها أو ليتركها" 5. قال الدكتور محمد عبد الله دراز: "هذا الرأي هو الذي يروجه الملحدون اليوم باسم "الوحي النفسي" زاعمين أنهم بهذه التسمية قد جاءونا برأي علمي جديد، وما هو بجديد، وإنما هو الرأي الجاهلي القديم، لا يختلف عنه في جملته ولا في تفصيله، فقد صوَّروا النبي -صلى الله عليه وسلم- رجلًا ذا خيال واسع وإحساس عميق فهو إذن شاعر، ثم زادوا فجعلوا وجدانه يطغى كثيرًا على حواسه حتى يُخيل إليه أنه يرى ويسمع شخصًا يكلمه، وما ذاك الذي يراه ويسمعه إلا صورة أخيلته ووجداناته فهو إذن الجنون أو أضغاث الأحلام، على أنهم لم

_ 1 الأنفال: 53. 2 الأعراف: 203. 3 الكهف: 110. 4 الأعراف: 188. 5 رواه البخاري ومسلم وأصحاب السُّنَن.

يطيقوا الثبات طويلًا على هذه التعليلات، فقد اضطروا أن يهجروا كلمة "الوحي النفسي" حينما بدا لهم في القرآن جانب الأخبار الماضية والمستقبلة، فقالوا: لعله تلقفها من أفواه العلماء في أسفاره للتجارة، فهو إذن قد علمه بشر, فأي جديد ترى في هذا كله؟ أليس كله حديثًا معادًا يضاهون به قول جهال قريش؟ وهكذا كان الإلحاد في ثوبه الجديد صورة منتسخة، بل ممسوخة منه في أقدم أثوابه، وكان غذاء هذه الأفكار المتحضرة في العصر الحديث مستمدًا من فتات الموائد التي تركتها تلك القلوب المتحجرة في عصور الجاهلية الأولى: {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} 1.. وإن تعجب فعجب قولهم مع هذا كله إنه كان صادقًا أميناً، وإنه كان معذورًا في نسبة رؤاه إلى الوحي الإلهي، لأن أحلامه القوية صورتها له وحيًا إلهيًّا، فما شهد إلا بما علم، وهكذا حكى الله لنا عن أسلافهم حيث يقول: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} 2.. فإن كان هذا عذره في تصوير رؤاه وسماعه فما عذره في دعواه أنه لم يكن يعلم تلك الأنباء لا هو ولا قومه من قبل هذا، بينما هو قد سمعها -بزعمهم من قبل- فليقولوا إذن إنه افتراه ليتم لهم بذلك محاكاة كل الأقاويل، ولكنهم لا يريدون أن يقولوا هذه الكلمة لأنهم يدعون الإنصاف والتعقل، ألا فقد قالوها من حيث لا يشعرون"3. 3- وزعم الجاهليون قديمًا وحديثًا أن محمدًا قد تلقى العلوم القرآنية على يد معلم. وهذا حق، إلا أن المعلم الذي تلقى عنه القرآن هو مَلَك الوحي، أما أن يكون له معلم آخر من قومه، أو من غير قومه فلا. إنه عليه الصلاة والسلام قد نشأ أميًّا وعاش أميًّا، في أمة أمية لم

_ 1 البقرة: 118. 2 الأنعام: 33. 3 راجع: النبأ العظيم.

يُعرف فيها أحد يحمل وسام العلم والتعليم، وهذا واقع يشهد به التاريخ، ولا مرية فيه. أما أن يكون له معلم من غير قومه فإن الباحث لا يستطيع أن يقع في التاريخ على كلمة واحدة تشهد بأنه لقي أحدًا من العلماء حدثه عن الدين قبل إعلان نبوته. حقيقة إنه رأى في طفولته بحيرى الراهب في سوق بصرى بالشام، ولقي في مكة ورقة بن نوفل إثر مجيء الوحي، ولقي بعد الهجرة علماء من اليهود والنصارى، لكن المقطوع به أنه لم يتلق عن أحد من هؤلاء شيئًا من الأحاديث قبل نبوته، أما بعد النبوة، فقد كانوا يسألونه مجادلين فيستفيدون منه ويأخذون عنه، ولو كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أخذ شيئًا عن واحد منهم لما سكت التاريخ عنه، لأنه ليس من الهنات الهينات التي يتغاضى عنها الناس، لا سيما الذين يقفون للإسلام بالمرصاد، والكلمات التي ذكرها التاريخ عن راهب الشام أو ورقة بن نوفل كانت بشارة بنبوته عليه الصلاة والسلام1 أو اعترافًا بها2. ونقول لهؤلاء الذين يزعمون أن محمدًا كان يعلمه بشر: ما اسم هذا المعلم؟ وعندئذ نرى الجواب المتهافت المتداعي في "حدَّاد رومي"3 ينسبون إليه ذلك، فكيف يستساغ عقلًا أن تكون العلوم القرآنية صادرة من رجل لم تعرفه

_ 1 قال بحيرى عندما رأى في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سيما النبوة: "إن هذا الغلام سيكون له شأن عظيم". 2 قال ورقة عندما سمع قصة النبي -صلى الله عليه وسلم- من صفة الوحي وقد أخذته خديجة إليه يرجف فؤاده: "هذا هو الناموس الذي أنزله الله على موسى، ليتني أكون حيًّا إذ يخرجك قومك، قال: "أومخرجي هم؟ " قال: نعم، لم يأت أحد قط بمثل ما جئت به إلا أوذي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرًا مؤزرًا". 3 كان غلامًا نصرانيًّا، واختلف أهل السيرة في اسمه فقيل: اسمه "سبيعة"، وقيل: "يعيش" وقيل: "بلعام".

مكة عالماً متفرغًا لدراسة الكتب، بل عرفته حدَّادًا منهمكًا في مطرقته وسندانه، عامي الفؤاد، أعجمي اللسان لا تعدو قراءته أن تكون رطانة بالنسبة إلى العرب: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} 1. ولقد كان العرب أحرص الناس على دفع هذا القرآن إمعانًا في خصومة محمد -صلى الله عليه وسلم- ولكنهم عجزوا ووجدوا السبل أمامهم مغلقة, وباءت كل محاولاتهم بالفشل, فما للملحدين اليوم -وقد مضى أربعة عشر قرنًا على ذلك- يبحثون في قمامات التاريخ ملتمسين سبيلًا من تلك السبل الفاشلة نفسها؟! وبهذا يتبين أن القرآن الكريم لا يوجد له مصدر إنساني، لا في نفس صاحبه، ولا عند أحد من البشر، فهو تنزيل الحكيم الحميد. ونشأة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بيئة أمية جاهلية، وسيرته بين قومه، من أقوى الدلائل على أن الله قد أعده لحمل رسالته، وأوحى إليه بهذا القرآن هداية لأمته: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ, صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ} 2. يقول الأستاذ محمد عبده في رسالة التوحيد: "من السنن المعروفة أن يتيمًا فقيرًا أميًّا مثله تنطبع نفسه بما تراه من أول نشأته إلى زمن كهولته، ويتأثر عقله بما يسمعه ممن يخالطه، لا سيما إن كان من ذوي قرابته، وأهل عُصبته، ولا كتاب يرشده، ولا أستاذ ينبهه، ولا عضد إذا عزم يؤيده، فلو جرى الأمر فيه على جاري السنن لنشأ على عقائدهم، وأخذ بمذاهبهم، إلى أن يبلغ مبلغ الرجال، ويكون للفكر والنظر مجال، فيرجع إلى مخالفتهم، إذا قام له الدليل على خلاف ضلالاتهم، كما فعل القليل ممن كانوا على عهده"3.

_ 1 النحل: 103. 2 الشورى: 52، 53. 3 كأمية بن أبي الصلت، وزيد بن عمرو بن نفيل.

ولكن الأمر لم يجر على سننه، بل بُغِّضَت إليه الوثنية من مبدأ عمره، فعاجلته طهارة العقيدة، كما بادره حسن الخليقة، وما جاء في الكتاب من قوله: {وَوَجَدَكَ ضَالًا فَهَدَى} 1. لا يُفهم منه أنه كان على وثنية قبل الاهتداء إلى التوحيد، أو على غير السبيل القويم، قبل الخُلُق العظيم، حاشى لله، إن ذلك لهو الإفك المبين، وإنما هي الحيرة تلم بقلوب أهل الإخلاص، فيما يرجون للناس من الخلاص، وطلب السبيل إلى ما هدوا إليه من إنقاذ الهالكين، وإرشاد الضالين، وقد هدى الله نبيه إلى ما كانت تتلمسه بصيرته باصطفائه لرسالته، واختياره من بين خلقه لتقرير شريعته".

_ 1 الضحى: 7.

متاهات المتكلمين

متاهات المتكلمين: وقد خاض المتكلمون في بيان كلام الله على نهج الفلاسفة فأوقعوا الناس في متاهات أضلتهم عن سواء السبيل، حيث قسموا كلام الله تعالى إلى قسمين: نفسي قديم قائم بذاته تعالى ليس بحرف ولا صوت ولا ترتيب ولا لغة، وكلام لفظي هو المنزل على الأنبياء عليهم السلام، ومنه الكتب الأربعة، وأغرق علماء الكلام في خلافاتهم الكلامية المبتدعة: أيكون القرآن بهذا المعنى الثاني مخلوقًا أم لا؟ ورجحوا أن يكون مخلوقًا، وخرجوا بذلك عن منهج السلف الصالح فيما لم يرد به كتاب ولا سنة، وتناولوا صفات الله بالتحليل الفلسفي الذي يؤدي إلى التشكيك في عقيدة التوحيد. ومذهب أهل السٌّنَّة والجماعة إثبات ما أثبته الله تعالى لنفسه من الأسماء والصفات أو أثبته رسوله -صلى الله عليه وسلم- فيما صح عنه، وحسبك أن تؤمن بأن الكلام صفة من صفاته تعالى، قال سبحانه: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} 1. وأن القرآن الكريم؛ وهو الوحي المنزل على محمد -صلى الله عليه وسلم- كلام الله؛ غير مخلوق.

_ 1 النساء: 164.

قال تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} 1، وإثبات هذا ونحوه مما وصف الله تعالى به نفسه أو وصفه به رسوله وإن كان يوصف به العباد فإنه لا ينافي كمال تنزيهه تعالى عما لا يليق به من نقائص عباده، ولا يقتضي مماثلته لهم. إذ إن الاشتراك في الأسماء لا يقتضي الاشتراك في المسميات، فشتان بين الخالق والمخلوق في الذات والصفات والأفعال، فذاته تعالى أكمل، وصفاته أسمى، وأفعاله أتم وأعلى، وإذا كان الكلام صفة كمال للمخلوق فكيف ينتفي هذا عن الخالق؟ ويسعنا ما وسع أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعلماء التابعين وأئمة الحديث والفقه في العصور المشهود لها بالخير قبل ظهور بدعة المتكلمين من الإيمان بما جاء عن الله أو صح عن رسوله في صفاته تعالى وأفعاله إثباتًا ونفيًا من غير تعطيل ولا تشبيه، ولا تمثيل ولا تأويل، وليس لنا أن نحكِّم رأينا في كنه ذات الله أو كيفية صفاته: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 2.

_ 1 التوبة: 6. 2 الشورى: 11.

المكي والمدني

المكي والمدني مدخل ... 4- المكي والمدني: تُولى الأمم اهتمامها البالغ بالمحافظة على تراثها الفكري ومقومات حضارتها، والأمة الإسلامية أحرزت قصب السبق في عنايتها بتراث الرسالة المحمدية التي شرفت به الإنسانية جمعاء، لأنها ليست رسالة علم أو إصلاح يحدد الاهتمام بها مدى قبول العقل لها واستجابة الناس إليها، وإنما هي -فوق زادها الفكري وأسسها الإصلاحية- دين يخامر الألباب ويمتزج بحبات القلوب، فنجد أعلام الهدى من الصحابة والتابعين ومن بعدهم يضبطون منازل القرآن آية آية ضبطًا يحدد الزمان والمكان, وهذا الضبط عماد قوي في تاريخ التشريع يستند إليه الباحث في معرفة أسلوب الدعوة، وألوان الخطاب، والتدرج في الأحكام والتكاليف، ومما رُوِي في ذلك ما قاله ابن مسعود رضي الله عنه: "والله الذي لا إله غيره ما نزلت سورة من كتاب الله إلا وأنا أعلم أين نزلت؟ ولا نزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيم نزلت؟ ولو أعلم أن أحدًا أعلم مني بكتاب الله تبلغه الإبل لركبتُ إليه"1. والدعوة إلى الله تحتاج إلى نهج خاص في أسلوبها إزاء كل فساد في العقيدة، والتشريع والخلق والسلوك، ولا تفرض تكاليفها إلا بعد تكوين النواة الصالحة لها وتربية اللبنات التي تأخذ على عاتقها القيام بها، ولا تسن أسسها التشريعية ونظمها الاجتماعية إلا بعد طهارة القلب وتحديد الغاية حتى تكون الحياة على هدًى من الله وبصيرة. والذي يقرأ القرآن الكريم يجد للآيات المكية خصائص ليست للآيات المدنية في وقعها ومعانيها، وإن كانت الثانية مبنية على الأولى في الأحكام والتشريع.

_ 1 أخرجه البخاري.

فحيث كان القوم في جاهلية تعمى وتصم، يعبدون الأوثان، ويشركون بالله، وينكرون الوحي، ويكذبون بيوم الدين، وكانوا يقولون: {أإِذَا مِتنا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا إَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} 1. {مَا هِيَ إلًَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهلِكُنَا إلَّا الدَّهْرُ} 2. وهم ألداء في الخصومة، أهل مماراة ولجاجة في القول عن فصاحة وبيان؛ حيث كان القوم كذلك نزل الوحي المكي قوارع زاجرة، وشهبًا منذرة، وحججًا قاطعة، يحطم وثنيتهم في العقيدة، ويدعوهم إلى توحيد الألوهية والربوبية، ويهتك أستار فسادهم، ويسَفِّه أحلامهم، ويقيم دلائل النبوة، ويضرب الأمثلة للحياة الآخرة وما فيها من جنة ونار، ويتحداهم -على فصاحتهم- بأن يأتوا بمثل القرآن، ويسوق إليهم قصص المكذبين الغابرين عبرة وذكرى، فتجد في مكي القرآن ألفاظًا شديدة القرع على المسامع، تقذف حروفها شرر الوعيد والسٌّنَّة العذاب، فـ "كلا" الرادعة الزاجرة، والصاخة والقارعة، والغاشية والواقعة، وألفاظ الهجاء في فواتح السور، وآيات التحدي في ثناياها، ومصير الأمم السابقة، وإقامة الأدلة الكونية، والبراهين العقلية - كل هذا نجده في خصائص القرآن المكي. وحين تكونت الجماعة المؤمنة بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره، وامتُحنت في عقيدتها بأذى المشركين فصبرت وهاجرت بدينها مؤثرة ما عند الله على متع الحياة -حين تكونت هذه الجماعة- نرى الآيات المدنية طويلة المقاطع، تتناول أحكام الإسلام وحدوده، وتدعو إلى الجهاد والاستشهاد في سبيل الله، وتفصل أصول التشريع، وتضع قواعد المجتمع، وتحدد روابط الأسرة، وصلات الأفراد، وعلاقات الدول والأمم، كما تفضح المنافقين وتكشف دخيلتهم، وتجادل أهل الكتاب وتلجم أفواههم -وهذا هو الطابع العام للقرآن المدني.

_ 1 الصافات: 16. 2 الجاثية: 24.

عناية العلماء بالمكي والمدني وأمثلة ذلك وفوائده

عناية العلماء بالمكي والمدني وأمثلة ذلك وفوائده مدخل ... عناية العلماء بالمكي والمدني وأمثلة ذلك وفوائده: وقد عَنِيَ العلماء بتحقيق المكي والمدني عناية فائقة، فتتبعوا القرآن آية آية، وسورة سورة، لترتيبها وفق نزولها، مراعين في ذلك الزمان والمكان والخطاب، لا يكتفون بزمن النزول، ولا بمكانه، بل يجمعون بين الزمان والمكان والخطاب، وهو تحديد دقيق يعطي للباحث المنصف صورة للتحقيق العلمي في علم المكي والمدني، وهو شأن علمائنا في تناولهم لمباحث القرآن الأخرى. إنه جهد كبير أن يتتبع الباحث منازل الوحي في جميع مراحله، ويتناول آيات القرآن الكريم فيعيِّن وقت نزولها، ويحدد مكانه، ويضم إلى ذلك الضوابط القياسية لأسلوب الخطاب فيها، أهو من قبيل المكي أم من قبيل المدني؟ مستعينًا بموضوع السورة أو الآية، أهو من الموضوعات التي ارتكزت عليها الدعوة الإسلامية في مكة أم من الموضوعات التي ارتكزت عليها الدعوة في المدينة؟ وإذا اشتبه الأمر على الباحث لتوافر الدلائل المختلفة رجَّح بينها فجعل بعضها شبيهًا بما نزل في مكة، وبعضها شبيهًا بما نزل في المدينة. وإذا كانت الآيات نزلت في مكان ثم حملها أحد من الصحابة فور نزولها لإبلاغها في مكان آخر ضبط العلماء هذا كذلك، فقالوا: ما حُمل من مكة إلى المدينة، وما حُمل من المدينة إلى مكة. قال أبو القاسم الحسن بن محمد بن حبيب النيسابوري في كتاب "التنبيه على فضل علوم القرآن": "من أشراف علوم القرآن علم نزوله وجهاته، وترتيب ما نزل بمكة والمدينة، وما نزل بمكة وحكمه مدني، وما نزل بالمدينة وحكمه مكي، وما نزل بمكة في أهل المدينة، وما نزل بالمدينة في أهل مكة، وما يشبه نزول المكي في المدني، وما يشبه نزول المدني في المكي، وما نزل بالجُحفة، وما نزل ببيت المقدس، وما نزل بالطائف، وما نزل بالحديبية، وما نزل ليلًا، وما نزل نهارًا،

وما نزل مشيعًا1، وما نزل مفردًا، والآيات المدنيات من السور المكية, والآيات المكيات في السور المدنية، وما حُمل من مكة إلى المدينة، وما حُمل من المدينة إلى مكة، وما حُمل من المدينة إلى أرض الحبشة، وما نزل مُجملًا، وما نزل مفسرًا، وما اختلفوا فيه، فقال بعضهم مدني وبعضهم مكي، فهذه خمسة وعشرون وجهًا من لم يعرفها ويميز بينها لم يحل له أن يتكلم في كتاب الله تعالى"2. وحرص العلماء على الدقة، فرتبوا السور حسب منازلها سورة بعد سورة، وقالوا سورة كذا نزلت بعد سورة كذا، وازدادوا حرصًا في الاستقصاء. ففرقوا بين ما نزل ليلًا وما نزل نهارًا، وما نزل صيفًا وما نزل شتاء، وما نزل في الحضر وما نزل في السفر. وأهم الأنواع التي يتدارسها العلماء في هذا المبحث: 1- ما نزل بمكة. 2- ما نزل بالمدينة. 3- ما اختُلِفَ به. 4- الآيات المكية في السور المدنية. 5- الآيات المدنية في السور المكية. 6- ما نزل بمكة وحكمه مدني. 7- ما نزل بالمدينة وحكمه مكي. 8- ما يشبه نزول المكي في المدني. 9- ما يشبه نزول المدني في المكي.

_ 1 كالذي رُوِي في بعض السور والآيات مثل سورة الأنعام، وسورة الفاتحة، وآية الكرسي. 2 انظر "الإتقان في علوم القرآن" للسيوطي جـ1، ص8، الطبعة الثالثة للحلبي.

10- ما حُمل من مكة إلى المدينة. 11- ما حُمل من المدينة إلى مكة. 12- ما نزل ليلًا وما نزل نهارًا. 13- ما نزل صيفًا وما نزل شتاءً. 14- ما نزل في الحَضَر وما نزل في السَّفَر. فهذه أنواع أساسية، يرتكز محورها على المكي والمدني، ولذا سُمِّي هذا بـ "علم المكي والمدني".

أمثلة

أمثلة: 1- أقرب ما قيل في تعداد السور المكية والمدنية إلى الصحة، أن المدني عشرون سورة: 1- البقرة. 2- آل عمران. 3- النساء. 4- المائدة. 5- الأنفال. 6- التوبة. 7- النور. 8- الأحزاب. 9- محمد. 10- الفتح. 11- الحجرات. 12- الحديد. 13- المجادلة. 14- الحشر. 15- الممتحنة. 16- الجمعة. 17- المنافقون. 18- الطلاق. 19- التحريم. 20- النصر. 2- وأن المختلف فيه اثنتا عشرة سورة: 1- الفاتحة. 2- الرعد. 3- الرحمن. 4- الصف. 5- التغابن. 6- التطفيف. 7- القدر. 8- البينة. 9- الزلزلة. 10- الإخلاص. 11- الفلق. 12- الناس.

3- وأن ما سوى ذلك مكي، وهو اثنتان وثمانون سورة، فيكون مجموع سور القرآن مائة وأربع عشرة سورة. 4- الآيات المكية في السور المدنية: لا يُقصد بوصف السورة بأنها مكية أو مدنية أنها بأجمعها كذلك، فقد يكون في المكية بعض آيات مدنية، وفي المدنية بعض آيات مكية، ولكنه وصف أغلبي حسب أكثر آياتها، ولذا يأتي في التسمية: سورة كذا مكية إلا آية كذا فإنها مدنية، وسورة كذا مدنية إلا آية كذا فإنها مكية - كما نجد ذلك في المصاحف. ومن أمثلة الآيات المكية في السور المدنية "سورة الأنفال" مدنية، واستثنى منها كثير من العلماء قوله تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} 1, قال مقاتل في هذه الآية: نزلت بمكة، وظاهرها كذلك، لأنها تضمنت ما كان من المشركين في دار الندوة عند تآمرهم على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبل الهجرة، واستثنى بعضهم كذلك: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} 2, لما أخرجه البزَّار عن ابن عباس أنها نزلت لما أسلم عمر ابن الخطاب, رضي الله عنه. 5- الآيات المدنية في السور المكية: ومن أمثلة الآيات المدنية في السور المكية "سورة الأنعام" قال ابن عباس: نزلت بمكة جملة واحدة. فهي مكية إلا ثلاث آيات منها نزلت بالمدينة: {قُُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شيئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ، وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا

_ 1 الأنفال: 30. 2 الأنفال: 64.

وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ, وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} 1. و"سورة الحج" مكية سوى ثلاث آيات نزلت بالمدينة، من أول قوله تعالى: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} 2. 6- ما نزل بمكة وحكمه مدني: ويمثلون له بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} 3. فإنها نزلت بمكة يوم الفتح، وهي مدنية لأنها نزلت بعد الهجرة, والخطاب فيها عام، ومثل هذا لا يسميه العلماء مكيًّا، كما لا يسمونه مدنيًّا على وجه التعيين، بل يقولون فيه: ما نزل بمكة وحكمه مدني. 7- ما نزل بالمدينة وحكمه مكي، ويمثلون له بسورة الممتحنة، فإنها نزلت بالمدينة، فهي مدنية باعتبار المكان، ولكن الخطاب في ثناياها توجه إلى مشركي أهل مكة.. ومثل هذا صدر سورة "براءة" نزل بالمدينة، والخطاب فيه لمشركي أهل مكة. 8- ما يشبه نزول المكي في المدني: ويعني العلماء به ما كان في السور المدنية من آيات جاء أسلوبها في خصائصه وطابعه العام على نمط السور المكية، ومن أمثلته قوله تعالى في سورة الأنفال - وهي مدنية: {َإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} 4, فإن استعجال المشركين للعذاب كان بمكة. 9- ما يُشبه نزول المدني في المكي: ويعني العلماء به ما يقابل النوع السابق، ويمثلون له بقوله تعالى في سورة النجم: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْأِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} 5.. قال السيوطي: فإن الفواحش كل ذنب

_ 1 الأنعام: 152، 153. 2 الحج: 19. 3 الحجرات: 13. 4 الأنفال: 32. 5 النجم: 32.

فيه حد، والكبائر كل ذنب عاقبته النار، واللَّمم ما بين الحدين من الذنوب، ولم يكن بمكة حد ولا نحوه1. 10- ما حُمل من مكة إلى المدينة: ومن أمثلته سورة {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} 2, أخرج البخاري عن البرَّاء بن عازب قال: "أول من قدم علينا من أصحاب النبي, صلى الله عليه وسلم: مصعب بن عمير، وابن أم مكتوم، فجعلا يقرئاننا القرآن. ثم جاء عمار وبلال وسعد، ثم جاء عمر بن الخطاب في عشرين. ثم جاء النبي -صلى الله عليه وسلم- فما رأيت أهل المدينة فرحوا بشيء فرحهم به، فما جاء حتى قرأتُ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} في سورة مثلها" وهذا المعنى يصدق على كل ما حمله المهاجرون من القرآن وعلموه الأنصار. 11- ما حُمل من المدينة إلى مكة: ومن أمثلته أول سورة "براءة"، حيث أمَّر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبا بكر على الحج في العام التاسع. فلما نزل صدر سورة "براءة" حمَّله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عليَّ بن أبي طالب ليلحق بأبي بكر حتى يبلِّغ المشركين به. فأذَّن فيهم بالآيات وأبلغهم ألا يحج بعد العام مشرك. 12- ما نزل ليلًا وما نزل نهارًا: أكثر القرآن نزل نهارًا، أما ما نزل بالليل فقد تتبعه القاسم الحسن بن محمد بن حبيب النيسابوري واستخرج له أمثلة منها: أواخر آل عمران: أخرج ابن حبان في صحيحه، وابن المنذر، وابن مردويه وابن أبي الدنيا عن عائشة رضي الله عنها: أن بلالًا أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- يؤذنه لصلاة الصبح فوجده يبكي، فقال: يا رسول الله.. ما يبكيك؟ قال: "وما يمنعني أن أبكي وقد أُنزل عليَّ هذه الليلة": {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي الأَلْبَابِ} 3.. ثم قال: " ويل لمن قرأها ولم يتفكر".

_ 1 الإتقان: جـ1 ص18. 2 الأعلى: 1. 3 آل عمران: 190.

ومنها: آية الثلاثة الذين خُلِّفوا، ففي الصحيحين من حديث كعب: "فأنزل الله توبتنا حين بقي الثلث الأخير من الليل"1. ومنها: أول سورة الفتح، ففي البخاري من حديث عمر: "لقد نزلت عليَّ الليلة سورة هي أحب إليَّ مما طلعت عليه الشمس"، فقرأ: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} 2.. 13- ما نزل صيفًا وما نزل شتاءً: ويمثل العلماء لما نزل صيفًا بآية الكلالة التي في آخر سورة النساء، ففي صحيح مسلم عن عمر: "ما راجعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في شيء ما راجعته في الكلالة، وما أغلظ في شيء ما أغلظ لي فيه، حتى طعن بأصبعه في صدري وقال: "يا عمر، ألا تكفيك آية الصيف التي في آخر في النساء"؟ 3. ومن أمثلته الآيات التي نزلت في غزوة تبوك، فإنها كانت في الصيف في شدة الحر كما في القرآن نفسه4. ويمثلون للشتائي بآيات حديث الإفك في سورة النور: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} 5 ... إلى قوله تعالى: {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} 6, ففي الصحيح عن عائشة: "أنها نزلت في يوم شات".

_ 1 {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ، وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [التوبة: 117، 118] وهم الذين قبل الله عذرهم في التخلف بغزوة تبوك. 2 الفتح: 1. 3 {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} [النساء: 176] والكلالة كما في صريح الآية: الميت الذي لا ولد له ولا مال يورث. 4 وقد حكى القرآن عن المنافقين قولهم: {وَقَالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ} ، فأمر الله رسوله أن يجيبهم: {قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} [التوبة: 81] . 5 النور: 11. 6 النور: 26.

ومن أمثلته الآيات التي في غزوة الخندق من سورة الأحزاب حيث كانت في شدة البرد: أخرج البيهقي في "دلائل النبوة" عن حذيفة قال: "تفرق الناس عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليلة الأحزاب إلا اثني عشر رجلًا، فأتاني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: " قم فانطلق إلى عسكر الأحزاب"، قلت: يا رسول الله، والذي بعثك بالحق ما قمت لك إلا حياء، من البرد، فأنزل الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} 1.. 14- ما نزل في الحضر وما نزل في السَّفَر: أكثر القرآن نزل في الحضر، ولكن حياة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كانت عامرة بالجهاد والغزو في سبيل الله حيث يتنزل عليه الوحي في مسيره، وقد ذكر السيوطي لما نزل في السفر كثيرًا من الأمثلة2.. منها أول سورة الأنفال، نزلت ببدر عقب الواقعة، كما أخرجه أحمد عن سعد ابن أبي وقاص - وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} 3.. أخرج أحمد عن ثوبان أنها نزلت في بعض أسفاره -صلى الله عليه وسلم- وأول سورة الحج، أخرج الترمذي والحاكم عن عمران بن حصين قال: "لما نزلت على النبي, صلى الله عليه وسلم: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ، إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} 4 ... إلى قوله تعالى: {وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} 5.. أنزلت عليه هذه وهو في سفر. وسورة الفتح، أخرج الحاكم وغيره عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم قالا: "نزلت سورة الفتح بين مكة والمدينة في شأن الحديبية من أولها إلى آخرها".

_ 1 الأحزاب: 9. 2 الإتقان جـ1 ص18 وما بعدها. 3 التوبة: 34. 4 الحج: 1. 5 الحج: 2.

فوائد العلم بالمكي والمدني

فوائد العلم بالمكي والمدني: وللعلم بالمكي والمدني فوائد أهمها: أ- الاستعانة به في تفسير القرآن: فإن معرفة مواقع النزول تساعد على فهم الآية وتفسيرها تفسيرًا صحيحًا، وإن كانت العبرة بعموم اللَّفظ لا بخصوص

السبب. ويستطيع المفسر في ضوء ذلك عند تعارض المعنى في آيتين أن يُميز بين الناسخ والمنسوخ، فإن المتأخر يكون ناسخًا للمتقدم. ب- تذوق أساليب القرآن والاستفادة منها في أسلوب الدعوة إلى الله، فإن لكل مقام مقالًا، ومراعاة مقتضى الحال من أخص معاني البلاغة، وخصائص أسلوب المكي في القرآن والمدني منه تعطي الدارس منهجًا لطرائق الخطاب في الدعوة إلى الله بما يلائم نفسية المخاطب، ويمتلك عليه لُبّه ومشاعره، ويعالج فيه دخيلته بالحكمة البالغة، ولكل مرحلة من مراحل الدعوة موضوعاتها وأساليب الخطاب فيها، كما يختلف الخطاب باختلاف أنماط الناس ومعتقداتهم وأحوال بيئاتهم، ويبدو هذا واضحًا جليًّا بأساليب القرآن المختلفة في مخاطبة المؤمنين والمشركين والمنافقين وأهل الكتاب. جـ- الوقوف على السيرة النبوية من خلال الآيات القرآنية.. فإن تتابع الوحي على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ساير تاريخ الدعوة بأحداثها في العهد المكي والعهد المدني منذ بدأ الوحي حتى آخر آية نزلت، والقرآن الكريم هو المرجع الأصيل لهذه السيرة الذي لا يدع مجالًا للشك فيما رُوِيَ عن أهل السير موافقًا له، ويقطع دابر الخلاف عند اختلاف الروايات.

معرفة المكي والمدني وبيان الفرق بينهما

معرفة المكي والمدني وبيان الفرق بينهما: اعتمد العلماء في معرفة المكي والمدني على منهجين أساسيين: المنهج السماعي النقلي، والمنهج القياسي الاجتهادي. والمنهج السماعي النقلي يستند إلى الرواية الصحيحة عن الصحابة الذين عاصروا الوحي، وشاهدوا نزوله، أو عن التابعين الذين تلقوا عن الصحابة وسمعوا منهم كيفية النزول ومواقعه وأحداثه، ومعظم ما ورد في المكي والمدني من هذا القبيل، وفي الأمثلة السابقة خير دليل على ذلك، وقد حفلت بها كتب

التفسير بالمأثور، ومؤلفات أسباب النزول، ومباحث علوم القرآن، ولم يرد عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شيء في ذلك، حيث إنه ليس من الواجبات التي تجب على الأمة إلا بالقدر الذي يُعرف به الناسخ والمنسوخ، قال القاضي أبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني في "الانتصار": "إنما يُرجع في معرفة المكي والمدني لحفظ الصحابة والتابعين, ولم يرد عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ذلك قول لأنه لم يؤمر به، ولم يجعل الله علم ذلك من فرائض الأمة، وإن وجب في بعضه على أهل العلم ومعرفة تاريخ الناسخ والمنسوخ فقد يُعرف ذلك بغير نص الرسول"1. والمنهج القياسي الاجتهادي يستند إلى خصائص المكي وخصائص المدني، فإذا ورد في السورة المكية آية تحمل طابع التنزيل المدني أو تتضمن شيئًا من حوادثه قالوا إنها مدنية، وإذا ورد في السورة المدنية آية تحمل طابع التنزيل المكي أو تتضمن شيئًا من حوادثه قالوا إنها مكية، وإذا وُجِدَ في السورة خصائص المكي قالوا إنها مكية، وإذا وُجِدَ فيها خصائص المدني قالوا إنها مدنية، وهذا قياس اجتهادي، ولذا قالوا مثلًا: كل سورة فيها قصص الأنبياء والأمم الخالية مكية، وكل سورة فيها فريضة أو حد مدنية، وهكذا، قال الجعبري: "لمعرفة المكي والمدني طريقان: سماعي وقياسي"2, ولا شك أن السماعي يعتمد على النقل، والقياسي يعتمد على العقل, والنقل والعقل هما طريقا المعرفة السليمة والتحقيق العلمي.

_ 1 انظر الإتقان جـ1 ص9. 2 انظر الإتقان جـ1 ص17.

الفرق بين المكي والمدني

الفرق بين المكي والمدني: للعلماء في الفرق بين المكي والمدني ثلاثة آراء اصطلاحية، كل رأي منها بُنِيَ على اعتبار خاص. الأول: اعتبار زمن النزول، فالمكي: ما نزل قبل الهجرة وإن كان بغير مكة، والمدني: ما نزل بعد الهجرة وإن كان بغير المدينة، فما نزل بعد الهجرة

ولو بمكة، أو عرفة: مدني، كالذي نزل عام الفتح، كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّواْ الأمَانَات إلَى أهْلِهَا} 1, فإنها نزلت بمكة في جوف الكعبة عام الفتح الأعظم، أو نزل بحجة الوداع كقوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإسْلامَ دِينًا} 2, وهذا الرأي أولى من الرأيين بعده لحصره واطراده. الثاني: اعتبار مكان النزول، فالمكي: ما نزل بمكة وما جاورها كمِنى وعرفات والحديبية. والمدني: ما نزل بالمدينة وما جاورها كأُحد وقُباء وسلع. ويترتب على هذا الرأي عدم ثنائية القسمة وحصرها، فما نزل بالأسفار أو بتبوك أو ببيت المقدس لا يدخل تحت القسمة3، فلا يسمى مكيًّا ولا مدنيًّا، كما يترتب عليه كذلك أن ما نزل بمكة بعد الهجرة يكون مكيًّا. الثالث: اعتبار المخاطَب، فالمكي: ما كان خطابًا لأهل مكة، والمدني: ما كان خطابًا لأهل المدينة. وينبني على هذا الرأي عند أصحابه أن ما في القرآن من قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} مكي، وما فيه من قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الذَّيِنَ آمَنُواُ} مدني. وبالملاحظة يتبين أن أكثر سور القرآن لم تُفْتَتَحْ بأحد الخطابين، وأن هذا الضابط لا يطرد، فسورة البقرة مدنية، وفيها: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} 4.. وقوله

_ 1 النساء: 58. 2 في الصحيح عن عمر أنها نزلت عشية عرفة يوم الجمعة عام حجة الوداع [والآية من سورة المائدة: 3] . 3 فسورة "الفتح" نزلت بالسفر، وقوله تعالى في سورة التوبة: 42: {لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ} نزل بتبوك، وقوله: {وَاسْألْ مَنْ أرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُّسُلِنَا} في سورة الزخرف: 45، نزل ببيت المقدس ليلة الإسراء. 4 البقرة: 21.

تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّبًا وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} 1، وسورة النساء مدنية وأولها: {يَا أيُّهَا النَّاسُ} وسورة الحج مكية، وفيها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} 2، والقرآن الكريم هو خطاب الله للخلق أجمعين، ويجوز أن يخاطب المؤمنون بصفتهم وباسمهم وجنسهم، كما يجوز أن يؤمر غير المؤمنين بالعبادة كما يؤمر المؤمنون بالاستمرار والازدياد منها.

_ 1 البقرة: 168. 2 الحج: 77.

مميزات المكي والمدني

مميزات المكي والمدني مدخل ... مميزات المكي والمدني: استقرأ العلماء السور المكية والسور المدنية، واستنبطوا ضوابط قياسية لكل من المكي والمدني، تبين خصائص الأسلوب والموضوعات التي يتناولها. وخرجوا من ذلك بقواعد ومميزات.

ضوابط المكي ومميزاته الموضوعية

ضوابط المكي ومميزاته الموضوعية: 1- كل سورة فيها سجدة فهي مكية. 2- كل سورة فيها لفظ "كلا" فهي مكية، ولم ترد إلا في النصف الأخير من القرآن. وذُكرت ثلاثًا وثلاثين مرة في خمس عشرة سورة. 3- كل سورة فيها: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} وليس فيها: {يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواُ} فهي مكية، إلا سورة الحج ففي أواخراها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} 1.. ومع هذا فإن كثيرًا من العلماء يرى أن هذه الآية مكية كذلك. 4- كل سورة فيها قصص الأنبياء والأمم الغابرة فهي مكية سوى البقرة. 5- كل سورة فيها آدم وإبليس فهي مكية سوى البقرة كذلك.

_ 1 الحج: 77.

6- كل سورة تفتح بحروف التهجي كـ "ألم" و"الر" و"حم" ونحو ذلك فهي مكية سوى الزهراوين: وهما البقرة وآل عمران، واختلفوا في سورة الرعد. هذا من ناحية الضوابط، أما من ناحية المميزات الموضوعية وخصائص الأسلوب فيمكن إجمالها فيما يأتي: 1- الدعوة إلى التوحيد وعبادة الله وحده، وإثبات الرسالة، وإثبات البعث والجزاء، وذكر القيامة وهولها، والنار وعذابها، والجنة ونعيمها، ومجادلة المشركين بالبراهين العقلية، والآيات الكونية. 2- وضع الأسس العامة للتشريع والفضائل الأخلاقية التي يقوم عليها كيان المجتمع، وفضح جرائم المشركين في سفك الدماء، وأكل أموال اليتامى ظلمًا، ووأد البنات، وما كانوا عليه من سوء العادات. 3- ذكر قصص الأنبياء والأمم السابقة زجرًا لهم حتى يعتبروا بمصير المكذبين قبلهم، وتسلية لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى يصبر على أذاهم ويطمئن إلى الانتصار عليهم. 4- قصر الفواصل مع قوة الألفاظ، وإيجاز العبارة، بما يصخ الآذان، ويشتد قرعه على المسامع، ويصعق القلوب، ويؤكد المعنى بكثرة القَسَم، كقصار المفصَّل إلا نادرًا.

ضوابط المدني ومميزاته الموضوعية

ضوابط المدني ومميزاته الموضوعية: 1- كل سورة فيها فريضة أو حد فهي مدنية. 2- كل سورة فيها ذكر المنافقين فهي مدنية سوى العنكبوت فإنها مكية. 3- كل سورة فيها مجادلة أهل الكتاب فهي مدنية.

هذا من ناحية الضوابط، أما من ناحية المميزات الموضوعية وخصائص الأسلوب فيمكن إجمالها فيما يأتي: 1- بيان العبادات، والمعاملات، والحدود، ونظام الأسرة، والمواريث، وفضيلة الجهاد، والصلات الاجتماعية، والعلاقات الدولية في السلم والحرب، وقواعد الحكم، ومسائل التشريع. 2- مخاطبة أهل الكتاب من اليهود والنصارى، ودعوتهم إلى الإسلام، وبيان تحريفهم لكتب الله، وتجنيهم على الحق، واختلافهم من بعد ما جاءهم العلم بغيًا بينهم. 3- الكشف عن سلوك المنافقين، وتحليل نفسيتهم، وإزاحة الستار عن خباياهم، وبيان خطرهم على الدين. 4- طول المقاطع والآيات في أسلوب يقرر الشريعة ويوضح أهدافها ومراميها.

معرفة أول ما نزل وآخر ما نزل

معرفة أول ما نزل وآخر ما نزل مدخل ... 5- معرفة أول ما نزل وآخر ما نزل: التعبير عن تلقي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للقرآن بنزوله عليه يُشعر بقوة يلمسها المرء في تصور كل هبوط من أعلى. ذلك لعلو منزلة القرآن وعظمة تعاليمه التي حولت مجرى حياة البشرية وأحدثت فيها تغيرًا ربط السماء بالأرض، ووصل الدنيا بالآخرة، ومعرفة تاريخ التشريع الإسلامي في مصدره الأول والأصيل -وهو القرآن- تعطي الدارس صورة عن التدرج في الأحكام ومناسبة كل حكم للحالة التي نزل فيها دون تعارض بين السابق واللاحق، وقد تناول هذا أول ما نزل من القرآن على الإطلاق وآخر ما نزل على الإطلاق، كما تناول أول ما نزل وآخر ما نزل في كل تشريع من تعاليم الإسلام، كالأطعمة، والأشربة، والقتال ... ونحو ذلك. وللعلماء في أول ما نزل من القرآن على الإطلاق، وآخر ما نزل كذلك أقوال، نجملها ونُرَجِّح بينها فيما يأتي:

أول ما نزل

أول ما نزل: 1- أصح الأقوال أن أول ما نزل هو قوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} 1, ويدل عليه ما رواه الشيخان وغيرهما عن عائشة رضي الله عنها قالت: "أول ما بُدِئَ به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم, فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حُبِّبَ إليه الخلاء فكان يأتي حِراء فيتحنث فيه الليالي ذوات العدد، ويتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة رضي الله عنها فتزوده لمثلها حتى فاجأه الحق وهو في غار حِراء،

_ 1 العلق: 1-5.

فجاءه المَلَك فيه فقال: اقرأ، قال رسول الله, صلى الله عليه وسلم: فقلت: "ما أنا بقارئ"، فأخذني فغطَّني حتى بلغ مني الجَهْد، ثم أرسلني فقال: اقرأ، فقلت: "ما أنا بقارئ"، فغطَّني الثانية حتى بلغ مني الجَهْد ثم أرسلني فقال: اقرأ، فقلت: "ما أنا بقارئ"، فغطَّني الثالثة حتى بلغ مني الجَهْد ثم أرسلني فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} . حتى بلغ: {مَا لَمْ يَعْلَمْ} ، فرجع بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ترجف بوادره". الحديث1. 2- وقيل إن أول ما نزل هو قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ} .. لما رواه الشيخان عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: سألت جابر بن عبد الله: أي القرآن أنزل قبل؟ قال: {يَا أيُّهَا المُدَّثِّرُ} ، قلت: أو {اقْرا بِاسْمِ رَبِّكَ} ؟ قال: أحدِّثكم ما حدثنا به رسول الله, صلى الله عليه وسلم: "إني جاورت بحِراء فلما قضيت جواري نزلت فاستبطنت الوادي، فنظرت أمامي وخلفي وعن يميني وشمالي. ثم نظرتُ إلى السماء فإذا هو -يعني جبريل- فأخذتني رجفة. فأتيتُ خديجة فأمرتهم فدثروني"، فأنزل الله: {يَا أيُّهُا المُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنُذِرْ} 2. وأجيب عن حديث جابر بأن السؤال كان عن نزول سورة كاملة، فبيِّن جابر أن سورة المدثر نزلت بكمالها قبل نزول تمام سورة اقرأ، فإن أول ما نزل منها صدرها، ويؤيد هذا ما في الصحيحين أيضًا عن أبي سلمة عن جابر قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يُحدِّث عن فترة الوحي فقال في حديثه: "بينا أنا أمشي سمعت صوتًا من السماء فرفعت رأسي فإذا المَلَك الذي جاءني بحِراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، فرجعت، فقلت: زملوني، فدثروني"، فأنزل الله: {يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ} . فهذا الحديث يدل على أن هذه القصة

_ 1 التحنث: التعبد، وأصله ترك الحِنث، أي الذنب. وغطَّني: أي ضمني ضمًّا شديدًا حتى كان لي غطيط، وهو صوت من حُبِسَت أنفاسه بما يشبه الخنق، والجَهْد: بفتح الجيم، يطلق على المشقة وعلى الوسع والطاقة، وبضمها يطلق على الوسع والطاقة لا غيره. 2 المدثر: 1، 2.

متأخرة عن قصة حِراء -أو تكون "المدثر" أول سورة نزلت بعد فترة الوحي- وقد استخرج جابر ذلك باجتهاده فتُقَدَّم عليه رواية عائشة، ويكون أول ما نزل من القرآن على الإطلاق: {اقْرَأ} وأول سورة نزلت كاملة، أو أول ما نزل بعد فترة الوحي: {يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ} .. أو أول ما نزل للرسالة: {يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ} .. وللنبوة {اقْرَأ} . 3- وقيل إن أول ما نزل هو سورة "الفاتحة" ولعل المراد أول سورة كاملة. 4- وقيل: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} والبسملة تنزل صدرًا لكل سورة. ودليل هذين أحاديث مرسلة، والقول الأول المؤيد بحديث عائشة هو القوي الراجح المشهور. وقد ذكر الزركشي في "البرهان" حديث عائشة الذي نص على أن أول ما نزل: {قْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} وحديث جابر الذي نص على أن أول ما نزل: {َيا أَيُّهَا المُدَّثِّر، قُمْ فَأَنْذِرُ} ثم قال: "وجمع بعضهم بينهما بأن جابرًا سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- يذكر قصة بدء الوحي، فسمع آخرها، ولم يسمع أولها، فتوهم أنها أول ما نزلت، وليس كذلك، نعم هي أول ما نزل بعد سورة {اقْرَأْ} وفترة الوحي، لما ثبت في الصحيحين أيضًا عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يحدِّث عن فترة الوحي، قال في حديثه: "بينما أنا أمشي، سمعت صوتًا من السماء، فرفعت رأسي، فإذا المَلَك الذي جاءني بحِراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، فجثثت منه فرقًا1، فرجعت فقلت: زملوني زملوني"، فأنزل الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا المُدَّثِّر، قُمْ فَأَنْذِر} . فقد أخبر في هذا الحديث عن المَلَك الذي جاءه بحِراء قبل هذه المرة، وأخبر في حديث عائشة أن نزول {اقْرَأْ} كان في غار حِراء، وهو أول وحي، ثم فَتَرَ بعد ذلك، وأخبر في حديث جابر أن الوحي تتابع بعد نزول {يَا أَيُّهَا المُدَّثِّر}

_ 1 جثثت: فزعت، وفي صحيح البخاري: "فرعبت منه".

فعُلِمَ بذلك أن {اقْرَأْ} أول ما نزل مطلقًا، وأن سورة المدثر بعده". وكذلك قال ابن حبان في صحيحه: لا تضاد بين الحديثين، بل أول ما نزل: {اقْرَأَ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} بغار حِراء، فلما رجع إلى خديجة -رضي الله عنها- وصبت عليه الماء البارد، أنزل الله عليه في بيت خديجة: {َيا أَيُّهَا المُدَّثِّر} ُ.. فظهر أنه لما نزل عليه {اقْرَأْ} رجع فتدثر، فأنزل عليه: {َيا أَيُّهَا المُدَّثِّر} .. وقيل: أول ما نزل سورة الفاتحة، رُوِيَ ذلك من طريق أبي إسحاق عن أبي ميسرة قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا سمع الصوت انطلق هاربًا، وذكر نزول المَلَك عليه وقوله: قل {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ... إلى آخرها. وقال القاضي أبو بكر في "الانتصار": وهذا الخبر منقطع، وأثبت الأقاويل: {اقْرَأَ بِاسْمِ رَبِّكَ} ويليه في القوة: {يا أَيُّهَا المُدَّثِّر} .. وطريق الجمع بين الأقاويل أن أول ما نزل من الآيات: {اقْرَأَ بِاسْمِ رَبِّكَ} وأول ما نزل من أوامر التبليغ: {يا أَيُّهَا المُدَّثِّر} .. وأول ما نزل من السور سورة الفاتحة، وهذا كما ورد في الحديث: "أول ما يُحاسَب به العبد الصلاة" 1, و "أول ما يُقضى فيه الدماء" 2, وجمع بينهما بأن أول ما يُحكم فيه من المظالم التي بين العباد الدماء. وأول ما يُحاسب به العبد من الفرائض البدنية الصلاة. وقيل: أول ما نزل للرسالة: {يا أَيُّهَا المُدَّثِّر} .. وللنبوة: {اقْرَأَ بِاسْمِ رَبِّكَ} فإن العلماء قالوا: قوله تعالى: {اقْرَأَ بِاسْمِ رَبِّكَ} دال على نبوة محمد -صلى الله عليه وسلم- لأن النبوة عبارة عن الوحي إلى الشخص على لسان المَلَك بتكليف خاص، وقوله: {يا أَيُّهَا المُدَّثِّر، قُمْ فَأنْذٍرْ} دليل على رسالته -صلى الله عليه وسلم- لأنها عبارة عن الوحي إلى الشخص على لسان المَلَك بتكليف عام"3.

_ 1 نقله السيوطي في "الجامع الصغير" عن الطبراني، ولفظه: "أول ما يُحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة، فإن صلحت صلح له سائر عمله، وإن فسدت فسد سائر عمله". 2 رواه البخاري في كتاب "الديَات" ولفظه: "أول ما يُقْضَى بين الناس في الدماء". 3 انظر "البرهان في علوم القرآن" للزركشي، بتحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم جـ1 ص206 وما بعدها.

آخر ما نزل

آخر ما نزل: 1- قيل: آخر ما نزل آية الربا، لما أخرجه البخاري عن ابن عباس قال: "آخر آية نزلت آية الربا" والمراد بها قوله تعالى: {يَاالَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} 1. 2- وقيل: آخر ما نزل من القرآن قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} 2 ... الآية, لما رواه النسائي وغيره عن ابن عباس وسعيد بن جبير: "آخر شيء نزل من القرآن: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} ... الآية. 3- وقيل: آخر ما نزل آية الدَّيْنِ، لما رُوِيَ عن سعيد بن المسيب: "أنه بلغه أن أحدث القرآن عهدًا بالعرش آية الدَّيْنِ" والمراد بها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ} 3 ... الآية. ويجمع بين الروايات الثلاث بأن هذه الآيات نزلت دفعة واحدة كترتيبها في المصحف، آية الربا، فآية {وَاتَّقُواْ يَوْمًا} فآية الدَّيْنِ، لأنها في قصة واحدة. فأخبر كل راوٍ عن بعض ما نزل بأنه آخر، وذلك صحيح، وبهذا لا يقع التنافر بينها. 4- وقيل: آخر ما نزل آية الكلالة. فقد رَوَى الشيخان عن البرَّاء بن عازب قال: آخر آية نزلت: {بَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَة} 4 ... الآية، وحُمِلَتْ الآخرية هنا في قول البراء على أنها مقيدة بما يتعلق بالمواريث. 5- وقيل: آخر ما نزل قوله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} 5 ... إلى آخر السورة. ففي المستدرك عن أُبِّيِّ بن كعب قال: آخر آية نزلت: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} ... إلى آخر السورة، وحُمل هذا على أنها آخر ما نزل من سورة "براءة".

_ 1 البقرة: 278. 2 البقرة: 281. 3 البقرة: 282. 4 النساء: 176. 5 التوبة: 128.

ففيما رواه عبد الله بن الإمام أحمد في زوائد المسند عن أُبَيِّ بن كعب أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أقرأه هاتين الآيتين: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} ... إلى قوله: {وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} في آخر سورة براءة. 6- وقيل: آخر ما نزل سورة المائدة، لما رواه الترمذي والحاكم في ذلك عن عائشة -رضي الله عنها- وأجيب بأن المراد أنها آخر سورة نزلت في الحلال والحرام، فلم تنسخ فيها أحكام. 7- وقيل: آخر ما نزل قوله تعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} 1.. لما أخرجه ابن مردويه من طريق مجاهد عن أم سلمة أنها قالت: "آخر آية نزلت هذه الآية: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ} ... إلى آخرها، وذلك أنها قالت: يا رسول الله.. أرى الله يذكر الرجال ولا يذكر النساء فنزلت: {وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} 2، ونزلت: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} 3, ونزلت هذه الآية، فهي آخر الثلاثة نزولًا، وآخر ما نزل بعد ما كان ينزل في الرجال خاصة". ويتضح من الرواية أن الآية المذكورة آخر الآيات الثلاث نزولًا، وأنها آخر ما نزل بالنسبة إلى ما ذُكر فيه النساء. 8- وقيل: آخر ما نزل آية: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} 4.. لما أخرجه البخاري وغيره عن ابن عباس قال: هذه الآية: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} هي آخر ما نزل وما نسخها شيء. والتعبير بقوله: "وما نسخها شيء" يدل على أنها آخر ما نزل في حكم قتل المؤمن عمدًا.

_ 1 آل عمران: 195. 2 النساء: 32. 3 الأحزاب: 35. 4 النساء: 93.

9- وأخرج مسلم عن ابن عباس قال:"آخر سورة نزلت: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} 1", وحُمل ذلك على أن هذه السورة آخر ما نزل مُشعرًا بوفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- كما فهم بعض الصحابة، أو أنها آخر ما نزل من السور. وهذه الأقوال ليس فيها شيء مرفوع إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وكل قال بضرب من الاجتهاد وغلبة الظن، ويحتمل أن كلًّا منهم أخبر عن آخر ما سمعه من الرسول، أو قال ذلك باعتبار آخر ما نزل في تشريع خاص، أو آخر سورة نزلت كاملة على النحو الذي خرجنا به كل قول منها. أما قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِينًا} 2, فإنها نزلت بعرفة عام حجة الوداع، ويدل ظاهرها على إكمال الفرائض والأحكام، وقد سبقت الإشارة إلى ما رُوِي في نزول آية الربا، وآية الدَّيْن، آية الكَلالة، وغيرها بعد ذلك. لذا حمل كثير من العلماء إكمال الدين في هذه الآية على أن الله أتم عليهم نعمته بتمكينهم من البلد الحرام، وإجلاء المشركين عنه، وحجهم وحدهم دون أن يشاركهم في البيت الحرام أحد من المشركين، وقد كان المشركون يحجون معهم من قبل وذلك من تمام النعمة: {وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} قال القاضي أبو بكر الباقلاني في "الانتصار" مُعلقًا على اختلاف الروايات في آخر ما نزل: "هذه الأقوال ليس فيها شيء مرفوع إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ويجوز أن يكون قاله قائله بضرب من الاجتهاد وغلبة الظن، ويحتمل أن كلًّا منهم أخبر عن آخر ما سمعه من النبي -صلى الله عليه وسلم- في اليوم الذي مات فيه أو قبل مرضه بقليل، وغيره سمع منه بعد ذلك وإن لم يسمعه هو، ويحتمل أيضًا أن تنزل هذه الآية التي هي آخر آية تلاها الرسول -صلى الله عليه وسلم- مع آيات نزلت معها فيؤمر برسم ما نزل معها بعد رسم تلك، فيظن أنه آخر ما نزل في الترتيب"3.

_ 1 أي: سورة النصر. 2 المائدة: 3. 3 انظر الإتقان جـ1 ص27. ونص العبارة الأخيرة في الزركشي: "فيؤمر برسم ما نزل معها وتلاوتها عليهم بعد رسم ما نزل آخرًا وتلاوته، فيظن سامع ذلك أنه آخر ما نزل في الترتيب" انظر البرهان جـ1 ص210، وفي نقل "الإتقان" شيء من التحريف.

أوائل موضوعية

أوائل موضوعية: وتناول العلماء, أوائل ما نزل بالنسبة إلى موضوعات خاصة، ومن ذلك: 1- أول ما نزل في الأطعمة: أول آية نزلت بمكة آية الأنعام: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 1. ثم آية النحل: {فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ, إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 2.. ثم آية البقرة: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 3. ثم آية المائدة: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 4.. 2- أول ما نزل في الأشربة: أول آية نزلت في الخمر آية البقرة: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} 5..

_ 1 الأنعام: 145. 2 النحل: 114، 115. 3 البقرة: 173. 4 المائدة: 3. 5 البقرة: 219.

ثم آية النساء: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} 1.. ثم آية المائدة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ, إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} 2. عن ابن عمر قال: "نزل في الخمر ثلاث آيات، فأول شيء: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} ... الآية. فقيل: "حُرِّمت الخمر"، فقالوا: يا رسول الله.. دعنا ننتفع بها كما قال الله، فسكت عنهم، ثم نزلت هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} فقيل: "حُرِّمت الخمر"، فقالوا: يا رسول الله.. ألا نشربها قرب الصلاة، فسكت عنهم، ثم نزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "حُرِّمت الخمر" 3. 3- أول ما نزل في القتال: عن ابن عباس قال: أول آية نزلت في القتال: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} 4.

_ 1 النساء: 43. 2 المائدة: 90، 91. 3 رواه الطيالسي في مسنده. 4 رواه الحاكم في المستدرك [والآية من سورة الحج: 39] .

فوائد هذا المبحث

فوائد هذا المبحث: ولمعرفة أول ما نزل وآخر ما نزل فوائد أهمها: أ- بيان العناية التي حظي به القرآن الكريم صيانة له وضبطًا لآياته: فقد وعى الصحابة هذا الكتاب آية آية، فعرفوا متى نزلت؟ وأين نزلت؟ حيث كانوا يتلقون عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما ينزل عليه من القرآن تلقِّي المؤمنين لأصول دينهم، ومبعث إيمانهم، ومصدر عزهم ومجدهم، وكان من أثر

ذلك سلامة القرآن من التغيير والتبديل: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} 1. ب- إدراك أسرار التشريع الإسلامي في تاريخ مصدره الأصيل: فإن آيات القرآن الكريم عالجت النفس البشرية بهداية السماء. وأخذت الناس بالأساليب الحكيمة التي ترقى بنفوسهم في سلم الكمال، وتدرجت بهم في الأحكام التي يستقيم بها منهج حياتهم على الحق، وتنتظم شئون مجتمعهم على الطريق الأقوم. جـ- تمييز الناسخ من المنسوخ: فقد ترد الآيتان أو الآيات في موضوع واحد، ويختلف الحكم في إحداها عن الأخرى، فإذا عُرِفَ ما نزل أولًَا وما نزل آخرًا كان حكم ما نزل آخرًا ناسخًا لحكم ما نزل أولًا.

_ 1 الحجر: 9.

أسباب النزول

أسباب النزول مدخل ... 6- أسباب النزول: نزل القرآن ليهدي الإنسانية إلى المحجة الواضحة، ويرشدها إلى الطريق المستقيم، ويقيم لها أسس الحياة الفاضلة التي تقوم دعامتها على الإيمان بالله ورسالاته، ويقرر أحوال الماضي، ووقائع الحاضر، وأخبار المستقبل. وأكثر القرآن نزل ابتداء لهذه الأهداف العامة، ولكن الصحابة رضي الله عنهم في حياتهم مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد شاهدوا أحداث السيرة، وقد يقع بينهم حادث خاص يحتاج إلى بيان شريعة الله فيه، أو يلتبس عليهم أمر فيسألون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عنه لمعرفة حكم الإسلام فيه، فيتنزل القرآن لذلك الحادث، أو لهذا السؤال الطارئ، ومثل هذا يُعرف بأسباب النزول.

عناية العلماء به

عناية العلماء به: وقد اعتنى الباحثون في علوم القرآن بمعرفة سبب النزول، ولمسوا شدة الحاجة إليه في تفسير القرآن فأفرده جماعة منهم بالتأليف، ومن أشهرهم: "علي بن المديني" شيخ البخاري، ثم "الواحدي"1, في كتابه "أسباب النزول"، ثم "الجعبري"2, الذي اختصر كتاب "الواحدي" بحذف أسانيده ولم يزد عليه شيئًا، ثم شيخ الإسلام "ابن حجر"3, الذي ألَّف كتابًا في أسباب النزول أطلع السيوطي على جزء من مسودته ولم يتيسر له الوقوف عليه كاملًا، ثم

_ 1 هو أبو الحسن علي بن أحمد النحوي المفسر، توفي سنة 427 هجرية. 2 هو برهان الدين إبراهيم بن عمر، كان له عناية بعلوم القرآن، فألَّف "روضة الطرائف في رسم المصاحف" و"كنز المعاني" وهو شرح للشاطبية في القراءات، توفي سنة 732 هجرية. 3 هو أبو الفضل شهاب الدين الحافظ ابن حجر العسقلاني واسمه أحمد بن علي، ينسب إلى عسقلان بفلسطين. كان له عناية بالحديث، واشتهر بعلومه، وكتبه عماد في هذا الفن، توفي سنة 852 هجرية.

"السيوطي"1, الذي قال عن نفسه: "وقد ألَّفت فيه كتابًا حافلًا موجزًا محررًا لم يُؤلَّف مثله في هذا النوع، سميته "لُباب المنقول في أسباب النزول"2.

_ 1 هو جلال الدين عبد الرحمن السيوطي المتوفى سنة 911 هجرية. 2 انظر الإتقان جـ1 ص28.

ما يعتمد عليه في معرفة سبب النزول

ما يُعْتَمد عليه في معرفة سبب النزول: والعلماء يعتمدون في معرفة سبب النزول على صحة الرواية عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو عن الصحابة، فإن إخبار الصحابي عن مثل هذا إذا كان صريحًا لا يكون بالرأي، بل يكون له حكم المرفوع، قال الواحدي: "لا يحل القول في أسباب نزول الكتاب إلا بالرواية والسماع ممن شاهدوا التنزيل، ووقفوا على الأسباب، وبحثوا عن علمها وجدُّوا في الطلب" وهذا هو نهج علماء السَّلف، فقد كانوا يتورعون عن أن يقولوا شيئًا في ذلك دون تثبت، قال "محمد بن سيرين"1: سألت "عبيدة"2 عن آية من القرآن فقال: اتق الله وقل سدادًا، ذهب الذين يعلمون فيما أنزل الله من القرآن، وهو يعني الصحابة، وإذا كان هذا هو قول "ابن سيرين" من أعلام علماء التابعين تحريًّا للرواية، ودقة في النقل، فإنه يدل على وجوب الوقوف عند أسباب النزول الصحيحة، ولذا فإن المعتمد من ذلك فيما رُوِي من أقوال الصحابة ما كانت صيغته جارية مجرى المسند، بحيث تكون هذه الصيغة جازمة بأنها سبب النزول. وذهب "السيوطي" إلى أن قول التابعي إذا كان صريحًا في سبب النزول فإنه يُقْبَل، ويكون مُرسلًا، إذا صح المُسْنَد إليه وكان من أئمة التفسير الذين

_ 1 تابعي من علماء البصرة، اشتهر بعلوم الحديث، وتعبير الرؤيا، وتوفي سنة 110 هجرية. 2 هو عَبيدة بالفتح- بن عمرو السلماني، أسلم قبل وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- بسنتين ولم يلقه، وكان ابن سيرين من أروى الناس عنه.

أخذوا عن الصحابة كمجاهد وعِكرمة وسعيد بن جبير، واعتضد بمرسل آخر1. وقد أخذ "الواحدي" على علماء عصره تساهلهم في رواية سبب النزول، ورماهم بالإفك والكذب، وحذَّرهم من الوعيد الشديد، حيث يقول: "أما اليوم فكل أحد يخترع شيئًا، ويختلق إفكًا وكذبًا، ملقيًا زمامه إلى الجهالة، غير مفكر في الوعيد للجاهل بسبب الآية".

_ 1 انظر الإتقان جـ1 ص31.

تعريف السبب

تعريف السبب: وسبب النزول بعد هذا التحقيق يكون قاصرًا على أمرين: 1- أن تحدث حادثة فيتنزل القرآن الكريم بشأنها، وذلك كالذي رُوِي عن ابن عباس قال: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} 1.. خرج النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى صعد الصفا، فهتف: "يا صاحباه"، فاجتمعوا إليه، فقال: "أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلًا تخرج بسفح هذا الجبل أكنتم مُصَدِّقِيَّ؟ " قالوا: ما جربنا عليك كذبًا، قال: "فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد"، فقال أبو لهب2: تبٍّا لك، إنما جمعتنا لهذا؟ ثم قام، فنزلت هذه السورة: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} 3. 2- أن يُسأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن شيء فيتنزل القرآن ببيان الحكم فيه، كالذي كان من خولة بنت ثعلبة عندما ظاهر4 منها زوجها أوس بن الصامت، فذهبت تشتكي من ذلك، عن عائشة قالت: "تبارك الذي وسع سمعه كل شيء، إني لأسمع كلام خولة بنت ثعلبة ويخفى علي بعضه وهي تشتكي زوجها إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهي تقول: يا رسول الله، أكل شبابي ونثرتُ له بطني

_ 1 الشعراء: 214. 2 اسمه عبد العزى بن عبد المطلب بن هاشم. 3 أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما [والآية من سورة المسد: 1] . 4 الظِّهار: أن يقول الرجل لامرأته: أنتِ عليَّ كظهر أمي، واختلفوا في غير هذه الصيغة.

حتى إذا كبر سني وانقطع ولدي ظاهر مني! اللهم إني أشكو إليك، قالت: فما بَرِحَتْ حتى نزل جبريل بهؤلاء الآيات: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} وهو أوس بن الصامت"1. ولا يعني هذا أن يلتمس الإنسان لكل آية سببًا، فإن القرآن لم يكن نزوله وقفًا على الحوادث والوقائع، أو على السؤال والاستفسار، بل كان القرآن يتنزل ابتداء، بعقائد الإيمان، وواجبات الإسلام، وشرائع الله تعالى في حياة الفرد وحياة الجماعة، قال "الجعبري": "نزل القرآن على قسمين: قسم نزل ابتداء، وقسم نزل عقب واقعة أو سؤال"2. ولذا يُعرَّف سبب النزول بما يأتي: "هو ما نزل قرآن بشأنه وقت وقوعه كحادثة أو سؤال". ومن الإفراط في علم سبب النزول أن نتوسع فيه، ونجعل منه ما هو من قبيل الإخبار عن الأحوال الماضية، والوقائع الغابرة، قال السيوطي: "والذي يتحرر في سبب النزول أنه ما نزلت الآية أيام وقوعه، ليخرج ما ذكره الواحدي في تفسيره في سورة الفيل من أن سببها قصة قدوم الحبشة، فإن ذلك ليس من أسباب النزول في شيء، بل هو من باب الإخبار عن الوقائع الماضية، كذكر قصة قوم نوح وعاد وثمود وبناء البيت ونحو ذلك، وكذلك ذكره في قوله: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} 3 سبب اتخاذه خليلًا، فليس ذلك من أسباب نزول القرآن كما لا يخفى"4.

_ 1 أخرجه ابن ماجه وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي [والآية من سورة المجادلة: 1] . 2 انظر الإتقان جـ1 ص28. 3 النساء: 125. 4 انظر الإتقان جـ1 ص31.

فوائد معرفة سبب النزول

فوائد معرفة سبب النزول: لمعرفة سبب النزول فوائد أهمها: أ- بيان الحكمة التي دعت إلى تشريع حكم من الأحكام وإدراك مراعاة الشرع للمصالح العامة في علاج الحوادث رحمة بالأمة. ب- تخصيص حكم ما نزل إن كان بصيغة العموم بالسبب عند من يرى أن العبرة بخصوص السبب لا بعموم اللَّفظ، وهي مسألة خلافية سيأتي لها مزيد من الإيضاح، وقد يُمثَّل لهذا بقوله تعالى: {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 1, فقد رُوِيَ أن مروان قال لبوَّابه: اذهب يا رافع إلى ابن عباس فقل: لئن كان كل امرئ منا فرح بما أُوتي وأحب أن يُحمد بما لم يفعل يُعذب لنعذبن أجمعون، فقال ابن عباس: ما لكم ولهذه الآية، إنما نزلت في أهل الكتاب. ثم تلا: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} 2 ... الآية. قال ابن عباس: سألهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن شيء فكتموه إياه وأخذوا بغيره، فخرجوا وقد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه واستحمدوا بذلك إليه وفرحوا بما أوتوا من كتمان ما سألهم عنه"3. جـ- إذا كان لفظ ما نزل عامًّا وورد دليل على تخصيصه فمعرفة السبب تُقصر التخصيص على ما عدا صورته، ولا يصح إخراجها، لأن دخول صورة السبب في اللفظ العام قطعي، فلا يجوز إخراجها بالاجتهاد لأنه ظني، وهذا هو ما عليه الجمهور وقد يُمثَّل لهذا بقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ, يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ, يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} 4.. فإن هذه الآية نزلت في عائشة خاصة، أو فيها وفي سائر أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم-

_ 1 آل عمران: 188. 2 آل عمران: 187. 3 أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما. 4 النور: 23، 25.

"عن ابن عباس في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} ... الآية: نزلت في عائشة خاصة"1, وعن ابن عباس في هذه الآية أيضًا: "هذه في عائشة وأزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- ولم يجعل الله لمن فعل ذلك توبة، وجعل لمن رمى امرأة من المؤمنات من غير أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- التوبة, ثم قرأ: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ, إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 2. وعلى هذا فإن قبول توبة القاذف وإن كان مخُصَصًّا لعموم قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ} 3, لا يتناول بالتخصيص مَن قذف عائشة، أو قذف سائر أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- فإن هذا لا توبة له، لأن دخول صورة السبب في اللفظ العام قطعي. د- ومعرفة سبب النزول خير سبيل لفهم معاني القرآن، وكشف الغموض الذي يكتنف بعض الآيات في تفسيرها ما لم يُعرف سبب نزولها، قال الواحدي: "لا يمكن معرفة تفسير الآية دون الوقوف على قصتها وبيان نزولها" وقال ابن دقيق العيد: "بيان سبب النزول طريق قوي في فهم معاني القرآن" وقال ابن تيمية: "معرفة سبب النزول يعين على فهم الآية فإن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب"4, ومن أمثلة ذلك: ما أشكل على مروان بن الحكم في فهم الآية الآنفة الذكر: {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 5 حتى أورد له ابن عباس سبب النزول.

_ 1 أخرجه ابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، وابن مردويه. 2 أخرجه سعيد بن منصور وابن جرير والطبراني وابن مردويه "راجع تفسير ابن جرير وتفسير ابن كثير" [والآيتان من سورة النور: 4، 5] . 3 النور: 23. 4 انظر الإتقان جـ1 ص28. 5 آل عمران: 188.

ومثله آية: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} 1, فإن ظاهر لفظ الآية لا يقتضي أن السعي فرض، لأن رفع الجُناح يفيد الإباحة لا الوجوب، وذهب بعضهم إلى هذا تمسكًا بالظاهر2، وقد ردت عائشة على عروة بن الزبير في فهمه ذلك بما ورد في سبب نزولها، وهو أن الصحابة تأثموا من السعي بينهما لأنه من عمل الجاهلية، حيث كان على الصفا أساف، وعلى المروة نائلة، وهما صنمان، وكان أهل الجاهلية إذا سعوا مسحوهما: "عن عائشة أن عروة قال لها: أرأيت قول الله: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} فما أرى على أحد جُناحًا أن لا يطوف بهما؟ فقالت عائشة: بئس ما قلت يابن أختي، إنها لو كانت على ما أوَّلتها كانت: فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما، ولكنها إنما أنزلت، أن الأنصار قبل أن يسلموا كانوا يُهلُّون لمناة الطاغية التي كانوا يعبدونها، وكان من أهلَّ لها يتحرج أن يطوف بالصفا والمروة في الجاهلية، فأنزل الله: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} ... الآية. قالت عائشة: ثم قد بيَّن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الطواف بهما، فليس لأحد أن يدع الطواف بهما"3. هـ- ويوضح سبب النزول مَن نزلت فيه الآية حتى لا تُحمل على غيره بدافع الخصومة والتحامل، كالذي ذُكِرَ في قوله تعالى: {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} 4, فقد أراد "معاوية" أن يستخلف "يزيد" وكتب إلى "مروان" عامله على المدينة بذلك، فجمع الناس وخطبهم ودعاهم إلى بيعة "يزيد" فأبى

_ 1 البقرة: 158. 2 حكى الزمخشري في الكشاف عن أبي حنيفة أنه يقول: إن السعي واجب وليس بركن وعلى تاركه دم - وقد ذهب إلى عدم الوجوب ابن عباس وابن الزبير وأنس بن مالك وابن سيرين. 3 أخرجه الشيخان وغيرهما. 4 الأحقاف: 17.

عبد الرحمن بن أبي بكر أن يبايع، فأراده "مروان" بسوء لولا أن دخل بيت عائشة، وقال مروان: إن هذا الذي أنزل الله فيه: {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي} فردت عليه عائشة وبيَّنت له سبب نزولها، "عن يوسف بن ماهك قال: كان مروان على الحجاز، استعمله معاوية بن أبي سفيان، فخطب فجعل يذكر يزيد بن معاوية لكي يبايع له بعد أبيه، فقال عبد الرحمن بن أبي بكر شيئًا، فقال: خذوه، فدخل بيت عائشة فلم يقدروا عليه، فقال مروان: إن هذا أنزل فيه: {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا} فقالت عائشة: "ما أنزل الله فينا شيئًا من القرآن إلا أن الله أنزل عذري"1، وفي بعض الروايات: "إن مروان لما طلب البيعة ليزيد قال: سُنَّة أبي بكر وعمر، فقال عبد الرحمن: سُنَّة هرقل وقيصر، فقال مروان: هذا الذي قال الله فيه: {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا} ... الآية، فبلغ ذلك عائشة فقالت: كذب مروان، والله ما هو به، ولو شئت أن أسمي الذي نزلت فيه لسميته"2.

_ 1 أخرجه البخاري. 2 أخرجه عبد بن حميد والنسائي وابن المنذر والحاكم وصححه وابن مردويه عن محمد بن زياد، قال: لما بلغ مروان لابنه قال مروان.. إلخ.

العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب

العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب: إذا اتفق ما نزل مع السبب في العموم، أو اتفق معه في الخصوص، حُمل العام على عمومه، والخاص على خصوصه. ومثال الأول قوله تعالى: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} 1, عن أنس قال: "إن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة منهم أخرجوها من البيت ولم يؤاكلوها ولم يشاربوها ولم يجامعوها في البيوت، فسُئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن

_ 1 البقرة: 222.

ذلك، فأنزل الله: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ} .. الآية، فقال رسول الله, صلى الله عليه وسلم: "جامعوهن في البيوت، واصنعوا كل شيء إلا النكاح" 1. ومثال الثاني قوله: {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى, الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى, وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى, إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى, وَلَسَوْفَ يَرْضَى} 2, فإنها نزلت في أبي بكر، والأتقى: أفعل تفضيل مقرون: بـ "أل" العهدية فيختص بمن نزل فيه، وإنما تفيد "أل" العموم إذا كانت موصولة أو معرفة في جمع على الراجح، و"أل" في "الأتقى" ليست موصولة لأنها لا توصل بأفعل التفضيل، و"الأتقى" ليس جمعًا، بل هو مفرد، والعهد موجود لا سيما وأن صيغة أفعل تدل على التمييز، وذلك كاف في قصر الآية على مَن نزلت فيه، ولذا قال الواحدي: الأتقى أبو بكر الصديق في قول جميع المفسرين: "عن عروة أن أبا بكر الصديق أعتق سبعة كلهم يُعذَّب في الله: بلال، وعامر بن فهيرة، والنهدية وابنتها، وأم عيسى، وأمة بني الموئل، وفيه نزلت {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى} ... إلى آخر السورة3، ورُوِي نحوه عن عامر بن عبد الله بن الزبير وزاد فيه: "فنزلت هذه الآية: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} 4 ... إلى قوله: {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى، إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى، وَلَسَوْفَ يَرْضَى} 5. أما إذا كان السبب خاصًّا ونزلت الآية بصيغة العموم فقد اختلف الأصوليون: أتكون العبرة بعموم اللفظ أم بخصوص السبب؟ 1- فذهب الجمهور إلى أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فالحكم الذي يؤخذ من اللفظ العام يتعدى صورة السبب الخاص إلى نظائرها، كآيات اللِّعان التي نزلت في قذف هلال بن أمية زوجته: "فعن ابن عباس: أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي -صلى الله عليه وسلم- بشريك بن سحماء. فقال النبي, صلى الله عليه وسلم:

_ 1 أخرجه مسلم وأهل السنن وغيرهم. 2 الليل: 17، 21. 3 أخرجه ابن أبي حاتم. 4 الليل: 5. 5 أخرجه الحاكم وصححه.

"البيِّنَةُ وإلا حدٌّ في ظهرك" فقال: يا رسول الله.. إذا رأى أحدنا على امرأته رجلًا ينطلق يلتمس البيِّنَة؟ فجعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "البيِّنَة وإلا حدٌّ في ظهرك" , فقال هلال: والذي بعثك بالحق إني لصادق، وليُنزلن الله ما يبرئ ظهري من الحد، ونزل جبريل فأنزل عليه: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} 1 ... حتى بلغ: {إنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} 2، 3.. فيتناول الحكم المأخوذ من هذا اللفظ العام: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} غير حادثة هلال دون احتياج إلى دليل آخر. وهذا هو الرأي الراجح والأصح، وهو الذي يتفق مع عموم أحكام الشريعة،، والذي سار عليه الصحابة والمجتهدون من هذه الأمة فعدوا بحكم الآيات إلى غير صورة سببها. كنزول آية الظهار في أوس بن الصامت، أو سلمة بن صخر - على اختلاف الروايات في ذلك، والاحتجاج بعموم آيات نزلت على أسباب خاصة شائع لدى أهل العلم، قال ابن تيمية: "قد يجيء هذا كثيرًا ومن هذا الباب قولهم: هذه الآية نزلت في كذا، لا سيما إن كان المذكور شخصًا كقولهم: إن آية الظهار نزلت في امرأة أوس بن الصامت، وإن آية الكلالة نزلت في جابر بن عبد الله، وأن قوله: {وَأنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ} 4, نزلت في بني قريظة والنضير، ونظائر ذلك مما يذكرون أنه نزل في قوم من المشركين بمكة، أو في قوم من اليهود والنصارى، أو في قوم من المؤمنين، فالذين قالوا ذلك لم يقصدوا أن حكم الآية يختص بأولئك الأعيان دون غيرهم، هذا لا يقوله مسلم ولا عاقل على الإطلاق، والناس وإن تنازعوا في اللفظ العام الوارد على سبب هل يختص بسببه فلم يقل أحد إن عمومات الكتاب والسٌّنَّة تختص بالشخص المعيَّن، وإنما غاية ما يقال: إنها تختص بنوع ذلك الشخص، فتعم ما يشبهه، ولا يكون العموم فيها بحسب اللفظ، والآية التي لها سبب معين إن كانت

_ 1 النور: 6. 2 النور: 9. 3 أخرجه البخاري والترمذي وابن ماجه. 4 المائدة: 49.

أمرًا أو نهيًا فهي متناولة لذلك الشخص ولغيره ممن كان بمنزلته، وإن كان خبرًا يمدح أو يذم فهي متناولة لذلك الشخص ولمن كان بمنزلته". 2- وذهب جماعة إلى أن العبرة بخصوص السبب لا بعموم اللفظ، فاللفظ العام دليل على صورة السبب الخاص، ولا بد من دليل آخر لغيره من الصور كالقياس ونحوه، حتى يبقى لنقل رواية السبب الخاص فائدة، ويتطابق السبب والمسبب تطابق السؤال والجواب.

صيغة سبب النزول

صيغة سبب النزول: صيغة سبب النزول إما أن تكون نصًّا صريحًا في السببية، وإما أن تكون محتملة. فتكون نصًّا صريحًا في السببية إذا قال الراوي: "سبب نزول هذه الآية كذا"، أو إذا أتى بفاء تعقيبية داخلة على مادة النزول بعد ذكر الحادثة أو السؤال، كما إذا قال: "حدث كذا" أو "سُئِلَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن كذا فنزلت الآية" - فهاتان صيغتان صريحتان في السببية سيأتي لهما أمثلة1. وتكون الصيغة محتملة للسببية ولما تضمنته الآية من الأحكام إذا قال الراوي: "نزلت هذه الآية في كذا" فذلك يراد به تارة سبب النزول، ويراد به تارة أنه داخل في معنى الآية. وكذلك إذا قال: "أحسب هذه الآية نزلت في كذا" أو "ما أحسب هذه الآية نزلت إلا في كذا" فإن الراوي بهذه الصيغة لا يقطع بالسبب - فهاتان صيغتان تحتملان السببية وغيرها كذلك. ومثال الصيغة الأولى ما رُوِي عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "أُنزلت {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} 2 ... الآية. في إتيان النساء في أدبارهن"3.

_ 1 انظر أمثلة تعدد الروايات في سبب النزول التي ستأتي بعد هذه الفقرة. 2 البقرة: 223. 3 أخرجه البخاري.

ومثال الصيغة الثانية ما رُوِيَ عن عبد الله بن الزبير "أن الزبير خاصم رجلًا من الأنصار قد شهد بدرًا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في شراج من الحرة، وكانا يسقيان به كلاهما النخل، فقال الأنصاري، سرِّح الماء يمر، فأبى عليه، فقال رسول الله, صلى الله عليه وسلم: "اسق يا زبير، ثم أَرْسِل الماء إلى جارك" فغضب الأنصاري وقال: يا رسول الله، أن كان ابن عمتك؟ فتلون وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم قال: "اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجُدر، ثم أَرْسِل الماء إلى جارك". واستوعى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للزبير حقه، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبل ذلك أشار على الزبير برأي أراد فيه سعة له وللأنصاري، فلما أحفظ رسول الله الأنصاري استرعى للزبير حقه في صريح الحكم، فقال الزبير: ما أحسب هذه الآية إلا في ذلك: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} 1, قال ابن تيمية: "قولهم: نزلت هذه الآية في كذا يراد به تارة سبب النزول، ويراد به تارة أن ذلك داخل في الآية وإن لم يكن السبب، وقد تنازع العلماء في قول الصحابي: "نزلت هذه الآية في كذا"، هل يجري مجرى المسند كما لو ذكر السبب الذي أنزلت لأجله أو يجري مجرى التفسير منه الذي ليس بمسند؟ فالبخاري يُدخله في المسند، وغيره لا يدخله فيه، وأكثر المسانيد على هذا الاصطلاح كمسند أحمد وغيره، بخلاف ما إذا ذكر سببًا نزلت عقبه فإنهم كلهم يدخلون مثل هذا في المسند"2, وقال الزركشي في البرهان: "قد عُرِفَ من عادة الصحابة والتابعين أن أحدهم إذا قال: "نزلت هذه الآية في كذا" فإنه يريد بذلك أنها تتضمن هذا الحكم لا أن هذا كان السبب في نزولها فهو من جنس الاستدلال على الحكم بالآية، لا من جنس النقل لما وقع"3.

_ 1 أخرجه البخاري ومسلم وأهل السُّنن وغيرهم [والآية من سورة النساء: 65] . 2 المراد بالإسناد هنا أن يكون مسندًا إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- بمعنى أن يكون مرفوعًا. وإن كان من قول الصحابي، لأنه لا مجال للاجتهاد فيه. 3 انظر الإتقان جـ1 ص31.

تعدد الروايات في سبب النزول

تعدد الروايات في سبب النزول: قد تتعدد الروايات في سبب نزول آية واحدة، وفي مثل هذه الحالة يكون موقف المفسر منها على النحو الآتي: أ- إذا لم تكن الصيغ الواردة صريحة مثل: "نزلت هذه الآية في كذا" أو "أحسبها نزلت في كذا" فلا منافاة بينها، إذ المراد التفسير، وبيان أن ذلك داخل في الآية ومستفاد منها، وليس المراد ذكر سبب النزول، إلا إن قامت قرينة على واحدة بأن المراد بها السببية. ب- إذا كانت إحدى الصيغ غير صريحة كقوله: "نزلت في كذا" وصرح آخر بذكر سبب مخالف فالمُعتمد ما هو نص في السببية، وتُحمل الأخرى على دخولها في أحكام الآية، ومثال ذلك ما ورد في سبب نزول قوله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} 1: "عن نافع قال: قرأت ذات يوم: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} فقال ابن عمر: أتدري فيم أنزلت هذه الآية؟ قلت: لا، قال: نزلت في إتيان النساء في أدبارهن"2, فهذه الصيغة من ابن عمر غير صريحة في السببية، وقد جاء التصريح بذكر سبب يخالفه "عن جابر قال: كانت اليهود تقول: إذا أتى الرجل امرأته من خلفها في قُبلِها جاء الولد أحول، فنزلت: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} 3" فجابر هو المُعتمد لأن كلامه نقل صريح، وهو نص في السبب، أما كلام ابن عمر فليس بنص فيُحمل على أنه استنباط وتفسير. جـ- وإذا تعددت الروايات وكانت جميعها نصًّا في السببية وكان إسناد أحدها صحيحًا دون غيره فالمُتعمد الرواية الصحيحة، مثل: ما أخرجه الشيخان وغيرهما عن جندب البجلي قال: "اشتكى النبي -صلى الله عليه وسلم- فلم يقم ليلتين أو ثلاثًا، فأتته امرأة فقالت: يا محمد، ما أرى شيطانك إلا قد تركك، لم

_ 1 البقرة: 223. 2 أخرجه البخاري وغيره. 3 أخرجه البخاري وأهل السُّنن وغيرهم.

يقربك ليلتين أو ثلاثة، فأنزل الله: {وَالضُّحَى, وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى, مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} 1" وأخرج الطبراني وابن أبي شيبة عن حفص بن ميسرة عن أمه عن أمها -وكانت خادم رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أن جروًا دخل بيت النبي -صلى الله عليه وسلم- فدخل تحت السرير، فمات، فمكث النبي -صلى الله عليه وسلم- أربعة أيام لا ينزل عليه الوحي، فقال: يا خولة، ما حدث في بيت رسول الله, صلى الله عليه وسلم؟ جبريل لا يأتيني! فقلت في نفسي: لو هيأت البيت وكنسته، فأهويت بالمكنسة تحت السرير، فأخرجت الجرو، فجاء النبي -صلى الله عليه وسلم- ترعد لحيته، وكان إذا نزل عليه أخذته الرعدة فقال: يا خولة دثريني فأنزل الله: {وَالضُّحَى} ... إلى قوله: {فَتَرْضَى} قال ابن حجر في شرح البخاري: "قصة إبطاء جبريل بسبب الجرو مشهورة، لكن كونها سبب نزول الآية غريب، وفي إسناده من لا يُعرف، فالمعتمد ما في الصحيحين"2. د- فإذا تساوت الروايات في الصحة ووُجِدَ وجه من وجوه الترجيح كحضور القصة مثلًا أو كون إحداها أصح قُدِّمت الرواية الراجحة، ومثال ذلك ما أخرجه البخاري عن ابن مسعود قال: "كنت أمشي مع النبي -صلى الله عليه وسلم- بالمدينة، وهو يتوكأ على عسيب، فمر بنفر من اليهود، فقال بعضهم: لو سألتموه، فقالوا: حدِّثنا عن الروح، فقام ساعة ورفع رأسه، فعرفتُ أنه يوحى إليه، حتى صعد الوحي، ثم قال: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} 3.. وقد أخرج الترمذي وصححه عن ابن عباس قال: "قالت قريش لليهود: أعطونا شيئًا نسأل عنه هذا الرجل، فقالوا: اسألوه عن الروح، فسألوه فأنزل الله: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} ... الآية، فهذه الرواية تقتضي أنها نزلت بمكة حيث كانت قريش. والرواية الأولى تقتضي أنها نزلت بالمدينة، وتُرجَّح الرواية الأولى لحضور ابن مسعود القصة، ثم لما عليه الأمة من تلقِّي صحيح البخاري بالقبول وترجيحه على ما صح في غيره.

_ 1 الضحى: 1-3. 2 انظر الإتقان، جـ1ص32، وخولة: هي خادم رسول الله, صلى الله عليه وسلم. 3 الإسراء: 85.

وقد اعتبر "الزركشي" هذا المثال من باب تعدد النزول وتكرره1، فتكون هذه الآية قد نزلت مرتين: مرة بمكة، ومرة بالمدينة، واستند في ذلك إلى أن سورة "سبحان" مكية بالاتفاق. وإني أرى أن كون السورة مكية لا ينفي أن تكون آية منها أو أكثر مدنية، وما أخرجه البخاري عن ابن مسعود يدل على أن هذه الآية: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} مدنية، فالوجه الذي اخترناه من ترجيح رواية ابن مسعود على رواية الترمذي عن ابن عباس أولى من حمل الآية على تعدد النزول وتكرره. ولو صح أن الآية مكية وقد نزلت جوابًا عن سؤال فإن تكرار السؤال نفسه بالمدينة لا يقتضي نزول الوحي بالجواب نفسه مرة أخرى, بل يقتضي أن يجيب الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالجواب الذي نزل عليه من قبل. هـ- إذا تساوت الروايات في الترجيح جُمِعَ بينها إن أمكن، فتكون الآية قد نزلت بعد السببين أو الأسباب لتقارب الزمن بينها، كآيات اللِّعان: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أزْواجَهمْ} 2, فقد أخرج البخاري والترمذي وابن ماجه عن ابن عباس أنها نزلت في هلال بن أمية، قذف امرأته عند النبي -صلى الله عليه وسلم- بشريك بن سحماء، كما ذكرنا من قبل3. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن سهل بن سعد قال: "جاء عويمر إلى عاصم بن عدي، فقال: سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن رجل وجد مع امرأته رجلًا أيقتله فيُقتل به أم كيف يصنع؟ ... " فجمع بينهما بوقوع حادثة هلال أولًا، وصادف مجيء عويمر كذلك، فنزلت في شأنهما معًا بعد حادثتيهما. قال ابن حجر: لا مانع من تعدد الأسباب. و إن لم يمكن الجمع لتباعد الزمن فإنه يُحْمَل على تعدد النزول وتكرره، ومثاله: ما أخرجه الشيخان عن المسيب قال: "لما حضر أبا طالب الوفاة دخل

_ 1 انظر البرهان: جـ1 ص30. 2 النور: 6- 9. 3 انظر صفحة 83، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعنده أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية، فقال: " أي عم، قل: لا إله إلا الله أحاج لك بها عند الل هـ"، فقال أبو جهل وعبد الله: يا أبا طالب: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزالا يكلمانه حتى قال: هو على ملة عبد المطلب، فقال النبي, صلى الله عليه وسلم: "لأستغفرن لك ما لم أنه عنه"، فنزلت: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} 1. وأخرج الترمذي عن عليٍّ قال: "سمعت رجلًا يستغفر لأبويه وهما مشركان فقلت: تستغفر لأبويك وهما مشركان؟ فقال: استغفر إبراهيم لأبيه وهو مشرك، فذكرتُ ذلك لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فنزلت". وأخرج الحاكم وغيره عن ابن مسعود قال: "خرج النبي -صلى الله عليه وسلم- يومًا إلى المقابر، فجلس إلى قبر منها، فناجاه طويلًا ثم بكى، فقال: "إن القبر الذي جلستُ عنده قبر أمي، وإني استأذنت ربي في الدعاء لها فلم يأذن لي، فأنزل عليَّ: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} . فجمع بين هذه الروايات بتعدد النزول. ومن أمثلته كذلك ما رُوِيَ عن أبي هريرة: "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- وقف على حمزة حين استُشِهد وقد مُثِّلَ به، فقال: "لأُمَثِّلَنَّ بسبعين منهم مكانك"، فنزل جبريل والنبي -صلى الله عليه وسلم- واقف بخواتيم سورة النحل: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} 2 ... إلى آخر السورة"3, فهذا يدل على نزولها يوم أُحد. وجاء في رواية أخرى أنها نزلت يوم فتح مكة4، والسورة مكية، فجمع بين ذلك، بأنها نزلت بمكة قبل الهجرة مع السورة، ثم بأحد، ثم يوم الفتح، ولا مانع مع ذلك لما فيه من التذكير بنعمة الله على عباده واستحضار شريعته، قال الزركشي في البرهان: "وقد ينزل الشيء مرتين تعظيمًا لشأنه، وتذكيرًا

_ 1 التوبة: 113. 2 النحل: 126. 3 أخرجه البيهقي والبزار عن أبي هريرة. 4 أخرجها الترمذي والحاكم عن أُبَيِّ بن كعب.

عند حدوث سببه خوف نسيانه، كما قيل في الفاتحة، نزلت مرتين: مرة بمكة، وأخرى بالمدينة". هذا ما يذكره علماء الفن في تعدد النزول وتكرره، ولا أرى لهذا الرأي وجهًا مستساغًا، حيث لا تتضح الحكمة من تكرار النزول. وإنما أرى أن الروايات المتعددة في سبب النزول ولا يمكن الجمع بينها يتأتى فيها الترجيح. فالروايات الواردة في سبب نزول قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} 1 ... الآية، ترجح فيها الرواية الأولى على الروايتين الأخيرتين، لأنها وردت في الصحيحين دونهما، وحسبك برواية الشيخين قوة. فالراجح أن الآية نزلت في أبي طالب. وكذلك الشأن في الروايات التي وردت في سبب نزول خواتيم سورة النحل، فإنها ليست في درجة سواء. والأخذ بأرجحها أولى من القول بتعدد النزول وتكرره. والخلاصة.. أن سبب النزول إذا تعدد: فإما أن يكون الجميع غير صريح، وإما أن يكون الجميع صريحًا، وإما أن يكون بعضه غير صريح وبعضه صريحًا، فإن كان الجميع غير صريح في السببية فلا ضرر حيث يُحمل على التفسير والدخول في الآية "أ" وإن كان بعضه غير صريح وبعضه الآخر صريحًا فالمعتمد هو الصريح "ب" وإن كان الجميع صريحًا فلا يخلو، إما أن يكون أحدهما صحيحًا أو الجميع صحيحًا, فإن كان أحدهما صحيحًا دون الآخر فالصحيح هو المعتمد "جـ" وإن كان الجميع صحيحًا فالترجيح إن أمكن "د" وإلا فالجمع إن أمكن "هـ" وإلا حُمِل على تعدد النزول وتكرره "و" وفي هذا القسم الأخير مقال، وفي النفس منه شيء.

_ 1 التوبة: 113.

تعدد النزول مع وحدة السبب

تعدد النزول مع وحدة السبب: قد يتعدد ما ينزل والسبب واحد، ولا شيء في ذلك، فقد ينزل في الواقعة الواحدة آيات عديدة في سور شتى. ومثاله: ما أخرجه سعيد بن منصور وعبد الرزاق والترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه عن أم سلمة قالت: "يا رسول الله، لا أسمع الله ذكر النساء في الهجرة بشيء، فأنزل الله: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} ... الآية1. وأخرج أحمد والنَّسائي وابن جرير وابن المنذر والطبراني وابن مردويه عن أم سلمة قالت: "قلت: يا رسول الله، ما لنا لا نُذكر في القرآن كما يُذكر الرجال؟ فلم يرعني منه ذات يوم إلا نداؤه على المنبر وهو يقول: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} 2 ... إلى آخر الآية. وأخرج الحاكم عن أم سلمة أيضًا أنها قالت: تغزو الرجال ولا تغزو النساء، وإنما لنا نصف الميراث؟ فأنزل الله: {وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ} 3, الآية، وأنزل: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} فهذه الآيات الثلاث نزلت على سبب واحد.

_ 1 آل عمران: 195. 2 الأحزاب: 35. 3 النساء: 32.

تقدم نزول الآية على الحكم

تقدم نزول الآية على الحكم: يذكر "الزركشي" نوعًا يتصل بأسباب النزول يسميه: "تقدم نزول الآية على الحكم"1, والمثال الذي ذكره في ذلك لا يدل على أن الآية تنزل في حكم خاص ثم لا يكون العمل بها إلا مؤخرًا، وإنما يدل على أن الآية قد تنزل بلفظ

_ 1 انظر "البرهان" جـ1 ص32.

مجمل يحتمل أكثر من معنى ثم يُحمل تفسيرها على أحد المعاني فيما بعد فتكون دليلًا على حكم متأخر. جاء في "البرهان": "واعلم أنه قد يكون النزول سابقًا على الحكم، وهذا كقوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} 1 فإنه يُستدل بها على زكاة الفطر، روى البيهقي بسنده إلى ابن عمر أنها نزلت في زكاة رمضان، ثم أسند مرفوعًا نحوه، وقال بعضهم: لا أدري ما وجه هذا التأويل؟ لأن هذه السورة مكية، ولم يكن بمكة عيد ولا زكاة". وأجاب البغوي2 في تفسيره بأنه يجوز أن يكون النزول سابقًا على الحكم، كما قال: {لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ, وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ} 3, فالسورة مكية، وظهر أثر الحل يوم فتح مكة، حتى قال عليه الصلاة والسلام: "أُحلت لي ساعة من نهار" 4. وكذلك نزل بمكة: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} 5, قال عمر بن الخطاب: كنت لا أدري: أي الجمع يُهزم؟ فلما كان يوم بدر رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} . فأنت ترى فيما ذكره صاحب البرهان أن صيغة سبب النزول محتملة للسببية ولما تضمنته الآية من الأحكام "رَوَى البيهقي بسنده إلى ابن عمر أنها نزلت في زكاة رمضان"، والآيات التي ذكرها مُجْمَلة تحتمل أكثر من معنى، أو جاءت بصيغة الإخبار عما يحدث في المستقبل {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} .

_ 1 الأعلى: 14. 2 هو أبو محمد الحسن بن مسعود بن محمد البغوي، الفقيه الشافعي، صاحب كتاب "مصابيح السٌّنَّة" في الحديث و"معالم التنزيل" في التفسير، توفي سنة 510 هجرية. 3 البلد: 1، 2. 4 من حديث في الصحيحين، والآية تحتمل ثلاثة معانٍ: أن يكون "حل" من الحلول بالمكان والنزول به، فيكون حلوله بالبلد الأمين مناطًا لإعظامه بالإقسام به، أو يكون "حل" من الحلال بمعنى المباح، فإنهم قد استحلوه عليه الصلاة والسلام في هذا البلد الحرام، أو يكون المعنى: وأنت حلٌّ في المستقبل، وهذا الرأي الأخير هو الذي يكون النزول فيه سابقًا للحكم. 5 القمر: 45.

تعدد ما نزل في شخص واحد

تعدد ما نزل في شخص واحد: قد يحدث لشخص واحد من الصحابة أكثر من واقعة، ويتنزل القرآن بشأن كل واقعة منها، فيتعدد ما نزل بشأنه بتعدد الوقائع، ومثاله: ما رواه البخاري في كتاب "الأدب المفرد" في بر الوالدين عن سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- قال: "نزلت فيَّ أربع آيات من كتاب الله عز وجل: كانت أمي حلفت ألا تأكل ولا تشرب، حتى أفارق محمدًا -صلى الله عليه وسلم- فأنزل الله تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} 1. والثانية: أني كنت أخذت سيفًا فأعجبني فقلت: يا رسول الله. هب لي هذا السيف، فنزلت: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ} 2. والثالثة: أني كنت مرضت فأتاني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقلت: يا رسول الله. إني أريد أن أُقَسِّمَ مالي، أفأُوصي بالنصف؟ فقال: لا، فقلت: الثلث، فسكت، فكان الثلث بعد جائزًا 3. والرابعة: أني شربت الخمر مع قوم من الأنصار، فضرب رجل منهم أنفي بلحي جمل، فأتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأنزل الله عز وجل تحريم الخمر". ويُعتبر من هذا القبيل موافقات عمر رضي الله عنه، فقد نزل الوحي موافقًا لرأيه في عدة آيات.

_ 1 لقمان: 15. 2 الأنفال: 1. 3 نزل في الوصية قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [البقرة: 180] ولم يأت التصريح بنزول الآية في نص الحديث.

الاستفادة من معرفة أسباب النزول في مجال التربية والتعليم

الاستفادة من معرفة أسباب النزول في مجال التربية والتعليم: يعاني المربون في مجال الحياة التعليمية كثيرًا من المتاعب في استخدام الوسائل التربوية لإثارة انتباه الطلاب حتى تتهيأ نفوسهم للدرس في شوق يستجمع قواهم العقلية ويرغبهم في الاستماع والمتابعة، والمرحلة التمهيدية من مراحل الدرس تحتاج إلى فطنة لماحة تعين المدرس على اجتذاب مشاعر الطلاب لدرسه بشتى الوسائل المناسبة، كما تحتاج إلى ممارسة طويلة تُكسبه خبرة في حسن اختيار الربط بين معلوماتهم دون تعسف يكلفه شططًا. وكما تهدف المرحلة التمهيدية في الدرس إلى إثارة انتباه الطلاب واجتذاب مشاعرهم فإنها تهدف كذلك إلى التصور الكلي للموضوع، كي يسهل على المدرس أن ينتقل بطلابه من الكلي للجزئي إلى أن يستوعب عناصر الدرس تفصيلًا بعد أن تصوره طلابه جملة. ومعرفة أسباب النزول هي السبيل الأفضل لتحقيق تلك الأهداف التربوية في دراسة القرآن الكريم تلاوة وتفسيرًا. إن سبب النزول إما أن يكون قصة لحادثة وقعت، وإما أن يكون سؤالًا طُرِحَ على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لاستكشاف حكم في موضوع، فينزل القرآن إثر الحادثة أو السؤال، فلن يجد المدرس نفسه في حاجة لمعالجة التمهيد للدرس بشيء يبتكره ويختاره، إذ إنه إذا ساق سبب النزول كانت قصته كافية في إثارة انتباه الطلاب، واجتذاب مشاعرهم، واستجماع قواهم العقلية، وتهيئة نفوسهم لتقبل الدرس، وتشويقهم للاستماع إليه، وترغيبهم في الحرص عليه، فهم يتصورون الدرس بمعرفة سبب النزول تصورًا عامًّا بما فيه من عناصر القصة المثيرة، فتتوق نفوسهم إلى معرفة ما نزل ملائمًا له وما يتضمنه من أسرار تشريعية وأحكام تفصيلية، تهدي الإنسانية إلى نهج الحياة الأقوم، وصراطها المستقيم، وسبيل عزها ومجدها وسعادتها.

وعلى المربين في مجال الحياة التربوية التعليمية الخاصة بمقاعد الدرس أو العامة في التوجية والإرشاد أن يستفيدوا من سياق أسباب النزول في التأثير على الطلاب الدارسين وجماهير المسترشدين، فذلك أجدى وأنفع وأهدى سبيلًا لتحقيق الأهداف التربوية بأروع معانيها وأرقى صورها.

المناسبات بين الآيات والسور

المناسبات بين الآيات والسور: كما أن معرفة سبب النزول لها أثرها في فهم المعنى وتفسير الآية، فإن معرفة المناسبة بين الآيات تساعد كذلك على حسن التأويل، ودقة الفهم، ولذا أفرد بعض العلماء هذا المبحث بالتصنيف1. والمناسبة في اللغة: المقاربة، يقال فلان يناسب فلانًا أي يقرب منه ويشاكله، ومنه المناسبة في العلة في باب القياس، وهي الوصف المقارب للحكم. والمراد بالمناسبة هنا: وجه الارتباط بين الجملة والجملة في الآية الواحدة أو بين الآية والآية في الآيات المتعددة، أوبين السورة والسورة. ولمعرفة المناسبة فائدتها في إدراك اتساق المعاني، وإعجاز القرآن البلاغي، وإحكام بيانه، وانتظام كلامه، وروعة أسلوبه {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} 2. قال الزركشي: "وفائدته جعل أجزاء الكلام بعضها آخذًا بأعناق بعض، فيقوى بذلك الارتباط، ويصير التأليف حاله حال البناء المحكم المتلائم الأجزاء".

_ 1 ممن صنَّف فيه أبو جعفر أحمد بن إبراهيم بن الزبير الأندلسي النحوي الحافظ المتوفى سنة 807 هجرية في كتاب سماه "البرهان في مناسبة ترتيب سور القرآن" "مخطوط"، وللشيخ برهان الدين البقاعي كتاب في هذا سماه "نظم الدرر في تناسب الآيات والسور" وتوجد منه نسخة خطية بدار الكتب المصرية وقد طبعته دائرة المعارف العثمانية - الهند 1389هـ، وانظر هذا المبحث في "البرهان" للزركشي، جـ1 ص35. 2 هود: 1.

وقال القاضي أبو بكر بن العربي: "ارتباط آي القرآن بعضها ببعض، حتى تكون كالكلمة الواحدة، متسقة المعاني، منتظمة المباني، علم عظيم". ومعرفة المناسبات والربط بين الآيات ليست أمرًا توقيفيًّا، ولكنها تعتمد على اجتهاد المفسر ومبلغ تذوقه لإعجاز القرآن وأسراره البلاغية وأوجه بيانه الفريد، فإذا كانت المناسبة دقيقة المعنى، منسجمة مع السياق، متفقة مع الأصول اللغوية في علوم العربية، كانت مقبولة لطيفة. ولا يعني هذا أن يلتمس المفسر لكل آية مناسبة، فإن القرآن الكريم نزل مُنَجَّمًا حسب الوقائع والأحداث، وقد يدرك المفسر ارتباط آياته وقد لا يدركها، فلا ينبغي أن يعتسف المناسبة اعتسافًا، وإلا كانت تكلفًا ممقوتًا، قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام1: "المناسبة علم حسن، ولكن يُشترط في حسن ارتباط الكلام أن يقع في أمر متحد مرتبط أوله بآخره: فإن وقع على أسباب مختلفة لم يُشترط فيه ارتباط أحدهما بالآخر" ثم قال: "ومن ربط بين ذلك فهو متكلف بما لا يقدر عليه إلا برباط ركيك يصان عنه حسن الحديث فضلًا عن أحسنه، فإن القرآن نزل في نيف وعشرين سنة في أحكام مختلفة، ولأسباب مختلفة، وما كان كذلك لا يتأتى ربط بعضه ببعض". وقد عُنِيَ بعض المفسرين ببيان المناسبة بين الجمل، أو بين الآيات، أو بين السور2 واستنبطوا وجوه ارتباط دقيقة. فالجملة قد تكون تأكيدًا لما قبلها، أوبيانًا، أو تفسيرًا، أو اعتراضًا تذييليًّا - ولهذا أمثلته الكثيرة.

_ 1 هو عبد العزيز بن عبد السلام المشهور بالعز، كان عالمًا مجاهدًا ورعًا، توفي سنة 660 هجرية. 2 وجه الارتباط بين السور مبني على أن ترتيب السور توقيفي، وقد اختلف العلماء في ذلك كما سيأتي.

وللآية تعلقها بما قبلها على وجه من وجوه الارتباط يجمع بينها، كالمقابلة بين صفات المؤمنين وصفات المشركين، ووعيد هؤلاء ووعد أولئك، وذكر آيات الرحمة بعد آيات العذاب، وآيات الترغيب بعد آيات الترهيب، وآيات التوحيد والتنزيه بعد الآيات الكونية ... وهكذا. وقد تكون المناسبة في مراعاة حال المخاطَبين كقوله تعالى: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ, وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ, وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ, وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} 1, فجمع بين الإبل والسماء والجبال مراعاة لما جرى عليه الإلف والعادة بالنسبة إلى المخاطَبين في البادية، حيث يعتمدون في معايشهم على الإبل، فتنصرف عنايتهم إليها، ولا يتأتى لهم ذلك إلا بالماء الذي ينبت المرعى وترده الإبل، وهذا يكون بنزول المطر، وهو سبب تقلب وجوههم في السماء، ثم لا بد لهم من مأوى يتحصنون به ولا شيء أمنع كالجبال، وهم يطلبون الكلأ والماء فيرحلون من أرض ويهبطون أخرى، ويتنقلون من مرعًى أجدب إلى مرعًى أخصب، فإذا سمع أهل البادية هذه الآيات خالطت شغاف قلوبهم بما هو حاضر لا يغيب عن أذهانهم. وقد تكون المناسبة بين السورة والسورة، كافتتاح سورة "الأنعام" بالحمد: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} 2, فإنه مناسب لختام سورة "المائدة" في الفصل بين العباد ومجازاتهم: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 3.. إلى آخر السورة، كما قال سبحانه: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} 4، وكافتتاح سورة "الحديد" بالتسبيح: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 5, فإنه مناسب

_ 1 الغاشية: 17-20. 2 الأنعام: 1. 3 المائدة: 118. 4 الزمر: 75. 5 الحديد: 1.

لختام سورة "الواقعة" من الأمر به: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} 1, وكارتباط سورة {لِإِيلافِ قُرَيْشٍ} 2, بسورة "الفيل" فإن هلاك أصحاب الفيل كانت عاقبته تمكين قريش من رحلتيها شتاء وصيفًا، حتى قال الأخفش: اتصالها بها من باب قوله تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} 3. وقد تكون المناسبة بين فواتح السور وخواتمها.. ومن ذلك ما في سورة "القصص" فقد بدأت بقصة موسى عليه السلام، وبيان مبدأ أمره ونصره، ثم ما كان منه عندما وجد رجلين يقتتلان. وحكى الله دعاءه: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ} 4، ثم ختم الله السورة بتسلية رسولنا -صلى الله عليه وسلم- بخروجه من مكة والوعد بعودته إليها، ونهيه عن أن يكون ظهيرًا للكافرين: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ، وَمَا كُنتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ} 5.. ومن تتبع كتب التفسير وجد كثيرًا من وجوه المناسبات.

_ 1 الواقعة: 96. 2 سورة قريش. 3 القصص: 8. 4 القصص: 17. 5 القصص: 85، 86.

نزول القرآن

نزول القرآن مدخل ... 7- نزول القرآن: أنزل الله القرآن على رسولنا محمد -صلى الله عليه وسلم- لهداية البشرية، فكان نزوله حدثًا جللًا يؤذن بمكانته لدى أهل السماء وأهل الأرض، فإنزاله الأول في ليلة القدر أشعر العالم العُلوي من ملائكة الله بشرف الأمة المحمدية التي أكرمها الله بهذه الرسالة الجديدة لتكون خير أمة أخرجت للناس، وتنزيله الثاني مفرَّقًا على خلاف المعهود في إنزال الكتب السماوية قبله آثار الدهشة التي حملت القوم على المماراة فيه، حتى أسفر لهم صبح الحقيقة فيما وراء ذلك من أسرار الحكمة الإلهية، فلم يكن الرسول -صلى الله عليه وسلم- ليتلقى الرسالة العظمى جملة واحدة ويُقنع بها القوم مع ما هم عليه من صَلَفٍ وعِناد، فكان الوحي يتنزل عليه تباعًا تثبيتًا لقلبه، وتسلية له، وتدرجًا مع الأحداث والوقائع حتى أكمل الله الدين، وأتم النعمة.

نزول القرآن جملة

نزول القرآن جملة: يقول الله تعالى في كتابه العزيز: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} 1. ويقول: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} 2. ويقول: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} 3. ولا تعارض بين هذه الآيات الثلاث، فالليلة المباركة هي ليلة القدر من شهر رمضان، إنما يتعارض ظاهرها مع الواقع العملي في حياة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حيث نزل القرآن عليه في ثلاث وعشرين سنة.. وللعلماء في هذا مذهبان أساسيان:

_ 1 البقرة: 185. 2 القدر: 1. 3 الدخان: 3.

1- المذهب الأول: وهو الذي قال به ابن عباس وجماعة وعليه جمهور العلماء: أن المراد بنزول القرآن في تلك الآيات الثلاث نزوله جملة واحدة إلى بيت العزة من السماء الدنيا تعظيمًا لشأنه عند ملائكته، ثم نزل بعد ذلك مُنَجَّمًا على رسولنا محمد -صلى الله عليه وسلم- في ثلاث وعشرين سنة1 حسب الوقائع والأحداث منذ بعثته إلى أن توفي صلوات الله وسلامه عليه، حيث أقام في مكة بعد البعثة ثلاث عشرة سنة، وبالمدينة بعد الهجرة عشر سنوات: فعن ابن عباس قال: "بُعِثَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأربعين سنة، فمكث بمكة ثلاث عشرة سنة يُوحى إليه، ثم أُمِرَ بالهجرة عشر سنين، ومات وهو ابن ثلاث وستين"2. وهذا المذهب هو الذي جاءت به الأخبار الصحيحة عن ابن عباس في عدة روايات: أ- عن ابن عباس قال: "أُنزل القرآن جملة واحدة إلى السماء الدنيا ليلة القدر. ثم أُنزل بعد ذلك في عشرين سنة, ثم قرأ: {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} 3.. {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا} 4.. ب- وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "فُصِلَ القرآن من الذكر فوُضِعَ في بيت العزة من السماء الدنيا، فجعل جبريل ينزل به على النبي, صلى الله عليه وسلم"5. جـ- وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "أُنزل القرآن جملة واحدة إلى سماء الدنيا، وكان بمواقع النجوم، وكان الله يُنزله على رسوله -صلى الله عليه وسلم- بعضه في إثر بعض"6.

_ 1 وقدَّر بعض العلماء مدة نزول القرآن بعشرين سنة، وبعضهم بخمس وعشرين سنة لاختلافهم في مدة إقامته, صلى الله عليه وسلم -بعد البعثة- بمكة، أكانت ثلاث عشرة سنة، أم عشر سنين، أم خمس عشرة سنة؟ مع اتفاقهم على أن إقامته بالمدينة بعد الهجرة عشر سنوات - والصواب الأول - انظر "الإتقان" جـ1 ص39. 2 رواه البخاري. 3 الفرقان: 33. 4 رواه الحاكم والبيهقي والنَّسائي [والآية من سورة الإسراء: 106] . 5 رواه الحاكم. 6 رواه الحاكم والبيهقي.

د- وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "أُنزل القرآن في ليلة القدر في شهر رمضان إلى سماء الدنيا جملة واحدة، ثم أُنزل نُجومًا"1. 2- المذهب الثاني: وهو الذي رُوِيَ عن الشعبي2: أن المراد بنزول القرآن في الآيات الثلاث ابتداء نزوله على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقد ابتدأ نزوله في ليلة القدر في شهر رمضان، وهي الليلة المباركة، ثم تتابع نزوله بعد ذلك متدرجًا مع الوقائع والأحداث في قرابة ثلاث وعشرين سنة، فليس للقرآن سوى نزول واحد هو نزوله مُنَجَّمًا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأن هذا هو الذي جاء به القرآن: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا} 3, وجادل فيه المشركون الذين نُقِلَ إليهم نزول الكتب السماوية السابقة جملة واحدة: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً, وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} 4. ولا يظهر للبشر مزية لشهر رمضان وليلة القدر التي هي الليلة المباركة إلا إذا كان المراد بالآيات الثلاث نزول القرآن على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهذا يوافق ما جاء في قوله تعالى بغزوة بدر: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 5. وقد كانت غزوة بدر في رمضان. ويؤيد هذا ما عليه المحققون في حديث بدء الوحي، عن عائشة قالت: "أول ما بُدئ به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فَلَق الصبح، ثم حُبِّبَ إليه الخلاء فكان يأتي حِراء فيتحنث فيه الليالي ذوات العدد ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة -رضي الله عنها- فتزوده لمثلها، حتى فاجأه الحق وهو في غار حِراء. فجاءه المَلَكُ فيه فقال: اقرأ، قال رسول الله, صلى الله عليه وسلم: "فقلت: ما أنا بقارئ

_ 1 رواه الطبراني. 2 الشعبي: هو عامر بن شراحبيل، من كبار التابعين -وأكبر شيوخ أبي حنيفة- كان إمامًا في الحديث والفقة، وتوفي سنة 109 هجرية. 3 الإسراء: 106. 4 الفرقان: 32، 33. 5 الأنفال: 41.

فأخذني فغطَّنِي حتى بلغ مني الجَهْد ثم أرسلني" فقال: اقرأ، فقلت: "ما أنا بقارئ، فغَطَّنِي الثانية حتى بلغ مني الجَهْد ثم أرسلني" فقال: اقرأ، فقلت: "ما أنا بقارئ، فغَطَّنِي الثالثة حتى بلغ مني الجَهْد ثم أرسلني فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} .. حتى بلغ: {مَا لَمْ يَعْلَمْ} " 1. فإن المحققين من الشراح على أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- نُبِئ أولًا بالرؤيا في شهر مولده شهر ربيع الأول، ثم كانت مدتها ستة أشهر، ثم أُوِحي إليه يقظة في شهر رمضان بـ "اقرأ" وبهذا تتآزر النصوص على معنًى واحد. 3- وهناك مذهب ثالث: يرى أن القرآن أُنزل إلى السماء الدنيا في ثلاث وعشرين ليلة قدر2 في كل ليلة منها ما يُقَدِّرُ الله إنزاله في كل السنة، وهذا القدر الذي ينزل في ليلة القدر إلى السماء الدنيا لسنة كاملة ينزل بعد ذلك مُنَجَّمًا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في جميع السنة. وهذا المذهب اجتهاد من بعض المفسرين، ولا دليل عليه. أما المذهب الثاني الذي رُوِيَ عن الشعبي فأدلته -مع صحتها والتسليم بها- لا تتعارض مع المذهب الأول الذي رُوِيَ عن ابن عباس. فيكون نزول القرآن جملة وابتداء نزوله مفرقًا في ليلة القدر من شهر رمضان، وهي الليلة المباركة. فالراجح أن القرآن الكريم له تنزلان: الأول: نزوله جملة واحدة في ليلة القدر إلى بيت العزة من السماء الدنيا. والثاني: نزوله من السماء الدنيا إلى الأرض مفرقًا في ثلاث وعشرين سنة. وقد نقل القرطبي عن مقاتل بن حيان حكاية الإجماع على نزول القرآن جملة واحدة من اللَّوْحِ المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا. ونفى ابن عباس التعارض بين الآيات الثلاث في نزول القرآن والواقع العملي في حياة الرسول -صلى الله عليه وسلم- بنزول القرآن في ثلاث وعشرين سنة بغير شهر رمضان: عن ابن عباس:

_ 1 رواه البخاري ومسلم وغيرهما [والآيات من سورة العلق: 1-5] . 2 أو عشرين، أو خمس وعشرين ليلة قدر، بناء على الخلاف السابق في مدة إقامته بمكة.

"أنه سأله عطية بن الأسود فقال: أوقع في قلبي الشك قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} 1، وقوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} 2, وهذا أنزل في شوال، وفي ذي القعدة، وفي ذي الحجة، وفي المحرم وصفر وشهر ربيع، فقال ابن عباس: إنه أُنزل في رمضان في ليلة القدر جملة واحدة ثم أُنزل على مواقع النجوم3 رَسْلًا4 في الشهور والأيام"5. وأشار بعض العلماء إلى حكمة ذلك في تعظيم شأن القرآن، وتشريف المنزَّل عليه، قال السيوطي: "قيل: السر في إنزاله جملة إلى السماء تفخيم أمره وأمر من نزل عليه، وذلك بإعلام سكان السموات السبع أن هذا آخر الكتب المنزلة على خاتم الرسل لأشرف الأمم قد قربناه إليهم لينزله عليهم. ولولا أن الحكمة الإلهية اقتضت وصوله إليهم مُنَجَّمًا بحسب الوقائع لهبط به إلى الأرض جملة كسائر الكتب المنزَّلة قبله، ولكن الله باين بينه وبينها، فجعل له الأمرين: إنزاله جملة، ثم إنزاله مفرقًا، تشريفًا للمُنَزَّل عليه". وقال السخاوي في جمال القراء: "في نزوله إلى السماء جملة تكريم بني آدم وتعظيم شأنه عند الملائكة وتعريفهم عناية الله بهم، ورحمته لهم، ولهذا المعنى أمر سبعين ألفًا من الملائكة أن تُشَيِّع سورة الأنعام6، وزاد سبحانه في هذا المعنى بأن أمر جبريل بإملائه على السَّفَرَةِ الكرام، وإنساخهم إياه، وتلاوتهم له"7.

_ 1 البقرة: 185. 2 القدر: 1. 3 على مواقع النجوم: أي على مثل مساقطها في نزوله مفرقًا يتلو بعضه بعضًا. 4 رَسْلًا: أي على تُؤدَة ورِفق. 5 أخرجه ابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات. 6 المشيَّع من القرآن: ما نزل منه محفوفًا بالملائكة. أخرج الطبراني وأبو عبيد في فضائل القرآن، عن ابن عباس قال: "نزلت سورة الأنعام بمكة ليلًا جملة حولها سبعون ألف مَلَك يجأرون بالتسبيح". 7 انظر "الإتقان" جـ1 ص40، 41.

4- ومن العلماء مَن يرى أن القرآن نزل أولًا جملة إلى اللَّوح المحفوظ مستدلًَا بقوله تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيد فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} 1.. ثم نزل من اللَّوح المحفوظ جملة كذلك إلى بيت العزة، ثم نزل مفرقًا، فهذه تنزلات ثلاثة. وهذا لا يتعارض مع ما سبق أن رجحناه، فالقرآن الكريم مثبت في اللَّوح المحفوظ شأن سائر المغيبات المثبتة فيه، والقرآن الكريم نزل جملة من اللَّوح المحفوظ إلى بيت العزة من السماء الدنيا -كما رُوِيَ عن ابن عباس- في ليلة القدر، والقرآن الكريم بدأ نزوله مُنَجَّمًا -كما يرى الشعبي- على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الليلة المباركة ليلة القدر من شهر رمضان، إذ لا مانع يمنع من نزوله جملة، ومن ابتداء نزوله على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مفرَّقًا في ليلة واحدة، وبهذا ينتفي التعارض بين الأقوال كلها إذا استثنينا المذهب الاجتهادي الثالث الذي لا دليل له.

_ 1 البروج: 21، 22.

نزول القرآن منجما

نزول القرآن مُنَجَّمًا: يقول تعالى في التنزيل: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ, نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ, عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ, بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} 1. ويقول: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} 2. ويقول: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} 3. ويقول: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِه} 4.

_ 1 الشعراء: 192-195. 2 النحل: 102. 3 الجاثية: 2. 4 البقرة: 23.

ويقول: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} 1. فهذه الآيات ناطقة بأن القرآن الكريم كلام الله بألفاظه العربية، وأن جبريل نزل به على قلب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأن هذا النزول غير النزول الأول إلى سماء الدنيا, فالمراد به نزوله مُنَجَّمًا، ويدل التعبير بلفظ التنزيل دون الإنزال على أن المقصود النزول على سبيل التدرج والتنجيم، فإن علماء اللغة يُفَرِّقون بين الإنزال والتنزيل، فالتنزيل لما نزل مفرقًا، والإنزال أعم2. وقد نزل القرآن مُنَجَّمًا في ثلاث وعشرين سنة منها ثلاث عشرة بمكة على الرأي الراجح، وعشر بالمدينة، وجاء التصريح بنزوله مفرَّقًا في قوله تعالى: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا} 3, أي جعلنا نزوله مفرقًا كي تقرأه على الناس على مهل وتثبت، ونزَّلناه تنزيلًا بحسب الوقائع والأحداث. أما الكتب السماوية الأخرى -كالتوراة والإنجيل والزبور- فكان نزولها جملة، ولم تنزل مفرقة، يدل على هذا قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} 4, فهذه الآية دليل على أن الكتب السماوية السابقة نزلت جملة، وهو ما عليه جمهور العلماء، ولو كان نزولها مفرقًا لما كان هناك ما يدعو الكفار إلى التعجب من نزول القرآن مُنَجَّمًا، فمعنى قولهم: {لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} : هَلَّا أُنزل عليه القرآن دفعة واحدة كسائر الكتب؟ وماله أُنزل على التَّنْجِيمِ؟ ولم أُنزل مفرقًا؟ ولم يرد الله عليهم بأن هذه سُنته في إنزال الكتب السماوية كلها كما رد عليهم في قولهم: {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ} 5, بقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ

_ 1 البقرة: 97. 2 انظر: مفردات الراغب. 3 الإسراء: 106. 4 الفرقان: 32. 5 الفرقان: 7.

الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ} 1، وكما رد عليهم في قولهم: {أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا} 2, بقوله: {قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا} 3, وقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ} 4, بل أجابهم الله تعالى ببيان وجه الحكمة في تنزيل القرآن مُنَجَّمًا بقوله: {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} أي كذلك أنزل مفرَّقًا لحكمة هي: تقوية قلب رسول الله {وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} أي قدرناه آية بعد آية بعضه إثر بعض، أو بيناه تبيينًا، فإن إنزاله مفرقًا حسب الحوادث أقرب إلى الحفظ والفهم وذلك من أعظم أسباب التثبيت. والذي استقرئ من الأحاديث الصحيحة أن القرآن كان ينزل بحسب الحاجة خمس آيات وعشر آيات وأكثر وأقل، وقد صح نزول العشر آيات في قصة الإفك جملة، وصح نزول عشر آيات في أول المؤمنين جملة، وصح نزول: {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} وحدها وهي بعض آية"5.

_ 1 الفرقان: 20. 2 الإسراء: 94. 3 الإسراء: 95. 4 الأنبياء: 7. 5 نقل هذا السيوطي عن "مكي بن أبي طالب" المتوفى سنة 368 هجرية، في كتاب له يسمى "الناسخ والمنسوخ" انظر "الإتقان" جـ1 ص42-[والآية من سورة النساء: 95] .

حكمة نزول القرآن منجما

حكمة نزول القرآن منجما مدخل ... حكمة نزول القرآن مُنَجَّمًا: نستطيع أن نستخلص حكمة نزول القرآن الكريم مُنَجَّمًا من النصوص الواردة في ذلك. ونجملها فيما يأتي:

الحكمة الأولى: تثبيت فؤاد رسول الله صلى الله عليه وسلم

1- الحكمة الأولى: تثبيت فؤاد رسول الله, صلى الله عليه وسلم. لقد وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دعوته إلى الناس، فوجد منهم نفورًا وقسوة، وتصدى له قوم غلاظ الأكباد فُطِروا على الجفوة، وجُبِلوا على العناد,

يتعرضون له بصنوف الأذى والعنت، مع رغبته الصادقة في إبلاغهم الخير الذي يحمله إليهم، حتى قال الله فيه: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} 1. فكان الوحي يتنزل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فترة بعد فترة، بما يثبِّت قلبه على الحق، ويُشْحذ عزمه للمضي قدمًا في طريق دعوته، لا يبالي بظلمات الجهالة التي يواجهها من قومه. فإنها سحابة صيف عما قريب تنقشع. يبيِّن الله له سُنته في الأنبياء السابقين الذين كُذِّبوا وأُوذوا فصبروا حتى جاءهم نصر الله، وأن قومه لم يكذبوه إلا علوًّا واستكبارًا، فيجد عليه الصلاة والسلام في ذلك السٌّنَّة الإلهية في موكب النبوة عبر التاريخ التي يتأسى بها تسلية له إزاء أذى قومه، وتكذيبهم له، وإعراضهم عنه {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ, وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا} 2، {فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ} 3. ويأمره القرآن بالصبر كما صبر الرسل من قبله: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} 4.. ويطمئن نفسه بما تكفل الله به من كفايته أمر المكذِّبين: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا, وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا} 5.. وهذا هو ما جاء في حكمة قصص الأنبياء بالقرآن: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} 6..

_ 1 الكهف: 6. 2 الأنعام: 33، 34. 3 آل عمران: 184. 4 الأحقاف: 35. 5 المزمل: 10، 11. 6 هود: 120.

وكلما اشتد ألم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لتكذيب قومه، وداخله الحزن لأذاهم نزل القرآن دعمًا وتسلية له، يهدد المكذِّبين بأن الله يعلم أحوالهم، وسيجازيهم على ما كان منهم: {فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} 1، {وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} 2. كما يبشره الله تعالى بآيات المنعة والغلبة والنصر: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} 3، {وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا} 4، {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} 5. وهكذا كانت آيات القرآن تتنزل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تباعًا تسلية له بعد تسلية، وعزاء بعد عزاء، حتى لا يأخذ منه الحزن مأخذه ولا يستبد به الأسى، ولا يجد اليأس إلى نفسه سبيلًا، فله في قصص الأنبياء أسوة، وفي مصير المكذِّبين سلوى، وفي العدة بالنصر بُشرى، وكلما عرض له شيء من الحزن بمقتضى الطبع البشري تكررت التسلية، فثبت قلبه على دعوته، واطمأن إلى النصر. وهذه الحكمة هي التي رد الله بها على اعتراض الكفار في تنجيم القرآن بقوله تعالى: {َذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} 6. قال أبو شامة7: "فإن قيل: ما السر في نزوله مُنَجَّمًا؟ وهَلَّا أُنزل كسائر الكتب جملة؟ قلنا: هذا سؤال قد تولى الله جوابه، فقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} 8.. يعنون: كما أُنزل على من قبله من الرسل، فأجابهم تعالى بقوله: {كَذَلِكَ} أي أنزلناه مفرَّقًا {لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} أي لنقوي به قلبك، فإن الوحي إذا كان

_ 1 يس: 76. 2 يونس: 65. 3 المائدة: 67. 4 الفتح: 3. 5 المجادلة: 21. 6 الفرقان: 32. 7 أبو شامة: هو عبد الرحمن بن إسماعيل المقدسي، الفقيه الشافعي، له "الوجيز إلى علوم تتعلق بالقرآن العزيز" و"شرح على الشاطبية" المشهورة في القراءات, توفي سنة 665 هجرية. 8 الفرقان: 32.

يتجدد في كل حادثة كان أقوى للقلب، وأشد عناية بالمرسَل إليه، ويستلزم ذلك كثرة نزول المَلَك إليه، وتجدد العهد به وبما معه من الرسالة الواردة من ذلك الجناب العزيز، فيحدث له من السرور ما تقصر عنه العبارة، ولهذا كان أجود ما يكون في رمضان لكثرة لقياه جبريل"1.

_ 1 انظر "الإتقان" جـ1 ص41.

الحكمة الثانية: التحدي والإعجاز

2- الحكمة الثانية: التحدي والإعجاز. فالمشركون تمادوا في غيهم، وبالغوا في عُتوِّهم، وكانوا يسألون أسئلة تعجيز وتحد يمتحنون بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في نبوته، ويسوقون له من ذلك كل عجيب من باطلهم، كعلم الساعة: {يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ} 1، واستعجال العذاب: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ} 2, فيتنزل القرآن بما يبين وجه الحق لهم، وبما هو أوضح معنى في مؤدى أسئلتهم، كما قال تعالى: {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} 3, أي ولا يأتونك بسؤال عجيب من أسئلتهم الباطلة إلا أتيناك نحن بالجواب الحق، وبما هو أحسن معنًى من تلك الأسئلة التي هي مَثل في البطلان. وحيث عجبوا من نزول القرآن مُنَجَّمًا بيَّن الله لهم الحق في ذلك، فإن تحديهم به مفرقًا مع عجزهم عن الإتيان بمثله أدخل في الإعجاز، وأبلغ في الحجة من أن ينزل جملة ويقال لهم: جيئوا بمثله، ولهذا جاءت الآية عقب اعتراضهم: {لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} أي لا يأتونك بصفة عجيبة يطلبونها كنزول القرآن جملة إلا أعطيناك من الأحوال ما يحق لك في حكمتنا وبما هو أبين معنًى في إعجازهم، وذلك بنزوله مفرقًا، ويشير إلى هذه الحكمة ما جاء ببعض الروايات في حديث ابن عباس عن نزول القرآن: "فكان المشركون إذا أحدثوا شيئًا أحدث الله لهم جوابًا"4.

_ 1 الأعراف: 187. 2 الحج: 47. 3 الفرقان: 33. 4 أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس.

الحكمة الثالثة: تيسير حفظه وفهمه

3- الحكمة الثالثة: تيسير حفظه وفهمه. لقد نزل القرآن الكريم على أمة أمية لا تعرف القراءة والكتابة، سجلها ذاكرة حافظة، ليس لها دراية بالكتابة والتدوين حتى تكتب وتدوِّن، ثم تحفظ وتفهم: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} 1، {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ} 2, فما كان للأمة الأمية أن تحفظ القرآن كله بيسر لو نزل جملة واحدة، وأن تفهم معانيه وتتدبر آياته، فكان نزوله مفرقًا خير عون لها على حفظه في صدورها وفهم آياته، كلما نزلت الآية أو الآيات حفظها الصحابة، وتدبروا معانيها، ووقفوا عند أحكامها، واستمر هذا منهجًا للتعليم في حياة التابعين, عن أبي نضرة قال: "كان أبو سعيد الخدري يعلمنا القرآن خمس آيات بالغداة، وخمس آيات بالعَشي، ويخبر أن جبريل نزل بالقرآن خمس آيات خمس آيات"3، وعن خالد بن دينار قال: "قال لنا أبو العالية: تعلموا القرآن خمس آيات خمس آيات، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يأخذه من جبريل خمسًا خمسًا"4. وعن عمر قال: "تعلموا القرآن خمس آيات خمس آيات، فإن جبريل كان ينزل بالقرآن على النبي -صلى الله عليه وسلم- خمسًا خمسًا"5.

_ 1 الجمعة: 2. 2 الأعراف: 157. 3 أخرجه ابن عساكر. 4 أخرجه البيهقي. 5 أخرجه البيهقي في شعب الإيمان.

الحكمة الرابعة: مسايرة الحوادث والتدرج في التشريع

4- الحكمة الرابعة: مسايرة الحوادث والتدرج في التشريع. فما كان الناس ليسلس قيادهم طفرة للدين الجديد لولا أن القرآن عالجهم بحكمه، وأعطاهم من دوائه الناجع جرعات يستطبون بها من الفساد والرذيلة، وكلما حدثت حادثة بينهم نزل الحكم فيها يُجلِّي لهم صبحها ويرشدهم إلى الهدى، ويضع لهم أصول التشريع حسب المقتضيات أصلًا بعد آخر فكان هذا طبًّا لقلوبهم.

لقد كان القرآن الكريم بادئ ذي بدء يتناول أصول الإيمان بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وما فيه من بعث وحساب وجزاء وجنة ونار، ويقيم على ذلك الحجج والبراهين حتى يستأصل من نفوس المشركين العقائد الوثنية ويغرس فيها عقيدة الإسلام. وكان يأمر بمحاسن الأخلاق التي تزكو بها النفس ويستقيم عوجها، وينهى عن الفحشاء والمنكر ليقتلع جذور الفساد والشر. ويبيِّن قواعد الحلال والحرام التي يقوم عليها صرح الدين، وترسو دعائمه في المطاعم والمشارب والأموال والأعراض والدماء. ثم تدرج التشريع بالأمة في علاج ما تأصل في النفوس من أمراض اجتماعية. بعد أن شرع لهم من فرائض الدين وأركان الإسلام ما يجعل قلوبهم عامرة بالإيمان، خالصة لله، تعبده وحده لا شريك له. كما كان القرآن يتنزل وفق الحوادث التي تمر بالمسلمين في جهادهم الطويل لإعلاء كلمة الله. ولهذا كله أدلته من نصوص القرآن الكريم إذا تتبعنا مكيه ومدنيه وقواعد تشريعه. ففي مكة شُرعت الصلاة، وشُرع الأصل العام للزكاة مقارنًا بالربا: {فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ, وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَا فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} 1. ونزلت سورة الأنعام -وهي مكية- تبيِّن أصول الإيمان، وأدلة التوحيد، وتندد بالشرك والمشركين، وتوضح ما يحل وما يحرم من المطاعم، وتدعو إلى صيانة حرمات الأموال والدماء والأعراض: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ

_ 1 الروم: 38، 39.

عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شيئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ, وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} 1. ثم نزل بعد ذلك تفصيل هذه الأحكام. فأصول المعاملات المدنية نزلت بمكة، ولكن تفصيل أحكامها نزل بالمدينة كآية المداينة وآيات تحريم الربا. وأسس العلاقات الأسرية نزلت بمكة، أما بيان حقوق كل من الزوجين، وواجبات الحياة الزوجية، وما يترتب على ذلك من استمرار العشرة أو انفصامها بالطلاق، أو انتهائها بالموت ثم الإرث، أما بيان هذا فقد جاء في التشريع المدني. وأصل الزنا حُرم بمكة: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} 2, ولكن العقوبات المترتبة عليه نزلت بالمدينة. وأصل حرمة الدماء نزل بمكة: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} 3, ولكن تفصيل عقوباتها في الاعتداء على النفس والأطراف تزل بالمدينة. وأوضح مثال لذلك التدرج في التشريع: تحريم الخمر. فقد نزل قوله تعالى: {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} 4, في مقام

_ 1 الأنعام: 151، 152. 2 الإسراء: 32. 3 الإسراء: 33. 4 النحل: 67.

الامتنان بنعمه سبحانه - وإذا كان المراد بالسُّكْر ما يُسْكِر من الخمر، وبالرزق ما يؤكل من هاتين الشجرتين كالتمر والزبيب - وهذا ما عليه جمهور المفسرين - فإن وصف الرزق بأنه حسن دون وصف السُّكْر يُشعر بمدح الرزق والثناء عليه وحده دون السُّكْر. ثم نزل قوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} 1, فقارنت الآية بين منافع الخمر فيما يصدر عن شربها من طرب ونشوة أو يترتب على الاتجار بها من ربح، ومضارها في إثم تعاطيها وما ينشأ عنه من ضرر في الجسم، وفساد في العقل، وضياع للمال وإثارة لبواعث الفجور والعصيان، ونفَّرت الآية منها بترجيح المضار على المنافع. ثم نزل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} 2, فاقتضى هذا الامتناع عن شرب الخمر في الأوقات التي يستمر تأثيرها إلى وقت الصلاة، حيث جاء النهي عن قربان الصلاة في حال السُّكْر حتى يزول عنهم أثره ويعلموا ما يقولونه في صلاتهم. ثم نزل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ} 3. فكان هذا تحريمًا قاطعًا للخمر في الأوقات كلها: ويوضح هذه الحكمة ما رُوِي عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المُفصَّل فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء: "لا تشربوا الخمر" لقالوا: لا ندع الخمر أبدًا، ولو نزل: "لا تزنوا" لقالوا: "لا ندع الزنا أبدًا"4.

_ 1 البقرة: 219. 2 النساء: 43. 3 المائدة: 90، 91. 4 أخرجه البخاري.

وهكذا كان التدرج في تربية الأمة وفق ما يمر بها من أحداث، فقد استشار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صحابته في أسرى بدر، فقال عمر: اضرب أعناقهم، وقال أبو بكر: أرى أن تعفو عنهم وأن تقبل منهم الفداء، وأخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- برأي أبي بكر، فنزل قوله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ, لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} 1. وأعجب المسلمون بكثرتهم يوم حنين حتى قال رجل: لن نُغْلَب من قلة، فتلقوا درسًا قاسيًا في ذلك، ونزل قوله تعالى: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شيئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ, ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ, ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 2. ولما توفي عبد الله بن أُبَيٍّ -رأس المنافقين- "دُعي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للصلاة عليه، فقام عليه، فلما وقف قال عمر: أعلى عدو الله عبد الله بن أُبَي القائل كذا وكذا، والقائل كذا وكذا؟ يُعَدِّد أيامه. ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يبتسم، ثم قال له: "إني قد خُيرت، قد قيل لي: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} 3, فلو أعلم أني إن زدت على السبعين غُفر له لزدت عليها" ثم صلى عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومشى معه حتى قام على قبره حتى فُرِغ منه، قال عمر: فعجبت لي ولجرأتي على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والله ورسوله أعلم، فوالله ما كان إلا يسيرًا حتى نزلت هاتان الآيتان: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا

_ 1 من حديث أخرجه أحمد عن أنس [والآيتان من سورة الأنفال: 67، 68] . 2 أخرجه البيهقي في الدلائل [والآيات من سورة التوبة: 25-27] . 3 التوبة: 80.

بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ, وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} فما صلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على منافق بعد حتى قبضه الله عز وجل"1. وحين تخلَّف نفر من المؤمنين الصادقين في غزوة تبوك، وأقاموا بالمدينة، ولم يجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لديهم عذرًا هجرهم وقاطعهم حتى ضاقوا ذرعًا بالحياة ثم نزل القرآن لقبول توبتهم: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ, وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} 2. ويشير إلى هذا ما رُوِي عن ابن عباس في نزول القرآن: "ونزَّله جبريل بجواب كلام العباد وأعمالهم"3.

_ 1 أخرجه البخاري وأحمد والنَّسائي والترمذي وابن ماجه وغيرهم [والآيتان من سورة التوبة: 84، 58] . 2 من حديث طويل أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما، والثلاثة هم: كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة بن الربيع، وكلهم من الأنصار [والآيتان من سورة التوبة: 117، 118] . 3 أخرجه الطبراني والبزَّار عن ابن عباس، وأخرجه ابن أبي حاتم من وجه آخر.

الحكمة الخامسة: الدلالة القاطعة على أن القرآن الكريم تنزيل من حكيم حميد

5- الحكمة الخامسة: الدلالة القاطعة على أن القرآن الكريم تنزيل من حكيم حميد. إن هذا القرآن الذي نزل مُنَجَّمًا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أكثر من عشرين عامًا تنزل الآية أو الآيات على فترات من الزمن يقرؤه الإنسان ويتلو سوره فيجده محكم النسج، دقيق السبك، مترابط المعاني، رصين الأسلوب، متناسق الآيات والسور، كأنه عقد فريد نظمت حباته بما لم يُعهد له مثيل في كلام البشر: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} 1. ولو

_ 1 هود: 1.

كان هذا القرآن من كلام البَشر قيل في مناسبات متعددة، ووقائع متتالية، وأحداث متعاقبة، لوقع فيه التفكك والانفصام، واستعصى أن يكون بينه التوافق والانسجام: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} 1. فأحاديث رسول الله, صلى الله عليه وسلم -وهي في ذروة الفصاحة والبلاغة بعد القرآن الكريم- لا تنتظم حباتها في كتاب واحد سلس العبارة يأخذ بعضه برقاب بعض في وحدة وترابط بمثل ما عليه القرآن الكريم أو ما يدانيه اتساقًا وانسجامًا. فكيف بكلام سائر البشر وأحاديثهم: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} 2.

_ 1 النساء: 82. 2 انظر هذه الحكمة في مناهل العرفان للزرقاني جـ1 ص54 [والآية من سورة الإسراء: 88] .

الاستفادة من نزول القرآن منجما في التربية والتعليم

الاستفادة من نزول القرآن مُنَجَّمًا في التربية والتعليم: تعتمد العملية التعليمية على أمرين أساسيين: مراعاة المستوى الذهني للطلاب. وتنمية قدراتهم العقلية والنفسية والجسمية بما يوجهها وجهة سديدة إلى الخير والرشاد. ونحن نلحظ في حكمة نزول القرآن مُنَجَّمًا ما يفيدنا في مراعاة هذين الأمرين على النحو الذي ذكرناه آنفًا، فإن نزول القرآن الكريم تدرج في تربية الأمة الإسلامية تدرجًا فطريًّا لإصلاح النفس البشرية، واستقامة سلوكها، وبناء شخصيتها، وتكامل كيانها، حتى استوت على سوقها، وآتت أكلها الطيب بإذن ربها لخير الإنسانية كافة. وكان تنجيم القرآن خير عون لها على حفظه وفهمه ومدارسته وتدبر معانيه، والعمل بما فيه.

وبين نزول القرآن في مطلع الوحي بالقراءة والتعليم بأداة الكتابة: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ, خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ, اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ, الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ, عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} 1, ونزول آيات الربا والمواريث في نظام المال، أو نزول آيات القتال في المفاصلة التامة بين الإسلام والشرك - بين ذاك وهذا مراحل تربوية كثيرة لها أساليبها التي تلائم مستوى المجتمع الإسلامي في تدرجه من الضعف إلى القوة، ومن القوة إلى شدة البأس. والمنهج الدراسي الذي لا يُراعى فيه المستوى الذهني للطلاب في كل مرحلة من مراحل التعليم وبناء جزئيات العلوم على كلياتها والانتقال من الإجمال إلى التفصيل، أو لا يراعي تنمية جوانب الشخصية العقلية والنفسية والجسمية منهج فاشل لا تجني منه الأمة ثمرة علمية سوى الجمود والتخلف. والمدرس الذي لا يعطي طلابه القدر المناسب من المادة العلمية فيُثْقِل كاهلهم ويحملهم ما لا يطيقون حفظًا أو فهمًا أو يحدثهم بما لا يدركون، أو لا يراعي حالهم في علاج ما يعرض لهم من شذوذ خُلُقي أو يفشو من عادات سيئة، فيقسو ويتعسف، ويأخذ الأمر دون أناة وروية، وتدرج وحكمة - المدرس الذي يفعل ذلك مدرس فاشل كذلك. يُحوِّل العملية التعليمية إلى متاهات موحشة، ويجعل غرف الدراسة قاعات منفرة. وقِسْ على هذا الكتاب المدرسي، فالكتاب الذي لا تنتظم موضوعاته وفصوله، ولا تتدرج معلوماته من السهل إلى الصعب، ولا تترتب جزئياته ترتيبًا محكمًا منسقًا، ولا يكون أسلوبه واضحًا في أداء المعنى المقصود، كتاب ينفر الطالب من قراءته، ويحرمه من الاستفادة منه. والهَدْي الإلهي في حكمة نزول القرآن مُنَجَّمًا هو الأسوة الحسنة في صياغة مناهج التعليم, والأخذ بأمثل الطرق في الأساليب التربوية بقاعة الدرس، وتأليف الكتاب المدرسي.

_ 1 العلق: 1-5.

جمع القرآن وترتيبه

جمع القرآن وترتيبه مدخل ... 8- جمع القرآن وترتيبه: يُطلق جمع القرآن ويُراد به عند العلماء أحد معنيين.. المعنى الأولى: جمعه بمعنى حفظه، وجماع القرآن: حفاظه، وهذا المعنى هو الذي ورد في قوله تعالى في خطابه لنبيه -صلى الله عليه وسلم- وقد كان يحرِّك شفتيه ولسانه بالقرآن إذا نزل عليه قبل فراغ جبريل من قراءة الوحي حرصًا على أن يحفظه: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ, إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ, فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ, ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} 1, عن ابن عباس قال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعالج من التنزيل شدة، فكان يحرِّك به لسانه وشفتيه مخافة أن ينفلت منه، يريد أن يحفظه، فأنزل الله: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ, إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} قال: يقول إن علينا أن نجمعه في صدرك ثم نقرأه: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ} يقول: إذا أنزلناه عليك: {فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} فاستمع له وأنصت {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} أن نبينه بلسانك. وفي لفظ: علينا أن نقرأه، فكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد ذلك إذا أتاه جبريل أطرق -وفي لفظ: استمع- فإذا ذهب قرأه كما وعد الله2. المعنى الثاني: جمع القرآن بمعنى كتابته كله، مفرَّق الآيات والسور، أو مرتب الآيات فقط، وكل سورة، في صحيفة على حدة، أو مرتب الآيات والسور في صحائف مجتمعة تضم السور جميعًا وقد رُتِّب إحداها بعد الأخرى.

_ 1 القيامة: 16-19. 2 أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عباس.

جمع القرآن بمعنى حفظه على عهد النبي صلى الله عليه وسلم

1- "أ" جمع القرآن بمعنى حفظه على عهد النبي, صلى الله عليه وسلم: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مولعًا بالوحي، يترقب نزوله عليه بشوق، فيحفظه ويفهمه، مصداقًا لوعد الله: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} 1, فكان بذلك

_ 1 القيامة: 17.

أول الحُفَّاظ، ولصحابته فيه الأسوة الحسنة، شغفًا بأصل الدين ومصدر الرسالة، وقد نزل القرآن في بضع وعشرين سنة، فربما نزلت الآية المفردة، وربما نزلت آيات عدة إلى عشر، وكلما نزلت آية حُفِظت في الصدور، ووعتها القلوب، والأمة العربية كانت بسجيتها قوية الذاكرة، تستعيض عن أميتها في كتابة أخبارها وأشعارها وأنسابها بسجل صدورها. وقد أورد البخاري في صحيحه بثلاث روايات سبعة من الحفَّاظ، هم: عبد الله بن مسعود، وسالم بن معقل مولى أبي حذيفة، ومعاذ بن جبل، وأُبَيُّ بن كعب، وزيد بن ثابت، وأبو زيد بن السكن، وأبو الدرداء. 1- عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: "سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "خذوا القرآن من أربعة: من عبد الله بن مسعود، وسالم، ومعاذ، وأُبَيِّ بن كعب" 1, وهؤلاء الأربعة: اثنان من المهاجرين هما: عبد الله بن مسعود وسالم، واثنان من الأنصار هما: معاذ وأُبَي. 2- وعن قتادة قال: "سألت أنس بن مالك: مَن جمع القرآن على عهد رسول الله, صلى الله عليه وسلم؟ فقال: أربعة، كلهم من الأنصار: أُبَي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد، قلت: مَن أبو زيد؟ قال: أحد عمومتي"2. 3- ورُوِي من طريق ثابت عن أنس كذلك قال: "مات النبي -صلى الله عليه وسلم- ولم يجمع القرآن غير أربعة: أبو الدرداء، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد"3. وأبو زيد المذكور في هذه الأحاديث جاء بيانه فيما نقله ابن حجر بإسناد على شرط البخاري عن أنس: أن أبا زيد الذي جمع القرآن اسمه: قيس بن السكن، قال: وكان رجلًا منا من بني عدي بن النجار أحد عمومتي، ومات ولم يدع عقبًا ونحن ورثناه.

_ 1 رواه البخاري. 2 رواه البخاري. 3 رواه البخاري.

وبين ابن حجر في ترجمة سعيد بن عبيد أنه من الحفاظ، وأنه كان يُلقَّب بالقارئ1. وذكر هؤلاء الحفاظ السبعة. أو الثمانية، لا يعني الحصر، فإن النصوص الواردة في كتب السير والسُّنن تدل على أن الصحابة كانوا يتنافسون في حفظ القرآن، ويُحَفِّظونه أزواجهم وأولادهم. ويقرءون به في صلواتهم بجوف الليل، حتى يُسمع لهم دوي كدوي النحل، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يمر على بيوت الأنصار، ويستمع إلى ندى أصواتهم بالقراءة في بيوتهم، عن أبي موسى الأشعري: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال له: "لو رأيتني البارحة وأنا أستمع لقراءتك؟ لقد أُعْطِيتَ مزمارًا من مزامير داود" 2. وعن عبد الله بن عمرو قال: جمعتُ القرآن، فقرأتُ به كل ليلة، فبلغ النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "اقرأه في شهر" 3. وعن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله, صلى الله عليه وسلم: "إني لأعرف رفقة الأشعريين بالليل حين يدخلون، وأعرف منازلهم من أصواتهم بالقرآن بالليل، وإن كنت لم أر منازلهم حين نزلوا بالنهار" 4. ومع حرص الصحابة على مدارسة القرآن واستظهاره فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يشجعهم على ذلك، ويختار لهم مَن يعلمهم القرآن، عن عبادة بن الصامت قال: "كان الرجل إذا هاجر دفعه النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى رجل منا يعلمه القرآن، وكان يُسْمَعُ لمسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ضجة بتلاوة القرآن، حتى أمرهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يخفضوا أصواتهم لئلا يتغالطوا"5.

_ 1 الإصابة، جـ2 ص28. 2 رواه البخاري، وفي رواية لمسلم بزيادة: "فقلت: لو علمتُ والله يا رسول الله أنك تسمع لقراءتي لحبَّرته لك تحبيرًا". 3 أخرجه النَّسائي بسند صحيح. 4 رواه البخاري ومسلم. 5 مناهل العرفان للزرقاني، جـ1 ص234.

فهذا الحصر للسبعة المذكورين من البخاري بالروايات الثلاث الآنفة الذكر محمول على أن هؤلاء هم الذين جمعوا القرآن كله في صدورهم، وعرضوه على النبي -صلى الله عليه وسلم- واتصلت بنا أسانيدهم، أما غيرهم من حفظة القرآن -وهم كثر- فلم يتوافر فيهم هذه الأمور كلها، لا سيما وأن الصحابة تفرقوا في الأمصار، وحفظ بعضهم عن بعض، ويكفي دليلًا على ذلك أن الذين قُتلوا في بئر مَعونة من الصحابة كان يُقال لهم القُرَّاء، وكانوا سبعين رجلًا كما في الصحيح، قال القرطبي: "قد قُتِلَ يوم اليمامة سبعون من القرَّاء وقُتل في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- ببئر معونة مثل هذا العدد" وهذا هو ما فهمه العلماء وأوَّلوا به الأحاديث الدالة على حصر الحُفَّاظ في السبعة المذكورين، قال الماوردي1 معلقًا على رواية أنس: "لم يجمع القرآن غير أربعة": "لا يلزم من قول أنس: لم يجمعه غيرهم أن يكون الواقع في نفس الأمر كذلك, لأن التقدير أنه لا يعلم أن سواهم جمعه، وإلا فكيف الإحاطة بذلك مع كثرة الصحابة وتفرقهم في البلاد وهذا لا يتم إلا إن كان لقي كل واحد منهم على انفراده، وأخبره عن نفسه أنه لم يكمل له جمع في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- وهذا في غاية البعد في العادة، وإذا كان المرجع إلى ما في علمه لم يلزم أن يكون الواقع كذلك، وليس من شرط التواتر أن يحفظ كل فرد جميعه، بل إذا حفظ الكل الكل ولو على التوزيع كفى"2. والماوردي بهذا ينفى الشُّبْه التي توهم قلة عدد الحفَّاظ بأسلوب مقنع، ويبيِّن الاحتمالات الممكنة لصيغة الحصر في حديث أنس بيانًا شافيًا. وقد ذكر أبو عبيد3 في كتاب "القراءات" القرَّاء من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-

_ 1 هو أبو الحسن علي بن حبيب الشافعي، صاحب كتاب "الأحكام السلطانية" وكتاب "أدب الدنيا والدين" توفي سنة 450 هجرية. 2 يرد الماوردي بالفقرة الأخيرة على الملاحدة الذين يتمسكون برواية أنس الدالة على الحصر في أن القرآن غير متواتر، ونضيف إلى رد الماوردي عليهم أنه بجانب الحفظ كانت الكتابة كما سيأتي، وانظر "الإتقان" جـ1 ص72. 3 أبو عبيد: هو القاسم بن سلام الهروي الأزدي الخزاعي، من أئمة الحديث واللغة، صاحب كتاب "الأموال" المشهور، توفي سنة 224 هجرية.

فعدَّ من المهاجرين: الخلفاء الأربعة، وطلحة، وسعدًا, وابن مسعود، وحذيفة، وسالمًا، وأبا هريرة، وعبد الله بن السائب، والعبادلة1، وعائشة، وحفصة، وأم سلمة. ومن الأنصار: عبادة بن الصامت. ومعاذًا الذي يُكنَّى أبا حليمة، ومجمع بن جارية، وفضالة بن عبيد، ومسلمة بن مخلد، وصرَّح بأن بعضهم إنما كمَّله بعد النبي, صلى الله عليه وسلم2. وذكر الحافظ الذهبي3 في "طبقات القرَّاء" أن هذا العدد من القرَّاء هم الذين عرضوه على النبي -صلى الله عليه وسلم- واتصلت بنا أسانيدهم، وأما مَن جمعه منهم ولم يتصل بنا سندهم فكثير. ومن هذه النصوص يتبين لنا أن حفظة القرآن في عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- كانوا جمعًا غفيرًا، فإن الاعتماد على الحفظ في النقل من خصائص هذه الأمة، قال ابن الجزري4 شيخ القرَّاء في عصره: "إن الاعتماد في نقل القرآن على حفظ القلوب والصدور، لا على خط المصاحف والكتب أشرف خصيصة من الله تعالى لهذه الأمة".

_ 1 العبادلة الأربعة المشهورون بالإفتاء هم: عبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير. 2 انظر الإتقان جـ1 ص72. 3 اسمه محمد بن أحمد بن عثمان من كبار المحدِّثين في القرن الثامن، توفي سنة 748 هجرية. 4 هو محمد بن محمد الشهير بابن الجزري، صاحب كتاب "النشر في القراءات العشر" توفي سنة 833 هجرية.

جمع القرآن بمعنى كتابته على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم

ب- جمع القرآن بمعنى كتابته على عهد الرسول, صلى الله عليه وسلم: اتخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كتَّابًا للوحي من أجلَّاء الصحابة. كعلي، ومعاوية، وأُبَي بن كعب، وزيد بن ثابت، تنزل الآية فيأمرهم بكتابتها، ويرشدهم إلى موضعها من سورتها، حتى تُظاهِر الكتابة في السطور، الجمع في الصدور.

كما كان بعض الصحابة يكتبون ما ينزل من القرآن ابتداء من أنفسهم، دون أن يأمرهم النبي -صلى الله عليه وسلم- فيخطونه في العسب، واللِّخاف، والكرانيف، والرقاع، والأقتاب، وقطع الأديم، والأكتاف1، عن زيد بن ثابت قال: "كنا عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نُؤلِّف القرآن من الرقاع"2. وهذا يدل على مدى المشقة التي كان يتحملها الصحابة في كتابة القرآن، حيث لم تتيسر لهم أدوات الكتابة إلا بهذه الوسائل، فأضافوا الكتابة إلى الحفظ. وكان جبريل يعارض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالقرآن كل سنة في ليالي رمضان، عن عبد الله بن عباس, رضي الله عنهما: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه جبريل في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلرسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة"3. وكان الصحابة يعرضون على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما لديهم من القرآن حفظًا وكتابة كذلك. ولم تكن هذه الكتابة في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- مجتمعة في مصحف عام، بل عند هذا ما ليس عند ذاك، وقد نقل العلماء أن نفرًا منهم: علي بن أبي طالب، ومعاذ بن جبل، وأُبَي بن كعب، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن مسعود – قد

_ 1 العسب: جمع عسيب، وهو جريد النخل، كانوا يكشطون الخوص ويكتبون في الطرف العريض، واللِّخاف: جمع لخفة، وهي صفائح الحجارة، والكرانيف: جمع كرنافة، وهي أصول السعف الغلاظ، والرقاع: جمع رقعة، وقد تكون من جلد أو رق، والأقتاب: جمع قتب، وهو الخشب الذي يوضع على ظهر البعير ليُركب عليه، والأكتاف: جمع كتف، وهو العظم الذي للبعير أو الشاة، كانوا إذا جف كتبوا عليه. 2 أخرجه الحاكم في المستدرك بسند على شرط الشيخين، نؤلِّف القرآن: أي نجمعه: لترتيب آياته. 3 متفق عليه.

جمعوا القرآن كله على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وذكر العلماء أن زيد بن ثابت كان عرضه متأخرًا عن الجميع. وقُبِضَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والقرآن محفوظ في الصدور، ومكتوب في الصحف على نحو ما سبق، مفرَّق الآيات والسور، أو مرتب الآيات فقط وكل سورة في صحيفة على حدة، بالأحرف السبعة الواردة1، ولم يُجمع في مصحف عام، حيث كان الوحي يتنزل تباعًا فيحفظه القراء، ويكتبه الكتبة، ولم تدع الحاجة إلى تدوينه في مصحف واحد، لأنه عليه الصلاة والسلام كان يترقب نزول الوحي من حين لآخر، وقد يكون منه الناسخ لشيء نزل من قبل، وكتابة القرآن لم يكن ترتيبها بترتيب النزول بل تُكتب الآية بعد نزولها حيث يشير -صلى الله عليه وسلم- إلى موضع كتابتها بين آية كذا وآية كذا في سورة كذا، ولو جُمع القرآن كله بين دفتي مصحف واحد لأدى هذا إلى التغيير كلما نزل شيء من الوحي, قال الزركشي: "وإنما لم يُكتب في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- مصحف لئلا يُفضي إلى تغييره في كل وقت، فلهذا تأخرت كتابته إلى أن كمل نزول القرآن بموته, صلى الله عليه وسلم" وبهذا يُفسَّر ما رُوِيَ عن زيد بن ثابت، قال: "قُبِضَ النبي -صلى الله عليه وسلم- ولم يكن القرآن جُمع في شيء" أي لم يكن جُمع مرتب الآيات والسور في مصحف واحد، قال الخطابي: "إنما لم يجمع -صلى الله عليه وسلم- القرآن في المصحف لما كان يترقبه من ورود ناسخ لبعض أحكامه أو تلاوته، فلما انقضى نزوله بوفاته ألهم الله الخلفاء الراشدين ذلك، وفاء بوعده الصادق بضمان حفظه على هذه الأمة2 فكان ابتداء ذلك على يد الصديق بمشورة عمر"3. ويسمى هذا الجمع في عهد النبي, صلى الله عليه وسلم: أ- حفظًا، ب- وكتابة: "الجمع الأول".

_ 1 سيأتي بيان الأحرف السبعة. 2 إشارة إلى قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] . 3 انظر الإتقان جـ1 ص57.

جمع القرآن في عهد أبي بكر رضي الله عنه

2- جمع القرآن في عهد أبي بكر, رضي الله عنه: قام أبو بكر بأمر الإسلام بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وواجهته أحداث جسام في ارتداد جمهرة العرب، فجهَّز الجيوش وأوفدها لحروب المرتدين، وكانت غزوة أهل اليمامة سنة اثنتي عشرة للهجرة تضم عددًا كبيرًا من الصحابة القرَّاء، فاستشهد في هذه الغزوة سبعون قارئًا من الصحابة، فهال ذلك عمر بن الخطاب، ودخل على أبي بكر -رضي الله عنه- وأشار عليه بجمع القرآن وكتابته خشية الضياع، فإن القتل قد استحر1 يوم اليمامة بالقرَّاء - ويُخشى إن استحر بهم في المواطن الأخرى أن يضيع القرآن ويُنْسَى، فنفر أبو بكر من هذه المقالة وكبر عليه أن يفعل ما لم يفعله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وظل عمر يراوده حتى شرح الله صدر أبي بكر لهذا الأمر، ثم أرسل إلى زيد بن ثابت لمكانته في القراءة والكتابة والفهم والعقل، وشهوده العرضة الأخيرة، وقصَّ عليه قول عمر - فنفر زيد من ذلك كما نفر أبو بكر من قبل، وتراجعا حتى طابت نفس زيد للكتابة، وبدأ زيد بن ثابت في مهمته الشاقة معتمدًا على المحفوظ في صدور القرَّاء، والمكتوب لدى الكتبة، وبقيت تلك الصحف عند أبي بكر، حتى إذا توفي سنة ثلاث عشرة للهجرة صارت بعده إلى عمر، وظلت عنده حتى مات - ثم كانت عند حفصة ابنته صدرًا من ولاية عثمان حتى طلبها عثمان من حفصة. عن زيد بن ثابت قال: "أرسل إليَّ أبو بكر مقتل أهل اليمامة، فإذا عمر بن الخطاب عنده، فقال أبو بكر: إن عمر أتاني فقال: إن القتل قد استحر يوم اليمامة بقرًّاء القرآن، وإني أخشى أن يستحر القتل بالقرَّاء في المواطن فيذهب كثير من القرآن، وإني أريد أن تأمر بجمع القرآن، فقلت لعمر: كيف نفعل شيئًا لم يفعله رسول الله, صلى الله عليه وسلم؟ قال: عمر: هو والله خير، فلم يزل يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك، ورأيت في ذلك الذي رأى عمر - قال زيد: قال: أبو بكر: إنك شاب عاقل لا نتهمك، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-

_ 1 استحر: اشتد.

فتتبع القرآن فاجمعه، فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل مما أمرني به من جمع القرآن، قلت: كيف تفعلان شيئًا لم يفعله رسول الله, صلى الله عليه وسلم؟ قال: هو والله خير، فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح الله له صدر أبي بكر وعمر، فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللِّخاف وصدور الرجال، ووجدتُ آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري، لم أجدها مع غيره {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} 1, حتى خاتمة براءة، فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله، ثم عند عمر حياته، ثم عند حفصة بنت عمر"2. وقد راعى زيد بن ثابت نهاية التثبت، فكان لا يكتفي بالحفظ دون الكتابة، وقوله في الحديث: "ووجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري لم أجدها مع غيره" لا ينافي هذا، ولا يعني أنها ليست متواترة، وإنما المراد أنه لم يجدها مكتوبة عند غيره، وكان زيد يحفظها، وكان كثير من الصحابة يحفظونها كذلك، لأن زيدًا كان يعتمد على الحفظ والكتابة معًا، فكانت هذه الآية محفوظة عند كثير منهم، ويشهدون بأنها كُتِبت، ولكنها لم توجد مكتوبة إلا عند أبي خزيمة الأنصاري. أخرج ابن أبي داود3 من طريق يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب قال: "قدم عمر فقال: مَن كان تلقى من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شيئًا من القرآن فليأت به، وكانوا يكتبون ذلك في الصحف والألواح والعسب، وكان لا يقبل من أحد شيئًا حتى يشهد شهيدان" وهذا يدل على أن زيدًا كان لا يكتفي بمجرد وجدانه مكتوبًا حتى يشهد به مَن تلقَّاه سماعًا، مع كون زيد كان يحفظ، فكان يفعل ذلك مبالغة من الاحتياط، وأخرج ابن أبي داود أيضًا من طريق هشام بن عروة

_ 1 التوبة: 128. 2 أخرجه البخاري. 3 هو عبد الله بن سليمان بن الأشعث الأزدي السجستاني، من كبار حفَّاظ الحديث، له من الكتب: المصاحف، والمسند، والسُّنن، والتفسير، والقراءات، والناسخ والمنسوخ - انظر الأعلام للزركلي، جـ4 ص224.

عن أبيه: أن أبا بكر قال لعمر ولزيد: اقعدا على باب المسجد فمن جاءكما بشاهدين على شيء من كتاب الله فاكتباه" ورجاله ثقات مع انقطاعه، قال ابن حجر: "وكأن المراد بالشاهدين: الحفظ والكتاب" وقال السخاوي1 في "جمال القراء": "والمراد أنهما يشهدان على أن ذلك المكتوب كُتِب بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو المراد أنهما يشهدان على أن ذلك من الوجوه التي نزل بها القرآن" قال أبو شامة: "وكان غرضهم أن لا يُكتب إلا من عين ما كُتِبَ بين يدي النبي -صلى الله عليه وسلم- لا من مجرد الحفظ، ولذلك قال في آخر سورة التوبة: "لم أجدها مع غيره" أي لم أجدها مكتوبة مع غيره لأنه كان لا يكتفي بالحفظ دون الكتابة"2. وقد عرفنا أن القرآن كان مكتوبًا من قبل في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- ولكنه كان مفرَّقًا في الرقاع والأكتاف والعسب. فأمر أبو بكر بجمعه في مصحف واحد مرتب الآيات والسور وأن تكون كتابته غاية من التثبيت مشتملة على الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن، فكان أبو بكر -رضي الله عنه- أول مَن جمع القرآن بهذه الصفة في مصحف، وإن وُجِدَت مصاحف فردية عند بعض الصحابة، كمصحف علي، ومصحف أُبَي، ومصحف ابن مسعود، فإنها لم تكن على هذا النحو، ولم تنل حظها من التحري والدقة، والجمع والترتيب، والاقتصار على ما لم تُنسخ تلاوته، والإجماع عليها، بمثل ما نال مصحف أبي بكر، فهذه الخصائص تميَّز بها جمع أبي بكر للقرآن، ويرى بعض العلماء أن تسمية القرآن بالمصحف نشأت منذ ذلك الحين في عهد أبي بكر بهذا الجمع، وعن علي قال: "أعظم الناس أجرًا في المصاحف أبو بكر، رحمة الله على أبي بكر، هو أول مَن جمع كتاب الله". وهذا الجمع هو المسمى بالجمع الثاني.

_ 1 هو علي بن محمد بن عبد الصمد المشهور بالسخاوي، له منظومة في القراءات تعرف بالسخاوية، توفي سنة 643 هجرية. 2 انظر الإتقان جـ1 ص58.

جمع القرآن في عهد عثمان رضي الله عنه

3- جمع القرآن في عهد عثمان, رضي الله عنه: اتسعت الفتوحات الإسلامية، وتفرَّق القرَّاء في الأمصار، وأخذ أهل كل مِصر عمن وفد إليهم قراءته، ووجوه القراءة التي يؤدون بها القرآن مختلفة باختلاف الأحرف التي نزل عليها، فكانوا إذا ضمهم مجمع أو موطن من مواطن الغزو عجب البعض من وجوه هذا الاختلاف، وقد يقنع بأنها جميعًا مسندة إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولكن هذا لا يحول دون تسرب الشك للناشئة التي لم تدرك الرسول، فيدور الكلام حول فصيحها وأفصحها، وذلك يؤدي إلى الملاحاة إن استفاض أمره ومردوا عليه، ثم إلى اللجاج والتأثيم، وتلك فتنة لا بد لها من علاج. فلما كانت غزوة "أرمينية" وغزوة "أذربيجان" من أهل العراق، كان فيمن غزاهما "حذيفة بن اليمان" فرأى اختلافًا كثيرًا في وجوه القراءة، وبعض ذلك مشوب باللحن، مع إلف كل لقراءته، ووقوفه عندها، ومماراته مخالفة لغيره، وتكفير بعضهم الآخر، حينئذ فزع إلى عثمان -رضي الله عنه- وأخبره بما رأى، وكان عثمان قد نمى إليه أن شيئًا من ذلك الخلاف يحدث لمن يُقرئون الصبية، فينشأ هؤلاء وبينهم من الاختلاف ما بينهم، فأكبر الصحابة هذا الأمر مخافة أن ينجم عنه التحريف والتبديل، وأجمعوا أمرهم أن ينسخوا الصحف الأولى التي كانت عند أبي بكر، ويجمعوا الناس عليها بالقراءات الثابتة على حرف واحد، فأرسل عثمان إلى حفصة، فأرسلت إليه بتلك الصحف، ثم أرسل إلى زيد بن ثابت الأنصاري، وإلى عبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام القرشيين، فأمرهم أن ينسخوها في المصاحف، وأن يُكتب ما اختلف فيه زيد مع رهط القرشيين الثلاثة بلسان قريش فإنه نزل بلسانهم. عن أنس: "أن حذيفة بن اليمان قَدِمَ على عثمان، وكان يغازي أهل الشام في أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق، فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة،

فقال لعثمان، أدرك الأمة قبل أن يختلفوا اختلاف اليهود والنصارى، فأرسل إلى حفصة أن أرسلي إلينا الصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليكِ، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان، فأمر زيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فنسخوها في المصاحف، وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش فإنه إنما نزل بلسانهم، ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة، وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يُحرق، قال زيد: آية من الأحزاب حين نسخنا المصحف قد كنت أسمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقرأ بها، فالتمسناها فوجدناها مع خزيمة بن ثابت الأنصاري: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} 1, فألحقناها في سورتها في المصحف2. ودلت الآثار على أن الاختلاف في وجوه القراءة لم يفزع منه حذيفة بن اليمان وحده، بل شاركه غيره من الصحابة في ذلك، عن ابن جرير قال: "حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية، قال: حدثنا أيوب، عن أبي قلابة، قال: لما كان في خلافة عثمان جعل المعلم يُعلِّم قراءة الرجل، والمعلم يُعلِّم قراءة الرجل. فجعل الغلمان يلتقون فيختلفون، حتى ارتفع ذلك إلى المعلِّمين -قال أيوب: فلا أعلمه إلا قال- حتى كفر بعضهم بقراءة بعض، فبلغ ذلك عثمان. فقام خطيبًا فقال: "أنتم عندي تختلفون فيه وتلحنون، فمن نأى عني من أهل الأمصار أشد فيه اختلافًا وأشد لحنًا، اجتمعوا يا أصحاب محمد فاكتبوا للناس إمامًا" قال أبو قلابة: فحدثني أنس بن مالك قال: كنت فيمن يُمْلَى عليهم، قال: فربما اختلفوا في الآية فيذكرون الرجل قد تلقاها من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولعله أن يكون غائبًا في بعض البوادي، فيكتبون ما قبلها وما

_ 1 الأحزاب: 23. 2 رواه البخاري.

بعدها، ويدعون موضعها، حتى يجيء أو يرسل إليه، فلما فرغ من المصحف كتب عثمان إلى أهل الأمصار: إني قد صنعت كذا وكذا، ومحوت ما عندي، فامحوا ما عندكم1. وأخرج ابن أشتة2 من طريق أيوب عن أبي قلابة مثله، وذكر ابن حجر في الفتح أن ابن داود أخرجه في المصاحف من طريق أبي قلابة. وعن سويد بن غفلة قال: "قال علي: لا تقولوا في عثمان إلا خيرًا، فوالله ما فعل الذي فعل في المصحف إلا عن ملأ منا. قال: ما تقولون في هذه القراءة؟ قد بلغني أن بعضهم يقول: إن قراءتي خير من قراءتك، وهذا يكاد يكون كفرًا، قلنا: فما ترى؟ قال: أرى أن يُجْمع الناس على مصحف واحد فلا تكون فرقة ولا اختلاف، قلنا: فنِعْمَ ما رأيت"3. وهذا يدل على أن ما صنعه عثمان قد أجمع عليه الصحابة، كُتِبت مصاحف على حرف واحد من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن، ليجتمع الناس على قراءة واحدة، ورد عثمان الصحف إلى حفصة، وبعث إلى كل أفق بمصحف من المصاحف. واحتبس بالمدينة واحدًا هو مصحفه الذي يسمى الإمام. وتسميته بذلك لما جاء في بعض الروايات السابقة من قوله: "اجتمعوا يا أصحاب محمد فاكتبوا للناس إمامًا" وأمر أن يُحرق ما عدا ذلك من صحيفة أو مصحف، وتلقت الأمة ذلك بالطاعة، وتركت القراءة بالأحرف الستة الأخرى، ولا ضير في ذلك. فإن القراءة بالأحرف السبعة ليست واجبة، ولو أوجب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على الأمة القراءة بها جميعًا لوجب نقل كل حرف منها نقلًا

_ 1 انظر الجزء الأول من تفسير الطبري، تحقيق وتخريج الأخوين محمد محمد شاكر وأحمد محمد شاكر طبعة دار المعارف 61، 62. 2 هو محمد بن عبد الله بن محمد بن أشتة، من المحققين الثقات، الذين اشتغلوا بعلوم القرآن، توفي سنة 360 هجرية. 3 أخرجه ابن أبي داود بسند صحيح.

متواترًا تقوم به الحجة ولكنهم لم يفعلوا ذلك فدل هذا على أن القراءة بها من باب الرخصة. وأن الواجب هو تواتر النقل ببعض هذه الأحرف السبعة. وهذا هو ما كان. قال ابن جرير فيما فعله عثمان: "وجمعهم على مصحف واحد، وحرف واحد، وخرق ما عدا المصحف الذي جمعهم عليه، وعزم على كل مَن كان عنده مصحف "مخالف" المصحف الذي جمعهم عليه، أن يحرقه1، فاستوثقت له الأمة على ذلك بالطاعة، ورأت أن فيما فعل من ذلك الرشد والهداية، فتركت القراءة بالأحرف الستة التي عزم عليها إمامها العادل في تركها، طاعة منها له، نظرًا منها لأنفسها ولمن بعدها من سائر أهل ملتها، حتى درست من الأمة معرفتها، وتعفت آثارها، فلا سبيل لأحد اليوم إلى القراءة بها، لدثورها وعفو آثارها، وتتابع المسلمين على رفض القراءة بها، من غير جحود منها صحتها وصحة شيء منها، ولكن نظرًا منها لأنفسها ولسائر أهل دينها، فلا قراءة للمسلمين اليوم إلا بالحرف الواحد الذي اختاره لهم إمامهم الشفيق الناصح، دون ما عداه من الأحرف الستة الباقية. فإن قال بعض من ضعفت معرفته: وكيف جاز لهم ترك قراءة أقرأهموها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأمرهم بقراءتها؟ قيل: إن أمره إياهم بذلك لم يكن أمر إيجاب وفرض، وإنما كان أمر إباحة ورخصة، لأن القراءة بها لو كانت فرضًا عليهم لوجب أن يكون العلم بكل حرف من تلك الأحرف السبعة، عند من يقوم بنقله الحجة، ويقطع خبره العذر، ويزيل الشك من قَرَأَةِ2 الأمة، وفي تركهم نقل ذلك كذلك أوضح الدليل على أنهم

_ 1 انظر هذا النص في تفسير ابن جرير الطبري جـ1 ص64، 65، وفي التعليق، قال ابن حجر في الفتح 9: 18 في شرح حديث البخاري: "في رواية الأكثر"أن يخرق" بالخاء المعجمة، وللمروزي بالمهملة، ورواه الأصيلي بالوجهين، والمعجمة أثبت" وخرق الكتاب أو الثوب: شققه ومزقه. 2 "مِن قَرَأَةِ الأمة" القَرَأَةُ: جمع قارئ.

كانوا في القراءة بها مخيرين، بعد أن يكون في نقلة القرآن من الأمة من تجب بنقله الحجة ببعض تلك الأحرف السبعة. وإذ كان ذلك كذلك، لم يكن القوم بتركهم نقل جميع القراءات السبع، تاركين ما كان عليهم نقله، بل كان الواجب عليهم من الفعل ما فعلوا، إذ كان الذي فعلوا من ذلك، كان هو النظر للإسلام وأهله، فكان القيام بفعل الواجب عليهم، بهم أولى من فعل ما لو فعلوه، كانوا إلى الجناية على الإسلام وأهله أقرب منهم إلى السلامة، من ذلك".

الفرق بين جمع أبي بكر وجمع عثمان

الفرق بين جمع أبي بكر وجمع عثمان: يتبين من النصوص أن جمع أبي بكر يختلف عن جمع عثمان في الباعث والكيفية. فالباعث لدى أبي بكر -رضي الله عنه- لجمع القرآن خشية ذهابه بذهاب حملته، حين استحر القتل بالقرَّاء. والباعث لدى عثمان -رضي الله عنه- كثرة الاختلاف في وجوه القراءة، حين شاهد هذا الاختلاف في الأمصار وخطَّأ بعضهم بعضًا. وجمع أبي بكر للقرآن كان نقلًا لما كان مفرَّقًا في الرِّقاع والأكتاف والعسب. وجمعًا له في مصحف واحد مرتب الآيات والسور. مقتصرًا على ما لم تُنسخ تلاوته، مشتملًا على الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن. وجمع عثمان للقرآن كان نسخًا له على حرف واحد من الحروف السبعة، حتى يجمع المسلمين على مصحف واحد. وحرف واحد يقرءون به دون ما عداه من الأحرف الستة الأخرى. قال ابن التين وغيره: "الفرق بين جمع أبي بكر وجمع

عثمان، أن جمع أبي بكر كان لخشية أن يذهب من القرآن شيء بذهاب حملته، لأنه لم يكن مجموعًا في موضع واحد، فجمعه في صحائف، مرتبًا لآيات سوره على ما وقفهم عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- وجمع عثمان كان لما كثر الاختلاف في وجوه القراءة حتى قرءوه بلغاتهم على اتساع اللغات فأدى ذلك بعضهم إلى تخطئة بعضه, فخشى من تفاقم الأمر في ذلك, فنسخ تلك الصحف في مصحف واحد مرتبًا لسوره، واقتصر من سائر اللغات على لغة قريش، محتجًّا بأنه نزل بلغتهم، وإن كان قد وسع في قراءته بلغة غيرهم رفعًا للحرج والمشقة في ابتداء الأمر، فرأى أن الحاجة إلى ذلك قد انتهت، فاقتصر على لغة واحدة" وقال الحارث المحاسبي: "المشهور عند الناس أن جامع القرآن عثمان، وليس كذلك، إنما حمل عثمان الناس على القراءة بوجه واحد، على اختيار وقع بينه وبين من شهده من المهاجرين والأنصار، لما خشي الفتنة عند اختلاف أهل العراق والشام في حروف القراءات، فأما قبل ذلك فقد كانت المصاحف بوجوه من القراءات المطلقات على الحروف السبعة التي أُنزل بها القرآن فأما السابق إلى جمع الجملة فهو الصديق"1. وبهذا قطع عثمان دابر الفتنة، وحسم مادة الخلاف، وحصَّن القرآن من أن يتطرق إليه شيء من الزيادة والتحريف على مر العصور وتعاقب الأزمان. وقد اختلف العلماء في عدد المصاحف التي أرسل بها عثمان إلى الآفاق. أ- فقيل: كان عددها سبعة. أرسلت إلى: مكة، والشام, والبصرة، والكوفة، واليمن، والبحرين، والمدينة. قال ابن أبي داود: سمعتُ أبا حاتم السجستاني يقول: كتب سبعة مصاحف، فأرسل إلى مكة، وإلى الشام، وإلى اليمن، وإلى البحرين، وإلى البصرة، وإلى الكوفة، وحبس بالمدينة واحدًا.

_ 1 انظر "الإتقان" جـ1 ص59، 60.

ب- وقيل: كان عددها أربعة، العراقي، والشامي، والمصري، والمصحف الإمام، أو الكوفي، والبصري، والشامي، والمصحف الإمام. قال أبو عمرو الداني في المقنع1: "أكثر العلماء على أن عثمان لما كتب المصاحف جعلها أربع نسخ، وبعث إلى كل ناحية واحدة: الكوفة، والبصرة، والشام، وترك واحدًا عنده". جـ- وقيل: كان عددها خمسة، وذهب السيوطي إلى أن هذا هو المشهور. أما الصحف التي رُدَّت إلى حفصة فقد ظلت عندها حتى ماتت. ثم غُسلت غسلًا2 وقيل أخذها مروان بن الحكم وأحرقها. والمصاحف التي كتبها عثمان لا يكاد يوجد منها مصحف واحد اليوم. والذي يُرْوَى عن ابن كثير3 في كتابه "فضائل القرآن" أنه رأى واحدًا منها بجامع دمشق بالشام، في رق يظنه من جلود الإبل، ويُرْوَى أن هذا المصحف الشامي نُقِلَ إلى إنجلترا بعد أن ظل في حوزة قياصرة الروس في دار الكتب في لينينجراد فترة، وقيل إنه احترق في مسجد دمشق سنة. 131 هجرية. وجمع عثمان للقرآن هو المسمى بالجمع الثالث، وكان سنة 25 هجرية.

_ 1 هو عثمان بن سعيد، من أئمة القرَّاء، له من الكتب: "التيسير في القراءات السبع" و"المقنع في رسم القرآن" و"المحكم في نقط المصاحف" توفي سنة 444 هجرية. 2 تفسير الطبري جـ1 ص61. 3 عماد الدين أبو الفداء، إسماعيل بن عمر بن كثير، صاحب "تفسير القرآن"، و"البداية والنهاية في التاريخ" توفي سنة 774 هجرية.

شبه مردودة

شُبَه مردودة: هناك شُبَه يثيرها أهل الأهواء لتوهين الثقة بالقرآن، والتشكيك في دقة جمعه، ونحن نورد أهمها ونرد عليها: 1- قالوا: إن الآثار قد دلت على أن القرآن قد سقط منه شيء لم يُكتب في المصاحف التي بأيدينا اليوم: أ- عن عائشة قالت: سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رجلًا يقرأ في المسجد فقال: "يرحمه الله، لقد أذكرني كذا وكذا آية من سورة كذا"، وفي رواية: "أسقطتهن من آية كذا وكذا"، وفي رواية: "كنت أنسيتها" 1. ويجاب عن هذا بأن تذكير الرسول -صلى الله عليه وسلم- بآية أو آيات قد أنسيها أو أسقطها نسيانًا لا يشكك في جمع القرآن، فإن الرواية التي جاء فيها التعبير بالإسقاط تفسرها الرواية الأخرى: "كنت أنسيتها" وهذا يدل على أن المراد بإسقاطها نسيانها، كما يدل عليه لفظ "أذكرني" والنسيان جائز على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما لا يخل بالتبليغ، وكانت هذه الآيات قد حفظها رسول الله، واستكتبها كتاب الوحي، وحفظها الصحابة في صدورهم، وبلغ حفظها وكتابتها مبلغ التواتر, فنسيان الرسول –صلى الله عليه وسلم- لها بعد ذلك لا يؤثر في دقة جمع القرآن, وهذا هو غاية ما يدل عليه الحديث. ولذا كانت قراءة هذا الرجل -وهو أحد الحفظة الذين يبلغ عددهم حد التواتر- مذكرة لرسول الله, صلى الله عليه وسلم: "لقد أذكرني كذا وكذا آية". ب- وقال تعالى في سورة الأعلى: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى، إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} 2, والاستثناء يدل على أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أُنْسِي بعض الآيات.

_ 1 الحديث في الصحيحين بألفاظ متقاربة. 2 الأعلى: 6، 7.

ويُجاب عن ذلك بأن الله تعالى قد وعد رسوله بإقراء القرآن وحفظه، وأمَّنه من النسيان في قوله: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى} ولما كانت الآية توهم لزوم ذلك، والله تعالى فاعل مختار: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} 1, جاء الاستثناء {إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} للدلالة على أن هذا الإخبار بإقراء الرسول القرآن وتأمينه من النسيان ليس خارجًا عن إرادته تعالى، فإنه سبحانه لا يعجزه شيء، يقول الشيخ محمد عبده في تفسير الآية: "ولما كان الوعد على وجه التأبيد واللزوم، ربما يوهم أن قدرة الله لا تتسع غيره، وأن ذلك خارج عن إرادته جل شأنه، جاء بالاستثناء في قوله: {إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} فإنه إذا أراد أن ينسيك شيئًا لم يعجزه ذلك، فالقصد هو نفي النسيان رأسًا، وقالوا: إن ذلك كما يقول الرجل لصاحبه: "أنت سهيمي فيما أملك إلا ما شاء الله" لا يقصد استثناء شيء، وهو من استعمال القلة في معنى النفي، وعلى ذلك جاء الاستثناء، في قوله تعالى في سورة هود: {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} 2, أي غير مقطوع، فالاستثناء في مثل هذا للتنبيه على أن ذلك التأبيد والتخليد، بكرم من الله وسعة جوده، لا بتحتيم عليه وإيجاب، وأنه لو أراد أن يسلب ما وهب لم يمنعه من ذلك مانع. وما ورد من أنه -صلى الله عليه وسلم- نسي شيئًا كان يذكره، فذلك إن صح، فهو في غير ما أنزل الله من الكتاب والأحكام التي أُمِرَ بتبليغها، وكل ما يقال غير ذلك فهو من مدخلات الملحدين، التي جازت على عقول المغفلين، فلوَّثوا بها ما طهَّره الله، فلا يليق بمن يعرف قدر صاحب الشريعة -صلى الله عليه وسلم- ويؤمن بكتاب الله أن يتعلق بشيء من ذلك".

_ 1 الأنبياء: 23. 2 هود: 108.

2- وقالوا: إن في القرآن ما ليس منه، واستدلوا على ذلك بما رُوِيَ من أن ابن مسعود أنكر أن المعوذتين من القرآن. ويُجاب عن ذلك بأن ما نُقِلَ عن ابن مسعود -رضي الله عنه- لم يصح، وهو مخالف لإجماع الأمة، قال النووي في شرح المهذب: "وأجمع المسلمون على أن المعوذتين والفاتحة من القرآن، وأن من جحد شيئًا منها كفر، وما نُقِلَ عن ابن مسعود باطل ليس بصحيح"، وقال ابن حزم: "هذا كذب على ابن مسعود وموضوع". وعلى فرض صحته، فالذي يُحتمل: أن ابن مسعود لم يسمع المعوذتين من النبي -صلى الله عليه وسلم- فتوقف في أمرهما. وإنكار ابن مسعود لا ينقض إجماع الأمة على أن المعوذتين من القرآن المتواتر. ومثل هذا يُجاب به على ما قيل من أن مصحف ابن مسعود قد أسقطت منه الفاتحة، فإن الفاتحة هي أم القرآن، ولا تخفى قرآنيتها على أحد. 3- ويزعم نفر من غلاة الشيعة أن أبا بكر وعمر وعثمان حرَّفوا القرآن، وأسقطوا بعض آياته وسوره، فحرفوا لفظ: {أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ} 1, والأصل: "أئمة هي أزكى من أئمتكم"، وأسقطوا من سورة "الأحزاب" آيات فضائل أهل البيت وقد كانت في طولها مثل سورة "الأنعام"، وأسقطوا سورة الولاية بتمامها من القرآن. ويُجاب عن ذلك بأن هذه الأقوال أباطيل لا سند لها، ودعاوي لا بيِّنة عليها، والكلام فيها حمق وسفاهة، وقد تبرأ بعض علماء الشيعة من هذا السخف،

_ 1 النحل: 92.

والمنقول عن علي -رضي الله عنه- الذي يدَّعون التشيع له، يناقضه، ويدل على انعقاد الإجماع بتواتر القرآن الذي بين دفتي المصحف، فقد أُثِرَ عنه أنه قال في جمع أبي بكر: "أعظم الناس أجرًا في المصاحف أبو بكر، رحمة الله على أبي بكر، هو أول من جمع كتاب الله"، وقال في جمع عثمان: "يا معشر الناس، اتقوا الله، وإياكم والغلو في عثمان وقولكم: حرَّاق مصاحف، فوالله ما حرقها إلا عن ملأ منا أصحاب رسول الله, صلى الله عليه وسلم"، وقال: "لو كنت الوالي وقت عثمان لفعلت في المصاحف مثل الذي فعل عثمان". فهذا الذي أُثِرَ عن علي نفسه يقطع السٌّنَّة أولئك المفترين الذين يزعمون نُصرته فيهرفون بما لا يعرفون تشيعًا له، وهو منهم براء1.

_ 1 انظر "مناهل العرفان" جـ1 ص464.

ترتيب الآيات والسور

ترتيب الآيات والسور: ترتيب الآيات: القرآن سور وآيات منها القصار والطوال، والآية: هي الجملة من كلام الله المندرجة في سورة من القرآن، والسورة: هي الجملة من آيات القرآن ذات المطلع والمقطع. وترتيب الآيات في القرآن الكريم توقيفي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وحكى بعضهم الإجماع على ذلك: منهم: الزركشي في "البرهان"، وأبو جعفر بن الزبير1 في "مناسباته" إذ يقول: "ترتيب الآيات في سورها واقع بتوقيفه -صلى الله عليه وسلم- وأمره من غير خلاف بين المسلمين" وجزم السيوطي بذلك فقال: "الإجماع والنصوص المترادفة على أن ترتيب الآيات توقيفي لا شبهة في ذلك" فقد كان جبريل يتنزل بالآيات على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويرشده إلى موضعها من السورة أو الآيات التي نزلت قبل، فيأمر الرسول كتبة الوحي بكتابتها في موضعها ويقول لهم: ضعوا هذه الآيات في السورة التي يُذكر فيها كذا أو كذا، أو ضعوا آية كذا في موضع كذا، كما بلَّغها أصحابه كذلك، عن عثمان بن أبي العاص قال: "كنت جالسًا عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذ شَخَصَ ببصره ثم صوَّبه، ثم قال: أتاني جبريل فأمرني أن أضع هذه الآية هذا الموضع من هذه السورة: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} 2 ... إلى آخرها"3. ووقف عثمان في جمع القرآن عند موضع كل آية من سورتها في القرآن، ولو كانت منسوخة الحكم. لا يغيرها. وهذا يدل على أن كتابتها بهذا الترتيب توقيفية، عن ابن الزبير قال: "قلت لعثمان: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} 4, قد نسختها الآية الآخرى، فلم تكتبها

_ 1 هو أحمد بن إبراهيم بن الزبير الأندلسي، كان من النحاة الحفَّاظ، توفي سنة 807 هجرية. 2 النحل: 90. 3 أخرجه أحمد بإسناد حسن. 4 البقرة: 240.

أو تدعها؟ 1 قال: "يابن أخي، لا أُغَيِّر شيئًا من مكانه"2. وجاءت الأحاديث الدالة على فضل آيات من سور بعينها، ويستلزم هذا أن يكون ترتيبها توقيفيًّا. إذ لو جاز تغييرها لما صدقت عليها الأحاديث، عن أبي الدرداء مرفوعًا: "من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عُصِمَ من الدجال" وفي لفظ: "من قرأ العشر الأواخر من سورة الكهف ... " 3, كما جاءت الأحاديث الدالة على آية بعينها في موضعها، عن عمر قال: ما سألت النبي -صلى الله عليه وسلم- عن شيء أكثر مما سألته عن الكلالة، حتى طعن بأصبعه في صدري وقال: "تكفيك آية الصيف التي في آخر سورة النساء" 4. وثبتت قراءة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لسور عديدة بترتيب آياتها في الصلاة، أو في خطبة الجمعة، كسورة البقرة وآل عمران والنساء، وصح أنه قرأ "الأعراف" في المغرب، وأنه كان يقرأ في صبح الجمعة: {الم، تَنزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ} "السجدة"5، و {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ} "الدهر"6 وكان يقرأ سورة "ق" في الخطبة، ويقرأ "الجمعة"و"المنافقون" في صلاة الجمعة. وكان جبريل يعارض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالقرآن كل عام مرة في رمضان، وعارضه في العام الأخير من حياته مرتين، وكان ذلك العرض على الترتيب المعروف الآن. وبهذا يكون ترتيب آيات القرآن كما هو في المصحف المتداول في أيدينا توقيفيًّا، لا مراء في ذلك، قال السيوطي بعد أن ذكر أحاديث السور المخصوصة: "تدل قراءته -صلى الله عليه وسلم- لها بمشهد من الصحابة على أن ترتيب آياتها توقيفي وما كان الصحابة ليرتبوا ترتيبًا سمعوا النبي -صلى الله عليه وسلم- يقرأ على خلافه، فبلغ ذلك مبلغ التواتر"7.

_ 1 أي لماذا تثبتها بالكتابة أو تتركها مكتوبة وأنت تعلم أنها منسوخة؟ 2 أخرجه البخاري. 3 رواه مسلم. 4 رواه مسلم. 5 أي سورة السجدة. 6 أي سورة الإنسان. 7 انظر الإتقان جـ1 ص61.

ترتيب السور

- ترتيب السور: اختلف العلماء في ترتيب السور: أ- فقيل: إنه توقيفي، تولاه النبي -صلى الله عليه وسلم- كما أخبر به جبريل عن أمر ربه، فكان القرآن على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- مرتب السور، كما كان مرتب الآيات على هذا الترتيب الذي لدينا اليوم، وهو ترتيب مصحف عثمان الذي لم يتنازع أحد من الصحابة فيه مما يدل على عدم المخالفة والإجماع عليه. ويؤيد هذا الرأي: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قرأ بعض السور مرتبة في صلاته، رَوَى ابن أبي شيبة: أنه عليه الصلاة والسلام كان يجمع المفصَّل في ركعة، ورَوَى البخاري عن ابن مسعود أنه قال في بني إسرائيل والكهف ومريم وطه والأنبياء: "إنهن من العتاق الأُوَل، وهن من تِلادى" فذكرها نسقًا كما استقر ترتيبها. ورُوي من طريق ابن وهب عن سليمان بن بلال قال: "سمعت ربيعة يسأل: لم قُدِّمت البقرة وآل عمران وقد نزل قبلهما بضع وثمانون سورة مكية، وإنما أنزلتا بالمدينة؟ فقال: قُدِّمتا وأُلِّف القرآن على علم ممن أَلَّفه به، ثم قال: فهذا مما يُنْتَهى إليه ولا يُسأل عنه"1. وقال ابن الحصار: "ترتيب السور ووضع الآيات مواضعها إنما كان بالوحي، كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ضعوا آية كذا في موضع كذا، وقد حصل اليقين من النقل المتواتر بهذا الترتيب من تلاوة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومما أجمع الصحابة على وضعه هكذا في المصحف"2. ب- وقيل: إن ترتيب السور باجتهاد من الصحابة بدليل اختلاف مصاحفهم في الترتيب.

_ 1 أخرجه ابن أشته في كتاب "المصاحف" والمراد بالتأليف: الجمع. 2 انظر الإتقان جـ1 ص62.

فمصحف "علي" كان مرتبًا على النزول، أوله: اقرأ، ثم المدثر، ثم ن والقلم، ثم المزمل وهكذا ... إلى آخر المكي والمدني. وكان أول مصحف ابن مسعود: البقرة، ثم النساء، ثم آل عمران. وأول مصحف أُبَي: الفاتحة، ثم البقرة، ثم النساء، ثم آل عمران. وقد رَوَى ابن عباس قال: "قلت لعثمان: ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني، وإلى براءة وهي من المئين، فقرنتم بينهما. ولم تكتبوا بينهما سطر: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ووضعتموها في السبع الطوال، فقال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تنزل عليه السور ذوات العدد، فكان إذا أنزل عليه شيء دعا بعض من يكتب فيقول: ضعوا هذه الآية في السورة التي فيها كذا وكذا، وكانت الأنفال من أوائل ما نزل بالمدينة، وكانت براءة من آخر القرآن نزولًا، وكانت قصتها شبيهة بقصتها فظننت أنها منها، فقُبِض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولم يبيِّن لنا أنها منها، فمن أجل ذلك قرنت بينهما، ولم أكتب بينهما سطر {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ووضعتها في السبع الطوال"1. جـ- وقيل: إن بعض السور ترتيبه توقيفي وبعضها باجتهاد الصحابة: حيث ورد ما يدل على ترتيب بعض السور في عهد النبوة، فقد ورد ما يدل على ترتيب السبع الطوال والحواميم والمفصَّل في حياته عليه الصلاة والسلام. ورُوِيَ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "اقرءوا الزهراوين: البقرة وآل عمران" 2. ورُوِيَ: "أنه كان إذا أوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفيه ثم نفث فيهما، فقرأ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} و"المعوذتين"3. وقال ابن حجر: "ترتيب بعض السور على بعضها أو معظمها لا يمتنع أن يكون توقيفيًّا" واستدل على ذلك بحديث حذيفة الثقفي حيث جاء فيه: "فقال

_ 1 أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي والنَّسائي وابن حبان والحاكم. 2 رواه مسلم. 3 رواه البخاري.

لنا رسول الله, صلى الله عليه وسلم: "طرأ عليَّ حزب من القرآن فأردت أن لا أخرج حتى أقضيه"، فسألنا أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قلنا: كيف تُحزِّبون القرآن، قالوا: نُحزِّبه ثلاث سور، وخمس سور، وسبع سور، وتسع سور، وإحدى عشرة، وثلاث عشرة، وحزب المفصَّل من "ق" حتى نختم1، قال ابن حجر: فهذا يدل على أن ترتيب السور على ما هو في المصحف الآن كان على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ويحتمل أن الذي كان مرتبًا حينئذ حزب المفصَّل خاصة بخلاف ما عداه". وإذا ناقشنا هذه الآراء الثلاثة يتبين لنا: أن الرأي الثاني الذي يرى أن ترتيب السور باجتهاد الصحابة لم يستند إلى دليل يُعتمد عليه. فاجتهاد بعض الصحابة في ترتيب مصاحفهم الخاصة كان اختيارًا منهم قبل أن يُجمع القرآن جمعًا مرتبًا، فلما جُمِع في عهد عثمان بترتيب الآيات والسور على حرف واحد واجتمعت الأمة على ذلك تركوا مصاحفهم، ولو كان الترتيب اجتهاديًّا لتمسكوا بها. وحديث سورتي: الأنفال والتوبة الذي رُوِيَ عن ابن عباس يدور إسناده في كل رواياته على "يزيد الفارسي" الذي يذكره البخاري في الضعفاء، وفيه تشكيك في إثبات البسملة في أوائل السور. كأن عثمان كان يثبتها برأيه وينفيها برأيه. ولذا قال فيه الشيخ أحمد شاكر في تعليقه عليه بمسند الإمام أحمد: "إنه حديث لا أصل له". وغاية ما فيه أنه يدل على عدم الترتيب بين هاتين السورتين فقط2.

_ 1 أخرجه أحمد وأبو داود، وانظر "الإتقان" جـ1 ص63. 2 وحُكي أن البسملة ثابتة لبراءة في مصحف ابن مسعود، وفي المستدرك للحاكم أن علي بن أبي طالب سُئِل: لِم لمْ تُكتب في براءة: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ؟ قال: لأنها أمان. وبراءة نزلت بالسيف.

أما الرأي الثالث الذي يرى أن بعض السور ترتيبها توقيفي، وبعضها ترتيبه اجتهادي. فإن أدلته ترتكز على ذكر النصوص الدالة على ما هو توقيفي. أما القسم الاجتهادي فإنه لا يستند إلى دليل يدل على أن ترتيبه اجتهادي. إذ إن ثبوت التوقيفي بأدلته لا يعني أن ما سواه اجتهادي. مع أنه قليل جدًّا. وبهذا يترجح أن ترتيب السور توقيفي كترتيب الآيات. قال أبو بكر بن الأنباري: "أنزل الله القرآن كله إلى سماء الدنيا، ثم فرَّقه في بضع وعشرين، فكانت السورة تنزل لأمر يحدث، والآية جوابًا لمستخبِر، ويوقف جبريل النبي -صلى الله عليه وسلم- على موضع الآية والسورة، فاتساق السور كاتساق الآيات والحروف كله عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فمن قدَّم سورة أو أخرها فقد أفسد نظم القرآن" وقال الكرماني في "البرهان": "ترتيب السور هكذا هو عند الله في اللَّوح المحفوظ على هذا الترتيب، وعليه كان -صلى الله عليه وسلم- يعرض على جبريل كل سنة ما كان يجتمع عنده منه. وعرضه عليه في السٌّنَّة التي توفي فيها مرتين. وكان آخر الآيات نزولًا: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} 1, فأمره جبريل أن يضعها بين آيتي الربا والدَّيْن"2. ومال السيوطي إلى ما ذهب إليه البيهقي قال: "كان القرآن على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- مرتبًا سوره وآياته على هذا الترتيب إلا الأنفال وبراءة لحديث عثمان".

_ 1 البقرة: 281. 2 انظر "الإتقان" جـ1 ص62.

سور القرآن وآياته

سور القرآن وآياته: سور القرآن أقسام أربعة: 1- الطوال. 2- والمئين. 3- والمثاني. 4- والمفصَّل.. نوجز أرجح الآراء فيها. 1- فالطوال: سبع: البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، والسابعة، قيل: هي الأنفال وبراءة معًا لعدم الفصل بينهما بالبسملة. وقيل: هي يونس.

2- المئون: التي تزيد آياتها على مائة أو تقاربها. 3- والمثاني: هي التي تليها في عدد الآيات، سميت بذلك لأنها تُثنَّى في القراءة وتُكرَّر أكثر من الطوال والمئين. 4- والمفصَّل: قيل: من أول سورة "ق"، وقيل: من أول "الحجرات"، وقيل غير ذلك، وأقسامه ثلاثة، طواله، وأوساطه، وقصاره. فطواله: من "ق" أو "الحجرات" إلى "عم" أو "البروج"، وأوساطه: من "عم" أو "البروج" إلى "الضحى" أو إلى "لم يكن"، وقصاره: من"الضحى" أو "لم يكن" إلى آخر القرآن. على خلاف في ذلك. وتسميته بالمفصَّل لكثرة الفصل بين سوره بالبسملة. وتعداد السور: مائة وأربع عشرة سورة، وقيل: وثلاث عشرة بجعل الأنفال وبراءة سورة واحدة. أما تعداد الآيات فستة آلاف ومائتا آية، واختلفوا فيما زاد عن ذلك. وأطول الآيات آية الدَّيْن، وأطول السور سورة البقرة. وهذه التجزئة تيسر على الناس الحفظ، وتحملهم على الدراسة، وتشعر القارئ لسورة من السور بأنه قد أخذ قسطاً وافيًا وطائفة مستقلة من أصول دينه وأحكام شريعته.

الرسم العثماني

الرسم العثماني: سبق الحديث عن جمع القرآن في عهد عثمان -رضي الله عنه- وقد اتبع زيد بن ثابت والثلاثة القرشيون معه طريقة خاصة في الكتابة ارتضاها لهم عثمان، ويسمي العلماء هذه الطريقة "بالرسم العثماني للمصحف" نسبة إليه، واختلف العلماء في حكمه.

1- فذهب بعضهم إلى أن هذا الرسم العثماني للقرآن توقيفي يجب الأخذ به في كتابة القرآن، وبالغوا في تقديسه، ونسبوا التوقيف فيه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فذكروا أنه قال لمعاوية, أحد كتبة الوحي: "ألق الدواة، وحرِّف القلم، وانصب الياء، وفرِّق السين، ولا تعوِّر الميم، وحسِّن الله، ومد الرحمن، وجوِّد الرحيم، وضع قلمك على أذنك اليسرى، فإنه أذكر لك" ونقل ابن المبارك عن شيخه عبد العزيز الدباغ أنه قال له: "ما للصحابة ولا لغيرهم في رسم القرآن ولا شعرة واحدة، وإنما هو توقيف من النبي وهو الذي أمرهم أن يكتبوه على الهيئة المعروفة بزيادة الألف ونقصانها لأسرار لا تهتدى إليها العقول، وهو سر من الأسرار خص الله به كتابه العزيز دون سائر الكتب السماوية. وكما أن نظم القرآن معجز فرسمه أيضًا معجز". والتمسوا لذلك الرسم أسرارًا تجعل للرسم العثماني دلالة على معان خفية دقيقة، كزيادة "الياء" في كتابة كلمة "أيد" من قوله تعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} 1, إذ كتبت هكذا "بأييد" وذلك للإيماء إلى تعظيم قوة الله التي بنى بها السماء. وأنها لا تشبهها قوة على حد القاعدة المشهورة، وهي: زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى2. وهذا الرأي لم يرد فيه شيء عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى يكون الرسم توقيفيًّا، وإنما اصطلح الكتبة على هذا الرسم في زمن عثمان برضًا منه، وجعل لهم ضابطًا لذلك بقوله للرهط القرشيين الثلاثة: "إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش، فإنه إنما نزل بلسانهم" وحين اختلفوا في كتابة "التابوت" فقال زيد: "التابوه" وقال النفر القرشيون: "التابوت" وترافعوا إلى عثمان قال: "اكتبوا "التابوت" فإنما أُنزل القرآن على لسان قريش".

_ 1 الذاريات: 47. 2 انظر"مناهل العرفان" للزرقاني جـ2 ص370 وما بعدها.

2- وذهب كثير من العلماء إلى أن الرسم العثماني ليس توقيفيًّا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ولكنه اصطلاح ارتضاه عثمان، وتلقته الأمة بالقبول، فيجب التزامه والأخذ به، ولا تجوز مخالفته. قال أشهب: "سُئل مالك: هل يُكتب المصحف على ما أحدثه الناس من الهجاء؟ قال: لا، إلا على الكتبة الأولى" رواه أبو عمرو الداني في "المقنع" ثم قال: "ولا مخالف له من علماء الأمة"، وقال في موضع آخر: سُئل مالك عن الحروف في القرآن مثل الواو والألف، أترى أن تُغيَّر من المصحف إذا وُجِدا فيه كذلك قال: لا، قال أبو عمرو: يعني الواو والألف المزيدتين في الرسم المعدومتين في اللفظ نحو "أولوا" وقال الإمام أحمد: "تحرم مخالفة خط مصحف عثمان في واو أو ياء أو ألف أو غير ذلك"1. 3- وذهب جماعة إلى أن الرسم العثماني اصطلاحي، ولا مانع من مخالفته! إذا اصطلح الناس على رسم خاص للإملاء وأصبح شائعًا بينهم. قال القاضي أبو بكر الباقلاني في كتابه "الانتصار": "وأما الكتابة فلم يفرض الله على الأمة فيها شيئًا. أولم يأخذ على كتَّاب القرآن وخُطَّاط المصاحف رسمًا بعينه دون غيره أوجبه عليهم وترك ما عداه، إذ وجوب ذلك لا يُدرك إلا بالسمع والتوقيف، وليس في نصوص الكتاب ولا مفهومه أن رسم القرآن وضبطه لا يجوز إلا على وجه مخصوص وحدٍّ محدود لا يجوز تجاوزه، ولا في نص السٌّنَّة ما يوجب ذلك ويدل عليه، ولا في إجماع الأمة ما يوجب ذلك، ولا دلت عليه القياسات الشرعية، بل السٌّنَّة دلت على جواز رسمه بأي وجه سهل، لأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يأمر برسمه ولم يبيِّن لهم وجهًا معينًا ولا نهى أحدًا عن كتابته. ولذلك اختلفت خطوط المصاحف، فمنهم من كان يكتب الكلمة على مخرج اللفظ، ومنهم من كان يزيد وينقص لعلمه بأن ذلك اصطلاح، وأن الناس لا يخفى عليهم الحال، ولأجل هذا بعينه جاز أن يُكتب بالحروف الكوفية والخط

_ 1 انظر "الإتقان" جـ2 ص167، و"البرهان" للزركشي جـ1 ص379.

الأول، وأن يُجعل الكلام على صورة الكاف، وأن تُعوَّج الألفات، وأن يُكتب على غير هذه الوجوه، وجاز أن يكتب المصحف بالخط والهجاء القديمين، وجاز أن يُكتب بالخطوط والهجاء المحدَثة، وجاز أن يُكتب بين ذلك، وإذا كانت خطوط المصحف وكثير من حروفها مختلفة متغايرة الصورة، وكان الناس قد أجازوا أن يكتب كل واحد منهم بما هو عادته، وما هو أسهل وأشهر وأولى. من غير تأثيم ولا تناكر، عُلِمَ أنه لم يؤخذ في ذلك على الناس حد محدود مخصوص، كما أُخِذَ عليهم في القراءة، والسبب في ذلك أن الخطوط إنما هي علامات ورسوم تجري مجرى الإشارات والعقود والرموز. فكل رسم دال على الكلمة مقيد لوجه قراءتها تجب صحته وتصويب الكاتب به على أية صورة كانت.. وبالجملة فكل من ادعى أنه يجب على الناس رسم مخصوص وجب عليه أن يقيم الحجة على دعواه، وأنَّى له ذلك". وانطلاقًا من هذا الرأي يدعو بعض الناس اليوم إلى كتابة القرآن الكريم وفق القواعد الإملائية الشائعة المصطلح عليها، حتى تسهل قراءته على القارئين من الطلاب والدارسين، ولا يشعر الطالب في أثناء قراءته للقرآن باختلاف رسمه عن الرسم الإملائي الاصطلاحي الذي يدرسه. والذي أراه أن الرأي الثاني هو الرأي الراجح، وأنه يجب كتابة القرآن بالرسم العثماني المعهود في المصحف. فهو الرسم الاصطلاحي الذي توارثته الأمة منذ عهد عثمان -رضي الله عنه- والحفاظ عليه ضمان قوي لصيانة القرآن من التغيير والتبديل في حروفه، ولو أبيحت كتابته بالاصطلاح الإملائي لكل عصر لأدى هذا إلى تغيير خط المصحف من عصر لآخر، بل إن قواعد الإملاء نفسها تختلف فيها وجهات النظر في العصر الواحد، وتتفاوت في بعض الكلمات من بلد لآخر. واختلاف الخطوط الذي يذكره القاضي أبو بكر الباقلاني شيء والرسم الإملائي شيء آخر، فاختلاف الخط تغير في صورة الحرف لا في رسم الكلمة.

وحجة تيسير القراءة على الطلاب والدارسين بانتفاء التعارض بين رسم القرآن والرسم الإملائي الاصطلاحي لا تكون مبررًا للتغيير الذي يؤدي إلى التهاون في تحري الدقة بكتابة القرآن. والذي يعتاد القراءة في المصحف يألف ذلك ويفهم الفوارق الإملائية بالإشارات الموضوعة على الكلمات، والذين يمارسون هذا في الحياة التعليمية أو مع أبنائهم يدركون أن الصعوبة التي توجد في القراءة بالمصحف أول الأمر تتحول بالمران بعد فترة قصيرة إلى سهولة تامة. قال البيهقي في شُعب الإيمان: "من يكتب مصحفًا فينبغي أن يحافظ على الهجاء الذي كتبوا به تلك المصاحف، ولا يخالفهم فيه، ولا يُغيِّر مما كتبوه شيئًا، فإنهم كانوا أكثر علمًا وأصدق قلبًا ولسانًا، وأعظم أمانة منا، فلا ينبغي أن نظن بأنفسنا استدراكًا عليهم"1.

_ 1 انظر "الإتقان" جـ2 ص167.

تحسين الرسم العثماني

تحسين الرسم العثماني: كانت المصاحف العثمانية خالية من النقط والشكل، اعتمادًا على السليقة العربية السليمة التي لا تحتاج إلى الشكل بالحركات ولا إلى الإعجام بالنقط، فلما تطرق إلى اللِّسان العربي الفساد بكثرة الاختلاط أحس أولو الأمر بضرورة تحسين كتابة المصحف بالشكل والنقط وغيرهما مما يساعد على القراءة الصحيحة. واختلف العلماء في أول جهد بُذِل في ذلك السبيل. فيرى كثير منهم أن أول من فعل ذلك أبو الأسود الدؤلي الذي يُنسب إليه وضع ضوابط للعربية بأمر علي بن أبي طالب، ويُرْوَى في ذلك أنه سمع قارئًا يقرأ قوله تعالى: {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} 1, فقرأها بجر

_ 1 التوبة: 3.

اللام من كلمة "رسوله" فأفزع هذا اللحن أبا الأسود وقال: عز وجه الله أن يبرأ من رسوله، ثم ذهب إلى زياد والي البصرة وقال له: قد أجبتك إلى ما سألت، وكان زياد قد سأله أن يجعل للناس علامات يعرفون بها كتاب الله، فتباطأ في الجواب حتى راعه هذا الحادث، وهنا جد جده، وانتهى به اجتهاده إلى أن جعل علامة الفتحة نقطة فوق الحرف، وجعل علامة الكسرة نقطة أسفله، وجعل علامة الضمة نقطة بين أجزاء الحرف، وجعل علامة السكون نقطتين. ويذكر السيوطي في "الإتقان" أن أبا الأسود الدؤلي أول من فعل ذلك بأمر عبد الملك بن مروان لا بأمر زياد، حيث ظل الناس يقرءون في مصحف عثمان بضعًا وأربعين سنة. حتى خلافة عبد الملك حين كثرت التصحيفات وانتشرت في العراق ففكر الولاة في النقط والتشكيل. وهناك روايات أخرى تنسب هذا الفعل إلى آخرين. منهم: الحسن البصري، ويحيى بن يعمر، ونصر بن عاصم الليثي، وأبو الأسود الدؤلي هو الذي اشتهر عنه ذلك، وربما كان للآخرين المذكورين جهود أخرى بُذلت في تحسين الرسم وتيسيره. وقد تدرج تحسين رسم المصحف، فكان الشكل في الصدر الأول نقطًا، فالفتحة نقطة على أول الحرف، والضمة على آخره، والكسرة تحت أوله. ثم كان الضبط بالحركات المأخوذة من الحروف، وهو الذي أخرجه الخليل، فالفتح شكلة مستطيلة فوق الحرف، والكسر كذلك تحته، والضم واو صغرى فوقه، والتنوين زيادة مثلها، وتُكتب الألف المحذوفة والمبدل منها في محلها حمراء، والهمزة المحذوفة تُكتب همزة بلا حرف حمراء أيضًا، وعلى النون والتنوين قبل الباء علامة الإقلاب حمراء، وقبل الحلق سكون، وتعرى عند الإدغام والإخفاء، ويسكن كل مسكن، ويعرى المدغم ويشدد ما بعده إلا الطاء قبل التاء فيكتب عليها السكون نحو "فرطْت"1.

_ 1 انظر "الإتقان" جـ2 ص171.

ثم كان القرن الثالث الهجري فجاد رسم المصحف وتحسن، وتنافس الناس في اختيار الخطوط الجميلة وابتكار العلامات المميِّزة، فجعلوا للحرف المشدد علامة كالقوس، ولألف الوصل جرة فوقها أو تحتها أو وسطها. على حسب ما قبلها من فتحة أو كسرة أو ضمة. ثم تدرج الناس بعد ذلك في وضع أسماء السور وعدد الآيات، والرموز التي تشير إلى رءوس الآي، وعلامات الوقف اللازم "م" والممنوع "لا" والجائز جوازًا مستوى الطرفين "ج" والجائز مع كون الوصل أولى "صلي" والجائز مع كون الوقف أولى "قلي" وتعانق الوقف بحيث إذا وقف على أحد الموضعين لا يصح الوقف على الآخر " " والتجزئة، والتحزيب، إلى غير ذلك من وجوه التحسين. وكان العلماء في بداية الأمر يكرهون ذلك خوفًا من وقوع زيادة في القرآن مستندين إلى قول ابن مسعود: "جرِّدوا القرآن ولا تخلطوه بشيء"، ويفرِّق بعضهم بين النقط الجائز. والأعشار والفواتح التي لا تجوز. قال الحليمي: "تُكره كتابة الأعشار والأخماس، وأسماء السور وعدد الآيات فيه لقول ابن مسعود: "جرِّدوا القرآن" وأما النقط فيجوز، لأنه ليس له صورة فيتوَّهم لأجلها ما ليس بقرآن قرآنًا. وإنما هي دلالات على هيئة المقروء فلا يضر إثباتها لمن يحتاج إليها". ثم انتهى الأمر في ذلك إلى الإباحة والاستحباب، أخرج ابن أبي داود عن الحسن وابن سيرين أنهما قالا: "لا بأس بنقط المصاحف"، وأخرج عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن: أنه قال: "لا بأس بشكله"، وقال النووي: "نقط المصحف وشكله مستحب لأنه صيانة له من اللحن والتحريف"1. وقد وصلت العناية بتحسين رسم المصحف اليوم ذروتها في الخط العربي.

_ 1 انظر "الإتقان" جـ2 ص171.

الفواصل ورءوس الآي

الفواصل ورءوس الآي: تميز القرآن الكريم بمنهج فريد في فواصله ورءوس آياته، ونعني بالفاصلة: الكلام المنفصل مما بعده، وقد يكون رأس آية وقد لا يكون، وتقع الفاصلة عند نهاية المقطع الخطابي، سميت بذلك لأن الكلام ينفصل عندها. ونعني برأس الآية: نهايتها التي توضع بعدها علامة الفصل بين آية وآية، ولهذا قالوا1: "كل رأس آية فاصلة، وليس كل فاصلة رأس آية، فالفاصلة تعم النوعين، وتجمع الضربين"، لأن رأس كل آية يفصل بينها وبين ما بعدها. ومثل هذا قد يُسمى في كلام الناس سجعًا على النحو المعروف في علم البديع، ولكن كثيرًا من العلماء2 لا يطلق هذا الوصف على القرآن الكريم سُمُوًّا به عن كلام الأدباء، وعبارات الأنبياء، وأسلوب البلغاء وفرَّقوا بين الفواصل والسجع، بأن الفواصل في القرآن: هي التي تتبع المعاني ولا تكون مقصودة لذاتها. أما السجع: فهو الذى يُقصد في نفسه ثم يحيل المعنى عليه، لأنه: موالاة الكلام على وزن واحد، ورد القاضي أبو بكر الباقلاني على من أثبت السجع في القرآن فقال: "وهذا الذي يزعمونه غير صحيح، ولو كان القرآن سجعًا لكان غير خارج عن أساليب كلامهم، ولو كان داخلًا فيها لم يقع بذلك إعجاز، ولو جاز أن يُقال: هو سجع مُعجز لجاز لهم أن يقولوا: شِعر معجز، وكيف؟ والسجع مما كانت كهان العرب تألفه، ونفيه من القرآن أجدر بأن يكون حجة من نفى الشعر، لأن الكهانة تخالف النبوات بخلاف الشِّعر. وما توَّهموا أنه سجع

_ 1 انظر "البرهان" للزركشي جـ1 ص53. 2 على رأس هؤلاء "الرماني" في كتاب "إعجاز القرآن" والقاضي أبو بكر الباقلاني في كتاب "إعجاز القرآن" كذلك.

باطل1، لأن مجيئه على صورته لا يقتضي كونه هو، لأن السجع من الكلام يتبع المعنى فيه اللفظ الذي يؤدَّى بالسجع، وليس كذلك ما اتفق مما هو في معنى السجع من القرآن، لأن اللفظ وقع فيه تابعًا للمعنى، وفرق بين أن ينتظم الكلام في نفسه بألفاظه التي تؤدِّي المعنى المقصود فيه، وبين أن يكون المعنى منتظمًا دون اللفظ"2. والذي أراه أنه إذا كان المراد بالسجع مراعاة موالاة الكلام على وزن واحد دون مراعاة المعنى فإن هذا تكلف ممقوت في كلام الناس فضلًا عن كلام الله. أما إذا رُوعيت المعاني وجاء الاتفاق في الوزن تابعًا لها دون تكلف فهذا ضرب من ضروب البلاغة، قد يأتي في القرآن كما يأتي في غيره. وإذا سمينا هذا في القرآن بالفواصل دون السجع فذلك لتلافي إطلاق السجع على القرآن بالمعنى الأول. والفواصل في القرآن الكريم أنواع: أ- فمنها الفواصل المتماثلة كقوله تعالى: {وَالطُّورِ, وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ, فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ, وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ} 3, وقوله تعالى: {وَالْفَجْرِ, وَلَيَالٍ عَشْرٍ, وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ, وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} 4، وقوله تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ, الْجَوَارِ الْكُنَّسِ, وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ, وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} 5. ب- ومنها الفواصل المتقاربة في الحروف، كقوله تعالى: {الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ, مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} 6, للتقارب بين الميم والنون في المقطع، وقوله:

_ 1 أقوى ما استدل به الذين يثبتون السجع في القرآن أن موسى أفضل من هارون، ولما كان السجع بالألف اللينة قيل في موضع: {قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى} [طه: 70] ، ولما كانت الفواصل في موضع آخر بالواو والنون قيل: {رَبِّ مُوسَى وهَارُونَ} [الشعراء: 48] وأجيب بأن التقديم والتأخير لإعادة القصة الواحدة بألفاظ مختلفة تؤدي معنًى واحدًا، وليس للسجع. 2 البرهان، للزركشي جـ1 ص58. 3 الطور: 1-4. 4 الفجر: 1-4. 5 التكوير: 15-18. 6 الفاتحة: 3، 4.

{ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ, بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ} 1, بتقارب مقطعي الدال والباء2. جـ- ومنها المتوازي: وهو أن تتفق الكلمتان في الوزن وحروف السجع، كقوله تعالى: {فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ, وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ} 3. د- ومنها المتوازن، وهو أن يُراعى في مقاطع الكلام الوزن فقط كقوله تعالى: {وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ, وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ} 4. وقد يُراعى في الفواصل زيادة حرف كقوله تعالى: {وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} 5, بإلحاق ألف، لأن مقاطع فواصل هذه السورة ألفات منقلبة عن تنوين في الوقف، فزيد على النون ألف لتساوي المقاطع. وتناسب نهايات الفواصل، أو حذف حرف، كقوله تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} 6, بحذف الياء، لأن مقاطع الفواصل السابقة واللاحقة بالراء، أو تأخير ما حقه التقديم لنكتة بلاغية أخرى كتشويق النفس إلى الفاعل في قوله تعالى: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى} 7, لأن الأصل في الكلام أن يتصل الفعل بفاعله ويؤخر المفعول، لكن أخَّر الفاعل هنا وهو "موسى" للنكتة البلاغية السابقة على رعاية الفاصلة.

_ 1 سورة ق: 1، 2. 2 هذا لا يسمى سجعًا عند القائلين بإطلاق السجع في القرآن، لأن السجع ما تماثلت حروفه. 3 الغاشية: 13، 14. 4 الغاشية: 15، 16. 5 الأحزاب: 10. 6 الفجر: 4. 7 طه: 67.

نزول القرآن على سبعة أحرف

نزول القرآن على سبعة أحرف مدخل ... 9- نزول القرآن على سبعة أحرف: لقد كان للعرب لهجات شتى تنبع من طبيعة فطرتهم في جرسها وأصواتها وحروفها تعرضت لها كتب الأدب بالبيان والمقارنة، فكل قبيلة لها من اللحن في كثير من الكلمات ما ليس للآخرين، إلا أن قريشًا من بين العرب قد تهيأت لها عوامل جعلت للغتها الصدارة بين فروع العربية الأخرى من جوار البيت وسقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام والإشراف على التجارة، فأنزلها العرب جميعًا لهذه الخصائص وغيرها منزلة الأب للغاتهم، فكان طبيعيًّا أن يتنزل القرآن بلغة قريش على الرسول القرشي تأليفًا للعرب وتحقيقًا لإعجاز القرآن حين يسقط في أيديهم أن يأتوا بمثله أو بسورة منه. وإذا كان العرب تتفاوت لهجاتهم في المعنى الواحد بوجه من وجوه التفاوت فالقرآن الذي أوحى الله به لرسوله محمد -صلى الله عليه وسلم- يكمل له معنى الإعجاز إذا كان مستجمعًا بحروفه وأوجه قراءته للخالص منها، وذلك مما ييسر عليهم القراءة والحفظ والفهم. ونصوص السٌّنَّة قد تواترت بأحاديث نزول القرآن على سبعة أحرف، ومن ذلك: عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: "قال رسول الله, صلى الله عليه وسلم: "أقرأني جبريل على حرف فراجعته، فلم أزل أستزيده ويزيدني حتى انتهى إلى سبعة أحرف" 1. وعن أُبَيِّ بن كعب: "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان عند أضاة2 بني غفار، قال: فأتاه جبريل فقال: إن الله يأمرك أن تُقرئ أمتك القرآن على حرف. فقال: "أسال الله معافاته ومغفرته، وإن أمتي لا تطيق ذلك"، ثم أتاه الثانية فقال: إن الله يأمرك أن تُقرئ أمتك القرآن على حرفين - فقال: "أسأل الله معافاته

_ 1 أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما. 2 الأضاة: الغدير.

ومغفرته، وإن أمتي لا تطيق ذلك"، ثم جاءه الثالثة فقال: إن الله يأمرك أن تُقرئ أمتك القرآن على ثلاثة أحرف، فقال: "أسأل الله معافاته ومغفرته، وإن أمتي لا تطيق ذلك"، ثم جاءه الرابعة فقال: إن الله يأمرك أن تُقرئ أمتك القرآن على سبعة أحرف، فأيما حرف قرءوا عليه فقد أصابوا"1. وعن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: "سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاستمعت لقراءته، فإذا هو يقرؤها على حروف كثيرة لم يُقرئنيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فكدت أساوره في الصلاة، فانتظرته حتى سلَّم، ثم لببته بردائه فقلت: من أقرأك هذه السورة؟ قال: أقرأنيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قلت له: كذبت، فوالله إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أقرأني هذه السورة التي سمعتك تقرؤها، فانطلقت أقوده إلى رسول الله، فقلت: يا رسول الله. إني سمعت هذا يقرأ بسورة الفرقان على حروف لم تُقرئنيها، وأنت أقرأتني سورة الفرقان, فقال رسول الله, صلى الله عليه وسلم: "أ َرْسِله يا عمر, اقرأ يا هشام" , فقرأ هذه القراءة التي سمعته يقرؤها، فقال رسول الله, صلى الله عليه وسلم: "هكذا أُنْزِلت"، ثم قال رسول الله, صلى الله عليه وسلم: "اقرأ يا عمر"، فقرأت القراءة التي أقرأني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال رسول الله, صلى الله عليه وسلم: "هكذا أُنْزِلت"، ثم قال رسول الله, صلى الله عليه وسلم: "إن هذا القرآن أُنْزل على سبعة أحرف، فاقرءوا ما تيسَّر منها" 2. والأحاديث في ذلك مستفيضة استقرأ معظمها ابن جرير في مقدمة تفسيره، وذكر السيوطي أنها رويت عن واحد وعشرين صحابيًّا، وقد نصَّ أبو عبيد القاسم بن سلام على تواتر حديث نزول القرآن على سبعة أحرف3. واختلف العلماء في تفسير هذه الأحرف اختلافًا كثيرًا. حتى قال ابن حبان:

_ 1 رواه مسلم. 2 رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنَّسائي والترمذي وأحمد وابن جرير. 3 انظر "الإتقان" جـ1 ص41.

اختلاف العلماء في المراد بها الترجيح بينها

اختلاف العلماء في المراد بها الترجيح بينها ... "اختلف أهل العلم في معنى الأحرف السبعة على خمسة وثلاثين قولًا"1, وأكثر هذه الآراء متداخل، ونحن نورد هنا ما هو ذو بال منها: أ- ذهب أكثر العلماء إلى أن المراد بالأحرف السبعة سبع لغات من لغات العرب في المعنى الواحد، على معنى أنه حيث تختلف لغات العرب في التعبير عن معنًى من المعاني يأتي القرآن مُنَزَّلًا بألفاظ على قدر هذه اللغات لهذا المعنى الواحد، وحيث لا يكون هناك اختلاف فإنه يأتي بلفظ واحد أو أكثر. واختلفوا في تحديد اللغات السبع. فقيل: هي لغات: قريش، وهذيل، وثقيف، وهوازن، وكنانة، وتميم، واليمن. وقال أبو حاتم السجستاني: نزل بلغة قريش، وهذيل، وتميم، والأزد، وربيعة، وهوازن، وسعد بن بكر. ورُوِيَ غير ذلك2. ب- وقال قوم: إن المراد بالأحرف السبعة سبع لغات من لغات العرب نزل عليها القرآن، على معنى أنه في جملته لا يخرج في كلماته عن سبع لغات هي أفصح لغاتهم، فأكثره بلغة قريش، ومنه ما هو بلغة هذيل، أو ثقيف، أو هوازن، أو كنانة، أو تميم، أو اليمن، فهو يشتمل في مجموعه على اللغات السبع. وهذا الرأي يختلف عن سابقه، لأنه يعني أن الأحرف السبعة إنما هي أحرف سبعة متفرقة في سور القرآن، لا أنها لغات مختلفة في كلمة واحدة باتفاق المعاني.

_ 1 وقال السيوطي: اختُلِفَ في معنى هذا الحديث على نحو أربعين قولًا، جـ1 ص45. 2 انظر "الإتقان" جـ1 ص47.

قال أبو عبيد: "ليس المراد أن كل كلمة تُقرأ على سبع لغات، بل اللغات السبع مفرَّقة فيه، فبعضه بلغة قريش، وبعضه بلغة هذيل، وبعضه بلغة هوازن، وبعضه بلغة اليمن، وغيرهم، قال: وبعض اللغات أسعد به من بعض وأكثر نصيبًا"1. جـ- وذكر بعضهم أن المراد بالأحرف السبعة أوجه سبعة: من الأمر، والنهي، والوعد، والوعيد، والجدل، والقصص، والمثل. أو من: الأمر، والنهي، والحلال، والحرام، والمُحْكم، والمتشابه، والأمثال. عن ابن مسعود عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "كان الكتاب الأول ينزل من باب واحد، وعلى حرف واحد، ونزل القرآن من سبعة أبواب، على سبعة أحرف: زجر، وأمر، وحلال، وحرام، ومُحْكم، ومتشابه، وأمثال" 2. د- وذهب جماعة إلى أن المراد بالأحرف السبعة، وجوه التغاير السبعة التي يقع فيها الاختلاف، وهي: 1- اختلاف الأسماء بالإفراد، والتذكير وفروعهما: "التثنية، والجمع, والتأنيث" كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} 3, قرئ "لأماناتهم" بالجمع، وقرئ "لأمانتهم" بالإفراد.. ورسمها في الصحف "لأَمَنَتِهِمْ" يحتمل القراءتين، لخلوها من الألف الساكنة، ومآل الوجهين في المعنى الواحد، فيراد بالجمع الاستغراق الدال على الجنسية، ويراد بالإفراد الجنس الدال على معنى الكثرة، أي جنس الأمانة، وتحت هذا جزئيات كثيرة. 2- الاختلاف في وجوه الإعراب، كقوله تعالى: {مَا هَذَا بَشَرًا} 4, قرأ الجمهور بالنصب، على أن "ما" عاملة عمل "ليس" وهي لغة أهل الحجاز وبها نزل القرآن، وقرأ ابن مسعود: " مَا هَذَا بَشَرٌ " بالرفع، على لغة بني تميم، فإنهم لا يعملون "ما" عمل "ليس" وكقوله:

_ 1 انظر "الإتقان" جـ1 ص47. 2 أخرجه الحاكم والبيهقي. 3 المؤمنون: 8. 4 يوسف: 31.

{فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} 1 -"برفع "آدم" وجر "كلمات" "- وقُرِئ بنصب "آدم" ورفع "كلمات": "فَتَلَقَّى آدَمَ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٌ". 3- الاختلاف في التصريف: كقوله تعالى: {فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا} 2, قُرِئ بنصب "ربَّنا" على أنه منادى مضاف، و"بَاعِد" بصيغة الأمر، وقُرِئ "ربُّنا" بالرفع، و"باعَد" بفتح العين، على أنه فعل ماض، وقُرِئ "بعِّد" بفتح العين مشددة مع رفع "ربُّنا" أيضًا. ومن ذلك ما يكون بتغيير حرف، مثل "يعلمون، وتعلمون" بالياء والتاء، و"الصراط" و"السراط" في قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} 3. 4- الاختلاف بالتقديم والتأخير، إما في الحرف، كقوله تعالى: {أَفَلَمْ يَيْأَسِ} 4 وقُرِئ "أفلم يأيس" وإما في الكلمة كقوله تعالى: {فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} 5, بالبناء للفاعل في الأول، وللمفعول في الثاني، وقُرِئ بالعكس، أي بالبناء للمفعول في الأول، وللفاعل في الثاني. أما قراءة "وجاءت سكرة الحق بالموت" بدلًا من قوله تعالى: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} 6, فقراءة أحادية أو شاذة، لم تبلغ درجة التواتر. 5- الاختلاف بالإبدال: سواء أكان إبدال حرف بحرف. كقوله تعالى: {وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا} 7, قُرِئ بالزاي المعجمة مع ضم النون، وقُرِئ بالراء المهملة مع فتح النون، أو إبدال لفظ بلفظ، كقوله تعالى: {كَالْعِهْنِ المَنْفُوش} 8, قرأ ابن مسعود وغيره "كالصوف المنفوش"، وقد يكون هذا الإبدال مع التقارب في المخارج كقوله تعالى: {وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ} 9, قُرِئ "طلع" ومخرج الحاء والعين واحد، فهما من حروف الحلق.

_ 1 البقرة: 37. 2 سبأ: 19. 3 الفاتحة: 6. 4 الرعد: 31. 5 التوبة: 111. 6 سورة ق: 19. 7 البقرة: 259. 8 القارعة: 5. 9 الواقعة: 29.

6- الاختلاف بالزيادة والنقص: فالزيادة كقوله تعالى: {وَأعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} 1, قُرِئ "من تحتها الأنهار" بزيادة "من" وهما قراءتان متواترتان، والنقصان كقوله تعالى: "قالوا اتخذ الله ولدًا" بدون واو، وقراءة الجمهور {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} 2, وبالواو. وقد يمثل للزيادة في قراءة الآحاد، بقراءة ابن عباس: "وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصبًا" بزيادة "صالحة" وإبدال كلمة "أمام" بكلمة "وراء" وقراءة الجمهور: {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} 3, كما يمثل للنقصان بقراءة "والذكر والأنثى" بدلًا من قوله تعالى: {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} 4. 7- اختلاف اللهجات بالتفخيم والترقيق، والفتح والإمالة، والإظهار والإدغام، والهمز والتسهيل، والإشمام ونحو ذلك، كالإمالة وعدمها في مثل قوله تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى} 5, قُرِئ بإمالة "أتى" و"موسى" وترقيق الراء في قوله: {خَبِيرًا بَصِيرًا} 6, وتفخيم اللام في "الطلاق" وتسهيل الهمزة في قوله: {قَدْ أَفْلَحَ} 7, وإشمام الغين ضمة مع الكسر في قوله تعالى: {وَغِيضَ الْمَاءُ} 8 وهكذا. هـ- وذهب بعضهم إلى أن العدد سبعة لا مفهوم له، وإنما هو رمز إلى ما أَلِفَه العرب من معنى الكمال في هذا العدد، فهو إشارة إلى القرآن في لغته وتركيبه كأنه حدود وأبواب لكلام العرب كله مع بلوغه الذروة في الكمال، فلفظ السبعة يطلق على إرادة الكثرة والكمال في الآحاد، كما يُطلق السبعون في العشرات، والسبعمائة في المائتين، ولا يُراد العدد المعيَّن9.

_ 1 التوبة: 100. 2 البقرة: 116. 3 الكهف: 79. 4 الليل: 3. 5 طه: 9. 6 الإسراء: 17. 7 المؤمنون: 1. 8 هود: 44. 9 انظر "الإتقان" جـ1 ص45.

و وقال جماعة: إن المراد بالأحرف السبعة، القراءات السبع. والراجح من هذه الآراء جميعًا هو الرأي الأول، وأن المراد بالأحرف السبعة سبع لغات من لغات العرب في المعنى الواحد. نحو: أَقْبِل وتعال، وهلم، وعَجِّل، وأسرع، فهي ألفاظ مختلفة لمعنى واحد، وإليه ذهب سفيان بن عيينة، وابن جرير، وابن وهب، وخلائق، ونسبه ابن عبد البر لأكثر العلماء ويدل له ما جاء في حديث أبي بكرة: "أن جبريل قال: يا محمد، اقرأ القرآن على حرف، فقال ميكائيل: استزده، فقال: على حرفين, حتى بلغ ستة أو سبعة أحرف، فقال: كلها شاف كاف، ما لم يختم آية عذاب بآية رحمة، أو آية رحمة بآية عذاب، كقولك: هلم وتعالى وأَقْبِل واذهب وأسرع وعَجِّل"1, قال ابن عبد البر: "إنما أراد بهذا ضرب المثل للحروف التي نزل القرآن عليها، وأنها معان متفق مفهومها، مختلف مسوعها، لا يكون في شيء منها معنى وضده، ولا وجه يخالف معنى وجه خلافًا ينفيه ويضاده، كالرحمة التي هي خلاف العذاب"2. ويؤيده أحاديث كثيرة: "قرأ رجل عند عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فغيَّر عليه، فقال: لقد قرأت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلم يُغيِّر علي، قال: فاختصما عند النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، ألم تُقرئني آية كذا وكذا؟ قال: بلى! قال: فوقع في صدر عمر شيء، فعرف النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك في وجهه، قال: فضرب صدره وقال: "ابعد شيطانًا" -قالها ثلاثًا- ثم قال: "يا عمر، إن القرآن كله صواب ما لم تجعل رحمة عذابًا أو عذابًا رحمة" 3. وعن بسر بن سعيد: "أن أبا جهيم الأنصاري أخبره: أن رجلين اختلفا في آية من القرآن، فقال هذا: تلقيتها من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال الآخر: تلقيتها من

_ 1 أخرجه أحمد والطبراني، بإسناد جيد، وهذا اللفظ لأحمد. 2 انظر "الإتقان" جـ1 ص47. 3 أخرجه أحمد بإسناد رجاله ثقات، وأخرجه الطبري.

رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فسألا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عنها، فقال رسول الله, صلى الله عليه وسلم: "إن القرآن نزل على سبعة أحرف، فلا تماروا في القرآن، فإن المراء فيه كفر" 1. وعن الأعمش قال: "قرأ أنس هذه الآية: "إن ناشئة الليل هي أشد وطأ وأصوب قيلًا"2، فقال له بعض القوم: يا أبا حمزة، إنما هي "وأقوم" فقال: أقوم وأصوب وأهيأ واحد"3. وعن محمد بن سيرين قال: نُبِّئت أن جبرائيل وميكائيل أتيا النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال له جبرائيل: اقرأ القرآن على حرفين، فقال له ميكائيل: استزده، قال: حتى بلغ سبعة أحرف، قال محمد: "لا تختلف في حلال ولا حرام، ولا أمر ولا نهي هو كقولك: تعال، وهلم، وأقبل"، قال: وفي قراءتنا: {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً} 4, في قراءة ابن مسعود: "إن كانت إلا زقية واحدة"5. ويُجاب عن الرأي الثاني "ب" الذي يرى أن المراد بالأحرف السبعة سبع لغات من لغات العرب نزل عليها القرآن, على معنى أنه في جملته لا يخرج في كلماته عنها فهو يشتمل في مجموعه عليها - بأن لغات العرب أكثر من سبع، وبأن عمر بن الخطاب وهشام بن حكيم كلاهما قرشي من لغة واحدة، وقبيلة واحدة، وقد اختلفت قراءتهما. ومحال أن ينكر عليه عمر لغته، فدل ذلك على أن المراد بالأحرف السبعة غير ما يقصدونه، ولا يكون هذا إلا باختلاف الألفاظ في معنى واحد، وهو ما نرجحه. قال ابن جرير الطبري بعد أن ساق الأدلة، مبطلًا هذا الرأي: "بل الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن، هن لغات سبع في حرف واحد، وكلمة واحدة،

_ 1 رواه أحمد في "المسند" ورواه الطبري، ونقله ابن كثير في "الفضائل" والهيثمي في "مجمع الزوائد". وقال: رجاله رجال الصحيح. 2 المزمل: 6 بلفظ "وأقوم". 3 رواه الطبري، وأبو يعلى، والبزَّار، ورجاله رجال الصحيح. 4 يس: 29، 53. 5 رواه الطبري، ومحمد -هو ابن سيرين التابعي- فالحديث مرسل.

باختلاف الألفاظ واتفاق المعاني, كقول القائل: هلم، وأَقْبِل، وتعال، وإليَّ، وقصدي، ونحوي، وقُرْبي، ونحو ذلك، مما تختلف فيه الألفاظ بضروب من المنطق وتتفق فيه المعاني، وإن اختلفت بالبيان به الألسن، كالذي روينا آنفًا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعمن روينا ذلك عنه من الصحابة، أن ذلك بمنزلة قولك: "هلم وتعال وأَقْبِل"، وقوله: "ما ينظرون إلا زقية" و"إلا صيحة". وأجاب الطبري عن تساؤل مفتَرَض: ففي أي كتاب الله نجد حرفًا واحدًا مقروءًا بلغات سبع مختلفات الألفاظ متفقات المعنى؟ أجاب: بأننا لم ندع أن ذلك موجود اليوم وعن تساؤل مفترض آخر: فما بال الأحرف الأخر الستة غير موجودة؟ - بأن الأمة أُمِرَت بحفظ القرآن, وخُيِّرت في قراءته وحفظه بأي تلك الأحرف السبعة شاءت كما أُمِرَت، ثم دعت الحاجة إلى التزام القراءة بحرف واحد مخافة الفتنة في زمن عثمان، ثم اجتمع أمر الأمة على ذلك، وهي معصومة من الضلالة1. ويُجاب عن الرأي الثالث "جـ" الذي يرى أن المراد بالأحرف السبعة سبعة أوجه: من الأمر، والنهي والحلال، والحرام، والمُحْكم، والمتشابه، والأمثال - بأن ظاهر الأحاديث يدل على أن المراد بالأحرف السبعة أن الكلمة تقرأ على وجهين أو ثلاثة إلى سبعة توسعة للأمة، والشيء الواحد لا يكون حلالًا وحرامًا في آية واحدة، والتوسعة لم تقع في تحريم حلال، ولا تحليل حرام، ولا في تغيير شيء من المعاني المذكورة. والذي ثبت في الأحاديث السابقة أن الصحابة الذين اختلفوا في القراءة احتكموا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فاستقرأ كل رجل منهم، ثم صوب جميعهم في قراءتهم على اختلافها، حتى ارتاب بعضهم لتصويبه إياهم، فقال صلى الله عليه وسلم للذي ارتاب منهم عند تصويبه جميعهم: "إن الله أمرني أن أقرأ على سبعة أحرف".

_ 1 انظر "تفسير الطبري" جـ1 ص57 وما بعدها.

"ومعلوم أن تماريهم فيما تماروا فيه من ذلك، لو كان تماريًا واختلافًا فيما دلت عليه تلاواتهم من التحليل والتحريم والوعد والوعيد وما أشبه ذلك، لكان مستحيلًا أن يصوِّب جميعهم، ويأمر كل قارئ منهم أن يلزم قراءته في ذلك على النحو الذي هو عليه، لأن ذلك لو جاز أن يكون صحيحًا وجب أن يكون الله جل ثناؤه قد أمر بفعل شيء بعينه وفَرَضَه، في تلاوة من دلت تلاوته على فَرْضه, ونهى عن فعل ذلك الشيء بعينه وزَجَر عنه, في تلاوة الذي دلت تلاوته على النهي والزجر عنه, وأباح وأطلق فعل ذلك الشيء بعينه، وجعل لمن شاء من عباده أن يفعله فعله. ولمن شاء منهم أن يتركه تركه، في تلاوة من دلت تلاوته على التخيير. وذلك من قائله -إن قاله- إثبات ما قد نفى الله جل ثناؤه عن تنزيله ومحكم كتابه فقال: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} 1. وفي نفي الله جل ثناؤه ذلك عن محكم كتابه أوضح الدليل على أنه لم ينزل كتابه على لسان محمد -صلى الله عليه وسلم- إلا بحكم واحد متفق في جميع خلقه لا بأحكام فيهم مختلفة"2. ويُجاب عن الرأي الرابع "د" الذي يرى أن المراد بالأحرف السبعة وجوه التغاير التي يقع فيها الاختلاف3؛ بأن هذا وإن كان شائعًا مقبولًا لكنه لا ينهض أمام أدلة الأول التي جاء التصريح فيها باختلاف الألفاظ مع اتفاق المعنى، وبعض وجوه التغاير والاختلاف التي يذكرونها ورد بقراءات الآحاد، ولا خلاف في أن كل ما هو قرآن يجب أن يكون متواترًا، وأكثرها يرجع إلى

_ 1 النساء: 82. 2 تفسير الطبري: جـ1 ص48، 49. 3 هذا الرأي هو أقوى الآراء بعد الرأي الذي اخترناه، وإليه ذهب "الرازي" وانتصر له من المتأخرين الشيخ محمد بخيت المطيعي، والشيخ محمد عبد العظيم الزرقاني.

شكل الكلمة أو كيفية الأداء مما لا يقع به التغاير في اللفظ، كاختلاف في الإعراب, أو التصريف، أو التفخيم والترقيق والفتح والإمالة والإظهار والإدغام والإشمام فهذا ليس من الاختلاف الذي يتنوَّع في اللفظ والمعنى، لأن هذه الصفات المتنوعة في أدائه لا تخرجه عن أن يكون لفظًا واحدًا. وأصحاب هذا الرأي يرون أن المصاحف العثمانية قد اشتملت على الأحرف السبعة كلها، بمعنى أنها مشتملة على ما يحتمله رسمها من هذه الأحرف، فآية: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} 1. التي تُقرأ بصيغة الجمع وتُقرأ بصيغة الإفراد جاءت في الرسم العثماني {لأَمَنَتِهِمْ} -موصولة وعليها ألف صغيرة- وآية: {فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا} 2, جاءت في الرسم العثماني {بَعِدْ} - موصولة كذلك وعليها ألف صغيرة، وهكذا.. وهذا لا يسلم لهم في كل وجه من وجوه الاختلاف التي يذكرونها. كالاختلاف بالزيادة والنقص، في مثل قوله تعالى: {وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ} 3. وقُرِئ: "من تحتها الأنهار" بزيادة "من" وقوله: {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} 4، وقُرِئ: "والذكر والأنثى" بنقص "ما خلق". والاختلاف بالتقديم والتأخير في مثل قوله تعالى: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} 5, وقُرِئ: "وجاءت سكرت الحق بالموت".. والاختلاف بالإبدال في مثل قوله تعالى: {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ} 6, وقُرِئ: "وتكون الجبال كالصوف المنفوش". ولو كانت هذه الأحرف تشتمل عليها المصاحف العثمانية لما كان مصحف عثمان حاسمًا للنزاع في اختلاف القراءات، إنما كان حسم هذا النزاع بجمع الناس على حرف واحد من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن، ولولا هذا لظل

_ 1 المؤمنون: 8. 2 سبأ: 19. 3 التوبة: 10. 4 الليل: 3. 5 سورة ق: 19. 6 القارعة: 5.

الاختلاف في القراءة قائمًا، ولما كان هناك فرق بين جمع عثمان وجمع أبي بكر. والذي دلت عليه الآثار أن جمع عثمان -رضي الله عنه- للقرآن كان نسخًا له على حرف واحد من الحروف السبعة حتى يجمع المسلمين على مصحف واحد، حيث رأى أن القراءة بالأحرف السبعة كانت لرفع الحرج والمشقة في بداية الأمر. وقد انتهت الحاجة إلى ذلك، وترجح عليها حسم مادة الاختلاف في القراءة، بجمع الناس على حرف واحد، ووافقه الصحابة على ذلك. فكان إجماعًا. ولم يحتج الصحابة في أيام أبي بكر وعمر إلى جمع القرآن على وجه ما جمعه عثمان، لأنه لم يحدث في أيامهما من الخلاف فيه ما حدث في زمن عثمان، وبهذا يكون عثمان قد وُفِّقَ لأمر عظيم. رفع الاختلاف، وجمع الكلمة، وأراح الأمة. ويُجاب عن الرأي الخامس "هـ" الذي يرى أن العدد سبعة لا مفهوم له, بأن الأحاديث تدل بنصها على حقيقة العدد وانحصاره: "أقرأني جبريل على حرف، فراجعته، فلم أزل استزيده ويزيدني حتى انتهى إلى سبعة أحرف" 1، "وإن ربي أرسل إليَّ أن اقرأ القرآن على حرف، فرددت عليه أن هوِّن على أمتي, فأرسل إليَّ أن اقرأ على سبعة أحرف" 2. فهذا يدل على حقيقة العدد المعيَّن المحصور في سبعة. ويُجاب عن الرأي السادس "و" الذي يرى أن المراد بالأحرف السبعة القراءات السبع, بأن القرآن غير القراءات، فالقرآن: هو الوحي المنزَّل على محمد -صلى الله عليه وسلم- للبيان والإعجاز، والقراءات: هي اختلاف في كيفية النطق بألفاظ الوحي، من تخفيف أو تثقيل أو مد أو نحو ذلك، قال أبو شامة: "ظن قوم أن القراءات السبع الموجودة الآن هي التي أريدت في الحديث، وهو خلاف إجماع أهل العلم قاطبة، وإنما يظن ذلك بعض أهل الجهل"3.

_ 1 أخرجه البخاري ومسلم. 2 أخرجه مسلم. 3 انظر "الإتقان" جـ1 ص80.

وقال الطبري: "وأما ما كان من اختلاف القراءة في رفع حرف وجره ونصبه وتسكين حرف وتحريكه ونقل حرف إلى آخر مع اتفاق الصورة، فمن معنى قول النبي, صلى الله عليه وسلم: "أُمرت أن أقرأ القرآن على سبعة أحرف" بمعزل، لأنه معلوم أنه لا حرف من حروف القرآن مما اختلفت القراءة في قراءته بهذا المعنى يوجب المراء به كفر المماري به في قول أحد من علماء الأمة، وقد أوجب عليه الصلاة والسلام بالمراء فيه الكفر، من الوجه الذي تنازع فيه المتنازعون إليه، وتظاهرت عنه بذلك الرواية". ولعل الذي أوقعهم في هذا الخطأ الاتفاق في العدد سبعة، فالتبس عليهم الأمر. قال ابن عمار: "لقد فعل مسبع هذه السبعة ما لا ينبغي له، وأشكل الأمر على العامة بإيهامه كل من قل نظره أن هذه القراءات هي المذكورة في الخبر، وليته إذ اقتصر نقص على السبعة أو زاد ليزيل الشُّبهة". وبهذه المناقشة يتبين لنا أن الرأي الأول "أ" الذي يرى أن المراد بالأحرف السبعة سبع لغات من لغات العرب في المعنى الواحد هو الذي يتفق مع ظاهر النصوص، وتسانده الأدلة الصحيحة. عن أُبَيِّ بن كعب قال: قال لي رسول الله، صلى الله عليه وسلم: "إن الله أمرني أن أقرأ القرآن على حرف واحد، فقلت: رب خفف عن أمتي، فأمرني، قال: اقرأ على حرفين، فقلت: رب خفف عن أمتي، فأمرني أن أقرأه على سبعة أحرف من سبعة أبواب الجنة، كلها شاف كاف" 1. قال الطبري: "والسبعة الأحرف: هو ما قلنا من أنه الألسن السبعة، والأبواب السبعة من الجنة هي المعاني التي فيها، من الأمر والنهي والترغيب والترهيب والقصص والمثل، التي إذا عمل بها العامل، وانتهى إلى حدودها

_ 1 رواه مسلم والطبري.

المنتهى، استوجب به الجنة، وليس -والحمد لله في قول من قال ذلك من المتقدمين- خلافٌ لشيء مما قلناه" ومعنى: "كلها شاف كاف" كما قال جل ثناؤه في صفة القرآن: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} 1.. جعله الله للمؤمنين شفاء، يستشفون بمواعظه من الأدواء العارضة لصدورهم من وساوس الشيطان وخطراته، فيكفيهم ويغنيهم عن كل ما عداه من المواعظ ببيان آياته"2.

_ 1 يونس: 57. 2 انظر الطبري جـ1 ص47, 67.

حكمة نزول القرآن على سبعة أحرف

حكمة نزول القرآن على سبعة أحرف: تتلخص حكمة نزول القرآن على سبعة أحرف في أمور: 1- تيسير القراءة والحفظ على قوم أميين، لكل قبيل منهم لسان ولا عهد لهم بحفظ الشرائع، فضلًا عن أن يكون ذلك مما ألفوه -وهذه الحكمة نصت عليها الأحاديث في عبارات: عن أُبَيٍّ قال: "لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عند أحجار المراء فقال: إني بُعثت إلى أمة أميين، منهم الغلام والخادم والشيخ العاس والعجوز، فقال جبريل: فليقرءوا القرآن على سبعة أحرف"1، "إن الله أمرني أن أقرأ القرآن على حرف، فقلت: اللهم رب خفف عن أمتي" , "إن الله يأمرك أن تُقرئ أمتك القرآن على حرف"، قال: "أسأل الله معافاته ومغفرته، وإن أمتي لا تطيق ذلك". 2- إعجاز القرآن للفطرة اللغوية عند العرب, فتعدد مناحي التأليف

_ 1 رواه أحمد وأبو داود والترمذي والطبري بإسناد صحيح، وأحجار المراء: موضع بقباء، وعسا الشيخ: كبر وأسن وضعف.

الصوتي للقرآن تَعدُّدًا يكافئ الفروع اللسانية التي عليها فطرة اللغة في العرب حتى يستطيع كل عربي أن يوقع بأحرفه وكلماته على لحنه الفطري ولهجة قومه مع بقاء الإعجاز الذي تحدى به الرسول العرب ومع اليأس من معارضته لا يكون إعجازًا للسان دون آخر، وإنما يكون إعجازًا للفطرة اللغوية نفسها عند العرب. 3- إعجاز القرآن في معانيه وأحكامه -فإن تقلب الصور اللفظية في بعض الأحرف والكلمات يتهيأ معه استنباط الأحكام التي تجعل القرآن ملائمًا لكل عصر- ولهذا احتج الفقهاء في الاستنباط والاجتهاد بقراءات الأحرف السبعة.

القراءات والقراء

القراءات والقراء مدخل ... 10- القراءات والقرَّاء: القراءات: جمع قراءة، مصدر قرأ في اللغة، ولكنها في الاصطلاح العلمي: مذهب من مذاهب النطق في القرآن يذهب به إمام من الأئمة القرَّاء مذهبًا يخالف غيره. وهي ثابتة بأسانيدها إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويرجع عهد القرَّاء الذين أقاموا الناس على طرائقهم في التلاوة إلى عهد الصحابة، فقد اشتهر بالإقراء منهم: أُبَي, وعلي، وزيد بن ثابت، وابن مسعود، وأبو موسى الأشعري، وغيرهم، وعنهم أخذ كثير من الصحابة والتابعين في الأمصار، وكلهم يسند إلى رسول الله, صلى الله عليه وسلم. وقد ذكر الذهبي في "طبقات القرَّاء" أن المشتهرين بإقراء القرآن من الصحابة سبعة: عثمان، وعلي، وأُبَي، وزيد بن ثابت، وأبو الدرداء، وابن مسعود، وأبو موسى الأشعري، قال: وقد قرأ على "أُبَي" جماعة من الصحابة، منهم: أبو هريرة، وابن عباس، وعبد الله بن السائب، وأخذ ابن عباس عن زيد أيضًا. وأخذ عن هؤلاء الصحابة خلق كثير من التابعين في كل مصر من الأمصار. كان منهم "بالمدينة": ابن المسيب، وعروة، وسالم، وعمر بن عبد العزيز، وسليمان وعطاء ابنا يسار، ومعاذ بن الحارث المعروف بمعاذ القارئ، وعبد الرحمن بن هرمز الأعرج، وابن شهاب الزهري، ومسلم بن جندب، وزيد بن أسلم. وكان منهم "بمكة": عبيد بن عمير، وعطاء بن أبي رباح، وطاوس، ومجاهد، وعكرمة، وابن أبي مليكة.

وكان منهم "بالكوفة": علقمة، والأسود، ومسروق، وعبيدة، وعمرو بن شرحبيل، والحارث بن قيس، وعمرو بن ميمون، وأبو عبد الرحمن السلمي، وسعيد بن جبير، والنخعي، والشعبي. وكان منهم "بالبصرة": أبو عالية، وأبو رجاء، ونصر بن عاصم، ويحيى بن يعمر، والحسن، وابن سيرين، وقتادة. وكان منهم "بالشام": المغيرة بن أبي شهاب المخزومي، صاحب عثمان، وخليفة بن سعد، صاحب أبي الدرداء. وفي عهد التابعين على رأس المائة الأولى تجرد قوم واعتنوا بضبط القراءة عناية تامة، حين دعت الحاجة إلى ذلك، وجعلوها عِلمًا كما فعلوا بعلوم الشريعة الأخرى، وصاروا أئمة يُقتدى بهم ويُرْحل إليهم. واشتهر منهم, ومن الطبقة التي تلتهم الأئمة السبعة الذين تُنسب إليهم القراءات إلى اليوم، فكان منهم "بالمدينة": أبو جعفر يزيد بن القعقاع، ثم نافع بن عبد الرحمن، وكان منهم "بمكة": عبد الله بن كثير، وحميد بن قيس الأعرج، وكان منهم "بالكوفة": عاصم بن أبي النجود، وسليمان الأعمش، ثم حمزة، ثم الكسائي، وكان منهم "بالبصرة": عبد الله بن أبي إسحاق، وعيسى بن عمرو، وأبو عمرو بن العلاء، وعاصم الجحدري، ثم يعقوب الحضرمي، وكان منهم "بالشام": عبد الله بن عامر، وإسماعيل بن عبد الله بن المهاجر، ثم يحيى بن الحارث، ثم شريح بن يزيد الحضرمي. والأئمة السبعة الذين اشتهروا من هؤلاء في الآفاق هم: أبو عمرو، ونافع، وعاصم، وحمزة، والكسائي، وابن عامر، وابن كثير1. والقراءات: غير الأحرف السبعة -على أصح الآراء- وإن أوهم التوافق العددي الوحدة بينهما، لأن القراءات مذاهب أئمة، وهي باقية إجماعًا يقرأ بها الناس، ومنشؤها اختلاف في اللهجات وكيفية النطق وطرق الأداء من تفخيم،

_ 1 انظر "الإتقان" جـ1 ص72، 73.

وترقيق، وإمالة، وإدغام، وإظهار، وإشباع، ومد، وقصر، وتشديد، وتخفيف ... إلخ، وجميعها في حرف واحد هو حرف قريش. أما الأحرف السبعة فهي بخلاف ذلك على نحو ما سبق لك، وقد انتهى الأمر بها إلى ما كانت عليه العرضة الأخيرة حين اتسعت الفتوحات، ولم يعد للاختلاف في الأحرف وجه خشية الفتنة والفساد، فحمل الصحابة الناس في عهد عثمان على حرف واحد هو حرف قريش وكتبوا به المصاحف كما تقدم.

كثرة القراء والسبب في الاقتصار على السبعة

كثرة القرَّاء والسبب في الاقتصار على السبعة: قراءات أولئك السبع هي المتفق عليها، وقد اختار العلماء من أئمة القراءة غيرهم ثلاثة صحت قراءتهم وتواترت، وهم: أبو جعفر يزيد بن القعقاع المدني، ويعقوب بن إسحاق الحضرمي، وخلف بن هشام، وهؤلاء وأولئك هم أصحاب القراءات العشر. وما عداها فشاذ، كقراءة: اليزيدي، والحسن, والأعمش، وابن جبير، وغيرهم. ولا تخلو إحدى القراءات العشر حتى السبع المشهورة من شواذ. فإن فيها من ذلك أشياء، واختيار القرَّاء السبع إنما هو للعلماء المتأخرين في المائة الثالثة، وإلا فقد كان الأئمة الموثوق بعلمهم كثيرين، وكان الناس على رأس المائتين بالبصرة على قراءة ابن عمرو, ويعقوب، وبالكوفة على قراءة حمزة وعاصم، وبالشام على قراءة ابن عامر، وبمكة على قراءة ابن كثير، وبالمدينة على قراءة نافع، وكان هؤلاء هم السبعة. فلما كان على رأس المائة الثالثة أثبت أبو بكر بن مجاهد1 اسم الكسائي، وحذف منهم اسم يعقوب. قال السيوطي: "أول من صنف في القراءات أبو عبيد القاسم بن سلام، ثم أحمد بن جبير الكوفي، ثم إسماعيل بن إسحاق المالكي صاحب قالون، ثم

_ 1 مقرئ أهل العراق، وممن ألفوا في هذا الفن، وكان من المتقنين، توفي سنة 324 هجرية.

أبو جعفر بن جرير الطبري، ثم أبو بكر محمد بن أحمد بن عمر الدجوني، ثم أبو بكر بن مجاهد، ثم قام الناس في عصره وبعده بالتأليف في أنواعها جامعًا ومفردًا، وموجزًا ومسهبًا، وأئمة القراءات لا تُحصى، وقد صنف طبقاتهم حافظ الإسلام أبو عبد الله الذهبي، ثم حافظ القرَّاء أبو الخير بن الجزري"1. وقال الإمام ابن الجزري في "النشر": "أول إمام معتبر جَمع القراءات في كتابٍ أبو عبيد القاسم بن سلام، وجعلهم فيما أحسب خمسة وعشرين قارئًَا، مع هؤلاء السبعة، وتوفي سنة "224هـ" ثم قال: وكان في أثره أبو بكر أحمد بن موسى بن العباس بن مجاهد أول من اقتصر على قراءات هؤلاء السبعة فقط، وتوفي سنة "324هـ" ثم قال: وإنما أطلنا في هذا الفصل لما بلغنا عن بعض من لا علم له أن القراءات الصحيحة هي التي عن هؤلاء السبعة، بل غلب على كثير من الجهال أن القراءات الصحيحة هي التي في الشاطبية والتيسير"2. والسبب في الاقتصار على السبعة مع أنه في أئمة القرَّاء مَن هو أجلُّ منهم قدرًا أو مثلهم إلى عدد أكثر من السبعة، هو أن الرواة عن الأئمة كانوا كثيرًا جدًّا, فلما تقاصرت الهمم اقتصروا مما يوافق خط المصحف على ما يسهل حفظه وتنضبط القراءة به، فنظروا إلى من اشتهر بالثقة والأمانة، وطول العمر في ملازمة القراءة والاتفاق على الأخذ عنه فأفردوا من كل مصر إمامًا واحدًا.

_ 1 "الإتقان"، ص73. 2 نقل ابن حجر في "الفتح" هذا، وأثبته الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على "تفسير الطبري" جـ1 ص65 هامش، وابن الجزري: هو محمد بن محمد بن محمد، أبو الخير شمس الدين الشهير بابن الجزري، شيخ القرَّاء في زمانه، من أشهر كتبه: "النشر في القراءات العشر" توفي سنة 833 هجرية, والشاطبية: هي المنظومة المنسوبة إلى الإمام أبي محمد القاسم الشاطبي المتوفى سنة 590 هجرية، نظم فيها كتاب "التيسير" في 1173 بيتًا، وسماها "حرز الأماني ووجه التهاني في القراءات السبع المثاني"، وكتاب "التيسير في القراءات السبع" لأبي عمرو الداني، من أئمة القرَّاء، توفي سنة 444 هجرية.

ولم يتركوا مع ذلك نقل ما كان عليه الأئمة غير هؤلاء من القراءات ولا القراءة بها، كقراءة يعقوب الحضرمي، وأبي جعفر المدني، وشيبة بن نصاع، وغيرهم. وقد أسهم المؤلفون في القراءات في الاقتصار على عدد معين. لأنهم إذ يؤلفون مقتصرين على عدد مخصوص من أئمة القرَّاء يكون ذلك من دواعي شهرتهم وإن كان غيرهم أجلُّ منهم قدرًا، فيتوهم الناس بعد أن هؤلاء الذين اقتصر التأليف على قراءاتهم هم الأئمة المعتبرون في القراءات. وقد صنف ابن جبر المكي كتابًا في القراءات فاقتصر على خمسة، اختار من كل مصر إمامًا، وإنما اقتصر على ذلك لأن المصاحف التي أرسلها عثمان كانت خمسة إلى هذه الأمصار. ويقال: إنه وَجَّه سبعة، هذه الخمسة ومصحفًا إلى اليمن، ومصحفًا إلى البحرين. لكن لما لم يُسمع لهذين المصحفين خبر وأراد ابن مجاهد وغيره مراعاة عدد المصاحف استبدلوا من مصحف البحرين ومصحف اليمن قارئين كمل بهما العدد؛ ولذا قال العلماء: إن التمسك بقراءة سبعة من القرَّاء دون غيرهم ليس فيه أثر ولا سُنَّة. وإنما هو من جمع بعض المتأخرين فانتشر، فلو أن ابن مجاهد مثلًا كتب عن غير هؤلاء السبعة بالإضافة إليهم لاشتهروا. قال أبو بكر بن العربي: "ليست هذه السبعة متعينة للجواز حتى لا يجوز غيرها كقراءة أبي جعفر وشيبة والأعمش ونحوهم، فإن هؤلاء مثلهم أو فوقهم" وكذا قال غير واحد من أئمة القراء، وقال أبو حيان: "ليس في كتاب ابن مجاهد ومن تبعه من القراءات المشهورة إلا النزر اليسير، فهذا أبو عمرو بن العلاء اشتهر عنه سبعة عشر راويًا، ثم ساق أسماءهم، واقتصر في كتاب ابن مجاهد على اليزيدي, واشتهر عن اليزيدي عشرة أنفس. فكيف يقتصر على السوسي, والدوري، وليس لهما مزية على غيرهما، لأن الجميع مشتركون في الضبط والإتقان والاشتراك في الأخذ. قال: ولا أعرف لهذا سببًا إلا ما قضى من نقص العلم"1.

_ 1 انظر "الإتقان" جـ1 ص80، 81.

أنواع القراءات وحكمها وضوابطها

أنواع القراءات وحكمها وضوابطها: ذكر بعض العلماء أن القراءات: متواترة، وآحاد، وشاذة، وجعلوا المتواتر السبع، والآحاد الثلاث المتممة لعشرها، ثم ما يكون من قراءات الصحابة، وما بقي فهو شاذ. وقيل: العشر متواترة. وقيل: المعتمد في ذلك الضوابط سواء أكانت القراءة من القراءات السبع، أو العشر، أوغيرها. قال أبو شامة في "المرشد الوجيز": "لا ينبغي أن يغتر بكل قراءة تُعْزَى إلى أحد السبعة ويُطلق عليها لفظ الصحة وأنها أُنْزَلت هكذا إلا إذا دخلت في ذلك الضابط، وحينئذ لا ينفرد بنقلها مُصنِّف عن غيره، ولا يختص ذلك بنقلها عنهم، بل إن نُقلت عن غيرهم من القرَّاء فذلك لا يخرجها عن الصحة -فإن الاعتماد على استجماع تلك الأوصاف لا على من تُنسب إليه، فإن القراءة المنسوبة إلى كل قارئ من السبعة وغيرهم منقسمة إلى المُجْمَع عليه والشاذ، غير أن هؤلاء السبعة لشهرتهم وكثرة الصحيح المُجْمَع عليه في قراءتهم تركن النفس إلى ما نُقِل عنهم فوق ما يُنقل عن غيرهم"1. والقياس عندهم في ضوابط القراءة الصحيحة ما يأتي: 1- موافقة القراءة للعربية بوجه من الوجوه: سواء أكان أفصح أم فصيحًا، لأن القراءة سُنَّة متبعة يلزم قبولها والمصير إليها بالإسناد لا بالرأي. 2 وأن توافق القراءة أحد المصاحف العثمانية ولو احتمالًا: لأن الصحابة في كتابة المصاحف العثمانية اجتهدوا في الرسم على حسب ما عرفوا من لغات القراءة، فكتبوا "الصراط" مثلًا في قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} 2, "بالصاد" المبدَّلة بالسين - وعدلوا عن "السين" التي هي الأصل، لتكون قراءة "السين" "السراط" وإن خالفت الرسم من

_ 1 انظر "الإتقان" جـ1 ص57. 2 الفاتحة: 6.

وجه، فقد أتت على الأصل اللغوي المعروف، فيعتدلان، وتكون قراءة الإشمام محتملة لذلك. والمراد بالموافقة الاحتمالية ما يكون من نحو هذا، كقراءة: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} 1, فإن لفظة "مالك" كُتبت في جميع المصاحف بحذف الألف، فتقرأ "مَلِكِ" وهي توافق الرسم تحقيقًا، وتقرأ "مالك" وهي توافقه احتمالًا وهكذا. في غير ذلك من الأمثلة. ومثال ما يوافق اختلاف القراءات الرسم تحقيقًا: {تَعْلَمُونَ} بالتاء والياء، و {يَغْفِرْ لَكُمْ} بالياء والنون، ونحو ذلك، مما يدل تجرده عن النقط والشكل في حذفه وإثباته على فضل عظيم للصحابة -رضي الله عنهم- في علم الهجاء خاصة، وفهم ثاقب في تحقيق كل علم. ولا يشترط في القراءة الصحيحة أن تكون موافقة لجميع المصاحف، ويكفي الموافقة لما ثبت في بعضها، وذلك كقراءة ابن عامر: "وبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ"2, بإثبات الباء فيهما، فإن ذلك ثابت في المصحف الشامي. 3- وأن تكون القراءة مع ذلك صحيحة الإسناد: لأن القراءة سُنَّة متبعة يُعتمد فيها على سلامة النقل وصحة الرواية، وكثيرًا ما ينكر أهل العربية قراءة من القراءات لخروجها عن القياس، أو لضعفها في اللغة، ولا يحفل أئمة القرَّاء بإنكارهم شيئًا. تلك هي ضوابط القراءة الصحيحة، فإن اجتمعت الأركان الثلاثة: 1- موافقة العربية. 2- ورسم المصحف. 3- وصحة السند، فهي القراءة الصحيحة، ومتى اختل ركن منها أو أكثر أُطْلِقَ عليها أنها ضعيفة، أو شاذة، أو باطلة.

_ 1 الفاتحة: 4. 2 آل عمران: 184، بدون الباء في الكلمتين.

ومن عجب أن يذهب بعض النحاة بعد ذلك إلى تخطئة القراءة الصحيحة التي تتوافر فيها تلك الضوابط لمجرد مخالفتها لقواعدهم النحوية التي يقيسون عليها صحة اللغة، فإنه ينبغي أن نجعل القراءة الصحيحة, حَكَمًا على القواعد اللغوية والنحوية. لا أن نجعل هذه القواعد حَكَمًا على القرآن. إذ القرآن هو المصدر الأول الأصيل لاقتباس قواعد اللغة، والقرآن يعتمد على صحة النقل والرواية فيما استند إليه القُرَّاء. على أي وجه من وجوه اللغة. قال ابن الجزري معلقًا على الشرط الأول من ضوابط القراءة الصحيحة: "فقولنا, في الضابط: "ولو بوجه" نريد به وجهًا من وجوه النحو، وسواء أكان أفصح أم فصيحًا، مُجْمَعًا عليه أم مختلفًا فيه اختلافًا لا يضر مثله، إذا كانت القراءة مما شاع وذاع وتلقاه الأئمة بالإسناد الصحيح، إذ هو الأصل الأعظم، والركن الأقوم، وكم من قراءة أنكرها بعض أهل النحو أو كثير منهم ولم يُعْتَبر إنكارهم، كإسكان "بارئكم" و"يأمركم" وخفض: "والأرحام" ونصب "ليجزي قومًا". والفصل بين المضافين في: "قتل أولادهم شركائهم" وغير ذلك1". وقال أبو عمرو الداني: "وأئمة القرَّاء لا تعمل في شيء من حروف القرآن على الأفشى في اللغة والأقيس في العربية، بل على الأثبت في الأثر والأصح في النقل، وإذا ثبتت الرواية لم يردها قياس عربية ولا فشو لغة، لأن القراءة سُنَّة متبعة، يلزم قبولها والمصير إليها". وعن زيد بن ثابت قال: "القراءة سُنَّة متبعة"2. قال البيهقي: "أراد أن اتباع من قبلنا في الحروف سُنَّة متبعة، لا يجوز مخالفة المصحف الذي هو إمام، ولا مخالفة القراءات التي هي مشهورة، وإن كان غير ذلك سائغًا في اللغة".

_ 1 انظر "الإتقان" جـ1 ص75, وراجع كتب التفسير في هذه الآيات: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} [النساء: 1] , {لِِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الجاثية: 14] , {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ} [الأنعام: 137] . 2 أخرجه سعيد بن منصور في سننه.

واستخلص بعض العلماء أنواع القراءات فجعلها ستة أنواع: الأول- المتواتر: وهو مانقله جمع لا يمكن تواطؤهم على الكذب عن مثلهم إلى منتهاه, وهذا هو الغالب في القراءات. الثاني- المشهور: وهو ما صح سنده ولم يبلغ درجة المتواتر، ووافق العربية والرسم، واشتهر عند القرَّاء فلم يعدوه من الغلط، ولا من الشذوذ, وذكر العلماء في هذا النوع أنه يُقرأ به. الثالث- الآحاد: وهو ما صح سنده، وخالف الرسم، أو العربية، أو لم يشتهر الاشتهار المذكور. وهذا لا يُقرأ به، ومن أمثلته ما رُوِي عن أبي بكرة: "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قرأ: "متكئين على رفارف خضر وعباقري حسان"1. وما رُوِي عن ابن عباس أنه قرأ: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} 2 - بفتح الفاء". الرابع- الشاذ: وهو ما لم يصح سنده. كقراءة "ملك يوم الدين"3, بصيغة الماضي. ونصب "يوم". الخامس- الموضوع: وهو ما لا أصل له. السادس- المدرج: وهو ما زيد في القراءات على وجه التفسير, كقراءة ابن عباس: "ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلًا من ربكم في مواسم الحج، فإذا أفضتم من عرفات"4, فقوله: "في مواسم الحج" تفسير مدرج في الآية. والأنواع الأربعة الأخيرة لا يُقرأ بها.

_ 1 أخرجه الحاكم, [والآية من سورة الرحمن: 76] بلفظ: {مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ} . 2 أخرجه الحاكم , [والآية من سورة التوبة: 128] . 3 الفاتحة: 4. 4 أخرجها البخارى, [والآية من سورة البقرة: 198] بدون عبارة: "في مواسم الحج".

والجمهور على أن القراءات السبع متواترة، وأن غير المتواتر المشهور لا تجوز القراءة به في الصلاة ولا في غيرها: قال "النووي" في "شرح المهذب": "لا تجوز القراءة في الصلاة ولا غيرها بالقراءة الشاذة، لأنها ليست قرآنًا، لأن القرآن لا يثبت إلا بالتواتر والقراءة الشاذة ليست متواترة، ومن قال غيره فغالط أو جاهل، فلو خالف وقرأ بالشاذ أنكر عليه قراءته في الصلاة وغيرها، وقد اتفق فقهاء بغداد على استتابة من قرأ بالشواذ، ونقل ابن عبد البر إجماع المسلمين على أنه لا يجوز القراءة بالشواذ، ولا يُصلَّى خلف مَن يقرأ بها".

فوائد الاختلاف في القراءات الصحيحة

فوائد الاختلاف في القراءات الصحيحة مدخل ... فوائد الاختلاف في القراءات الصحيحة: ولاختلاف القراءات الصحيحة فوائد منها: 1- الدلالة على صيانة كتاب الله وحفظه من التبديل والتحريف مع كونه على هذا الأوجه الكثيرة. 2- التخفيف عن الأمة وتسهيل القراءة عليها. 3- إعجاز القرآن في إيجازه، حيث تدل كل قراءة على حكم شرعي دون تكرر اللفظ كقراءة: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} 1, بالنصب والخفض في "وأرجلكم" ففي قراءة النصب بيان لحكم غسل الرجل، حيث يكون العطف على معمول فعل الغسل: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} وقراءة الجر بيان لحكم المسح على الخفين عند وجود ما يقتضيه، حيث يكون العطف على معمول فعل المسح {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} فنستفيد الحكمين من غير تطويل، وهذا من معاني الإعجاز في الإيجاز بالقرآن. 4- بيان ما يُحتمل أن يكون مُجملًا في قراءة أخرى كقراءة: "يطهرن" في قوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} 2, قُرِئ بالتشديد والتخفيف، فقراءة التشديد مبينة لمعنى قراءة التخفيف، عند الجمهور، فالحائض لا يحل وطؤها لزوجها بالطهر من الحيض، أي بانقطاع الدم، حتى تتطهر بالماء, وقراءة: "فامضوا إلى ذكر الله" فإنها تبيِّن أن المراد بقراءة "فاسعوا" الذهاب لا المشي السريع في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} 3, وقراءة "والسارق والسارقة فاقطعوا أيمانهما"4 بدلًا من "أيديهما"

_ 1 المائدة: 6. 2 البقرة: 222. 3 الجمعة: 9. 4 المائدة: 38 بلفظ "أيديهما".

فقد بينت ما يُقطع, وقراءة: "وله أخ أو أخت من أم فلكل واحد منهما السدس"1, فقد بيَّنت أن المراد الإخوة لأم، ولذا قال العلماء: "باختلاف القراءات يظهر الاختلاف في الأحكام". قال أبو عبيد في "فضائل القرآن": المقصد من القراءة الشاذة تفسير القراءة المشهورة وتبيين معانيها، كقراءة عائشة وحفصة: "والصلاة الوسطى صلاة العصر"2، وقراءة ابن مسعود: "فاقطعوا أيمانهما"، وقراءة جابر: "فإن الله من بعد إكراههن لهن غفور رحيم"3 ... قال: "فهذه الحروف وما شاكلها قد صارت مفسِّرة للقرآن، وقد كان يُروى مثل هذا عن التابعين في التفسير فيُستحسن، فكيف إذا رُوِي عن كبار الصحابة، ثم صار في نفس القراءة، فهو أكثر من التفسير وأقوى، فأدنى ما يُستنبط من هذه الحروف معرفة صحة التأويل"4. والقرَّاء السبعة المشهورون الذين ذكرهم أبو بكر بن مجاهد وخصَّهم بالذكر لما اشتهروا به عنده من الضبط والأمانة وطول العمر في ملازمة القراءة واتفاق الآراء على الأخذ عنهم هم: 1- أبو عمرو بن العلاء شيخ الرواة: وهو زيان بن العلاء بن عمار المازني البصري، وقيل اسمه يحيى، وقيل اسمه كنيته، وتوفي بالكوفة سنة أربع وخمسين ومائة "154هـ" وراوياه: الدوري، والسوسي، فأما الدوري: فهو أبو عمر حفص بن عمر بن عبد العزيز الدوري النحوي، والدور: موضع ببغداد، توفي سنة ست وأربعين ومائتين "246هـ".

_ 1 النساء: 12 بدون عبارة: "من أم". 2 البقرة: 238 بدون عبارة: "صلاة العصر". 3 النور: 33 بدون عبارة: "لهن". 4 انظر "الإتقان" جـ1 ص82.

وأما السوسي: فهو أبو شعيب صالح بن زياد بن عبد الله السوسي، توفي سنة إحدى وستين ومائتين "261هـ". 2- ابن كثير: هو عبد الله بن كثير المكي، وهو من التابعين، وتوفي بمكة سنة عشرين ومائة "120هـ" وراوياه: البزي، وقنبل، أما البزي: فهو أحمد بن محمد بن عبد الله بن أبي بزة المؤذن المكي، ويكنى أبا الحسن، وتوفي بمكة سنة خمسين ومائتين "250هـ". وأما قنبل: فهو محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن خالد بن سعيد المكي المخزومي، ويكنى أبا عمرو، ويلقب قنبلًا، ويقال: هم أهل البيت بمكة، يعرفون بالقنابلة، وتوفي بمكة سنة إحدى وتسعين ومائتين "291هـ". 3- نافع المدني: هو أبو رويم نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم الليثي، أصله من أصفهان، وتوفي بالمدينة سنة تسع وستين ومائة "169هـ" وراوياه: قالون: وورش، أما قالون: فهو عيسى بن منيا "بالمد والقصر" المدني معلم العربية، ويكنى أبا موسى، وقالون لقب له أيضًا، يُروى أن نافعًا لقَّبه به لجودة قراءته لأن "قالون" بلسان الروم "جيد". وتوفي بالمدينة سنة عشرين ومائتين "220هـ". وأما ورش: فهو عثمان بن سعيد المصري، ويكنى أبا سعيد، وورش لقب له، لقب به فيما يقال لشدة بياضه، وتوفي بمصر سنة سبع وتسعين ومائة "197هـ". 4- ابن عامر الشامي: هو عبد الله بن عامر اليحصبي قاضي دمشق في خلافة الوليد بن عبد الملك. ويكنى أبا عمران، وهو من التابعين، وتوفي بدمشق سنة ثمان عشرة ومائة "118هـ" وراوياه: هشام، وابن ذكوان، فأما هشام: فهو هشام بن عمار بن نصير القاضي الدمشقي، ويكنى أبا الوليد، وتوفي بها سنة خمس وأربعين ومائتين "245هـ".

وأما ابن ذكوان: فهو عبد الله بن أحمد بن بشير بن ذكوان القرشي الدمشقي، ويكنى أبا عمرو، ولد سنة ثلاث وسبعين ومائة "173هـ" وتوفي بدمشق سنة اثنتين وأربعين ومائتين "242هـ". 5- عاصم الكوفي: هو عاصم بن أبي النجود، ويقال له ابن بهدلة، أبو بكر، وهو من التابعين، وتوفي بالكوفة سنة ثمان وعشرين ومائة "128هـ" وراوياه: شعبة، وحفص، فأما شعبة، فهو أبو بكر شعبة بن عباس بن سالم الكوفي، وتوفي بالكوفة سنة ثلاث وتسعين ومائة "193هـ". وأما حفص: فهو حفص بن سليمان بن المغيرة البزاز الكوفي، ويكنى أبا عمرو، وكان ثقة، قال ابن معين: هو أقرأ من أبي بكر، وتوفي سنة ثمانين ومائة "180هـ". 6- حمزة الكوفي: هو حمزة بن حبيب بن عمارة الزيات الفرضي التيمي، ويكنى أبا عمارة وتوفي بحلوان في خلافة أبي جعفر المنصور سنة ست وخمسين ومائة "156هـ" وراوياه: خلف، وخلاد، فأما خلف: فهو خلف بن هشام البزاز، ويكنى أبا محمد توفي ببغداد سنة تسع وعشرين ومائتين "229هـ". وأما خلاد، فهو خلاد بن خالد، ويقال ابن خليد، الصيرفي الكوفي، ويكنى أبا عيسى، وتوفي بها سنة عشرين ومائتين "220هـ". 7- الكسائي الكوفي: هو علي بن حمزة إمام النحاة الكوفيين، ويكنى أبا الحسن، وقيل له "الكسائي" من أجل أنه أحرم في كساء, توفي بـ "رنبوية" قرية من قرى الري حين توجه إلى خراسان مع الرشيد سنة تسع وثمانين ومائة "189هـ" وراوياه:

أبو الحارث، وحفص الدوري: فأما أبو الحارث فهو الليث بن خالد البغدادي، توفي سنة أربعين ومائتين "240هـ". وأما حفص الدوري: فهو الراوى عن أبي عمرو، وقد سبق ذكره. أما الثلاثة تكملة العشرة فهم: 8- أبو جعفر المدني: هو يزيد بن القعقاع، وتوفي بالمدينة سنة ثمان وعشرين ومائة "128هـ" - وقيل: "132هـ", وراوياه: ابن وردان: وابن جماز: فأما ابن وردان: فهو أبو الحارث عيسى بن وردان المدني، وتوفي بالمدينة في حدود الستين ومائة "160هـ". وأما ابن جماز: فهو أبو الربيع سليمان بن مسلم بن جماز المدني، توفي بها بُعَيْد السبعين ومائة "170هـ". 9- يعقوب البصري: هو أبو محمد يعقوب بن إسحاق بن زيد الحضرمي، وتوفي بالبصرة سنة خمس ومائتين "205هـ" - وقيل "185هـ" - وراوياه: رويس، وروح، فأما رويس: فهو أبو عبد الله محمد بن المتوكل اللؤلؤي البصري، ورويس لقب له، وتوفي بالبصرة سنة ثمان وثلاثين ومائتين "238هـ". وأما روح: فهو أبو الحسن روح بن عبد المؤمن البصري النحوي، وتوفي سنة أربع أو خمس وثلاثين ومائتين "234هـ" - أو "235هـ". 10- خلف: هو أبو محمد خلف بن هشام بن ثعلب البزار البغدادي وتوفي سنة تسع وعشرين ومائتين "229هـ" - وقيل: لم يوقف على تاريخ وفاته - وراوياه: إسحاق، وإدريس، أما إسحاق: فهو أبو يعقوب إسحاق بن إبراهيم بن عثمان الوراق المروزي ثم البغدادي، توفي سنة ست وثمانين ومائتين "286هـ".

وأما إدريس: فهو أبو الحسن إدريس بن عبد الكريم البغدادي الحداد، توفي يوم الأضحى سنة اثنتين وتسعين ومائتين "292هـ". ويزيد بعضهم أربع قراءات على هاتيك العشر، وهن: 1- قراءة الحسن البصري، مولى الأنصار، أحد كبار التابعين المشهورين بالزهد، توفي سنة 110 هجرية. 2- وقراءة محمد بن عبد الرحمن المعروف بابن محيصن، توفي سنة 123 هجرية، وكان شيخًا لأبي عمرو. 3- وقراءة يحيى بن المبارك اليزيدي النحوي، من بغداد، أخذ عن أبي عمرو وحمزة، وكان شيخًا للدوري والسوسي. توفي سنة 202 هجرية. 4- وقراءة أبي الفرج محمد بن أحمد الشنبوذي، توفي سنة 388 هجرية.

الوقف والإبتداء

الوقف والابتداء 1: لمعرفة الوقف والابتداء أهمية كبرى في كيفية أداء القرآن حفاظًا على سلامة معاني الآيات. وبُعدًا عن اللَّبس والوقوع في الخطأ. وهذا يحتاج إلى دراية بعلوم العربية، وعلم القراءات، وتفسير القرآن، حتى لا يفسد المعنى. ولهذا أمثلته: فيجب الوقف مثلًا على قوله تعالى: {وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا} 2, ثم يبتدئ: {قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ} 3, لئلا يتوهم أن قوله: "قيمًا" صفة لقوله "عوجًا" إذ العوج لا يكون قيمًا. وعلى ما آخره هاء سكت في مثل قوله تعالى: {يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ, وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ} 4, وقوله: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ, هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} 5, فإنك في غير القرآن تثبت هذه الهاء إذا وقفت، وتحذفها إذا وصلت، وهي مكتوبة في المصحف بـ "الهاء"، فلا يوصل، لأنه يلزم في حكم العربية إسقاط "الهاء" في الوصل. فإثباتها إذا وصلت مخالفة للعربية، وحذفها مخالفة للمصحف، وفي الوقف عليها اتباع للمصحف والعربية معًا. وجواز الوصل بـ "الهاء" إنما يكون على نية الوقف. ويجب الوقف مثلًا على قوله: {وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ} 6، ثم يبتدئ: {إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} 6, كي يستقيم المعنى، لأنه إذا وصل أوهم هذا أن القول الذي يحزنه هو قولهم: {إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} وليس كذلك. ولا شك أن معرفة الوقف والابتداء لها فائدتها في فهم المعاني وتدبر

_ 1 أفرده بالتأليف جماعة، منهم: ابن النحاس، وابن عباد، والداني، وانظر "البرهان" للزركشي جـ1 ص342. 2 الكهف: 1. 3 الكهف: 2. 4 الحاقة: 25، 26. 5 الحاقة: 28، 29. 6 يونس: 65.

الأحكام، عن ابن عمر قال: "لقد عشنا برهة من دهرنا وإن أحدنا ليؤتى الإيمان قبل القرآن، ولقد رأينا اليوم رجالًا يؤتى أحدهم القرآن قبل الإيمان، فيقرأ ما بين فاتحته إلى خاتمته، ما يدري ما آمره ولا زاجره، ولا ما ينبغي أن يوقف عنده، وكل حرف منه ينادي: أنا رسول الله إليك لتعمل بي. وتتعظ بمواعظي"1.

_ 1 انظر هامش "البرهان" جـ1 ص342.

أقسام الوقف

أقسام الوقف: اختلف العلماء في أقسام الوقف: فقيل: ينقسم الوقف إلى ثمانية أضرب: تام، وشبيه به، وناقص، وشبيه به، وحسن، وشبيه به، وقبيح، وشبيه به. وقيل: ينقسم إلى ثلاثة: تام، وجائز، وقبيح. وقيل: ينقسم إلى قسمين: تام، وقبيح. والمشهور أنه ينقسم إلى أربعة أقسام: تام مختار، وكاف جائز، وحسن مفهوم، وقبيح متروك. 1- فالتام: هو الذي لا يتعلق بشيء مما بعده، وأكثر ما يوجد عند رءوس الآي، كقوله تعالى: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 1, ثم يبتدئ: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} 2، وقد يوجد قبل انقضاء الفاصلة، كقوله تعالى: {وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً} 3, حيث انتهى بهذا كلام بلقيس، ثم قال تعالى: {وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} 4, وهو رأس الآية. 2- والكافي الجائز: هو الذي يكون اللفظ فيه منقطعًا، ويكون المعنى متصلًا. ومن أمثلته: كل رأس آية بعدها لام كي: كقوله تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ, لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ} 5.

_ 1 البقرة: 5. 2 البقرة: 6. 3 النمل: 34. 4 النمل: 34. 5 يس: 69، 70.

3- والحسن: هو الذي يحسن الوقف عليه ولا يحسن الابتداء بما بعده لتعلقه به في اللفظ والمعنى كقوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ, الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} 1. 4- والقبيح: هو الذي لا يفهم منه المراد، كالوقوف على قوله تعالى {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا} 2, والابتداء بقوله: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} 3؛ لأن المعنى على الابتداء يكون كفرًا، ونظيره قوله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} 4, فلا يقف على "قالوا" وهكذا..

_ 1 الفاتحة: 2، 3. 2 المائدة: 17، 72. 3 المائدة: 17، 72. 4 المائدة: 73.

التجويد وآداب التلاوة

التجويد وآداب التلاوة مدخل ... التجويد وآداب التلاوة: كان عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قارئًا ندي الصوت، يجيد تلاوة القرآن، وللتلاوة الجيدة أثرها لدى القارئ والمستمع في فهم معاني القرآن وإدراك أسرار إعجازه، في خشوع وضراعة، وقد قال صلى الله عليه وسلم فيه: "من أحب أن يقرأ القرآن غضًّا كما أُنْزل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد " يعني ابن مسعود، وذلك لما أعطيه من حسن الصوت وتجويد القرآن. وللعلماء قديمًا وحديثًا عناية بتلاوة القرآن حتى يكون النطق صحيحًا، ويُعرف هذا عندهم بتجويد القرآن، وأفرده جماعة بالتصنيف نظمًا ونثرًا، وعرَّفوا التجويد بأنه: "إعطاء الحروف حقوقها وترتيبها، ورد الحرف إلى مخرجه وأصله، وتلطيف النطق به على كمال هيئته من غير إسراف ولا تعسف ولا إفراط ولا تكلف". والتجويد وإن كان صناعة علمية لها قواعدها التي تعتمد على إخراج الحروف من مخارجها مع مراعاة صلة كل حرف بما قبله وما بعده في كيفية الأداء فإنه لا يُكتسب بالدراسة بقدر ما يُكتسب بالممارسة والمران ومحاكاة من يجيد القراءة، قال ابن الجزري: "ولا أعلم لبلوغ النهاية في التجويد مثل رياضة الألسن والتكرار على اللفظ المتلقى من فم المحسن، وقاعدته ترجع إلى كيفية الوقف والإمالة والإدغام وإحكام الهمز والترقيق والتفخيم ومخارج الحروف"1. وقد عدَّ العلماء القراءة بغير تجويد لحنًا، واللحن: خلل يطرأ على الألفاظ، ومنه الجلي والخفي، فالجلي: هو الذي يخل باللفظ إخلالًا ظاهرًا يشترك في معرفته علماء القراءة وغيرهم، وذلك كالخطأ الإعرابي أو الصرفي، والخفي: هو الذي يخل باللفظ إخلالًا يختص بمعرفته علماء القراءة وأئمة الأداء الذين تلقوه من أفواه العلماء وضبطوه من ألفاظ الأداء.

_ 1 انظر "الإتقان" جـ1 ص100.

والمبالغة في التجويد إلى حد الإفراط والتكلف ليست أقل من اللحن، لأنها زيادة للحروف في غير موضعها، كأولئك الذين يقرءون القرآن اليوم بنغم شجي يتردد فيه الصوت تردد الوقع الموسيقي والعزف على آلات الطرب، وقد نبَّه العلماء على ما ابتدعه الناس من ذلك بما يسمى: بـ: الترعيد، أو الترقيص، أو التطريب، أو التحزين، أو الترديد، ونقل ذلك السيوطي في الإتقان، وعبَّر عنه الرافعي في "إعجاز القرآن" بقوله: "ومما ابتُدِع في القراءة والأداء هذا التلحين الذي بقي إلى اليوم يتناقله المفتونة قلوبهم وقلوب من يعجبهم شأنهم، ويقرءون به على ما يشبه الإيقاع، وهو الغناء! ... ومن أنواعه عندهم في أقسام النغم "الترعيد" وهو أن يرعد القارئ صوته، قالوا: كأنه يرعد من البرد أو الألم.. و"الترقيص" وهو أن يروم السكوت على الساكن ثم ينقر مع الحركة كأنه في عدْو أو هرولة، و"التطريب" وهو أن يترنم بالقرآن ويتنغم به فيمد في سير مواضع المد، ويزيد في المد إن أصاب موضعه، و"التحزين" وهو أن يأتي القراءة على وجه حزين يكاد يبكي مع خشوع وخضوع، ثم "الترديد" وهو رد الجماعة على القارئ في ختام قراءته بلحن وافد على وجه من تلك الوجوه. وإنما كانت القراءة تحقيقًا وهو إعطاء كل حرف حقه على مقتضى ما قرره العلماء مع ترتيل وتؤدة أو حدرًا وهو إدراج القراءة وسرعتها مع مراعاة شروط الأداء الصحيحة أو تدويرًا وهو التوسط بين التحقيق والحدر". وقراءة القرآن سُنَّة من سُنن الإسلام، والإكثار منها مستحب حتى يكون المسلم حي القلب مستنير الفؤاد بما يقرأ من كتاب الله، عن ابن عمر قال: قال رسول الله, صلى الله عليه وسلم: "لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالًا فهو ينفقه في آناء الليل وآناء النهار، ورجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار" 1.

_ 1 أخرجه البخاري ومسلم.

والتلاوة مع إخلاص النية وحسن القصد عبادة يؤجر عليها المسلم، عن ابن مسعود: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من قرأ حرفًا من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها" 1, وجاء في حديث أبي أمامة: "اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابه" 2. وكان السلف رضوان الله عليهم يحافظون على تلاوة القرآن, ومنهم من كان يختم في اليوم والليلة، ومنهم من كان يختم في أكثر، عن عبد الله بن عمرو قال: قال لي رسول الله, صلى الله عليه وسلم: "اقرأ القرآن في شهر، قلت: إني أجد قوة، قال: اقرأه في عشر، قلت: إني أجد قوة، قال: اقرأه في سبع ولا تزد على ذلك" 3. وحذَّر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من نسيان القرآن، فقال: "تعاهدوا القرآن، فوالذي نفس محمد بيده لهو أشد تفلتًا من الإبل في عقلها" 4. والأمر في كثرة القراءة وختم القرآن يختلف باختلاف الأشخاص لاختلاف قدراتهم، وتفاوت المصالح العامة التي تُناط بهم. قال النووي في "الأذكار": "المختار أن ذلك مختلف باختلاف الأشخاص، فمن كان يظهر له بدقيق الفكر لطائف ومعارف فليقتصر على قدر يحصل له معه كمال فهم ما يقرأ، وكذلك من كان مشغولًا بنشر العلم أو فصل الحكومات أو غير ذلك من مهمات الدين والمصالح العامة، فليقتصر على قدر لا يحصل بسببه إخلال بما هو مرصد له، ولا فوات كماله، وإن لم يكن من هؤلاء المذكورين فليُكثر ما أمكنه من غير خروج إلى حد الملل أو الهذرمة في القراءة".

_ 1 رواه الترمذي. 2 أخرجه مسلم. 3 رواه البخاري ومسلم. 4 رواه البخاري ومسلم.

آداب التلاوة

آداب التلاوة: ويستحب لقارئ القرآن: 1- أن يكون على وضوء، لأن ذلك من أفضل الذكر. وإن كانت القراءة للمُحدِث جائزة. 2- وأن يكون في مكان نظيف طاهر, مراعاة لجلال القراءة. 3- وأن يقرأ بخشوع وسكينة ووقار. 4- وأن يستاك قبل البدء في القراءة. 5- وأن يتعوَّذ في بدايتها، لقوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} 1، وأوجب الاستعاذة بعض العلماء. 6- وأن يحافظ على البسملة في مطلع كل سورة سوى "براءة" لأنها آية على الرأي الراجح. 7- وأن تكون قراءته ترتيلًا، يعطي الحروف حقها من المد والإدغام، قال تعالى: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} 2، وعن أنس أنه سُئل عن قراءة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "كانت مدًّا، ثم قرأ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} يمد الله، ويمد الرحمن، ويمد الرحيم" 3، وعن ابن مسعود: "أن رجلًا قال له: إني أقرأ المفصَّل في ركعة واحدة، فقال: أهذًّا كهذِّ الشعر؟ 4، إن قومًا يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم، ولكن إذا وقع في القلب فرسخ فيه نفع" 5 , وقال الزركشي في "البرهان": "كمال الترتيل تفخيم ألفاظه، والإبانة عن حروفه، وأن لا يُدغم حرف في حرف، وقيل: هذا أقله، وأكمله أن يقرأه على منازله، فإن قرأ تهديدًا لفظ به لفظ التهديد، أو تعظيمًا لفظ به على التعظيم".

_ 1 النحل: 98. 2 المزمل: 4. 3 رواه البخاري. 4 الهذ، والهذذ: سرعة القراءة. 5 أخرجه البخاري ومسلم.

8- وأن يتدبر ما يقرأ، لأن هذا هو المقصود الأعظم، والمطلوب الأهم. وذلك بأن يُشغل قلبه بالتفكير في معنى ما يقرأ، ويتجاوب مع كل آية بمشاعره وعواطفه، دعاء واستغفارًا، ورحمة، وعذابًا. قال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} 1، وعن حذيفة قال: "صليتُ مع النبي -صلى الله عليه وسلم- ذات ليلة، فافتتح البقرة فقرأها، ثم النساء فقرأها، ثم آل عمران فقرأها، يقرأ مترسلًا، إذا مر بآية فيها تسبيح سبَّح، وإذا مر بسؤال سأل، وإذا مر بتعوذ تعوَّذ"2. 9- أن يتأثر بآيات القرآن وعدًا ووعيدًا، فيحزن ويبكي لآيات الوعيد فزعًا ورهبة وهولًا، قال تعالى: {وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} 3، وفي حديث ابن مسعود قال: "قال لي رسول الله, صلى الله عليه وسلم: "اقرأ عليَّ القرآن". قلت: يا رسول الله، أقرأ عليك وعليك أُنزل؟ قال: "نعم.. إني أحب أن أسمعه من غيري"، فقرأت سورة النساء حتى أتيت إلى هذه الآية: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا} 4, قال: "حسبك الآن. فالتفتُّ فإذا عيناه تذرفان" 5, قال في شرح المهذب: وطريقه في تحصيل البكاء أن يتأمل ما يقرأ من التهديد والوعيد الشديد والمواثيق والعهود، ثم يفكر في تقصيره فيها فإن لم يحضره عند ذلك حزن وبكاء فليبك على فقد ذلك فإنه من المصائب. ورَوَى ابن ماجه عن أنس قال: قال رسول الله, صلى الله عليه وسلم: "يخرج قوم في آخر الزمان -أو في هذه الأمة- يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم -أو حلوقهم- إذا رأيتموهم -أو إذا لقيتموهم- فاقتلوهم". 10- وأن يُحسِّن صوته بالقراءة، فإن القرآن زينة للصوت، والصوت الحسن أوقع في النفس، وفي الحديث: "زيِّنوا القرآن بأصواتكم" 6.

_ 1 سورة ص: 29. 2 أخرجه مسلم. 3 الإسراء: 109. 4 النساء: 41. 5 أخرجه البخاري وغيره. 6 رواه ابن حبان وغيره.

11- وأن يجهر بالقراءة حيث يكون الجهر أفضل. لما فيه من إيقاظ القلب، وتجديد النشاط، وانصراف السمع إلى القراءة، وتعدي نفعها إلى السامعين، واستجماع المشاعر للتفكير والنظر والتدبر. أما إذا خشي بذلك الرياء، أو كان فيه أذًى للناس كإيذاء المصلين فإن الإسرار يكون أفضل، قال, صلى الله عليه وسلم: "ما أَذِن الله لشيء ما أَذِن لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به" 1. 12- واختلفوا في القراءة في المصحف والقراءة على ظهر قلب، أيهما أفضل؟ على ثلاثة أقوال2: أحدها: أن القراءة في المصحف أفضل، لأن النظر فيه عبادة، فتجتمع القراءة والنظر. وثانيها: أن القراءة على ظهر القلب أفضل، لأنها أدعى إلى حسن التدبر، وهو الذي اختاره العز بن عبد السلام وقال: "قيل: القراءة في المصحف أفضل، لأنه يجمع فعل الجارحتين: وهما اللسان والعين، والأجر على قدر المشقة، وهذا باطل، لأن المقصود من القراءة التدبر، لقوله تعالى: {لِّيَدَّبَّرُواُ آيَاِتِه} 3, والعادة تشهد أن النظر في المصحف يخل بهذا المقصود فكان مرجوحًا". وثالثها: أن الأمر يختلف باختلاف الأحوال، فإن كان القارئ من حفظه يحصل له من التدبر والتفكر وجمع القلب أكثر مما يحصل له من المصحف, فالقراءة من الحفظ أفضل، وإن استويا فمن المصحف أفضل.

_ 1 أخرجه البخاري ومسلم. 2 انظر "البرهان" للزركشي جـ1 ص461. 3 سورة ص: 29.

تعلم القرآن والأجرة عليه

تعلُّم القرآن والأجرة عليه: تعليم القرآن فرض كفاية، وحفظه واجب على الأمة، حتى لا ينقطع عدد التواتر فيه حفظًا، ولا يتطرق إليه التبديل والتحريف، فإن قام بذلك قوم سقط عن الباقين، وإلا أثموا بأسرهم، وفي حديث عثمان: "خيركم من تعلم القرآن وعلمه" 1. وسبيل تعلمه حفظ آيات يتلوها آيات، وهذا هو المعروف اليوم في وسائل التربية الحديثة، أن يحفظ الدارس شيئًا قليلًا، ثم يتبعه بقليل آخر، ثم يضم هذا إلى ذاك، وهكذا. عن أبي العالية قال: "تعلَّموا القرآن خمس آيات خمس آيات، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يأخذه من جبريل عليه السلام خمسًا خمسًا". وقد اختلف العلماء في جواز أخذ الأجر على تعليم القرآن، ورجح المحققون الجواز، لقوله, صلى الله عليه وسلم: "إن أحق ما أخذتم عليه أجرًا كتاب الله" 2، وقوله: "زوجتكها بما معك من القرآن" 3. وقسَّم بعض العلماء تعليم القرآن تقسيمًا جيدًا للحالات المختلفة، وبينوا حكم كل حالة منها: قال أبو الليث في كتاب "البستان"4: "التعليم على ثلاثة أوجه: أحدها للحسبة ولا يأخذ به عوضًا، والثاني أن يعلِّم بالأجرة، والثالث أن يعلِّم بغير شرط فإذا أهدي إليه قبل.

_ 1 رواه البخاري. 2 رواه البخاري في كتاب "الطب" من حديث ابن عباس. 3 رواه الشيخان في باب النكاح. 4 هو أبو الليث نصر بن محمد السمرقندي المتوفى سنة 375 هجرية، وكتابه "بستان العارفين" في الأحاديث الواردة في الآداب الشرعية والخصال والأخلاق وبعض الأحكام الفرعية، وانظر "البرهان" للزركشي جـ1 ص457.

فالأول: مأجور عليه، وهو عمل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. والثاني: مختَلَف فيه، فقيل لا يجوز، لقوله, صلى الله عليه وسلم: "بلِّغوا عني ولو آية"، وقيل: يجوز، والأفضل للمعلِّم أن يشارط الأجرة للحفظ وتعليم الكتابة، فإن شارط لتعليم القرآن أرجو أنه لا بأس به، لأن المسلمين قد توارثوا ذلك واحتاجوا له. وأما الثالث: فيجوز في قولهم جميعًا، لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان معلِّمًا للخلق، وكان يقبل الهدية، ولحديث اللديغ لما رقوه بالفاتحة وجعلوا له جُعلًا، وقال النبي, صلى الله عليه وسلم: "واضربوا لي معكم فيها بسهم" 1.

_ 1 رواه البخاري في كتاب "الطب" من حديث ابن عباس.

القواعد التي يحتاج إليها المفسر

القواعد التي يحتاج إليها المفسر مدخل ... 11- القواعد التي يحتاج إليها المفسر: لا بد في تناول أي علم من العلوم من معرفة أسسه العامة ومميزاته الخاصة حتى يكون الطالب له على بصيرة، وبقدر ما يتمكن الإنسان من آلة العلم بقدر ما يحرز من نصر فيه، حيث يلج فصوله من أبوابها وقد أعطي مفاتيحها، وإذا كان القرآن الكريم قد نزل بلسان عربي مبين: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} 1، فإن القواعد التي يحتاج إليها المفسِّر في فهم القرآن ترتكز على قواعد العربية، وفهم أسسها، وتذوق أسلوبها، وإدراك أسرارها، ولذلك كله فصول متناثرة، ومباحث مستفيضة في فروع العربية وعلومها، إلا أننا نستطيع أن نجمع موجزًا لأهم ما يجب معرفته في الأمور الآتية:

_ 1 يوسف: 2.

الضمائر

1- الضمائر: للضمائر قواعدها اللغوية التي استنبطها علماء اللغة، من القرآن الكريم، ومن مصادر العربية الأصيلة، ومن الحديث النبوي، ومن كلام العرب الذين يُستشهد بكلامهم نظمًا ونثرًا، وقد ألَّف ابن الأنباري1 في بيان الضمائر الواقعة في القرآن مجلدين2. وأصل وضع الضمير للاختصار، فهو يُغني عن ذكر ألفاظ كثيرة، ويحل محلها مع سلامة المعنى وعدم التكرار، فقد قام في قوله تعالى: {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} 3, مقام عشرين كلمة لو أُتِيَ بها مُظهَرة، هي

_ 1 هو أبو بكر محمد بن القاسم الأنباري، كان له عناية باللغة وبعلوم القرآن، توفي سنة 328 هجرية. 2 انظر "الإتقان" جـ1 ص186. 3 الأحزاب: 35.

المذكورة في صدر الآية: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} 1. والأصل تقديم مفسر لضمير الغائب.. ويعلل النحاة هذا الأصل بأن ضمير المتكلم والمخاطب يفسرهما المشاهدة، وضمير الغائب عار عن هذا الوجه من التفسير، فكان الأصل تقديم معاده ليعلم المراد بالضمير قبل ذكره. ولذلك قالوا: يمتنع عود الضمير على متأخر لفظًا ورتبة، واستثنوا من هذه القاعدة مسائل يرجع فيها الضمير إلى ما استغني عن ذكره بما يدل عليه من قرائن في نفس اللفظ، أو أحوال أخرى تحف بمقام الخطاب2، قال ابن مالك في "التسهيل": "الأصل تقديم مفسر ضمير الغائب، ولا يكون غير الأقرب إلا بدليل، وهو إما مصرح به بلفظه، أو مستغنى عنه بحضور مدلوله حسًّا أو علمًا، أو بذكر ما هو له جزء أو كل أو نظير أو مصاحب بوجه ما". وعلى هذا فالمرجع الذي يعود إليه ضمير الغيبة. يكون ملفوظًا به سابقًا عليه مطابقًا له -وهذا هو الكثير الغالب- كقوله تعالى: {وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ} 3, أو يكون ما سبق متضمنًا له، كقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} 4.

_ 1 الأحزاب: 35. 2 ألقى الدكتور طه حسين في مؤتمر المستشرقين السابع عشر بجامعة أكسفورد سنة 1347 هجرية محاضرة عنوانها "ضمير الغائب واستعماله اسم إشارة في القرآن" نشرتها مجلة الرابطة الشرقية جاء فيها: إن ضمير الغائب يجب أن يعود إلى مذكور يتقدمه لفظًا ورتبة، يطابق هذا المذكور في التذكير والتأنيث وفي الإفراد والتثنية والجمع، وأن ما ورد على خلاف ذلك تأولوه بتكلف, وأوضح هذا بأمثلة من القرآن، وقد رد عليه الأستاذ محمد الخضر حسين. انظر "بلاغة القرآن" ص64 وما بعدها. 3 هود: 42. 4 المائدة: 8.

فإن ضمير "هو" يعود على العدل الذي يتضمنه لفظ "اعدلوا" أي إن العدل أقرب للتقوى, أو دالًّا عليه بالتزام كقوله: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} 1, فالضمير في "إليه" يعود على العافي الذي يستلزمه "عُفِيَ". وقد يكون المرجع متأخرًا لفظًا لا رتبة كقوله: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى} 2، أو لفظًا ورتبة كما في باب ضمير الشأن والقصة ونعم وبئس كقوله: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} 3، وقوله: {فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ} 4, وقوله: {بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} 5، وقوله: {سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ} 6، أو متأخرًا دالًّا عليه كقوله: {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ} 7, فضمير الرفع مضمر يدل عليه "الحلقوم"، والتقدير: فلولا إذا بلغت الروح الحلقوم, أو مفهومًا من السياق كقوله: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} 8, أي على الأرض، وقوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} 9, أي القرآن، وقوله: {عَبَسَ وتَوَلَّى} 10, أي النبي -صلى الله عليه وسلم- وقوله: {أَمْ يَقُولُونَ افتْرَاهُ} 11, فالواو في "يقولون" للمشركين، وفاعل "افترى" للنبي -صلى الله عليه وسلم- ومفعوله للقرآن. وربما عاد الضمير على اللفظ دون المعنى كقوله: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ} 12, فالضمير في "عمره" المراد به عمر معمر آخر، قال الفراء: يريد آخر غير الأول، فكنى عنه بالضمير كأنه الأول، لأن لفظ الثاني لو ظهر كان كالأول، كأنه قال: ولا ينقص من عمر معمر، فالكناية في عمره ترجع إلى آخر غير الأول، ومثله قولك: عندي درهم ونصفه، أي نصف آخر"13.

_ 1 البقرة: 178. 2 طه: 67. 3 الإخلاص: 1. 4 الأنبياء: 97. 5 الكهف: 5. 6 الأعراف: 177. 7 الواقعة: 83. 8 الرحمن: 26. 9 القدر: 1. 10 عبس: 1. 11 هود: 13. 12 فاطر: 11. 13 راجع كتب التفسير في ذلك.

وربما عاد الضمير على المعنى فقط كقوله: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ} 1, فالضمير في "كانتا" لم يتقدم لفظ تثنية يعود عليه، لأن الكلالة تقع على الواحد والاثنين والجمع، فثنى الضمير الراجع إليها حملًا على المعنى، وقوله {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا} 2, فالضمير في "منه" يعود على معنى الصدقات، لأنه في معنى الصداق، أو ما أصدق كأنه قيل: وآتوا النساء، صداقهن، وما أصدقتموهن. وقد يؤتى بالضمير أولًا ثم يخبر عنه بما يفسره، كقوله: {إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} 3. وقد يثنى الضمير ويعود على أحد المذكورين كقوله: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} 4, وإنما يخرج من أحدهما. وهو الملح دون العذب، لأنه إذا خرج من أحدهما فقد خرج منهما. وبهذا قال الزجاج وغيره. وقد يعود على ملابس ما هو له كقوله: {لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} 5, أي ضحى يومها لا ضحى العشية، لأن العشية لا ضحى لها. وقد يراعى في الضمير اللفظ أولًا، ثم يراعى المعنى ثانيًا، كقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} 6, أفرد الضمير في "يقول" باعتبار لفظ "من" ثم جمع في "وما هم" باعتبار معناه.

_ 1 النساء: 176. 2 النساء: 4. 3 الأنعام: 29. 4 الرحمن: 22. 5 النازعات: 46. 6 البقرة: 8.

التعريف والتنكير

2- التعريف والتنكير: للتنكير مقامات: منها: إرادة الوحدة كقوله: {وََجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى} 1, أي رجل واحد - أو إرادة النوع كقوله: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} 2, أي نوع من الحياة، وهو طلب الزيادة في المستقبل، لأن الحرص لا يكون على الماضي ولا على الحاضر - أو هما معًا كقوله: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ} 3, أي كل نوع من أنواع الدواب من أنواع الماء، وكل فرد من أفراد الدواب من فرد من أفراد النطف - أو التعظيم كقوله: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ} 4, أي حرب عظيمة - أو التكثير كقوله: {إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا} 5, أي أجرًا وافرًا - أو هما معًا كقوله: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ} 6, أي رسل عظام ذوو عدد كثير - أو التحقير كقوله: {مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} 7, أي من شيء هين حقير مهين - أو التقليل كقوله: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} 8, أي رضوان قليل منه أكبر من الجنات لأنه رأس كل سعادة. وأما التعريف فله مقامات تختلف باختلاف كل نوع من أنواع التعريف. ويكون بالإضمار لأن المقام مقام المتكلم، أو الخطاب، أو الغيبة وبالعلمية لإحضاره بعينه في ذهن السامع ابتداء باسم يخصه - أو لتعظيمه كقوله: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} 9، أو إهانته كقوله: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} 10، وبالإشارة لبيان حاله في القرب كقوله: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} 11، أو لبيان حاله في العبد كقوله: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 12،

_ 1 القصص: 20. 2 البقرة: 96. 3 النور: 45. 4 البقرة: 279. 5 الشعراء: 41. 6 فاطر: 4. 7 عبس: 18. 8 التوبة: 72. 9 الفتح: 29. 10 المسد: 1. 11 لقمان: 11. 12 البقرة: 5.

أو لقصد تحقيره بالقرب كقوله: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ} 1، أو لقصد تعظيمه بالبعد كقوله: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} 2، أو التنبيه على أن المشار إليه المعقب بأوصاف جدير بما يرد بعده من أجلها كقوله: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ, الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ, وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ, أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 3، وبالموصول لكراهة ذكره باسمه سترًا عليه، أو غير ذلك كقوله: {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا} 4، وقوله: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ} 5، أو لإرادة العموم كقوله: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} 6، أو الاختصار كقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا} 7، إذ لو عدد أسماء القائلين لطال الكلام - وبالألف واللام للإشارة إلى معهود ذكرى، كقوله: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ} 8، أو معهود ذهني كقوله: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} 9، أو معهود حضوري كقوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} 10، أو لاستغراق الإفراد كقوله: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} 11, بدليل الاستثناء - أو لاستغراق خصائص الإفراد كقوله: {ذَلِكَ الْكِتَابُ} 12، أي الكتاب الكامل في الهداية الجامع لجميع صفات الكتب المنزلة بخصائصها، أو لتعريف الماهية والحقيقة والجنس، كقوله: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} 13.

_ 1 العنكبوت: 64. 2 البقرة: 2. 3 البقرة: 2- 5. 4 الأحقاف: 17. 5 يوسف: 23. 6 العنكبوت: 69. 7 الأحزاب: 69. 8 النور: 35. 9 الفتح: 18. 10 المائدة: 3. 11 العصر: 3. 12 البقرة: 2. 13 الأنبياء: 30.

وإذا ذُكر الاسم مرتين فله أربع أحوال: لأنه إما أن يكونا معرفتين، أو نكرتين، أو الأول نكرة والثاني معرفة، أو بالعكس. 1- فإن كانا معرفتين فالثاني هو الأول غالبًا كقوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ, صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} 1. 2- وإن كانا نكرتين فالثاني غير الأول غالبًا كقوله: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً} 2, فإن المراد بالضعف الأول النطفة، وبالثاني الطفولية، وبالثالث الشيخوخة، وقد اجتمع القسمان في قوله تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا, إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} 3, ولذلك رُوِي عن ابن عباس: "لن يغلب عُسر يُسرين" لأن العسر الثاني أعاده بـ "الـ"، فكان عين الأول، ولما كان اليُسر الثاني غير الأول لم يعده بـ "الـ". 3- وإن كان الأول نكرة، والثاني معرفة، فالثاني هو الأول حملًا على العهد. كقوله: {كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا, فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} 4. 4- وإن كان الأول معرفة، والثاني نكرة، توقف المراد على القرائن، فتارة تقوم قرينة على التغاير. كقوله: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ} 5, وتارة تقوم قرينة على الاتحاد، كقوله: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ, قُرْآنًا عَرَبِيًّا} 6.

_ 1 الفاتحة: 6، 7. 2 الروم: 54. 3 الشرح: 5، 6. 4 المزمل: 15، 16. 5 الروم: 55. 6 الزمر: 27، 28.

الإفراد والجمع

3- الإفراد والجمع: بعض ألفاظ القرآن يكون إفراده لمعنى خاص، وجمعه لإشارة معينة، أو يؤثر جمعه على إفراده أو العكس. فمن ذلك أننا نرى بعض الألفاظ لم يأت في القرآن إلا مجموعًا، وعند الاحتياج إلى صيغة المفرد، يستعمل مرادفه كلفظة "اللُّب" فإنها لم ترد إلا مجموعة كقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ} 1, ولم يجئ في القرآن مفرده، بل جاء مكانه "القلب" كقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} 2، ولفظة "الكوب" لم تأت مفردة وقد أتى الجمع: {وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ} 3. وعكس هذا النوع ألفاظ لم تأت إلا مفردة في كل موضع من مواضع القرآن. ولما أريد جمعها جُمعت في صورة من الروعة ليس لها مثال، كقوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} 4, ولم يقل سبحانه: "وسبع أرضين" لما في ذلك من الخشونة واختلال النظم. ومن ذلك لفظة "السماء" ذكرت تارة بصيغة الجمع وتارة بصيغة الإفراد، لنكت مناسبة، فحيث أريد العدد، أُتِي بصيغة الجمع الدالة على سعة العظمة والكثرة، كقوله: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} 5، وحيث أريد الجهة أُتِي بصيغة الإفراد كقوله: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ} 6. ومن ذلك "الريح" ذُكرت مجموعة ومفردة، فتُذكر مجموعة في سياق الرحمة وتُفرد في سياق العذاب، وذكر في حكمة ذلك أن رياح الرحمة مختلفة الصفات والمنافع، ويقابل بعضها الآخر أحيانًا. لينشأ ريح لطيفة تنفع الحيوان

_ 1 الزمر: 21. 2 سورة ق: 37. 3 الغاشية: 14. 4 الطلاق: 12. 5 الحشر: 1. 6 الملك: 16.

والنبات. فكانت في الرحمة رياحًا. وأما في العذاب فإنها تأتي من وجه واحد، ولا معارض لها ولا دافع، وقد أخرج ابن أبي حاتم وغيره عن أُبَيِّ بن كعب قال: كل شيء في القرآن من الرياح فهو رحمة، وكل شيء من الريح فهو عذاب. ولهذا ورد في الحديث: "اللهم اجعلها رياحًا ولا تجعلها ريحًا" وما عرج عن ذلك فهو لنكتة أخرى1. ومن ذلك إفراد "النور" وجمع "الظلمات"، وإفراد "سبيل الحق" وجمع "سبل الباطل" لأن طريق الحق واحدة، وطرق الباطل متشعبة متعددة. ولهذا وحَّد "ولي المؤمنين" وجمع "أولياء الكافرين" لتعددهم كما في قوله تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} 2, وقوله: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} 3. ومن ذلك "المشرق والمغرب" بالإفراد والتثنية والجمع. فالإفراد باعتبار الجهة والإشارة إلى ناحيتي الشرق والغرب كقوله: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} 4, والتثنية باعتبار مطلعي ومغربى الشتاء والصيف كقوله: {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} 5. والجمع باعتبار مطلع كل يوم ومغربه، أو مطلع كل فصل ومغربه كقوله: {فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ} 6.

_ 1 فقد أفردت في قوله تعالى: {وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ} [يونس: 22] بوجهين: لفظي، وهو المقابلة في قوله: {جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ} ، ومعنوي وهو أن تمام الرحمة هنا، إنما يحصل بوحدة الريح لا باختلافها، فإن السفينة لا تسير إلا بريح واحدة من وجه واحد وإلا تعرضت للهلاك. 2 البقرة: 257. 3 الأنعام: 153. 4 المزمل: 9. 5 الرحمن: 17. 6 ألَّف أبو الحسين الأخفش كتابًا في الإفراد والجمع، ذكر فيه جميع ما وقع في القرآن مفردًا، ومفرد ما وقع جمعًا، انظر "الإتقان" جـ1 ص193, [والآية من سورة المعارج: 40] .

مقابلة الجمع بالجمع أو بالمفرد

4- مقابلة الجمع بالجمع أو بالمفرد: مقابلة الجمع بالجمع تارة تقتضي مقابلة كل فرد من هذا، بكل فرد من هذا, كقوله: {وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ} 1, أي استغشى كل منهم ثوبه. وقوله: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ} 2, أي كل واحدة ترضع ولدها. وتارة يقتضي ثبوت الجميع لكل فرد من أفراد المحكوم عليه كقوله: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} 3, أي اجلدوا كل واحد منهم ذلك العدد. وتارة يحتمل الأمرين فيحتاج إلى دليل يُعيِّن أحدهما. أما مقابلة الجمع بالمفرد. فالغالب ألا يقتضي تعميم المفرد وقد يقتضيه كما في قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} 4, أي على كل واحد لكل يوم طعام مسكين.

_ 1 نوح: 7. 2 البقرة: 233. 3 النور: 4. 4 البقرة: 184.

ما يظن أنه مترادف وليس من المترادف

5- ما يُظَن أنه مترادف وليس من المترادف: من ذلك "الخوف والخشية" فالخشية أعلى من الخوف. وهي أشد منه لأنها مأخوذة من قولهم: شجرة خشية: أي يابسة، وهو فوات الكلية. والخوف من قولهم: ناقة خوفاء: أي بها داء. وهو نقص وليس بفوات. كما أن الخشية تكون من عظم المخشي وإن كان الخاشي قويًّا. فهي خوف يشوبه تعظيم. والخوف من ضعف الخائف، وإن كان المخوف أمرًا يسيرًا. ومادة الخشية: الخاء والشين والياء، في تصاريفها تدل على العظمة، فالشيخ: السيد الكبير، والخيش: الغليظ من اللباس، ولذا وردت الخشية غالبًا في حق الله تعالى، كقوله: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} 1، وقوله:

_ 1 فاطر: 28.

{الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ} 1، وأما قوله تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} 2, فقد جاء في وصف الملائكة بعد ذكر قوتهم وشدة خلقهم، فالتعبير عنهم بالخوف لبيان أنهم وإن كانوا غلاظًا شدادًا فهم بين يديه تعالى ضعفاء، ثم أردفه بالفوقية الدالة على العظمة، فجمع بين الأمرين اللذين تتضمنهما الخشية دون إخلال بقوة بأسهم، وهما خوفهم من ربهم مع تعظيمه سبحانه. ومن ذلك "الشُّح والبخل" فالشح أشد من البخل لأنه بخل مع حرص، وذلك فيما يكون عادة. ومن ذلك "السبيل والطريق" فالسبيل أغلب وقوعًا في الخير، أما الطريق فلا يكاد يُراد به الخير إلا مقترنًا بما يدل على ذلك من وصف أو إضافة كقوله: {يَهْدَي إِلَى الْحَقِ وَإَلَى طَرِيْقٍ مُسْتَقِيْم} 3, قال الراغب في مفرداته: السبيل: الطريق الذي فيه سهولة فهو أخص. ومن ذلك "مد وأمد" قال الراغب: أكثر ما جاء الإمداد في المحبوب كقوله: {وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ} 4, والمد في المكروه كقوله: {وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا} 5.

_ 1 الأحزاب: 39. 2 النحل: 50. 3 الأحقاف: 30. 4 الطور: 22. 5 مريم: 79.

السؤال والجواب

6- السؤال والجواب: الأصل في الجواب أن يكون مطابقًا للسؤال، وقد يعدل في الجواب عما يقتضيه السؤال تنبيهًا على أنه كان من حق السؤال أن يكون كذلك، وهو المسمى بأسلوب الحكيم، ويمثلون له بقوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجّ} 1, فقد سألوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الهلال:

_ 1 البقرة: 189.

لم يبدو دقيقًا مثل الخيط ثم يزيد قليلًا حتى يمتلئ، ثم لا يزال ينقص حتى يعود كما بدأ؟ فأجيبوا ببيان حكمة ذلك تنبيهًا على أن الأهم السؤال عن ذلك لا ما سألوا عنه. وقد يجيء الجواب أعم من السؤال للحاجة إليه كقوله تعالى: {قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ} 1, في جواب: {مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْر} 2. وقد يجيء أنقص لاقتضاء الحال ذلك كقوله تعالى: {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي} 3, في جواب: {ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ} 4؛ لأن التبديل أسهل من الاختراع، وقد نفى إمكانه فالاختراع أولى. والسؤال إذا كان لطلب معرفة تعدى إلى المفعول الثاني تارة بنفسه وتارة بـ "عن" وهو أكثر كقوله: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ} 5، وإذا كان لاستدعاء مال ونحوه فإنه يتعدى بنفسه أو بـ "من" وبنفسه أكثر كقوله: {وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ} 6، وقوله: {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} 7.

_ 1 الأنعام: 64. 2 الأنعام: 63. 3 يونس: 15. 4 يونس: 15. 5 الإسراء: 85. 6 الممتحنة: 10. 7 النساء: 32.

الخطاب بالاسم والخطاب بالفعل

7- الخطاب بالاسم والخطاب بالفعل: الاسم يدل على الثبوت والاستمرار. والفعل يدل على التجدد والحدوث، ولكل منهما موضعه الذي لا يصلح له الآخر، فيأتي التعبير مثلًا في النفقة بالفعل كقوله: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ} 1, ولم يقل "المنفقون" ويأتي التعبير في الإيمان بالاسم كقوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} 2؛ لأن النفقة أمر فعلي شأنه الحدوث والتجدد بخلاف

_ 1 آل عمران: 134. 2 الحجرات: 15.

الإيمان فإنه له حقيقة تقوم بدوام مقتضاها، والمراد بالتجدد في الماضي الحصول مرة بعد أخرى, وفي المضارع أن من شأنه أن يتكرر ويقع مرة بعد أخرى، ومضمر الفعل في ذلك كمظهره ولهذا قالوا: إن سلام إبراهيم عليه السلام أبلغ من سلام الملائكة في قوله تعالى: {إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا} 1, فالنصب على أنه مصدر سد مسد الفعل، وأصله: نسلم عليك سلامًا، وهذه العبارة مؤذنة بحدوث التسليم منهم، بخلاف رده: {قَالَ سَلامٌ} 2, فإنه معدول به إلى الرفع على الابتداء، وخبره محذوف والمعنى: عليكم سلام. للدلالة على إثبات السلام، كأنه قصد أن يحييهم بأحسن مما حيوه به، أخذًا بأدب الله تعالى3 وهو أيضًا من إكرامه لهم.

_ 1 الذاريات: 25. 2 الذاريات: 25. 3 في قوله تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء: 86] .

العطف

8- العطف: وهو ثلاثة أقسام: 1- عطف على اللفظ: وهو الأصل. 2- وعطف على المحل: وجعل منه الكسائي قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِونَ} 1, فجعل "الصابئون" عطفًا على محل "إن" واسمها، ومحلها الرفع بالابتداء. 3- وعطف على المعنى: ومنه قوله تعالى: {لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ} 2, في قراءة غير أبي عمرو بجزم "أكن" وخرَّجه

_ 1 المائدة: 69. 2 المنافقون: 10.

في قراءة غير الخليل وسيبويه على أنه عطف على التوهم1، لأن معنى "لولا أخرتني فأصَّدَّق" ومعنى "أخرني أصَّدَّق" واحد، كأنه قيل: إن أخرتني أصَّدَّق وأكن، كما خرَّج الفارسي عليه قراءة قنبل: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ} 2, بسكون الراء؛ لأن "مَن" الموصولة فيها معنى الشرط. واختُلِف في جواز عطف الخبر على الإنشاء وعكسه، فمنعه الأكثرون، وأجازه جماعة مستدلين بقوله تعالى: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} 3, عطف على "تؤمنون" في الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ, تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} 4, وخرَّجه الآخرون على أن "تؤمنون" بمعنى آمنوا، فهو خبر بمعنى الإنشاء، فصح عطف الإنشاء عليه، و"بشِّر" كأنه قيل: آمنوا وجاهدوا يثبتكم الله وينصركم، وبشِّر يا رسول الله المؤمنين بذلك، وفائدة التعبير بالخبر في موضع الأمر الإيذان بوجوب الامتثال، أي كأنه امتثل فهو يُخبر عن إيمان وجهاد موجودين. واختُلِف أيضًا في جواز العطف على معمولي عاملين، واستدل المجيزون بقوله تعالى: {إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ, وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ, وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} 5، فقوله: {وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} ، {آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} من العطف على معمولي عاملين سواء نصبت أو رفعت، فالعاملان إذا نصبت "إن" و"في" أقيمت الواو مقامهما، فعملت

_ 1 هذه العبارة هي التي حكاها سيبويه عن الخليل، وهي المنقولة في كتب التفسير: إنه جزم على توهم الشرط الذي يدل عليه التمني, ولفظ "التوهم" غير لائق في تفسير القرآن والأَوْلَى أن يقال: عطف على المعنى، كما هو صريح العبارة بعد. 2 يوسف: 90. 3 الصف: 13. 4 الصف: 10، 11. 5 الجاثية: 3- 5.

الواو الجر في: {وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} والنصب في "آيات" وإذا رفعت فالعاملان "الابتداء" و"في" عملت الواو الرفع في "آيات" والجر في "اختلاف" ذكر هذا الزمخشري1. واختُلِف أيضًا في جواز العطف على الضمير المجرور من غير إعادة الجار، وخرَّج عليه المجيزون قراءة حمزة: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} 2, بجر الأرحام عطفًا على الضمير، وجعلوا منه قوله تعالى: {وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَام} 3, على أن "المسجد" معطوف على ضمير "به".

_ 1 انظر تفسير الآية في "الكشاف" للزمخشري. 2 النساء: 1. 3 البقرة: 217.

الفرق بين الإيتاء والإعطاء

الفرق بين الإيتاء والإعطاء: وهناك فرق بين الإيتاء والإعطاء في القرآن، قال الجويني1: "إن الإيتاء أقوى من الإعطاء في إثبات مفعوله، لأن الإعطاء له مطاوع، يقال: أعطاني فعطوت، ولا يقال في الإيتاء: آتاني فأتيت، وإنما يقال: آتاني فأخذت, والفعل الذي له مطاوع أضعف في إثبات مفعوله من الذي لا مطاوع له، لأنك تقول: قطعته فانقطع، فيدل على أن فعل الفاعل كان موقوفًا على قبول المحل، لولاه لما ثبت المفعول، ولهذا يصح: قطعته فما انقطع، ولا يصح فيما لا مطاوع له ذلك، فلا يجوز أن يقال: ضربته فانضرب أو ما انضرب، ولا قتلته فانقتل أو ما انقتل، لأن هذه أفعال إذا صدرت من الفاعل ثبت لها المفعول في المحل، والفاعل مستقل بالأفعال التي لا مطاوع لها، فالإيتاء إذن أقوى من الإعطاء".

_ 1 انظر "البرهان" للزركشي جـ4 ص85.

ولهذا شواهده، فقد قال تعالى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} 1, لأن الحكمة إذا ثبتت في المحل دامت، وهي عظيمة الشأن، وقال: {آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} 2، وقال: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} 3؛ لأن بعد الكوثر منازل أعلى، حيث يكون الانتقال إلى ما هو أعظم منه في الجنة، وقال: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} 4؛ لأن الجزية موقوفة على قبول منا، وهم لا يؤتونها إيتاء عن طيب قلب، وإنما عن كره، وقد عبر بالإيتاء في جانب المسلمين بالنسبة إلى الزكاة، وفي ذلك: إشارة إلى أن المؤمن ينبغي أن يكون إعطاؤه للزكاة بقوة، لا يكون كإعطاء الجزية.

_ 1 البقرة: 269. 2 الحجر: 87. 3 الكوثر: 1. 4 التوبة: 29.

ألفاظ

ألفاظ: لفظ "فعل": يجيء لفظ "فعل" كناية عن أفعال متعددة لا للدلالة على فعل واحد. فيفيد بهذا الاختصار، كقوله تعالى: {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} 1, فإنها تشمل كل منكر لا يتناهون عنه، وقوله: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} 2, أي فإن لم تأتوا بسورة من مثله ولن تأتوا بسورة من مثله. وحيث أطلقت في كلام الله فهي محمولة على الوعيد الشديد كقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} 3، وقوله: {وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ} 4.

_ 1 المائدة: 79. 2 البقرة: 24. 3 الفيل: 1. 4 إبراهيم: 45.

لفظ "كان"

لفظ "كان": 1 وردت "كان" في الإخبار عن ذات الله وصفاته بالقرآن كثيرًا وقد اختلف النحاة وغيرهم في أنها تدل على الانقطاع، على مذاهب: أحدها: أنها تفيد الانقطاع لأنها فعل يُشعر بالتجديد. والثاني: لا تفيده، بل تقتضي الدوام والاستمرار، وبه جزم ابن معطى2 في ألفيته، حيث قال: وكان للماضي الذي ما انقطعا وقال الراغب في قوله تعالى: {وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} 3, نبه بقوله: "كان" على أنه لم يزل منذ أوجد منطويًا على الكفر. والثالث: أنه عبارة عن وجود شيء في زمان ماض على سبيل الإبهام. وليس فيه دليل على عدم سابق، ولا على انقطاع طارئ، ومنه قوله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} 4, قاله الزمخشري في قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} 5, عند تفسيره للآية في "الكشاف". وذكر ابن عطية في سورة الفتح أنها حيث وقعت في صفات الله فهي مسلوبة الدلالة على الزمان. والصواب من هذه المقالات مقالة الزمخشري، وإنها تفيد اقتران معنى الجملة

_ 1 انظر "البرهان" جـ4 ص121. 2 هو الشيخ زين الدين يحيى بن عبد المعطي المتوفى سنة 628 هجرية، سماها "الدرة الأليفة" وأولها: يقول راجي ربه الغفور ... يحيى بن معط بن عبد النور وإليها أشار ابن مالك بقوله: فائقة ألفية ابن معطي. 3 الإسراء: 27. 4 الأحزاب: 50. 5 آل عمران:110.

التي تليها بالزمن الماضي لا غير، ولا دلالة لها نفسها على انقطاع ذلك المعنى ولا بقائه، بل إن أفاد الكلام شيئًا من ذلك كان لدليل آخر. وعلى هذا يُحمل معناها فيما وقع في القرآن من إخبار الله تعالى عن صفاته وغيرها بلفظ "كان" كثيرًا. مثل قوله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا} 1، {وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا} 2، {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} 3، {وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ} 4، {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} 5. وحيث أخبر الله بها عن صفات الآدميين فالمراد التنبيه على أنها فيهم غريزة وطبيعة مركوزة في النفس كقوله تعالى: {وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا} 6، وقوله: {إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} 7. وقد تتبع أبو بكر الرازي استعمال "كان" في القرآن، واستنبط وجوه استعمالها فقال: "كان" في القرآن على خمسة أوجه: بمعنى الأزل والأبد، كقوله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} 8. وبمعنى المعنى المنقطع, كقوله تعالى: {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ} 9, وهو الأصل في معاني "كان" كما تقول: كان زيد صالحًا أو فقيرًا أو مريضًا أو نحوه. وبمعنى الحال، كقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} 10، وقوله: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} 11، وبمعنى الاستقبال، كقوله تعالى: {وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} 12.

_ 1 النساء: 148. 2 النساء: 130. 3 الأحزاب: 59. 4 الأنبياء: 81. 5 الأنبياء: 78. 6 الإسراء: 11. 7 الأحزاب: 72. 8 النساء: 170. 9 النمل: 48. 10 آل عمران: 110. 11 النساء: 103. 12 الإنسان: 7.

وبمعنى "صار" كقوله: {وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} 1. وتأتي "كان" في النفي ويكون المراد بها نفي صحة الخبر لا نفي وقوعه ولذا تؤول بمعنى "ما صح وما استقام" كقوله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} 2، وقوله: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ} 3، وقوله: {وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا} 4.

_ 1 "البرهان" للزركشي جـ4 ص127 -[والآية من سورة البقرة: 34] . 2 الأنفال: 67. 3 التوبة: 17. 4 النور: 16.

لفظ "كاد"

لفظ "كاد": وللعلماء في "كاد" مذاهب: أحدها: أنها كسائر الأفعال نفيًا وإثباتًا، فإثباتها إثبات ونفيها نفي، لأن معناها المقاربة، فمعنى كاد يفعل: قارب الفعل، ومعنى ما كاد يفعل: لم يقاربه، فخبرها منفي دائمًا، ولكن النفي في الإثبات مستفاد من معناها، لأن الإخبار بقرب الشيء يقتضي عرفًا عدم حصوله، وإلا لم يتجه الإخبار بقربه, أما إذا كانت منفية فلأنه إذا انتفت مقاربة الفعل اقتضى عقلًا عدم حصوله، ويدل له قوله تعالى: {إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} 1, ولهذا كان أبلغ من قوله: "لم يرها" لأن من لم ير قد يقارب الرؤية. والثاني: أنها تختلف عن سائر الأفعال إثباتًا ونفيًا، فإثباتها نفي، ونفيها إثبات، ولذا قالوا: إنها إذا أثبتت نفت، وإذا نفت أثبتت، فإذا قيل: كاد يفعل، فمعناه أنه لم يفعله بدليل قوله تعالى: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ} 2,

_ 1 النور: 40. 2 الإسراء: 73.

لأنهم لم يفتنوه، وإذا قيل: لم يكد يفعل، فمعناه أنه فعله بدليل قوله تعالى: {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} 1, لأنهم فعلوا الذبح. والثالث: أنها في النفي تدل على وقوع الفعل بعسر وشدة كقوله: {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} . والرابع: التفصيل في النفي بين المضارع والماضي، فنفي المضارع نفي، ونفي الماضي إثبات، يدل على الأول قوله: {لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} مع أنه لم ير شيئًا، ويدل على الثاني قوله: {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُون} مع أنهم فعلوا. والخامس: أنها في النفي تكون للإثبات إذا كان ما بعدها متصلًا بما قبلها ومتعلقًا به، كقولك: ما كدت أصل إلى مكة حتى طفت بالبيت الحرام، ومنه قوله تعالى: {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} .

_ 1 البقرة: 71.

لفظ "جعل"

لفظ "جعل": تأتي "جعل" في القرآن لعدة معان: أحدها: بمعنى "سمى" كقوله تعالى: {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} 1, أي سموه كذبًا، وقوله: {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا} 2, على قول، ويشهد له قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى} 3. الثاني: بمعنى "أوجد" وتتعدى إلى مفعول واحد، والفرق بينها وبين الخلق، أن الخلق فيه معنى التقدير، ويكون عن عدم سابق حيث لا يتقدم مادة ولا سبب محسوس، بخلاف الجعل بمعنى الإيجاد، قال تعالى:

_ 1 الحجر: 91. 2 الزخرف: 19. 3 النجم: 27.

{الحَمْدُ للهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} 1. وإنما الظلمات والنور تنشأ عن أجرام توجد بوجودها، وتعدم بعدمها. الثالث: بمعنى النقل من حال إلى حال والتصيير، فتتعدى إلى مفعولين: إما حسًّا كقوله تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاش} 2، وإما عقلًا كقوله: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} 3. الرابع: بمعنى الاعتقاد، كقوله تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ} 4. الخامس: بمعنى الحكم بالشيء على الشيء، حقًّا كان أوباطلًا، فالحق، كقوله تعالى: {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} 5، والباطل، كقوله: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا} 6.

_ 1 الأنعام: 1. 2 البقرة: 22. 3 سورة ص: 5. 4 الأنعام: 100. 5 القصص: 7. 6 الأنعام: 136.

"لعل" و"عسى"

"لعل" و"عسى": تستعمل "لعل" و"عسى" للرجاء والطمع في كلام المخلوقين حيث يشك الخلق في الأمور الممكنة ولا يقطعون على الكائن منها، أما بالنسبة إلى الله تعالى: أ- فقيل: هما يدلان على الحصول والوجوب، لأن نسبة الأمور إلى الله نسبة قطع ويقين. ب- وقيل إنهما للترجي على بابهما، ولكن الترجي يكون بالنسبة إلى المخاطبين. جـ- وقيل: إن "عسى" و"لعل" في كثير من المواضع تكون للتعليل. قال تعالى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} 1، وقال سبحانه: {فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} 2.

_ 1 الإسراء: 79. 2 المائدة: 100.

الفرق بين المحكم والمتشابه

الفرق بين المحكم والمتشابه مدخل ... 12- الفرق بين المُحكم والمتشابه: 1 أنزل الله الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرًا، فرسم للخلق العقيدة السليمة والمبادئ القويمة في آيات بينات واضحة المعالم، وذلك من فضل الله على الناس حيث أحكم لهم أصول الدين لتسلم لهم عقائدهم ويتبين لهم الصراط المستقيم، وتلك الآيات هي أم الكتاب التي لا يقع الاختلاف في فهمها سلامة لوحدة الأمة الإسلامية وصيانة لكيانها {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} 2. وقد تأتي هذه الأصول الدينية في أكثر من موضع بالقرآن مع اختلاف اللفظ والعبارة والأسلوب إلا أن معناها يكون واحدًا، فيشبه بعضها الآخر ويوافقه معنى دون تناقض، أما ما عدا تلك الأصول من فروع الدين فإن في آياتها من العموم والاشتباه ما يُفسح المجال أمام المجتهدين الراسخين في العلم، حتى يردوها إلى المُحكم ببناء الفروع على الأصول، والجزئيات على الكليات وإن زاغت بها قلوب أصحاب الهوى وبهذا الإحكام في الأصول والعموم في الفروع كان الإسلام دين الإنسانية الخالد الذي يكفل لها خير الدنيا والآخرة على مر العصور والأزمان.

_ 1 راجع هذا الفصل فيما كتبه شيخ الإسلام ابن تيمية عن المُحْكم والمتشابه، والتأويل في التدمرية وغيرها من رسائله. 2 فصلت: 3.

الإحكام العام والتشابه العام

الإحكام العام والتشابه العام: المُحكم لغة: مأخوذ من حكمت الدابة وأحكمت: بمعنى منعت، والحكم: هو الفصل بين الشيئين، فالحاكم يمنع الظالم ويفصل بين الخصمين، ويميز بين الحق والباطل، والصدق والكذب، ويقال: حكمت السفيه وأحكمته: إذا

أخذت على يديه، وحكمت الدابة وأحكمتها: إذا جعلت لها حكمة: وهي ما أحاط بالحنك من اللجام لأنها تمنع الكرس عن الاضطراب، ومنه الحكمة: لأنها تمنع صاحبها عما لا يليق، وإحكام الشيء: إتقانه، والمحكم: المتقن. فإحكام الكلام: إتقانه بتمييز الصدق من الكذب في أخباره، والرشد من الغي في أوامره، والمُحكم منه: ما كان كذلك. وقد وصف الله القرآن كله بأنه مُحكم على هذا المعنى فقال: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} 1, وقال: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} 2, فالقرآن كله محكم: أي إنه كلام متقن فصيح يميز بين الحق والباطل، والصدق والكذب. وهذا هو الإحكام العام. والمتشابه لغة: مأخوذ من التشابه: وهو أن يشبه أحد الشيئين الآخر، والشبهة: هي ألا يتميز أحد الشيئين من الآخر لما بينهما من التشابه عينًا كان أو معنى، قال تعالى: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً} 3, أي يشبه بعضه بعضًا لونًا لا طعمًا وحقيقة، وقيل: متماثلًا في الكلام والجودة. وتشابه الكلام: هو تماثله وتناسبه بحيث يُصدِّق بعضه بعضًا، وقد وصف الله القرآن كله بأنه متشابه على هذا المعنى فقال: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِي} 4, فالقرآن كله متشابه: أي إنه يشبه بعضه بعضًا في الكمال والجودة، ويُصدِّق بعضه بعضًا في المعنى ويماثله، وهذا هو التشابه العام. وكل من المُحكم والمتشابه بمعناه المطلق المتقدم لا ينافي الآخر، فالقرآن كله مُحكم بمعنى الإتقان، وهو متماثل يُصدِّق بعضه بعضًا، فإن الكلام المُحكم المتقن تتفق معانيه وإن اختلفت ألفاظه، فإذا أمر القرآن بأمر لم يأمر بنقيضه

_ 1 هود: 1. 2 يونس: 1. 3 البقرة: 25. 4 الزمر: 23.

في موضع آخر، وإنما يأمر به أو بنظيره، وكذلك الشأن في نواهيه وأخباره، فلا تضاد فيه ولا اختلاف: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} 1.

_ 1 النساء: 82.

الإحكام الخاص والتشابه الخاص

الإحكام الخاص والتشابه الخاص: وهناك إحكام خاص وتشابه خاص ذكرهما الله في قوله: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} 1, وفي معناهما وقع الاختلاف على أقوال أهمها: أ- المحكم: ما عُرِف المراد منه. والمتشابه: ما استأثر الله بعلمه. ب- المحكم: ما لا يحتمل إلا وجهًا واحدًا. والمتشابه: ما احتمل أوجهًا. جـ- المحكم: ما استقل بنفسه ولم يحتج إلى بيان. والمتشابه: ما لا يستقل بنفسه واحتاج إلى بيان برده إلى غيره. ويمثلون للمحكم في القرآن بناسخه وحلاله وحرامه وحدوده وفرائضه ووعده ووعيده. وللمتشابه: بمنسوخه وكيفيات أسماء الله وصفاته التي في قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 2، وقوله: {هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} 3, وقوله: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} 4، وقوله:

_ 1 آل عمران: 7. 2 طه: 5. 3 القصص: 88. 4 الفتح: 10.

{وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} 1، وقوله: {وَجَاءَ رَبُّكَ} 2، وقوله: {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} 3، وقوله: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ} 4, وقوله: {فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} 5، إلى غير ذلك، وأوائل السور المفتتحة بحروف المعجم وحقائق اليوم الآخر وعلم الساعة.

_ 1 الأنعام: 18. 2 الفجر: 22. 3 الفتح: 6. 4 البينة: 8. 5 آل عمران: 31.

الاختلاف في معرفة المتشابه

الاختلاف في معرفة المتشابه: وكما وقع الاختلاف في معنى كل من المُحكم والمتشابه الخاصين وقع الاختلاف في إمكان معرفة المتشابه، ومنشأ هذا الاختلاف اختلافهم في الوقف في قوله تعالى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} هل هو مبتدأ خبره {يقولن} والواو للاستئناف، والوقف على قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّه} ؟ , أو هو معطوف و {يَقُولُونَ} حال، والوقف على قوله: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} . فذهب إلى الأول "الاستئناف" طائفة منهم أُبَيُّ بن كعب وابن مسعود وابن عباس وغيرهم من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، مستدلين بمثل ما رواه الحاكم في مستدركه عن ابن عباس أنه كان يقرأ: "وما يعلم تأويله إلا الله ويقول الراسخون في العلم آمنا به". وبقراءة ابن مسعود: "وإن تأويله إلا عند الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به". وبما دلت عليه الآية من ذم متبعي المتشابه ووصفهم بالزيغ وابتغاء الفتنة.

وعن عائشة قالت: تلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذه الآية: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ} 1 ... إلى قوله تعالى: {أُولُو الْأَلْبَابِ} 2, قال رسول الله, صلى الله عليه وسلم: "فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذرهم" 3. وذهب إلى الرأي الثاني "العطف" طائفة على رأسهم مجاهد، فقد أخرج عبد بن حميد عن مجاهد في قوله: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} قال: "يعلمون تأويله ويقولون: آمنا به". واختار هذا القول النووي، فقال في شرح مسلم: إنه الأصح لأنه يبعد أن يخاطب الله عباده، بما لا سبيل لأحد من الخلق إلى معرفته4.

_ 1 آل عمران: 7. 2 آل عمران: 7. 3 أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما. 4 الإتقان جـ2 ص3.

التوفيق بين الرأيين بفهم معنى التأويل

التوفيق بين الرأيين بفهم معنى التأويل: بالرجوع إلى معنى "التأويل" يتبين أنه لا منافاة بين الرأيين، فإن لفظ التأويل ورد لثلاثة معان: الأول: صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح لدليل يقترن به، وهذا هو اصطلاح أكثر المتأخرين. الثاني: التأويل بمعنى التفسير، فهو الكلام الذي يفسَّر به اللفظ حتى يُفهم معناه. الثالث: التأويل: هو الحقيقة التي يؤول إليها الكلام، فتأويل ما أخبر الله به عن ذاته وصفاته هو حقيقة ذاته المقدسة وما لها من حقائق الصفات، وتأويل ما أخبر الله به عن اليوم الآخر هو نفسه ما يكون في اليوم الآخر. وعلى هذا المعنى جاء قول عائشة: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول في ركوعه

وسجوده: "سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي" يتأول القرآن". تعني قوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} 1. فالذين يقولون بالوقف على قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} 2, ويجعلون: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} 2, استئنافًا، إنما عنوا بذلك التأويل بالمعنى الثالث، أي الحقيقة التي يؤول إليها الكلام، فحقيقة ذات الله وكنهها وكيفية أسمائه وصفاته وحقيقة المعاد لا يعلمها إلا الله. والذين يقولون بالوقف على قوله: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} على أن الواو للعطف وليست للاستئناف، إنما عنوا بذلك التأويل بالمعنى الثاني أي التفسير، ومجاهد إمام المفسرين، قال الثوري فيه: إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به، فإذا ذُكِر أنه يعلم تأويل المتشابه فالمراد به أنه يعرف تفسيره. وبهذا يتضح أنه لا منافاة بين المذهبين في النهاية، وإنما الأمر يرجع إلى الاختلاف في معنى التأويل. ففي القرآن ألفاظ متشابهة تشبه معانيها ما نعلمه في الدنيا، ولكن الحقيقة ليست كالحقيقة، فأسماء الله وصفاته وإن كان بينها وبين أسماء العباد وصفاتهم تشابه في اللفظ والمعنى الكلي إلا أن حقيقة الخالق وصفاته ليست كحقيقة المخلوق وصفاته، والعلماء المحققون يفهمون معانيها ويميزون الفرق بينها، وأما نفس الحقيقة فهي من التأويل الذي لا يعلمه إلا الله. ولهذا لما سُئِل مالك وغيره من السلف عن قوله تعالى: {لرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 3, قالوا: "الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة"، وكذلك قال ربيعة بن عبد الرحمن شيخ مالك قبله: "الاستواء معلوم، والكيف مجهول، ومن الله البيان، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا الإيمان". فبيَّن أن الاستواء معلوم، وأن كيفية ذلك مجهولة. وكذلك الشأن بالنسبة إلى إخبار الله عن اليوم الآخر، ففيها ألفاظ تشبه معانيها ما هو معروف لدينا إلا أن الحقيقة غير الحقيقة. ففي الآخرة ميزان،

_ 1 رواه البخاري ومسلم – [والآية من سورة النصر: 3] . 2 آل عمران: 7. 3 طه: 5.

وجنة ونار. وفي الجنة: {أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى} 1. {فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ, وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ, وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ, وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ} 2.. وذلك نعلمه ونؤمن به، وندرك أن الغائب أعظم من الشاهد, وما في الآخرة يمتاز عما في الدنيا, ولكن حقيقة هذا الامتياز غير معلومة لنا، وهي من التأويل الذي لا يعلمه إلا الله.

_ 1 محمد: 15. 2 الغاشية: 13، 16.

التأويل المذموم

التأويل المذموم: والتأويل المذموم بمعنى: صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح لدليل يقترن به, إنما لجأ إليه كثير من المتأخرين مبالغة منهم في تنزيه الله تعالى عن مماثلته للمخلوقين كما يزعمون. وهذا زعم باطل أوقعهم في مثل ما هربوا منه أو أشد، فهم حين يؤولون اليد بالقدرة مثلًا إنما قصدوا الفرار من أن يثبتوا للخالق يدًا لأن للمخلوقين يدًا، فاشتبه عليهم لفظ اليد فأولوها بالقدرة. وذلك تناقض منهم. لأنهم يلزمهم في المعنى الذي أثبتوه نظير ما زعموا أنه يلزم في المعنى الذي نفوه، لأن العباد لهم قدرة أيضًا. فإن كان ما أثبتوه من القدرة حقُّا ممكنًا كان إثبات اليد لله حقُّا ممكنًا أيضًا، وإن كان إثبات اليد باطلًا ممتنعًا لما يلزمه من التشبيه في زعمهم كان إثبات القدرة باطلًا ممتنعًا كذلك. فلا يجوز أن يقال: إن هذا اللفظ مؤول بمعنى أنه مصروف عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح. وما جاء عن أئمة السلف وغيرهم من ذم للمتأولين إنما هو لمثل هؤلاء الذين تأولوا ما يشتبه عليهم معناه على غير تأويله وإن كان لا يشتبه على غيرهم.

العام والخاص

العام والخاص مدخل ... 13- العام والخاص: للنظم التشريعية والأحكام الدينية مقاصد تهدف إليها، وقد يجتمع للحكم التشريعي خصائص تجعله عامًّا يشمل كل الأفراد، أو ينطبق على جميع الحالات، وقد يكون لذلك القصد غاية خاصة فالتعبير عنه يتناول بعمومه الحكم ثم يأتي ما يبين حده أو يحصر نطاقه، والبيان العربي في تلوين الخطاب وبيان المقاصد والغايات مظهر من مظاهر قوة اللغة واتساع مادتها. فإذا ورد هذا في كلام الله المعجز كان وقعه في النفس عنوان إعجاز تشريعي مع الإعجاز اللغوي.

تعريف العام وصيغ العموم

تعريف العام وصيغ العموم: العام: هواللفظ المستغرق لما يصلح له من غير حصر1 وقد اختلف العلماء في معنى العموم، أله في اللغة صيغة موضوعة له خاصة به تدل عليه أم لا؟ فذهب أكثر العلماء إلى أن هناك صيغًا وُضِعت في اللغة للدلالة حقيقة على العموم، وتُستعمل مجازًا فيما عداه، واستدلوا على ذلك بأدلة نصية، وإجماعية ومعنوية. أ- فمن الأدلة النصية قوله تعالى: {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ, قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} 2, ووجه الدلالة أن نوحًا عليه السلام توجه بهذا النداء

_ 1 انتقد الآمدي هذا التعريف - ولم أجد تعريفًا أتم منه، كما انتقد تعريف الخاص الذي سيأتي - انظر "الإحكام في أصول الأحكام" جـ2 ص181ط. الحلبي. 2 هود: 45، 46.

تمسكًا منه بقوله تعالى: {قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ} 1, وأقرَّه الله تعالى على هذا النداء، وأجابه بما دل على أنه ليس من أهله، ولولا أن إضافة الأهل إلى نوح للعموم لما صح ذلك. ومنها قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ, قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} 2, ووجه الدلالة أن إبراهيم فهم من قول الملائكة: {أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ} العموم، حيث ذكر "لوطًا" فأقرَّه الملائكة على ذلك، وأجابوه بتخصيص لوط وأهله بالاستثناء، واستثناء امرأته من الناجين، وذلك كله يدل على العموم. ب- ومن الأدلة الإجماعية إجماع الصحابة على إجراء قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} 3، وقوله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} 4, ونحو ذلك على العموم في كل زان وسارق. جـ- ومن الأدلة المعنوية، أن العموم يُفهم من استعمال ألفاظه، ولو لم تكن هذه الألفاظ موضوعة له لما تبادر إلى الذهن فهمه منها، كألفاظ الشرط والاستفهام والموصول. وإننا ندرك الفرق بين "كل" و"بعض" ولو كان "كل" غير مفيد للعموم لما تحقق الفرق.

_ 1 هود: 40. 2 العنكبوت: 31، 32. 3 تخصيص الآية بغير المحصن جاء بأدلة مخصصة هي التي وردت في رجم المحصن الحر -[والآية من سورة النور: 2] . 4 تخصيص الآية باعتبار الحزر ومقدار المسروق جاء بأدلة مخصصة كذلك -[والآية من سورة المائدة: 38] .

ولو قال قائل في النكرة المنفية "لا رجل في الدار" فإنه يعد كاذبًا إذا قدر أنه رأى رجلًا ما، كما ورد قوله تعالى: {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى} 1. تكذيبًا لما قال: {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} 2, وهذا يدل على أن النكرة بعد النفي للعموم، ولو لم تكن للعموم لما كان قولنا: "لا إله إلا الله" توحيدًا لعدم دلالته على نفي كل إله سوى الله تعالى"3. وبناء على هذا فللعموم صيغة التي تدل عليه. منها "كل" كقوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} 4، وقوله: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} 5, ومثلها "جميع". ومنها: المعرف بـ "ال" التي ليست للعهد كقوله: {وَالْعَصْرِ, إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ} 6, أي كل إنسان، بدليل قوله بعد: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} 7. وقوله: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} 8. وقوله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} 9. ومنها: النكرة في سياق النفي والنهي كقوله: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} 10. وقوله: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَ} 11. أو في سياق الشرط كقوله: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} 12.

_ 1 الأنعام: 91. 2 الأنعام: 91. 3 أغفلنا آراء الآخرين فلم نذكرها حيث لا نرى حاجة إليها. 4 آل عمران: 185. 5 الرعد: 16، الزمر: 62. 6 العصر: 1، 2. 7 العصر: 3. 8 البقرة: 275. 9 المائدة: 38. 10 البقرة: 197. 11 الإسراء: 23. 12 التوبة: 6.

ومنها: "الذي" و"التي" وفروعهما كقوله: {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا} 1. أي كل من قال ذلك بدليل قوله بعد بصيغة الجمع: {أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ القَولُ} 2. وقوله: {وَالَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا} 3. وقوله: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُن} 4. وأسماء الشرط كقوله تعالى: {فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} 5, للعموم في العاقل. وقوله: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ} 6, للعموم في غير العاقل. وقوله: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَه} 7, للعموم في المكان. وقوله: {أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} 8, للعموم في الأسماء. ومنها: اسم الجنس المضاف إلى معرفة كقوله: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} 9, أي كل أمر لله، وقوله: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} 10.

_ 1 الأحقاف: 17. 2 الأحقاف: 18. 3 النساء: 16. 4 الطلاق: 4. 5 البقرة: 158. 6 البقرة: 197. 7 البقرة: 150. 8 الإسراء: 110. 9 النور: 63. 10 النساء: 11.

أقسام العام

أقسام العام: والعام على ثلاثة أقسام: الأول: الباقي على عمومه، وقد قال القاضي جلال الدين البلقيني1:

_ 1 هو عبد الرحمن بن رسلان، أبو الفضل جلال الدين البلقيني، كان عالمًا بارعًا في الفقه والتفسير وأصول العربية، وله تعليق على البخاري سماه: "الإفهام لما في صحيح البخاري من الإبهام" تولى القضاء في مصر، وتوفي سنة 824 هجرية، وانظر الإتقان، جـ2 ص16.

ومثاله عزيز، إذ ما من عام إلا ويتخيل فيه التخصيص، وذكر الزركشي في "البرهان" أنه كثير في القرآن. وأورد منه قوله تعالى: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ} 1. وقوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} 3. فإنه لا خصوص فيها. الثاني: العام المراد به الخصوص - كقوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} 4, فالمراد بالناس الأولى نعيم بن مسعود، والمراد بالناس الثانية أبو سفيان لا العموم في كل منهما، يدل على هذا قوله تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ} 5, فوقعت الإشارة بقوله: {ذَلِكُمُ} إلى واحد بعينه، ولو كان المعنى به جمعًا لقال: "إنما أولئكم الشيطان" وكقوله تعالى: {فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ} 6, والمنادى جبرائيل كما في قراءة ابن مسعود، وقوله: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} 7, والمراد بالناس إبراهيم، أو سائر العرب غير قريش. الثالث: العام المخصوص - وأمثلته في القرآن كثيرة وستأتي. ومنه قوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} 8. وقوله: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} 9.

_ 1 النساء: 176. 2 الكهف: 49. 3 النساء: 23. 4 آل عمران: 173. 5 آل عمران: 175. 6 آل عمران: 39. 7 البقرة: 199. 8 البقرة: 187. 9 آل عمران: 97.

الفرق بين العام المراد به الخصوص والعام المخصوص

الفرق بين العام المراد به الخصوص والعام المخصوص: الفرق بين العام المراد به الخصوص والعام المخصوص من وجوه، أهمها: 1- أن العام المراد به الخصوص لا يراد شموله لجميع الأفراد من أول الأمر، لا من جهة تناول اللفظ، ولا من جهة الحكم، بل هو ذو أفراد استعمل في فرد واحد منها أو أكثر. أما العام المخصوص فأريد عمومه وشموله لجميع الأفراد من جهة تناول اللفظ لا من جهة الحكم، فالناس في قوله: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ} وإن كان عامًّا إلا أنه لم يرد به لفظًا وحكمًا سوى فرد واحد، أما لفظ الناس في قوله: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} 1, فهو عام أريد به ما يتناوله اللفظ من الأفراد. وإن كان حكم وجوب الحج لا يتناول إلا المستطيع منهم خاصة. 2- والأول مجاز قطعًا، لنقل اللفظ عن موضوعه الأصلي واستعماله في بعض أفراده، بخلاف الثاني فالأصح فيه أنه حقيقة، وعليه أكثر الشافعية، وكثير من الحنفية، وجميع الحنابلة، ونقله إمام الحرمين2 عن جميع الفقهاء، وقال الشيخ أبو حامد الغزالي: إنه مذهب الشافعي وأصحابه، وصححه السبكي، لأن تناول اللفظ للبعض الباقي بعد التخصيص كتناوله له بلا تخصيص، وذلك التناول حقيقي اتفاقًا، فليكن هذا التناول حقيقيًّا أيضًا. 3- وقرينة الأول عقلية غالبًا ولا تنفك عنه، وقرينة الثاني لفظية وقد تنفك.

_ 1 آل عمران: 97. 2 إمام الحرمين، هو عبد الملك بن أبي عبد الله بن يوسف بن محمد الجويني الشافعي العراقي، وأبو المعالي، كان شيخ الإمام الغزالي، ومن أعلم أصحاب الشافعي، توفي سنة 478 هجرية.

تعريف الخاص وبيان المخصص

تعريف الخاص وبيان المخصص: والخاص: يقابل العام، فهو الذي لا يستغرق الصالح له من غير حصر. والتخصيص: هو إخراج بعض ما تناوله اللفظ العام، والمخصص: إما متصل: وهو الذي لم يُفصل فيه بين العام والمخصص له بفاصل، وإما منفصل: وهو بخلافه: والمتصل خمسة: أحدها: الاستثناء، كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ، إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا} 1. وقوله: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ، عَظِيمٌ, إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} 2. الثاني: الصفة: كقوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} 3، فقوله: {اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} صفة لـ"نسائكم" والمعنى: أن الربيبة من المرأة المدخول بها محرمة على الرجل حلال له إذا لم يدخل بها. الثالث: الشرط: كقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} 4، فقوله: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا} أي مالًا، شرط في الوصية. وقوله: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} 5 أي قدرة على الأداء، أو أمانة وكسبًا. الرابع: الغاية: كقوله: {وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} 6.

_ 1 النور: 4، 5. 2 المائدة: 33، 34. 3 النساء: 23. 4 البقرة: 180. 5 النور: 33. 6 البقرة: 196.

وقوله: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} 1. الخامس: بدل البعض من الكل: كقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} 2, فقوله: {مَنِ اسْتَطَاعَ} بدل من "الناس" فيكون وجوب الحج خاصًّا بالمستطيع. والمخصص المنفصل: ما كان في موضع آخر من آية أو حديث أو إجماع أو قياس. فما خُصَّ بالقرآن كقوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ} 3, فهو عام في كل مطلقة حاملًا كانت أو غير حامل، مدخولًا بها أو غير مدخول بها، خُصَّ بقوله: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} 4، وبقوله: {إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ} 5. وما خُصَّ بالحديث كقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} 6, خص من البيع البيوع الفاسدة التي ذكرت في الحديث، كما في البخاري عن ابن عمر -رضي الله عنه- قال: "نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن عسب الفحل"، وفي الصحيحين عن ابن عمر: "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى عن بيع حبل الحبلة" وكان بيعًا تبتاعه الجاهلية، كان الرجل يبتاع الجزور إلى أن تنتج الناقة ثم تنتج التي في بطنها - واللفظ للبخاري، إلى غير ذلك من الأحاديث. ورخص من الربا العرايا الثابتة بالسٌّنَّة فإنها مباحة، فعن أبي هريرة, رضي الله عنه: "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رخَّص في بيع العرايا بخرصها فيما دون خمسة أوسق أو في خمسة أوسق"7. وما خُص بالإجماع آية المواريث: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} 8, خص منها بالإجماع الرقيق لأن الرق مانع من الإرث.

_ 1 البقرة: 222. 2 آل عمران: 97. 3 البقرة: 228. 4 الطلاق: 4. 5 الأحزاب: 49. 6 البقرة: 275. 7 متفق عليه. 8 النساء: 11.

وما خُص بالقياس آية الزنا: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} 1, خُص منها العبد بالقياس على الأمة التي نص على تخصيصها عموم الآية في قوله تعالى: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} 2.

_ 1 النور: 2. 2 النساء: 25.

تخصيص السنة بالقرآن

تخصيص السٌّنَّة بالقرآن: وقد يخصص القرآن السٌّنَّة، ويمثلون لذلك بما رُوي عن أبي واقد الليثي -رضي الله عنه- قال: قال النبي, صلى الله عليه وسلم: "ما قُطِع من البهيمة وهي حية فهو ميت" 1 فهذا الحديث خُص بقوله تعالى: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثاً وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ} 2.

_ 1 أخرجه أبو داود، والترمذي، وحسنه واللفظ له. 2 النحل: 80.

صحة الاحتجاج بالعام بعد تخصيصه فيما بقى

صحة الاحتجاج بالعام بعد تخصيصه فيما بقي: اختلف العلماء في صحة الاحتجاج بالعام بعد تخصيصه فيما بقي، والمختار عند المحققين صحة الاحتجاج به فيما وراء صور التخصيص1. واستدلوا على ذلك بأدلة إجماعية، وأدلة عقلية. أ- فمن أدلة الإجماع: أن فاطمة -رضي الله عنها- احتجت على أبي بكر -رضي الله عنه- في ميراثها من أبيها بعموم قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} 2, مع أنه مخصص بالكافر والقاتل،

_ 1 أنكر الاحتجاج به عيسى بن أبان وأبو ثور مطلقًا، وقال البلخي: إن خُص بدليل متصل كالشرط والصفة والاستثناء فهو حجة، وإن خُص بدليل منفصل فليس بحجة - انظر الآمدي، جـ2 ص213. 2 النساء: 11.

ولم ينكر أحد من الصحابة صحة احتجاجها مع ظهوره وشهرته، فكان إجماعًا على صحة احتجاجها، ولذا عدل أبو بكر -رضي الله عنه- في حرمانها إلى الاحتجاج بقوله, صلى الله عليه وسلم: "نحن معاشر الأنبياء لا نُورَّث ... ما تركناه صدقة"1. ب- ومن الأدلة العقلية: أن العام قبل التخصيص حُجة في كل واحد من أقسامه إجماعًا، والأصل بقاء ما كان قبل التخصيص بعده، إلا أن يوجد له معارض، وليس هناك معارض فيما وراء صور التخصيص، فيظل العام بعد التخصيص حُجة فيما بقي.

_ 1 الحديث في الصحيحين وغيرهما.

ما يشمله الخطاب

ما يشمله الخطاب: اختُلِف في الخطاب الخاص بالرسول -صلى الله عليه وسلم- كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} 1. وقوله: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْر} 2, هل يشمل الأمة أم لا يشملها؟ أ- فذهب قوم إلى أنه يشملها باعتباره قدوة لها. ب- وذهب آخرون إلى أنه لا يشملها؛ لأن الصيغة تدل على اختصاصه بها. واختلفوا أيضًا في الخطاب من الله تعالى بـ "يَا أَيُّهَا النَّاسُ" كقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} 3, هل يشمل الرسول أم لا؟ والصحيح في ذلك أنه يشمله لعمومه وإن كان الخطاب قد ورد على لسانه ليُبلِّغ غيره.

_ 1 الأحزاب: 1. 2 المائدة: 41. 3 النساء: 1.

وقد فصل بعضهم فقال: إن اقترن الخطاب بـ "قل" لم يشمله لأن ظاهره البلاغ كقوله: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} 1, وإلا شمله. وما ورد في الخطاب مضافًا إلى الناس أو المؤمنين كقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} 2، وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} 3. فالمختار في الأول: أنه يشمل الكافر والعبد والأنثى. والمختار في الثاني: أنه يشمل الأخيرين فقط لمراعاة التكليف بالنسبة إلى الجميع، وخروج العبد عن بعض الأحكام كوجوب الحج والجهاد إنما هو لأمر عارض كفقره واشتغاله بخدمة سيده. ومتى اجتمع المذكر والمؤنث غلب التذكير. وأكثر خطاب الله تعالى في القرآن بلفظ التذكير، والنساء يدخلن في جملته. وقد يأتي ذكرهن بلفظ مفرد تبيينًا وإيضاحًا. وهذا لا يمنع دخولهن في اللفظ العام الصالح لهن، كما جاء في قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} 4.

_ 1 الأعراف: 158. 2 الحجرات: 13. 3 المائدة: 90. 4 النساء: 124.

الناسخ والمنسوخ

الناسخ والمنسوخ مدخل ... 14- الناسخ والمنسوخ: 1 تنزل التشريعات السماوية من الله تعالى على رسله لإصلاح الناس في العقيدة والعبادة والمعاملة. وحيث كانت العقيدة واحدة لا يطرأ عليها تغيير لقيامها على توحيد الألوهية والربوبية فقد اتفقت دعوة الرسل جميعًا إليها: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} 2، أما العبادات والمعاملات فإنها تتفق في الأسس العامة التي تهدف إلى تهذيب النفس والمحافظة على سلامة المجتمع وربطه برباط التعاون والإخاء، إلا أن مطالب كل أمة قد تختلف عن مطالب أختها، وما يلائم قومًا في عصر قد لا يلائمهم في آخر، ومسلك الدعوة في طور النشأة والتأسيس يختلف عن شرعتها بعد التكوين والبناء، فحكمة التشريع في هذه غيرها في تلك، ولا شك أن المشرِّع سبحانه وتعالى يسع كل شيء رحمة وعلمًا، ولله الأمر والنهي {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} 3, فلا غرابة في أن يرفع تشريع بآخر مراعاة لمصلحة العباد عن علم سابق بالأول والآخر.

_ 1 أفرده بالتصنيف خلائق لا يحصون: منهم أبو عبيد القاسم بن سلام، وأبو داود السجستاني، وأبو جعفر النحاس، وابن الأنباري، ومكي، وابن العربي، وآخرون، انظر الإتقان جـ2 ص20. ومن المعاصرين: الدكتور مصطفى زيد "النسخ في القرآن". 2 الأنبياء: 25. 3 الأنبياء: 23.

تعريف النسخ وشروطه

تعريف النسخ وشروطه: والنسخ لغة: يُطلق بمعنى الإزالة، ومنه يقال: نسخت الشمس الظل: أي أزالته. ونسخت الريح أثر المشي - ويطلق بمعنى نقل الشيء من موضع إلى موضع، ومنه نسخت الكتاب: إذا نقلت ما فيه. وفي القرآن: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} 1, والمراد به نقل الأعمال إلى الصحف.

_ 1 الجاثية: 29.

والنسخ في الاصطلاح: رفع الحكم الشرعي بخطاب شرعي - فخرج بالحكم رفع البراءة الأصلية، وخرج بقولنا: "بخطاب شرعي" رفع الحكم بموت أو جنون أو إجماع أو قياس. ويطلق الناسخ على الله تعالى كقوله: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} 1، وعلى الآية وما يُعرف به النسخ، فيقال: هذه الآية ناسخة لآية كذا، وعلى الحكم الناسخ لحكم آخر. والمنسوخ هو الحكم المرتفع، فآية المواريث مثلًا أو ما فيها من حكم ناسخ لحكم الوصية للوالدين والأقربين كما سيأتي, ومقتضى ما سبق أنه يُشترط في النسخ: 1- أن يكون الحكم المنسوخ شرعيًّا. 2- أن يكون الدليل على ارتفاع الحكم خطابًا شرعيًّا متراخيًا عن الخطاب المنسوخ حكمه. 3- وألا يكون الخطاب المرفوع حكمه مقيدًا بوقت معين. وإلا فالحكم ينتهي بانتهاء وقته ولا يُعَد هذا نسخًا. قال "مكي"2: "ذكر جماعة أن ما ورد من الخطاب مشعرًا بالتوقيت والغاية مثل قوله في البقرة: {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} 3, مُحكم غير منسوخ، لأنه مؤجل بأجل، والمؤجل بأجل لا نسخ فيه.

_ 1 البقرة: 106. 2 هو مكي بن أبي طالب حموش بن محمد بن مختار القيسي المقرئ يكنى أبا محمد، وأصله من القيروان، كثير التأليف في علوم القرآن والعربية، له كتاب في "الناسخ والمنسوخ" سكن قرطبة، ورحل إلى مصر مرتين، توفي سنة 437 هجرية. 3 البقرة: 109.

ما يقع فيه النسخ

ما يقع فيه النسخ: ومِن هنا يُعلم أن النسخ لا يكون إلا في الأوامر والنواهي - سواء أكانت صريحة في الطلب أو كانت بلفظ الخبر الذي بمعنى الأمر أو النهي، على أن يكون ذلك غير متعلق بالاعتقادات التي ترجع إلى ذات الله تعالى وصفاته وكتبه ورسله واليوم الآخر، أو الآداب الخُلُقية، أو أصول العبادات والمعاملات لأن الشرائع كلها لا تخلو عن هذه الأصول. وهي متفقة فيها، قال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} 1. وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} 2. وقال: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا} 3. وقال في القِصاص: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} 4. وقال في الجهاد: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِير} 5. وفي الأخلاق: {وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا} 6. كما لا يدخل النسخ الخبر الصريح الذي ليس بمعنى الطلب كالوعد والوعيد.

_ 1 الشورى: 13. 2 البقرة: 183. 3 الحج: 27. 4 المائدة: 45. 5 آل عمران: 146. 6 لقمان: 18.

ما به يعرف النسخ وأهميته

ما به يُعرف النسخ وأهميته: ولمعرفة الناسخ والمنسوخ أهمية كبيرة عند أهل العلم من الفقهاء والأصوليين والمفسرين حتى لا تختلط الأحكام، ولذلك وردت آثار كثيرة في الحث على معرفته، فقد رُوِي أن عليًّا -رضي الله عنه- مرَّ على قاض فقال له: أتعرف

الناسخ من المنسوخ؟ قال: لا، فقال: هلكت وأهلكت. وعن ابن عباس أنه قال في قوله تعالى: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} 1, قال: "ناسخه ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه ومقدمه ومؤخره، وحرامه وحلاله"2. ولمعرفة الناسخ والمنسوخ طرق: 1- النقل الصريح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أو عن صحابي كحديث: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها" "رواه الحاكم". وقول أنس في قصة أصحاب بئر معونة كما سيأتي: "ونزل فيهم قرآن قرأناه حتى رُفِع"3. 2- إجماع الأمة على أن هذا ناسخ وهذا منسوخ. 3- معرفة المتقدم من المتأخر في التاريخ. ولا يعتمد في النسخ على الاجتهاد، أو قول المفسرين، أو التعارض بين الأدلة ظاهرًا، أو تأخر إسلام أحد الراويين.

_ 1 البقرة: 269. 2 أخرجه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس. 3 هم بعث من أصحاب رسول الله بعثهم إلى أهل نجد، فساروا حتى نزلوا ببئر معونة، فاستصرخ عليهم عامر بن الطفيل قبائل من بني سليم من عصية ورعل وذكوان - وأحاطوا بهم وقاتلوهم حتى قُتِلوا عن آخرهم.

الآراء في النسخ وأدلة ثبوته

الآراء في النسخ وأدلة ثبوته: والناس في النسخ على أربعة أقسام: 1- اليهود: وهؤلاء ينكرونه لأنه يستلزم في زعمهم البَدَاء، وهو الظهور بعد الخفاء، وهم يعنون بذلك: أن النسخ إما أن يكون لغير حكمة، وهذا عبث محال على الله، وإما أن يكون لحكمة ظهرت ولم تكن ظاهرة من قبل، وهذا يستلزم البَدَاء وسبق الجهل، وهو محال على الله تعالى.

واستدلالهم هذا فاسد؛ لأن كُلًّا من حكمة الناسخ وحكمة المنسوخ معلوم لله تعالى من قبل، فلم يتجدد علمه بها. وهو سبحانه ينقل العباد من حكم إلى حكم لمصلحة معلومة له من قبل بمقتضى حكمته وتصرفه المطلق في ملكه. واليهود أنفسهم يعترفون بأن شريعة موسى ناسخة لما قبلها. وجاء في نصوص التوراة النسخ، كتحريم كثير من الحيوان على بني إسرائيل بعد حِلِّه قال تعالى في إخباره عنهم: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرائيلُ عَلَى نَفْسِهِ} 1. وقال: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي} 2 ... الآية. وثبت في التوراة أن آدم كان يزوج من الأخت. وقد حرم الله ذلك على موسى، وأن موسى أمر بني إسرائيل أن يقتلوا مَن عبد منهم العجل ثم أمرهم برفع السيف عنهم. 2- الروافض: وهؤلاء غلوا في إثبات النسخ وتوسعوا فيه، وأجازوا البَدَاء على الله تعالى، فهم مع اليهود على طرفي نقيض، واستدلوا على ذلك بأقوال نسبوها إلى علي -رضي الله عنه- زورًا وبهتانًا، وبقوله تعالى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} 3, على معنى أنه يظهر له المحو والإثبات. وذلك إغراق في الضلال. وتحريف للقرآن. فإن معنى الآية: ينسخ الله ما يستصوب نسخه ويثبت بدله ما يرى المصلحة في إثباته، وكل من المحو والإثبات موجود في كثير من الحالات، كمحو السيئات بالحسنات: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} 4، ومحو كفر التائبين ومعاصيهم بالتوبة وإثبات إيمانهم وطاعتهم، ولا يلزم من ذلك الظهور بعد الخفاء، بل يفعل الله هذا مع علمه به قبل كونه.

_ 1 آل عمران: 93. 2 الأنعام: 146. 3 الرعد: 39. 4 هود: 114.

3- أبو مسلم الأصفهاني 1: وهو يجوِّز النسخ عقلًا ويمنع وقوعه شرعًا، وقيل يمنعه في القرآن خاصة محتجًّا بقوله تعالى: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} 2, على معنى أن أحكامه لا تبطل أبدًا. ويحمل آيات النسخ على التخصيص. ورد عليه بأن معنى الآية أن القرآن لم يتقدمه ما يبطله من الكتب ولا يأتي بعده ما يبطله. 4- وجمهور العلماء: على جواز النسخ عقلًا ووقوعه شرعًا لأدلة: 1- لأن أفعال الله لا تُعلَّل بالأغراض، فله أن يأمر بالشئ في وقت وينسخه بالنهي عنه في وقت، وهو أعلم بمصالح العباد. 2- ولأن نصوص الكتاب والسٌّنَّة دالة على جواز النسخ ووقوعه: أ- قال تعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ} 3. وقال: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} 4. ب- وفي الصحيح عن ابن عباس -رضي الله عنه- قال: قال عمر, رضي الله عنه: أقرؤنا أُبَيٌّ، وأقضانا، وإنا لندع من قول أُبَيٍّ، وذاك أن أُبَيًّا يقول: لا أدع شيئًا سمعته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقد قال الله عز وجل: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا} .

_ 1 هو محمد بن بحر، المشهور بأبي مسلم الأصفهاني، معتزلي، من كبار المفسرين. أَهَمُّ كتبه: "جامع التأويل في التفسير"، توفي سنة 322 هجرية. 2 فصلت: 42. 3 النحل: 101. 4 البقرة: 106.

أقسام النسخ

أقسام النسخ: والنسخ أربعة أقسام: القسم الأول: نسخ القرآن بالقرآن: وهذا القسم متفق على جوازه ووقوعه من القائلين بالنسخ، فآية الاعتداد بالحول مثلًا نُسِخَت بآية الاعتداد بأربعة أشهر وعشرٍ، كما سيأتي في الأمثلة. القسم الثاني: نسخ القرآن بالسٌّنَّة: وتحت هذا نوعان: أ- نسخ القرآن بالسٌّنَّة الآحادية. والجمهور على عدم جوازه. لأن القرآن متواتر يفيد اليقين، والآحادي مظنون، ولا يصح رفع المعلوم بالمظنون. ب- ونسخ القرآن بالسٌّنَّة المتواترة. وقد أجازه مالك وأبو حنيفة وأحمد في رواية، لأن الكل وحي. قال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} 1. وقال: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} 2, والنسخ نوع من البيان - ومنعه الشافعي وأهل الظاهر وأحمد في الرواية الأخرى، لقوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} 3, والسٌّنَّة ليست خيرًا من القرآن ولا مثله. القسم الثالث: نسخ السٌّنَّة بالقرآن , ويجيزه الجمهور، فالتوجه إلى بيت المقدس كان ثابتًا بالسٌّنَّة، وليس في القرآن ما يدل عليه، وقد نُسِخَ بالقرآن في قوله: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} 4, ووجوب صوم يوم عاشوراء كان ثابتًا بالسٌّنَّة ونُسِخ بقوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} 5.

_ 1 النجم: 3، 4. 2 النحل: 44. 3 البقرة: 106. 4 البقرة: 144. 5 أخرج البخاري ومسلم عن عائشة قالت: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمر بصيام يوم عاشوراء فلما فُرِضَ رمضان كان مَن شاء صام ومَن شاء أفطر" – [والآية من سورة البقرة: 185] .

ومنع هذا القسم الشافعي في إحدى روايتيه، وقال: "وحيث وقع بالسٌّنَّة فمعها قرآن، أو بالقرآن فمعه سُنة عاضدة تبيِّن توافق الكتاب والسٌّنَّة"1. القسم الرابع: نسخ السٌّنَّة بالسٌّنَّة، وتحت هذا أربعة أنواع: 1- نسخ متواترة بمتواترة، 2- ونسخ آحاد بآحاد، 3- ونسخ آحاد بمتواترة، 4- ونسخ متواترة بآحاد - والثلاثة الأولى جائزة - أما النوع الرابع ففيه الخلاف الوارد في نسخ القرآن بالسٌّنَّة الآحادية، والجمهور على عدم جوازه. أما نسخ كل من الإجماع والقياس والنسخ بهما فالصحيح عدم جوازه.

_ 1 انظر الإتقان جـ2 ص21.

أنواع النسخ في القرآن

أنواع النسخ في القرآن: والنسخ في القرآن ثلاثة أنواع: النوع الأول: نسخ التلاوة والحكم معًا، ومثاله: ما رواه مسلم وغيره عن عائشة قالت: "كان فيما أُنزل: عشر رضعات معلومات يُحرِّمن، فنسخن بخمس معلومات، فتوفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهن مما يُقرأ من القرآن", وقولها: "وهن مما يُقرأ من القرآن" ظاهره بقاء التلاوة، وليس كذلك، فإنه غير موجود في المصحف العثماني. وأجيب بأن المراد: قارَبَ الوفاة1. والأظهر أن التلاوة نُسِخَت ولم يبلغ ذلك كل الناس إلا بعد وفاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فتوفي وبعض الناس يقرؤها. وحكى القاضي أبو بكر في "الانتصار" عن قوم إنكار هذا القسم؛ لأن الأخبار فيه أخبار آحاد، ولا يجوز القطع على إنزال القرآن ونسخه بأخبار آحاد لا حُجة فيها تفيد القطع، ولكنها ظنية.

_ 1 رواه البخاري تعليقًا عن عمر.

ويُجاب على ذلك بأن ثبوت النسخ شيء، وثبوت نزول القرآن شيء آخر، فثبوت النسخ يكفي فيه الدليل الظني بخبر الآحاد، أما ثبوت نزول القرآن فهو الذي يُشترط فيه الدليل القطعي بالخبر المتواتر، والذي معنا ثبوت النسخ لا ثبوت القرآن فيكفي فيه أخبار الآحاد. ولو قيل إن هذه القراءة لم تثبت بالتواتر لصح ذلك. النوع الثاني: نسخ الحكم وبقاء التلاوة، ومثاله: نسخ حكم آية العِدَّة بالحول مع بقاء تلاوتها - وهذا النوع هو الذي أُلِّفت فيه الكتب وذكر المؤلفون فيه الآيات المتعددة. والتحقيق أنها قليلة، كما بيَّن ذلك القاضي أبو بكر ابن العربي1. وقد يقال: ما الحكمة في رفع الحكم وبقاء التلاوة؟ والجواب من وجهين.. أحدهما: أن القرآن كما يُتلى ليُعرف الحكم منه، والعمل به، فإنه يُتلى كذلك لكونه كلام الله تعالى فيُثاب عليه، فتُرِكت التلاوة لهذه الحكمة. وثانيهما: أن النسخ غالبًا يكون للتخفيف, فأُبقيت التلاوة تذكيرًا بالنعمة في رفع المشقة. وأما حكمة النسخ قبل العمل، كالصدقة عند النجوى، فيُثاب على الإيمان به، وعلى نية طاعة الأمر. النوع الثالث: نسخ التلاوة مع بقاء الحكم، وقد ذكروا له أمثلة كثيرة، منها آية الرجم: "الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالًا من الله، والله عزيز حكيم" ومنها ما رُوِي في الصحيحين عن أنس في قصة أصحاب بئر معونة الذين قُتِلوا وقَنَتَ الرسول يدعو على قاتليهم، قال أنس: ونزل فيهم

_ 1 هو أبو بكر محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله المعافري، أحد فقهاء أشبيلية وعلمائها، رحل إلى الشرق، ثم عاد إلى المغرب، وتوفي سنة 544 هجرية.

قرآن قرأناه حتى رُفِع: "أن بلِّغوا عنا قومنا أنَّا لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا" ثم نُسِخَت تلاوته - وبعض أهل العلم يُنكر هذا النوع من النسخ. لأن الأخبار فيه أخبار آحاد، ولا يجوز القطع على إنزال قرآن ونسخه بأخبار آحاد، قال ابن الحصَّار: "إنما يُرجع في النسخ إلى نقل صريح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو عن صحابي يقول: آية كذا نسخت كذا، قال: وقد يُحكم به عند وجود التعارض المقطوع به مع علم التاريخ ليُعرف المتقدم والمتأخر، قال: ولا يُعْتمد في النسخ على قول عوام المفسرين، بل ولا اجتهاد المجتهدين من غير نقل صريح، ولا معارضة بيِّنة، لأن النسخ يتضمن رفع حكم وإثبات حكم تقرَّر في عهده -صلى الله عليه وسلم- والمعتمد فيه النقل والتاريخ دون الرأي والاجتهاد، قال: والناس في هذا بين طرفي نقيض، فمِن قائل: لا يُقبل في النسخ أخبار الآحاد العدول، ومِن متساهل يكتفي فيه بقول مفسر أو مجتهد، والصواب خلاف قولهما"1. وقد يقال: إن الآية والحكم المستفاد منها متلازمان؛ لأن الآية دليل على الحكم. فإذا نُسِخَت الآية نُسِخ حكمها. وإلا وقع الناس في لَبْس. ويُجاب عن ذلك بأن هذا التلازم يسلم لو لم ينصب الشارع دليلًا على نسخ التلاوة، وعلى إبقاء الحكم، أما وقد نصب الدليل على نسخ التلاوة وحدها، وعلى إبقاء الحكم واستمراره فإن التلازم يكون باطلًا، وينتفي اللَّبْس بهذا الدليل الشرعي الذي يدل على نسخ التلاوة مع بقاء الحكم.

_ 1 انظر الإتقان، جـ1 ص24.

حكمة النسخ

حكمة النسخ: 1- مراعاة مصالح العباد. 2- تطور التشريع إلى مرتبة الكمال حسب تطور الدعوة وتطور حال الناس. 3- ابتلاء المكلَّف واختباره بالامتثال وعدمه.

4- إرادة الخير للأمة والتيسير عليها؛ لأن النسخ إن كان إلى أشقَّ ففيه زيادة الثواب، وإن كان إلى أخف ففيه سهولة ويُسر

النسخ إلى بدل وإلى غير بدل

النسخ إلى بدل وإلى غير بدل: والنسخ يكون إلى بدل وإلى غير بدل - والنسخ إلى بدل: إما إلى بدل أخف، وإما إلى بدل مماثل، وإما إلى بدل أثقل: 1- فالنسخ إلى غير بدل: كنسخ الصدقة بين يدي نجوى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} 1، نُسِخَت بقوله: {أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} 2. وأنكر بعض المعتزلة والظاهرية ذلك، وقالوا: إن النسخ بغير بدل لا يجوز شرعًا، لأن الله تعالى يقول: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} 3, حيث أفادت الآية أنه لا بد أن يؤتى مكان الحكم المنسوخ بحكم آخر خير منه مثله. ويُجاب عن ذلك: بأن الله تعالى إذا نسخ حكم الآية بغير بدل فإن هذا يكون بمقتضى حكمته، رعاية لمصلحة عباده، فيكون عدم الحكم خيرًا من ذلك الحكم المنسوخ في نفعه للناس، ويصح حينئذ أن يُقال: إن الله نسخ حكم الآية السابقة بما هو خير منها حيث كان عدم الحكم خيرًا للناس. 2- والنسخ إلى بدل أخف: يمثلون له بقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} 4.. الآية - فهي ناسخة لقوله: {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} 5؛ لأن مقتضاها الموافقة لما كان عليه

_ 1 المجادلة: 12. 2 المجادلة: 13. 3 البقرة: 106. 4 البقرة: 187. 5 البقرة: 183.

السابقون من تحريم الأكل والشرب والوطء إذا صلُّوا العتمة أو ناموا إلى الليلة التالية, كما ذكروا ذلك، فقد رَوى ابن أبي حاتم عن ابن عمر قال: أُنْزِلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} كتب عليهم إذا صلَّى أحدهم العتمة أو نام حرم عليه الطعام والشراب والنساء إلى مثلها، ورَوَى مثله أحمد والحاكم وغيرهما، وفيه: "فأنزل الله عز وجل: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} ... الآية". 3- النسخ إلى بدل مماثل: كنسخ التوجه إلى بيت المقدس بالتوجه إلى الكعبة في قوله: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} 1. 4- والنسخ إلى بدل أثقل: كنسخ الحبس في البيوت في قوله: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ} 2 ... الآية، بالجلد في قوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} 3 ... الآية. أو الرجم في قوله: "الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة"..4.

_ 1 البقرة: 144. 2 النساء: 15. 3 النور: 2. 4 اعترض بعض العلماء على هذا النوع محتجين بقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] ، وقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} [النساء: 28] ، ويُجاب عن ذلك بأن البدل إلى أثقل يكون ميسرًا على المكلَّفين دون مشقة أو إرهاق مع ما فيه من زيادة النفع وعظيم الثواب، وثقله وصف له بالنسبة إلى ما قبله.

شبه النسخ

شُبَهُ النسخ: وللناسخ والمنسوخ أمثلة كثيرة، إلا أن العلماء في هذا: 1- منهم المكثر الذي اشتبه عليه الأمر فأدخل في النسخ ما ليس منه. 2- ومنهم المتحري الذي يعتمد على النقل الصحيح في النسخ. ومنشأ الاشتباه عند المكثرين أُمور أهمها:

1- اعتبار التخصيص نسخًا "انظر مبحث العام والخاص". 2- اعتبار البيان نسخًا "انظر مبحث المطلق والمقيد الآتي". 3- اعتبار ما شُرِعَ لسبب ثم زال السبب من المنسوخ، كالحث على الصبر وتحمل أذى الكفار في مبدأ الدعوة حين الضعف والقلة، قالوا إنه منسوخ بآيات القتال، والحقيقة أن الأول - وهو وجوب الصبر والتحمل - كان ويكون لحالة الضعف والقلة. وإذا وُجِدَت الكثرة والقوة وجب الدفاع عن العقيدة بالقتال، وهو الحكم الثاني. 4- اعتبار ما أبطله الإسلام من أمر الجاهلية أو من شرائع الأمم السابقة نسخًا: كتحديد عدد الزوجات بأربع، ومشروعية القِصاص والدِّيَة، وقد كان عند بني إسرائيل القِصاص فقط كما قال ابن عباس ورواه البخاري1، ومثل هذا ليس نسخًا، وإنما هو رفع للبراءة الأصلية.

_ 1 أخرج البخاري وغيره عن ابن عباس قال: كان في بني إسرائيل القِصاص ولم تكن الدِّيَة فيهم، فقال الله لهذه الأمة: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} ... إلى قوله: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} فالعفو أن تُقبل الدِّيَة في العمد: {فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} مما كُتِب على مَن كان قبلكم {فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ} قيل بعد قبول الدِّيَة {فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة: 178] .

أمثلة للنسخ

أمثلة للنسخ: وقد ذكر السيوطي في الإتقان إحدى وعشرين آية اعتبرها من قبيل النسخ نذكر منها ما يأتي ونُعَلِّق عليه. 1- قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ} 1, منسوخة بقوله: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} 2, وقد

_ 1 البقرة: 115. 2 البقرة: 144.

قيل -وهو الحق- إن الأُولى غير منسوخة؛ لأنها في صلاة التطوع في السفر على الراحلة وكذا في حال الخوف والاضطرار، وحكمها باق، كما في الصحيحين، والثانية في الصلوات الخمس، والصحيح أنها ناسخة لما ثبت في السٌّنَّة من استقبال بيت المقدس. 2- قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} 1, قيل منسوخة بآية المواريث، وقيل بحديث: "إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث" 2. 3- قوله: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} 3, نُسِخت بقوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} 4, لما في الصحيحين من حديث سلمة بن الأكوع أنه قال: لما نزلت {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} كان من أراد أن يُفطر يفتدي، حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها. وذهب ابن عباس إلى أنها مُحكمة غير منسوخة: روى البخاري عن عطاء أنه سمع ابن عباس -رضي الله عنهما- يقرأ: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} قال ابن عباس: "ليست بمنسوخة. هي للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما فيُطعمان كل يوم مسكينًا" - وليس معنى "يطيقونه" على هذا: يستطيعونه، وإنما معناه يتحملونه بمشقة وكلفة. وبعضهم جعل الكلام على تقدير "لا" النافية، أي: وعلى الذين لا يطيقونه. 4- قوله: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} 5, نُسِخت بقوله: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} 6, وقيل: يُحمل عموم الأمر بالقتال على غير الأشهُر الحُرُم فلا نسخ.

_ 1 البقرة: 180. 2 رواه أبو داود والترمذي، وقال: حسن صحيح. 3 البقرة: 184. 4 البقرة: 185. 5 البقرة: 217. 6 التوبة: 36.

5- قوله: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} 1, نُسِخت بقوله: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} 2. وقيل إن الآية الأولى مُحكمة؛ لأنها في مقام الوصية للزوجة إذا لم تخرج ولم تتزوج، أما الثانية فهي لبيان العدَّة، ولا تنافي بينهما. 6- قوله: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} 3, نُسِخت بقوله: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} 4. 7- قوله: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُوا الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} 5, نُسِخت بآية المواريث وقيل -وهو الصواب- إنها غير منسوخة وحكمها باق على الندب. 8- قوله: {وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا} 6. نُسِختا بآية الجلد للبِكْر في سورة النور: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} 7, وبالجلد للبِكْر وبالرجم للثيِّب الوارد في السٌّنَّة: " ... البِكْر بالبِكْر جلد مائة ونفي سنة، والثيِّب بالثيِّب جلد مائة والرجم" 8.

_ 1 البقرة: 240. 2 البقرة: 234. 3 البقرة: 284. 4 البقرة: 286. 5 النساء: 8. 6 النساء: 15، 16. 7 النور: 2. 8 رواه مسلم من حديث عبادة بن الصامت.

9- قوله: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} 1, نُسِخت بقوله: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} 2. 10- قوله: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً} 3, نُسِخَت بقوله: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى} 4 ... الآية، وبقوله: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} 5.. الآية. وقيل إنه من باب التخصيص لا النسخ. وقد مر ذكر أمثلة أخرى.

_ 1 الأنفال: 65. 2 الأنفال: 66. 3 التوبة: 41. 4 التوبة: 91. 5 التوبة: 122.

المطلق والمقيد

المطلق والمقيد مدخل ... 15- المطلق والمقيد: 1 بعض الأحكام التشريعية يرد تارة مطلقًا في فرد شائع لا يتقيد بصفة أو شرط، ويرد تارة أخرى متناولًا له مع أمر زائد على حقيقته الشاملة لجنسه من صفة أو شرط، وإطلاق اللفظ مرة وتقييده أخرى من البيان العربي، وهو ما يُعرف في كتاب الله المعجز بـ "مطلق القرآن ومقيده".

_ 1 انظر "الإتقان" جـ2 ص31.

تعريف المطلق والمقيد

تعريف المطلق والمقيد: والمطلق: هو ما دل على الحقيقة بلا قيد، فهو يتناول واحدًا لا بعينه من الحقيقة، وأكثر مواضعه النكرة في الإثبات كلفظ "رقبة" في مثل: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} فإنه يتناول عتق إنسان مملوك -وهو شائع في جنس العبيد مؤمنهم وكافرهم على السواء وهو نكرة في الإثبات؛ لأن المعنى: فعليه تحرير رقبة، وكقوله عليه الصلاة والسلام: "لا نكاح إلا بولي" "رواه أحمد والأربعة". وهو مطلق في جنس الأولياء سواء أكان رشيدًا أو غير رشيد. ولهذا عرَّفه بعض الأصوليين بأنه عبارة عن النكرة في سياق الإثبات، فقولنا: "نكرة" احتراز عن أسماء المعارف وما مدلوله واحد معين، وقولنا: "في سياق الإثبات" احتراز عن النكرة في سياق النفي فإنها تعم جميع ما هو من جنسها. والمقيَّد: هو ما دل على الحقيقة بقيد. كالرقبة المقيَّدة بالإيمان في قوله: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} 2.

_ 1 النساء: 92.

أقسام المطلق والمقيد وحكم كل منها

أقسام المطلق والمقيَّد وحكم كل منها: وللمطلق والمقيد صور عقلية نذكر منها الأقسام الواقعية فيما يلي: 1- أن يتحد السبب والحكم: كالصيام في كفارة اليمين: جاء مطلقًا في

القراءة المتواترة بالمصحف: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} 1، ومقيدًا بالتتابع في قراءة ابن مسعود: "فصيام ثلاثة أيام متتابعات" - فمثل هذا يحمل المطلق فيه على المقيد؛ لأن السبب الواحد لا يوجب المتنافيين - ولهذا قال قوم بالتتابع2، وخالفهم من يرى أن القراءة غير المتواترة -وإن كانت مشهورة- ليست حُجة، فليس هنا مقيد حتى يُحمل عليه المطلق. 2- أن يتحد السبب ويختلف الحكم: كالأيدي في الوضوء والتيمم. قيَّد غسل الأيدي في الوضوء بأنه إلى المرافق، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} 3، وأطلق المسح في التيمم قال تعالى: {َتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} 4, فقيل: لا يُحمل المطلق على المقيد لاختلاف الحكم. ونقل الغزالي عن أكثر الشافعية حمل المطلق على المقيد هنا لاتحاد السبب وإن اختلف الحكم. 3- أن يختلف السبب ويتحد الحكم، وفي هذا صورتان: أ- الأولى: أن يكون التقييد واحدًا. كعتق الرقبة في الكفارة، ورد اشتراط الإيمان في الرقبة بتقييدها بالرقبة المؤمنة في كفارة القتل الخطأ، قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} 5، وأطلقت في كفارة الظهار، قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} 6، وفي كفارة اليمين، قال تعالى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} 7, فقال جماعة منهم المالكية وكثير من الشافعية: يُحمل

_ 1 المائدة: 89. 2 وبه قال أبو حنيفة والثوري، وهو أحد قولي الشافعي. 3 المائدة: 6. 4 المائدة: 6. 5 النساء: 92. 6 المجادلة: 92. 7 المائدة: 89.

المطلق على المقيد من غير دليل، فلا تُجزئ الرقبة الكافرة في كفارة الظِّهار واليمين، وقال آخرون -وهو مذهب الأحناف- لا يُحمل المطلق على المقيد إلا بدليل، فيجوز إعتاق الكافرة في كفارة الظِّهار واليمين. وحُجة أصحاب الرأي الأول أن كلام الله تعالى متحد في ذاته، لا تعدد فيه فإذا نص على اشتراط الإيمان في كفارة القتل، كان ذلك تنصيصًا على اشتراطه في كفارة الظِّهار، ولهذا حُمِل قوله تعالى: {وَالذَّاكِرَاتِ} على قوله في أول الآية: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً} 1, من غير دليل خارج، أي: والذاكرات الله كثيرًا، والعرب من مذهبها استحباب الإطلاق اكتفاء بالقيد وطلبًا للإيجاز والاختصار. وقد قال تعالى: {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} 2, والمراد: "عن اليمين قعيد"، ولكن حُذِف لدلالة الثاني عليه3. وأما حُجة أصحاب أبي حنيفة فإنهم قالوا: إن حمل {وَالذَّاكِرَِاتِ} على: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرا} جاء بدليل. ودليله أن قوله: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرا} ولا استقلال له بنفسه، فوجب رده إلى ما هو معطوف عليه ومشارك له في حكمه، ومثله العطف في قوله تعالى: {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} وإذا امتنع التقيد من غير دليل، فلا بد من دليل، ولا نص من كتاب أو سُنة يدل على ذلك. والقياس يلزم منه رفع ما اقتضاه المطلق من الخروج عن العهدة بأي شيء كان، مما هو داخل تحت اللفظ المطلق، فيكون نسخًا، ونسخ النص لا يكون بالقياس. ويُجاب عن ذلك من أصحاب الرأي الأول بأننا لا نُسلِّم أنه يلزم من قياس المطلق على المقيد نسخ النص المطلق، بل تقييده ببعض مسمياته، فتُقيَّد "الرقبة" بأن تكون مؤمنة، فيكون الإيمان شرطًا في الخروج عن العهدة. كما أنكم تشترطون فيها صفة السلامة ولم يدل على ذلك نص من كتاب أو سُنة.

_ 1 الأحزاب: 35. 2 سورة ق: 17. 3 انظر "الأحكام" للآمدي جـ3 ص5, و"البرهان" للزركشي، جـ2 ص16.

ب- الثانية: أن يكون التقييد مختلفًا، كالكفارة بالصوم، قيَّد الصوم بالتتابع في كفارة القتل، قال تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ} 1، وفي كفارة الظِّهار، قال تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} 2، وجاء تقييده بالتفريق في صوم المتمتع بالحج. قال تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} 3، ثم جاء الصوم مطلقًا دون تقييد بالتتابع أو التفريق في كفارة اليمين قال تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} 4، وفي قضاء رمضان قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} 5, فالمطلق في هذا لا يُحمل على المقيد؛ لأن القيد مختلف. فحمل المطلق على أحدهما ترجيح بلا مرجح. 4- أن يختلف السبب ويختلف الحكم: كاليد في الوضوء, والسرقة، قُيدت في الوضوء إلى المرافق، وأطلقت في السرقة. قال تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} 6, فلا يُحمل المطلق على المقيد للاختلاف سببًا وحكمًا، وليس في هذا شيء من التعارض. قال صاحب البرهان7: "إن وُجِد دليل على تقييد المطلق صير إليه، وإلا فلا والمطلق على إطلاقه، والمقيد على تقييده؛ لأن الله تعالى خاطبنا بلغة العرب، والضابط أن الله تعالى إذا حكم في شيء بصفة أو شرط ثم ورد حكم آخر مطلقًا نُظِر، فإن لم يكن له أصل يرد إليه إلا ذلك الحكم المقيد وجب تقييده به، وإن كان له أصل غيره لم يكن رده إلى أحدهما بأولى من الآخر.

_ 1 النساء: 92. 2 المجادلة: 4. 3 البقرة: 196. 4 المائدة: 89. 5 البقرة: 184. 6 المائدة: 38. 7 الجزء الثاني ص15.

المنطوق والمفهوم

المنطوق والمفهوم مدخل ... 16- المنطوق والمفهوم: 1 دلالة الألفاظ على المعاني قد يكون مأخذها من منطوق الكلام الملفوظ به نصًّا أو احتمالًا بتقدير أو غير تقدير، وقد يكون مأخذها من مفهوم الكلام سواء وافق حكمها حكم المنطوق أو خالفه - وهذا هو ما يسمى: بالمنطوق والمفهوم.

_ 1 انظر "الإتقان" جـ2 ص31.

تعريف المنطوق وأقسامه

تعريف المنطوق وأقسامه: المنطوق: هو ما دل عليه اللفظ في محل النطق أي إن دلالته تكون من مادة الحروف التي يُنطق بها. ومنه: النص، والظاهر، والمؤول. فالنص: هو ما يفيد بنفسه معنى صريحًا لا يحتمل غيره. كقوله تعالى: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} 1, فإن وصف عشرة ب "كاملة" قطع احتمال العشرة لما دونها مجازًا، وهذا هو الغرض من النص - وقد نُقِل عن قوم أنهم قالوا بندرة النص جدًّا في الكتاب والسٌّنَّة، وبالغ إمام الحرمين في الرد عليهم فقال: "لأن الغرض من النص الاستقلال بإفادة المعنى على القطع مع انحسام جهات التأويل والاحتمال، وهذا وإن عز حصوله بوضع الصيغ ردًّا إلى اللغة، فما أكثره مع القرائن الحالية والمقالية". والظاهر: هو ما يسبق إلى الفهم منه عند الإطلاق معنى مع احتمال غيره احتمالًا مرجوحًا، فهو يشترك مع النص في أن دلالته في محل النطق، ويختلف عنه في أن النص يفيد معنى لا يحتمل غيره، والظاهر يفيد معنى عند

_ 1 البقرة: 196.

الإطلاق مع احتمال غيره احتمالًا مرجوحًا كقوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ} 1, فإن الباغي يُطلق على الجاهل. ويُطلق على الظالم، ولكن إطلاقه على الظالم أظهر وأغلب فهو إطلاق راجح، والأول مرجوح، وكقوله: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} 2, فانقطاع الحيض يقال فيه طهر، والوضوء والغسل يقال فيهما طهر، ودلالة الطهر على الثاني أظهر، فهي دلالة راجحة، والأولى مرجوحة. والمؤول: هو ما حُمل لفظه على المعنى المرجوح لدليل يمنع من إرادة المعنى الراجح، فهو يخالف الظاهر في أن الظاهر يُحمل على المعنى الراجح حيث لا دليل يصرفه إلى المعنى المرجوح، أما المؤول فإنه يُحمل على المعنى المرجوح لوجود الدليل الصارف عن إرادة المعنى الراجح. وإن كان كل منهما يدل عليه اللفظ في محل النطق، كقوله تعالى: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} 3, فإنه محمول على الخضوع والتواضع وحسن معاملة الوالدين. لاستحالة أن يكون للإنسان أجنحة.

_ 1 البقرة: 173. 2 البقرة: 222. 3 الإسراء: 24.

دلالة الاقتضاء ودلالة الإشارة

دلالة الاقتضاء ودلالة الإشارة: قد تتوقف صحة دلالة اللفظ على إضمار، وتسمى بدلالة الاقتضاء، وقد لا تتوقف على إضمار ويدل اللفظ على ما لم يُقصد به قصدًا أوليًّا، وتسمى: دلالة الإشارة. فالأول: كقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} 1, أي: فأفطر فعدة؛ لأن قضاء الصوم على المسافر إنما يجب إذا أفطر في سفر، أما إذا صام في سفره فلا موجب للقضاء خلافًا للظاهرية، وكقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُم} 2, فإنه يتضمن إضمار الوطء

_ 1 البقرة: 184. 2 النساء: 23.

ويقتضيه، أي وطء أمهاتكم؛ لأن التحريم لا يضاف إلى الأعيان، فوجب لذلك إضمار فعل يتعلق به التحريم وهو الوطء، وهذا النوع يقرب من حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، وهو من باب إيجاز القصر في البلاغة - وسمي "اقتضاء" لاقتضاء الكلام شيئًا زائدًا على اللفظ. والثاني: وهو دلالة الإشارة - كقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} 1, فإنه يدل على صحة صوم من أصبح جنبًا - لأنه يبيح الوطء إلى طلوع الفجر بحيث لا يتسع الوقت للغسل، وهذا يستلزم الإصباح على جنابة، وإباحة سبب الشيء إباحة للشيء نفسه، فإباحة الجِماع إلى آخر جزء من الليل لا يتسع معه الغسل قبل الفجر إباحة للإصباح على جنابة. وهاتان الدلالتان -الاقتضاء والإشارة- أُخِذَا من المنطوق أيضًا, فهما من أقسام المنطوق، فالمنطوق على هذا يشمل: 1- النص، 2- والظاهر، 3- والمؤول، 4- والاقتضاء، 5- والإشارة.

_ 1 البقرة: 187.

تعريف المفهوم وأقسامه

تعريف المفهوم وأقسامه: المفهوم: هو مادل عليه اللفظ لا في محل النطق وهو قسمان: 1- مفهوم موافقة. 2- مفهوم مخالفة. 1- فمفهوم الموافقة: هو ما يوافق حكمه المنطوق - وهو نوعان: أ- النوع الأول، فحوى الخطاب: وهو ما كان المفهوم فيه أولى بالحكم من المنطوق، كفهم تحريم الشتم والضرب من قوله تعالى: {فَلا تَقُلْ لَّهُمَا أفٍّ} 1؛ لأن منطوق الآية تحريم التأفيف، فيكون تحريم الشتم والضرب أولى لأنهما أشد.

_ 1 الإسراء: 23.

ب- النوع الثاني: لحن الخطاب: وهو ما ثبت الحكم فيه للمفهوم كثبوته للمنطوق على السواء - كدلالة قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً} 1, على تحريم إحراق أموال اليتامى أو إضاعتها بأي نوع من أنواع التلف؛ لأن هذا مساوٍ للأكل في الإتلاف. وتسمية هذين بمفهوم الموافقة؛ لأن المسكوت عنه يوافق المنطوق به في الحكم وإن زاد عليه في النوع الأول, وساواه في الثاني والدلالة فيه من قبيل التنبيه بالأدنى على الأعلى، أو بالأعلى على الأدنى، وقد اجتمعا في قوله تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} 2، فالجملة الأولى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} من التنبيه على أنه يؤدي إليك الدينار وما تحته، والجملة الثانية: {وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} من التنبيه على أنك لا تأمنه بقنطار. 2- مفهوم المخالفة: هو ما يخالف حكمه المنطوق - وهو أنواع: أ- مفهوم صفة: والمراد بها الصفة المعنوية، كالمشتق: في قوله تعالى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} 3, فمفهوم التعبير بـ "فاسق" أن غير الفاسق لا يجب التثبت في خبره، ومعنى هذا أنه يجب قبول خبر الواحد العدل. وقوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} 4, فهو يدل على انتفاء الحكم في المخطئ؛ لأن تخصيص العمد بوجوب الجزاء به يدل على نفي وجوب الجزاء في قتل الصيد خطأ. وكالعدد في قوله: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} 5, مفهومه أن الإحرام بالحج في غير أشهره لا يصح, وقوله: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} 6, مفهومه ألا يجلد أقل أو أكثر.

_ 1 النساء:10. 2 آل عمران: 75. 3 الحجرات: 6. 4 المائدة: 95. 5 البقرة: 197. 6 النور: 4.

ب- مفهوم شرط، كقوله تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ} 1, فمعناه أن غير الحوامل لا يجب الإنفاق عليهن. جـ- مفهوم غاية، كقوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} 2, فمفهوم هذا أنها تحل للأول إذا نكحت غيره بشروط النكاح. د- مفهوم حصر، كقوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} 3, مفهومه أن غيره سبحانه لا يُعبد ولا يُستعان به، ولذلك كانت دالة على إفراده تعالى بالعبادة والاستعانة.

_ 1 الطلاق: 6. 2 البقرة: 230. 3 الفاتحة: 5.

الاختلاف في الاحتجاج به

الاختلاف في الاحتجاج به: اختُلِف في الاحتجاج بهذه المفاهيم، والأصح في ذلك أنها حُجة بشروط، منها: أ- ألا يكون المذكور خرج مخرج الغالب - فلا مفهوم للحجور في قوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} 1؛ لأن الغالب كون الربائب في حجور الأزواج. ب- ومنها ألا يكون المذكور لبيان الواقع - فلا مفهوم لقوله: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} 2؛ لأن الواقع أن أي إله لا برهان عليه، وقوله: {لا بُرْهَانَ لَهُ بِه} صفة لازمة جيء بها للتوكيد والتهكم بمدعي إلهٍ مع الله لا أن يكون في الآلهة ما يجوز أن يقوم عليه برهان - ومثله قوله تعالى: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً} 3,

_ 1 النساء: 23. 2 المؤمنون: 117. 3 النور: 33.

فلا مفهوم له يدل على إباحة إكراه السيد لأمته على البغاء إن لم تُرد التحصن، وإنما قال: {إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً} ؛ لأن الإكراه لا يتأتى إلا مع إرادة التحصن. وعن جابر بن عبد الله قال: "كان عبد الله بن أُبَيٍّ يقول لجارية له: اذهبي فأبغينا شيئًا، وكانت كارهة، فأنزل الله: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 1، وعن جابر أيضًا: "أن جارية لعبد الله بن أُبَيٍّ، يقال لها "مُسيكة" وأخرى يقال لها "أميمة". فكان يريدهما على الزنا. فشكتا ذلك إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فأنزل الله: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ} ... الآية2. والأمر في الاحتجاج بمفهوم الموافقة أيسر، فقد اتفق العلماء على صحة الاحتجاج به سوى الظاهرية. أما الاحتجاج بمفهوم المخالفة فقد أثبته مالك والشافعي وأحمد، ونفاه أبو حنيفة وأصحابه. واحتج المثبتون بحجج نقلية وعقلية. فمن الحجج النقلية: ما رُوِي أنه لما نزل قوله تعالى: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} 3, قال النبي, صلى الله عليه وسلم: "قد خيرني ربي، فوالله لأزيدنه على السبعين".. ففهم النبي -صلى الله عليه وسلم- أن ما زاد على السبعين بخلاف السبعين4. ومنها: ما ذهب إليه ابن عباس -رضي الله عنهما- من منع توريث الأخت مع البنت5 استدلالًا بقوله تعالى: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} 6, حيث إنه فهم من توريث الأخت مع عدم الولد امتناع توريثها مع البنت؛ لأنها ولد، وهو من فصحاء العرب، وترجمان القرآن.

_ 1 النور: 33. 2 أخرجهما مسلم وغيره. 3 التوبة: 80. 4 نقله ابن جرير بأسانيد كثيرة. 5 نقله ابن جرير وغيره عن ابن عباس. 6 النساء: 176.

ومنها: ما رُوِي: "أن يعلى بن أمية" قال لعمر: ما بالنا نقصر وقد أمنا: وقد قال الله تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ} 1, ووجه الاحتجاج به أنه فهم من تخصيص القَصر عند الخوف عدم القَصر عند الأمن، ولم يُنكر عليه عمر، بل قال: "لقد عجبتُ مما عجبتَ منه، فسألت النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك، فقال لي: "هي صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته" 2, ويعلى بن أمية وعمر من فصحاء العرب، وقد فهما ذلك، والنبي -صلى الله عليه وسلم- أقرهما عليه. ومن الحجج العقلية: أنه لو كان حكم الفاسق وغير الفاسق سواء في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} 3, في وجوب التثبت في الخبر لما كان لتخصيص الفاسق بالذكر فائدة. وقس على ذلك سائر الأمثلة.

_ 1 النساء: 101. 2 رواه الإمام أحمد, ورواه مسلم وأهل السنن. 3 الحجرات: 6.

إعجاز القرآن

إعجاز القرآن مدخل ... 17- إعجاز القرآن: هذا الكون الفسيح الذي يعج بمخلوقات الله تضاءلت جباله الشامخة، وبحاره الزاخرة، ومهاده الواسعة، أمام مخلوق ضعيف هو الإنسان، ذلك لِما جمع الله فيه من خصائص، وما منحه من قوة التفكير التي تشع في الأرجاء لتسخر عناصر القوى الكونية، وتجعلها في خدمة الإنسانية. وما كان الله ليذر هذا الإنسان دون أن يمده بقبس من الوحي بين فترة وأخرى يقوده إلى معالم الهدى ليسلك دروب الحياة على بينة وبصيرة، إلا أن غلواءه الفطري يأبى عليه الخضوع لقرينه من بني الإنسان ما لم يأت له بما لا يستطيع حتى يعترف ويخضع ويؤمن بقدرة عليا فوق قدرته، فكان رسل الله الذين يتنزل عليهم الوحي ويؤيدهم الله بخوارق العادات التي تقيم الحجة على الناس فيعترفون أمامها بالعجز، ويدينون لها بالولاء والطاعة، ولكن العقل البشري كان في أطوار نموه الأولى لا يرى شيئًا يأخذ بلبه أقوى من المعجزات الكونية الحسية حيث لا يرقى عقله إلى السمو في المعرفة والتفكير، فناسب هذا أن يُبعث كل رسول إلى قومه خاصة، وأن تكون معجزته فيما نبغ فيه قومه خارقة لما ألفوه ليتحقق بعجزهم عنها إيمانهم بأنها من قُوى السماء، فلما اكتمل العقل البشري أذن الله بفجر الرسالة المحمدية الخالدة إلى الناس كافة، وكانت معجزتها معجزة العقل البشري في أرقى تطورات نضجه ونموه، فحيث كان تأييد الله لرسله السابقين بآيات كونية تبهر الأبصار ولا سبيل للعقل في معارضتها. كمعجزة اليد والعصا لموسى، وإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله لعيسى، كانت معجزة محمد -صلى الله عليه وسلم- في عصر مشرف على العلم معجزة عقلية تحاج العقل البشري وتتحداه إلى الأبد، وهي معجزة القرآن بعلومه ومعارفه, وأخباره الماضية والمستقبلة، فالعقل الإنساني على تقدمه لا يعجز عن معارضته لأنه آية كونية لا قِبل له بها. ولكن عجزه لقصوره الذاتي. فيكون هذا اعترافًا منه

بأنه وحي الله إلى رسوله، وأن حاجته إلى الاهتداء به ماسة ليستقيم عوجه، وترقى مواهبه. وهذا المعنى, هو ما يشير إليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في قوله: "ما من الأنبياء نبي إلا أُعْطِي ما مثله آمن عليه البشر, وإنما كان الذي أوتيته وحيًا أوحاه الله إليَّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا" 1. وهكذا كتب الله لمعجزة الإسلام الخلود، فضعفت القدرة الإنسانية مع تراخي الزمن وتقدم العلم عن معارضتها. والحديث عن إعجاز القرآن ضرب من الإعجاز لا يصل الباحث فيه إلى سر جانب منه حتى يجد وراءه جوانب أخرى يكشف عن سر إعجازها الزمن. فهو كما يقول الرافعي: "ما أشبه القرآن الكريم في تركيب إعجازه وإعجاز تركيبه بصورة كلامية من نظام هذا الكون الذي اكتنفه العلماء من كل جهة، وتعاوروه من كل ناحية، وأخلقوا جوانبه بحثًا وتفتيشًا، ثم هو بعدُ لا يزال عندهم على كل ذلك خلقًا جديدًا، ومرامًا بعيدًا".

_ 1 رواه البخاري.

تعريف الإعجاز وإثباته

تعريف الإعجاز وإثباته: الإعجاز: إثبات العجز. والعجز في التعارف: اسم للقصور عن فعل الشيء. وهو ضد القدرة، وإذا ثبت الإعجاز ظهرت قدرة المعجز، والمراد بالإعجاز هنا: إظهار صدق النبي -صلى الله عليه وسلم- في دعوى الرسالة بإظهار عجز العرب عن معارضته في معجزته الخالدة -وهي القرآن- وعجز الأجيال بعدهم. والمعجزة: أمر خارق للعادة مقرون بالتحدي سالم عن المعارضة. والقرآن الكريم تحدى به النبي -صلى الله عليه وسلم- العرب، وقد عجزوا عن معارضته مع طول باعهم في الفصاحة والبلاغة، ومثل هذا لا يكون إلا معجزًا.

فقد ثبت أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- تحدى العرب بالقرآن على مراحل ثلاث: أ- تحداهم بالقرآن كله في أسلوب عام يتناولهم ويتناول غيرهم من الإنس والجن تحديًّا يظهر على طاقتهم مجتمعين، بقوله تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} 1. ب- ثم تحداهم بعشر سور منه في قوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِين َفَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ} 2. جـ- ثم تحداهم بسورة واحدة منه في قوله: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ} 3، وكرر هذا التحدي في قوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِه} 4. ومن عنده إلمام قليل بتاريخ العرب وأدب لغتهم يدرك العوامل السابقة لبعثة الرسول -صلى الله عليه وسلم- التي رقت بلغة العرب وهذبت لسانها وجمعت خير ما في لهجاتها من أسواق الأدب والمفاخرة بالشعر والنثر، حتى انتهى مصب جداول الفصاحة وإدارة الكلام بالبيان في لغة قريش التي نزل بها القرآن، وما كان عليه العرب من صَلَف يعلو بأحدهم على أبناء عمومته أنفًا وكبرًا مضرب مثل في التاريخ الذي سجل لهم أيامًا نُسِبت إليهم لما أحدثوه فيها من معارك وحروب طاحنة أشعلها شرر من الكبرياء والأنفة. ومثل هؤلاء مع توفر دواعي اللسان وقوة البيان التي يوقدها حماس القبيل

_ 1 التحدي إنما وقع للإنس دون الجن؛ لأن الجن ليسوا من أهل اللسان العربي الذي جاء القرآن على أساليبه، وإنما ذُكروا في قوله تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ} تعظيمًا لإعجازه؛ لأنه إذا فُرض اجتماع الإنس والجن وظاهر بعضهم بعضًا وعجزوا عن المعارضة كان الفريق الواحد أعجز – [والآية من سورة الإسراء: 88] . 2 هود: 13، 14. 3 يونس: 38. 4 البقرة: 23.

ويؤججها أتون الحميَّة لو تسنى لهم معارضة القرآن الكريم لأُثِرَ هذا عنهم, وتطاير خبره في الأجيال، فالقوم قد تصفحوا آيات الكتاب وقلبوها على وجوه ما نبغوا فيه من شعر ونثر فلم يجدوا مسلكًا لمحاكاته، أو منفذًا لمعارضته، بل جرى على ألسنتهم الحق الذي أخرسهم عفو الخاطر عندما زلزلت آيات القرآن الكريم قلوبهم كما أُثِرَ ذلك عن الوليد بن المغيرة، وعندما عجزت حيلتهم رموه بقول باهت فقالوا: سحر يُؤثر, أو شاعر مجنون، أو أساطير الأولين. ولم يكن لهم بد أمام العجز والمكابرة إلا أن يعرِّضوا رقابهم للسيوف، وكأن اليأس القاتل ينقل بنيه من نظرتهم للحياة الطويلة والعمر المديد إلى ساعة الاحتضار فيستسلمون للموت الزؤام - وبهذا ثبت إعجاز القرآن بلا مراء. وكان سماعه حجة ملزمة: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} 1، وكان ما يحتويه من نواحي الإعجاز يفوق كل معجزة كونية سابقة ويُغني عنها جميعًا: {وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} 2. وعجز العرب عن معارضة القرآن مع توفر الدواعي عجز للغة العربية في ريعان شبابها وعنفوان قوتها. والإعجاز لسائر الأمم على مر العصور ظل ولا يزال في موقف التحدي شامخ الأنف، فأسرار الكون التي يكشف عنها العلم الحديث ما هي إلا مظاهر للحقائق العليا التي ينطوي عليها سر هذا الوجود في خالقه ومدبره, وهو ما أجمله القرآن أو أشار إليه - فصار القرآن بهذا مُعجزًا للإنسانية كافة.

_ 1 التوبة: 6. 2 العنكبوت: 50، 51.

وجوه إعجاز القرآن

وجوه إعجاز القرآن: 1 لقد كان لنشأة علم الكلام في الإسلام أثر أصدق ما يقال فيه: إنه كلام في كلام، وما فيه من وميض التفكير يجر متتبعه إلى مجاهل من القول بعضها فوق بعض. وقد بدأت مأساة علماء الكلام في القول بخلق القرآن، ثم اختلفت آراؤهم وتضاربت في وجوه إعجازه: أ- فذهب أبو إسحاق إبراهيم النظام2 ومن تابعه - كالمرتضى من الشيعة - إلى أن إعجاز القرآن كان بالصرفة، ومعنى الصرفة في نظر النظام: أن الله صرف العرب عن معارضة القرآن مع قدرتهم عليها، فكان هذا الصرف خارقًا للعادة، ومعناها في نظر المرتضى: أن الله سلبهم العلوم التي يُحتاج إليها في المعارضة، ليجيئوا بمثل القرآن - وهو قول يدل على عجز ذويه، فلا يقال فيمن سُلِب القدرة على شيء أن الشيء أعجزه ما دام في مقدوره أن يأتي به في وقت ما، وإنما المعجز حينئذ هو قدر الله، فلا يكون القرآن معجزًا، وحديثنا عن إعجاز مضاف إلى القرآن سوف يظل ثابتًا له في كل عصر، لا عن إعجاز الله. قال القاضي أبو بكر الباقلاني: "ومما يُبطل القول بالصرفة، أنه لو كانت المعارضة ممكنة، وإنما منع منها الصرفة، لم يكن الكلام معجزًا، وإنما يكون المنع معجزًا، فلا يتضمن الكلام فضلًا على غيره في نفسه". والقول بالصرفة قول فاسد يرد عليه القرآن الكريم في قوله تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} 3, فإنه يدل على عجزهم مع بقاء

_ 1 ذكر العلماء في وجوه الإعجاز ما يربو على عشرة أوجه، وسنقتصر على أهمها. 2 هو أبو إسحاق إبراهيم بن سيار النظام شيخ الجاحظ، وأحد رءوس المعتزلة، وإليه تنسب الفرقة النظامية، توفي في خلافة المعتصم سنة بضع وعشرين ومائتين. 3 الإسراء: 88.

قدرتهم، ولو سُلبوا القدرة لم يبق فائدة لاجتماعهم، لمنزلته منزلة اجتماع الموتى، وليس عجز الموتى بكبير يُحتفل بذكره. ب- وذهب قوم إلى أن القرآن مُعجز ببلاغته التي وصلت إلى مرتبة لم يُعهد لها مثيل - وهذه النظرة نظرة أهل العربية الذين يولعون بصور المعاني الحية في النسج المحكم، والبيان الرائع. جـ- وبعضهم يقول: إن وجه إعجازه في تضمنه البديع الغريب المخالف لما عُهِد في كلام العرب من الفواصل والمقاطع. د- ويقول آخرون: بل إعجازه في الإخبار عن المغيبات المستقبلة التي لا يُطَّلع عليها إلا الوحي. أو الإخبار عن الأمور التي تقدمت منذ بدء الخلق بما لا يمكن صدوره من أمي لم يتصل بأهل الكتاب. كقوله تعالى في أهل بدر: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} 1. وقوله: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ} 2. وقوله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ} 3. وقوله: {الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} 4. وقوله: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا} 5. وسائر قصص الأولين. وهذا قول مردود؛ لأنه يستلزم أن الآيات التي لا خبر فيها عن المغيبات المستقبلة والماضية لا إعجاز فيها، وهو باطل، فقد جعل الله كل سورة معجزة بنفسها6.

_ 1 القمر: 45. 2 الفتح: 27. 3 النور: 55. 4 الروم: 1-3. 5 هود: 49. 6 انظر "البرهان" للزركشي جـ2 ص95، 96.

هـ- وذهب جماعة إلى أن القرآن مُعجز لما تضمنه من العلوم المختلفة، والحِكَم البليغة. وهناك وجوه أخرى للإعجاز تدور في هذا الفلك جمعها بعضهم في عشرة أو أكثر. والحقيقة أن القرآن معجز بكل ما يتحمله هذا اللفظ من معنى: فهو مُعْجز في ألفاظه وأسلوبه، والحرف الواحد منه في موضعه من الإعجاز الذي لا يغني عنه غيره في تماسك الكلمة، والكلمة في موضعها من الإعجاز في تماسك الجملة، والجملة في موضعها من الإعجاز في تماسك الآية. وهو مُعْجز في بيانه ونظمه، يجد فيه القارئ صورة حية للحياة والكون والإنسان. وهو مُعجز في معانيه التي كشفت الستار عن الحقيقة الإنسانية ورسالتها في الوجود. وهو مُعجز بعلومه ومعارفه التي أثبت العلم الحديث كثيرًا من حقائقها المغيبة. وهو مُعجز في تشريعه وصيانته لحقوق الإنسان وتكوين مجتمع مثالي تسعد الدنيا على يديه. والقرآن -أولًا وآخرًا- هو الذي صير العرب رعاة الشاء والغنم ساسة شعوب وقادة أمم، وهذا وحده إعجاز. قال الخطابي في كتابه1: "فخرج من هذا أن القرآن إنما صار معجزًا؛ لأنه جاء بأفصح الألفاظ، في أحسن نظوم التأليف، مضمنًا أصح المعاني، من توحيد الله وتنزيهه في صفاته، ودعاء إلى طاعته، وبيان لمنهاج عبادته، في

_ 1 هو أبو سليمان حمد بن محمد بن إبراهيم الخطابي، في كتابه "بيان إعجاز القرآن" طبع ضمن ثلاثة رسائل بمطبعة المعارف بتحقيق محمد خلف الله ومحمد زغلول سلام، وانظر "البرهان" للزركشي جـ2 ص101 وما بعدها.

تحليل وتحريم، وحظر وإباحة، ومن وعظ وتقويم، وأمر بمعروف ونهي عن منكر، وإرشاد إلى محاسن الأخلاق، وزجر عن مساويها، واضعًا كل شيء منها موضعه الذي لا يُرى شيء أولى منه، ولا يُتوهم في صورة العقل أمر أليق به منه، مودعًا أخبار القرون الماضية وما نزل من مثلات الله بمن عصى وعاند منهم، منبئًا عن الكوائن المستقبلة في الأعصار الماضية من الزمان - جامعًا في ذلك بين الحجة والمحتج له، والدليل والمدلول عليه، ليكون ذلك أوكد للزوم ما دعا إليه، وإنباء عن وجوب ما أمر به ونهى عنه. ومعلوم أن الإتيان بمثل هذه الأمور, والجمع بين شتاتها حتى تنتظم وتتسق، أمر تعجز عنه قوى البشر, ولا تبلغه قدرتهم، فانقطع الخلق دونه، وعجزوا عن معارضته بمثله".

القدر المعجز من القرآن

القدر المعجز من القرآن: أ- يذهب المعتزلة إلى أن الإعجاز يتعلق بجميع القرآن لا ببعضه، أو بكل سورة برأسها. ب- ويذهب بعضهم إلى أن المُعْجز منه القليل والكثير دون تقييد بالسورة لقوله تعالى: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ} 1. جـ- ويذهب آخرون إلى أن الإعجاز يتعلق بسورة تامة ولو قصيرة، أو قدرها من الكلام كآية واحدة أو آيات. ولقد وقع التحدي بالقرآن كله: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} 2. وبعشر سور: {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ} 3.

_ 1 الطور: 34. 2 الإسراء: 88. 3 هود: 13.

وبسورة واحدة: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ} 1. وبحديث مثله: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ} 2. ونحن لا نرى الإعجاز في قدر معين؛ لأننا نجده في أصوات حروفه ووقع كلماته، كما نجده في الآية والسورة، فالقرآن كلام الله وكفى. وأيًّا كان وجه الإعجاز، أو القدر المعجز. فإن الباحث المنصف الذي يطلب الحق إذا نظر في القرآن من أي النواحي أحب: من ناحية أسلوبه، أو من ناحية علومه، أو من ناحية الأثر الذي أحدثه في العالم وغير به وجه التاريخ، أو من تلك النواحي مجتمعة, وجد الإعجاز واضحًا جليًّا, ويجدر بنا أن نأتي بكلمة في هذه النواحي الثلاثة من الإعجاز القرآني: ناحية الإعجاز اللغوي، وناحية الإعجاز العلمي، وناحية الإعجاز التشريعي.

_ 1 يونس: 38. 2 الطور: 34.

الإعجاز اللغوي

الإعجاز اللغوي: لقد مارس أهل العربية فنونها منذ نشأت لغتهم حتى شبت وترعرعت، وأصبحت في عنفوان شبابها عملاقًا معطاء، واستظهروا شعرها ونثرها، وحكمها وأمثالها، وطاوعهم البيان في أساليب ساحرة، حقيقة ومجازًا، إيجازًا وإطنابًا، حديثًا ومقالًا، وكلما ارتفعت اللغة وتسامت، وقفت على أعتاب لغة القرآن في إعجازه اللغوي كَسِيرة صاغرة، تنحني أمام أسلوبه إجلالًا وخشية، وما عهد تاريخ العربية حقبة من أحقاب التاريخ. ازدهرت فيها اللغة إلا وتطامن أعلامها وأساتذتها أمام البيان القرآني اعترافًا بسموه، وإدراكًا لأسراره، ولا عجب "فتلك سُنة الله في آياته التي يصنعها بيديه، لا يزيدك العلم بها والوقوف على أسرارها إلا إذعانًا لعظمتها، وثقة بالعجز عنها، ولا كذلك صناعات الخلق، فإن فضل العلم بها يمكنك منها ويفتح لك الطريق

إلى الزيادة عليها، ومن هنا كان سحرة فرعون هم أول المؤمنين برب موسى وهارون"1. والذين تملكهم الغرور، وأصابتهم لوثة الإعجاب بالنفس، وحاولوا التطاول على أسلوب القرآن، حاكوه بكلام فارغ، أشبه بالسخف والتفاهة والهذيان والعبث. وارتدوا على أعقابهم خاسرين، كالمتنبئين وأشباه المتنبئين، من الدجالين والمغرورين. وقد شهد التاريخ فرسانًا للعربية خاضوا غمارها وأحرزوا قصب السبق فيها، فما استطاع أحد منهم أن تحدثه نفسه بمعارضة القرآن، إلا باء بالخزي والهوان، بل إن التاريخ سجل هذا العجز على اللغة، في أزهى عصورها، وأرقى أدوارها، حين نزل هذا القرآن، وقد بلغت العربية أشدها، وتوافرت لها عناصر الكمال والتهذيب في المجامع العربية وأسواقها، ووقف القرآن من أصحاب هذه اللغة موقف التحدي. في صور شتى، متنزلًا معهم إلى الأخف من عشر سور إلى سورة إلى حديث مثله، فما استطاع أحد أن يباريه أو يجاريه منهم، وهم أهل الأنفة والعزة والإباء. ولو وجدوا قدرة على محاكاة شيء منه، أو وجدوا ثغرة فيه. لما ركبوا المركب الصعب أمام هذا التحدي، بإشهار السيوف، بعد أن عجز البيان، وتحطمت الأقلام. وتتابعت القرون لدى أهل العربية، وظل الإعجاز القرآني اللغوي راسخًا كالطود الشامخ، تذل أمامه الأعناق خاضعة، لا تفكر في أن تدانيه، فضلًا عن أن تساميه؛ لأنها أشد عجزًا وأقل طمعًا في هذا المطلب العزيز. وسيظل الأمر كذلك إلى يوم الدين. ولا يستطيع أحد أن يدعي عدم الحاجة إلى معارضة القرآن، وإن كان ذلك ممكنًا، فإن التاريخ يشهد بأنه قد توافرت الدواعي الملحة لدى القوم لمعارضة

_ 1 النبأ العظيم ص81.

القرآن، حيث وقفوا من الرسالة وصاحبها موقف الجحود والنكران، واستثار القرآن حميَّتهم، وسفَّه أحلامهم، وتحداهم تحديًا سافرًا يثير حفيظة الجبان الرعديد مع ما كانوا عليه من أنفة وعزة. فسلكوا مع الرسول -صلى الله عليه وسلم- مسالك شتى، ساوموه بالمال والمُلك ليكف عن دعوته، وقاطعوه ومن معه حتى يموتوا جوعًا. واتهموه بالسحر والجنون، وتآمروا على حبسه، أو قتله أو إخراجه. وقد دلهم على الطريق الوحيد لإسكاته وهو أن يجيئوه بكلام مثل الذي جاءهم به، "ألم يكن ذلك أقرب إليهم وأبقى عليهم لو كان أمره في يدهم؟ ولكنهم طرقوا الأبواب كلها إلا هذا الباب، وكان القتل والأسر والفقر والذل وكل أولئك أهون عليهم من ركوب هذا الطريق الوعر الذي دلهم عليه، فأي شيء يكون العجز إن لم يكن هذا هو العجز"؟ والقرآن الذي عجز العرب عن معارضته لم يخرج عن سُنن كلامهم. ألفاظًا وحروفًا، تركيبًا وأسلوبًا، ولكنه في اتساق حروفه، وطلاوة عبارته، وحلاوة أسلوبه، وجرس آياته، ومراعاة مقتضيات الحال في ألوان البيان، في الجمل الاسمية والفعلية، وفي النفي والإثبات، وفي الذكر والحذف، وفي التعريف والتنكير، وفي التقديم والتأخير، وفي الحقيقة والمجاز، وفي الإطناب والإيجاز. وفي العموم والخصوص، وفي الإطلاق والتقييد، وفي النص والفحوى، وهلم جرًّا، ولكن القرآن في هذا ونظائره بلغ الذروة التي تعجز أمامها القدرة اللغوية لدى البشر. عن ابن عباس: "أن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقرأ عليه القرآن، فكأنه رَقَّ له، فبلغ ذلك أبا جهل، فأتاه فقال له: يا عم: إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالًَا ليعطوكه، فإنك أتيت محمدًا لتتعرض لما قِبَلِه. قال: قد علمت قريش أني من أكثرها مالًا، قال: فقل فيه قولًا يبلغ قومك أنك منكر له وكاره، قال: وماذا أقول؟ فوالله ما فيكم رجل أعلم بالشعر مني لا برجزه ولا بقصيده ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذي يقوله شيئًا من هذا، ووالله إن لقوله الذي يقول لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله،

وإنه ليعلو وما يُعلى، وإنه ليحطم ما تحته، قال: والله لا يرضى قومك حتى تقول فيه، قال: فدعني حتى أفكر، فلما فكر قال: هذا سحر يؤثر، يأثره عن غيره، فنزلت: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً} 1. وحيثما قلَّب الإنسان نظره في القرآن وجد أسرارًا من الإعجاز اللغوي. يجد ذلك في نظامه الصوتي البديع بجرس حروفه، حين يسمع حركاتها وسكناتها، ومدَّاتها وغُنَّائها، وفواصلها ومقاطعها، فلا تمل أذنه السماع، بل لا تفتأ تطلب منه المزيد. ويجد ذلك في ألفاظه التي تفي بحق كل معنى في موضعه، لا ينبو منها لفظ يقال إنه زائد، ولا يعثر الباحث على موضع يقول إنه يحتاج إلى إثبات لفظ ناقص. ويجد ذلك في ضروب الخطاب التي يتقارب فيها أصناف الناس في الفهم بما تطيقه عقولهم، فيراها كل واحد منهم مقدرة على مقياس عقله ووفق حاجته، من العامة والخاصة {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} 2. ويجد ذلك في إقناع العقل وإمتاع العاطفة، بما يفي بحاجة النفس البشرية تفكيرًا ووجدانًا في تكافؤ واتزان، فلا تطغى قوة التفكير على قوة الوجدان، ولا قوة الوجدان على قوة التفكير. وهكذا حيثما قلَّب النظر قامت أمامه حجة القرآن في التحدي والإعجاز3. قال القاضي أبو بكر الباقلاني4: "والذي يشتمل عليه بديع نظمه

_ 1 أخرجه الحاكم وصححه، والبيهقي في الدلائل – [والآية من سورة المدثر: 11] . 2 القمر: 17. 3 راجع الإعجاز اللغوي في "النبأ العظيم" بتوسع. 4 هو القاضي أبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني صاحب كتاب "إعجاز القرآن" وكتاب "التقريب والإرشاد" في أصول الفقه، توفي سنة 403 هجرية.

المتضمن للإعجاز وجوه: منها ما يرجع إلى الجملة، وذلك أن نظم القرآن على تصرف وجوهه واختلاف مذاهبه خارج عن المعهود من نظام جميع كلامهم، ومباين للمألوف من ترتيب خطابهم، وله أسلوب يختص به ويتميز في تصرفه عن أساليب الكلام المعتاد، وذلك أن الطرق التي يتقيد بها الكلام البديع المنظوم، تنقسم إلى أعاريض الشعر على اختلاف أنواعه، ثم إلى أنواع الكلام الموزون غير المقفى، ثم إلى أصناف الكلام المعدل المسجع، ثم إلى معدل موزون غير مسجع، ثم إلى ما يرسل إرسالًا فتطلب فيه الإصابة والإفادة وإفهام المعاني المعترضة على وجه البديع، وترتيب لطيف، وإن لم يكن معتدلًا في وزنه، وذلك شبيه بجملة الكلام الذي لا يتعمل يتصنع له، وقد علمنا أن القرآن خارج عن هذه الوجوه، ومباين لهذه الطرق، فليس من باب السجع، وليس من قبيل الشعر، وتبين بخروجه عن أصناف كلامهم، وأساليب خطابهم أنه خارج عن العادة. وأنه مُعجز، وهذه خصوصية ترجع إلى جملة القرآن، وتميز حاصل في جميعه.. وليس للعرب كلام مشتمل على هذه الفصاحة والغرابة والتصرف البديع, والمعاني اللطيفة، والفوائد الغزيرة، والحِكَم الكثيرة، والتناسب في البلاغة، والتشابه في البراعة على هذا الطول - وعلى هذا القدر، وإنما تُنسب إلى حكيمهم كلمات معدودة، وألفاظ قليلة، وإلى شاعرهم قصائد محصورة يقع فيها الاختلال والاختلاف، والتكلف والتعسف، وقد جاء القرآن على كثرته وطوله متناسبًا في الفصاحة على ما وصفه الله عز من قائل: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} 1، {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} 2. فأخبر أن كلام الآدمي إن امتد وقع فيه التفاوت وبان عليه الاختلال.

_ 1 الزمر: 23. 2 النساء: 82.

الإعجاز العلمي

الإعجاز العلمي ... وعجيب نظم القرآن وبديع تأليفه لا يتفاوت ولا يتباين على ما يتصرف إليه من الوجوه التي يتصرف فيها - من ذكر قصص ومواعظ، واحتجاج وحِكَم وأحكام، وإعذار وإنذار، ووعد ووعيد، وتبشير وتخويف، وأخلاق كريمة، وشيم رفيعة، وسِيَر مأثورة، وغير ذلك من الوجوه التي يشتمل عليها، ونجد كلام البليغ الكامل، والشاعر المفلق، والخطيب المصقع يختلف على حسب اختلاف هذه الأمور، فمن الشعراء من يجود في المدح دون الهجو، ومنهم من يبرز في الهجو دون المدح, ومنهم من يسبق في التقريظ دون التأبين، ومنهم من يقرب في وصف الإبل والخيل، أو سير الليل، أو وصف الحرب، أو وصف الروض، أو وصف الخمر، أو الغزل أو غير ذلك مما يشتمل عليه الشعر ويتداوله الكلام. ولذلك ضُرِبَ المثل بامرئ القيس إذا ركب. والنابغة إذا رهب، وبزهير إذا رغب، ومثل ذلك يختلف في الخطب والرسائل وسائر أجناس الكلام.. وقد تأملنا نظم القرآن فوجدنا جميع ما يتصرف فيه من الوجوه التي قدمنا ذكرها على حد واحد في حسن النَّظْم، وبديع التأليف والوصف، لا تفارت فيه ولا انحطاط عن المنزلة العليا.. فعلمنا بذلك أنه مما لا يقدر عليه البشر"1. وإذا عجز المتناهون في الفصاحة، ومعرفة وجوه الخطاب، وطرق البلاغة، وفنون القول، وقامت الحجة عليهم، فقد لزمت الحجة من دونهم من العرب، ولزمت غيرهم من الأعاجم؛ لأن تحقق عجز من استكمل معرفة تصاريف الخطاب، ووجوه الكلام، وأساليب البيان؛ يقطع بعجز من دونه من باب أولى.

_ 1 إعجاز القرآن بتصرف.

بحال من الأحوال، وقد تقدمت العلوم وكثرت مسائلها ولم يتعارض شيء ثابت منها مع آية من آيات القرآن، وهذا وحده إعجاز. والقرآن الكريم يجعل التفكير السديد والنظر الصائب في الكون وما فيه أعظم وسيلة من وسائل الإيمان بالله. إنه يحث المسلم على التفكير في مخلوقات الله في السماء والأرض: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ، الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} 1. ويحثه على التفكير في نفسه، وفي الأرض التي يعمرها، وفي الطبيعة التي تحيط به: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى} 2. {وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} 3. {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ، وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} 4. ويثير فيه الحس العلمي للتفكير والفهم والتعقل: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} 5. {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} 6. {كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} 7. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} 8.

_ 1 آل عمران: 190، 191. 2 الروم: 8. 3 الذاريات: 20، 21. 4 الغاشية: 17-20. 5 البقرة: 219. 6 الحشر: 21. 7 يونس: 24. 8 الرعد: 3.

{كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} 1. {قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} 2. {انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} 3. {قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ} 4. ويرفع القرآن مكانة المسلم بفضيلة العلم: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} 5. ولا يسوِّي بين عالم وجاهل: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} 6. ويأمر المسلم أن يسأل ربه نعمة العلم: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} 7. ويجمع الله علوم الفلك والنبات وطبقات الأرض والحيوان ويجعل ذلك من بواعث خشيته: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ، وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} 8. وهكذا فإن إعجاز القرآن العلمي في أنه يحث المسلمين على التفكير، ويفتح لهم أبواب المعرفة، ويدعوهم إلى ولوجها، والتقدم فيها، وقبول كل جديد راسخ من العلوم. وفي القرآن مع هذا إشارات علمية سيقت مساق الهداية، فالتلقيح في النبات: ذاتي وخلطي، والذاتي: ما اشتملت زهرته على عضوي التذكير والتأنيث، والخلطي: هو ما كان عضو التذكير فيه منفصلًا عن عضو التأنيث

_ 1 الأعراف: 32. 2 الأنعام: 97. 3 الأنعام: 65. 4 الأنعام: 98. 5 المجادلة: 11. 6 الزمر: 9. 7 طه: 114. 8 فاطر: 27-28.

كالنخيل، فيكون التلقيح بالنقل. ومن وسائل ذلك الرياح، وجاء في هذا قول الله تعالى: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} 1. "والأوكسجين" ضروري لتنفس الإنسان، ويقل في طبقات الجو العليا, فكلما ارتفع الإنسان في أجواء السماء أحس بضيق الصدر وصعوبة التنفس، والله تعالى يقول: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} 2. وقد ساد الاعتقاد بأن الذرة هي الجزء الذي لا يقبل التجزئة، وفي القرآن: {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} 3, ولا أصغر من الذرة سوى تحطيم الذرة. وفي علم الأجنة جاء قوله تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ، خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} 4. وقوله: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} 5. وقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً} 6. وفي وحدة الكون وحاجة الحياة إلى عنصر الماء يقول تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ} 7. تلك الإشارات العلمية ونظائرها في القرآن جاءت في سياق الهداية الإلهية، وللعقل البشري أن يبحث فيها ويتدبر.

_ 1 الحجر: 22. 2 الأنعام: 125. 3 يونس: 61. 4 الطارق: 5-7. 5 العلق: 2. 6 الحج: 5. 7 الأنبياء: 30.

يقول الأستاذ سيد قطب في تفسير قوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} 1: "اتجه الجواب إلى واقع حياتهم العملي لا إلى مجرد العلم النظري، وحدثهم عن وظيفة الأهلة في واقعهم وفي حياتهم ولم يحدثهم عن الدورة الفلكية للقمر، وكيف تتم؟ وهي داخلة في مدلول السؤال.. إن القرآن قد جاء لما هو أكبر من تلك المعلومات الجزئية، ولم يجئ ليكون كتاب علم فلكي، أو كيماوي أو طبي.. كما يحاول بعض المتحمسين له أن يلتمسوا فيه هذه العلوم، أو كما يحاول بعض الطاعنين فيه أن يلتمسوا مخالفاته لهذه العلوم. إن كلتا المحاولتين دليل على سوء الإدراك لطبيعة هذا الكتاب ووظيفته ومجال عمله. إن مجاله هو النفس الإنسانية والحياة الإنسانية، وإن وظيفته أن ينشئ تصورًا عامًّا للوجود وارتباطه بخالقه، ولوضع الإنسان في هذا الوجود وارتباطه بربه، وأن يقيم على أساس هذا التصور نظامًا للحياة يسمح للإنسان أن يستخدم كل طاقاته ومن بينها طاقته العقلية، التي تقوم هي بعد تنشئتها على استقامة، وإطلاق المجال لها لتعمل –بالبحث العلمي- في الحدود المتاحة للإنسان، وبالتجريب والتطبيق، وتصل إلى ما تصل إليه من نتائج، ليست نهائية ولا مطلقة بطبيعة الحال.. وإني لأعجب لسذاجة المتحمسين لهذا القرآن الذين يحاولون أن يضيفوا إليه ما ليس منه، وأن يحملوا عليه ما لم يقصد إليه، وأن يستخرجوا منه جزئيات في علوم الطب والكيمياء والفلك وما إليها.. كأنما ليعظموه بهذا ويكبروه.. إن الحقائق القرآنية حقائق نهائية قاطعة مطلقة.. أما ما يصل إليه البحث الإنساني – أيًّا كانت الأدوات المتاحة له– فهي حقائق غير نهائية ولا قاطعة، وهي مقيدة بحدود تجاربه وظروف هذه التجارب وأدواتها، فمن الخطأ المنهجي –بحكم المنهج العلمي الإنساني ذاته- أن نعلق الحقائق النهائية القرآنية بحقائق غير نهائية، وهي كل ما يصل إليه العلم البشري.

_ 1 البقرة: 189.

هذا بالقياس إلى الحقائق العلمية، والأمر أوضح بالقياس إلى النظريات والفروض التي تسمى "علمية".. فهي قابلة دائمًا للتغيير والتعديل والنقص والإضافة، بل قابلة لأن تنقلب رأسًا على عقب، بظهور أداة كشف جديدة، أو بتفسير جديد لمجموعة الملاحظات القديمة. وكل محاولة لتعليق الإشارات القرآنية العامة بما يصل إليه العلم من نظريات متجددة متغيرة –أو حتى بحقائق علمية ليست مطلقة كما أسلفنا- تحتوي أولًًا على خطأ منهجي أساسي، كما أنها تنطوي على معان ثلاثة، كلها لا يليق بجلال القرآن الكريم. الأولى: هي الهزيمة الداخلية التي تخيل لبعض الناس، أن العلم هو المهيمن والقرآن تابع، ومن هنا يحاولون تثبيت القرآن بالعلم، أو الاستدلال له من العلم، على حين أن القرآن كتاب كامل في موضوعه، ونهائي في حقائقه، والعلم لا يزال في موضوعه ينقض اليوم ما أثبته بالأمس، وكل ما يصل إليه غير نهائي ولا مطلق؛ لأنه مقيد بوسط الإنسان وعقله وأدواته، وكلها ليس من طبيعتها أن تُعطي حقيقة واحدة نهائية مطلقة. والثانية: سوء فهم طبيعة القرآن ووظيفته. وهي أنه حقيقة نهائية مطلقة تعالج بناء الإنسان بناء يتفق -بقدر ما تسمح طبيعة الإنسان النسبية- مع طبيعة هذا الوجود وناموسه الإلهي، حتى لا يصطدم الإنسان بالكون من حوله، بل يصادقه ويعرف بعض أسراره، ويستخدم بعض نواميسه من خلافته، نواميسه التي تكشف له بالنظر والبحث والتجريب والتطبيق، وفق ما يهديه إليه عقله الموهوب له ليعمل لا ليتسلم المعلومات المادية جاهزة. والثالثة: هي التأويل المستمر -مع التمحل والتكلف- لنصوص القرآن كي نحملها ونلهث بها وراء الفروض والنظريات التي لا تثبت ولا تستقر، وكل يوم يجد فيها جديد"1.

_ 1 اقتبسنا هذه الفقرات من كتاب "في ظلال القرآن" بتصرف.

الإعجاز التشريعي

الإعجاز التشريعي: أودع الله في الإنسان كثيرًا من الغرائز التي تعتمل في النفس وتؤثر عليها في اتجاهات الحياة، ولئن كان العقل الرشيد يعصم صاحبه من الزلل فإن النزعات النفسية المنحرفة تطغى على سلطان العقل، ولا يستطيع العقل أن يكبح جماحها في كل حال. لهذا كان لا بد لاستقامة الإنسان من تربية خاصة لغرائزه، تهذبها وتنميها، وتقودها إلى الخير والفلاح. والإنسان مدني بالطبع، فهو في حاجة إلى غيره، وغيره في حاجة إليه، وتعاون الإنسان مع أخيه الإنسان ضرورة اجتماعية يفرضها العمران البشري. وكثيرًا ما يظلم الإنسان أخاه بدافع الأثرة وحب السيطرة، فلو تُرِك أمر الناس دون ضابط يحدد علاقاتهم، وينظم أحوال معاشهم، ويصون حقوقهم، ويحفظ حرماتهم لصار أمرهم فوضى، ولذا كان لا بد لأي مجتمع بشري من نظام يحكم زمامه، ويحقق العدل بين أفراده. وبين تربية الفرد وصلاح الجماعة وشائج قوية لا تنفصم عراها، فإن هذا يقوم على تلك، فصلاح الفرد من صلاح الجماعة، وصلاح الجماعة بصلاح الفرد.. وقد عرفت البشرية في عصور التاريخ ألوانًا مختلفة من المذاهب والنظريات والنظم والتشريعات التي تستهدف سعادة الفرد في مجتمع فاضل، ولكن واحدًا منها لم يبلغ من الروعة والإجلال مبلغ القرآن في إعجازه التشريعي. إن القرآن يبدأ بتربية الفرد؛ لأنه لبنة المجتمع ويقيم تربيته على تحرير وجدانه، وتحمله التبعة. يحرر القرآن وجدان المسلم بعقيدة التوحيد الذي تُخَلِّصه من سلطان الخرافة والوهم، وتفك أسره من عبودية الأهواء والشهوات، حتى يكون عبدًا خالصًا لله، يتجرد للإله الخالق المعبود، ويستعلي بنفسه عما سواه، فلا حاجة للمخلوق إلا لدى خالقه، الذي له الكمال المطلق، ومنه يمنح الخير للخلائق كلها.

إنه خالق واحد وإله واحد. لا أول له ولا آخر، قدير على كل شيء، عليم بكل شيء, محيط بكل شيء، وليس كمثله شيء. عالَم مخلوق خلقه الله، ويرجع إلى الله، ويفنى كما يوجد بمشيئة الله، وهذه أكمل عقيدة في العقل وأكمل عقيدة في الدين. {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} 1. {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} 2. {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} 3. {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ} 4. {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً} 5. {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} 6. {أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ} 7. {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 8. {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} 9. ويؤكد القرآن الكريم وحدانية الله بالحجج القاطعة التي تقوم على المنطق العقلي السليم. فلا تقبل الجدال والمراء: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} 10.

_ 1 سورة الإخلاص. 2 الحديد: 3. 3 القصص: 88. 4 الأنعام: 102. 5 الأحزاب: 27. 6 البقرة: 96. 7 فصلت: 54. 8 الشورى: 11. 9 الأنعام: 103. 10 الأنبياء: 22.

{قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً} 1. وإذا صحت عقيدة المسلم كان عليه أن يأخذ بشرائع القرآن في الفرائض والعبادات، وكل عبادة مفروضة يراد بها صلاح الفرد ولكنها مع ذلك ذات علاقة بصلاح الجماعة. فالصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، والجماعة واجبة على الرأي الراجح إلا لعذر، وهي شرط في الجمعة والعيدين، والذي يُصلِّى منفردًا لا يغيب عن شعوره آصرة القربى بينه وبين الجماعة الإسلامية في أقطار الأرض، من شمال إلى جنوب، ومن مشرق إلى مغرب؛ لأنه يعلم أنه في تلك اللحظة يتجه وجهة واحدة مع كل مسلم على ظهر الأرض، يؤدي فريضة الصلاة، ويستقبل معه قِبلة واحدة، ويدعو بدعاء واحد، وإن تباعدت بينهم الديار. وحسب المسلم في تربيته أن يقف بين يدي الله خمس مرات في اليوم الواحد تمتزج حياته بشرع الله، ويتمثل الوازع الأعلى نصب عينيه ما بين كل صلاة وصلاة: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} 2. والزكاة تقتلع من النفس جذور الشح، وعبادة المال، والحرص على الدنيا، وهي مصلحة للجماعة، فتقيم دعائم التعاون بين المجدودين والمحرومين، وتشعر النفس بتكامل الجماعة شعورًا يخرجها من ضيق الأثرة والانفراد. والحج سياحة تروِّض النفس على المشقة، وتفتح بصيرتها على أسرار الله في خلقه، وهو مؤتمر عالمي يجتمع فيه المسلمون على صعيد واحد، فيتعارفون ويتشاورون. والصيام ضبط للنفس، وشحذ لعزيمتها، وتقوية للإرادة، وحبس للشهوات، وهو مظهر اجتماعي يعيش فيه المسلمون شهرًا كاملًا على نظام واحد في طعامهم. كما تعيش الأسرة في البيت الواحد.

_ 1 الإسراء: 42. 2 العنكبوت: 45.

والقيام بهذه العبادات المفروضة يربي المسلم على الشعور بالتبعية الفردية التي يقررها القرآن وينوط بها كل تكليف من تكاليف الدين، وكل فضيلة من فضائل الأخلاق: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} 1. {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} 2. {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} 3. وحض القرآن على الفضائل المثلى التي تروض النفس على الوازع الديني، كالصبر والصدق والعدل والإحسان والحلم والعفو والتواضع. ومن تربية الفرد ينتقل الإسلام إلى بناء الأسرة؛ لأنها نواة المجتمع، فشرع القرآن الزواج استجابة لغريزة الجنس وإبقاء على النوع الإنساني في تناسل طاهر نظيف. ويقوم رباط الأسرة في الزواج على الود والرحمة والسكن النفسي والعِشْرة بالمعروف، ومراعاة خصائص الرجل وخصائص المرأة، والوظيفة الملائمة لكل منهما: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} 4. {عَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} 5. {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} 6. ثم يأتي نظام الحكم الذي يسود المجتمع المسلم، وقد قرَّر القرآن قواعد الحكومة الإسلامية في أصلح أوضاعها.

_ 1 المدثر: 38. 2 الطور: 21. 3 البقرة: 286. 4 الروم: 21. 5 النساء: 19. 6 النساء: 34.

فهي حكومة الشورى والمساواة ومنع السيطرة الفردية: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} 1. {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} 2. {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} 3. {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شيئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} 4. وهي حكومة تقوم على العدل المطلق الذي لا يتأثر بحب الذات، أو عاطفة القرابة، أو العوامل الاجتماعية في الغِنَى والفقر: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} 5. كما لا تؤثر في هذا العدل شهوة الانتقام من الأعداء المبغوضين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} 6. {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} 7. والتشريع في الحكومة الإسلامية ليس متروكًا للناس، فقد قرره القرآن، والخروج عنه كفر وظلم وفسق: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} 8.

_ 1 آل عمران: 159. 2 الشورى: 38. 3 الحجرات: 10. 4 آل عمران: 64. 5 النساء: 135. 6 المائدة: 8. 7 النساء: 58. 8 المائدة: 44.

{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} 1. {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} 2. {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} 3. وقرر القرآن صيانة الكليات الخمسة الضرورية للحياة الإنسانية: النفس، والدين، والعِرض، والمال، والعقل, ورتب عليها العقوبات المنصوصة، التي تُعرف في الفقه الإسلامي بالجنايات والحدود: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} 4. {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} 5. {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ} 6. {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} 7. وقرر القرآن العلاقات الدولية في الحرب والسلم بين المسلمين وجيرانهم أو معاهديهم، وهي أرفع معاملة عرفت في عصور الحضارة الإنسانية. وخلاصة القول: إن القرآن دستور تشريعي كامل يقيم الحياة الإنسانية على أفضل صورة وأرقى مثال، وسيظل إعجازه التشريعي قرينًا لإعجازه العلمي وإعجازه اللغوي إلى الأبد. ولا يستطيع أحد أن ينكر أنه أحدث في العالَم أثرًا غيَّر وجه التاريخ.

_ 1 المائدة: 45. 2 المائدة: 47. 3 المائدة: 50. 4 البقرة: 179. 5 النور: 2. 6 النور: 4. 7 المائدة: 38.

أمثال القرآن

أمثال القرآن مدخل ... 18- أمثال القرآن: الحقائق السامية في معانيها وأهدافها تأخذ صورتها الرائعة إذا صيغت في قالب حسي يقربها إلى الأفهام بقياسها على المعلوم اليقيني, والتمثيل هو القالب الذي يبرز المعاني في صورة حية تستقر في الأذهان، بتشبيه الغائب بالحاضر، والمعقول بالمحسوس. وقياس النظير على النظير، وكم من معنى جميل أكسبه التمثيل روعة وجمالًا، فكان ذلك أدعى لتقبل النفس له، واقتناع العقل به، وهو من أساليب القرآن الكريم في ضروب بيانه ونواحي إعجازه. ومن العلماء من أفرد الأمثال في القرآن بالتأليف، ومنهم من عقد لها بابًا في كتاب من كتبه، فأفردها بالتأليف أبو الحسن الماوردي1، وعقد لها بابًا السيوطي في الإتقان2 وابن القيم في كتاب أعلام الموقعين. حيث تتبع أمثال القرآن التي تضمنت تشبيه الشيء بنظيره, والتسوية بينهما في الحكم – فبلغت بضعة وأربعين مثلًا. وذكر الله في كتابه العزيز أنه يضرب الأمثال: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} 3، {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} 4، {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} 5, وعن علي رضي الله عنه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله أنزل القرآن آمرًا وزاجرًا، وسُنة خالية، ومثلًا مضروبًا" 6.

_ 1 هو أبو الحسن علي بن حبيب الشافعي، صاحب كتاب "أدب الدنيا والدين" وكتاب "الأحكام السلطانية" توفي سنة 450 هجرية. 2 انظر "الإتقان" جـ2 ص131. 3 الحشر: 21. 4 العنكبوت: 43. 5 الزمر: 27. 6 رواه الترمذي.

وكما عُني العلماء بأمثال القرآن فإنهم عنوا كذلك بالأمثال النبوية. وعقد لها أبو عيسى الترمذي بابًا في جامعه أورد فيه أربعين حديثًا. وقال القاضي أبو بكر بن العربي: "لم أر من أهل الحديث من صنف فأفرد للأمثال بابًا غير أبي عيسى، ولله دره، لقد فتح بابًا، وبنى قصرًا أو دارًا، ولكنه اختط خطًّا صغيرًا. فنحن نقنع به، ونشكره عليه".

تعريف المثل

تعريف المثل: والأمثال: جمع مثل، والمَثل والمِثل1 والمثيل: كالشَّبه والشِّبه والشبيه لفظًا ومعنى. والمثل في الأدب: قول محكي سائر يقصد به تشبيه حال الذي حُكِي فيه بحال الذي قيل لأجله، أي يشبه مضربه بمورده، مثل: "رُب رمية من غير رام" أي رُب رمية مصيبة حصلت من رام شأنه أن يخطئ، وأول من قال هذا الحكم بن يغوث النقري، يضرب للمخطئ يصيب أحيانًا، وعلى هذا فلا بد له من مورد يشبه مضربه به. ويطلق المثل على الحال والقصة العجيبة الشأن. وبهذا المعنى فُسر لفظ المثل في كثير من آيات. كقوله تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ} 2: أي قصتها وصفتها التي يُتعجب منها. وأشار الزمخشري إلى هذه المعاني الثلاثة في كشافه فقال: "والمثل في أصل كلامهم بمعنى المِثل والنظير، ثم قيل للقول السائر الممثَّل مضربه بمورده: مثل، ولم يضربوا مثلًَا ولا رأوه أهلًا للتسيير ولا جديرًا بالتداول والقبول إلا قولًا فيه غرابة من بعض الوجوه". ثم قال: "وقد استعير المثل للحال أو الصفة أو القصة إذا كان لها شأن وفيها غرابة".

_ 1 المَثل والمِثل: الأولى بفتح الميم والثانية بكسرها. 2 انظر "بلاغة القرآن" للأستاذ محمد الخضر حسين ص26 – [والآية من سورة محمد: 15] .

وهناك معنى رابع ذهب إليه علماء البيان في تعريف المثل فهو عندهم: المجاز المركب الذي تكون علاقته المتشابهة متى فشا استعماله. وأصله الاستعارة التمثيلية. كقولك للمتردد في فعل أمر: "ما لي أراك تُقدِّم رجلًا وتؤخر أخرى". وقيل في ضابط المثل كذلك: إنه إبراز المعنى في صورة حسية تكسبه روعة وجمالًا. والمثل بهذا المعنى لا يشترط أن يكون له مورد، كما لا يُشترط أن يكون مجازًا مركبًا. وإذا نظرنا إلى أمثال القرآن التي يذكرها المؤلفون وجدنا أنهم يوردون الآيات المشتملة على تمثيل حال أمر بحال أمر آخر، سواء أورد هذا التمثيل بطريق الاستعارة، أم بطريق التشبيه الصريح، أو الآيات الدالة على معنى رائع بإيجاز، أو التي يصح استعمالها فيما يشبه ما وردت فيه، فإن الله تعالى ابتدأها دون أن يكون لها مورد من قبل. فأمثال القرآن لا يستقيم حملها على أصل المعنى اللغوي الذي هو الشبيه والنظير، ولا يستقيم حملها على ما يذكر في كتب اللغة لدى من ألَّفوا في الأمثال، إذ ليست أمثال القرآن أقوالًا استعملت على وجه تشبيه مضربها بموردها، ولا يستقيم حملها على معنى الأمثال عند علماء البيان فمن أمثال القرآن ما ليس باستعارة وما لم يفش استعماله. ولذا كان الضابط الأخير أليق بتعريف المثل في القرآن: فهو إبراز المعنى في صورة رائعة موجزة لها وقعها في النفس، سواء أكانت تشبيهًا أو قولًا مرسلًا. فابن القيم يقول في أمثال القرآن: تشبيه شيء بشيء في حكمه، وتقريب المعقول من المحسوس، أو أحد المحسوسين من الآخر واعتبار أحدهما بالآخر. ويسوق الأمثلة: فتجد أكثرها على طريقة التشبيه الصريح كقوله تعالى: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ} 1، ومنها ما يجيء على

_ 1 يونس: 24.

طريقة التشبيه الضمني، كقوله تعالى: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ} 1, إذ ليس فيه تشبيه صريح. ومنها ما لم يشتمل على تشبيه ولا استعارة، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شيئًا لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} 2, فقوله: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً} .. قد سماه الله مثلًا وليس فيه استعارة ولا تشبيه.

_ 1 الحجرات: 12. 2 الحج: 73.

أنواع الأمثال في القرآن

أنواع الأمثال في القرآن: الأمثال في القرآن ثلاثة أنواع: 1- الأمثال المصرحة. 2- والأمثال الكامنة. 3- والأمثال المرسلة. النوع الأول: الأمثال المصرَّحة: وهي ما صرح فيها بلفظ المثل، أو ما يدل على التشبيه، وهي كثيرة في القرآن نورد منها ما يأتي: أ- قوله تعالى في حق المنافقين: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ، صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ، أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ} 1 إلى قوله: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 2. ففي هذه الآيات ضرب الله للمنافقين مثلين: مثلًا ناريًّا في قوله: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً} لما في النار من مادة النور، ومثلًا مائيًّا في قوله:

_ 1 البقرة: 17-19. 2 البقرة: 20.

{أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ} .. لما في الماء من مادة الحياة، وقد نزل الوحي من السماء متضمنًا لاستنارة القلوب وحياتها. وذكر الله حظ المنافقين في الحالين. فهم بمنزلة من استوقد نارًا للإضاءة والنفع حيث انتفعوا ماديًّا بالدخول في الإسلام, ولكن لم يكن له أثر نوري في قلوبهم، فذهب الله به في النار من الإضاءة: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} وأبقى ما فيها من الإحراق، وهذا مثلهم الناري. وذكر مثلهم المائي فشبههم بحال من أصابه مطر فيه ظلمة ورعد وبرق فخارت قواه ووضع أصبعيه في أذنيه وأغمض عينيه خوفًا من صاعقة تصيبه؛ لأن القرآن بزواجره وأوامره ونواهيه وخطابه نزل عليهم نزول الصواعق. ب- وذكر الله المثلين: المائي والناري - في سورة الرعد للحق والباطل. فقال تعالى: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ} 1. شبه الوحي الذي أنزله من السماء لحياة القلوب بالماء الذي أنزله لحياة الأرض بالنبات، وشبه القلوب بالأودية, والسيل إذا جرى في الأودية احتمل زبدًا وغثاء، فكذلك الهُدى والعلم إذا سرى في القلوب أثار ما فيها من الشهوات ليذهب بها، وهذا هو المثل المائي في قوله: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} وهكذا يضرب الله الحق والباطل. وذكر المثل الناري في قوله: {وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ} .. فالمعادن من ذهب أو فضة أو نحاس أو حديد عند سبكها تخرج النار ما فيها من الخبث وتفصله عن الجوهر الذي ينتفع به فيذهب جفاء. فكذلك الشهوات يطرحها قلب المؤمن ويجفوها كما يطرح السيل والنار ذلك الزبد وهذا الخبث.

_ 1 الرعد: 17.

النوع الثاني من الأمثال: الأمثال الكامنة - وهي التي لم يصرح فيها بلفظ التمثيل، ولكنها تدل على معان رائعة في إيجاز: يكون لها وقعها إذا نقلت إلى ما يشبهها، ويمثلون لهذا النوع بأمثلة منها: 1- ما في معنى قولهم: "خير الأمور الوسط": أ- قوله تعالى في البقرة: {لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} 1. ب- قوله تعالى في النفقة: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} 2. جـ- قوله تعالى في الصلاة: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً} 3. د- قوله تعالى في الإنفاق: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} 4. 2- ما في معنى قولهم: "ليس الخبر كالمعاينة": قوله تعالى في إبراهيم عليه السلام: {قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} 5. 3- ما في معنى قولهم: "كما تدين تُدان": قوله تعالى: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} 6. 4- ما في معنى: "لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين": قوله تعالى على لسان يعقوب: {قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْل} 7.

_ 1 البقرة: 68. 2 الفرقان: 67. 3 الإسراء: 110. 4 الإسراء: 29. 5 البقرة: 260. 6 النساء: 123. 7 يوسف: 64.

النوع الثالث: الأمثال المرسلة في القرآن: وهي جمل أرسلت إرسالًا من غير تصريح بلفظ التشبيه. فهي آيات جارية مجرى الأمثال. ومن أمثلة ذلك ما يأتي: 1- {الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ} 1. 2- {لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ} 2. 3- {قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} 3. 4- {أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} 4. 5- {لِكُلِّ نَبَأٍ مُسْتَقَرٌّ} 5. 6- {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} 6. 7- {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} 7. 8- {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شيئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} 9- {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} 9. 10- {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} 10. 11- {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} 11. 12- {ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} 12. 13- {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} 13.

_ 1 يوسف: 51. 2 النجم: 58. 3 يوسف: 41. 4 هود: 81. 5 الأنعام: 67. 6 فاطر: 43. 7 الإسراء: 84. 8 البقرة: 216. 9 المدثر: 38. 10 الرحمن: 60. 11 المؤمنون: 53. 12 الحج: 73. 13 الصافات: 61.

14- {لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ} 1. 15- {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} 2. 16- {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} 3. واختلفوا في هذا النوع من الآيات الذي يسمونه إرسال المثل، ما حكم استعماله استعمال الأمثال؟ فرآه بعض أهل العلم خروجًا عن أدب القرآن، قال الرازي في تفسير قوله تعالى: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} 4: "جرت عادة الناس بأن يتمثلوا بهذه الآية عند المتاركة، وذلك غير جائز؛ لأنه تعالى ما أنزل القرآن ليتمثل به، بل يتدبر فيه، ثم يعمل بموجبه". ورأى آخرون أنه لا حرج فيما يظهر أن يتمثل الرجل بالقرآن في مقام الجد، كأن يأسف أسفًا شديدًا لنزول كارثة قد تقطعت أسباب كشفها عن الناس فيقول: {لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ} 5، أو يحاوره صاحب مذهب فاسد يحاول استهواءه إلى باطله فيقول: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} والإثم الكبير في أن يقصد الرجل إلى التظاهر بالبراعة فيتمثل بالقرآن حتى في مقام الهزل والمزاح6.

_ 1 المائدة: 100. 2 البقرة: 249. 3 الحشر: 14. 4 الكافرون: 6. 5 النجم: 58. 6 بلاغة القرآن ص33.

فوائد الأمثال

فوائد الأمثال: 1- الأمثال تبرز المعقول في صورة المحسوس الذي يلمسه الناس، فيتقبله العقل؛ لأن المعانى المعقولة لا تستقر في الذهن إلا إذا صيغت في صورة حسية قريبة الفهم، كما ضرب الله مثلًا لحال المنفق رياء، حيث لا يحصل من إنفاقه

على شيء من الثواب, فقال تعالى: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا} 1. 2- وتكشف الأمثال عن الحقائق، وتعرض الغائب في معرض الحاضر كقوله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} 2. 3- وتجمع الأمثال المعنى الرائع في عبارة موجزة كالأمثال الكامنة والأمثال المرسلة في الآيات الآنفة الذكر. 4- ويضرب المثل للترغيب في الممثَّل حيث يكون الممثَّل به مما ترغب فيه النفوس، كما ضرب الله مثلًا لحال المنفق في سبيل الله حيث يعود عليه الإنفاق بخير كثير، فقال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} 3. 5- ويضرب المثل للتنكير حيث يكون الممثَّل به مما تكرهه النفوس، كقوله تعالى في النهي عن الغيبة: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ} 4. 6- ويضرب المثل لمدح الممثَّل كقوله تعالى في الصحابة: {ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} 5. وكذلك حال الصحابة فإنهم كانوا في بدء الأمر قليلًا. ثم أخذوا في النمو حتى استحكم أمرهم. وامتلأت القلوب إعجابًا بعظمتهم. 7- ويضرب المثل حيث يكون للمثَّل به صفة يستقبحها الناس، كما ضرب الله مثلًا لحال من آتاه الله كتابه، فتنكب الطريق عن العمل به، وانحدر في

_ 1 البقرة: 264. 2 البقرة: 275. 3 البقرة: 261. 4 الحجرات: 12. 5 الفتح: 29.

الدنايا منغمسًا. فقال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ، وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا} 1. 8- والأمثال أوقع في النفس، وأبلغ في الوعظ، وأقوى في الزجر، وأقوم في الإقناع، وقد أكثر الله تعالى الأمثال في القرآن للتذكرة والعبرة، قال تعالى: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} 2. وقال: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} 3، وضربها النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديثه، واستعان بها الداعون إلى الله في كل عصر لنصرة الحق وإقامة الحجة، ويستعين بها المربون ويتخذونها من وسائل الإيضاح والتشويق، ووسائل التربية في الترغيب أو التنفير، في المدح أو الذم.

_ 1 الأعراف: 175، 176. 2 الزمر: 27. 3 العنكبوت: 43.

ضرب الأمثال بالقرآن

ضرب الأمثال بالقرآن: جرت عادة أهل الأدب أن يسوقوا الأمثلة في مواطن تشبه الأحوال التي قيلت فيها، وإذا صح هذا في أقوال الناس التي جرت مجرى المثل، فإن العلماء يكرهون ضرب الأمثال بالقرآن، ولا يرون أن يتلو الإنسان آية من آيات الأمثال في كتاب الله عند شيء يعرض من أمور الدنيا، حفاظًا على روعة القرآن، ومكانته في نفوس المؤمنين، قال أبو عبيد: "وكذلك الرجل يريد لقاء صاحبه أو يهم بحاجته، فيأتيه من غير طلب فيقول كالمازح: {جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى} 1, فهذا من الاستخفاف بالقرآن"، ومنه قول ابن شهاب الزهري: "لا تناظر بكتاب الله ولا بسُنة رسول الله, صلى الله عليه وسلم"، قال أبو عبيد: "يقول: لا تجعل لها نظيرًا من القول ولا الفعل".

_ 1 طه: 40.

أقسام القرآن

أقسام القرآن مدخل ... 19- أقسام القرآن: 1 يختلف الاستعداد النفسي عند الفرد في تقبله للحق وانقياده لنوره، فالنفس الصافية التي لم تدنس فطرتها بالرجس تستجيب للهدى، وتفتح قلبها لإشعاعه، ويكفيها في الانصياع إليه اللمحة والإشارة. أما النفس التي رانت عليها سحابة الجهل، وغشيتها ظلمة الباطل فلا يهتز قلبها إلا بمطارق الزجر، وصيغ التأكيد، حتى يتزعزع نكيرها، والقسم في الخطاب من أساليب التأكيد التي يتخللها البرهان المفحم، والاستدراج بالخصم إلى الاعتراف بما يجحد.

_ 1 أفرد هذا الفصل بالبحث العلامة ابن القيم في كتابه "أقسام القرآن" المسمى بـ "التبيان" وهو كتاب فريد في بابه اختصرنا منه هذا البحث.

تعريف القسم وصيغته

تعريف القَسَم وصيغته: والأقسام: جمع قَسَم - بفتح السين- بمعنى الحلف واليمين, والصيغة الأصلية للقسم أن يؤتى بالفعل "أقسم" أو "أحلف" متعديًا بالباء إلى المُقسم به. ثم يأتي المُقسم عليه، وهو المسمى بجواب القسم، كقوله تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ} 1. فأجزاء صيغة القسم ثلاثة: 1- الفعل الذي يتعدى بالباء. 2- والمُقسم به. 3- والمُقسم عليه.

_ 1 النحل: 38.

ولما كان القسم يكثر في الكلام، اختصر فصار فعل القسم يحذف ويكتفى بالباء1 ثم عُوِّض عن الباء بالواو في الأسماء الظاهرة كقوله تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} 2, وبالتاء في لفظ الجلالة كقوله: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} 3, وهذا قليل، أما الواو فكثيرة. والقسم واليمين واحد: ويعرف بأنه: ربط النفس، بالامتناع عن شيء أو الإقدام عليه، بمعنى معظم عند الحالف حقيقة أو اعتقادًا. وسُمي الحلف يمينًا؛ لأن العرب كان أحدهم يأخذ بيمين صاحبه عند التحالف.

_ 1 والباء لم ترد في القرآن إلا مع فعل القسم، كقوله تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} [النور: 53] . 2 الليل: 1. 3 الأنبياء: 57.

فائدة القسم في القرآن

فائدة القسم في القرآن: تمتاز اللغة العربية بدقة التعبير واختلاف الأساليب بتنوع الأغراض، وللمخاطب حالات مختلفة، هي المسماة في المعاني بأضرب الخبر الثلاثة: الابتدائي، والطلبي، والإنكاري. فقد يكون المخاطَب خالي الذهن من الحكم فيُلقى إليه الكلام غفلًا من التأكيد، ويُسمى هذا الضرب: ابتدائيًّا. وقد يكون مترددًا في ثبوت الحكم وعدمه، فيحسن تقوية الحكم له بمؤكد ليزيل تردده، ويُسمى هذا الضرب: طلبيًّا. وقد يكون منكرًا للحكم، فيجب أن يؤكد له الكلام بقدر إنكاره قوة وضعفًا، ويُسمى هذا الضرب: إنكاريًّا. والقسم من المؤكدات المشهورة التي تمكن الشيء في النفس وتقويه، وقد نزل القرآن الكريم للناس كافة، ووقف الناس منه مواقف متباينة، فمنهم الشاك،

ومنهم المنكر، ومنهم الخصم الألد. فالقسم في كلام الله يزيل الشكوك، ويحبط الشبهات، ويقيم الحجة، ويؤكد الأخبار، ويقرر الحكم في أكمل صورة.

المقسم به في القرآن

المُقسم به في القرآن: يقسم الله تعالى بنفسه المقدسة الموصوفة بصفاته، أو بآياته المستلزمة لذاته وصفاته، وإقسامه ببعض مخلوقاته دليل على أنه من عظيم آياته. وقد أقسم الله تعالى بنفسه في القرآن في سبعة مواضع: 1- في قوله: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} 1. 2- وقوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} 2. 3- وقوله: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ} 3. وفي هذه الثلاثة أمر الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- أن يقسم به. 4- وقوله: {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ} 4. 5- وقوله: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} 5. 6- وقوله: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} 6. 7- وقوله: {فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ} 7.

_ 1 التغابن: 7. 2 سبأ: 3. 3 يونس: 53. 4 مريم: 68. 5 الحجر: 92. 6 النساء: 65. 7 المعارج: 40.

وسائر القسم في القرآن بمخلوقاته سبحانه، كقوله: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا، وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا} 1. وقوله: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى، وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى، وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} 2. وقوله: {وَالْفَجْرِ، وَلَيَالٍ عَشْر} 3. وقوله: {فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ} 4. وقوله: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ، وَطُورِ سِينِينَ} 5. وهذا هو الكثير في القرآن. ولله أن يحلف بماء شاء، أما حلف العباد بغير الله فهو ضرب من الشرك، فعن عمر بن الخطاب, رضي الله عنه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من حلف بغير الله فقد كفر - أو أشرك" 6. وإنما أقسم الله بمخلوقاته؛ لأنها تدل على بارئها، وهو الله تعالى، وللإشارة إلى فضيلتها ومنفعتها ليعتبر الناس بها وعن الحسن قال: "إن الله يقسم بما شاء من خلقه وليس لأحد أن يقسم إلا بالله"7.

_ 1 الشمس: 1، 2. 2 الليل: 1-3. 3 الفجر: 1، 2. 4 التكوير: 15. 5 التين: 1، 2. 6 رواه الترمذي وحسنه، وصححه الحاكم. 7 أخرجه ابن أبي حاتم.

أنواع القسم

أنواع القسم: القسم إما ظاهر، وإما مضمر. 1- فالظاهر: هو ما صُرح فيه بفعل القسم, وصرح فيه بالمُقسم به، ومنه ما حذف فيه فعل القسم كما هو الغائب اكتفاء بالجار من الياء أو الواو أو التاء.

وقد أدخلت "لا" النافية على فعل القسم في بعض المواضع. كقوله تعالى: {لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ، الْقِيَامَةِ وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} 1, فقيل: "لا" في الموضعين نافية لمحذوف يناسب المقام، والتقدير مثلًا: لا صحة لما تزعمون أنه لا حساب ولا عقاب، ثم استأنف فقال: أقسم بيوم القيامة، وبالنفس اللوامة، أنكم ستبعثون. وقيل: "لا" لنفي القسم كأنه قال: لا أقسم عليك بذلك اليوم وتلك النفس، ولكني أسألك غير مقسِم، أتحسب أنَّا لا نجمع عظامك إذا تفرقت بالموت؟ إن الأمر من الظهور بحيث لا يحتاج إلى قسم. وقيل: "لا" زائدة - وجواب القسم في الآية المذكورة محذوف دل عليه قوله بعد: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ} ... إلخ، والتقدير: لتبعثن ولتحاسبن. 2- والقسم المضمر هو ما لم يصرِّح فيه بفعل القسم، ولا بالمقسَم به، وإنما تدل عليه اللام المؤكدة التي تدخل على جواب القسم كقوله تعالى: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} 2, أي والله لتبلون.

_ 1 القيامة: 1، 2. 2 آل عمران: 186.

أحوال المقسم عليه

أحوال المقسَم عليه: 1- المقسَم عليه يُراد بالقسم توكيده وتحقيقه، فلا بد أن يكون مما يحسن فيه ذلك، كالأمور الغائبة والخفية إذا أقسم على ثبوتها. 2- وجواب القسم يُذكر تارة -وهو الغالب- وتارة يحذف، كما يحذف جواب "لو" كثيرًا، كقوله: {كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ} 1, وحذف مثل هذا من أحسن الأساليب؛ لأنه يدل على التفخيم والتعظيم، فالتقدير مثلًا: لو تعلمون ما بين أيديكم علم الأمر اليقين لفعلتم ما لا يوصف من الخير، فحذف جواب القسم كقوله: {وَالْفَجْرِ، وَلَيَالٍ عَشْرٍ، وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ، وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ، هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ} 2, فالمراد بالقسم أن

_ 1 التكاثر: 5. 2 الفجر: 1-5.

الزمان المتضمن لمثل هذه الأعمال أهل أن يقسِم الرب عز وجل به. فلا يحتاج إلى جواب، وقيل: الجواب محذوف، أي: لتعذبن يا كفار مكة، وقيل: مذكور، وهو قوله: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَاد} 1, والصحيح المناسب أنه لا يحتاج إلى جواب. وقد يحذف الجواب لدلالة المذكور عليه، كقوله تعالى: {لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} 2, فجواب القسم محذوف دل عليه قوله بعد: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ} 3 ... إلخ، والتقدير، لتبعثن ولتحاسبن. 3- والماضي المثبت المتصرف الذي لم يتقدم معموله إذا وقع جوابًا للقسم تلزمه اللام و"قد"، ولا يجوز الاقتصار على إحداهما إلا عند طول الكلام. كقوله تعالى: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا، وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا، وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا، وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا، وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا، وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا، وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} 4, فجواب القسم: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} حذفت من اللام لطول الكلام. ولذلك قالوا في قوله تعالى: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ} 5: إن الأحسن أن يكون هذا القسم مستغنيًا عن الجواب؛ لأن القصد التنبيه على المقسَم به، وأنه من آيات الرب العظيمة، وقيل: الجواب محذوف دل عليه: {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ} أي إنهم ملعونون، يعني كفار مكة كما لعن أصحاب الأخدود، وقيل: حذف صدره، وتقديره: لقد قتل؛ لأن الفعل الماضي إذا وقع جوابًا للقسم تلزمه اللام و"قد"، ولا يجوز الاقتصار على إحداهما إلا عند طول الكلام، كما سبق في قوله تعالى: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} ، {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} .

_ 1 الفجر: 14. 2 القيامة: 1، 2. 3 القيامة: 3. 4 الشمس: 1-9. 5 البروج: 1-4.

4- ويقسم الله على أصول الإيمان التي يجب على الخلق معرفتها فتارة يقسم على التوحيد كقوله: {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا، فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا، فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا، إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ} 1. وتارة يقسم على أن القرآن حق كقوله تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ، وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ، إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} 2. وتارة على أن الرسول حق كقوله: {يس، وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ، إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} 3. وتارة على الجزاء والوعد والوعيد: كقوله: {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا، فَالْحَامِلاتِ وِقْرًا، فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا، فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا، إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ، وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ} 4. وتارة على حال الإنسان، كقوله: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى، وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى، وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى، إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} 5. والمتتبع لأقسام القرآن يستخلص الفنون الكثيرة. 5- والقسم إما على جملة خبرية -وهو الغالب- كقوله تعالى: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ} 6، وإما على جملة طلبية في المعنى كقوله تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ، عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 7.. لأن المراد التهديد والوعيد.

_ 1 الصافات: 1-4. 2 الواقعة: 75-77. 3 يس: 1-3. 4 الذاريات: 1-6. 5 الليل: 1-4. 6 الذاريات: 23. 7 الحجر: 92، 93.

القسم والشرط

القسم والشرط: يجتمع القسم والشرط فيدخل كل منهما على الآخر فيكون الجواب للمتقدم منهما -قسمًا كان أو شرطًا- ويُغني عن جواب الآخر.

فإنْ تقدم القسم على الشرط كان الجواب للقسم وأغنى عن جواب الشرط، كقوله تعالى: {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ} 1, إذ التقدير: والله لئن لم تنته. واللام الداخلة على الشرط ليست بلام جواب القسم كالتي في مثل قوله تعالى: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} 2, ولكنها اللام الداخلة على أداة شرط للإيذان بأن الجواب بعدها مبني على قسم قبلها لا على الشرط، وتسمى اللام المؤذنة، وتسمى كذلك الموطئة؛ لأنها وطأت الجواب للقسم، أي مهدئة له، ومنه قوله تعالى: {لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ} 3، وأكثر ما تدخل اللام الموطئة على "إن" الشرطية، وقد تدخل على غيرها. ولا يقال: إن الجملة الشرطية هي جواب القسم المقدر، فإن الشرط لا يصلح أن يكون جوابًا؛ لأن الجواب لا يكون إلا خبرًا، والشرط إنشاء، وعلى هذا فإن قوله تعالى في المثال الأول: {لَأرْجُمَنَّكَ} يكون جوابًا للقسم المقدر أغنى عن جواب الشرط. ودخول اللام الموطئة للقسم على الشرط ليس واجبًا، فقد تحذف مع كون القسم مقدرًا قبل الشرط. كقوله تعالى: {وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 4. والذي يدل على أن الجواب للقسم لا للشرط دخول اللام فيه وأنه ليس بمجزوم، بدليل قوله تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} 5, ولو كانت جملة {لا يَأْتُونَ} جوابًا للشرط لجزم الفعل. وأما قوله تعالى: {وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ} 6، فاللام في: {وَلَئِنْ} هي الموطئة للقسم، واللام في: {لإِلَى اللَّهِ} هي لام

_ 1 مريم: 46. 2 الأنبياء: 57. 3 الحشر: 12. 4 المائدة: 73. 5 الإسراء: 88. 6 آل عمران: 158.

القسم، أي الواقعة في الجواب، ولم تدخل نون التوكيد على الفعل1 للفصل بينه وبين اللام بالجار والمجرور، والأصل: لئن متم أو قتلتم لتحشرون إلى الله. إجراء بعض الأفعال مجرى القسم: إذا كان القسم يأتي لتأكيد المُقسم عليه فإن بعض الأفعال يجري مجراه إذا كان سياق الكلام في معناه، كقوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ} 2، فاللام في قوله: {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ} لام القسم، والجملة بعدها جواب القسم؛ لأن أخذ الميثاق بمعنى الاستحلاف. وحمل المفسرون على هذا قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ} 3. وقوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ} 4. وقوله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} 5.

_ 1 يجب توكيد الفعل إذا كان مثبتًا مستقبلًا، جوابًا لقسم، غير مفصول من لامه بفاصل، وجواب القسم هنا وإن كان مثبتًا مستقبلًا فإنه قد فُصل بينه وبين اللام بالجار والمجرور. 2 آل عمران: 187. 3 البقرة: 83. 4 البقرة: 84. 5 النور: 55.

جدل القرآن

جدل القرآن مدخل ... 20- جدل القرآن: 1 الحقائق الظاهرة الجلية يلمسها الإنسان وتنطق بها شواهد الكون ولا يحتاج إلى برهان على ثبوتها، أو دليل على صحتها. ولكن المكابرة كثيرًا ما تحمل أصحابها على إثارة الشكوك وتمويه الحقائق بشُبَه تلبسها لباس الحق، وترينها في مرآة العقل، فهي في حاجة إلى مقارعتها بالحجة، واستدراجها إلى ما يلزمها بالاعتراف آمنت أو كفرت. والقرآن الكريم -وهو دعوة الله إلى الإنسانية كافة- وقف أمام نزعات مختلفة حاولت بالباطل إنكار حقائقه ومجادلة أصوله. فألجم خصومتهم بالحس والعيان، وعارضهم في أسلوب مقنع، واستدلال ملزم، وجدل محكم.

_ 1 أفرده من المتأخرين بالتصنيف العلامة سليمان بن عبد القوي بن عبد الكريم المعروف بابن أبي العباس الحنبلي نجم الدين الطوفي المتوفى سنة 716 هجرية.

تعريف الجدل

تعريف الجدل: والجدل والجدال: المفاوضة على سبيل المنازعة والمغالبة لإلزام الخصم، أصله من جدلت الحبل: أي أحكمت فتله، فكأن المتجادلين يفتل كل واحد الآخر عن رأيه. وقد ذكره الله في القرآن على أنه من طبيعة الإنسان في قوله: {وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} 1, أي خصومة ومنازعة. وأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يجادل المشركين بالطريقة الحسنة التي تلين عريكتهم في قوله: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} 2.

_ 1 الكهف: 54. 2 النحل: 125.

وأباح مناظرة أهل الكتاب بتلك الطريقة في قوله: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} 1. ومثل هذا من قبيل المناظرة التي تهدف إلى إظهار الحق، وإقامة البرهان على صحته، وهي الطريقة التي يشتمل عليها جدل القرآن في هداية الكافرين وإلزام المعاندين، بخلاف مجادلة أهل الأهواء فإنها منازعة باطلة، قال تعالى: {وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ} 2.

_ 1 العنكبوت: 46. 2 الكهف: 56.

طريقة القرآن في المناظرة

طريقة القرآن في المناظرة: والقرآن الكريم تناول كثيرًا من الأدلة والبراهين التي حاج بها خصومه في صورة واضحة جلية يفهمها العامة والخاصة، وأبطل كل شبهة فاسدة ونقضها بالمعارضة والمنع في أسلوب واضح النتائج، سليم التركيب، لا يحتاج إلى إعمال عقل أو كثير بحث. ولم يسلك القرآن في الجدل طريقة المتكلمين الاصطلاحية في المقدمات والنتائج التي يعتمدون عليها، من الاستدلال بالكلي على الجزئي في قياس الشمول، أو الاستدلال بأحد الجزأين على الآخر في قياس التمثيل، أو الاستدلال بالجزئي على الكلي في قياس الاستقراء. أ- لأن القرآن جاء بلسان العرب، وخاطبهم بما يعرفون. ب- ولأن الاعتماد في الاستدلال على ما فطرت عليه النفس من الإيمان بما تشاهد وتحس دون عمل فكري عميق أقوى أثرًا وأبلغ حجة. جـ- ولأن ترك الجلي من الكلام والالتجاء إلى الدقيق الخفي نوع من الغموض والإلغاز لا يفهمه إلا الخاصة، وهو على طريقة المناطقة ليس سليمًا من كل وجه، فأدلة التوحيد والمعاد المذكورة في القرآن من نوع الدلالة المعينة

المستلزمة لمدلولها بنفسها من غير احتياج إلى اندراجها تحت قضية كلية، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه "الرد على المنطقيين": "وما يذكره النُّظار من الأدلة القياسية التي يسمونها براهين على إثبات الصانع سبحانه وتعالى لا يدل شيء منها على عينه، وإنما يدل على أمر مطلق كلي لا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه، فإنَّا إذا قلنا: هذا محدث، وكل محدث فلا بد له من محدث، أو ممكن، والممكن لا بد له من واجب، إنما يدل هذا على محدث مطلق، أو واجب مطلق.. لا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه".. وقال: "فبرهانهم لا يدل على شيء معين بخصوصه، لا واجب الوجود ولا غيره، وإنما يدل على أمر كلي، والكلي لا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه، وواجب الوجود يمنع العلم به من وقوع الشركة فيه, ومن لم يتصور ما يمنع الشركة فيه لم يكن قد أعرف الله"، وقال: "وهذا بخلاف ما يذكر الله من الآيات في كتابه, كقوله: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} 1، وقوله: {فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} 2، {لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} 3, وغير ذلك، فإنه يدل على المعين كالشمس التي هي آية النهار.. وقال تعالى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} 4, فالآيات تدل على نفس الخالق سبحانه لا على قدر مشترك بينه وبين غيره، فإن كل ما سواه مفتقر إليه نفسه، فيلزم من وجوده وجود عين الخالق نفسه". فأدلة الله على توحيده وما أخبر به من المعاد, وما نصبه من البراهين لصدق رسله لا تفتقر إلى قياس شمولي أو تمثيلي، بل هي مستلزمة لمدلولها عينًا،

_ 1 البقرة: 164. 2 الرعد: 4. 3 يونس: 24، وسور أخرى. 4 الإسراء: 12.

والعلم بها مستلزم للعلم بالمدلول، وانتقال الذهن منها إلى المدلول بيِّن واضح كانتقال الذهن من رؤية شعاع الشمس إلى العلم بطلوعها، وهذا النوع من الاستدلال بدهي يستوي في إدراكه كل العقول. قال الزركشي1: "اعلم أن القرآن العظيم قد اشتمل على جميع أنواع البراهين والأدلة، وما بين برهان ودلالة وتقسيم وتحديد شيء من كليات المعلومات العقلية والسمعية إلا وكتاب الله تعالى قد نطق به، لكن أورده تعالى على عادة العرب دون دقائق طرق أحكام المتكلمين لأمرين. أحدهما: بسبب ما قاله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} .. الآية2. والثاني: أن المائل إلى دقيق المحاجة هو العاجز عن إقامة الحجة بالجليل من الكلام، فإن من استطاع أن يفهم بالأوضح الذي يفهمه الأكثرون لم يتخط إلى الأغمض الذي لا يعرفه إلا الأقلون ولم يكن ملغزًا، فأخرج تعالى مخاطباته في محاجة خلقه من أجل صورة تشتمل على أدق دقيق، لتفهم العامة من جليلها ما يقنعهم ويلزمهم الحجة، وتفهم الخواص من أثنائها ما يوفى على ما أدركه فهم الخطباء. وعلى هذا حُمِل الحديث المروي: "إن لكل آية ظهرًا وبطنًا ولك حرف حدًّا ومطلعًا" لا على ما ذهب إليه الباطنية، ومن هذا الوجه كل من كان حظه في العلوم أوفر كان نصيبه من علم القرآن أكثر، ولذلك إذا ذكر تعالى حجة على ربوبيته ووحدانيته أتبعها مرة بإضافته إلى أولي العقل، ومرة إلى السامعين، ومرة إلى المفكرين، ومرة إلى المتذكرين، تنبيهًا أن بكل قوة من هذه القوى يمكن إدراك حقيقة منها، وذلك نحو قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} 3, وغيرها من الآيات.

_ 1 انظر "البرهان" جـ2 ص24 وما بعدها، بتصرف. 2 إبراهيم: 4. 3 الرعد: 4.

واعلم أنه قد يظهر منه بدقيق الفكر استنباط البراهين العقلية على طرق المتكلمين.... ومن ذلك الاستدلال على أن صانع العالَم واحد، بدلالة التمانع المشار إليه في قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} 1؛ لأنه لو كان للعالَم صانعان لكان لا يجري تدبيرهما على نظام، ولا يتسق على إحكام، ولكان العجز يلحقهما أو أحدهما، وذلك لو أراد أحدهما إحياء جسم، وأراد الآخر إماتته، فإما أن تنفذ إرادتهما فتتناقض لاستحالة تجزؤ الفعل إن فرض الاتفاق، أو لامتناع اجتماع الضدين إن فرض الاختلاف، وإما لا تنفذ إرادتهما فيؤدي إلى عجزهما، أو لا تنفذ إرادة أحدهما فيؤدي إلى عجزه، والإله لا يكون عاجزًا".

_ 1 الأنبياء: 22.

أنواع من مناظرات القرآن وأدلته

أنواع من مناظرات القرآن وأدلته: أ- ما يذكره تعالى من الآيات الكونية المقرونة بالنظر والتدبر للاستدلال على أصول العقائد كتوحيده سبحانه في ألوهيته، والإيمان بملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وهذا النوع كثير في القرآن. فمنه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ، الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} 1. وقوله تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ، لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ} إلى قوله: {لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} 2. ب- ما يرد به على الخصوم ويلزم أهل العناد، ولهذا صور مختلفة: 1- منها تقرير المخاطب بطريق الاستفهام عن الأمور التي يسلم بها الخصم

_ 1 البقرة: 21، 22. 2 البقرة: 163، 164.

وتسلم بها العقول حتى يعترف بما ينكره، كالاستدلال بالخلق على وجود خالق في مثل قوله تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ، أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ، أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ، أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ، أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ، أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ، أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ، أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ، أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} 1. 2- الاستدلال بالمبدأ على المعاد. كقوله تعالى: {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} 2، وقوله: {أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى، أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ، يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى، فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى، أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} 3، وقوله: {فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ، خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ، يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ، إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ} 4، ومثله الاستدلال بحياة الأرض بعد موتها بالإنبات على الحياة بعد الموت للحساب كقوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى} 5. 3- إبطال دعوى الخصم بإثبات نقيضها كقوله تعالى: {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} 6, ردًّا على اليهود فيما حكاه الله عنهم بقوله: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْء} 7.

_ 1 الطور: 35-43. 2 سورة ق: 15. 3 القيامة: 36-40. 4 الطارق: 5-8. 5 فصلت: 39. 6 الأنعام: 91. 7 الأنعام: 91.

4- السبر والتقسيم - بحصر الأوصاف، وإبطال أن يكون واحد منها علة للحكم، كقوله تعالى: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} 1. 5- إفحام الخصم وإلزامه ببيان أن مدعاه يلزمه القول بما لا يعترف به أحد، كقوله تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ، بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} 2, فنفى التولد عنه لامتناع التولد من شيء واحد، وأن التولد إنما يكون من اثنين، وهو سبحانه لا صاحبة له، وأيضًا فإنه خلق كل شيء، وخلقه لكل شيء يناقض أن يتولد عنه شيء، وهو بكل شيء عليم، وعلمه بكل شيء يستلزم أن يكون فاعلًا بإرادته، فإن الشعور فارق بين الفاعل بالإرادة والفاعل بالطبع فيمتنع مع كونه عالِمًا أن يكون كالأمور الطبيعية التي يتولد عنها الأشياء بلا شعور -كالحار والبارد- فلا يجوز إضافة الولد إليه3. وهناك أنواع أخرى من الجدل كثيرة، كمناظرة الأنبياء مع أممهم، أو فريق المؤمنين مع المنافقين، وما شابه ذلك.

_ 1 الأنعام: 143، 144. 2 الأنعام: 100، 101. 3 هذه الفقرة من كتاب "الرد على المنطقيين" لشيخ الإسلام ابن تيمية، وهي رائعة في الاستدلال.

قصص القرآن

قصص القرآن مدخل ... 21- قصص القرآن: الحادثة المرتبطة بالأسباب والنتائج يهفو إليها السمع، فإذا تخللتها مواطن العبرة في أخبار الماضين كان حب الاستطلاع لمعرفتها من أقوى العوامل على رسوخ عبرتها في النفس، والموعظة الخطابية تسرد سردًا لا يجمع العقل أطرافها ولا يعي جميع ما يلقى فيها، ولكنها حين تأخذ صورة من واقع الحياة في أحداثها تتضح أهدافها، ويرتاح المرء لسماعها، ويصغي إليها بشوق ولهفة، ويتأثر بما فيها من عبر وعظات، وقد أصبح أدب القصة اليوم فنًّا خاصًّا من فنون اللغة وآدابها، والقصص الصادق يمثل هذا الدور في الأسلوب العربي أقوى تمثيل، ويصوره في أبلغ صورة: قصص القرآن الكريم.

معنى القصص

معنى القصص: القص: تتبع الأثر. يقال: قصصت أثره: أي تتبعته، والقصص مصدر، قال تعالى: {ارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصاً} 1, أي رجعا يقصان الأثر الذي جاءا به. وقال على لسان أم موسى: {وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ} 2, أي تتبعي أثره حتى تنظري من يأخذه. والقصص كذلك: الأخبار المتتبعة, قال تعالى: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ} 3، وقال: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} 4, والقصة: الأمر, والخبر، والشأن، والحال. وقصص القرآن: أخباره عن أحوال الأمم الماضية، والنبوات السابقة، والحوادث الواقعة - وقد اشتمل القرآن على كثير من وقائع الماضي، وتاريخ

_ 1 الكهف: 64. 2 القصص: 11. 3 آل عمران: 62. 4 يوسف: 111.

الأمم، وذكر البلاد والديار، وتتبع آثار كل قوم، وحكى عنهم صورة ناطقة لما كانوا عليه.

أنواع القصص في القرآن

أنواع القصص في القرآن: والقصص في القرآن ثلاثة أنواع: النوع الأول: قصص الأنبياء، وقد تضمن دعوتهم إلى قومهم، والمعجزات التي أيدهم الله بها، وموقف المعاندين منهم، ومراحل الدعوة وتطورها وعاقبة المؤمنين والمكذبين، كقصص نوح، وإبراهيم، وموسى، وهارون، وعيسى، ومحمد، وغيرهم من الأنبياء والمرسلين، عليهم جميعًا أفضل الصلاة والسلام. النوع الثاني: قصص قرآني يتعلق بحوادث غابرة، وأشخاص لم تثبت ثبوتهم، كقصة الذين أخرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت. وطالوت وجالوت، وابني آدم، وأهل الكهف، وذي القرنين، وقارون، وأصحاب السبت، ومريم، وأصحاب الأخدود، وأصحاب الفيل ونحوهم. النوع الثالث: قصص يتعلق بالحوادث التي وقعت في زمن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كغزوة بدر وأحد في سورة آل عمران، وغزوة حنين وتبوك في التوبة، وغزوة الأحزاب في سورة الأحزاب، والهجرة، والإسراء، ونحو ذلك.

فوائد قصص القرآن

فوائد قصص القرآن: وللقصص القرآني فوائد نجمل أهمها فيما يأتي: 1- إيضاح أسس الدعوة إلى الله، وبيان أصول الشرائع التي بعث بها كل نبي: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} 1.

_ 1 الأنبياء: 25.

2- تثبيت قلب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقلوب الأمة المحمدية على دين الله وتقوية ثقة المؤمنين بنُصرة الحق وجنده، وخذلان الباطل وأهله: {وَكُلّاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} 1. 3- تصديق الأنبياء السابقين وإحياء ذكراهم وتخليد آثارهم. 4- إظهار صدق محمد -صلى الله عليه وسلم- في دعوته بما أخبر به عن أحوال الماضين عبر القرون والأجيال. 5- مقارعته أهل الكتاب بالحجة فيما كتموه من البينات والهُدى، وتحديه لهم بما كان في كتبهم قبل التحريف والتبديل، كقوله تعالى: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرائيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} 2. 6- والقصص ضرب من ضروب الأدب، يصغي إليه السمع، وترسخ عبره في النفس: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} 3.

_ 1 هود: 120. 2 آل عمران: 93. 3 يوسف: 111.

تكرار القصص وحكمته

تكرار القصص وحكمته: يشتمل القرآن الكريم على كثير من القصص الذي تكرر في غير موضع، فالقصة الواحدة يتعدد ذكرها في القرآن , وتُعرض في صور مختلفة في التقديم والتأخير، والإيجاز والإطناب، وما شابه ذلك. ومن حكمة هذا: 1- بيان بلاغة القرآن في أعلى مراتبها. فمن خصائص البلاغة إبراز المعنى الواحد في صور مختلفة، والقصة المتكررة ترد في كل موضع بأسلوب يتمايز عن الآخر، وتُصاغ في قالب غير القالب، ولا يمل الإنسان من تكرارها، بل تتجدد في نفسه معان لا تحصل له بقراءتها في المواضع الأخرى.

2- قوة الإعجاز: فإيراد المعنى الواحد في صور متعددة مع عجز العرب عن الإتيان بصورة منها أبلغ في التحدي. 3- الاهتمام بشأن القصة لتمكين عبرها في النفس، فإن التكرار من طرق التأكيد وأمارات الاهتمام. كما هو الحال في قصة موسى مع فرعون؛ لأنها تمثل الصراع بين الحق والباطل أتم تمثيل مع أن القصة لا تكرر في السورة الواحدة مهما كثر تكرارها. 4- اختلاف الغاية التي تساق من أجلها القصة فتذكر بعض معانيها الوافية بالغرض في مقام، وتبرز معان أخرى في سائر المقامات حسب اختلاف مقتضيات الأحوال.

أسوق بعض أمثلة، توضح مرامي كاتب هذه الرسالة وكيفية بنائها" ثم أورد الأستاذ "أحمد أمين" أمثلة منتزعة من الرسالة تشهد بما وصفها به من هذه العبارة المجملة1. كادعاء صاحب الرسالة أن القصة في القرآن لا تلتزم الصدق التاريخي. وإنما تتجه كما يتجه الأديب في تصوير الحادثة تصويرًا فنيًّا، وزعمه أن القرآن يختلق بعض القصص وأن الأقدمين أخطئوا في عد القصص القرآني تاريخًَا يعتمد عليه. والمسلم الحق هو الذي يؤمن بأن القرآن كلام الله، وأنه منزه عن ذلك التصوير الفني الذي لا يعنى فيه بالواقع التاريخي، وليس قصص القرآن إلا الحقائق التاريخية تصاغ في صور بديعة من الألفاظ المنتقاة، والأساليب الرائعة. ولعل صاحب الرسالة درس فن القصة في الأدب, وأدرك من عناصرها الأساسية الخيال الذي يعتمد على التصور، وأنه كلما ارتقى خيالها ونأى عن الواقع كثر الشوق إليها، ورغبت النفس فيها، واستمتعت بقراءتها، ثم قاس القصص القرآني على القصة الأدبية. وليس القرآن كذلك، فإنه تنزيل من عليم حكيم، ولا يرد في أخباره إلا ما يكون موافقًا للواقع، وإذا كان الفضلاء من الناس يتورعون من أن يقولوا زورًا ويعدونه من أقبح الرذائل المزرية بالإنسانية، فكيف يسوغ لعاقل أن يلصق الزور بكلام ذي العزة والجلال؟ والله تعالى هو الحق: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} 2. وأرسل رسوله بالحق: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً} 3.

_ 1 انظر نقد كتاب "الفن القصصي في القرآن" - للأستاذ محمد الخضر حسين- بلاغة القرآن ص94. 2 الحج: 62. 3 فاطر: 24.

{وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ} 1. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ} 2. {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} 3. {وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ} 4. وما قصه الله تعالى في القرآن هو الحق: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ} 5. {نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَأِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ} 6.

_ 1 فاطر: 31. 2 النساء: 170. 3 المائدة: 48. 4 الرعد: 1. 5 الكهف: 13. 6 القصص: 3.

القصة في القرآن حقيقة لا خيال

القصة في القرآن حقيقة لا خيال: ومن الجدير بالذكر أن أحد الطلاب الجامعيين في مصر قدم رسالة لنيل درجة "الدكتوراه" كان موضوعها: "الفن القصصي في القرآن"1, أثارت جدلًا طويلًا سنة 1367 هجرية، وكتب عنها أحد أعضاء اللجنة الذين اشتركوا في مناقشة الرسالة -وهو الأستاذ أحمد أمين- تقريرًا بعث به إلى عميد كلية الآداب، ونشر في مجلة "الرسالة" وقد تضمن التقرير نقدًا لاذعًا لما كتبه الطالب الجامعي، وإن كان أستاذه المشرف قد دافع عنه. وصدر الأستاذ "أحمد أمين" تقريره بالعبارة الآتية: "وقد وجدتها رسالة ليست عادية، بل هي رسالة خطيرة، أساسها أن القصص في القرآن عمل فني خاضع لما يخضع له الفن من خلق وابتكار من غير التزام لصدق التاريخ. والواقع أن محمدًا فنان بهذا المعنى"، ثم قال: "وعلى هذا الأساس كتب كل الرسالة من أولها إلى آخرها، وإني أرى من الواجب أن

_ 1 هو الدكتور محمد أحمد خلف الله.

أثر القصص القرآني في التربية والتهذيب

أثر القصص القرآني في التربية والتهذيب: مما لا شك فيه أن القصة المحكمة الدقيقة تطرق المسامع بشغف - وتنفذ إلى النفس البشرية بسهولة ويسر، وتسترسل مع سياقها المشاعر لا تمل ولا تكل، ويرتاد العقل عناصرها فيجني من حقولها الأزاهير والثمار. والدروس التلقينية والإلقائية تورث الملل، ولا تستطيع الناشئة أن تتابعها وتستوعب عناصرها إلا بصعوبة وشدة. وإلى أمد قصير. ولذا كان الأسلوب القصصي أجدى نفعًا، وأكثر فائدة. والمعهود -حتى في حياة الطفولة- أن يميل الطفل إلى سماع الحكاية، ويصغي إلى رواية القصة، وتعي ذاكرته ما يُروى له، فيحاكيه ويقصه. هذه الظاهرة الفطرية النفسية ينبغي للمربين أن يفيدوا منها في مجالات التعليم، لا سيما التهذيب الديني، الذي هو لب التعليم، وقوام التوجيه فيه.

وفي القصص القرآني تربة خصبة تساعد المربين على النجاح في مهمتهم، وتمدهم بزاد تهذيبي، من سيرة النبيين، وأخبار الماضين وسُنة الله في حياة المجتمعات، وأحوال الأمم. ولا تقول في ذلك إلا حقًّا وصدقًا. ويستطيع المربي أن يصوغ القصة القرآنية بالأسلوب الذي يلائم المستوى الفكري للمتعلمين، في كل مرحلة من مراحل التعليم. وقد نجحت مجموعة القصص الديني للأستاذين "سيد قطب، والسحار" في تقديم زاد مفيد نافع لصغارنا نجاحًا معدوم النظير، كما قدم "الجارم" القصص القرآني في أسلوب أدبي بليغ أعلى مستوى، وأكثر تحليلًا وعمقًا، وحبذا لو نهج آخرون هذا النهج التربوي السديد.

ترجمة القرآن

ترجمة القرآن مدخل ... 22- ترجمة القرآن: يتوقف نجاح الدعوة إلى حد كبير على التقارب بين الداعية وأمته. فالداعية الذي ينبت من صميم البيئة يكون على دراية كاملة بمسالك الغواية ودروب الجهالة التي يغشاها قومه. يعرف نفوسهم والأبواب التي يطرقها منها حتى تتفتح لتعاليم دعوته، وتهتدي بهداها، والتخاطب بينهما بلسان واحد رمز للتجانس الاجتماعي في جميع صوره، وفي هذا يقول الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} 1. وقد نزل القرآن الكريم على الرسول العربي بلسان عربي مبين، فكانت هذه الظاهرة ضرورة اجتماعية لنجاح رسالة الإسلام، ومنذ ذلك الحين أصبحت اللغة العربية جزءًا من كيان الإسلام، وأساسًا للتخاطب في إبلاغ دعوته. وكانت بعثة رسولنا -صلى الله عليه وسلم- إلى الإنسانية كلها. وأعلن ذلك القرآن في غير موضع: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} 2. {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً} 3. ونشأت نواة الدولة الإسلامية في جزيرة العرب، ولا شك أن اللغة تحيا بحياة أمتها وتموت بموتها، فكانت نشأة الدولة الإسلامية على هذا النحو حياة للغة العرب، فالقرآن وحي الإسلام، والإسلام دين الله المفروض، ولن يتأتى معرفة أصوله وأسسه إلا إذا فُهِمَ القرآن بلغته، فأخذت موجة الفتح الإسلامي تمتد إلى الألسنة الأخرى الأعجمية، فتعربها بالإسلام، وصار لزامًا على كل

_ 1 إبراهيم: 4. 2 الأعراف: 158. 3 سبأ: 28.

من يدخل في حوزة هذا الدين الجديد أن يستجيب له في لغة كتابه باطنًا وظاهرًا، حتى يستطيع القيام بواجباته، ولم يكن هناك حاجة إلى ترجمة القرآن له ما دام القرآن قد ترجم لسانه وعربه إيمانًا وتسليمًا.

معنى الترجمة

معنى الترجمة: والترجمة تطلق على معنيين: أولهما: الترجمة الحرفية: وهي نقل ألفاظ من لغة إلى نظائرها من اللغة الأخرى بحيث يكون النظم موافقًا للنظم، والترتيب موافقًا للترتيب. ثانيهما: الترجمة التفسيرية أو المعنوية: وهي بيان معنى الكلام بلغة أخرى من غير تقييد بترتيب كلمات الأصل أو مراعاة لنظمه. والذين على بصر باللغات يعرفون أن الترجمة الحرفية بالمعنى المذكور لا يمكن حصولها مع المحافظة على سياق الأصل والإحاطة بجميع معناه. فإن خواص كل لغة تختلف عن الأخرى في ترتيب أجزاء الجملة. فالجملة الفعلية في اللغة العربية تبدأ بالفعل فالفاعل في الاستفهام وغيره، والمضاف مقدم على المضاف إليه، والموصوف مقدم على الصفة، إلا إذا أريد الإضافة على وجه التشبيه مثلًا: كـ "لجين الماء"، أو كان الكلام من إضافة الصفة إلى معمولها: كـ "عظيم الأمل" وليس الشأن كذلك في سائر اللغات. والتعبير العربي يحمل في طياته من أسرار اللغة ما لا يمكن أن يحل محله تعبير آخر بلغة أخرى، فإن الألفاظ في الترجمة لا تكون متساوية المعنى من كل وجه فضلًا عن التراكيب. والقرآن الكريم في قمة العربية فصاحة وبلاغة، وله من خواص التراكيب وأسرار الأساليب ولطائف المعاني، وسائر آيات إعجازه ما لا يستقل بأدائه لسان.

حكم الترجمة الحرفية

حكم الترجمة الحرفية: ولهذا لا يجد المرء أدنى شبهة في حرمة ترجمة القرآن ترجمة حرفية. فالقرآن كلام الله المنزل على رسوله المُعْجز بألفاظه ومعانيه المتعبد بتلاوته، ولا يقول أحد من الناس إن الكلمة من القرآن إذا ترجمت يقال فيها إنها كلام الله، فإن الله لم يتكلم إلا بما تتلوه بالعربية، ولن يتأتى الإعجاز بالترجمة؛ لأن الإعجاز خاص بما أنزل باللغة العربية - والذي يتعبد بتلاوته هو ذلك القرآن العربي المبين بألفاظه وحروفه وترتيب كلماته. فترجمة القرآن الحرفية على هذا مهما كان المترجم على دراية باللغات وأساليبها وتراكيبها تخرج القرآن عن أن يكون قرآنًا.

الترجمة المعنوية

الترجمة المعنوية مدخل ... الترجمة المعنوية: القرآن الكريم -وكذا كل كلام عربي بليغ- له معان أصليه، ومعان ثانوية. والمراد بالمعاني الأصلية المعاني التي يستوي في فهمها كل من عرف مدلولات الألفاظ المفردة وعرف وجوه تراكيبها معرفة إجمالية. والمراد بالمعاني الثانوية خواص النظم التي يرتفع بها شأن الكلام، وبها كان القرآن معجزًا. فالمعنى الأصلي لبعض الآيات قد يوافق فيه منثور كلام العرب أو منظومه، ولا تمس هذه الموافقة إعجاز القرآن، فإن إعجازه ببديع نظمه وروعة بيانه، أي بالمعنى الثانوي. وإياه عني الزمخشري في كشافه بقوله: "إن في كلام العرب -خصوصًا القرآن- من لطائف المعاني ما لا يستقل بأدائه لسان".

حكم الترجمة المعنوية

حكم الترجمة المعنوية: وترجمة معاني القرآن الثانوية أمر غير ميسور، إذ إنه لا توجد لغة توافق اللغة العربية في دلالة ألفاظها على هذه المعاني المسماة عند علماء البيان خواص التراكيب، وذلك ما لا يسهل على أحد ادعاؤه. وهو ما يقصده الزمخشري من عبارته السابقة. فوجوه البلاغة القرآنية في اللفظ أو التركيب. تنكيرًا وتعريفًا، أو تقديمًا وتأخيرًا، أو ذِِكرًا وحذفًا، إلى غير ذلك مما تسامت به لغة القرآن، وكان له وقعه في النفوس - هذه الوجوه في بلاغة القرآن لا يفي بحقها في أداء معناها لغة أخرى، لأي أي لغة لا تحمل تلك الخواص. أما المعاني الأصلية فهي التي يمكن نقلها إلى لغة أخرى. وقد ذكر الشاطبي في الموافقات المعاني الأصلية والمعاني الثانوية ثم قال: "إن ترجمة القرآن على الوجه الأول -يعني النظر إلى معانيه الأصلية- ممكن، ومن جهته صح تفسير القرآن وبيان معانيه للعامة ومن ليس لهم فهم يقوى على تحصيل معانيه. وكان ذلك جائزًا باتفاق أهل الإسلام، فصار هذا الإنفاق حجة في صحة الترجمة على المعنى الأصلي". ومع هذا فإن ترجمة المعاني الأصلية لا تخلو من فساد، فإن اللفظ الواحد في القرآن قد يكون له معنيان أو معان تحتملها الآية فيضع المترجم لفظًا يدل على معنى واحد حيث لا يجد لفظًا يشاكل اللفظ العربي في احتمال تلك المعاني المتعددة. وقد يستعمل القرآن اللفظ في معنى مجازي فيأتي المترجم بلفظ يرادف اللفظ العربي في معناه الحقيقي. ولهذا ونحوه وقعت أخطاء كثيرة فيما تُرجم لمعاني القرآن. وما ذهب إليه الشاطبي واعتبره حجة في صحة الترجمة على المعنى الأصلي ليس على إطلاقه. فإن بعض العلماء يخص هذا بمقدار الضرورة في إبلاغ الدعوة. بالتوحيد وأركان العبادات، ولا يتعرض لما سوى ذلك، ويؤمر من أراد الزيادة بتعلم اللسان العربي.

الترجمة التفسيرية

الترجمة التفسيرية: ويحق لنا أن نقول: إن علماء الإسلام إذا قاموا بتفسير للقرآن، يتوخى فيه أداء المعنى القريب الميسور الراجح، ثم يترجم هذا التفسير بأمانة وبراعة، فإن هذا يقال فيه: "ترجمة تفسير القرآن" أو "ترجمة تفسيرية" بمعنى شرح الكلام وبيان معناه بلغة أخرى. ولا بأس بذلك. فإن الله تعالى بعث محمدًا -صلى الله عليه وسلم- برسالة الإسلام إلى البشرية كافة على اختلاف أجناسها وألوانها: "وكان النبي يُبعث إلى قومه خاصة وبُعثت إلى الناس كافة" 1, وشرط لزوم الرسالة البلاغ - والقرآن الذي نزل بلغة العرب صار إبلاغه للأمة العربية ملزمًا لها، ولكن سائر الأمم التي لا تُحسن العربية، أو لا تعرفها يتوقف إبلاغها الدعوة على ترجمتها بلسانها. وقد عرفنا قبل استحالة الترجمة الحرفية وحرمتها. واستحالة ترجمة المعاني الثانوية، ومشقة ترجمة المعاني الأصلية وما فيها من أخطار، فلم يبق إلا أن يترجم تفسير القرآن الذي يتضمن أسس دعوته بما يتفق مع نصوص الكتاب وصريح السٌّنَّة إلى لسان كل قبيل حتى تبلغهم الدعوة وتلزمهم الحجة. وترجمة تفسير للقرآن على نحو ما ذكرنا يصح أن نسميها بالترجمة التفسيرية. وهي تختلف عن الترجمة المعنوية وإن كان الباحثون لا يفرقون بينهما، فإن الترجمة المعنوية توهم أن المترجم أخذ معاني القرآن من أطرافها ونقلها إلى اللغة الأجنبية، كما يقال في ترجمة غيره: ترجمة طبق الأصل. فالمفسِّر يتكلم بلهجة المبيِّن لمعنى الكلام على حسب فهمه، فكأنه يقول للناس: هذا ما أفهمه من الآية، والمترجم يتكلم بلهجة من أحاط بمعنى الكلام وصبَّه في ألفاظ لغة أخرى. وشتان بين الأمرين. فالمفسِّر يقول في تفسير الآية: يعني كذا، ويذكر فهمه الخاص. والمترجم يقول: معنى هذا الكلام هو عين معنى الآية، وقد عرفنا ما في ذلك. وينبغي أن يؤكَّد في الترجمة التفسيرية أنها ترجمة لفهم شخصي خاص، لا تتضمن وجوه التأويل المحتملة لمعاني القرآن، وإنما تتضمن ما أدركه المفسر

_ 1 من حديث: "أعطيت خمسًا لم يعطهن أحد قبلي ... ". في الصحيحين وغيرهما.

منها، وبهذا تكون ترجمة للعقيدة الإسلامية ومبادئ الشريعة كما تُفهم من القرآن. وإذا كان إبلاغ الدعوة من واجبات الإسلام فإن ما يتوقف على هذا البلاغ من دراسة اللغات ونقل أصول الإسلام إليها واجب كذلك. كما أن معرفتنا لهذه اللغات بالقدر الضروري تمكننا من دراسة كتبها للرد على المبشرين والمستشرقين الذين غمزوا عود الإسلام من بعيد أو قريب، وهذا هو ما عناه شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه "العقل والنقل" عندما قال: "وأما مخاطبة أهل الاصطلاح باصطلاحهم ولغتهم فليس بمكروه إذا احتيج إلى ذلك، وكانت المعاني صحيحة - كمخاطبة العجم من الروم والفرس والترك بلغتهم وعرفهم، فإن هذا جائز حسن للحاجة، وإنما كرهه الأئمة إذا لم يحتج إليه" ثم قال: "ولذلك يترجم القرآن والحديث لمن يحتاج إلى تفهمه إياه بالترجمة، وكذلك يقرأ المسلم ما يحتاج إليه من كتب الأمم وكلامهم بلغتهم، ويترجم بالعربية، كما أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- زيد بن ثابت أن يتعلم كتاب اليهود ليقرأ له ويكتب له ذلك. حيث لم يأتمن اليهود عليه". وإذا كانت الترجمة بمعناها الحقيقي ولو للمعاني الأصلية لا تتيسر في جميع آيات القرآن. وإنما المتيسر الترجمة على معنى التفسير, كان من الضروري إشعار القارئ بذلك، ومن وسائله كتابة جمل في حواشي الصحائف يبيِّن بها أن هذا أحد وجوه -أو أرجح وجوه- تحتملها الآية "ولو قامت جماعة ذات نيات صالحة وعقول راجحة. وتولت نقل تفسير القرآن إلى بعض اللغات الأجنبية، وهي على بينة من مقاصده - وعلى رسوخ في معرفة تلك اللغات، وتحامت الوجوه التي دخل منها الخلل في التراجم السائرة اليوم في أوروبا لفتحت لدعوة الحق سبيلًا كانت مقفلة. ونشرت الحنيفية السمحة في بلاد طافحة بالغواية قاتمة"1.

_ 1 "بلاغة القرآن" ص21.

القراءة في الصلاة بغير العربية

القراءة في الصلاة بغير العربية مدخل ... القراءة في الصلاة بغير العربية: يختلف العلماء في القراءة في الصلاة بغير العربية إلى مذهبين: أحدهما: الجواز مطلقًا أو عند العجز عن النطق بالعربية. وثانيهما: أن ذلك محظور، والصلاة بهذه القراءة غير صحيحة. والمذهب الأول هو مذهب الأحناف، فإنه يُروى عن أبي حنيفة أنه كان يرى جواز القراءة في الصلاة باللغة الفارسية، وبنى على هذا بعض أصحابه جوازها بالتركية والهندية وغيرها من الألسنة، ولعلهم يرون في ذلك أن القرآن اسم للمعاني التي تدل عليها الألفاظ العربية. والمعاني لا تختلف باختلاف ما قد يتعاقب عليها من الألفاظ واللغات. وقيد الصاحبان: أبو يوسف ومحمد بن الحسن. هذا بما تدعو إليه الضرورة. فأجازا للعاجز عن العربية القراءة في الصلاة باللسان الأعجمي دون القادر على القراءة بها، قال في "معراج الدراية": "إنما جوزنا القراءة بترجمة القرآن للعاجز إذا لم يخل بالمعنى؛ لأنه قرآن من وجه باعتبار اشتماله على المعنى، فالإتيان به أولى من الترك مطلقًا، إذ التكليف بحسب الوسع". ويُروى أن أبا حنيفة رجع عن الإطلاق الذي نُقِل عنه. والمذهب الثاني هو ما عليه الجمهور، فقد منع المالكية والشافعية والحنابلة القراءة بترجمة القرآن في الصلاة، سواء أكان المصلي قادرًا على العربية أم عاجزًا؛ لأن ترجمة القرآن ليست قرآنًا، إذ القرآن هو النظم المُعجز الذي هو كلام الله، والذي وصفه تعالى بكونه عربيًّا، وبالترجمة يزول الإعجاز، وليست الترجمة كلام الله. قال القاضي أبو بكر بن العربي –وهو من فقهاء المالكية- في تفسير قوله تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} 1. قال علماؤنا: هذا يُبطل قول أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه،

_ 1 فصلت: 44.

إن ترجمة القرآن بإبدال اللغة العربية منه بالفارسية جائز؛ لأن الله تعالى قال: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيّ} ؟ نفى أن يكون للعجمة إليه طريق - فكيف يُصرف إلى ما نفى الله عنه؟ ثم قال: إن التبيان والإعجاز إنما يكون بلغة العرب، فلو قُلب إلى غير هذا لما كان قرآنًا ولا بيانًا ولا اقتضى إعجازًا". وقال الحافظ ابن حجر –وهو من فقهاء الشافعية- في "فتح الباري": "إن كان القارئ قادرًا على تلاوته باللسان العربي فلا يجوز له العدول عنه، ولا تُجزئ صلاته –أي بقراءة ترجمته- وإن كان عاجزًا" ثم ذكر أن الشارع قد جعل للعاجز عن القراءة بالعربية بدلًا وهو الذِّكر. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية –وهو من فقهاء الحنابلة- وإن كانت له اجتهاداته -: "وأما الإتيان بلفظ يبيِّن المعنى كبيان لفظ القرآن فهذا غير ممكن أصلًا، ولهذا كان أئمة الدين على أنه لا يجوز أن يُقرأ بغير العربية، لا مع القدرة عليها ولا مع العجز عنها؛ لأن ذلك يخرجه عن أن يكون هو القرآن المنزل"1. ويقول ابن تيمية في كتاب "اقتضاء الصراط المستقيم" عند الحديث عن اختلاف الفقهاء في أذكار الصلاة، أتقال بغير العربية أم لا؟: "فأما القرآن فلا يقرؤه بغير العربية سواء قدر عليها أو لم يقدر عند الجمهور، وهذا هو الصواب الذي لا ريب فيه، بل قد قال غير واحد أنه يمتنع أن يترجم سورة أو مما يقوم به الإعجاز" وقد خص السورة أو ما يقوم به الإعجاز إشارة إلى أقل ما وقع به التحدي. والدين يوجب على معتنقيه تعلم العربية؛ لأنها لغة القرآن ومفتاح فهمه. قال ابن تيمية كذلك في "الاقتضاء": "وأيضًا فإن نفس اللغة العربية من الدين

_ 1 "بلاغة القرآن" ص15.

- ومعرفتها فرض واجب، فإن فهم الكتاب والسٌّنَّة فرض، ولا يفهمان إلا بفهم اللغة العربية، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب". أما اختلاف الأحناف في جواز الصلاة بترجمة القرآن، فالمجيزون يرون إباحة هذا عند العجز على أنه رخصة، وهم متفقون على أن الترجمة لا تسمى قرآنًا، فهي لمجرد الإجزاء في الصلاة، ومثلها مثل ذِكر الله عند غير الحنفية. والذكر في الصلاة مُخْتَلَف فيه، سواء أكان واجبًا كتكبيرة الإحرام أم غير واجب؟ فقد منع ترجمة الأذكار الواجبة مالك وإسحاق وأحمد في أصح الروايتين. وأباحها أبو يوسف ومحمد والشافعي، وسائر الأذكار لا تترجم عند مالك وإسحاق وبعض أصحاب الشافعي، ومتى فصل بالترجمة بطلت صلاته" ونص الشافعي على الكراهة وهو قول أصحاب أحمد إذا لم يحسن العربية.

قوة الأمة الإسلامية هي سبيل انتصار الإسلام وسيادة لغة القرآن

قوة الأمة الإسلامية هي سبيل انتصار الإسلام وسيادة لغة القرآن: وننتهي من هذا البحث إلى أن القرآن لا يمكن ولا يجوز أن يترجم ترجمة حرفية، وأن ترجمة المعاني الأصلية وإن كانت ممكنة في بعض الآيات الواضحة المعنى فإنها لا تخلو من فساد. وأن ترجمة المعاني الثانوية غير ممكنة؛ لأن وجوه البلاغة القرآنية لا تؤديها ألفاظ بأي لغة أخرى. بقي أن يُفسر القرآن، وأن يُترجم تفسيره لإبلاغ دعوته. قال القفال -من كبار علماء الشافعية-: "عندي أنه لا يقدر أحد على أن يأتي بالقرآن بالفارسية. قيل له: فإذن لا يقدر أحد أن يُفسِّر القرآن، قال: ليس كذلك؛ لأنه هناك يجوز أن يأتي ببعض مراد الله ويعجز عن بعضه، أما إذا أراد أن يقرأها بالفارسية فلا يمكن أن يأتي بجميع مراد الله".

وترجمة التفسير تكون ضرورة بقدر الحاجة إلى إبلاغ دعوة الإسلام إلى الشعوب غير الإسلامية، قال الحافظ ابن حجر: "فمن دخل الإسلام أو أراد الدخول فيه فقرئ عليه القرآن فلم يفهمه فلا بأس أن يُعرَّب له لتعريف أحكامه. أو لتقوم عليه الحجة فيدخل فيه"1. ولقد كان المسلمون فيما سَلَف يقتحمون للسيادة كل وعر ويركبون لإظهار دين الله كل خطر، ويلبسون من برود البطولة والعدل وكرم الأخلاق ما يملأ عيون مخالفيهم مهابة وإكبارًا، وكانت اللغة العربية تجر رداءها أينما رفعوا رايتهم، وتنتشر في كل واد وطئته أقدامهم، فلم يشعروا في دعوتهم إلى الإسلام بالحاجة إلى نقل معاني القرآن إلى اللغات الأجنبية، وربما كان عدم نقلها إلى غير العربية وهم في تلك العزة والسلطان من أسباب إقبال غير العرب على معرفة لسان العرب، حتى صارت أوطان أعجمية إلى النطق بالعربية"2. والظاهرة التي نشاهدها الآن في ضرورة تعلم اللغات الأجنبية للأمة العربية حتى تتمكن من إرسال بعثاتها العلمية إلى جامعات الدول الأخرى، أو دراسة أمهات الكتب للعلوم الكونية في جامعاتها؛ لأنها بلغة أجنبية لمؤلفين أجانب - هذه الظاهرة دعت إليها الحاجة إلى العلم والثقافة، ونحن نراها تنشر سيطرتها على تفكير الكثير وتحدد اتجاهه في الحياة، وتصل إلى درجة الولوع بها والشغف والتوسع في فنونها، وقد كان لها الأثر البالغ في الأخلاق والعادات والتقاليد مما جعل حياتنا العامة في شتى صورها تخرج عن سَمت الإسلام وطابع فضائله، ولم تكن الأمم الأخرى في حاجة إلى ترجمة كتبها إلى اللغة العربية لما لها من المكانة العلمية فلو ظلت دولة الإسلام في طريق نهضتها الأولى علمًا وثقافة وسياسة وخُلُقًا وقوة وسلطانًا ومهابة لرمقها العالَم من جميع أطراف

_ 1 "فتح الباري" باب: ما يجوز من تفسير التوراة وكتب الله بالعربية. 2 "بلاغة القرآن" ص18.

المعمورة، وتطلع إلى دراسة اللغة العربية لينهل من معين نتاج الإسلام الفكري، ويروي ظمأه من معارفه، ويستظل بسلطانه، ويحتمي في سيادته، ولرأى في هذا حاجته بمثل ما نرى نحن اليوم حاجتنا إلى لغته. فالحديث عن ترجمة القرآن من مظاهر ضعف دولته، وحري بنا أن يتجه نظرنا إلى بذل جهودنا في تكوين دولة القرآن وتوطيد دعائم نهضتها على أساس من الإيمان والعلم والمعرفة، فهي وحدها الكفيلة بالسيطرة الروحية على أجناس البشر وتعريب ألسنتهم. وإذا كان الإسلام هو دين الإنسانية كافة، فالشأن في لغته حين نعمل على تحقيق ما كتبه الله له ولأمته من العزة أن تكون كذلك.

التفسير والتأويل

التفسير والتأويل مدخل ... 23- التفسير والتأويل: القرآن الكريم هو مصدر التشريع الأول للأمة المحمدية، وعلى فقه معناه ومعرفة أسراره والعمل بما فيه تتوقف سعادتها. ولا يستوي الناس جميعًا في فهم ألفاظه وعباراته مع وضوح بيانه وتفصيل آياته، فإن تفاوت الإدراك بينهم أمر لا مراء فيه فالعامي يدرك من المعاني ظاهرها ومن الآيات مجملها، والذكي المتعلم يستخرج منها المعنى الرائع. وبين هذا وذاك مراتب فهم شتى، فلا غرو أن يجد القرآن من أبناء أمته اهتمامًا بالغًا في الدراسة لتفسير غريب، أو تأويل تركيب.

معنى التفسير والتأويل

معنى التفسير والتأويل: التفسير في اللغة: تفعيل من الفَسر بمعنى الإبانة والكشف وإظهار المعنى المعقول، وفعله: كضرب ونصر، يقال: فسر الشيء يفسر بالكسر ويفسره بالضم فسرًا، وفسره: أبانه، والتفسير والفسر: الإبانة وكشف المغطى، وفي لسان العرب: الفسر كشف المغطى. والتفسير كشف المراد عن اللفظ المشكل. وفي القرآن: {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} 1, أي بيانًا وتفصيلًا والمزيد من الفعلين أكثر في الاستعمال. وقال ابن عباس في قوله تعالى: {وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} أي تفصيلًا. وقال بعضهم: هو مقلوب من "سفر" ومعناه أيضًا: الكشف، يقال: سفرت المرأة سفورًا: إذا ألقت خمارها عن وجهها، وهي سافرة، وأسفر الصبح:

_ 1 الفرقان: 33.

أضاء, وإنما بنوه على التفعيل؛ لأنه للتكثير، كقوله تعالى: {يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ} 1، وقوله: {وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ} 2, فكأنه يتبع سورة بعد سورة، وآية بعد آية. وقال الراغب: الفسر والسفر يتقارب معناهما كتقارب لفظيهما، لكل جُعِل الفسر لإظهار المعنى المعقول، وجُعل السفر لإبراز الأعيان للأبصار، فقيل: سفرت المرأة عن وجهها، وأسفر الصبح. والتفسير في الاصطلاح: عرَّفه أبو حيان بأنه: "علم يبحث عن كيفية النطق بألفاظ القرآن، ومدلولاتها، وأحكامها الإفرادية والتركيبية، ومعانيها التي تُحمل عليها حالة التركيب وتتمات لذلك". ثم خرَّج التعريف فقال: فقولنا: "علم"، هو جنس يشمل سائر العلوم، وقولنا: "يبحث فيه عن كيفية النطق بألفاظ القرآن"، هذا هو علم القراءات، وقولنا: "ومدلولاتها" أي مدلولات تلك الألفاظ، وهذا هو علم اللغة الذي يُحتاج إليه في هذا العلم، وقولنا: "وأحكامها الإفرادية والتركيبية"، هذا يشمل علم التصريف وعلم الإعراب، وعلم البيان، وعلم البديع، وقولنا: "ومعانيها التي تُحمل عليها حالة التركيب"، يشمل ما دلالته عليه بالحقيقة، وما دلالته عليه بالمجاز، فإن التركيب قد يقتضي بظاهره شيئًا ويصد عن الحمل على الظاهر صاد فيحتاج لأجل ذلك أن يعمل على غير الظاهر، وهو المجاز، وقولنا: "وتتمات لذلك". هو معرفة النسخ وسبب النزول، وقصة توضيح بعض ما انبهم في القرآن ونحو ذلك. وقال الزركشي: التفسير: علم يُفهم به كتاب الله المنزل على نبيه محمد, صلى الله عليه وسلم: وبيان معانيه، واستخراج أحكامه وحكمه3.

_ 1 البقرة: 49. 2 يوسف: 23. 3 "الإتقان" جـ2 ص174.

والتأويل في اللغة: مأخوذ من الأول، وهو الرجوع إلى الأصل، يقال: آل إليه أولًا ومآلًا: رجع.. ويقال: أوَّل الكلام تأويلًَا وتأوَّله: دبره وقدَّره وفسَّره وعلى هذا: فتأويل الكلام في الاصطلاح له معنيان: 1- تأويل الكلام: بمعنى ما أوَّله إليه المتكلم أو ما يؤوَّل إليه الكلام ويرجع، والكلام إنما يرجع ويعود إلى حقيقته التي هي عين المقصود. وهو نوعان: إنشاء وإخبار, ومن الإنشاء: الأمر. فتأويل الأمر: هو الفعل المأمور به، ومن ذلك ما رُوِي عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي، يتأوَّل القرآن"1. تعني قوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} 2. وتأويل الأخبار: هو عين المخبر إذا وقع. كقوله تعالى: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ، هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} 3, فقد أخبر أنه فصَّل الكتاب، وأنهم لا ينتظرون إلا تأويله، أي مجيء ما أخبر القرآن بوقوعه من القيامة وأشراطها، وما في الآخرة من الصحف والموازين والجنة والنار وغير ذلك. فحينئذ يقولون: {قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} ؟ 2- تأويل الكلام: أي تفسيره وبيان معناه. وهو ما يعنيه ابن جرير الطبري في تفسيره بقوله: "القول في تأويل قوله تعالى كذا وكذا"، وبقوله: "اختلف أهل التأويل في هذه الآية" فإن مراده التفسير. ذلك هو معنى التأويل عند السلف.

_ 1 رواه البخاري ومسلم. 2 النصر: 3. 3 الأعراف: 52، 53.

والتأويل في عرف المتأخرين: هو صرف اللفظ عن المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح لدليل يقترن به - وهذا الاصطلاح لا يتفق مع ما يُراد بلفظ التأويل في القرآن عند السَّلف. هذا ومن العلماء من يفرق بين المعنى، والتفسير، والتأويل، للتفاوت بينها لغة وإن كانت متقاربة، وقد نقل "الزركشي" هذا1. قال ابن فارس: معاني العبارات التي يعبر بها عن الأشياء ترجع إلى ثلاثة: المعنى، والتفسير, والتأويل، وهي وإن اختلفت فالمقاصد بها متقاربة: فأما المعنى: فهو القصد والمراد، يقال: عنيت بهذا الكلام كذا، أي قصدت وعمدت، وهو مشتق من الإظهار، يقال: عنت القِربة، إذا لم تحفظ الماء بل أظهرته، ومن هذا: عنوان الكتاب. وأما التفسير في اللغة: فهو راجع إلى معنى الإظهار والكشف. وقال ابن الأنباري: قول العرب: فسرت الدابة وفسرتها، إذا ركضتها محصورة لينطلق حصرها، وهو يؤول إلى الكشف أيضًا. فالتفسير كشف المغلق من المراد بلفظه، وإطلاق للمحتبس عن الفهم به. وأما التأويل: فأصله في اللغة من الأول، ومعنى قولهم: ما تأويل هذا الكلام؟ أي إلام تؤول العاقبة في المراد به؟ كقوله تعالى: {يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ} 2, أي تُكشف عاقبته، ويقال: آل الأمر إلى كذا، أي صار إليه، وقال تعالى: {ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً} 3, وأصله من المآل, وهو العاقبة والمصير, وقد أولته فآل- أي صرفته فانصرف فكأن التأويل صرف الآية إلى ما تحتمله من المعاني. وإنما بنوه على التفعيل للتكثير.

_ 1 انظر "البرهان" جـ2 ص146 بتصرف. 2 الأعراف: 53. 3 الكهف: 82.

الفرق بين التفسير والتأويل

الفرق بين التفسير والتأويل: اختلف العلماء في الفرق بين التفسير والتأويل وعلى ضوء ما سبق في معنى التفسير والتأويل نستطيع أن نستخلص أهم الآراء فيما يأتي: 1- إذا قلنا: إن التأويل هو تفسير الكلام وبيان معناه, فالتأويل والتفسير على هذا متقاربان أو مترادفان، ومنه دعوة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لابن عباس: "اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل". 2- وإذا قلنا: إن التأويل هو نفس المراد بالكلام، فتأويل الطلب نفس الفعل المطلوب، وتأويل الخبر نفس الشيء المُخبر به، فعلى هذا يكون الفرق كبيرًا بين التفسير والتأويل؛ لأن التفسير شرح وإيضاح للكلام, ويكون وجوده في الذهن بتعقله، وفي اللسان بالعبارة الدالة عليه، أما التأويل فهو نفس الأمور الموجودة في الخارج، فإذا قيل: طلعت الشمس، فتأويل هذا هو نفس طلوعها، وهذا هو الغالب في لغة القرآن كما تقدم، قال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} 1. فالمراد بالتأويل وقوع المُخبر به. 3- وقيل: التفسير: ما وقع مبيَّنًا في كتاب الله أو مُعيَّنًا في صحيح السٌّنَّة؛ لأن معناه قد ظهر ووضح، والتأويل ما استنبطه العلماء، ولذا قال بعضهم: "التفسير ما يتعلق بالرواية, والتأويل ما يتعلق بالدراية"2. 4- وقيل: التفسير: أكثر ما يُستعمل في الألفاظ ومفرداتها، والتأويل: أكثر ما يُستعمل في المعاني والجُمل - وقيل غير ذلك.

_ 1 يونس: 38، 39. 2 انظر "الإتقان" جـ2 ص173.

شرف التفسير

شرف التفسير: والتفسير من أجلِّ علوم الشريعة وأرفعها قدرًا، وهو أشرف العلوم موضوعًا وغرضًا وحاجة إليه لأن موضوعه كلام الله تعالى الذي هو ينبوع كل حكمة. ومعدن كل فضيلة ولأن الغرض منه هو الاعتصام بالعروة الوثقى والوصول إلى السعادة الحقيقية وإنما اشتدت الحاجة إليه؛ لأن كل كمال ديني أو دنيوي لا بد وأن يكون موافقًا للشرع، وموافقته على العلم بكتاب الله1.

_ 1 انظر "الإتقان" جـ2 ص175.

شروط المفسر وآدابه

شروط المفسر وآدابه مدخل ... 24- شروط المفسِّر وآدابه: البحث العلمي النزيه أساس المعرفة الحقة التي تعود على طلابها بالنفع، وثمرته من أشهى الأكل لغذاء الفكر وتنمية العقل، ولذلك فإن تهيؤ أسبابه لأي باحث أمر له اعتباره في نضج ثماره ودنو قطوفه، والبحث في العلوم الشرعية عامة وفي التفسير خاصة من أهم ما يجب الاعتناء به والتعرف على شروطه وآدابه، حتى يصفو مشربه، ويحفظ روعة الوحي وجلاله.

شروط المفسر

شروط المفسِّر: وقد ذكر العلماء للمفسر شروطًا نجملها فيما يأتي: 1- صحة الاعتقاد: فإن العقيدة لها أثرها في نفس صاحبها، وكثيرًا ما تحمل ذويها على تحريف النصوص والخيانة في نقل الأخبار، فإذا صنف أحدهم كتابًا في التفسير أوَّل الآيات التي تخالف عقيدته، وحمَّلها باطل مذهبه، ليصد الناس عن اتباع السلف، ولزوم طريق الهدى. 2- التجرد عن الهوى: فالأهواء تدفع أصحابها إلى نصرة مذهبهم، فيغرون الناس بلين الكلام ولحن البيان، كدأب طوائف القدرية والرافضة والمعتزلة ونحوهم من غلاة المذاهب. 3- أن يبدأ أولًا بتفسير القرآن بالقرآن، فما أُجمل منه في موضع فإنه قد فُصل في موضع آخر، وما اختُصر منه في مكان فإنه قد بُسط في مكان آخر. 4- أن يطلب التفسير من السٌّنَّة فإنها شارحة للقرآن موضحة له، وقد ذكر القرآن أن أحكام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إنما تصدر منه عن طريق الله: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} 1. وذكر الله

_ 1 النساء: 105.

أن السٌّنَّة مبيِّنة للكتاب: {بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} 1, ولهذا قال رسول الله, صلى الله عليه وسلم: "ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه" يعني السُّنة. وقال الشافعي, رضي الله عنه: "كل ما حكم به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فهو مما فهمه من القرآن" وأمثلة هذا في القرآن كثيرة - جمعها صاحب "الإتقان" مرتبة مع السور في آخر فصل من كتابه كتفسير "السبيل" بالزاد والراحة، وتفسير "الظلم" بالشرك، وتفسير "الحساب اليسير" بالعرض. 5- فإذا لم يجد التفسير من السٌّنَّة رجع إلى أقوال الصحابة فإنهم أدرى بذلك لما شاهدوه من القرائن والأحوال عند نزوله، ولما لهم من الفهم التام، والعلم الصحيح، والعمل الصالح. 6- فإذا لم يجد التفسير في القرآن ولا في السٌّنَّة ولا في أقوال الصحابة فقد رجع كثير من الأئمة في ذلك إلى أقوال التابعين، كمجاهد بن جبر، وسعيد بن جبير، وعكرمة مولى ابن عباس، وعطاء بن أبي رباح، والحسن البصري، ومسروق بن الأجدع، وسعيد بن المسيب، والربيع بن أنس، وقتادة والضحاك بن مزاحم، وغيرهم من التابعين، ومن التابعين من تلقى جميع التفسير عن الصحابة، وربما تكلموا في بعض ذلك بالاستنباط والاستدلال، والمعتمد في ذلك كله النقل الصحيح، ولهذا قال أحمد: "ثلاث كتب لا أصل لها: المغازي، والملاحم، والتفسير" يعني بهذا: التفسير الذي لا يعتمد على الروايات الصحيحة في النقل. 7- العلم باللغة العربية وفروعها: فإن القرآن نزل بلسان عربي، ويتوقف فهمه على شرح مفردات الألفاظ ومدلولاتها بحسب الوضع، قال مجاهد: "لا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يتكلم في كتاب الله إذا لم يكن عالِمًا بلغات العرب".

_ 1 النحل: 44.

والمعاني تختلف باختلاف الإعراب، ومن هنا مست الحاجة إلى اعتبار علم النحو. والتصريف الذي تُعرف به الأبنية، والكلمة المبهمة يتضح معناها بمصادرها ومشتقاتها. وخواص تركيب الكلام من جهة إفادتها المعنى، ومن حيث اختلافها بحسب وضوح الدلالة وخفائها. ثم من ناحية وجوه تحسين الكلام -وهي علوم البلاغة الثلاثة: المعاني والبيان والبديع- من أعظم أركان المفسِّر. إذ لا بد له من مراعاة ما يقتضيه الإعجاز، وإنما يُدرك الإعجاز بهذه العلوم. 8- العلم بأصول العلوم المتصلة بالقرآن، كعلم القراءات؛ لأن به يعرف كيفية النطق بالقرآن ويترجح بعض وجوه الاحتمال على بعض، وعلم التوحيد، حتى لا يؤول آيات الكتاب التي في حق الله وصفاته تأويلًا يتجاوز به الحق، وعلم الأصول، وأصول التفسير خاصة مع التعمق في أبوابه التي لا يتضح المعنى ولا يستقيم المراد بدونها، كمعرفة أسباب النزول، والناسخ والمنسوخ، ونحو ذلك. 9- دقة الفهم التي تمكن المفسر من ترجيح معنى على آخر، أو استنباط معنى يتفق مع نصوص الشريعة.

آداب المفسر

آداب المفسِّر: 1- حسن النية وصحة المقصد: فإنما الأعمال بالنيات، والعلوم الشرعية أولى بأن يكون هدف صاحبها منها الخير العام، وإسداء المعروف لصالح الإسلام، وأن يتطهر من أعراض الدنيا ليسدد الله خطاه، والانتفاع بالعلم ثمرة الإخلاص فيه. 2- حسن الخُلُق: فالمفسِّر في موقف المؤدِّب، ولا تبلغ الآداب مبلغها في النفس إلا إذا كان المؤدِّب مثالًا يُحتذى في الخُلُق والفضيلة، والكلمة النابية قد تصرف الطالب عن الاستفادة مما يسمع أو يقرأ وتقطع عليه مجرى تفكيره.

3- الامتثال والعمل: فإن العلم يجد قبولًا من العاملين أضعاف ما يجد من سمو معارفه ودقة مباحثه - وحسن السيرة يجعل المفسِّر قدوة حسنة لما يقرره من مسائل الدين، وكثيرًا ما يصد الناس عن تلقي العلم من بحر زاخر في المعرفة لسوء سلوكه وعدم تطبيقه. 4- تحري الصدق والضبط في النقل: فلا يتكلم أو يكتب إلا عن تثبت لما يرويه حتى يكون في مأمن من التصحيف واللَّحن. 5- التواضع ولين الجانب: فالصلف العلمي حاجز حصين يحول بين العالِم والانتفاع بعلمه. 6- عزة النفس: فمن حق العالِم أن يترفع عن سفاسف الأمور, ولا يغشى أعتاب الجاه والسلطان كالسائل المتكفف. 7- الجهر بالحق: فأفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر. 8- حسن السمت: الذي يُكسب المفسِّر هيبة ووقارًا في مظهره العام وجلوسه ووقوفه ومشيته دون تكلف. 9- الأناة والروية: فلا يسرد الكلام سردًا بل يفصِّله ويُبِين عن مخارج حروفه. 10- تقديم من هو أولى منه: فلا يتصدى للتفسير بحضرتهم وهم أحياء، ولا يغمطهم حقهم بعد الممات، بل يرشد إلى الأخذ عنهم وقراءة كتبهم. 11- حسن الإعداد وطريقة الأداء: كأن يبدأ بذكر سبب النزول - ثم معاني المفردات وشرح التراكيب وبيان وجوه البلاغة والإعراب الذي يتوقف عليه تحديد المعنى، ثم يبين المعنى العام ويصله بالحياة العامة التي يعيشها الناس في عصره، ثم يأتي إلى الاستنباط والأحكام. أما ذكر المناسبة والربط بين الآيات أولًا وآخرًا فذلك حسب ما يقتضيه النظم والسياق.

نشأة التفسير وتطوره

نشأة التفسير وتطوره مدخل ... 25- نشأة التفسير وتطوره: 1 جرت سُنة الله أن يرسل كل رسول بلسان قومه. ليتم تخاطبه معهم: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} 2, وأن يكون الكتاب الذي أنزل عليه بلسانه ولسانهم، وإذا كان لسان محمد -صلى الله عليه وسلم- عربيًّا فإن الكتاب الذي أنزل عليه يكون بلسان عربي، وبذلك نطق محكم التنزيل: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} 3. {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ، بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} 4. فألفاظ القرآن عربية، ووجوه المعاني في القرآن توافق وجوه المعاني عند العرب، وإذا كانت هناك ألفاظ قليلة تختلف فيها أنظار العلماء، أهي من لغات أخرى وعربت، أم هي عربية بحتة ولكنها مما تواردت عليها اللغات؟ فإن هذا لا يخرج القرآن عن أن يكون عربيًّا. والذي عليه المحققون أنها كلمات اتفقت فيها ألفاظ العرب مع ألفاظ غيرهم من بعض أجناس الأمم. وهذا هو ما رجحه جهبذ المفسرين ابن جرير الطبري5. فقد أورد ما رُوِي في ذلك كقوله تعالى: {يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ} 6, قيل: الكِفلان: ضعفان من الأجر بلسان الحبشة. وقوله: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ} 7, قيل: بلسان الحبشة إذا قام الرجل من الليل قالوا: نشأ. وقوله: {يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ} 8, قيل: سبحي بلسان الحبشة, وقوله: {فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} 9, قيل: الأسد بالحبشية. وقوله:

_ 1 راجع هذا البحث بالتفصيل في كتاب "التفسير والمفسرون" للأستاذ محمد حسين الذهبي. 2 إبراهيم: 4. 3 يوسف: 2. 4 الشعراء: 192-195. 5 "تفسير الطبري" جـ1 ص12. 6 الحديد: 28. 7 المزمل: 6. 8 سبأ: 10. 9 المدثر: 51.

{حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ} 1, قيل فارسية أعربت - أورد الطبري ما رُوِي في ذلك ثم بيَّن أن أحدًا لم يقل إن هذه الأحرف وما أشبهها لم تكن للعرب كلامًا، وإنما قال بعضهم: حرف كذا بلسان الحبشة معناه كذا، وحرف كذا بلسان العجم معناه كذا، وقد ظهر أن بعض الألفاظ اتفقت فيها الألسن المختلفة، كالدرهم والدينار والدواة والقلم والقرطاس، فأي مرجح يجعل اللفظ من لغة بعينها ثم نقل إلى اللغة الأخرى؟ فليس أحد الجنسين أولى بأن يكون أصل ذلك كان من عنده من الجنس ومدعي ذلك يدعي شيئًا بلا دليل.

_ 1 هود: 82، والحجر 74.

التفسر في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه

التفسر في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ... التفسير في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه: تكفل الله تعالى لرسوله بحفظ القرآن وبيانه: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ، فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} 1, فكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يفهم القرآن جملة وتفصيلًا. وكان عليه أن يبيِّنه لأصحابه: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} 2. وكان الصحابة -رضي الله عنهم- يفهمون القرآن كذلك؛ لأنه نزل بلغتهم. وإن كانوا لا يفهمون دقائقه، يقول ابن خلدون في مقدمته: "إن القرآن نزل بلغة العرب - وعلى أساليب بلاغتهم، فكانوا كلهم يفهمونه، ويعلمون معانيه في مفرداته وتراكيبه" ولكنهم مع هذا كانوا يتفاوتون في الفهم، فقد يغيب عن واحد منهم ما لا يغيب عن الآخر. أخرج أبو عبيد في الفضائل عن أنس: أن عمر بن الخطاب قرأ على المنبر: {وَفَاكِهَةً وَأَبّاً} 3, فقال: هذه الفاكهة قد عرفناها، فما الأب؟ ثم رجع إلى نفسه فقال: إن هذا لهو التكلف يا عمر"4.

_ 1 القيامة: 17-19. 2 النحل: 44. 3 عبس: 31. 4 "الإتقان" جـ2 ص113.

وأخرج أبو عبيد من طريق مجاهد عن ابن عباس قال: كنت لا أدري ما: {فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} حتى أتاني أعرابيان يتخاصمان في بئر، فقال أحدهما: أنا فطرتها، يقول: أنا ابتدأتها"1. ولذا قال ابن قتيبة: "إن العرب لا تستوي في المعرفة بجميع ما في القرآن من الغريب والمتشابه، بل إن بعضها يفضل في ذلك عن بعض"2. وكان الصحابة يعتمدون في تفسيرهم للقرآن بهذا العصر على: أولاً: القرآن الكريم: فما جاء مُجملًا في موضع جاء مبينًا في موضع آخر, تأتي الآية مطلقة أو عامة، ثم ينزل ما يقيدها أو يخصصها، وهذا هو الذي يسمى بتفسير القرآن بالقرآن ولهذا أمثلة كثيرة، فقصص القرآن جاء موجزًا في بعض المواضع ومسهبًا في مواضع أخرى، وقوله تعالى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} 3, فسره آية: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} 4، وقوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} 5, فسره آية: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} 6. ثانياً: النبي, صلى الله عليه وسلم: فهو المبيِّن للقرآن, وكان الصحابة يرجعون إليه إذا أشكل عليهم فهم آية من الآيات، عن ابن مسعود قال: لما نزلت هذه الآية: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} 7, شق ذلك على الناس فقالوا: يا رسول الله، وأينا لا يظلم نفسه؟ قال: "إنه ليس الذي تعنون، ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} إنما هو الشرك" 8. كما كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يبيِّن لهم ما يشاء عند الحاجة، عن عقبة بن عامر قال: "سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول وهو على المنبر: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} "ألا وإن القوة الرمي" 9.

_ 1 "الإتقان" جـ2 ص113. 2 "التفسير والمفسرون" جـ1 ص36. 3 المائدة: 1. 4 المائدة: 3. 5 الأنعام: 103. 6 القيامة: 23. 7 الأنعام: 82. 8 رواه أحمد والشيخان وغيرهم – [والآية من سورة لقمان: 13] . 9 أخرجه مسلم وغيره – [والآية من سورة الأنفال: 60] .

وعن أنس قال: قال رسول الله, صلى الله عليه وسلم: "الكوثر نهر أعطانيه ربي في الجنة" 1. وقد أفردت كتب السٌّنَّة بابًا للتفسير بالمأثور عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال الله تعالى: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} 2. ومن القرآن ما لا يُعلم تأويله إلا ببيان الرسول -صلى الله عليه وسلم- كتفصيل وجوه أمره ونهيه، ومقادير ما فرضه الله من أحكام، وهذا البيان هو المقصود بقوله, صلى الله عليه وسلم: "ألا وإني أوتيت الكتاب ومثله معه". ثالثًا- الفهم والاجتهاد: فكان الصحابة إذا لم يجدوا التفسير في كتاب الله تعالى، ولم يجدوا شيئًا في ذلك عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- اجتهدوا في الفهم، فإنهم من خُلَّص العرب، يعرفون العربية، ويُحسنون فهمها، ويعرفون وجوه البلاغة فيها. واشتهر بالتفسير من الصحابة جماعة منهم: الخلفاء الأربعة، وابن مسعود، وابن عباس، وأُبَيُّ بن كعب، وزيد بن ثابت، وأبو موسى الأشعري، وعبد الله بن الزبير، وأنس بن مالك، وعبد الله بن عمر، وجابر بن عبد الله، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وعائشة، على تفاوت فيما بينهم قلة وكثرة، وهناك روايات منسوبة إلى هؤلاء وغيرهم في مواضع متعددة من تفسير القرآن بالمأثور تتفاوت درجتها من حيث السند. صحة وضعفًا. ولا شك أن التفسير بالمأثور عن الصحابة له قيمته، وذهب جمهور العلماء إلى أن تفسير الصحابي له حكم المرفوع إذا كان مما يرجع إلى أسباب النزول وكل ما ليس للرأي فيه مجال. أما ما يكون للرأي فيه مجال فهو موقوف عليه ما دام لم يُسنِده إلى رسول الله, صلى الله عليه وسلم.

_ 1 أخرجه أحمد ومسلم. 2 النحل: 64.

والموقوف على الصحابي من التفسير يوجب بعض العلماء الأخذ به؛ لأنهم أهل اللسان، ولما شاهدوه من القرائن والأحوال التي اختُصوا بها، ولما لهم من الفهم الصحيح. قال الزركشي في "البرهان": "اعلم أن القرآن قسمان: قسم ورد تفسيره بالنقل، وقسم لم يرد، والأول: إما أن يرد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أو الصحابة، أو رءوس التابعين - فالأول يُبحث فيه عن صحة السند، والثاني يُنظر في تفسير الصحابي، فإن فسَّره من حيث اللغة فَهُم أهل اللسان، فلا شك في اعتماده. أو بما شاهدوه من الأسباب والقرائن فلا شك فيه"1. وقال الحافظ ابن كثير في مقدمة تفسيره: "وحينئذ إذا لم نجد التفسير في القرآن ولا في السٌّنَّة رجعنا في ذلك إلى أقوال الصحابة، فإنهم أدرى بذلك لما شاهدوه من القرائن والأحوال التي اختُصوا بها، ولما لهم من الفهم التام والعلم الصحيح والعمل الصالح ولا سيما علماؤهم وكبراؤهم كالأئمة الأربعة، والخلفاء الراشدين، والأئمة المهتدين المهديين، وعبد الله بن مسعود, رضي الله عنهم"2. ولم يدون شيء من التفسير في هذا العصر؛ لأن التدوين لم يكن إلا في القرن الثاني، وكان التفسير فرعًا من الحديث، ولم يتخذ شكلًا منظمًا بل كانت هذه التفسيرات تُرْوى منثورة لآيات متفرقة. من غير ترتيب وتسلسل لآيات القرآن وسوره كما لا تشمل القرآن كله.

_ 1 "الإتقان" جـ2 ص183. 2 ابن كثير، جـ1 ص3.

التفسير في عصر التابعين

التفسير في عصر التابعين: كما اشتهر بعض أعلام الصحابة بالتفسير، اشتهر بعض أعلام التابعين الذين أخذوا عنهم من تلاميذهم بالتفسير كذلك معتمدين في مصادره على المصادر التي جاءت في العصر السابق بالإضافة إلى ما كان لهم من اجتهاد ونظر.

قال الأستاذ محمد حسين الذهبي: "وقد اعتمد هؤلاء المفسرون في فهمهم لكتاب الله تعالى على ما جاء في الكتاب نفسه، وعلى ما رووه عن الصحابة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعلى ما رووه عن الصحابة من تفسيرهم أنفسهم. وعلى ما أخذوه من أهل الكتاب مما جاء في كتبهم، وعلى ما يفتح الله به عليهم من طريق الاجتهاد والنظر في كتاب الله تعالى. وقد روت لنا كتب التفسير كثيرًا من أقوال هؤلاء التابعين في التفسير قالوها بطريق الرأي والاجتهاد، ولم يصل إلى علمهم شيء فيها عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو عن أحد من الصحابة. وقد قلنا فيما سبق: إن ما نُقِل عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- وعن الصحابة من التفسيرلم يتناول جميع آيات القرآن، وإنما فسروا ما غمض فهمه على معاصريهم، ثم تزايد هذا الغموض -على تدرج- كلما بَعُد الناس عن عصر النبي -صلى الله عليه وسلم- والصحابة، فاحتاج المشتغلون بالتفسير من التابعين إلى أن يكملوا بعض هذا النقص، فزادوا في التفسير بمقدار ما زاد من غموض، ثم جاء مَن بعدهم فأتموا تفسير القرآن تباعًا، معتمدين على ما عرفوه من لغة العرب ومناحيهم في القول، وعلى ما صح لديهم من الأحداث التي حدثت في عصر نزول القرآن، وغير هذا من أدوات الفهم ووسائل البحث1. لقد اتسعت الفتوحات الإسلامية، وانتقل كثير من أعلام الصحابة إلى الأمصار المفتوحة، ولدى كل واحد منهم علم. وعلى يد هؤلاء تلقى تلاميذهم من التابعين علمهم، وأخذوا عنهم، ونشأت مدارس متعددة. ففي مكة نشأت مدرسة ابن عباس واشتهر من تلاميذه بمكة: سعيد بن جبير، ومجاهد، وعكرمة مولى ابن عباس، وطاوس بن كيسان اليماني، وعطاء بن أبي رباح.

_ 1 "التفسير والمفسرون" جـ1 ص99، 100.

وهؤلاء جميعًا من الموالي، وهم يختلفون في الرواية عن ابن عباس قلة وكثرة، كما اختلف العلماء في مقدار الثقة بهم والركون إليهم، والذي ورد فيه شيء ذو بال هو عكرمة، فإن العلماء يختلفون في توثيقه وإن كانوا يشهدون له بالعلم والفضل. وفي المدينة اشتهر أُبَيُّ بن كعب بالتفسير أكثر من غيره، وكثر ما نُقِل عنه في ذلك. واشتهر من تلاميذه من التابعين الذين أخذوا عنه مباشرة أو بالواسطة: زيد بن أسلم، وأبو العالية، ومحمد بن كعب القرظي. وفي العراق نشأت مدرسة ابن مسعود التي يعتبرها العلماء نواة مدرسة أهل الرأي: وعُرف بالتفسير من أهل العراق كثير من التابعين. اشتهر منهم علقمة بن قيس، ومسروق, والأسود بن يزيد، ومرة الهمذاني، وعامر الشعبي، والحسن البصري، وقتادة بن دعامة السدوسي. هؤلاء هم مشاهير المفسرين من التابعين في الأمصار الإسلامية الذين أخذ عنهم أتباع التابعين من بعدهم. وخلَّفوا لنا تراثًا علميًّا خالدًا. واختلف العلماء فيما أثر عن التابعين من تفسير إذا لم يؤثر في ذلك شيء عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو عن الصحابة، أيؤخذ بأقوالهم أم لا؟ فذهب جماعة إلى أنه لا يؤخذ بتفسيرهم؛ لأنهم لم يشاهدوا القرائن والأحوال التي نزل عليها القرآن، فيجوز عليهم الخطأ في فهم المراد. وذهب أكثر المفسرين إلى أنه يؤخذ بتفسيرهم؛ لأنهم تلقوه غالبًا عن الصحابة. والذي يترجح أنه إذا أجمع التابعون على رأي فإنه يجب علينا أن نأخذ به ولا نتعداه إلى غيره. قال ابن تيمية: "قال شُعبة بن الحجاج وغيره: أقوال التابعين ليست حُجة، فكيف تكون حُجة في التفسير؟ يعني أنها لا تكون حُجة على غيرهم ممن

خالفهم. وهذا صحيح، أما إذا أجمعوا على الشيء فلا يرتاب في كونه حُجة، فإن اختلفوا فلا يكون قول بعضهم حُجة على بعض ولا على مَن بعدهم، ويُرجع في ذلك إلى لغة القرآن أو السٌّنَّة، أو عموم لغة العرب، أو أقوال الصحابة في ذلك"1. وقد ظل التفسير محتفظًا في هذا العصر بطابع التلقي والرواية، ولكن التابعين - بعد أن كثر دخول أهل الكتاب في الإسلام، نقلوا عنهم في التفسير كثيرًا من الإسرائيليات، كالذي يُروى عن عبد الله بن سلام، وكعب الأحبار، ووهب بن منبه، وعبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، كما بدأ الاختلاف فيما يُروى عنهم من تفسير لكثرة أقوالهم. ومع هذا فإنها أقوال متقاربة أو مترادفة، فهو من باب اختلاف العبارة لا اختلاف التباين والتضاد.

_ 1 مقدمة ابن تيمية في أصول التفسير ص28، 29، والإتقان جـ2 ص179.

التفسير في عصور التدوين

التفسير في عصور التدوين: بدأ التدوين في أواخر عهد بني أمية، وأوائل عهد العباسيين، وحظي الحديث بالنصيب الأول في ذلك، وشمل تدوين الحديث أبوابًا متنوعة، وكان التفسير بابًا من هذه الأبواب، فلم يُفرد له تأليف خاص يفسِّر القرآن سورة سورة، وآية آية، من مبدئه إلى منتهاه. واشتدت عناية جماعة برواية التفسير المنسوب إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- أو إلى الصحابة، أو إلى التابعين، مع عنايتهم بجمع الحديث. وفي مقدمة هؤلاء: يزيد بن هارون السلمي المتوفى سنة 117 هجرية، وشُعبة بن الحجاج المتوفى سنة 160 هجرية، ووكيع بن الجرح المتوفى سنة 197 هجرية، وسفيان بن عيينة المتوفى سنة 198 هجرية، وروح بن عبادة البصري المتوفى سنة 205 هجرية، وعبد الرزاق بن همام المتوفى سنة 211 هجرية، وآدم بن أبي إياس المتوفى سنة 220 هجرية، وعبد بن حميد المتوفى سنة 249 هجرية.

ولم يصل إلينا من تفاسيرهم شيء، وإنما رُوي ما نقل مسندًا إليهم في كتب التفسير بالمأثور. جاء بعد هؤلاء مَن أفرد التفسير بالتأليف وجعله علمًا قائمًا بنفسه منفصلًا عن الحديث. ففسر القرآن حسب ترتيب المصحف. وذلك كابن ماجه المتوفى سنة 273 هجرية، وابن جرير الطبري المتوفى سنة 310 هجرية، وأبو بكر بن المنذر النيسابوري المتوفى سنة 318 هجرية. وابن أبي حاتم المتوفى سنة 327 هجرية، وأبو الشيخ بن حبان المتوفى سنة 369 هجرية، والحاكم المتوفى سنة 405 هجرية، وأبو بكر بن مردويه المتوفى سنة 410 هجرية. وتفاسير هؤلاء مروية بالإسناد إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإلى الصحابة والتابعين، وأتباع التابعين مع الترجيح أحيانًا فيما يُروى من آراء، واستنباط بعض الأحكام، والإعراب عند الحاجة، كما فعل ابن جرير الطبري. ثم جاء على أثر هؤلاء جماعة من المفسرين لم يتجاوزوا حدود التفسير بالمأثور، ولكنهم اختصروا الأسانيد، وجمعوا شتات الأقوال دون أن ينسبوها إلى قائليها، وبهذا التبس الأمر، ولم يتميز الصحيح من السقيم. اتسعت العلوم، وتم تدوينها، وتشعبت فروعها، وكثر الاختلاف، وأثيرت مسائل الكلام، وظهر التعصب المذهبي، واختلطت علوم الفلسفة العقلية بالعلوم النقلية، وحرصت الفرق الإسلامية على دعم مذهبها فأصاب التفسير من هذا الجو غباره، وأصبح المفسرون يعتمدون في تفسيرهم على الفهم الشخصي،، ويتجهون اتجاهات متعددة، وتحكمت فيهم الاصطلاحات العلمية، والعقائد المذهبية، والثقافة الفلسفية، واهتم كل واحد من المفسرين بحشوه بما برز فيه من العلوم الأخرى، فصاحب العلوم العقلية يُعنى في تفسيره بأقوال الحكماء والفلاسفة كفخر الدين الرازي. وصاحب الفقه يُعنى بالفروع الفقهية كالجصاص والقرطبي، وصاحب التاريخ يُعنى بالقصص والأخبار كالثعلبي والخازن، وصاحب البدعة يؤول كلام الله على مذهبه الفاسد، كالرماني والجبائي،

والقاضي عبد الجبار والزمخشري من المعتزلة وملا محسن الكاشي من الإمامية الاثنى عشرية. وصاحب التصوف يستخرج المعاني الإشارية كابن عربي. هذا مع علوم النحو والصرف والبلاغة، وهكذا أصبحت كتب التفسير تحمل في طياتها الغث والثمين، والنافع والضار، والصالح والفاسد. وحمَّل كل مفسر آيات القرآن ما لا تتحمله، انتصارًا لمذهبه، وردًّا على خصومه، وفقد التفسير وظيفته الأساسية في الهداية والإرشاد ومعرفة أحكام الدين. وبذلك طغى التفسير بالرأي على التفسير بالأثر، وتدرج التفسير في العصور المتتابعة على هذا النمط، بنقل المتأخر عن المتقدم، مع الاختصار تارة، والتعليق أخرى، حتى ظهرت أنماط جديدة في التفسير المعاصر، حيث عُني بعض المفسرين بحاجات العصر، وتناولوا في تفسيرهم الكشف عما تضمنه القرآن الكريم من أسس الحياة الاجتماعية، ومبادئ التشريع، ونظريات العلوم، كتفسير الجواهر، وتفسير المنار، والظلال.

التفسير الموضوعي

التفسير الموضوعي: وبإزاء التفسير العام في عصور التدوين كان التفسير الموضوعي للمباحث الخاصة يسير معه جنبًا لجنب، فألَّف ابن القيم كتابه: التبيان في أقسام القرآن، وألَّف أبو عبيدة كتابًا عن مجاز القرآن، وألَّف الراغب الأصفهاني في مفردات القرآن، وألَّف أبو جعفر النحاس في الناسخ والمنسوخ، وألَّف أبو الحسن الواحدي في أسباب النزول، وألَّف الجصاص في أحكام القرآن، وتتابعت الأبحاث القرآنية في العصر الحديث ولا يخلو واحد منها من تفسير لبعض آيات القرآن لجانب من الجوانب.

طبقات المفسرين

طبقات المفسرين: وعلى ضوء ما سبق نستطيع أن نقسم طبقات المفسرين على النحو التالي: 1- المفسرون من الصحابة: واشتهر منهم الخلفاء الأربعة، وابن مسعود، وابن عباس، وأُبَيُّ بن كعب، وزيد بن ثابت، وأبو موسى الأشعري، وعبد الله بن الزبير، وأنس بن مالك، وأبو هريرة، وجابر، وعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهم أجمعين، وأكثر من رُوِي عنه من الخلفاء الأربعة علي بن أبي طالب، والرواية عن الثلاثة نَزِرَة جدًّا، وكان السبب في ذلك تقدم وفاتهم، كما أن ذلك هو السبب في قلة رواية أبي بكر رضي الله عنه، فقد رَوَى معمر عن وهب بن عبد الله عن أبي الطفيل قال: "شهدت عليًّا يخطب وهو يقول: سلوني، فوالله، لا تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم، وسلوني عن كتاب الله فوالله ما من آية إلا وأنا أعلم أبليل نزلت أم بنهار، أم في سهل أم في جبل". وأما ابن مسعود فرُوِي عنه أكثر مما رُوِي عن علي، وقد أخرج ابن جرير وغيره عنه أنه قال: "والذي لا إله غيره ما نزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيمن نزلت، وأين نزلت، ولو أعلم مكان أحد أعلم بكتاب الله مني تناله المطايا لأتيته" وأما ابن عباس فسنترجم له بعد إن شاء الله. 2- المفسرون من التابعين: قال ابن تيمية: "أعلم الناس بالتفسير أهل مكة؛ لأنهم أصحاب ابن عباس كمجاهد، وعطاء بن أبي رباح، وعكرمة مولى ابن عباس، وسعيد بن جبير، وطاوس وغيرهم - وفي الكوفة أصحاب ابن مسعود - وفي المدينة زيد بن أسلم الذي أخذ عنه ابنه عبد الرحمن بن زيد، ومالك بن أنس" ومن أصحاب ابن مسعود علقمة، والأسود بن يزيد، وإبراهيم النخعي، والشعبي، ومن هذه الطبقة: الحسن البصري، وعطاء بن أبي مسلم الخراساني، ومحمد بن كعب القرظي، وأبو العالية رفيع بن مهران

الرياحي، والضحاك بن مزاحم، وعطية بن سعيد العوفي. وقتادة بن دعامة السدوسي، والربيع بن أنس، والسدي - فهؤلاء قدماء المفسرين من التابعين، وغالب أقوالهم تلقوها عن الصحابة. 3- ثم بعد هذه الطبقة: طبقة الذين صنف كثير منهم كتب التفاسير التي تجمع أقوال الصحابة والتابعين، كسفيان بن عيينة، ووكيع بن الجراح، وشعبة بن الحجاج، ويزيد بن هارون، وعبد الرزاق، وآدم بن أبي إياس، وإسحاق بن راهويه، وعبد بن حميد، وروح بن عبادة، وأبي بكر بن أبي شيبة، وآخرين. 4- ثم بعد هؤلاء طبقات أخرى: منها علي بن أبي طلحة، وابن جرير الطبري، وابن أبي حاتم، وابن ماجه، والحاكم، وابن مردويه، وأبو الشيخ بن حبان، وابن المنذر في آخرين، وكلها مسندة إلى الصحابة والتابعين وأتباعهم، وليس فيها غير ذلك إلا ابن جرير فإنه يتعرض لتوجيه الأقوال وترجيح بعضها على بعض والإعراب والاستنباط، فهو يفوقها بذلك. 5- ثم انتصبت طبقة بعدهم: صنفت تفاسير مشحونة بالفوائد اللغوية، ووجوه الإعراب، وما أثر في القراءات بروايات محذوفة الأسانيد، وقد يضيف بعضهم شيئًا من رأيه، مثل أبي إسحاق الزجاج، وأبي علي الفارسي، وأبي بكر النقاش، وأبي جعفر النحاس. 6- ثم ألَّف في التفسير طائفة من المتأخرين، فاختصروا الأسانيد، ونقلوا الأقوال بتراء، فدخل من هنا الدخيل، والتبس الصحيح بالعليل. 7- ثم صار كل مَن سنح له قول يورده، ومَن خطر بباله شيء يعتمده، ثم ينقل ذلك عنه مَن يجيء بعده ظانًّا أن له أصلًَا، غير ملتفت إلى تحرير ما ورد عن السلف الصالح، ومن هم القدوة في هذا الباب - قال السيوطي: رأيت في تفسير قوله تعالى: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} 1, نحو عشرة

_ 1 الفاتحة: 7.

أقوال، مع أن الوارد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وجميع الصحابة والتابعين ليس غير اليهود والنصارى، حتى قال ابن أبي حاتم: لا أعلم في ذلك اختلافًا من المفسِّرين. 8- صنف بعد ذلك قوم برعوا في شيء من العلوم. منهم من ملأ كتابه بما غلب على طبعه من الفن، واقتصر فيه على ما تَمَهَّر هو فيه، كأن القرآن أنزل لأجل هذا العلم لا غير، مع أن فيه تبيان كل شيء. فالنحوي نراه ليس له هم إلا الإعراب وتكثير أوجهه المحتملة فيه، وإن كانت بعيدة وينقل قواعد النحو ومسائله وفروعه وخلافياته كأبي حيان في البحر والنهر. والإخباري همه القصص واستيفاؤه، والإخبار عمن سلف سواء أكانت صحيحة أو باطله. ومنهم الثعالبي. والفقيه يكاد يسرد فيه الفقه جميعًا، وربما استطرد إلى إقامة أدلة الفروع الفقهية التي لا تعلق لها بالآية أصلًا والجواب على أدلة المخالفين، كالقرطبي. وصاحب العلوم العقلية، خصوصًا الإمام فخر الدين الرازي، قد ملأ تفسيره بأقوال الحكماء والفلاسفة، وخرج من شيء إلى شيء، حتى يقضي الناظر العجب من عدم مطابقة المورد للآية. قال أبو حيان في البحر: جمع الإمام الرازي في تفسيره أشياء كثيرة طويلة لا حاجة بها في علم التفسير ولذلك قال بعض العلماء: فيه كل شيء إلا التفسير. والمبتدع ليس له قصد إلا تحريف الآيات وتسويتها على مذهبه الفاسد بحيث أنه لو لاح له شاردة من بعيد اقتنصها، أو وجد موضعًا له فيه أدنى مجال سَارَعَ إليه، كما نُقِل عن البلقيني أنه قال: استخرجت من الكشاف اعتزالًا بالمناقيش، منها أنه قال في قوله سبحانه وتعالى: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} 1، أي فوز أعظم من دخوله الجنة؟ أشار به إلى عدم الرؤية. وهكذا الشأن بالنسبة إلى الملحدين وغيرهم.

_ 1 آل عمران: 185.

9- ثم جاء عصر النهضة الحديثة: فانتحى كثير من المفسرين منحًى جديدًا، في العناية بطلاوة الأسلوب، وحسن العبارة، والاهتمام بالنواحي الاجتماعية، والأفكار المعاصرة، والمذاهب الحديثة، فكان التفسير الأدبي الاجتماعي، ومن هؤلاء: محمد عبده، والسيد محمد رشيد رضا، ومحمد مصطفى المراغي، وسيد قطب، ومحمد عزة دروزة. وللحافظ جلال الدين السيوطي المتوفى سنة 911 هجرية كتاب "طبقات المفسرين" ذكر في مقدمته أنه سيتناول المفسرين من الصحابة والتابعين وأتباع التابعين، والمفسرين من المحَدِّثين، وأهل السٌّنَّة، والمفسرين من أهل الفرق كالمعتزلة والشيعة ونحوهم، ولكنه لم يتم، وبلغ عدد التراجم فيه 136 ترجمة وهو مرتب على الحروف الهجائية"1. وصنف في طبقات المفسرين أيضًا الشيخ أبو سعيد صنع الله الكوزه كناني المتوفى سنة 980 هجرية. كما صنف فيها أحمد بن محمد الأدنه وي من علماء القرن الحادي عشر. وللحافظ شمس الدين محمد بن علي بن أحمد الداودي المصري المتوفى سنة 945 هجرية كتابه المشهور "طبقات المفسرين" وهو أوفى كتاب في موضوعه بالمكتبة الإسلامية، استقصى فيه الداودي تراجم أعلام المفسرين حتى أوائل القرن العاشر للهجرة، قال فيه حاجي خليفة في كشف الظنون: "وهو أحسن ما صُنف فيه"2.

_ 1 نشرته أخيرًا مكتبة وهبة بالقاهرة، بتحقيق علي محمد عمر. 2 قامت مكتبة وهبة بنشره في جزأين، بتحقيق علي محمد عمر.

التفسير بالمأثور والتفسير بالرأي

التفسير بالمأثور والتفسير بالرأي: التفسير بالمأثور: هو الذي يعتمد على صحيح المنقول بالمراتب التي ذُكِرت سابقًا في شروط المفسر، من تفسير القرآن بالقرآن، أو بالسٌّنَّة؛ لأنها جاءت مبيِّنة لكتاب الله، أو بما رُوِي عن الصحابة؛ لأنهم أعلم الناس بكتاب الله، أو بما قاله كبار التابعين؛ لأنهم تلقوا ذلك غالبًا عن الصحابة. وهذا المسلك يتوخى الآثار الواردة في معنى الآية فيذكرها، ولا يجتهد في بيان معنى من غير أصل، ويتوقف عما لا طائل تحته ولا فائدة في معرفته ما لم يرد فيه نقل صحيح. قال ابن تيمية: يجب أن يُعلم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بيَّن لأصحابه معاني القرآن، كما بيَّن لهم ألفاظه، فقوله تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} 1, يتناول هذا وهذا، وقد قال أبو عبد الرحمن السلمي2: حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن. كعثمان بن عفان، وعبد الله بن مسعود وغيرهما، أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي -صلى الله عليه وسلم- عشر آيات لم يتجاوزوها حتى يعلموا ما فيها من العلم والعمل، قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعًا، ولهذا كانوا يبقون مدة في حفظ السورة، قال أنس: "كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جَدَّ فينا" "رواه أحمد في مسنده". وأقام ابن عمر على حفظ البقرة ثماني سنين، أخرجه مالك في الموطأ، وذلك أن الله تعالى قال: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} 3، وقال: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} 4, وتدبر الكلام بدون فهم معانيه لا يمكن، وأيضًا فالعادة تمنع أن يقرأ قوم كتابًا

_ 1 النحل: 44. 2 هو عبد الله بن حبيب التابعي المقرئ، المتوفى سنة 72 هجرية، وهو غير أبي عبد الرحمن السلمي الصوفي المتوفى سنة 412 هجرية. 3 سورة ص: 29. 4 النساء: 82، محمد: 24.

في فن من العلم كالطب والحساب ولا يستشرحوه. فكيف بكلام الله الذي هو عصمتهم، وبه نجاتهم وسعادتهم وقيام دينهم ودنياهم"1. ومن التابعين من أخذ التفسير كله عن الصحابة، عن مجاهد قال: "عرضت المصحف على ابن عباس ثلاث عرضات من فاتحته إلى خاتمته، أستوقفه عند كل آية وأسأله عنها".

_ 1 "الإتقان" جـ2 ص176.

الاختلاف فيه

الاختلاف فيه: والتفسير بالمأثور يدور على رواية ما نُقِل عن صدر هذه الأمة، وكان الاختلاف بينهم قليلًا جدًّا بالنسبة إلى من بعدهم، وأكثره لا يعدو أن يكون خلافًا في التعبير مع اتحاد المعنى، أو يكون من تفسير العام ببعض أفراده على طريق التمثيل، قال ابن تيمية: "والخلاف بين السلف في التفسير قليل، وغالب ما يصح عنهم من الخلاف يرجع إلى اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد، وذلك نوعان: أحدهما: أن يعبِّر واحد منهم عن المراد بعبارة غير عبارة صاحبه تدل على معنى في المسمى غير المعنى الآخر مع اتحاد المسمى، كتفسيرهم: {الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} قال بعضهم: القرآن أي اتباعه، وقال بعضهم: الإسلام، فالقولان متفقان؛ لأن دين الإسلام هو اتباع القرآن، ولكن كل منهما نبَّه على وصف غير الوصف الآخر. الثاني: أن يذكر كل منهما من الاسم العام بعض أنواعه على سبيل التمثيل وتنبيه المستمع على النوع، ومثاله: ما نُقِل في قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} 2, قيل: السابق: الذي يصلي في أول الوقت،

_ 1 "الإتقان" جـ2 ص176. 2 فاطر: 32.

والمقتصد: الذي يصلي في أثنائه، والظالم لنفسه: الذي يؤخر العصر إلى الاصفرار – وقيل: السابق: المحسن بالصدقة مع الزكاة، والمقتصد: الذي يؤدي الزكاة المفروضة فقط، والظالم: مانع الزكاة"1. وقد يكون الاختلاف لاحتمال اللفظ الأمرين، كلفظ "عسعس" الذي يراد به إقبال الليل وإدباره، أو لأن الألفاظ التي عبر بها عن المعاني متقاربة، كما إذا فسر بعضهم "تبسل" بتحبس، وبعضهم بترهن؛ لأن كلًا منهما قريب من الآخر.

_ 1 "الإتقان" جـ2 ص177.

تجنب الإسرائيليات

تجنب الإسرائيليات: وربما كان الاختلاف فيما لا فائدة فيه ولا حاجة بنا إلى معرفته مما وقع فيه بعض المفسرين في نقل إسرائيليات عن أهل الكتاب، كاختلافهم في أسماء أصحاب الكهف، ولون كلبهم، وعددهم، وقد قال الله تعالى: {قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِراً} 1، واختلافهم في قدر سفينة نوح وخشبها، وفي اسم الغلام الذي قتله الخضر، وفي أسماء الطيور التي أحياها الله لإبراهيم، وفي نوع شجرة عصا موسى، ونحو ذلك. فهذه الأمور طريق العلم بها النقل. فما كان منه منقولًا نقلًا صحيحًا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قُبِلَ، وإلا توقفنا عنه، وإن كانت النفس تسكن إلى ما نُقِلَ عن الصحابة؛ لأن نقلهم عن أهل الكتاب أقل من نقل التابعين2.

_ 1 الكهف: 22. 2 في الحديث: "إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم".

حكم التفسير بالمأثور

حكم التفسير بالمأثور: التفسير بالمأثور هو الذي يجب اتباعه والأخذ به؛ لأنه طريق المعرفة الصحيحة. وهو آمن سبيل للحفظ من الزلل والزيغ في كتاب الله. وقد رُوِي عن ابن عباس أنه قال: "التفسير على أربعة أوجه: وجه تعرفه العرب من كلامها، وتفسير

لا يعذر أحد بجهالته، وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه أحد إلا الله". فالذي تعرفه العرب هو الذي يرجع فيه إلى لسانهم ببيان اللغة. والذي لا يعذر أحد بجهله: هو ما يتبادر فهم معناه إلى الأذهان من النصوص المتضمنة شرائع الأحكام ودلائل التوحيد ولا لبس فيها، فكل امرئ يدرك معنى التوحيد من قوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} 1, وإن لم يعلم أن هذه العبارة وردت بطريق النفي والاستثناء فهي دالة على الحصر. وأما ما لا يعلمه إلا الله: فهو المغيبات، كحقيقة قيام الساعة، وحقيقة الروح. وأما ما يعلمه العلماء: فهو الذي يرجع إلى اجتهادهم المعتمد على الشواهد والدلائل دون مجرد الرأي، من بيان مُجْمل، أو تخصيص عام، أو نحو ذلك. وقد ذكر ابن جرير الطبري نحو هذا. فقال: "فقد تبين ببيان الله جل ذكره: أن مما أنزل الله من القرآن على نبيه -صلى الله عليه وسلم- ما لا يوصل إلى علم تأويله إلا ببيان الرسول -صلى الله عليه وسلم- وذلك تأويل جميع ما فيه: من وجوه أمره -واجبه وندبه وإرشاده- وصنوف نهيه، ووظائف حقوقه وحدوده، ومبالغ فرائضه، ومقادير اللازم بعض خلقه لبعض، وما أشبه ذلك من إحكام آية التي لم يُدرك علمها إلا ببيان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأمته، وهذا وجه لا يجوز لأحد القول فيه إلا ببيان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- له تأويله بنص منه عليه، أو بدلالة قد نصبها دالة أمته على تأويله. وإن منه ما لا يعلم تأويله إلا الله الواحد القهار، وذلك ما فيه من الخبر عن آجال حادثة، وأوقات آتية، كوقت قيام الساعة، والنفخ في الصور، ونزول عيسى ابن مريم، وما أشبه ذلك: {يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} 2.

_ 1 محمد: 19. 2 الأعراف: 187.

وإن منه ما يعلم تأويله كل ذي علم باللسان الذي نزل به القرآن، وذلك إقامة إعرابه، ومعرفة المسميات بأسمائها اللازمة غير المشترك فيها، والموضوعات بصفاتها الخاصة دون ما سواها، فإن ذلك لا يجهله أحد منهم، وذلك كسامع منهم لو سمع تاليًا يتلو: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ} 1, لم يجهل أن معنى الإفساد هو ما ينبغي تركه مما هو مضرة، وأن الاصلاح هو ما ينبغي فعله مما فعله منفعة، وإن جهل المعاني التي جعلها الله إفسادًا، والمعاني التي جعلها الله إصلاحًا"2.

_ 1 البقرة: 11، 12. 2 "تفسير الطبري"جـ1 ص74-75.

التفسير بالرأي

التفسير بالرأي: التفسير بالرأي: هو ما يعتمد فيه المفسر في بيان المعنى على فهمه الخاص واستنباطه بالرأي المجرد -وليس منه الفهم الذي يتفق مع روح الشريعة، ويستند إلى نصوصها- فالرأي المجرد الذي لا شاهد له مدعاة للشطط في كتاب الله، وأكثر الذين تناولوا التفسير بهذه الروح كانوا من أهل البدع الذين اعتقدوا مذاهب باطلة وعمدوا إلى القرآن فتأولوه على رأيهم وليس لهم سَلَف من الصحابة والتابعين لا في رأيهم ولا في تفسيرهم، وقد صنفوا تفاسير على أصول مذهبهم، كتفسير عبد الرحمن بن كيسان الأصم، والجبائي، وعبد الجبار، والرماني، والزمخشري وأمثالهم. ومن هؤلاء من يكون حسن العبارة يدس مذهبه في كلام يروج على كثير من الناس كما صنع صاحب الكشاف في اعتزالياته وإن كان بعضهم أخف من بعض، فمنهم طوائف من أهل الكلام أوَّلت آيات الصفات بما يتفق مع مذهبها، وهؤلاء أقرب إلى أهل السٌّنَّة من المعتزلة، إلا أنهم حين جاءوا بما يخالف مذهب الصحابة والتابعين فقد شاركوا المعتزلة وغيرهم من أهل البدع.

حكم التفسير بالرأي

حكم التفسير بالرأي: وتفسير القرآن بمجرد الرأي والاجتهاد من غير أصل حرام لا يجوز تعاطيه، قال تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} 1، وقال, صلى الله عليه وسلم: "من قال في القرآن برأيه -أو بما لا يعلم- فليتبوأ مقعده من النار" 2، وفي لفظ: "من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ". ولهذا تحرج السلف عن تفسير ما لا علم لهم به، فقد رُوِي عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب: أنه كان إذا سئل عن تفسير آية من القرآن قال: "إنَّا لا نقول في القرآن شيئًا"3. وأخرج أبو عبيد القاسم بن سلام: "أن أبا بكر الصديق, رضي الله عنه سئل عن الأب في قوله تعالى: {وَفَاكِهَةً وَأَبّاً} 4, فقال: "أي سماء تظلني؟ وأي أرض تقلني؟ إذا قلت في كلام الله ما لا أعلم"5. قال الطبري: "وهذه الأخبار شاهدة لنا على صحة ما قلنا: من أن ما كان من تأويل آي القرآن الذي لا يُدْرَك علمه إلا بنص بيان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو بنصبه الدلالة عليه، فغير جائز لأحد القيل فيه برأيه، بل القائل في ذلك برأيه -وإن أصاب الحق فيه- فمخطئ فيما كان من فعله، بقيله فيه برأيه؛ لأن إصابته ليست إصابة موقن أنه محق، وإنما هي إصابة خارص وظان، والقائل في دين الله بالظن، قائل على الله ما لا يعلم، وقد حرم الله جل ثناؤه ذلك في كتابه على عباده، فقال: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} 6.

_ 1 الإسراء: 36. 2 أخرجه الترمذي والنَّسائي وأبو داود، وقال الترمذي: هذا حسن. 3 رواه مالك في الموطأ. 4 عبس: 31. 5 رواه ابن أبي شيبة والطبري. 6 تفسير الطبري، جـ1 ص78، 79 – [والآية من سورة الأعراف: 33] .

فهذه الآثار وما شاكلها عن أئمة السلف محمولة على تحرجهم من الكلام في التفسير بما لا علم لهم به. أما من تكلم بما يعلم من ذلك لغة وشرعًا فلا حرج عليه ولهذا رُوِي عن هؤلاء وغيرهم أقوال في التفسير -ولا منافاة- لأنهم تكلموا فيما علموه، وسكتوا عما جهلوه، وهذا هو الواجب على كل إنسان، ويكون الأمر أشد نكيرًا لو ترك التفسير بالمأثور الصحيح وعدل عنه إلى القول برأيه، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وفي الجملة من عدل عن مذاهب الصحابة والتابعين وتفسيرهم إلى ما يخالف ذلك كان مخطئًا، بل مبتدعًا؛ لأنهم كانوا أعلم بتفسيره ومعانيه، كما أنهم أعلم بالحق الذي بعث الله به رسوله, صلى الله عليه وسلم". وقال الطبري: "فأحق المفسرين بإصابة الحق في تأويل القرآن -الذي إلى علم تأويله للعباد سبيل- أوضحهم حجة فيما تأوَّل وفسَّر, مما كان تأويله إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دون سائر أمته، من أخبار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الثابتة عنه، أما من جهة النقل المستفيض فيما وجد فيه من ذلك عنه النقل المستفيض، وإما من جهة نقل العدول الأثبات، فيما لم يكن فيه عنه النقل المستفيض، أو من جهة الدلالة المنصوبة على صحته، وأصحهم برهانًا -فيما ترجم وبيَّن من ذلك - مما كان مدركًا علمه من جهة اللسان، إما بالشواهد من أشعارهم السائرة، وإما من منطقهم ولغاتهم المستفيضة المعروفة، كائنًا من كان ذلك المتأوِّل والمفسِّر، بعد أن لا يكون خارجًا تأويله وتفسيره ما تأول وفسَّر من ذلك، عن أقوال السلف من الصحابة والأئمة، والخَلَف من التابعين وعلماء الأمة"1.

_ 1 تفسير الطبري، جـ1 ص93.

الإسرائيليات

الإسرائيليات: لليهودية ثقافتها الدينية التي تُستَمد من التوراة. وللنصرانية ثقافتها الدينية التي تُستَمد من الإنجيل. وقد انضوى تحت لواء الإسلام منذ ظهوره كثير من اليهود والنصارى، ولهؤلاء وأولئك ثقافتهم الدينية.

وقد اشتمل القرآن على كثير مما جاء في التوراة والإنجيل ولا سيما ما يتعلق بقصص الأنبياء وأخبار الأمم، ولكن القصص القرآني يجمل القول مستهدفًا مواطن العبرة والعظة دون ذكر للتفاصيل الجزئية كتاريخ الوقائع، وأسماء البلدان والأشخاص، أما التوراة فإنها تتعرض مع شروحها للتفاصيل والجزئيات، وكذلك الإنجيل. وحيث دخل أهل الكتاب في الإسلام فقد حملوا معهم ثقافتهم الدينية من الأخبار والقصص الديني، وهؤلاء حين يقرءون قصص القرآن قد يتعرضون لذكر التفصيلات الواردة في كتبهم، وكان الصحابة يتوقفون إزاء ما يسمعون من ذلك، امتثالًا لقول رسول الله, صلى الله عليه وسلم: "لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم، وقولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا" 1, وقد يدور حوار بينهم وبين أهل الكتاب في شيء من تلك الجزئيات، ويقبل الصحابة بعض ذلك ما دام لا يتعلق بالعقيدة ولا يتصل بالأحكام، ثم يتحدثون به، لما فهموه من الإباحة في قوله, صلى الله عليه وسلم: "بلِّغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار" 2. أي حدِّثوا عن بني إسرائيل بما لا تعلمون كذبه، أما ما جاء في الحديث الأول: "لا تُصدقوا أهل الكتاب ولا تُكذبوهم" فهو محمول على ما إذا كان ما يخبرون به محتملًا؛ لأن يكون صدقًا، ولأن يكون كذبًا، فلا تعارض بين الحديثين. تلك الأخبار التي تحدث بها أهل الكتاب الذين دخلوا في الإسلام هي التي يُطلق عليها الإسرائيليات من باب التغليب للجانب اليهودي على الجانب النصراني، حيث كان النقل عن اليهود أكثر لشدة اختلاطهم بالمسلمين منذ بدأ ظهور الإسلام. وكانت الهجرة إلى المدينة. ولم يأخذ الصحابة عن أهل الكتاب شيئًا في تفسير القرآن من الأخبار الجزئية سوى القليل النادر. فلما جاء عهد التابعين وكثر الذين دخلوا في الإسلام من

_ 1 أخرجه البخاري. 2 أخرجه البخاري.

أهل الكتاب كثر أخذ التابعين عنهم، ثم عظم شغف من جاء بعدهم من المفسرين بالإسرائيليات، قال ابن خلدون: "وإذا تشوقوا إلى معرفة شيء مما تتشوق إليه النفوس البشرية في أسباب المكونات، وبدء الخليقة، وأسرار الوجود، فإنما يسألون عنه أهل الكتاب قبلهم، ويستفيدونه منهم، وهم أهل التوراة من اليهود، ومن تبع دينهم من النصارى ... فامتلأت التفاسير من المنقولات عنهم"1. ولم يكن المفسرون يتحرون صحة النقل فيما يأخذونه من هذه الإسرائيليات، ومنها ما هو فاسد باطل، لذا كان على من يقرأ في كتبهم أن يتجاوز عما لا طائل تحته، وألا ينقل منها إلا ما تدعو إليه الضرورة وتتبين صحة نقله، ويظهر صدق خبره. وأكثر ما يُرْوَى من هذه الإسرائيليات إنما يُرْوى عن أربعة أشخاص: هم: عبد الله بن سلام، وكعب الأحبار، ووهب بن منبه، وعبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، وقد اختلفت أنظار العلماء في الحكم عليهم والثقة بهم، ما بين مجرِّح وموثِّق، وأكثر الخلاف يدور حول كعب الأحبار. وكان عبد الله بن سلام أكثرهم علمًا، وأعلاهم قدرًا. واعتمده البخاري وغيره من أهل الحديث، ولم يُنسب إليه من التُّهم ما نُسِب إلى كعب الأحبار ووهب بن منبه.

_ 1 انظر "التفسير والمفسرون" جـ1 ص177.

تفسير الصوفية

تفسير الصوفية: إذا أريد بالتصوف السلوك التعبدي المشروع الذي تصفو به النفس، وترغب عن زينة الدنيا بالزهد والتقشف, والعبادة.. فذلك أمر لا غبار عليه إن لم يكن مرغوبًا فيه. ولكن التصوف أصبح فلسفة نظرية خاصة لا صلة لها بالورع والتقوى والتقشف، واشتملت فلسفته على أفكار تتنافى مع الإسلام وعقيدته. وهذا هو الذي نعنيه هنا، وهو الذي كان له أثره في تفسير القرآن.

ويعتبر ابن عربي زعيم التصوف الفلسفي النظري وهو يفسر الآيات القرآنية تفسيرًا يتفق مع نظرياته الصوفية سواء أكان ذلك في التفسير المشهور باسمه، أو في الكتب التي تُنْسب إليه كالفصوص، وهو من أصحاب نظرية وحدة الوجود. فهو يفسر مثلًا قوله تعالى في شأن إدريس عليه السلام: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّا} 1, بقوله: "وأعلى الأمكنة المكان الذي يدور عليه رحى عالَم الأفلاك، وهو فَلَك الشمس، وفيه مقام روحانية إدريس.. ثم يقول: وأما علو المكانة فهو لنا أعني المحمديين، كما قال تعالى: {وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ} 2, في هذا العلو وهو يتعالى عن المكان لا عن المكانة". ويقول في تفسير قوله تعالى في سورة النساء: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} 3,:"اتقوا ربكم: اجعلوا ما ظهر منكم وقاية لربكم، واجعلوا ما بطن منكم -وهو ربكم- وقاية لكم، فإن الأمر ذم وحمد، فكونوا وقاية في الذم، واجعلوه وقايتكم في الحمد تكونوا أدباء عالِمين"4. فهذا التفسير ونظائره يحمل النصوص على غير ظاهرها، ويغرق في التأويلات الباطنية البعيدة، ويجر إلى متاهات من الإلحاد والزيغ.

_ 1 مريم: 57. 2 محمد: 35. 3 النساء: 1. 4 انظر "التفسير والمفسرون" جـ2 ص7، 8.

التفسير الإشاري

التفسير الإشاري: ومن هؤلاء المتصوفة من يدَّعي أن الرياضة الروحية التي يأخذ بها الصوفي نفسه تصل إلى درجة ينكشف له فيها ما وراء العبارات القرآنية من إشارات قدسية، وتنهل على قلبه من سُحب الغيب ما تحمله الآيات من المعارف

السبحانية، ويسمى هذا بالتفسير الإشاري، فللآية ظاهر وباطن، والظاهر: هو الذي ينساق إليه الذهن قبل غيره، والباطن هو: ما وراء ذلك من إشارات خفية تظهر لأرباب السلوك، وهذا التفسير الإشاري كذلك إذا أوغل في الإشارات الخفية صار ضربًا من التجهيل، ولكنه إذا كان استنباطًا حسنًا يوافق مقتضى ظاهر العربية وكان له شاهد يشهد لصحته من غير معارض، فإنه يكون مقبولًا. ومن ذلك ما رُوِي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: "كان عمر يُدخلني مع أشياخ بدر: فكأن بعضهم وجد في نفسه فقال: لِمَ تُدخِل هذا معنا ولنا أبناء مثله؟ فقال عمر: إنه مَن حيث علمتم، فدعاه ذات يوم فأدخله معهم. فما رُئيت أنه دعاني يومئذ إلا ليريهم، قال: ما تقولون في قوله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} 1؟ فقال بعضهم: أُمْرِنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا، وسكت بعضهم فلم يقل شيئًا، فقال لي: أكذلك تقول يابن عباس؟ فقلت: لا، قال: فما تقول؟ قلت: هو أجَلُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أعلمه له، قال: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} ، وذلك علامة أجلك، {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} 2,فقال عمر: ما أعلم منها إلا ما تقول"3. قال ابن القيم: "وتفسير الناس يدور على ثلاثة أصول: تفسير على اللفظ، وهو الذي ينحو إليه المتأخرون، وتفسير على المعنى: وهو الذي يذكره السلف، وتفسير على الإشارة: وهو الذي ينحو إليه كثير من الصوفية وغيرهم، وهذا لا بأس به بأربعة شروط: 1- ألَّا يناقض معنى الآية. 2- وأن يكون معنًى صحيحًا في نفسه.

_ 1 النصر: 1. 2 النصر: 3. 3 أخرجه البخاري.

3- وأن يكون في اللفظ إشعار به. 4- وأن يكون بينه وبين معنى الآية ارتباط وتلازم، فإذا اجتمعت هذه الأمور الأربعة كان استنباطًا حسنًا"1.

_ 1 من أهم كتب التفسير الإشاري "تفسير القرآن العظيم" للتستري – مطبوع، و"حقائق التفسير" لأبي عبد الرحمن السلمي الصوفي - مخطوط، و"عرائس البيان في حقائق القرآن" لأبي محمد الشيرازي – مطبوع، و"التأويلات النجمية" لنجم الدين داية وعلاء الدين السمناني – مخطوط، والتفسير المنسوب إلى ابن عربي- مطبوع.

غرائب التفسير

غرائب التفسير: من الناس من له شغف بالإغراب في القول وإن حاد عن الجادة، وركب مسلكًا وعرًا، فكلَّفوا أنفسهم من الأمر ما لا يطيقون، وأَعْمَلوا فِكْرهم فيما لا يُعلم إلا بالتوقيف، فخرجوا وليس في يدهم سوى ما تُسفهه عقولهم من الرعونة والغي، ولهذا عجائب في معاني آيات من القرآن نذكر من غرائبها: 1- قول من قال في {الم} : معنى ألف: ألف الله محمدًا فبعثه نبيًّا- ومعنى لام: لامه الجاحدون وأنكروه – ومعنى ميم: ميم الجاحدون المنكرون، من المُوم بالضم وهو البرسام، علة يهذي المعلوم فيها. قول من قال في {حم، عسق} 1: إن الحاء: حرب عليٍّ ومعاوية – والميم: المروانية "نسبة إلى مروان من بني أمية" – والعين: ولاية العباسية – والسين: ولاية السفيانية - والقاف: قدوة مهدي.

_ 1 الشورى: 1، 2.

3- ما ذكره ابن فورك في تفسير قوله تعالى: {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} 1, أن إبراهيم كان له صديق وصفه بأنه قلبه، أي ليسكن هذا الصديق إلى هذه المشاهدة إذا رآها عيانًا. 4- قول أبي معاذ النحوي في قوله تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَاراً} 2, يعني من إبراهيم نارًا، أي نورًا، هو محمد, صلى الله عليه وسلم {فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ} تقتبسون الدين.

_ 1 البقرة: 260. 2 يس: 80.

التعريفات بأشهر كتب التفسير

التعريفات بأشهر كتب التفسير ... التعريف بأشهر كتب التفسير: تزخر المكتبة الإسلامية بكتب التفسير بالمأثور، وكتب التفسير بالرأي، وكتب التفسير المعاصر. وبعض هذه الكتب أشهر من بعض في التداول بين أيدي القراء.

أشهر الكتب المؤلفة في التفسير بالمأثور

أشهر الكتب المؤلفة في التفسير بالمأثور: 1- التفسير المنسوب إلى ابن عباس. 2- تفسير ابن عيينة. 3- تفسير ابن أبي حاتم. 4- تفسير أبي الشيخ ابن حبان. 5- تفسير ابن عطية. 6- تفسير ابن الليث السمرقندي "بحر العلوم". 7- تفسير أبي إسحاق "الكشف والبيان عن تفسير القرآن". 8- تفسير ابن جرير الطبري "جامع البيان في تفسير القرآن".

9- تفسير ابن أبي شيبة. 10- تفسير البغوي "معالم التنزيل". 11- تفسير أبي الفداء الحافظ ابن كثير "تفسير القرآن العظيم". 12- تفسير الثعالبي "الجواهر الحسان في تفسير القرآن". 13- تفسير جلال الدين السيوطي "الدر المنثور في التفسير بالمأثور". 14- تفسير الشوكاني "فتح القدير". وسنعرف ببعض منها: 1- تفسير ابن عباس: يُنسب إلى ابن عباس -رضي الله عنه- جزء كبير في التفسير. طبع في مصر مرارًا باسم "تنوير المقباس من تفسير ابن عباس" جمعه "أبو طاهر محمد بن يعقوب الفيروز آبادي الشافعي". صاحب القاموس المحيط. وابن عباس، كان بحق: "ترجمان القرآن" وكان عمر بن الخطاب يثق بتفسيره ويجله، وقد أخذ في بعض المواضع عن أهل الكتاب فيما اتفق القرآن فيه مع التوراة والإنجيل، وذلك في دائرة محدودة. وقد اتهمه الأستاذ جولدزيهر في كتاب "المذاهب الإسلامية في تفسير القرآن" بالتوسع في الأخذ عن أهل الكتاب، ونسج على منواله الأستاذ أحمد أمين في "فجر الإسلام" وتولى الرد عليهما الأستاذ محمد حسين الذهبي في كتابه "التفسير والمفسرون"1, فابن عباس كغيره من الصحابة ما كان يسأل علماء اليهود الذين اعتنقوا الإسلام عن شيء يمس العقيدة، أو يتصل بأصول الدين أو فروعه، إنما كان يقبل الصواب الذي لا يتطرق إليه الشك في بعض القصص والأخبار الماضية.

_ 1 انظر جـ1 ص72، 73.

ويمتاز ابن عباس برجوعه في فهم معاني ألفاظ القرآن إلى الشعر العربي، لمعرفته بلغة العرب وإلمامه بديوانها. وتتعدد الروايات عن ابن عباس، وتتفاوت صحة وضعفًا، وقد تتبع العلماء هذه الروايات وكشفوا عن مبلغها من الصحة. فمن أشهر طرق هذه الروايات: 1- طريق معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس - وهذه هي أجود الطرق عنه، وفيها قال الإمام أحمد: "إن بمصر صحيفة في التفسير رواها علي بن أبي طلحة لو رحل رجل فيها إلى مصر قاصدًا ما كان كثيرًا"1, وقال الحافظ ابن حجر: "وهذه النسخة كانت عند أبي صالح كاتب الليث - رواها عن معاوية بن صالح - عن علي بن أبي طلحة - عن ابن عباس، وهي عند البخاري عن أبي صالح، وقد اعتمد عليها في صحيحه فيما يعلقه عن ابن عباس". 2- طريق قيس بن مسلم الكوفي عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس - وهذه الطريق صحيحة على شرط الشيخين. 3- طريق ابن إسحاق صاحب السير، عن محمد بن أبي محمد مولى آل زيد بن ثابت، عن عكرمة أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس - وهي طريق جيدة، وإسنادها حسن. 4- طريق إسماعيل بن عبد الرحمن السدي الكبير، تارة عن أبي مالك، وتارة عن أبي صالح عن ابن عباس، وإسماعيل السدي مُخْتَلف فيه، وهو تابعي شيعي، وقال السيوطي: "رَوَى عن السدي الأئمة مثل الثوري وشعبة، لكن التفسير الذي جمعه رواه أسباط بن نصر، وأسباط لم يتفقوا عليه، غير أن أمثل التفاسير "تفسير السدي"2. 5- طريق عبد الملك بن جريج عن ابن عباس - وهذه الطريق تحتاج إلى دقة في البحث، فإن ابن جريج رَوَى ما ذُكِرَ في كل آية من الصحيح والسقيم.

_ 1 "الإتقان" جـ2 ص188. 2 انظر "الإتقان" جـ2 ص188.

6- طريق الضحاك بن مزاحم الهلالي عن ابن عباس - وهي طريق غير مقبولة؛ لأن الضحاك مُخْتَلف في توثيقه، وطريقه إلى ابن عباس منقطعة؛ لأنه لم يلقه. فإن انضم إلى ذلك رواية بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، فضعيفة، لضعف بشر. 7- طريق عطية العوفي، عن ابن عباس، وهي غير مقبولة؛ لأن عطية ضعيف وربما حسَّن له الترمذي. 8- طريق مقاتل بن سليمان الأزدي الخراساني - ومقاتل ضعيف، يروي عن مجاهد وعن الضحاك ولم يسمع منهما، وقد كذَّبه غير واحد، ولم يوثِّقه أحد، واشتهر عنه التجسيم والتشبيه، وقال أحمد بن حنبل: "لا يعجبني أن أروي عن مقاتل بن سليمان شيئًا". 9- طريق محمد بن السائب الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس - وهذه أوهى الطرق، والكلبي مشهور بالتفسير، وقد قيل فيه: أجمعوا على ترك حديثه، وليس بثقة، ولا يُكتب حديثه، واتهمه جماعة بالوضع، ولذا قال السيوطي في الإتقان: "فإن انضم إلى ذلك -أي إلى طريق الكلبي- رواية محمد بن مروان السدي الصغير عنه فهي سلسلة الكذب". ويتضح من التفسير المنسوب إلى ابن عباس أن معظم ما رُوِي عن ابن عباس في هذا الكتاب -إن لم يكن جميعه- يدور على محمد بن مروان السدي الصغير، عن محمد بن السائب الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، وقد عرفنا مبلغ رواية السدي الصغير عن الكلبي فيما تقدم1.

_ 1 انظر "الإتقان" جـ2 ص189.

2- جامع البيان في تفسير القرآن- للطبري: يعتبر ابن جرير الطبري من الأئمة الأعلام الذين برعوا في علوم كثيرة، وتركوا تراثًا إسلاميًّا ضخمًا تناقلته العصور والأجيال، وقد أحرز شهرة واسعة بكتابيه: في التاريخ: تاريخ الأمم والملوك، والتفسير: جامع البيان في تفسير القرآن. وهما من أهم المراجع العلمية. بل إن كتابه في التفسير هو المرجع الأول عند المفسرين الذين عنوا بالتفسير بالمأثور. ويقع تفسير ابن جرير في ثلاثين جزءًا من الحجم الكبير، وقد كان مفقودًا إلى عهد قريب، ثم قدَّر الله له الظهور حين وُجِدت نسخة مخطوطة في حيازة "أمير حائل" الأمير حمود بن الرشيد من أمراء نجد، طُبِع عليها الكتاب منذ زمن قريب، فأصبحت في يدنا معارف غنية في التفسير بالمأثور. وهو تفسير عظيم القيمة، لا غِنى لطالب التفسير عنه، قال السيوطي: "وكتابه -يعني تفسير محمد بن جرير- أجلُّ التفاسير وأعظمها، فإنه يتعرض لتوجيه الأقوال، وترجيح بعضها على بعض، والإعراب، والاستنباط فهو يفوق بذلك على تفاسير الأقدمين" وقال النووي: "أجمعت الأمة على أنه لم يُصنَّف مثل تفسير الطبري"1. وتفسير الطبري أقدم كتاب وصل إلينا كاملًا في التفسير. فإن المحاولات التفسيرية قبله لم يصل إلينا شيء منها، اللهم إلا ما وصل إلينا منها في ثنايا ذلك الكتاب. وطريقة ابن جرير في تفسيره أنه إذا أراد أن يفسر الآية من القرآن يقول: "القول في تأويل قوله تعالى كذا وكذا" ثم يفسر الآية مستشهدًا بما يرويه بسنده إلى الصحابة أو التابعين من التفسير بالمأثور عنهم، ويعرض لكل ما رُوِي في الآية، ولا يقتصر على مجرد الرواية، بل يوجه الأقوال ويرجح بعضها على بعض، كما يتعرض لناحية الإعراب إن دعت الحال إلى ذلك، ويستنبط بعض الأحكام.

_ 1 انظر "الإتقان" جـ2 ص190.

وقد يقف من السند موقف الناقد البصير أحيانًا، فيعدِّل من رجال الإسناد، ويجرِّح مَن يجرِّح منهم، ويرد الرواية التي لا يثق بصحتها. ويعتني ابن جرير بذكر القراءات وتوجيهها، ويقال: إنه ألَّف فيها مؤلَّفًا خاصًّا. ومع روايته الأخبار المأخوذة من القصص الإسرائيلي فإنه كثيرًا ما يتعقبها بالبحث. ويعتمد ابن جرير على الاستعمالات اللغوية بجانب الروايات المنقولة، ويستشهد بالشعر القديم، ويهتم بالمذاهب النحوية، ويحتكم إلى المعروف من لغة العرب، ويعالج الأحكام الفقهية مجتهدًا، فيذكر أقوال العلماء ومذاهبهم، ويخلص من ذلك برأي يختاره لنفسه ويرجحه. ويناقش مسائل العقيدة مناقشة فاحصة، يرد فيها على الفرق ومذاهب أهل الكلام، وينتصر لأهل السٌّنَّة والجماعة. وقد طبعت دار المعارف بمصر كتابه، في إخراج حسن، وخرَّج أحاديثه الأستاذ أحمد محمد شاكر, ولكن هذه الطبعة لم تتم، مع عظيم نفعها، والعناية بتحقيقها. 3- المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز - لابن عطية: ابن عطية من قضاة الأندلس المشهورين، نشأ في بيت علم وفضل، وكان فقيهًا جليلًا، عارفًا بعلوم الحديث والتفسير واللغة والأدب، ذكي الفؤاد، حسن الفهم، من أعيان مذهب المالكية. وكتابه في التفسير يسمى "المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز". وقد لخص فيه ابن عطية ما رُوِيَ من التفسير بالمنقول وأضفى عليه من روحه العلمية الفياضة ما أكسبه دقة ورواجًا، والكتاب يقع في عشر مجلدات كبار وكان مخطوطًا إلى عهد قريب ثم طُبِع في المغرب سنة 1975 بتحقيق "المجلس العلمي بفاس-مديرية الشئون الإسلامية- المملكة المغربية" والكتاب له

شهرته، وينقل عنه كثير من المفسرين. وهو كثير الاهتمام بالشواهد الأدبية، والصناعة النحوية. ويقارن أبو حيان في مقدمة تفسيره بينه وبين تفسير الزمخشري فيقول: "وكتاب ابن عطية أنقل، وأجمع، وأخلص، وكتاب الزمخشري ألخص وأغوص". ويعقد ابن تيمية مقارنة بين الكتابين كذلك فيقول: "وتفسير ابن عطية خير من تفسير الزمخشري، وأصح نقلًا وبحثًا، وأبعد عن البدع، وإن اشتمل على بعضها، بل هو خير منه بكثير، بل لعله أرجح هذه التفاسير". ويقول ابن تيمية كذلك: "وتفسير ابن عطية وأمثاله أتبع للسُّنة والجماعة، وأسلم من البدعة من تفسير الزمخشري، ولو ذكر كلام السلف الموجود في التفاسير المأثورة عنهم على وجهه لكان أحسن وأجمل. فإنه كثيرًا ما ينقل من تفسير محمد بن جرير الطبري -وهو من أجل التفاسير وأعظمها قدرًا- ثم إنه يدع ما نقله ابن جرير عن السلف لا يحكيه بحال، ويذكر ما يزعم أنه قول المحققين، وإنما يعني بهم طائفة من أهل الكلام الذين قرروا أصولهم بطرق من جنس ما قررت به المعتزلة أصولهم، وإن كان أقرب إلى السٌّنَّة من المعتزلة"1. 4- تفسير القرآن العظيم - لابن كثير: كان عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن عمرو بن كثير إمامًا جليلًا حافظًا. أخذ عن ابن تيمية، واتبعه في كثير من آرائه. وشهد له العلماء بغزارة علمه في التفسير والحديث والتاريخ، وكتابه في التاريخ "البداية والنهاية" مرجع أصيل للتاريخ الإسلامي. وكتابه في التفسير "تفسير القرآن العظيم" من أشهر ما دُوِّن في التفسير بالمأثور، ويأتي في المرتبة الثانية بعد كتاب ابن جرير، فهو يفسِّر كلام الله بالأحاديث والآثار مسندة إلى أصحابها، مع الكلام عما

_ 1 مقدمة ابن تيمية في أصول التفسير ص23.

يحتاج إليه جرحًا وتعديلًا، وترجيح بعض الأقوال على بعض، وتضعيف بعض الروايات وتصحيح بعضها الآخر. ويمتاز ابن كثير بأنه ينبه في كثير من الأحيان إلى ما في التفسير بالمأثور من منكرات الإسرائيليات، كما يذكر أقوال العلماء في الأحكام الفقهية، ويناقش مذاهبهم وأدلتهم أحيانًا. وتفسير ابن كثير طُبِع مع "معالم التنزيل" للبغوي، وطُبِع مستقلًا في أربعة أجزاء كبار، وقام الشيخ أحمد محمد شاكر بطبعه قبيل وفاته بعد أن جرَّده من الأسانيد.

أشهر الكتب المؤلفة في التفسير بالرأي

أشهر الكتب المؤلفة في التفسير بالرأي مدخل ... أشهر الكتب المؤلفة في التفسير بالرأي: 1- تفسير عبد الرحمن بن كيسان الأصم. 2- تفسير أبي علي الجبائي. 3- تفسير عبد الجبار. 4- تفسير الزمخشري "الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، وعيون الأقاويل، في وجوه التأويل". 5- تفسير فخر الدين الرازي "مفاتيح الغيب". 6 - تفسير ابن فورك. 7- تفسير النسفي "مدارك التنزيل وحقائق التأويل". 8- تفسير الخازن "لباب التأويل في معاني التنزيل". 9- تفسير أبي حيان "البحر المحيط". 10- تفسير البيضاوي "أنوار التنزيل وأسرار التأويل". 11- تفسير الجلالين: جلال الدين المحلي، وجلال الدين السيوطي.

أما جلال الدين المحلي، فقد ابتدأ تفسيره من أول سورة الكهف إلى آخر سورة الناس، ثم ابتدأ بتفسير الفاتحة، وبعد أن أتمها اختارته المنية فلم يفسِّر ما بعدها. وأما جلال الدين السيوطي، فقد جاء بعد الجلال المحلي فكمَّل تفسيره، فابتدأ بتفسير سورة البقرة وانتهى عند آخر سورة الإسراء، ووضع تفسير الفاتحة في آخر تفسير الجلال المحلي لتكون ملحقة به. وكثيرًا ما يخطئ بعض الناس في هذا التقسيم. 12- تفسير القرطبي "الجامع لأحكام القرآن". 13- تفسير أبي السعود "إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم". 14- تفسير الآلوسي "روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني". وسنعرف ببعض منها: 1- مفاتيح الغيب - للرازي: فخر الدين الرازي من العلماء المتبحرين الذين نبغوا في العلوم النقلية والعلوم العقلية، واكتسب شهرة عظيمة طوفت به في الآفاق، وله مصنفات كثيرة، ومن أهم مصنفاته تفسيره الكبير، المسمى بـ "مفاتيح الغيب". ويقع هذا التفسير في ثماني مجلدات كبار، وتدل الأقوال على أن الفخر الرازي لم يتمه. وتتضارب الآراء في الموضع الذي انتهى إليه في تفسيره، وفيمن أتمه بعده. ويعلِّق على هذا الشيخ محمد الذهبي فيقول: "والذي أستطيع أن أقوله كحَلٍّ لهذا الاضطراب، هو أن الإمام فخر الدين كتب تفسيره هذا إلى سورة الأنبياء، فأتى بعده شهاب الدين الخوبي فشرع في تكملة هذا التفسير ولكنه لم يتمه، فأتى بعده نجم الدين القمولي فأكمل ما بقي منه، كما

يجوز أن يكون الخوبي أكمله إلى النهاية، والقمولي كتب تكملة أخرى غير التي كتبها الخوبي، وهذا هو الظاهر من عبارة صاحب كشف الظنون"1. والقارئ لهذا التفسير لا يجد تفاوتًا في المنهج والمسلك، ولا يستطيع أن يميِّز بين الأصل والتكملة. ويهتم الفخر الرازي ببيان المناسبات بين آيات القرآن وسوره، ويُكْثِر من الاستطراد إلى العلوم الرياضية والطبيعية والفلكية والفلسفية ومباحث الإلهيات على نمط استدلالات الفلاسفة العقلية، ويذكر مذاهب الفقهاء، ومعظم ذلك لا حاجة إليه في علم التفسير. فكتابه موسوعة علمية في علم الكلام، وفي علوم الكون والطبيعة، وبهذا فَقَدَ أهميته كتفسير للقرآن الكريم. 2- البحر المحيط - لأبي حيان: كان أبو حيان الأندلسي الغرناطي على جانب كبير من المعرفة باللغة، وكان على علم واسع في التفسير، والحديث، وتراجم الرجال، ومعرفة طبقاتهم، خصوصًا المغاربة، وله مؤلفات كثيرة، أهمها تفسيره "البحر المحيط". ويقع هذا التفسير في ثماني مجلدات كبار، وهو مطبوع متداول، ويهتم أبو حيان فيه بذكر وجوه الإعراب، ومسائل النحو، ويتوسع في هذا فيذكر الخلاف بين النحويين، ويناقش ويجادل، حتى أصبح الكتاب أقرب ما يكون إلى كتب النحو منه إلى كتب التفسير. وينقل أبو حيان في تفسيره كثيرًا من تفسير الزمخشري وتفسير ابن عطية. ولا سيما ما يتعلق بمسائل النحو ووجوه الإعراب، ويتعقبها كثيرًا بالرد،

_ 1 "التفسير والمفسرون" جـ1 ص293.

ويحمل على الزمخشري أحيانًا حملات قاسية، وإن كان يشيد بما له من مهارة فائقة في تجلية بلاغة القرآن وقوة بيانه. ولا يرضى أبو حيان عن اعتزاليات الزمخشري فينقدها ويردها بأسلوب ساخر، ويعتمد في أكثر نقوله على كتاب "التحرير والتحبير لأقوال أئمة التفسير" وهو لشيخه: جمال الدين أبي عبد الله محمد بن سليمان المقدسي المعروف بابن النقيب، ويذكر أبو حيان عنه أنه أكبر كِتاب صُنِّف في علم التفسير، يبلغ في العدد مائة سِفْر أو يكاد. 3- الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، للزمخشري: كان الزمخشري عالِمًا عبقريًّا فذًّا في النحو واللغة والأدب والتفسير، وآراؤه في العربية يستشهد علماء اللغة بها لأصالتها ودقتها. والزمخشري معتزلي الاعتقاد، حنفي المذهب، ألَّف كتاب "الكشاف" بما يدعم عقيدته ومذهبه. واعتزاليات الزمخشري في تفسيره أمارة على حذقه ودهائه ومهارته، فهو يأتي بالإشارات البعيدة ليضمنها معنى الآية في الانتصار للمعتزلة والرد على خصومهم. ولكنه في الجانب اللغوي كشف عن جمال القرآن وسحر بلاغته لما له من إحاطة بعلوم البلاغة والبيان والأدب والنحو والتصريف، فكان مرجعًا لُغويًّا غنيًّا، وهو يشير في مقدمته إلى هذا فيذكر أن مَن يتصدى للتفسير لا يغوص على شيء من حقائقه، إلا رجل قد برع في علمين مختصين بالقرآن، وهما "علم المعاني"، و"علم البيان". وتمهل في ارتيادهما آونة، وتعب في التنقيب

عنهما أزمنة، وبعثته على تتبع مظانها همة في معرفة لطائف حجة الله، وحرص على استيضاح معجزة رسول الله، بعد أن يكون آخذًا من سائر العلوم بحظ، جامعًا بين أمرين: تحقيق وحفظ، كثير المطالعات، طويل المراجعات، قد رجع زمانًا ورجع إليه. ورد عليه، فارسًا في علم الإعراب، مقدمًا في حملة الكتاب. وكان مع ذلك مسترسل الطبيعة منقادها، مستقل القريحة وقَّادها". ويحلل ابن خلدون كتاب الكشاف للزمخشري في قوله عند الحديث عما يرجع إليه التفسير من معرفة اللغة والإعراب والبلاغة: "ومن أحسن ما اشتمل عليه هذا الفن من التفاسير، كتاب الكشاف للزمخشري، من أهل خوارزم العراق، إلا أن مؤلفه من أهل الاعتزال في العقائد، فيأتي بالحِجاج على مذاهبهم الفاسدة، حيث تعرض له في آي القرآن من طريق البلاغة، فصار بذلك للمحققين من أهل السٌّنَّة انحراف عنه، وتحذير للجمهور من مكامنه، مع إقرارهم برسوخ قدمه فيما يتعلق باللسان والبلاغة، وإذا كان الناظر فيه واقفًا مع ذلك على المذاهب السُّنية، محسنًا للحِجاج عنها، فلا جَرَمَ أنه مأمون من غوائله، فلتغتنم مطالعته لغرابة فنونه في اللسان، ولقد وصل إلينا في هذه العصور تأليف لبعض العراقيين، وهو شرف الدين الطيبي من أهل توريز من عراق العجم، شرح فيه كتاب الزمخشري هذا، وتتبع ألفاظه، وتعرض لمذاهبه في الاعتزال بأدلة تزيفها، وتبيِّن أن البلاغة إنما تقع في الآية على ما يراه أهل السٌّنَّة، لا على ما يراه المعتزلة، فأحسن في ذلك ما شاء، مع إمتاعه في سائر فنون البلاغة، وفوق كل ذي علم عليم"1.

_ 1 مقدمة ابن خلدون، ص491.

أشهر كتب التفسير في العصر الحديث

أشهر كتب التفسير في العصر الحديث: لقد أعطى المفسرون الأوائل كتب التفسير حظها من المنقول والمعقول، وتوافروا على المباحث اللغوية، والبلاغية، والنحوية، والفقهية والمذهبية والكونية الفلسفية ثم فترت الهمم، وجاء مَن بعدهم مختصرًا وناقلًا، أو مفندًا ومرجحًا. فلما جاءت النهضة العلمية في العصر الحديث شملت فيما شملته "التفسير" وإليك أمثلة منه: 1- الجواهر في تفسير القرآن، للشيخ طنطاوي جوهري: كان الشيخ طنطاوي جوهري مغرمًا بالعجائب الكونية، وكان مدرسًا بمدرسة دار العلوم في مصر، يفسِّر بعض آيات القرآن على طلبتها، كما كان يكتب في بعض الصحف، ثم خرج بمؤلفه في التفسير "الجواهر في تفسير القرآن". وقد عُني في هذا التفسير عناية فائقة، بالعلوم الكونية، وعجائب الخَلْقِ، ويقرر في تفسيره أن في القرآن من آيات العلوم ما يربو على سبعمائة وخمسين آية، ويهيب بالمسلمين أن يتأملوا في آيات القرآن التي تُرْشد إلى علوم الكون، ويحثهم على العمل بما فيها، ويفضلها على غيرها في الوقت الحاضر، حتى على فرائض الدين، فيقول: "يا ليت شعري: لماذا لا نعمل في آيات العلوم الكونية ما فعله آباؤنا في آيات الميراث؟ ولكني أقول: الحمد لله. الحمد لله! إنك تقرأ في هذا التفسير خلاصات من العلوم، ودراستها أفضل من دراسة عِلم الفرائض؛ لأنه فرض كفاية، فأما هذه فإنها للازدياد في معرفة الله، وهي فرض عين على كل قادر" ويأخذ الغرور منه مأخذه، فينحى باللائمة على المفسرين السابقين، ويقول: "إن هذه العلوم التي أدخلناها في تفسير القرآن هي التي أغفلها الجهلاء المغرورون من صغار الفقهاء في الإسلام، فهذا زمان الانقلاب، وظهور الحقائق، والله يهدي مَن يشاء إلى صراط مستقيم".

والمؤلف يخلط في كتابه خلطًا، فيضع في تفسيره صور النبات والحيوانات ومناظر الطبيعة، وتجارب العلوم كتاب مدرسي في العلوم، ويشرح بعض الحقائق الدينية بما جاء عن أفلاطون في جمهوريته، وعن إخوان الصفا في رسائلهم، ويستخدم الرياضيات، ويفسر الآيات تفسيرًا يقوم على نظريات علمية حديثة. وقد أساء الشيخ طنطاوي جوهري في نظرنا بهذا إلى التفسير إساءة بالغة من حيث يظن أنه يُحسن صنعًا ولم يجد تفسيره قبولًا لدى كثير من المثقفين. لما فيه من تعسف في حمل الآيات على غير معناها، ولذا وُصِف هذا التفسير بما وُصِفَ به تفسير الفخر الرازي، فقيل عنه: "فيه كل شيء إلا التفسير". 2- تفسير المنار - للسيد محمد رشيد رضا: لقد قام الشيخ محمد عبده بنهضة علمية مباركة، آتت ثمارها في تلاميذه، وترتكز هذه النهضة على الوعي الإسلامي، وإدراك مفاهيم الإسلام الاجتماعية، وعلاج هذا الدين لمشاكل الحياة المعاصرة، وبدأت نواة ذلك في حركة جمال الدين الأفغاني، الذي تتلمذ عليه الشيخ محمد عبده، وكان الشيخ محمد عبده يلقي دروسًا في التفسير بالجامع الأزهر، ولازمه كثير من طلابه ومريديه، وكان الشيخ رشيد ألزم الناس لهذه الدروس، وأحرصهم على تلقيها وضبطها، فكان بحقٍّ الوارث الأول لعلم الشيخ محمد عبده. فظهرت ثمرة ذلك في تفسيره المسمى بـ "تفسير القرآن الحكيم"، والمشهور بـ "تفسير المنار". نسبة إلى مجلة "المنار" التي كان يصدرها. وقد بدأ تفسيره من أول القرآن، وانتهى عند قوله تعالى: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} 1, ثم عاجلته المنية قبل أن يتم تفسير القرآن، وهذا القدر من التفسير مطبوع في اثني عشر مجلدًا كبارًا.

_ 1 يوسف: 101.

وهو تفسير غني بالمأثور عن سالف هذه الأمة من الصحابة التابعين، وبأساليب اللغة العربية، وبسُنَن الله الاجتماعية، يشرح الآيات بأسلوب رائع، ويكشف عن المعاني بعبارة سهلة، ويوضح كثيرًا من المشكلات، ويرد على ما أُثِير حول الإسلام من شبهات خصومه، ويعالج أمراض المجتمع بهَدْي القرآن, ويصرح الشيخ رشيد بأن هدفه من هذا التفسير هو: "فهم الكتاب من حيث هو دين يرشد الناس إلى ما فيه سعادتهم في حياتهم الدنيا وحياتهم الآخرة".

4- التفسير البياني للقرآن الكريم، لعائشة عبد الرحمن "بنت الشاطئ": من نسائنا المعاصرات اللاتي أسهمن بنصيبهن في الأدب العربي والفكر الاجتماعي - الدكتورة عائشة عبد الرحمن، المشهورة بـ "بنت الشاطئ". وقد تولت التدريس في كلية الآداب بالقاهرة، وفي كلية التربية للبنات. وتناولت في تدريسها تفسير بعض سور القرآن القصار. وطبعت ذلك في "التفسير البياني للقرآن". وبنت الشاطئ تهتم في تفسيرها بالبيان العربي وتذكر في المقدمة أنها اهتدت إلى هذه الطريقة لمعالجة مشكلاتنا في حياتنا الأدبية واللغوية، وأنها بحثت ذلك في عدة مؤتمرات دولية، ففي مؤتمر المستشرقين الدولي في الهند سنة 1964 – كان موضوع البحث الذي شاركت به في شُعبة الدراسات الإسلامية، هو "مشكلة الترادف اللغوي، في ضوء التفسير البياني للقرآن الكريم" تقول: "وفيه بيَّنت كيف شهد التتبع الدقيق لمعجم ألفاظ القرآن - واستقراء دلالاتها في سياقها، بأن القرآن يستعمل اللفظ بدلالة محدودة، لا يمكن معها أن يقوم لفظ مقام آخر، في المعنى الواحد الذي تحشد له المعاجم اللغوية وكتب التفسير، عددًا قَلَّ أو كثر من الألفاظ المقول بترادفها". وتعيب بنت الشاطئ على الانشغال في دروس الأدب بالمعلقات والنقائض والمفضليات ومشهور الخمريات والحماسيات عن الاتجاه إلى القرآن الكريم، ثم تقول: "ونحن في الجامعة نترك هذا الكنز الغالي لدرس التفسير، وقَلَّ فينا مَن حاول أن ينقله إلى مجال الدراسة الأدبية الخالصة التي قصرناها على دواوين الشعر، ونثر أمراء البيان". والتفسير البياني محاولة لا بأس بها لتحقيق الأغراض التي تهدف إليها بنت الشاطئ، وهي تعتمد في ذلك على كتب التفسير التي لها عناية بوجوه البلاغة القرآنية، وتُعبِّر تعبيرًا أدبيًّا راقيًا1.

_ 1 من محاذير هذا النهج في التفسير أنه يَغفل جوانب القرآن المتعددة من أسرار الإعجاز في معانيه وتشريعاته، وأحكامه ومبادئه للحياة الإنسانية الفاضلة. ويتخذ من النص القرآني مادة للدراسة الأدبية كالنص الشعري أو النثري، ودراسة النصوص الأدبية تعتمد على الذوق اللغوي الذي يتفاوت من شخص لآخر بتفاوت ثقافته.

تفسير الفقهاء

تفسير الفقهاء مدخل ... تفسير الفقهاء: كان الصحابة في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يفهمون القرآن بسليقتهم العربية، وإن التبس عليهم فهم آية رجعوا إلى رسول الله فيبينها لهم. ولما توفي -صلى الله عليه وسلم- وتولى فقهاء الصحابة توجيه الأمة بقيادة الخلفاء الراشدين. وُجِدت قضايا لم تسبق لهم كان القرآن ملاذًا لهم لاستنباط الأحكام الشرعية للقضايا الجديدة. فيجمعون على رأي فيها، وقلَّما يختلفون عند التعارض، كاختلافهم في عِدَّة الحامل المتوفى عنها زوجها. أهي وَضْع الحمل، أم مُضِي أربعة أشهر وعشرٍ، أم أبعد الأجلين منهما؟ حيث قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} 1، وقال: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} 2, فكانت هذه الأحوال على قلتها بداية الخلاف الفقهي في فهم آيات الأحكام. فلما كان عهد الأئمة الفقهاء الأربعة، واتخذ كل إمام أصولًا لاستنباط الأحكام في مذهبه. وكثرت الأحداث وتشعبت المسائل ازدادت وجوه الاختلاف في فهم بعض الآيات لتفاوت وجوه الدلالة فيها دون تعصب لمذهب بل استمساكًا بما يرى الفقيه أنه الحق، ولا يجد غضاضة إذا عرف الحق لدى غيره أن يرجع إليه. ظلَّ الأمر هكذا حتى جاء عصر التقليد والتعصب المذهبي، فقَصَر أتباع الأئمة جهودهم على توضيح مذهبهم والانتصار له، ولو كان ذلك بحمل الآيات القرآنية على المعاني المرجوحة البعيدة، ونشأ من هذا تفسير فقهي خاص لآيات الأحكام في القرآن، يشتد التعصب المذهبي فيه أحيانًا، ويخف أخرى. وتتابع هذا المنهج إلى العصر الحديث، وهذا هو ما نسميه بالتفسير الفقهي، ومن أشهر كتبه:

_ 1 البقرة: 234. 2 الطلاق: 4.

1- أحكام القرآن للجصاص - مطبوع. 2- أحكام القرآن للكيا الهراس - مطبوع. 3– أحكام القرآن لابن العربي - مطبوع. 4- الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - مطبوع. 5– الإكليل في استنباط التنزيل للسيوطي - مخطوط. 6- التفسيرات الأحمدية في بيان الآيات الشرعية لملا جيون - مطبوع بالهند. 7- تفسير آيات الأحكام للشيخ محمد السايس - مطبوع. 8- تفسير آيات الأحكام للشيخ مناع القطان - مطبوع. 9- أضواء البيان للشيخ محمد الشنقيطي – مطبوع. وسنعرِّف ببعض منها:

أحكام القرآن للجصاص

1- أحكام القرآن – للجصاص: أبو بكر أحمد بن علي الرازي المشهور بالجصاص -نسبة إلى العمل بالجص– من أئمة الفقه الحنفي في القرن الرابع الهجري. ويعتبر كتابه "أحكام القرآن" من أهم كتب التفسير الفقهي، ولا سيما عند الأحناف. وقد اقتصر المؤلف في هذا الكتاب على تفسير الآيات التي تتعلق بالأحكام الفرعية، فيورد الآية أو الآيات، ثم يتولى شرحها بشيء من المأثور في معناها، ويستطرد في ذكر المسائل الفقهية التي تتصل بها من قريب أو بعيد، ويسوق الخلافات المذهبية، حيث يشعر القارئ أنه يقرأ في كتاب من كتب الفقه، لا في كتاب من كتب التفسير. والجصاص يتعصب لمذهب الحنفية تعصبًا ممقوتًا، يحمله على التعسف في تفسير الآيات وتأويلها انتصارًا لمذهبه، ويشتد في الرد على المخالفين متعنتًا

في التأويل بصورة تنفر القارئ أحيانًا من متابعة القراءة، لعباراته اللاذعة في مناقشة المذاهب الأخرى. ويبدو من تفسير الجصاص كذلك أنه ينحو منحى المعتزلة في العقائد. فيقول مثلًا في قوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} 1: معناه لا تراه الأبصار، وهذا تمدح بنفي رؤية الأبصار، كقوله تعالى: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} 2، وما تمدح الله بنفيه عن نفسه فإن إثبات ضده ذم ونقص، فغير جائز إثبات نقيضه بحال.. فلما تمدح بنفي رؤية البصر عنه لم يجز إثبات ضده ونقيضه بحال. إذ كان فيه إثبات صفة نقص، ولا يجوز أن يكون مخصوصًا بقوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} 3؛ لأن النظر محتمل لمعان: منها انتظار الثواب، كما رُوِي عن جماعة من السلف، فلما كان ذلك محتملًا للتأويل لم يجز الاعتراض به على ما لا مساغ للتأويل فيه، والأخبار المروية في الرؤية إنما المراد بها العلم لو صحت، وهو علم الضرورة الذي لا تشوبه شبهة، ولا تعرض فيه الشكوك؛ لأن الرؤية بمعنى العلم مشهورة في اللغة"4. والكتاب مطبوع في ثلاث مجلدات، وهو متداول بين أهل العلم، ومن مراجع الفقه الحنفي.

_ 1 الأنعام: 103. 2 البقرة: 255. 3 القيامة: 22، 23. 4 انظر جـ3 ص5.

أحكام القرآن لابن العربي

2- أحكام القرآن – لابن العربي: أبو بكر محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن أحمد المعافري الأندلسي الإشبيلي. من أئمة علماء الأندلس المتبحرين. وهو مالكي المذهب. وكتابه "أحكام القرآن" أهم مرجع للتفسير الفقهي عند المالكية.

وابن العربي في تفسيره رجل معتدل منصف، لا يتعصب لمذهبه كثيرًا، ولا يتعسف في تفنيد آراء المخالفين كما فعل الجصاص، وإن كان يتغاضى عن كل زلة علمية تصدر من مجتهد مالكي. وهو يذكر آراء العلماء في تفسير الآية مقتصرًا على آيات الأحكام، ويُبين احتمالاتها المختلفة لدى المذاهب المتعددة، ويُفرد كل نقطة في تفسير الآية بعنوان. فيقول: المسألة الأولى.. المسألة الثانية.. وهكذا، وقلَّما يقسو في الرد على مخالفيه، كقوله مثلًا في تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} 1: "المسألة الحادية عشرة" قوله عز وجل: {فَاغْسِلُوا} وظن الشافعي – وهو عند أصحابه معد بن عدنان في الفصاحة بله أبي حنيفة وسواه – أن الغسل صب الماء على المغسول من غير عرك، وقد بينا فساد ذلك في مسائل الخلاف، وفي سورة النساء، وحققنا أن الغسل مس اليد مع إمرار الماء أو ما في معنى اليد"2. ويحتكم ابن العربي في تفسيره إلى اللغة في استنباط الأحكام. وينفر من الإسرائيليات، ويتعرض لنقد الأحاديث الضعيفة ويحذر منها. والكتاب مطبوع عدة طبعات، منها طبعة في مجلدين كبيرين، ومنها طبعة في أربع مجلدات ويتداوله العلماء.

_ 1 المائدة: 6. 2 انظر جـ1 ص232.

الجامع لأحكام القرآن لأبي عبد الله القرطبي

3- الجامع لأحكام القرآن – لأبي عبد الله القرطبي: أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري، الخزرجي الأندلسي، عالِم فذ من علماء المالكية. له مصنفات كثيرة، أشهرها كتابه في التفسير "الجامع لأحكام القرآن".

والقرطبي في تفسيره لم يقتصر على آيات الأحكام وإنما يفسر القرآن الكريم تباعًا، فيذكر سبب النزول، ويعرض للقراءات والإعراب، ويشرح الغريب من الألفاظ، ويضيف الأقوال إلى قائليها، ويضرب صفحًا عن كثير من قصص المفسرين، وأخبار المؤرخين، وينقل عن العلماء السابقين الموثوقين. ولا سيما من ألَّف منهم في كتب الأحكام، فينقل عن ابن جرير الطبري، وابن عطية، وابن العربي، والكيا الهراس، وأبي بكر الجصاص. ويفيض القرطبي في بحث آيات الأحكام، فيذكر مسائل الخلاف، ويسوق أدلة كل رأي، ويعلق عليها، ولا يتعصب لمذهبه المالكي، ففي تفسير قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} 1, يقول في المسألة الثانية عشرة من مسائل هذه الآية بعد أن ذكر خلاف العلماء في حكم مَن أكل في نهار رمضان ناسيًا وما نُقِل عن مالك من أنه يفطر وعليه القضاء يقول: "وعند غير مالك ليس بمفطر كل من أكل ناسيًا لصومه، قلت: وهو الصحيح، وبه قال الجمهور إن مَن أكل أو شرب ناسيًا فلا قضاء عليه، وأن صومه تام، لحديث أبي هريرة قال: قال رسول الله, صلى الله عليه وسلم: "إذا أكل الصائم ناسيًا أو شرب ناسيًا فإنما هو رزق ساقه الله تعالى إليه، ولا قضاء عليه" 2, فأنت ترى أنه بهذا يخالف مذهبه، وينصف الآخرين. ويرد القرطبي على الفرق، فيرد على المعتزلة، والقدرية، والروافض، والفلاسفة، وغلاة المتصوفة، ولكن بأسلوب مهذب كذلك، ويدفعه الإنصاف إلى الدفاع عمن يهاجمهم ابن العربي من المخالفين أحيانًا – ويلومه على ما يصدر منه من عبارات قاسية على علماء المسلمين. وحين ينقد يكون نقده نزيهًا في أدب وعفة. وقد كان كتاب "الجامع لأحكام القرآن" مفقودًا من المكتبات حتى قامت دار الكتب المصرية بطبعه أخيرًا فيسَّرت الحصول عليه للقارئين.

_ 1 البقرة: 187. 2 انظر جـ2 ص322.

تراجم لبعض مشاهير المفسرين

26- تراجم لبعض مشاهير المفسرين "ابن عباس": نسبه وحياته: هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف القرشي الهاشمي ابن عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمه أم الفضل لبابة بنت الحارث الهلالية، ولد وبنو هاشم بالشعب قبل الهجرة بثلاث –وقيل بخمس- والأول أثبت. وقد حج عبد الله بن عباس سنة قتل عثمان بأمر منه، وكان على الميسرة يوم صفين، وولاه على البصرة، فلم يزل ابن عباس عليها حتى قُتل عليٌّ فاستخلف على البصرة عبد الله بن الحارث ومضى إلى الحجاز، وتوفي بالطائف سنة خمس وستين -وقيل سبع، وقيل ثمان- وهو الصحيح في قول الجمهور، قال الواقدي: لا خلاف عند أئمتنا أنه ولد بالشعب حين حصرت قريش بني هاشم، وأنه كان له عند موت النبي -صلى الله عليه وسلم- ثلاث عشرة سنة. منزلته وعلمه: وابن عباس ترجمان القرآن، وحَبْر الأمة، ورئيس المفسرين، فقد أخرج البيهقي في الدلائل عن ابن مسعود قال: "نِعْمَ ترجمان القرآن ابن عباس" وأخرج أبو نعيم عن مجاهد قال: "كان ابن عباس يُسمى البحر لكثرة علمه"، وأخرج ابن سعد بسند صحيح عن يحيى بن سعيد الأنصاري: "لما مات زيد بن ثابت قال أبو هريرة: مات حَبْر هذه الأمة، ولعل الله أن يجعل في ابن عباس خَلَفًا". وقد أحرز ابن عباس منزلته بين كبار الصحابة على صغر سنه بعلمه وفهمه تحقيقًا لدعوة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ففي الصحيح عنه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ضمه إليه وقال: "اللهم علمه الحكمة". وفي معجم البغوي، وغيره عن عمر أنه كان يقرب ابن عباس ويقول: "إني رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دعاك فمسح رأسك، وتَفَلَ في فيك" وقال: "اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل". وأخرج البخاري من

طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر، فكأن بعضهم وَجَدَ في نفسه، فقال: لِمَ يدخل هذا معنا وإن لنا أبناء مثله؟ فقال عمر: إنه مَن علمتم. فدعاهم ذات يوم فأدخلني معهم، فما رأيت أنه دعاني فيهم يومئذ إلا ليريهم، فقال: ما تقولون في قول الله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} 1؟ فقال بعضهم: أُمْرِنا أن نحمد الله ونستغفره إذ نصرنا وفتح علينا، وسكت بعضهم فلم يقل شيئًا، فقال لي: أكذلك تقول يابن عباس؟ فقلت: لا، فقال: ما تقول؟ فقلت: هو أجَلُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أعلمه له، قال: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} فذلك علامة أجلك، {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} 2, فقال عمر: لا أعلم منها إلا ما تقول". تفسيره: وقد ورد عن ابن عباس في التفسير ما لا يُحصى كثرةً، وجُمِع ما نُقِل عنه في تفسير مختصر ممزوج يسمى "تفسير ابن عباس" وفيه روايات وطرق مختلفة، ولكن أحسن الطرق عنه طريق علي بن أبي طلحة الهاشمي عنه، واعتمد على هذه البخاري في صحيحه، ومن جيد الطرق طريق قيس بن مسلم الكوفي عن عطاء بن السائب. وفي التفاسير الطوال التي أسندوها إلى ابن عباس مجاهيل، وأوهى طرقه طريق الكلبي عن أبي صالح، والكلبي هو أبو النصر محمد بن السائب المتوفى سنة 146هـ، فإن انضم إليه رواية محمد بن مروان السدي الصغير المتوفى سنة 186هـ فهي سلسلة الكذب، وكذلك طريق مقاتل بن سليمان بن بشر الأزدي، إلا أن الكلبي يفضل عليه لما في مقاتل من المذاهب الرديئة.. وطريق الضحاك بن مزاحم الكوفي عن ابن عباس منقطعة، فإنه لم يلق ابن عباس، وإن انضم إلى ذلك رواية بشر بن عمارة فضعيفة لضعف بشر، وإن كان من رواية جويبر عن الضحاك فأشد ضعفًا؛ لأن جويبرًا شديد الضعف متروك.

_ 1 النصر: 1. 2 النصر: 3.

وطريق العوفي عن ابن عباس أخرج منها ابن جرير وابن أبي حاتم كثيرًا والعوفي ضعيف ليس بواه، وربما حسَّن له الترمذي. وبهذا يستطيع القارئ أن ينقب عن الطرق ويعرف منها الجيد المقبول من الضعيف أو المتروك، فليس كل ما رُوِي عن ابن عباس بالصحيح الثابت. وقد ذكرنا مزيدًا من التفصيل عن ذلك عند الكلام عن تفسيره.

مجاهد بن جبر

مجاهد بن جبر: نسبه وحياته: هو مجاهد بن جبر المكي أبو الحجاج المخزومي المقرئ، مولى السائب بن أبي السائب، رَوَى عن عليٍّ، وسعد بن أبي وقاص، والعبادلة الأربعة، ورافع بن خديج، وعائشة، وأم سلمة، وأبي هريرة، وسراقة بن مالك، وعبد الله بن السائب المخزومي، وخلق كثير. ورَوَى عنه عطاء، وعكرمة، وعمرو بن دينار، وقتادة, وسليمان الأحول، وسليمان الأعمش، وعبد الله بن كثير القارئ، وآخرون. وكان مولده سنة 21هـ "إحدى وعشرين" في خلافة عمر، ومات سنة اثنتين أو ثلاث ومائة، وقال يحيى القطان: مات سنة 104هـ "أربع ومائة". منزلته: ومجاهد رأس المفسرين من طبقة التابعين حتى قيل إنه كان أعلمهم بالتفسير، وقد أخذ تفسيره عن ابن عباس ثلاثين مرة، وعنه أيضًا قال: عرضتُ المصحف على ابن عباس ثلاث عرضات، أقف عند كل آية وأسأله عنها, فِيم نزلت، وكيف كانت؟ وقال الثوري، إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به، قال ابن تيمية: ولهذا يعتمد على تفسيره الشافعي والبخاري وغيرهما من أهل العلم. وقال أبو حاتم: مجاهد لم يسمع عن عائشة، حديثه عنها مرسل، وقال: مجاهد عن سعد ومعاوية وكعب بن عجرة مرسل، وقال أبو نعيم، قال يحيى القطان: مرسلات مجاهد أحب إليَّ من مرسلات عطاء، وقال قتادة: أعلم مَن بقي بالتفسير مجاهد، وقال ابن سعد: كان ثقة فقيهًا عالِمًا كثير الحديث،

وقال ابن حبان: كان فقيهًا ورعًا عابدًا متقنًا، وقال الذهبي في آخر ترجمته: أجمعت الأمة على إمامة مجاهد والاحتجاج به، وقال: قرأ عليه عبد الله بن كثير. وإذا كان الثوري يقول: إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به، فليس معنى هذا أن نأخذ كل ما نُسِب إلى مجاهد، فإن مجاهدًا كغيره من الرواة الذين نُقِل عنهم، وقد يكون من النقلة عنه الضعيف الذي لا يوثق به، فلا بد من التحري وثبوت سلامة السند، شأنه في ذلك شأن ابن عباس فيما رُوِي عنه.

الطبري

الطبري: نسبه وحياته: هو محمد بن جرير بن يزيد بن خالد بن كثير أبو جعفر الطبري، الآملي الأصل، البغدادي المولد والوفاة – ولد سنة 224هـ "أربع وعشرين ومائتين"، وتوفي سنة 310هـ "عشر وثلاثمائة"، وكان عالِمًا فذًّا كثير الرواية ذا بصيرة بالنقل والترجيح بين الروايات، وله باع طويل في تاريخ الرجال وأخبار الأمم. تصانيفه: صنف ابن جرير من الكتب: جامع البيان في تفسير القرآن، وتاريخ الأمم والملوك وأخبارهم، والآداب الحميدة والأخلاق النفيسة، وتاريخ الرجال، واختلاف الفقهاء، وتهذيب الآثار، وكتاب البسيط في الفقه، والجامع في القراءات، وكتاب التبصير في الأصول. تفسيره: وكتابه في التفسير "جامع البيان في تفسير القرآن" أَجَلُّ التفاسير وأعظمها، وهو المرجع الأصيل للمفسرين بالأثر، وابن جرير يورد التفسير مسندًا إلى الصحابة والتابعين وأتباعهم، ويتعرض لتوجيه الأقوال وترجيح بعضها على بعض، وقد أجمع العلماء المعتبرون على أنه لم يؤلف في التفسير مثله، قال النووي في تهذيبه: كتاب ابن جرير في التفسير لم يصنِّف أحد مثله، ويمتاز ابن جرير بالاستنباط الرائع، والإشارة إلى ما خفي في الإعراب، وبذلك كان تفسيره فوق أقرانه من التفاسير، وأكثر ما ينقل ابن كثير عن ابن جرير.

ابن كثير

ابن كثير: نسبه وحياته: هو إسماعيل بن عمر القرشي ابن كثير البصري ثم الدمشقي، عماد الدين أبو الفداء الحافظ المحدِّث الشافعي. ولد سنة 705هـ "خمس وسبعمائة"، وتوفي سنة 774هـ "أربع وسبعين وسبعمائة"، بعد حياة زاخرة بالعلم، فقد كان فقيهًا متقنًا، ومحدِّثًا بارعًا، ومؤرخًا ماهرًا، ومفسرًا ضابطًا، قال فيه الحافظ ابن حجر: "إنه كان من محدِّثي الفقهاء" وقال: "سارت تصانيفه في البلاد في حياته، وانتُفِع بها بعد وفاته". تصانيفه: ومن تصانيفه: البداية والنهاية في التاريخ، وهو من أهم المراجع للمؤرخين، والكواكب الدراري في التاريخ، انتخبه من البداية والنهاية، وتفسير القرآن، والاجتهاد في طلب الجهاد، وجامع المسانيد، والسنن الهادي لأقوم سنن، والواضح النفيس في مناقب الإمام محمد بن إدريس. تفسيره: قال فيه السيد محمد رشيد رضا: "هذا التفسير من أشهر كتب التفسير في العناية بما رُوِي عن مفسري السلف، وبيان معاني الآيات وأحكامها، وتحامي ما أطال به الكثيرون من مباحث الإعراب ونكت فنون البلاغة، أو الاستطراد لعلوم أخرى لا يُحتاج إليها في فهم القرآن، ولا التفقه فيه، ولا الاتعاظ به. ومن مزاياه العناية بما يسمونه تفسير القرآن بالقرآن، فهو أكثر ما عرفنا من كتب التفسير سردًا للآيات المتناسبة في المعنى، ويلي ذلك فيه الأحاديث المرفوعة التي تتعلق بالآية وبيان ما يُحتج به منها، ويليها آثار الصحابة وأقوال التابعين ومَن بعدهم من علماء السلف. ومنها تذكيره بما في التفسير المأثور من منكرات الإسرائيليات وتحذيره منها بالإجمال، وبيانه لبعض منكراتها بالتعيين، ويا ليته استقصى ذلك أو ترك إيراد ما لم تتوفر فيه داعية التمحيص والتحقيق" ا. هـ.

فخر الدين الرازي

فخر الدين الرازي: نسبه وحياته: هو محمد بن عمر بن الحسن التميمي البكري الطبرستاني الرازي فخر الدين المعروف بابن الخطيب الشافعي الفقيه. ولد بالري سنة 543هـ "ثلاث وأربعين وخمسمائة"، وتوفي بهراة سنة 606هـ "ست وستمائة" – ودرس العلوم الدينية والعلوم العقلية، فتعمق في المنطق والفلسفة، وبرز في علم الكلام، وله في هذا كله الكتب والشروح والتعليقات، حتى عدوه من فلاسفة عصره، ولا تزال كتبه مراجع مهمة لمن يسمونهم بالفلاسفة الإسلاميين. تصانيفه: ولفخر الدين الرازي تصانيف كثيرة، منها: مفاتيح الغيب في تفسير القرآن، وتفسيره أسرار التنزيل وأنوار التأويل، وإحكام الأحكام، والمحصل في أصول الفقه، والبرهان في قراءة القرآن، ودرة التنزيل وغرة التأويل في الآيات المتشابهات، وشرح الإشارات والتنبيهات لابن سينا، وإبطال القياس، وشرح القانون لابن سينا، والبيان والبرهان في الرد على أهل الزيغ والطغيان، وتعجيز الفلاسفة، ورسالة الجوهر، ورسالة الحدوث, وكتاب الملل والنحل، ومحصل أفكار المتقدمين والمتأخرين من الحكماء والمتكلمين في علم الكلام، وشرح المفصل للزمخشري. تفسيره: وقد أثرت العلوم العقلية على الرازي في تفسيره، فمزجه بخليط من الطب والمنطق والفلسفة والحكمة، وخرج به عن معاني القرآن وروح آياته، وحمَّل نصوص الكتاب ما لم تنزل له من مسائل العلوم العقلية واصطلاحاتها العلمية، ففقد كتابه بهذا روحانية التفسير وهداية الإسلام، ولذلك قال بعض العماء: "فيه كل شيء إلا التفسير" كما ذكرنا آنفًا.

الزمخشري

الزمخشري: نسبه وحياته: هو أبو القاسم محمود بن عمر الخوارزمي الزمخشري – ولد في السابع والعشرين من شهر رجب سنة 467هـ "سبع وستين وأربعمائة" بزمخشر، وهي قرية كبيرة من قرى خوارزم، وتلقى العلم في بلاده، ورحل إلى بخارى في طلبه، وأخذ الأدب عن شيخه منصور أبي مضر، ثم رحل إلى مكة وجاور بها زمانًا، فقيل له "جار الله" وبها ألَّف كتابه في التفسير "الكشاف في حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل" وتوفي الزمخشري سنة 538هـ "ثمان وثلاثين وخمسمائة"، بجرجانية خوارزم بعد رجوعه من مكة، ورثاه بعضهم بأبيات منها: فأرض مكة تذري الدمع مقلتها ... حزنًا لفرقة جار الله محمود علمه ومؤلفاته: والزمخشري إمام من أئمة اللغة والمعاني والبيان، وكثيرًا ما يجد القارئ في كتب النحو والبلاغة استشهادات له من كتبه للاحتجاج بها، فيقولون: قال الزمخشري في كشافه، أو في أساس البلاغة، وهو صاحب رأي وحجة في كثير من مسائل العربية، وليس من هؤلاء النفر الذين ينهجون نهج غيرهم فيجمعون وينقلون، ولكنه صاحب رأي يقتفي غيره أثره وينقل عنه، وله تصانيف في الحديث والتفسير والنحو واللغة والمعاني والبيان وغير ذلك، منها: كتابه في تفسير القرآن "الكشاف"، والفائق في تفسير الحديث، والمنهاج في الأصول، والمفصل في النحو، وأساس البلاغة في اللغة، ورءوس المسائل الفقهية. مذهبه وعقيدته: والزمخشري حنفي المذهب، معتزلي العقيدة، يؤوِّل الآيات وفق مذهبه وعقيدته بلحن لا يدركه إلا الخاصة، ويسمِّى المعتزلة: إخوانه في الدين من أفاضل الفئة الناجية العدلية. تفسيره: وكتاب الكشاف للزمخشري من أشهر كتب المفسرين بالرأي، الماهرين في اللغة، وينقل عنه الآلوسي، وأبو السعود, والنسفي، وغيرهم من

المفسرين بدون نسبة إليه، واعتزالياته في التفسير قد تولى التنقيب عنها العلامة أحمد المنير. وسماها بالانتصاف، وفيها يناقش الزمخشري فيما أورده من العقائد على مذهب المعتزلة ويورد ما يقابلها، كما يناقشه في كثير من أبواب اللغة، وقد طبعت المكتبة التجارية بمصر "الكشاف" طبعة أخيرة رتبها مصطفى حسين أحمد، وذُيِّلت بأربعة كتب، الأول: "الانتصاف" السابق, والثاني "الكافي الشافي في تخريج أحاديث الكشاف" للحافظ ابن حجر العسقلاني، والثالث: "حاشية الشيخ محمد عليان المرزوقي على تفسير الكشاف" كـ "الانتصاف"، والرابع: "مشاهد الإنصاف على شواهد الكشاف" للمرزوقي المذكور - وقد ضمَّن تفسيره كثيرًا من عقائد المعتزلة على طريق الإشارة، وقد ذكرنا قبل ما نُقِل عن البلقيني أنه قال: استخرجت من الكشاف اعتزالًا بالمناقيش.

الشوكاني

الشوكاني: نسبه وحياته: هو القاضي محمد بن علي بن عبد الله الشوكاني ثم الصنعاني الإمام المجتهد، ناصر السٌّنَّة، وقامع البدعة. ولد سنة 1173هـ "ثلاث وسبعين ومائة وألف" في بلدة هجرة شوكان، ونشأ بصنعاء، فقرأ القرآن، وأخذ يطلب العلم، ويسمع من العلماء الأعلام، وحفظ كثيرًا من متون النحو والصرف والبلاغة، والأصول وآداب البحث والمناظرة، حتى صار إمامًا يشار إليه بالبنان، وظل مكبًّا على العلم قراءة وتدريسًا إلى أن توفي سنة 1250هـ "خمسين ومائتين وألف". مذهبه وعقيدته: تفقه على مذهب الإمام زيد، وبرع فيه، وألَّف وأفتى، وطلب الحديث، وفاقَ فيه أهل زمانه حتى خلع ربقة التقليد، وصار مناصرًا للسُّنة ومناوئًا لأعدائها، وكان يرى تحريم التقليد, حتى ألَّفَ في ذلك رسالة أسماها "القول المفيد في أدلة الاجتهاد والتقليد".

مؤلفاته: له مؤلفات عديدة في شتى الفنون منها تفسيره "فتح القدير" وشرحه "نيل الأوطار على منتقى الأخبار" للمجد ابن تيمية جد شيخ الإسلام، وهو من خير ما كُتب في الحديث على أبواب الفقه، وكتابه في الأصول "إرشاد الفحول" وفتاواه المسماة بـ "الفتح الرباني". تفسيره: وفتح القدير للشوكاني تفسير يجمع بين الرواية والاستنباط وفقه نصوص الآيات، اعتمد فيه على فحول المفسرين كالنحاس، وابن عطية، والقرطبي. وهو متداول في جهات كثيرة من أنحاء العالَم الإسلامي. وصلى الله على رسولنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

المراجع

المراجع: 1- الإتقان في علوم القرآن – للسيوطي. 2- الإصابة في تمييز الصحابة – لابن حجر العسقلاني. 3- الأعلام – لخير الدين الزركلي. 4- إعجاز القرآن – للباقلاني. 5- البرهان في علوم القرآن – للزركشي. 6- تفسير الطبري "جامع البيان" – لابن جرير. 7- تفسير القرآن العظيم – لابن كثير. 8- الكشاف – للزمخشري. 9- التفسير والمفسرون – لمحمد حسين الذهبي. 10- تهذيب التهذيب – لابن حجر العسقلاني. 11- رسالة التوحيد – لمحمد عبده. 12- الرد على المنطقيين – لابن تيمية. 13- التدمرية – لابن تيمية. 14- اقتضاء الصراط المستقيم – لابن تيمية. 15- الإكليل في التشابه والتأويل – لابن تيمية. 16- العقل والنقل – لابن تيمية. 17- أعلام الموقعين – لابن القيم. 18- أقسام القرآن – لابن القيم.

19- إعجاز القرآن – لمصطفى صادق الرافعي. 20- الوحي المحمدي – للسيد محمد رشيد رضا. 21- القاموس المحيط – للفيروزآبادي. 22 مفردات غريب القرآن – للراغب الأصبهاني. 23- روضة الناظر – لابن قدامة. 24- فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت – لابن عبد الشكور. 25- المستصفى – للغزالي. 26- مناهل العرفان – للزرقاني. 27- مباحث في علوم القرآن – لصبحي الصالح. 28- النبأ العظيم – لمحمد عبد الله دراز. 29- منهج الفرقان في علوم القرآن – لمحمد علي سلامة. 30- بلاغة القرآن – لمحمد الخضر حسين. 31- مقدمة في أصول التفسير – لابن تيمية. 32- كشف الظنون عن أساس الكتب والفنون – لحاجي خليفة. 33- هدية العارفين – لإسماعيل البغدادي. 34- الأحكام – للآمدي. 35- الفلسفة القرآنية – للعقاد. 36- رياض الصالحين – للنووي. 37- مقدمة ابن خلدون – لابن خلدون.

محتويات الكتاب

محتويات الكتاب: مقدمة الطبعة السابعة 3 1- التعريف بالعلم وبيان نشأته وتطوره "5- 12" 2- القرآن "13- 25" الصفحة الصفحة تعريف القرآن 15 الحديث القدسي 12 أسماؤه وأوصافه 17 الفرق بين القرآن والحديث القدسي 22 الفرق بين القرآن والحديث القدسي والحديث النبوي 20 الفرق بين الحديث القدسي والحديث النبوي23 الحديث النبوي 20 3- الوحي "26- 48" إمكانية الوحي ووقوعه 26 كيفية وحي الملك إلى الرسول 36 معنى الوحي 28 شبه الجاحدين على الوحي 38 كيفية وحي الله إلى ملائكته 30 متاهات المتكلمين 47 كيفية وحي الله إلى رسله 34 4- المكي والمدني "49- 64" عناية العلماء بالمكي والمدني وأمثلة ذلك وفوائده 51 معرفة المكي والمدني وبيان الفرق بينهما 59 فوائد العلم بالمكي والمدني 58 الفرق بين المكي والمدني 60 مميزات المكي والمدني 62 5- معرفة أول ما نزل وآخر ما نزل "65- 74" أول ما نزل 65 أوائل موضوعية 72 آخر ما نزل 58 فوائد هذا المبحث 73 أسباب النزول "75- 99" عناية العلماء به 75 فوائد معرفة سبب النزول 79 ما يعتمد عليه في معرفة سبب النزول76 العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب 82

الصفحة الصفحة صيغة سبب النزول 85 تعدد ما نزل في شخص واحد 94 تعدد الروايات في سبب النزول 87 الاستفادة منمعرفةأسباب النزول تعدد النزول مع وحدة السبب 92 في مجال التربية والتعليم 95 تقدم نزول الآية على الحكم 92 المناسبات بين الآيات والسور 96 7- نزول القرآن "100 - 118" نزول القرآن جملة 100 الاستفادة من نزول القرآن منجما في نزول القرآن منجما 105 التربية والتعليم 117 حكمة نزول القرآن منجما 107 8- جمع القرآن وتربية "119- 155" أ- جمع القرآن بمعنى حفظه على شبه مردودة 136 عهد النبي صلى الله عليه وسلم 119 ترتيب الآيات والسور 140 ب- جمع القرآن بمعنى كتابته على ترتيب الآيات 140 عهد النبي صلى الله عليه وسلم 122 ترتيب السور 142 جمع القرآن في عهد أبي بكر رضي سوْر القرآن وآياته 145 الله عنه 126 الرسم العثماني 146 جمع القرآن في عهد عثمان رضي تحسين الرسم العثماني 150 الله عنه 129 الفواصل ورءوس الآي 152 الفرق بين جمع أبي بكر وجمع عثمان 132 9- نزول القرآن على سبعة أحرف "156 - 170" اختلاف العلماء في المراد بها، الترجيح بينها 158 حكمة نزول القرآن على سبعة أحرف 169 10- القراءات والقراء "171 - 197" كثرة القراء والسبب في الاقتصار على السبعة 173 الوقف والابتداء 187 أنواع القراءات وحكمها وضوابطها 176 التجويد وآداب التلاوة 190 فوائد الاختلاف في القراءات الصحيحة 181 تعلم القرآن والأجرة عليه 196

11- القواعد التي يحتاج إليها المفسر "198- 218" الصفحة الصفحة 1- الضمائر 198 6- السؤال والجواب 208 2- التعريف والتنكير 202 7- الخطاب بالاسم والخطاب 209 3- الإفراد والجمع 205 8- العطف 210 4- مقابلة الجمع بالجمع أو بالفرد 207 الفرق بين الإيتاء والإعطاء 212 5- ما يظن أنه مترادف وليس من ألفاظ: فعل، كان، كاد، جعل، المترادف 207 لعل، عسى 213 12- الفرق بين المحكم والمتشابه "219 - 225" الإحكام العام والتشابه العام 219 التوفيق بين الرأيين بفهم معنى التأويل223 الاختلاف في معرفة المتشابه 222 13- العام والخاص "226 - 236" تعريف العام وصيغ العموم 226 تخصيص السنة بالقرآن 234 أقسام العام 229 صحة الاحتجاج بالعام بعد تخصيصه الفرق بين العام المراد به الخصوص فيما بقي 234 والعام المخصوص 231 ما يشمله الخطاب 235 تعريف الخاص وبيان المخصص 232 14- الناسخ والمنسوخ "237 - 252" تعريف النسخ وشروطه 237 أنواع النسخ في القرآن 244 ما يقع فيه النسخ 239 حكمة النسخ 246 ما به يعرف النسخ وأهيمته 239 النسخ إلى بدل وإلى غير بدل 247 الآراء في النسخ وأدلة ثبوته 240 شبه النسخ 248 أقسام النسخ 243 أمثلة للنسخ 249

15- المطلق والمقيد "253 - 256" الصفحة الصفح تعريف المطلق والمقيد 253 أقسام المطلق والمقيد وحكم كل منهما 253 16- المنطوق والمفهوم "257 - 263" تعريف المنطوق وأقسامه 257 تعريف المفهوم وأقسامه 259 دلالة الاقتضاء ودلالة الإشارة 258 الاختلاف في الاحتجاج به 261 17- إعجاز القرآن "264 - 289" تعريف الإعجاز وإثباته 265 الإعجاز اللغوي 272 وجوه إعجاز القرآن 268 الإعجاز العلمي 278 القدر المعجز من القرآن 271 الإعجاز التشريعي 284 18- أمثال القرآن "290 - 299" تعريف المثل 291 فوائد الأمثال 297 أنواع الأمثال في القرآن 293 ضرب الأمثال بالقرآن 299 19- أقسام القرآن "300 - 308" تعريف القسم وصيغته 300 أحوال المقسم عليه 304 فائدة القسم في القرآن 301 القسم والشروط 306 المقسم به في القرآن 302 إجراء بعض الأفعال مجرى القسم 308 أنواع القسم وصيغته 303 20-جدل القرآن "309- 315" تعريف الجدل 309 أنواع من مناظرات القرآن وأدلته 313 طريقة القرآن في المناظرة 310 21- قصص القرآن "316 - 322" معنى القصص 316 القصة في القرآن حقيقة لا خيال 319 أنواع القصص في القرآن 317 أثر القصص القرآني في التربية فوائد قصص القرآن 317 والتهذيب 321 تكرار القصص وحكمته 318

22- ترجمة القرآن "323 - 333" الصفحة الصفحة معنى الترجمة 324 الترجمة التفسيرية 327 حكم الترجمة الحرفية 325 القراءة في الصلاة بغير العربية 329 الترجمة المعنوية 325 قوة الأمة الإسلامية هي سبيل انتصار حكم الترجمة المعنوية 326 الإسلام وسيادة لغة القرآن 331 23- التفسير والتأويل "334 - 339" معنى التفسير والتأويل 334 شرف التفسير 339 الفرق بين التفسير والتأويل 338 24- شروط المفسر وآدابه "340- 343" شروط المفسر 340 آداب المفسر 342 25- نشأة التفسير وتطوره "344 - 370" التفسير في عهد النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه 345 تجنب الإسرائيليات 360 التفسر في عصر التابعين 348 حكم التفسير بالمأثور 360 التفسير في عصور التدوين 351 التفسير بالرأي 363 التفسير الموضوعي 353 حكم التفسير بالرأي 363 طبقات المفسرين 354 الإسرائيليات 364 التفسير بالمأثور والتفسير بالرأي 358 تفسير الصوفية 366 التفسير بالمأثور 358 التفسير الإشاري 367 الاختلاف فيه 359 غرائب التفسير 369 التعريف بأشهر كتب التفسير "370 - 377" أشهر الكتب المؤلفة في التفسير بالمأثور 370 2- جامع البيان في تفسير القرآن 1- تفسير ابن عباس 371 - للطبري 374

الصفحة الصفحة 3- المحرر الوجيز في تفسير 4- تفسير القرآن العظيم - الكتاب العزيز - لابن عطية 375 لابن كثير 376 أشهر الكتب المؤلفة في التفسير بالرأي "377 - 381" 1- مفاتيح الغيب - للرازي 378 3- الكشاف عن حقائق التنزيل 2- البحر المحيط - لأبي حيان 379 وعيون الأقاويل - للزمخشري 380 أشهر كتب التفسير في العصر الحديث "382 - 386" 1- الجواهر في تفسير القرآن - للشيخ طنطاوي جوهري 382 3- التفسير البياني للقرآن الكريم 2- تفسير المنار - للسيد محمد - لعائشة عبد الرحمن "بنت الشاطئ" 385 رشيد رضا 383 تفسير الفقهاء "387 - 391" 1- أحكام القرآن - للجصاص 387 3- الجامع لأحكام القرآن - 2- أحكام القرآن - لابن العربي 388 لأبي عبد الله القرطبي 389 26- تراجم لبعض مشاهير المفسرين "391 - 400" ابن عباس 391 فخر الدين الرازي 396 مجاهد بن جبر 393 الزمخشري 397 الطبري 394 الشوكاني 398 ابن كثير 395 المراجع 400 محتويات الكتاب 402

§1/1