مباحث في إعجاز القرآن

مصطفى مسلم

مقدمة الطبعة الثالثة

مقدمة الطبعة الثالثة إن الحمد لله أحمده وأستعينه وأسترشده وأصلي وأسلم على نبيه المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه البررة الأطهار ومن تبعهم بإحسان واقتفى أثرهم إلى يوم الدين. وبعد: فقد كان من فضل الله عليّ وإنعامه أن كتب لهذا الكتاب شيئا من القبول والرواج في بعض الجامعات وطلبت بعض الجهات ترجمته إلى بعض اللغات، وطلبت بعض دور النشر إعادة طباعته. ولما كانت تجربتي سابقة مع دار القلم في دقة الطبع وحسن الإخراج والالتزام بطبع الآيات بخط المصحف وغيرها من المزايا، بالإضافة إلى الاستقامة في التعامل المعروف بها صاحبها الأستاذ محمد علي دولة- حفظه الله- رأيت إيثارها على غيرها من دور النشر، دعما لجهودها في خدمة الشريعة الإسلامية عامة وخدمة كتاب الله خاصة. فأسأل الله سبحانه وتعالى أن يكلل مساعيها بالنجاح وأن يثبت القائمين عليها على النهج القويم. ولا يفوتني أن أقول: إن هذه الطبعة (الثالثة) قد زيد فيها في مبحث الإعجاز الغيبي بعض القضايا والأمثلة التي رأيت ضرورة إضافتها. والله أسأل أن يوفقنا لخدمة كتابه، وأن يجعل عملنا صالحا لوجهه الكريم، وأن يجعل ما نقول ونكتب حجة لنا لا علينا وأن يفيد به طلاب العلم، وأن لا يحرمنا من دعواتهم الصالحة في ظهر الغيب. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. المؤلف

مقدمة الطبعة الثانية

مقدمة الطبعة الثانية الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: فإن عودة المسلمين إلى كتاب ربهم في العقود الأخيرة من هذا القرن أصبحت حقيقة واقعة والإقبال على الدراسات القرآنية أصبحت ظاهرة لافتة للنظر، وافتتاح مدارس تحفيظ القرآن وإقامة الحلقات المسجدية لمدارسة القرآن الكريم ونشر علومه عمت بلاد المسلمين. وانطلقت الصحوة الإسلامية في أقطار الأرض تكتسح الجامعات والطبقات الاجتماعية المختلفة وعلى رأسها طبقات الشباب، وأدرك المسلمون أن لا مكان لهم على وجه الأرض ما لم يحددوا هويتهم الحضارية ويثبتوا استقلالهم الفكري ويثبتوا شخصيتهم وذاتهم وأدركوا أن ذلك لا يتم إلا بالعودة إلى المنهل الصافي والمورد العذب إلى الوحي الإلهي من الكتاب والسنّة. ولما كان التطبيق العملي لهدايات القرآن الكريم لا يتم إلا بعد فهم نصوصه والإحاطة بتوجيهاته، كان لزاما على علماء المسلمين عامة وعلى المتخصصين في علوم القرآن الكريم خاصة أن يتناولوا كل ما يتصل بالقرآن الكريم من حيث الشكل والمضمون، ومن حيث الأداء والترتيل، ومن حيث الفهم والاستنباط، فإن ذلك كله مقومات ومقدمات للالتزام والتطبيق. ولئن كانت تلك الدراسات والجهود تتم على مستوى الأفراد والمؤسسات العلمية والأصعدة الشعبية، فإن المستويات الرسمية والدول لا زالت تتوجس خيفة من الالتزام بهدايات القرآن في أنظمة الدولة السياسية

والاقتصادية والاجتماعية في السلم والحرب لا إنكارا وجحودا للهدايات القرآنية وصلاحيتها لكل زمان ومكان، ولكن خوفا على مصالحهم وعلى مناصبهم وهيئاتهم من المتنفذين في مصير الدول والشعوب من طواغيت الكفر، ولو اطمأن هؤلاء الحكام إلى وعد ربهم وأيقنوا حتمية سننه في مخلوقاته لبادروا إلى التطبيق والالتزام. يقول جلّ جلاله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ (52) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ (53) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (54) إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ (56) [المائدة: 51 - 56]. ولما كان موضوع إعجاز القرآن من الموضوعات الحيوية المتجددة لتعلقه بصحة الرسالة وصدق الرسول الذي جاء بها، وإقامة الحجة والبرهان في كل عصر وعلى الناس قاطبة في كل مكان، بما يتناسب مع مدارك الناس العلمية ومعطيات الحضارة والتقدم العلمي، فإن التأليف فيه قد كثر وشمل المجالات العامة والتخصصية. ولما نفذت الطبعة الأولى من كتاب (مباحث في إعجاز القرآن) رأيت إعادة طباعته ثانية بعد إعادة النظر في بعض مباحثه وزيادة بعض فقراته واستدراك الأخطاء المطبعية في الطبعة الأولى وذلك مساهمة في الجهود المبذولة لخدمة كتاب الله، وإقامة الحجة على المتقاعسين عن تطبيق هداياته وتسليحا للدعاة إلى الله بسلاح المعرفة القرآنية في معركتهم مع أعداء القرآن

وامتثالا لقول الله تعالى: فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً (52) [الفرقان: 52]. وأشكر للقائمين على دار المسلم وعلى رأسهم الأخ الدكتور عمر المديفر اهتمامهم بالكتاب وإخراجه اللائق بمضمونه. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. الرياض في 18 شعبان 1415 هـ المؤلف

بين يدي المباحث

بسم الله الرّحمن الرّحيم بين يدي المباحث إن الحمد لله أحمده وأستعينه وأسترشده، وأعوذ بالله من شرور نفسي ومن سيئات عملي. وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين الذي جاء بالمحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك. ورضي الله عن الآل والأصحاب البررة الذين قاموا بالقرآن آناء الليل وأطراف النهار، وحملوا راية الجهاد لنشر تعاليم القرآن في الآفاق فكانوا جيل الشهادة. وبعد: فلما قرر تدريس مادة (إعجاز القرآن) في قسم القرآن وعلومه في كلية أصول الدين بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، أسند إليّ تدريس هذه المادة، وكانت فقرات المنهج المقرّر قريبة من محتوى رسالتي (إعجاز القرآن) التي تقدمت بها لنيل شهادة الدكتوراة من كلية أصول الدين بالأزهر، قمت بمراجعة المباحث الموجودة في الرسالة وأعدت فيها النظر اختصارا وإضافة لتتناسب وفقرات المنهج المقرر، ثم رأيت نشر هذه المباحث لتعم بها الفائدة إن شاء الله تعالى. أما الرسالة الأم فإني بصدد إعادة النظر في بعض مباحثها وخاصة ما يتعلق منها بالإعجاز العلمي، ولعلها تقدم للنشر قريبا بإذن الله تعالى. المؤلف

مقدمة في مكانة الإنسان بين المخلوقات

مقدمة في مكانة الإنسان بين المخلوقات الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد، فقد خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان كرّمه على سائر المخلوقات، وتتجلى صور التكريم في: 1 - خلقه: القوام المتناسق في أحسن تقويم: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) [التين: 4]. يتجلى ذلك في: (انتصاب القامة، الجمجمة، اليدين وتركيب الأصابع، والرجلين، الوجه ..... ). 2 - خلقه: الفطرة التي فطر الله الإنسان عليها بمعنى الاستعداد للرقيّ والكمالات الروحية والخلقية، لديه الاستعداد للتسامي ليكون في أعلى عليين، ولديه الاستعداد ليكون في أسفل سافلين من دركات الانحطاط النفسي والخلقي فيكون أخبث الموجودات. إن الإنسان لديه الاستعداد لأن يتصف بالحقد والحسد والغش والكبر والرياء والطمع والبطر والخيلاء والضعف والمداهنة والمكر .. ولديه الاستعداد ليتصف بأضداد هذه الخصال. ويمكنه أن يشغل أكثر من حيز بين هذه الأوصاف أو يخلط بينها. بينما لا يتصف الحيوان في الغالب إلا بصفة من هذه الصفات. 3 - ملكة البيان: قال تعالى: الرَّحْمنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيانَ (4) [الرحمن: 1 - 4].

إن القدرة على التعبير عما في النفس من خصائص الإنسان الكبرى سواء كان المراد التعبير عن الحاجات العضوية من الطعام والشراب، أو عن الأفكار والمبادئ والمعتقدات، أو التعبير عن العواطف والمشاعر. أما الحيوانات فلا تصدر إلا بعض الأصوات للتعبير عن حاجة ما، ومن الصعوبة بمكان تعويده على بعض الأصوات للتعبير عن عادات، أو ربطها ببعض الظروف فتكون رد فعل على بعض التصرفات الموجهة إليه. ولا يقاس هذا بما لدى الإنسان من النطق بحروف الهجاء التي يستطيع بواسطتها من تركيب كلمات وإيجاد ألفاظ ليتحدث بأي لغة من لغات العالم بها. 4 - علمه: إن الاستعداد الفطري لدى الإنسان لتلقي العلوم واستيعابها ثم تحليلها والاستنتاج منها أو تركيبها وإدراك القوانين المتبعة في سنن الكون والحياة، واستخلاص العبر من أحداث التاريخ ورسم الخطا للمستقبل، وتسخير سنن الله في الكون لمصالحه المادية والمعنوية. كل ذلك يجعله سيد المخلوقات وإطلاق العنان لطاقاته في تسخير الكون لصالحه ولا يزال الإنسان جاهدا في إدراك أسرار هذا الكون في الآفاق والأنفس يقول تعالى: عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (5) [العلق: 5]، ويقول سبحانه وتعالى: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها [البقرة: 31]، ويقول عز من قائل: أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً [لقمان: 20]. 5 - إرادته وطرق الخيار لديه: كلما اتسعت دائرة العلم لدى الكائن الحي اتسع مجال الاختيار عنده ولما كان الإنسان أكثر علما فهو أوسع إرادة لذا فهو يستطيع أن يتصرف أمام الحادث الواحد بأكثر من أسلوب ويستطيع اختيار الطريق الأنسب لمصالحه وتحقيق رغباته. فإذا جوبه بالاعتداء عليه: قد ينتقم أو يعفو، وقد يكظم غيظه أو

يظهره، وقد يداري في وقت ليترك الانتقام إلى الفرصة المؤاتية، وقد يجبن ويتخاذل ويستسلم، وقد يردّ بالمثل أو يطغى، وقد يترفع في الرد أو يسف، إلا أن مواقف الحيوان محدودة ولا يكون في الغالب إلا تصرف واحد تجاه الحادث الذي يتعرض له. يقول تعالى: إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (3) [الإنسان: 3] إن الإنسان الذي خلقه الله سبحانه وتعالى بهذه المثابة وأودع فيه هذه الطاقات والقدرات وأكرمه هذا التكريم وجعل له السيادة على مخلوقاته لم يخلقه عبثا ولن يتركه هملا يقول تعالى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ (115) [المؤمنون: 115] ويقول عزّ وجلّ: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً (36) [القيامة: 36] إن كل ميزة تقابلها مسئولية وتكليف وعلى قدر عظم نعم الخالق سبحانه وتعالى على المخلوق تأتي التكاليف بأمور العبودية يقول تعالى: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا (72) [الأحزاب: 72]. إن الأمانة كما فسرها كثير من المفسرين هي تكاليف العبودية لله سبحانه وتعالى: إذن السيادة على الكون، والتكريم بالطاقات والقدرات قوبلت بحمل تكاليف العبودية والاستخلاف في الأرض، وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) [الذاريات: 56] وكلما حقق الإنسان صفة العبودية في نفسه لله سبحانه وتعالى، كان أقرب إلى الوفاء بأداء مستلزمات الأمانة وإيفاء العهد والقيام بالدور المنوط به، وكلما ابتعد عن صفات العبودية لله تعالى كان تقصيره وتقاعسه في أداء دوره الذي خلق من أجله. لهذا نجد الآيات الكريمة تخاطب سيد الأنبياء والمرسلين في مقامات التكريم والقرب بصفة العبودية يقول تعالى: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1) [الإسراء: 1] ويقول جل شأنه: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى

(5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى (6) ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (8) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (9) فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى (10) [النجم: 5 - 10] وفي معرض الحديث عن رسالته وتكريمه بإنزال القرآن عليه يقول عز شأنه: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (1) [الكهف: 1]. ويقول: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (23) [البقرة: 23]. ونجد الآيات الكريمة تصم من ترك مستلزمات العبودية وتنكب لأداء الأمانة ونكص على عقبه بأشد النعوت وتخرجهم عن دائرة الإنسان المكرّم وتلحقه بالدواب والعجماوات، يقول تعالى:* إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) [الأنفال: 22]. ويقول جل شأنه: لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ [الأعراف: 179]. وقال جل شأنه: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5) [الجمعة: 5]. وطريق التعرف على الأمانة التي كلّف الإنسان بها والتعرف على تفاصيل التكاليف المنوطة بالإنسان، والتعرف على أسلوب الأداء لهذه التكاليف على أكمل وجه، كل ذلك يتمثل في الصفوة المختارة من البشر لحمل الأمانة العظمى تمثّلها في سلوكهم وحياتهم الخاصة أولا، ثم تبليغها للآخرين دعوة وتطبيقا عمليا ليكونوا القدوة المثلى، والجهاد في سبيلها لحمل الناس على اعتناقها والالتزام بها، إنهم رسل الله عليهم الصلاة والسلام، الذين يمثلون ذروة الكمال البشري، لأنهم يمثلون ذروة العبودية لله تعالى ويقومون بأعظم مهمة في الوجود وهي مهمة إرشاد الإنسان إلى الطريق الصحيح لتحقيق إنسانيته وللإبقاء على الفطرة الإنسانية سليمة من أدران البهيمية، وللأخذ بأيدي الناس إلى طريق الكمالات البشرية.

من كل ما تقدم تظهر لنا حاجة الإنسانية إلى الرسالة لتتضح أمامها معالم الرشد والهدى وليعرف الناس الحكمة من إيجادهم، وتظهر الهدايات الربانية لحل مشاكل البشرية، كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (213) [البقرة: 213]. وبما أن الحكمة الإلهية اقتضت أن يكون الرسل بشرا يوحى إليهم، كانت الحاجة إلى آيات ودلائل تبيّن صدقهم فيما يبلّغون عن ربهم، وتقيم الحجة على الناس، لذا كانت المعجزة قرينة الرسالة، ولولا المعجزة لأشكل الأمر على الناس والتبس أمر الصادق بغيره، ولما سلمت الدعوات من مدّعين كاذبين. وتأييد الرسول بآية صدق سنّة إلهية في رسالات الأنبياء جميعا، والقرآن الكريم يوضح هذه السنة ويقررها كما ورد في قصص الأنبياء والأمم السابقة. ولم يؤاخذ الأقوام عند ما طالبوا رسلهم بالآيات الدالة على صدقهم، إنما آخذهم عند ما عطلوا ملكاتهم العقلية ولم يتدبروا أثر الحكمة والتدبير فيما حولهم، أو أصرّوا على نوع معيّن من الآيات من قبل العناد والجمود على العادات الجاهلية الموروثة من الآباء الذين لم يكونوا على هدى من ربهم.

المبحث الأول المعجزة

المبحث الأول المعجزة تمهيد: لم يرد في القرآن الكريم ولا في السنة المطهرة مصطلح المعجزة، وإنما ظهر هذا المصطلح في وقت متأخر بعض الشيء عند ما دوّنت العلوم ومنها علوم العقائد، في أواخر القرن الثاني الهجري وبداية الثالث، لذا نجد أن القرآن الكريم قد استعمل كلمة (الآية) في صدد إعطاء الدلائل للرسل عليهم الصلاة والسلام لمحاجّة الأقوام، يقول تعالى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ (109) [الأنعام: 109]. كما استعمل القرآن الكريم تارة لفظة (البيّنة) كما في قوله تعالى: قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً [الأعراف: 73]، والبينة هي الدلالة الواضحة عقلية كانت أو حسية. وتارة يستخدم القرآن الكريم لفظة (البرهان)، يقول تعالى: فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ [القصص: 32]. والبرهان بيان للحجة وهو أوكد الأدلة ويقتضي الصدق لا محالة (¬1). كما يأتي التعبير عن المعجزة أحيانا بالسلطان، قال تعالى: ¬

_ (¬1) انظر مفردات الراغب ص: 45.

تعريف المعجزة

تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ [إبراهيم: 10] ولعل اختيارهم لهذا المصطلح بدلا من (الآية) والكلمات الأخرى لإزالة الدلالة المشتركة في الآية من القرآن الكريم (¬1) كما في قوله تعالى: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها [البقرة: 106]، وبين الآية بمعنى العلامة البارزة الدالة على وجود الخالق سبحانه وتعالى ووحدانيته كما في قوله تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (190) [آل عمران: 190]، وبين الآية بمعنى البناء العالي كما في قوله تعالى: أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) [الشعراء: 128]، وكذلك الخروج من الدلالات المشتركة في الكلمات الأخرى. تعريف المعجزة: في اللغة: من أعجز وعجز وهو ما يقابل القدرة، والهاء فيها للمبالغة. في لسان العرب في مادة عجز: العجز نقيض الحزم، والعجز: الضعف، وعجز (¬2) عن الأمر إذا قصر عنه. وفي القرآن الكريم: وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ [سبأ: 5]، قال الزجاج: معناه ظانين أنهم يعجزوننا، لأنهم ظنوا أنهم لا يبعثون وأنه لا جنة ولا نار وقيل معناها معاندين، وهو راجع إلى الأول ومعنى الإعجاز الفوت والسبق، يقال أعجزني فلان أي فاتني. وعرف العلماء المعجزة بقولهم: أمر خارق للعادة مقرون بالتحدّي سالم من المعارضة يظهره الله على يد رسله (¬3). فالمعجزة أمر خارق للسنّة التي أودعها الله سبحانه وتعالى في الكون ¬

_ (¬1) ويعرفها العلماء قطعة من القرآن الكريم لها بداية ونهاية مندرجة في سورة. (¬2) لسان العرب بتصرف واختصار 5/ 369. وفي المعجم الوسيط: عجز عن الشيء ضعف ولم يقدر عليه 2/ 585. (¬3) انظر التعريف المذكور في «الإتقان في علوم القرآن» للسيوطي: 4/ 3، وقريبا منه في «مناهل العرفان» للزرقاني: 1/ 66.

شروط المعجزة

ولا تخضع للأسباب والمسببات ولا يمكن لأحد أن يصل إليها عن طريق الجهد الشخصي والكسب الذاتي وإنما هي هبة من الله سبحانه وتعالى يختار نوعها وزمانها ليبرهن بها على صدق رسول الله الذي أكرمه بالرسالة. والسحر والأعمال الدقيقة التي يمارسها بعض أهل الرياضات البدنية أو الروحية لا يدخل تحت اسم الخارق لأن لكل من تلك الأمور أساليب ووسائل يمكن لأي إنسان أن يتعلمها ويتقنها ويمارسها، فإذا اتبع الأسباب والأساليب المؤدية إلى نتائجها أمكنه بواسطة الجهد الشخصي والمران والممارسة أن يتوصل إلى تلك النتائج. أما الأمور الخارقة فلا تدخل تحت طاقة البشر، ليست لها أسباب تؤدّي إليها. شروط المعجزة: ومن خلال التعريف السابق للمعجزة نستطيع أن نتلمس شروطها: 1 - أن تكون من الأمور الخارقة للعادة: سواء كان هذا الأمر الخارق من قبيل الأقوال: كتسبيح الحصى وحنين الجذع ومثل القرآن الكريم، أو يكون من قبيل الفعل كانفجار الماء من بين أصابع الرسول صلى الله عليه وسلم وتكثير الطعام القليل وكفايته للجمع الكثير أو من قبيل الترك: مثل عدم إحراق النار لسيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام وعدم إغراق الماء لموسى وقومه وعدم سيلانه عليهم. أما إذا كان الأمر من الأمور الاعتيادية للناس ومع ذلك لم يستطع الناس الإتيان بها يكون (المانع) هو الأمر الخارق وليس هذا الأمر المعتاد، فلو قال: معجزتي عدم استطاعتكم وضع أيديكم على رءوسكم فلم يستطيعوا بالفعل لكان هذا المنع في هذه اللحظة هي المعجزة، وليس عملية وضع الأيدي. 2 - أن يكون الخارق من صنع الله وإنجازه يقول تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ

وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78) [غافر: 78]. فالمعجزة هبة من الله سبحانه وتعالى لا يستطيع أحد أن يعيّن زمانها ونوعها: قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ [الأنعام: 109]. 3 - سلامتها من المعارضة: فلو استطاع الخصم أن يأتي بمثل ما جاء به النبي بطلت حجته ولم يسلم له ادعاؤه أن هذه الخارقة أو هذا الأمر دليل على صدقه وأمارة على بعثته من قبل الله سبحانه وتعالى. 4 - أن تقع على مقتضى قول من يدّعيها (وقوعها على مقتضى الدعوى). يشترط في المعجزة أن تكون موافقة لقول مدّعيها غير مخالفة له سواء كان هذا الأمر مطابقا لطلب المعاندين أو مخالفا له، لأن الرسول يبلّغ عن أمر ربه في تحديد نوع المعجزة وزمانها ولا دخل له في هذا التعيين، فإذا جاءت المعجزة على وجه غير الوجه الذي عيّنه الرسول لم تكن دليلا على صدقه، بل تثير عندئذ الشكوك حول ادعائه. ومن هذا القبيل ما وقع لبعضهم مما يطلق عليه العلماء (اسم الإهانة)؛ فإذا مسح على المريض ليشفى فمات، أو بصق في البئر لتكثير مائه فغار كما ذكرت بعض الروايات في شأن مسيلمة الكذاب، فلا تكون معجزة إنما هي إهانة له ودليل على كذبه. 5 - التحدّي بها: وهذا شرط أساس في المعجزة لإثبات عجز الجاحدين وإقامة الحجة عليهم فإن عدم التحدّي لمعجزة لا يبرزها كدليل وبرهان، لكي لا يقول قائل فيما بعد: إنه لو تحدّي بالمعجزة القوم لتمكّنوا من الإتيان بها. والتحدّي يكون بالقول الصريح بأن يقول الرسول: دليل صدقي وصحة ما جئت به هو عجزكم عن الإتيان بمثل هذا الأمر الذي أفعله.

وهذا هو الغالب في معجزات الرسل عليهم الصلاة والسلام، وَرَسُولًا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49) [آل عمران: 49]. كما يكون التحدّي (بالقوة) حيث لا يكون هنالك تحدّ ظاهر لأن المقام لا يستدعيه ولكن لو وجد تحدّ لأفحم المتحدّى به، ومن هذا القبيل الخوارق التي وقعت على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بين أصحابه وهم مؤمنون به، فمثلا نبع الماء بين أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن في مضمار تحدّ لإثبات رسالة، ومثل ذلك تسبيح الحصى في يده، وحنين الجذع إليه فقد وقعت هذه الخوارق في جو إيماني وفي مجتمع إسلاميّ. وقد فرّق بعض العلماء بين الخارقة التي يتحدّى بها الرسول القوم ويجعلها آية صدقه وبرهان صحة رسالته، وبين الخارقة التي لا تقترن بالتحدّي وتقع بين المؤمنين برسالة الرسول؛ فأطلقوا على النوع الأول اسم (المعجزات)، وأطلقوا على النوع الثاني اسم (دلائل النبوة). يقول ابن حجر في فتح الباري في شرح (باب علامات النبوة): العلامات جمع علامة وعبّر عنها المصنف لكون ما يورده من ذلك أعم من المعجزة والكرامة، والفرق بينها أن المعجزة أخص، لأنه يشترط فيها أن يتحدّى النبي من يكذبه. 6 - أن يستشهد بها مدّعي الرسالة على الله عزّ وجلّ: أي يجعلها الرسول دليل صدق رسالته لإثباتها وينسب هذا الأمر إلى الله عزّ وجلّ فيقول مثلا: آيتي أن يقلب الله سبحانه وتعالى هذه العصا ثعبانا، أو أن يحيي الله سبحانه وتعالى هذا الميت عند قولي له (قم). 7 - تأخّر الأمر المعجز عن دعوى الرسالة: لأنه بمثابة الشاهد، ولا

إمكان وقوع المعجزة

يقوم الشاهد إلا بعد قيام الدعوى، أما إذا تقدم على دعوى الرسالة، فيكون من قبيل (الإرهاص). وهي الأمور التي تتقدم على الرسالة وتمهد لها كتظليل السحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في سفره إلى الشام قبل البعثة. إمكان وقوع المعجزة: إن النواميس الطبيعية التي يسير عليها الكون والتي يخضع لها الإنسان في أغلب شئونه وحياته المعاشية هي من صنع خالق الكون ومبدعه وواضع نظمه وأسسه. فالله سبحانه وتعالى له القدرة المطلقة والسلطان الذي لا يحدّ في إبقاء السنن أو تغييرها. إن الذي أوجد الماء من العدم المطلق لا يعجز أن يجعله ينبع من بين أصابع الإنسان، والذي خلق الجاذبية في الكون والكواكب وجعل الأجسام الثقيلة تسقط باتجاه مركزها، لا يستغرب منه أن يرفع تأثير هذه الجاذبية عن بعض الأجسام لتتخلص من نفوذها وتصعد إلى السماء، فيكون في هذه الحالة وتلك معجزة لأحد أصفيائه من البشر، ودليل صدق على رسالته. إن العقل السليم الذي يؤدي بصاحبه إلى الإيمان بالله ذي القوة المطلقة الخالق المدبر المهيمن على الكون بأسره لا يستبعد حدوث الأمور الخارقة لهذه الأسباب والسنن ما دامت الحياة والإنسان والكون خاضعا لإرادة الذي إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون. ولا ينكر الأمور الخارقة للعادة عامة ومعجزات الأنبياء خاصة إلا أحد اثنين: - إنسان ملحد ينكر كل ما غاب عن الحواس فهو كافر بالغيب، ويقول إنما نحيا ونموت وما يهلكنا إلا الدهر، فمثل هذا يحتاج إلى عملية فكرية جذرية للإيمان بخالق الكون والحياة والإنسان ... - أو إنسان يؤمن بإله محدود القدرة عاجز عن التصرف في الكون

وجه دلالة المعجزة على صدق الرسول

والمخلوقات حسب إرادته، ومن هذه النوعية كل من اتخذ من دون الله أربابا وأوثانا وآلهة ابتدعوها، وأملتها عليهم شهواتهم وأهواؤهم، هؤلاء يحتاجون إلى معرفة الألوهية الحقة ومستلزماتها من صفات الكمال المطلق، والتنزّه عن النقص والعجز الذي لا يليق بخصائص الألوهية. إن الموجة العقلية المنبثقة عن مناهج الفلاسفة الماديّين قد أثّرت على تفكير كثير من علماء المسلمين المعاصرين الذين حاولوا تفسير الخوارق التي ظهرت على يد الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام، والتي نقلت إلينا نقلا لا يتطرّق إليه أدنى شك، حاولوا تفسير تلك الخوارق تفسيرا ماديا خاضعا للأسباب والسنن الكونية مما يفرغها عن مضمونها ويعطل دلالتها التي ترد هذه الخارقة من أجل إثباتها ألا وهي إثبات صدق الرسول في دعوى الرسالة وتلقي الوحي من الملأ الأعلى. إن من يفسّر فلق البحر لموسى عليه السلام بالمد والجزر، والطير الأبابيل بجراثيم الطاعون أو الأمراض المعدية الوبائية .. وغير ذلك من الخوارق، إن هؤلاء يسيئون إلى قضية الإيمان بالغيب وبخالق الكون وبرسل الله المصطفين، وكذلك يسيئون إلى تفكيرهم وإيمانهم وعقيدتهم، وإلا فما المانع عقلا من وقوع المعجزات على يد أناس لهم صلة بالله ذي القوة غير المحدودة؟ أناس اصطفاهم الله سبحانه وتعالى للقيام بدور السفارة بينه وبين خلقه لتبليغهم أحكام دينه الحنيف وشرعه القويم وقد أيدهم بكل ما يسهل عليهم مهمتهم من الحجج والبراهين ويظهرهم على خصومهم المعاندين. وجه دلالة المعجزة على صدق الرسول: ليس المقصود بالمعجزة إثبات العجز للخلق لذاته من غير ترتّب مطلب على هذا العجز، بل المقصود لازم هذا العجز. وهو إقامة الحجة على أن هذا الادّعاء حق وأن الرسول الذي جاء به رسول صدق. فإعجاز القرآن الناس أن يأتوا بمثله يراد من وراء ذلك إقامة الحجة

على الخلق كافة، إن هذا الكلام كلام رب العالمين، وإن الرسول الذي أرسل به يبلّغ عن ربه، وإن الأوامر والنواهي التي يحملها هي سبيل النجاة. وكذلك الشأن في جميع معجزات الأنبياء السابقين، هو إبراز صدق من ظهرت على يديه، ليؤمن بهم الناس ويتبعوهم، وذلك لأن بعثة النبي لا تصح من غير أن يؤتى دلالة ويؤيّد بآية، لأنه لا يتميز من الكاذب بصورته، ولا بقول نفسه ولا بشيء آخر، سوى البرهان الذي يظهر على يديه فيستدلّ به على صدقه، وأنه مبلّغ عن الله سبحانه وتعالى (¬1) وإصدار الله لها عند ذلك يعدّ تأييدا منه له في تلك الدعوى، ومن المحال على الله سبحانه وتعالى أن يؤيد الكاذب. فإن تأييد الكاذب تصديق له، وتصديق الكاذب كذب، وهو محال على الله سبحانه وتعالى، فمتى ظهرت المعجزة وهي مما لا يقدر عليه البشر، وقارن ظهورها دعوى النبوة، علم بالضرورة أن الله ما أظهرها إلا تصديقا لمن ظهرت على يديه، وإن كان هذا العلم قد يقارنه الإنكار مكابرة (¬2)، ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80) [آل عمران: 79، 80]. ¬

_ (¬1) «إعجاز القرآن» للباقلاني، ص 63. (¬2) «رسالة التوحيد» للشيخ محمد عبده، ص 86.

المبحث الثاني معجزات الأنبياء السابقين ومعجزات خاتمهم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين

المبحث الثاني معجزات الأنبياء السابقين ومعجزات خاتمهم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ذكرنا في السابق أن المعجزة قرينة الرسالة، وذلك لأن الرسول لا يتميز عن سائر الناس بجسمه ولا بكلامه، فكان لا بدّ من أمارة تدل على صدقه في سفارته هذه بين الخالق سبحانه وتعالى وبين خلقه. وقد يعطى الرسول الآية (المعجزة) عند تبليغه الوحي أول مرة من غير سؤال وتطلّع، كما حدث لموسى عليه السلام: فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (8) يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (12) [النمل: 8 - 12]. وقد يعطاها الرسول بعد تكذيب القوم له ومطالبتهم بالآية، كما حدث لأغلب الأنبياء عليهم صلوات الله وسلامه: قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) [هود: 53]، قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153) ما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154) قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ ... (155) [الشعراء: 153 - 159]. وعلى كلتا الحالتين فإنها هبة من الله سبحانه لرسله، فهو المعطي

سنة الله سبحانه وتعالى في معجزات الأنبياء

وهو الذي يختار نوعها وزمانها ومكانها، ودور الرسول فيها أنها تتجلى على يده. وليس بالضرورة أن تكون نفس الخارقة التي طلبها القوم، فإن مدلول الخارقة والإيمان والتصديق لصدق الرسول يتحقق بوجود المعجزة مطلقا ولا يتوقّف على نوع خاص من المعجزات. بل إن سنّة الله تقضي بتعجيل عذاب الاستئصال للذين لم يذعنوا للآية الخاصة التي سألوها: وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ (8) [الأنعام: 8]. سنة الله سبحانه وتعالى في معجزات الأنبياء: باستعراض معجزات الأنبياء السابقين ومعجزات خاتمهم عليهم الصلاة والسلام أجمعين نلاحظ أن المعجزة تختار من بيئة القوم الذين يرسل الرسول إليهم ومن نوع المشهور في عصرهم مما يتلاءم مع مستواهم الفكري ورقيّهم الحضاري، لتكون الحجة أقوى. أ- الأنبياء الذين عاشوا في البلاد العربية كانت معجزاتهم مناسبة لبيئة العرب الصحراوية، فمعجزة صالح عليه السلام كانت ناقة غريبة المنشأ والمولد بين نوق أهل البادية قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153) ما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154) قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155) وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156) [الشعراء: 153 - 156]. ب- وكان السحر منتشرا بين المصريين عامتهم وخاصتهم استرهبهم فرعون وجنوده به، فجاءت معجزات موسى عليه السلام من جنس المشهور بين قومه فمن معجزاته الرئيسية: العصا: فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (32) [الشعراء: 32]. واليد: وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (12) [النمل: 12]. فظاهر هاتين المعجزتين لا يختلف عما كان متداولا بين سحرة

فرعون (¬1)، ولكن أهل الدراية بالسحر كانوا يميّزون بين السحر، وبين ما هو خارج قوى السحرة، بل من صنع الله، لذا كانوا أول المؤمنين به. ج- وبعد عصر موسى عليه السلام انتشرت الفلسفة الأيونية وهي أساس الفلسفة اليونانية فيما بعد، وكانت تقوم على الأخذ بالأسباب والمسبّبات وتولّد المعلول من العلة في انتظام قائم لا يتخلف، فجاءت معجزات أنبياء بني إسرائيل في هذا العصر خارقة للأسباب والمسبّبات، لتثبت أن الكون كله بإرادة مريد مختار، لا يفعل إلا ما يريد ولا يصدر عنه بغير إرادته الثابتة شيء (¬2). فمعجزات سليمان عليه السلام مثلا جاءت مناهضة لتلك النظرية التي تقول إن المخلوقات نشأت عن الموجد الأول نشوء العلة من المعلول، فكانت حياة نبي الله سليمان في ملكه تجري على هدم هذا النظر، فمن معجزاته: - تسخير الجن والطير له. - تعليمه منطق الطير والحيوان وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16) وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ (19) وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ ... (20) [النمل: 16 - 22]. - تسخير الريح له: وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ [سبأ: 12]. د- وفي عصر اليونان ازدهر الطب والفلسفة المبنية على الأسباب ¬

_ (¬1) انظر: «المعجزة الكبرى» للشيخ محمد أبي زهرة، ص 437. (¬2) المرجع السابق الصفحة ذاتها.

أيضا، فكانت معجزات عيسى عليه السلام من جنس ما اشتهر في هذا العصر: - فكانت ولادته إبطالا صارخا لهذه النظرية، فإن المعتاد في حياة الكائنات الحية أن المولود يولد من أبوين، فجاء عيسى عليه السلام من غير أب فكان ذلك خرقا للأسباب الطبيعية الجارية ... فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا (17) قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا (19) قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا (21) * فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا (22) [مريم: 17 - 22]. وتحدّثه في المهد حديث الحكماء ... قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا (32) وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33) [مريم: 29 - 33]. - وتصويره من الطين كهيئة الطير ثم نفخه فيه فيكون طيرا بإذن الله، وإحياؤه الموتى بإذن الله، وإبراؤه الأكمة والأبرص بإذن الله ... وَرَسُولًا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49) [آل عمران: 49]. هـ- وقبل بعثة خاتم النبيين بلغت الفصاحة والبلاغة وفنون القول شأوا بعيدا، وأخذت الكلمة مكانا في نفوس العرب من التقديس والتعظيم لم يبلغه شيء آخر، مما حدا بهم أن يعلّقوا المعلّقات السبع في جوف الكعبة، وإذا علمنا أن الكعبة كانت تعتبر أقدس مكان عند العرب في جاهليتهم أدركنا مكانة الكلمة في نفوسهم.

مزايا معجزة رسول الله صلى الله عليه وسلم العظمى (القرآن الكريم)

كانت القصيدة تفعل فعلها في القبائل وربما نزلت منزلة قبيلة إلى الحضيض لأن شاعرا أقذع في هجائها. وربما ارتفعت مكانتها لأن شاعرا قد أجاد في تمجيد مآثرها. (وحادث بني أنف الناقة) (¬1)، وما جرى بين الحطيئة (والزّبرقان) (¬2) يدلنا على مدى ترك الكلمة أثرا في نفوس القوم .. فكانت معجزة خاتم النبيين في الكلمة والقول. والحكمة الإلهية في اختيار المعجزة من جنس ما اشتهر بين القوم هي أن الإنسان إذا أوتي من قبل ما يعتبره مفخرته ومجال إجادته واعتزازه تكون الحجة عليه أقوى والمعجز أكثر فعلا وأثرا. ولتكون معجزة النبي الخاتم أشدّ لمعانا وأسطع برهانا فقد جعل الله معجزته كتابا متلوّا معجزا، وهو الإنسان الأمي الذي لم يخطّ بيده كتابا ولم يتلقّ من أحد من البشر معرفة. مزايا معجزة رسول الله صلى الله عليه وسلم العظمى (القرآن الكريم): لقد جعل الله سبحانه وتعالى معجزة رسوله صلى الله عليه وسلم من نوع خاص، إلى جانب تحقيق سنته في معجزات الأنبياء. جعلها القرآن الكريم لحكم جليلة. ندرك من هذه الحكم ما يلي: ¬

_ (¬1) كان بنو أنف الناقة يخجلون من هذه التسمية ويتهربون من الانتساب إلى هذه القبيلة، إلى أن جاء أحد الشعراء وقال قصيدة في مدحهم ورد فيها: قوم هم الأنف والأذناب دونهم ... ومن يسوي بأنف الناقة الذنبا فصار أبناء القبيلة يفتخرون بعد ذلك بنسبتهم إلى قبيلة (أنف الناقة). (¬2) هجا الحطيئة الزبرقان بن بدر من أسياد بني تميم ومن جملة ما قاله فيه: دع المكارم لا ترحل لبغيتها ... واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي فشكاه الزبرقان إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال له عمر ما أرى أنه قد هجاك ومع ذلك فلندع شاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم: حسان بن ثابت ولنر رأيه فاستدعى حسان بن ثابت فلما قرأ البيت قال يا أمير المؤمنين إنه لم يهجه بل سلح عليه.

أ- مواءمة طبيعة الرسالة: لقد كان الرسول في السابق يرسل إلى قوم مخصوصين أو إلى قبيلة خاصة ولفترة زمنية محددة أحيانا، فكان التحديد زمانا ومكانا وقوما يحدّد مهمة الرسول. أما الرسالة الخاتمة فقد امتازت عن الرسالات السابقة بشمولها وعمومها وعالميتها زمانا ومكانا ومكلّفين يقول تعالى: قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158) [الأعراف: 158] « .. وكان النبي يرسل إلى قومه خاصة وبعثت إلى كل أحمر وأسود» (¬1). فكانت معجزات الأنبياء ملائمة لطبيعة رسالاتهم، وكانت المعجزة تنتهي بوفاة الرسول ولا يبقى إلا الحديث عنها والأخبار التي يتناقلها أتباع الدين جيلا عن جيل. ولا تنفك المعجزة عن شخص الرسول فلا تبقى بمنأى عنه في الزمان والمكان. أما الرسالة المحمدية فهي مستمرة إلى يوم القيامة، ولا بدّ من معجزة مستمرة تقيم الحجّة على الأجيال اللاحقة بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم وربانية رسالته. ولا تؤدّي المعجزة المادية هذا الدور وهذه المهمة، فكان الاختيار الرباني أن تكون المعجزة وحيا. روى الشيخان من حديث الليث بن سعد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من الأنبياء نبيّ إلا قد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيت وحيا أوحاه الله إليّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة» (¬2). ب- كون القرآن الكريم المعجزة الخالدة: فمن المعجزة تستنبط أحكام الشريعة فآية تصديق الرسالة في الرسالة نفسها، وليس في معجزات ¬

_ (¬1) رواه البخاري في باب التيمم: 1/ 86، ومسلم في المساجد 1/ 63 بلفظ: «بعثت إلى الناس عامة». (¬2) رواه البخاري في فضائل القرآن ج 6 ص 97، وفي الاعتصام، ومسلم في الإيمان 1/ 92.

الحكمة في الصرف عن المطالبة بالمعجزات المادية إلى معجزة القرآن الكريم

الأنبياء السابقين ما يستنبط منها حكم تشريعي. وهذه ميزة فريدة لمعجزة رسول الله صلى الله عليه وسلم دلالتها على مصدرها الرباني كامن فيها نفسها. فالرسالة هي المعجزة والمعجزة هي الرسالة. وبهذه المزايا الفريدة لم تكن هذه المعجزة دليل صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فحسب بل كانت شاهد الصدق على رسالات الأنبياء السابقين وتبليغهم رسالات ربهم لأممهم. وبهذه المزايا أصبحت أمة محمد صلى الله عليه وسلم جديرة بالاستشهاد على الأمم الأخرى يوم يقع التناكر والجحود بين الأقوام ورسلهم، تزعم الأمم أن رسلها لم يبلّغوا الرسالات، عندئذ تدعى أمة محمد صلى الله عليه وسلم لتشهد على تبليغ الأنبياء أقوامهم رسالات ربهم، وما شهادتهم للأنبياء إلا على إخبار القرآن الكريم وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً [البقرة: 143]. الحكمة في الصرف عن المطالبة بالمعجزات المادية إلى معجزة القرآن الكريم: ولعلنا لا نستغرب عند ما نجد القرآن الكريم يصرف أنظار قريش المطالبين بالآيات المادية وغيرها من المقترحات يلفت أنظارهم إلى ما هو الأجدى والأليق والأرحم: وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا (93) [الإسراء: 90 - 93]. وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ (8) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (9) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (11) كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13) وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ

الحكمة الأولى

نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15) [الحجر: 6 - 15]. وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) [العنكبوت: 50 - 51]. وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً [الرعد: 31]. إن الله سبحانه وتعالى لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، ومن السهل الميسّر الهيّن عليه أن يلبّي جميع المطالب، ولكن لم يشأ ذلك لحكم: الحكمة الأولى: لأنهم غير جادّين بهذه المطالب ولو لبّيت لهم لما آمنوا لأن قصدهم هو التعجيز كما أشارت الآية الكريمة السابقة وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15) [الحجر: 15]. فمن العبث عندئذ اتبع أهوائهم ورغباتهم ولو اتّبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض. روى ابن هشام في السيرة النبوية قال: (اجتمع أشراف قريش بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة ثم قال بعضهم لبعض: ابعثوا إلى محمد فكلّموه وخاصموه حتى تعذروا فيه، فبعثوا إليه أن أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليكلّموك، فأتهم فجاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سريعا، وهو يظن أن قد بدا لهم فيما كلّمهم فيه بداء، وكان عليهم حريصا يحب رشدهم، ويعز عليه عنتهم، حتى جلس إليهم، فقالوا له: يا محمد إنا قد بعثنا إليك لنكلمك، وإنا والله ما نعلم رجلا من العرب أدخل على قومه مثل ما أدخلت على قومك، لقد شتمت الآباء، وعبت الدين، وشتمت الآلهة، وسفهت الأحلام، وفرّقت الجماعة فما بقي أمر

قبيح إلا قد جئته فيما بيننا وبينك، فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا ... فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما بي ما تقولون، ما جئت بما جئت به أطلب أموالكم ولا الشرف فيكم ولا الملك عليكم، ولكنّ الله بعثني إليكم رسولا، وأنزل عليّ كتابا، وأمرني أن أكون لكم بشيرا ونذيرا، فبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردّوه عليّ أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم» .. قالوا يا محمد: فإن كنت غير قابل منا شيئا مما عرضناه عليك فإنك قد علمت أنه ليس من الناس أحد أضيق بلدا، ولا أقل ماء، ولا أشد عيشا منا، فسل ربك الذي بعثك بما بعثك به فليسيّر عنا هذه الجبال التي ضيّقت علينا، ويبسط لنا في بلادنا، ويفجر لنا فيها أنهارا كأنهار الشام والعراق، وليبعث من مضى من آبائنا، وليكن فيمن يبعث لنا منهم قصيّ بن كلاب فإنه كان شيخ صدق، فنسألهم عما تقول أحقّ هو أم باطل؟ فإن صدقوك، وصنعت ما سألناك، صدقناك وعرفنا به منزلتك من الله وأنه بعثك رسولا كما تقول، فقال لهم صلوات الله وسلامه عليه: «ما بهذا بعثت إليكم، إنما جئتكم من الله بما بعثني به، وقد بلّغتكم ما أرسلت به إليكم، فإن تقبلوه فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه عليّ أصبر لأمر الله تعالى حتى يحكم الله بيني وبينكم»، قالوا: فإذا لم تفعل لنا فخذ لنفسك، سل ربك أن يبعث معك ملكا يصدقك بما تقول ويراجعنا عنك، وسله فليجعل لك جنانا وقصورا من ذهب وفضة يغنيك بها عما نراك تبتغي فإنك تقوم بالأسواق كما نقوم، وتلتمس المعاش كما نلتمسه، حتى نعرف فضلك ومنزلتك من ربك إن كنت رسولا كما تزعم، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أنا بفاعل وما أنا الذي يسأل ربه هذا» .. قالوا: فأسقط السماء علينا كسفا كما زعمت أن ربّك إن شاء فعل .. فإنا لا نؤمن لك إلا أن تفعل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ذلك إلى الله إن شاء أن يفعله بكم فعل ... ».

الحكمة الثانية في هذا الصرف عن المعجزات المادية

فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم قام معه ابن عمته عبد الله بن أبي أمية، قال: يا محمد عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبله منهم ... فو الله لا أؤمن بك أبدا حتى تتخذ سلّما إلى السماء ثم ترقى فيه، وأنا أنظر إليك حتى تأتيها، ثم تأتي معك أربعة من الملائكة يشهدون لك أنك كما تقول، وأيم الله لو فعلت ذلك ما ظننت أني أصدقك. ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم» (¬1). إن المراء والعناد واضح في مطالبهم، ولو أن هذه الخوارق وقعت كما اقترحوا ما كانت بالتي تقنعهم، فإن الله يضل من يشاء فلا يؤمن ولو أجيب إلى ما يقترحه من الآيات، ويهدي إليه من أناب فيؤمن بغير اقتراح آيات. إن مطالبهم كانت بقصد التعجيز ولو لبيّت لانتقلوا إلى غيرها، ومواقفهم العنادية كانت تحتاج إلى تبرير للاستمرار عليها يقول تعالى: وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71) [المؤمنون: 71]. إن كون القرآن بلسانهم وأسلوبهم فيه رفع لمقامهم وإعلاء لمكانتهم بين الناس ولكنهم يعرضون عن هذه المزية لعدم إدراكهم لقيمتها وحقيقتها. الحكمة الثانية في هذا الصرف عن المعجزات المادية: إظهار مكانة القرآن الكريم، وأن المعجزات المادية تتضاءل بجانب معجزته فهو المعجزة الباقية الخالدة إلى يوم القيامة. والرسالة الشاملة الباقية لا بدّ لها من معجزة توائم خلودها وشمولها، فكان في هذا الالتفات والصرف عن المعجزات المادية إلى المعجزة الفكرية رفع لشأن الأمة من جهة وإبراز لميزات القرآن العظيم وبيان مكانته الرفيعة من جهة أخرى. لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21) [الحشر: 21]، ¬

_ (¬1) السيرة النبوية لابن هشام 2/ 36.

الحكمة الثالثة

وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (37) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (38) بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39) [يونس: 37 - 39]. الحكمة الثالثة: كان في هذا الصرف رحمة بهم، فقد جرت سنّة الله سبحانه وتعالى في رسالاته إلى الناس أن القوم إن أجيبوا إلى مطالبهم من المعجزات المادية الباهرة القاهرة ثم نكصوا على أعقابهم فكفروا بعد ذلك، جرت سنّة الله أن يكون العذاب المستأصل حظّهم في الدنيا والعذاب المهين مصيرهم في الأخرى. وهذا ما يتجلى في الآيات التي تحكي مصائر الأمم والشعوب: - وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (73) [الأعراف: 73]. - وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42) [القمر: 41 - 42]. - إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112) قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ (113) قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114) قالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (115) [المائدة: 112 - 115].

مراحل التحدي والقدر المعجز من القرآن

يقول السهيلي في الروض الأنف: ( ... إن التكذيب بالآيات من نحو ما سألوه من إزالة الجبال عنهم، وإنزال الملائكة، يوجب في حكم الله ألا يلبث الكافرين بها وأن يعاجلهم بالنقمة كما فعل بقوم صالح وبآل فرعون، فلو أعطيت قريش ما سألوه من الآيات وجاءهم بما اقترحوا ثم كذّبوا لم يلبثوا، ولكن الله أكرم محمدا صلى الله عليه وسلم في الأمة التي أرسله إليهم، إذ قد سبق في علمه أن يكذّب به من يكذب ويصدّق من يصدّق، وابتعثه رحمة للعالمين برّ وفاجر، أما البرّ فرحمته إياهم في الدنيا والآخرة، وأما الفاجر فإنهم أمنوا من الخسف والغرق وإرسال حاصب عليهم من السماء كذلك قال بعض أهل التفسير في قوله تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (107) [الأنبياء: 107] (¬1). وإلى هذه الحكمة تشير الآية الكريمة عند صرف القوم عن المعجزات المادية إلى معجزة القرآن الكريم في قوله تعالى: وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) [العنكبوت: 50 - 51]. إن في هذا الصرف رحمة الله بهم ليدخل بعضهم في الإسلام أو يخرج من أصلابهم من تتفتّح بصيرته لنور الحق والهداية. مراحل التحدي والقدر المعجز من القرآن: قبل ذكر أقوال العلماء في القدر المعجز من القرآن لا بد من نظرة سريعة على مراحل التحدّي بالقرآن والتدرج فيه، لكي نصل من خلال هذا التدرج إلى المطلوب من البحث. فبعد أن صدع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدعوته في بطحاء مكة، ودعا الناس ¬

_ (¬1) الروض الأنف 2/ 50.

إلى عبادة خالق الكون ومبدعه، ونبذ عبادة الأصنام، طالبه المشركون بالدليل على صدقه، قال: دليل صدقي هو هذا القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، وهو يحمل في طياته برهان صدقه، لأنه لا يتأتّى لأحد من المخلوقين أن يفتري على الله أو يأتي بشيء من هذا القبيل وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (37) [يونس: 37]. وبيّن لهم أنهم يدركون العجز من أنفسهم أن يأتوا بمثل القرآن، كما يعرفون عجز محمد صلى الله عليه وسلم أيضا لأنه نشأ بينهم أمّيا لم يتلق العلم على أحد من البشر فإذا كانوا وهم أصحاب البلاغة وفرسان الفصاحة ولهم القصيد العجيب والرجز الفاخر والخطب الطوال وغيرها من أفانين القول، إذا كانوا يعجزون عن الإتيان بمثل القرآن فكيف يتهمون محمدا الأمي بأنه تقوّله أو افتراه من عند نفسه؟! قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (16) [يونس: 16]، أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (32) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (34) [الطور: 30 - 34]. لقد شعروا بعجزهم في قرارة أنفسهم عند ما دعوا إلى معارضة القرآن والإتيان بمثله، ولكنهم عاندوا واستكبروا ولم يستجيبوا لنداء العقل وأحاسيس الفطرة التي يستشعرونها في داخلهم، وقالوا عند سماع آيات القرآن تقرع مسامعهم وتتحداهم وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31) [الأنفال: 31]. ولم يتركهم القرآن الكريم يقولون قولتهم وينصرفون، بل لاحقهم بقوارع تنبيهاته وألهب مشاعرهم بأعنف الكلمات وسجّل كذبهم وافتراءهم في مزاعمهم وعجزهم المطلق في هذا الصدد قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (88) [الإسراء: 88].

وعند ما ضاقت عليهم الحيلة وسدّت في وجوههم السبل طرقوا كل باب في الادعاء والافتراء والبهتان لشدة حرصهم على إبطال شأن القرآن والتشكيك في ربانية مصدره فقالوا: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5) [الفرقان: 5]. ولكي يلقوا ظلالا من الشكوك على افترائهم لعلها تكون مستساغة عند الجاهلين بواقع الأمور قالوا إن الذي يعلّمه ليس من قريش وإنما هو رجل لديه علم لم تعلمه قريش، ولكن أنّى لأعجمي أن يأتي ببيان معجز للعرب الفصحاء؟!: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103) [النحل: 103]. لم يكتف القرآن الكريم بتسجيل العجز مجتمعين، بل أثارهم فرادى وسجل على زعمائهم الخزي والعار. واقرأ ما ورد في شأن الوليد بن المغيرة: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مالًا مَمْدُوداً (12) وَبَنِينَ شُهُوداً (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) ... [المدثر: 11 - 26]. ومثل ذلك ما أنزل في شأن أبي جهل: أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (9) عَبْداً إِذا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى (14) كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ (15) ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ (18) [العلق: 9 - 18]. وكذلك قوله تعالى: خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50) [الدخان: 47 - 50]. وكذلك ما نزل في ثالث الأشقياء أبي لهب: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ... (1) [المسد: 1].

إن هذا التحدّي الخاص بعد ذاك التحدّي العام كان من شأنه أن يثير هؤلاء الزعماء، فلا يرون لذة للعيش، ولا تذوق أجفانهم طعم النوم حتى يستفرغوا جهودهم، وجهود من يلوذون بهم في الشدائد للرد على القرآن ولم يبق للمشركين أرض يقفون عليها ولا حجة يستندون إليها، فقالوا إن هذه العلوم والأمور الغيبية والهدايات الواردة في القرآن لا عهد لنا بها، وهذا سبب عجزنا عن معارضة القرآن. قالوا ذلك وهم لا يدرون أنّ هذا حجة عليهم لأن محمدا صلى الله عليه وسلم ما هو إلا رجل منهم عاش بين أظهرهم ولم يزد في العلوم الاكتسابية عليهم بشيء. فأرخى القرآن الكريم لهم العنان وتنازل معهم في المحاورة إلى مجال يتوهمون إحراز قصب السبق فيه، ولم يطالبهم بشيء من حقائق الكون والتاريخ ومن قصص الأنبياء الغابرين وشأن الألوهية وكمالاتها وأمهات الأخلاق ومقومات الحضارات ورقيّ المجتمعات، وإنما عليهم أن يأتوا بمثل عشر سور من سور القرآن وليفتروا موضوعاتها كما يشاءون على أن تكون في فصاحة القرآن وبلاغته أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (13) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14) [هود: 13 - 14]. فإن عجزتم مع آلهتكم ومع من تلوذون بهم في الشدائد فعليكم أن تعترفوا بالحقيقة وتستسلموا لمنزّل القرآن الذي يعلم السرّ في السماوات والأرض، وآمنوا برسوله الذي أرسله إليكم وكفّوا عن الجهالات والضلالات المتوارثة التي ألجأتكم إلى أضعف المواقف وأضيق السبل، فإن ذلك لا يليق بعاقل يحترم نفسه وعقله. وفي خاتمة المطاف رضي منهم بأقل من ذلك فاكتفى بسورة مثل أيّ سورة من سور القرآن الكريم، ولم يحدّد لهم نوعية السورة بل تركها لرغبتهم، فإن شاءوا من السور الطويلة كان بها، أو من السور القصيرة فلهم ذلك، وسواء جاءوا بها منفردين أو مجتمعين. أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ

إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (38) بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39) [يونس: 38 - 39]. ولقطع دابر وساوس الشيطان ونزغات أهل الباطل المرجفين، ولكي لا يقال إن محمدا تحدّى أهل مكة، والأمية فاشية فيهم، ولا علم لهم بعلوم الأديان وبالأنبياء والكتب، ولو أنه تحدّى غيرهم لأمكنهم أن يأتوا بمثل قرآنه، كرّر في المرحلة المدنية وبين ظهراني أهل الكتاب وسجل العجز المطلق لكل المخلوقين إلى يوم القيامة. ولا زالت أصداء هذا التحدّي مستمرة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وستبقى أصداؤه في أذن الزمن على مر العصور ليبرهن على خلود الرسالة وصدق صاحبها: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (24) [البقرة: 23 - 24]. من هذا العرض الموجز لمراحل التحدّي نجد أن التحدّي استقر على تحديهم بأن يأتوا بمثل سورة من القرآن الكريم. وبما أن السورة جاءت بلفظ نكرة (بسورة) فهي تشمل كل سورة في القرآن طويلة أو قصيرة، فيكون القدر المعجز من القرآن هو السورة من القرآن الكريم طويلة أو قصيرة. هذا هو رأي جمهور العلماء إلا أن بعضهم زاد على ذلك: أن مقدار السورة القصيرة وهي ثلاث آيات معجز أيضا. ونقل عن بعض المعتزلة قولهم: إن الإعجاز يتعلق بجميع القرآن لا ببعضه. وهذا الرأي مصادم لآيات التحدّي التي تدرّجت في التحدّي بكل القرآن إلى التحدّي بعشر سور إلى التحدي بسورة واحدة. وذهبت طائفة أخرى إلى أن الإعجاز في القليل والكثير من القرآن دون تقييد بسورة. واستدلوا بظاهر قوله تعالى: فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ [الطور: 34]. وقالوا المقصود بالحديث: أيّ كلام يفيد معنى سواء كان آية أو أكثر أو أقل.

ورأي الجمهور هنا هو الذي يظاهره ويؤيده ظاهر مراحل التحدّي فيه إلا أنّ لنا ملاحظة على القياس الذي زاده بعضهم وهو (مقدار السورة الواحدة) فالمقرر لدى الجمهور أنّ السورة جاءت منكّرة فشمل السور الطويلة والقصيرة. وأقصر سورة في القرآن الكريم مقدارها ثلاث آيات، فهل كل ثلاث آيات في السور الطوال- أو التي تزيد آياتها على ثلاث- هي معجزة بغضّ النظر عن ارتباط هذه الآيات ببعضها، أو وحدة موضوعها وهدفها؟. إننا نجد كثيرا من الآيات المفردة في القرآن تزيد على كثير من السور القرآنية القصيرة، وإننا نلاحظ أن للسورة القرآنية شخصية وذاتية مستقلة تختلف من حيث الأداء والمقاطع والمفاصل عن غيرها من السور، وإن كانت متشابهة في الموضوع والهدف. ولعل هذا دفع بعض العلماء إلى تعريف السورة بقولهم: «السورة: قرآن يشتمل على آي، ذي فاتحة وخاتمة، وأقلّها ثلاث آيات) (¬1). وهذه الفاتحة والخاتمة ووحدة الشخصية واستقلالها لا نجدها في الآية الواحدة، أو حتى في الآيات المتعددة أحيانا. وهذه الميزات بارزة في السور القصيرة أكثر من غيرها لو تدبّرناها لوجدنا أنها تضاهي الطوال رباطا ونظاما، فإن دقة العلاقة ولطافة الرباط في آيات القصار مثل ما هي في الطوال. والسورة القصيرة قد تضمنت في الغالب أصول الدين ونبهت على أسس العقيدة، لذا نجد في بعض الآثار وصف بعضها بأنها تعدل ثلث القرآن أو نصفه أو ربعه وما ذلك إلا لأن ألفاظها القليلة تضمنت حقائق ضخمة عامة. والحكمة في تضمّن هذه السور مثل هذه الأمور العظام- والله أعلم- هي أن أصول الدين وأسس العقيدة تشتدّ الحاجة إلى حضورها في القلوب وسيطرتها على الأفكار، فأودعت في كلمات مختصرة تامة لتكون ¬

_ (¬1) «جمهرة البلاغة» لعبد الحميد الفراهي، ص 69.

كالأمثال السائرة الخفيفة على اللسان الغزيرة في الجنان، فلو عوّل في تعليمها على كلام طويل لضاعت في مطاويه، ولما تمكّنت الأذهان من استيعابه من بين جزئيّات الأحكام والهدايات الأخرى. لذا نقول: يجب التفريق بين أمرين: الأول: ما وقع به التحدي، فالتحدي لم يقع على أقل من سورة، والسورة تطلق على القصيرة والطويلة، والسورة بشخصيتها المستقلة هي المقصودة في آيات التحدي والإتيان بمثلها خارج عن طوق الإنس والجن وإن قصرت كسورة الكوثر. الأمر الثاني: القدر الدال على كون القرآن كلام الله، أي معرفة مصدر القرآن وكونه وحيا منزلا من الله وهذا لا يتقيد فيه بمقدار معين، فقد يدرك ذلك من خلال سورة أو من خلال آية واحدة أو بعض آية أو كلمة واحدة، فورود بعض الكلمات في سياق الحقائق الكونية أو الحقائق العلمية في النفس الإنسانية يدل على أن ذلك لا يدخل في نطاق العلم البشري كما في قوله تعالى: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً (25) أَحْياءً وَأَمْواتاً (26) [المرسلات: 25، 26] وقوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا (45) ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً (46) [الفرقان: 45، 46]، وقوله تعالى: يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ [الزمر: 6]. فهذه الحقائق لم تكن في مقدور أحد من البشر أن يحيط بها علما عند نزول القرآن الكريم، فدل ذلك على أن الذي يعلم السر في السماوات والأرض هو منزل القرآن الكريم وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً (4) وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (6) [الفرقان: 4 - 6].

القسم الأول في الجانب التاريخي لإعجاز القرآن

القسم الأوّل في الجانب التّاريخيّ لإعجاز القرآن

إعجاز القرآن في دراسات العلماء

إعجاز القرآن في دراسات العلماء نشأة مصطلح إعجاز القرآن: لقد كانت روعة القرآن الكريم وسحر بيانه مستوليا على القلوب والأفكار، وكان يحس المؤمنون به بنشوة بالغة وهم يتمعّنون آيات الذكر الحكيم. وكان الكافرون المعاندون يحسّون في قرارة أنفسهم أن هذا الكلام ليس من كلام البشر وكانوا يحسون بحلاوة عباراته وطلاوة أسلوبه والمعاني الثرّة المغدقة في موضوعاته وأنه يعلو ولا يعلى عليه، كما قالها الوليد بن المغيرة في لحظة صدق مع نفسه عند ما طلب منه قومه أن يقول في القرآن قولا لتجتمع كلمتهم عليه ولا يظهرون الاختلاف أمام وفود العرب في الموسم. فبعد أن اعترف أنه ليس من كلام الشعراء لأنه لا ينسجم على أقرائه، وليس من كلام الكهنة لأنه لا يشبه زمزمتهم، وليس بخنق الجنون وهوسه، قال: والله إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإنه لمغدق أسفله مثمر أعلاه، وإنه يعلو ولا يعلى عليه ما يقول هذا بشر. ولكنه أعلن أمام الملأ مكابرة وعنادا فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) [المدثر: 24 - 25]. لقد كان الذوق العربي السليم يساعد أصحابه على إدراك الأساليب القرآنية في مخاطباته، وكانت قدسية القرآن وعظمته مسيطرة على نفوسهم وكان الإقرار بالعجز عن الارتفاع إلى مستواه كامنا في النفوس. وبقي هذا الأمر بعد عصر النبوة والخلفاء الراشدين وردحا من الزمن في الدولة الأموية، إلا أن صفاء السليقة العربية بدأت تفقد صفاءها وبدأت

الثقافات الفارسية واليونانية تأخذ طريقها إلى المجتمع الإسلامي على يد أبناء الأقطار التي فتحها المسلمون، وبدأ الناس يفكّرون بطريقة عقلية مجرّدة عن التذوّق الجمالي وإدراك المعاني بالسليقة الصافية. في هذه البيئة المختلطة بالتيارات الثقافية المتباينة، برز الحديث عن وجه إعجاز القرآن، وعن سبب عجز العرب عن الإتيان بمثل سورة من القرآن. ولعل الفكرة أول ما نشأت في مجالس بعض القوم في البصرة في القرن الثاني الهجري، حيث كانت البصرة تموج بالتيارات الفكرية المختلفة من فقهاء ومحدثين ولغويين وأدباء وفلاسفة متكلمين، ودعاة إلى مذاهب خارجة عن الإسلام كالثنوية والمانوية والسّمنية والدهرية والزرادشتية وغيرها مما حملته التيارات الفكرية الوافدة من الشرق. ولم يلتفت جمهور العلماء إلى البحث عن وجه الإعجاز والمعجزة القرآنية- بل لم يبرز مصطلح إعجاز القرآن على الساحة- إلا بعد أن نقل عن واصل بن عطاء المتوفى سنة 131 هـ شيخ المعتزلة في البصرة قول غريب وهو: أن إعجاز القرآن ليس بشيء ذاتي فيه، وإنما هو بصرف الله تفكير الناس عن معارضته، وهو القول الذي تبنّاه فيما بعد إبراهيم بن سيّار النّظّام المتوفى سنة 231 هـ أحد شيوخ المعتزلة في البصرة، وعرف هذا القول فيما بعد (بالصرفة). عند ذلك بدأ العلماء يتعرضون في ثنايا كتبهم لوجه الإعجاز ويتحدثون عن إعجاز القرآن، ولعل أول من تولى الرد على القول بالصرفة هو الجاحظ (¬1) تلميذ النظام، فإلى جانب تناوله موضوع إعجاز القرآن في إشارات مقتضبة في بعض كتبه الأدبية ك «الحيوان» و «البيان والتبيين»، فقد ألف كتابا سماه «نظم القرآن» ليتعرّف القارئ من خلال بيان المعاني الغزيرة في الآيات القرآنية ذات الكلمات القليلة على نظم القرآن الكريم وتفرّده بنمط معيّن لا يتوفّر في كلام غيره، وهذا النظم ¬

_ (¬1) توفي الجاحظ سنة 255 هـ.

هو سرّ الإعجاز فيه. فمثلا يقول: في التعليق على قوله تعالى: في وصف خمر أهل الجنة لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ: (هاتان الكلمتان جمعتا جميع عيوب خمر أهل الدنيا)، وقوله عزّ وجلّ حين ذكر فاكهة أهل الجنة لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ: (جمع بهاتين الكلمتين جميع تلك المعاني). إلا أن كتاب الجاحظ «نظم القرآن» لم يصل إلينا وإنما بقيت الإشارة إليه من خلال كتاباته، وكتابات غيره من الأدباء. ونهج الأدباء الذين جاءوا بعد الجاحظ نهجه في الكشف عن المعاني الدقيقة والإشارات اللطيفة في آيات القرآن الكريم، وألفوا رسائل في نظم القرآن. فمن هؤلاء الذين ألفوا على غرار الجاحظ أبو بكر عبد الله بن أبي داود السّجستاني المتوفى سنة 316 هـ حيث ألّف كتابا وسماه «نظم القرآن». وكذلك أبو زيد البلخي أحمد بن سليمان المتوفى سنة 322 هـ وسمى كتابه «نظم القرآن» أيضا. كذلك أبو بكر أحمد بن علي المعروف بابن الإخشيد المعتزلي المتوفى سنة 326 هـ وسمى كتابه أيضا «نظم القرآن». وقد تعرض العلماء إلى وجوه إعجاز القرآن من خلال كتبهم المختلفة حول الدراسات القرآنية، فنجد الإمام أبا محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدّينوري المتوفى سنة 276 هـ قد تصدى للطاعنين في القرآن بشكل عام والمنكرين لإعجازه بشكل خاص في كتابه الجليل «تأويل مشكل القرآن» ففنّد مزاعمهم. وكان يمثل إمامة أهل السنّة والجماعة في طبقة الأدباء كما كان يمثل الجاحظ طبقة الأدباء من المعتزلة. يقول ابن قتيبة في أول كتابه «تأويل مشكل القرآن»: الحمد لله الذي نهج لنا سبل الرشاد وهدانا بنور القرآن ولم يجعل له عوجا، بل نزله قيّما مفصّلا بيّنا، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ... وقطع بمعجز التأليف أطماع الكائدين وأبانه بعجيب النظم عن حيل المتكلمين، وجعله متلوّا لا يملّ على طول التلاوة، ومسموعا لا تمجّه الآذان، وغضّا لا يخلق على كثرة الترداد، وعجيبا لا تنقضي عجائبه،

ومفيدا لا تنقطع فوائده، ونسخ به سالف الكتب، وجمع الكثير من معانيه في القليل من لفظه ... ) (¬1). كما تولى المفسرون بيان مزايا الأسلوب القرآني وبلاغته ووجوه إعجازه من خلال تفاسيرهم، فنجد شيخ المفسرين في زمانه الإمام ابن جرير الطبري المتوفى سنة 310 هـ يقول في مقدمة تفسيره: ( ... من أشرف تلك المعاني التي فضل بها كتابنا سائر الكتب قبله نظمه العجيب، ووصفه الغريب، وتأليفه البديع الذي عجزت عن نظم مثل أصغر سوره الخطباء، وكلّت عن وصف شكله البلغاء، وتحيّرت في تأليفه الشعراء). وعلى إثر ذلك اتسعت دائرة الكتابة في علوم البلاغة بعامة وفي إعجاز القرآن بشكل خاص. ولعل أول من ألف كتابا مستقلا تحت هذا العنوان هو أبو عبد الله محمد بن يزيد الواسطي المتوفى سنة (306) هـ، وسماه «إعجاز القرآن البياني». إلا أننا لم نظفر بكتاب الواسطي، وتذكر كتب التراجم أن عبد القاهر الجرجاني شرح كتاب الواسطي بكتابين- أحدهما صغير، والثاني كبير وسماه «المعتضد» - وذلك قبل تأليفه كتاب «دلائل الإعجاز» إلا أن شرحي كتاب الواسطي لم يصلا إلينا. ولننظر بشيء من التفصيل ما كتب في إعجاز القرآن عند علماء المعتزلة فهم الذين بدءوا بالرد على بعض علمائهم الذين قالوا بالصرفة ثم نجيل النظر في كتب أهل السنّة والجماعة في إعجاز القرآن. ¬

_ (¬1) «تأويل مشكل القرآن» ص 10.

الفصل الأول

الفصل الأول الإعجاز في كتب المعتزلة لقد أسلفنا القول إن مقالة بعض المعتزلة في نفي الإعجاز الذاتي عن القرآن وإن إعجازه كان بصرف الناس عن معارضته، كانت الدافع للكتابة في بيان إعجاز القرآن وأن إعجازه ذاتي في النظم والفصاحة والبلاغة. وذكرنا أن أول المتصدّين لرد هذا القول كان الجاحظ، وهو رأس فرقة منهم، إلا أن كتابه «نظم القرآن» لم يصل إلينا، وإن كانت كتبه الأدبية مثل «البيان والتبيين» و «الحيوان» تعطي نماذج جيدة عن فكرته في نظم القرآن. ولعل أول رسالة خاصة بإعجاز القرآن وصلتنا من أحد متكلمي المعتزلة وأدبائهم هي رسالة «النّكت في إعجاز القرآن» لأبي الحسن علي بن عيسى الرّمّاني المتوفى سنة (384) هـ. وفيما يلي تعريف بالرماني وبرسالته بإيجاز: الرّمّاني: هو أبو الحسن علي بن عيسى الرّمّاني، نسبة إلى الرمان وبيعه أو إلى قصر الرمان، وهو قصر بواسط. ولد سنة ست وتسعين ومائتين من الهجرة بمدينة سامراء أو ببغداد. أخذ اللغة والنحو على جماعة من شيوخ العلم مثل أبي بكر السراج، والزجاج، وابن الإخشيد المعتزلي. كان محبا للعلم واسع الاطلاع متقنا للأدب وعلوم اللغة والنحو، وبرع في علوم القرآن والتفسير وألف فيها. وتوفي بعد حياة حافلة سنة 384 هـ. أما كتابه فهو «النّكت في إعجاز القرآن» ويظهر من مقدمته للكتاب أنه

كان جوابا لسؤال وجّه للرماني، حيث يقول: (سألت وفّقك الله عن ذكر النكت في إعجاز القرآن دون التطويل بالحجاج، وأنا أجتهد في بلوغ محبتك والله الموفق للصواب بمنّه ورحمته، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه). ثم يبدأ في سرد وجوه الإعجاز .. وفيما يلي مقتطفات من كتابه تبيّن رأي الرماني في إعجاز القرآن: يقول الرماني: (وجوه إعجاز القرآن تظهر من سبع جهات: 1 - ترك المعارضة مع توفر الدواعي وشدة الحاجة. 2 - والتحدّي للكافة. 3 - والصرفة. 4 - والبلاغة. 5 - والأخبار الصادقة عن الأمور المستقبلة. 6 - ونقض العادة. 7 - وقياسه بكل معجزة) (¬1). وقدّم الرماني الحديث عن البلاغة لأهمية الوجه عنده، أما الوجوه الثلاثة قبلها والوجوه الثلاثة بعدها، فقد أرجأ الحديث عنها إلى آخر الرسالة ليتكلم عنها بإيجاز. ويقول: (فأما البلاغة فهي على ثلاث طبقات: 1 - منها ما هو في أعلى طبقة. 2 - ومنها ما هو في أدنى طبقة. 3 - ومنها ما هو في الوسائط، بين أعلى طبقة وأدنى طبقة. ¬

_ (¬1) «النكت في إعجاز القرآن» للرماني، ضمن ثلاث رسائل في إعجاز القرآن، ص 75.

فما كان في أعلاها طبقة فهو معجز، وهو بلاغة القرآن. وما كان منها دون تلك فهو ممكن كبلاغة البلغاء من الناس. وليس البلاغة إفهام المعنى، لأنه قد يفهم المعنى متكلّمان أحدهما بليغ والآخر عييّ، ولا البلاغة أيضا بتحقيق اللفظ على المعنى، لأنه قد يحقق اللفظ على المعنى وهو غث مستكره ونافر متكلّف، وإنما البلاغة إيصال المعنى إلى القلب في أحسن صورة من اللفظ ... فأعلاها طبقة في الحسن بلاغة القرآن، وأعلى طبقات البلاغة للقرآن خاصة، وأعلى طبقات البلاغة معجز للعرب والعجم كإعجاز الشعر المفحم، فهذا معجز للمفحم خاصة كما أن ذلك معجز للكافة) (¬1). ويقسم الرماني بعد ذلك البلاغة إلى عشرة أقسام هي: الإيجاز، والتشبيه، والاستعارة، والتلاؤم، والفواصل، والتجانس، والتصريف، والتضمين، والمبالغة، وحسن البيان. ثم يفسر كل قسم منها، فيعرف الموضوع ثم يقسمه إلى نواحيه ويستشهد لكل ناحية بالآيات القرآنية، ويسوق أحيانا بعض الأبيات من الشعر، أو كلام منقول عن العرب للمقارنة والموازنة. ويستغرق حديثه عن هذا الوجه من ص 76 - 109. ثم يتحدث عن الوجوه الستة التي ذكرها في أول الرسالة، حديثا موجزا، حيث استغرق الكلام عنها من ص 109 - 113. والمأخذ الذي أخذ على الرماني في كتابه أنه جعل الصرفة وجها من وجوه الإعجاز. وعلى الرغم من أنه لم يدافع عن هذا الوجه ولم يشرحه، إلا أن مجرد ذكره من بين وجوه الإعجاز وتأييده بقوله: (وهذا عندنا أحد وجوه الإعجاز التي يظهر منها للعقول) وهو في واقع الأمر يتناقض مع ما ذهب إليه في وجه البلاغة، كما سنبيّنه عند الحديث عن الصرفة. كما أن حجج الرماني على القول بنفي السجع من القرآن لم تكن ¬

_ (¬1) «النكت في إعجاز القرآن» للرماني، ضمن ثلاث رسائل في إعجاز القرآن، ص 76.

بالمستوى الذي يحمل المرء على الاقتناع بها وترك المحسوس المشاهد من وجوده في الآيات الكثيرة والسور المتعددة. يقول الرماني عن ذلك: (الفواصل حروف متشاكلة في المقاطع توجب حسن إفهام المعاني. والفواصل بلاغة والأسجاع عيب. وذلك أن الفواصل تابعة للمعاني، وأما الأسجاع فالمعاني تابعة لها، وهو قلب ما توجبه الحكمة في الدلالة .. ) (¬1). وقد تناول العلماء هذا الموضوع- وجود السجع في القرآن- وأشبعوه بحثا ولا مجال هنا لإيراد أقوالهم (¬2). ¬

_ (¬1) «النكت في إعجاز القرآن» ص 97. (¬2) للاطلاع على أقوالهم يمكن الرجوع إلى كتاب «الصناعتين» لأبي هلال العسكري، ص 261، وكتاب «سر الفصاحة» للخفاجي، ص 165، و «المثل السائر» لابن الأثير، ص 114.

الإعجاز عند مفسري المعتزلة

الإعجاز عند مفسري المعتزلة يتّسم علماء المعتزلة إلى جانب قدراتهم في علم الكلام، بسمة الفصاحة والبيان، والاطلاع الواسع على فنون البلاغة، ومن يستعرض الجزء السادس عشر من كتاب «المغني» للقاضي عبد الجبار المعتزلي المتوفى سنة 415 هـ، والذي خصص هذا الجزء للحديث عن إعجاز القرآن، يلحظ المسالك الدقيقة التي سلكها لإبراز نظم القرآن المعجز. إلا أن الذي حاز قصب السبق في هذا المضمار، وجعل كتابه تطبيقا عمليا لآرائه في الإعجاز البياني للقرآن الكريم هو الإمام الزمخشري من أبرز علماء المعتزلة. ولا بدّ من وقفة متأنية مع الزمخشري وتفسيره لمعرفة أسلوبه في الحديث عن إعجاز القرآن، باعتبار كتابه نموذجا من كتب تفسير المعتزلة. جار الله الزمخشري: هو محمود بن عمر الزمخشري، لقّب ب (جار الله) لمجاورته الحرم المكي فترة من الزمن. وألف كتابه في التفسير وهو مجاور لبيت الله الحرام، ويقول إنه أتم تأليفه في زمن يقدره بمدة خلافة أبي بكر رضي الله عنه، وهي سنتان وبضعة أشهر (¬1). يعتبر الزمخشري من رءوس المعتزلة، ويعد من أئمة النحو واللغة والأدب، وله في كل ذلك مؤلفات من أشهرها: «أساس البلاغة» في اللغة، «المفصّل» في النحو، كتاب «الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، وعيون الأقاويل في وجوه التأويل». ¬

_ (¬1) توفي الزمخشري سنة 538 هـ.

لم يؤلف الزمخشري مؤلّفا خاصّا بالإعجاز، إلا أنه سلك في تفسيره مسلكا دقيقا أبرز فيه وجوه إعجاز القرآن من خلال الأساليب البلاغية التي نبّه عليها وهو يفسر الآيات القرآنية. وعلى الرغم من أنه لم يقف عند كل كلمة، إلا أنه يطيل الوقوف عند الآيات التي تكشف له وجوها من روائع البيان وعجيب النظم في تقديم كلمة على كلمة أو اختيار كلمة بدل كلمة أو حرف مكان حرف، ويتحدث عن كل ذلك بأسلوب الأديب الضليع والبلاغي الذوّاقة الذي يتذوّق جمال الكلام وأفانين القول. ولولا أن الزمخشري شوّه جمال تفسيره بمنازع المعتزلة أحيانا في تأويل بعض الآيات حسب أصولهم، لتبوّء تفسيره القمّة بين التفاسير البيانية. وفيما يلي مقتطفات من تفسير الكشاف لمعرفة أسلوبه في عرض قضايا الإعجاز من خلال تفسير آيات القرآن الكريم. يقول الزمخشري في مقدمة تفسيره: ( ... قرآنا عربيا غير ذي عوج، مفتاحا للمنافع الدينية والدنيوية، مصدقا لما بين يديه من الكتب السماوية، معجزا باقيا دون كل معجز على وجه كل زمان، دائرا من بين سائر الكتب على كل لسان في كل مكان، أفحم به من طولب بمعارضته من العرب العربان، وأبكم به من تحدّى به من مصاقع الخطباء، فلم يتصدّ للإتيان بما يوازيه أو يدانيه واحد من فصحائهم، ولم ينهض لمقدار أقصر سورة منه ناهض من بلغائهم، على أنهم كانوا أكثر من حصى البطحاء، وأوفر عددا من رمال الدهناء ... ) (¬1). ويبين أنه لا ينبغي أن يتصدى لعلم التفسير إلا من كان على قدر كبير من معرفة علم المعاني والبيان. يقول في مقدمة تفسيره: (ثم إن أملأ العلوم ¬

_ (¬1) انظر مقدمة «الكشاف» ص 10.

بما يغمر القرائح، وأنهضها بما يبهر الألباب القوارح، من غرائب نكت يلطف مسلكها، ومستودعات أسرار يدق مسبكها: علم التفسير، الذي لا يقوم لتعاطيه وإجالة النظر فيه، كل ذي علم، كما ذكر الجاحظ في كتاب «نظم القرآن» .. فالفقيه وإن برز على الأقران في علم الفتاوى والأحكام، والمتكلم وإن بزّ أهل الدنيا في صناعة الكلام، وحافظ القصص والأخبار وإن كان من «ابن القرية» أحفظ، والواعظ وإن كان من «الحسن البصري» أوعظ، والنحوي وإن كان أنحى من سيبويه، واللغوي وإن علك اللغات بقوة لحييه، لا يتصدّى منهم أحد لسلوك تلك الطرائق، ولا يغوص على شيء من تلك الحقائق إلا رجل قد برع في علمين مختصين بالقرآن، وهما: علم المعاني، وعلم البيان ..... وتمهل في ارتيادهما آونة، وتعب في التنقير عنهما أزمنة، وبعثته على تتبع مظانّهما همّة في معرفة لطائف حجة الله، وحرص على استيضاح معجزة رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، وكان مع ذلك مسترسل الطبيعة منقادها، مشتعل القريحة وقّادها، يقظان النفس داركا للمحة وإن لطف شأنها، منتهيا على الرمزة وإن خفي مكانها) (¬1). ويقول- في تفسير قوله تعالى: يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً (22) [الفرقان: 22]: يَوْمَ يَرَوْنَ منصوب بأحد شيئين: إما بما دل عليه لا بشرى، أي يوم يرون الملائكة يمنعون البشرى أو يعدمونها ويومئذ للتكرير، وإما بإضمار اذكر: أي اذكر يوم يرون الملائكة)، ثم قال: لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ (وقوله للمجرمين إما ظاهر في موضع ضمير، وإما لأنه عام فقد تناولهم بعمومه حِجْراً مَحْجُوراً ذكره سيبويه في باب المصادر غير المتصرفة المنصوبة بأفعال متروك إظهارها، نحو معاذ الله وقصدك الله، وعمرك الله، وهذه كلمة كانوا يتكلمون بها عند لقاء عدوّ موتور أو هجوم نازلة أو نحو ذلك يضعونها موضع الاستعاذة، قال سيبويه: ويقول الرجل للرجل أتفعل كذا وكذا فيقول: حجرا وهي: ¬

_ (¬1) انظر مقدمة «الكشاف» ص 17.

حجره إذا منعه، لأن المستعيذ طالب من الله أن يمنع المكروه فلا يلحقه، فكان المعنى: أسأل الله أن يمنع ذلك منعا ويحجره حجرا، ومجيئه على فعل أو فعل في قراءة الحسن تصرف فيه لاختصاصه بموضع واحد كما كان قصدك وعمرك كذلك، وأنشدت لبعض الرجاز: قالت وفيها حيدة وذعر ... عوذ بربي منكم وحجر فإن قلت: فإذا ثبت أنه من باب المصادر فما معنى وصفه ب «محجورا»، قلت: جاءت هذه الصفة لتأييد معنى الحجر، كما قالوا ذيل ذائل والذيل الهوان، وموت مائت. والمعنى في الآية أنهم يطلبون نزول الملائكة ويقترحونه، وهم إذا رأوهم عند الموت أو يوم القيامة كرهوا لقاءهم وفزعوا منهم لأنهم لا يلقونهم إلا بما يكرهون، وقالوا عند رؤيتهم ما كانوا يقولونه عند لقاء العدو الموتور وشدة النازلة. وقيل هو من قول الملائكة، ومعناه حراما محرّما عليكم الغفران والجنة والبشرى، أي جعل الله ذلك حراما عليكم) (¬1). وفي قوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9) [الشعراء: 7 - 9]، يقول الزمخشري: (وصف الزوج وهو الصنف من النبات بالكرم، والكريم صفة لكل ما يرضى ويحمد في بابه، ويقال وجه كريم إذا رضي في حسنه وجماله، وكتاب كريم مرضي في معانيه وفوائده. وقال: حتى يشق الصفوف من كرمه أي من كونه مرضيّا في شجاعته وبأسه، والنبات الكريم المرضي فيما يتعلق به من المنافع. إِنَّ فِي ذلِكَ إنبات تلك الأصناف لَآيَةً على أن منبتها قادر على إحياء الموتى، وقد علم الله أن أكثرهم مطبوع على قلوبهم غير مرجّو إيمانهم. وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ في انتقامه من الكفرة الرَّحِيمُ لمن تاب وآمن وعمل صالحا. ¬

_ (¬1) «الكشاف» للزمخشري، 3/ 88.

فإن قلت: ما معنى الجمع بين «كم»، و «كل»، ولو قيل كم أنبتنا فيها من زوج كريم؟ قلت: قد دل «كلّ» على الإحاطة بأزواج النبات على سبيل التفصيل، و «كم» على أن هذا المحيط متكاثر مفرط الكثرة، فهذا معنى الجمع بينهما وبه نبّه على كمال قدرته ... فإن قلت: فما معنى وصف الزوج بالكريم؟ قلت: يحتمل معنيين: أحدهما أن النبات على نوعين نافع وضار، فذكر كثرة ما أنبت في الأرض، من جميع أصناف النبات النافع، وخلى ذكر الضار. والثاني أن يعم جميع النباتات نافعة وضارة ويصفهما جميعا بالكرم، وينبه على أنه ما أنبت شيئا إلا وفيه فائدة لأن الحكيم لا يفعل فعلا إلا لغرض صحيح ولحكمة بالغة وإن غفل عنها الغافلون ولم يتوصّل إلى معرفتها العاقلون. فإن قلت: فحين ذكر الأزواج ودل عليها بكلمتي الكثرة والإحاطة وكانت بحيث لا يحصيها إلا عالم الغيب: كيف قال إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً، وهلّا قال آيات؟ قلت: فيه وجهان. أن يكون ذلك مشارا به إلى مصدر أنبتنا فكأنه قال: إن في الإنبات لآية أيّ آية، وأن يراد أن في كل واحد من تلك الأزواج لآية) (¬1). ¬

_ (¬1) «الكشاف» 3/ 105.

الصرفة

الصرفة رافق القول بالصرفة القول بإعجاز القرآن، بل كان هذا القول الباعث الأول للبحث في وجوه إعجاز القرآن، ومن ثم نشوء علم البلاغة عامة. مصدر القول بالصرفة: عرف العرب في قرارة نفوسهم أن عجزهم عن أن يأتوا بمثل القرآن نابع من ذاتية القرآن. يتضح ذلك من أقوالهم المرويّة عنهم. وبقي الأمر كذلك إلى صدر العصر العباسي، حيث أولع الناس بالفلسفة الدخيلة واطّلعوا على فلسفة الهند والفرس واليونان، وصارت الطبقة المثقفة من غير علماء الدين شعارها الإغراب في الأقوال والأفكار، لما وصلوا إليه من ترف عقلي. واطلع بعض المتفلسفين من علماء المسلمين على أقوال البراهمة في كتابهم «الفيدا» (¬1)، وهو الذي يشتمل على مجموعة من الأشعار ليس في كلام الناس ما يماثلها- في زعمهم-، ويقول جمهور علمائهم إن البشر يعجزون عن أن يأتوا بمثلها لأن براهما صرفهم عن أن يأتوا بمثلها، ولكن خاصتهم يقولون إن في مقدورهم أن يأتوا بمثلها ولكنهم ممنوعون من ذلك احتراما لها. وعند ما دخلت الأفكار الهندية في عهد أبي جعفر المنصور ومن والاه ¬

_ (¬1) الفيدا: يطلق على كتب الهندوس المقدسة الأربعة، وقد يطلق على كل واحد منها على انفراد، وكتبت هذه الأسفار باللغة السنسكريتية ويعود تاريخها إلى ما بين عام 3000 - 1000 قبل الميلاد، ومعنى كلمة (فيدا) بالسنسكريتية «المعرفة». انظر موسوعة المورد للبعلبكي 10/ 82.

القائلون بالصرفة

من حكام بني العباس، تلقف الذين يحبون كل وافد من الأفكار ويركنون إلى الإغراب في أقوالهم فدفعتهم الفلسفة إلى أن يعتنقوا ذلك القول ويطبقوه على القرآن- وإن كان لا ينطبق- فقال قائلهم: إن العرب إذ عجزوا عن أن يأتوا بمثل القرآن ما كان عجزهم لأمر ذاتي من ألفاظه ومعانيه ونسجه ونظمه، بل كان، لأن الله تعالى صرفهم عن أن يأتوا بمثله. إن رواج فكرة الصرفة يؤدّي إلى أن القرآن الكريم ليس في درجة من الفصاحة والبلاغة تمنع محاكاته، وتعجز القدر البشرية على أن يأتوا بمثله. فالإعجاز عند القائلين بالصرفة ليس من صفات القرآن الذاتية، وبالتالي ما دام أن بلاغة القرآن لا تزيد على بلاغة سائر الناس فمؤدّى كلامهم أن يكون القرآن من جنس كلام البشر. القائلون بالصرفة: 1 - النّظّام: أبو إسحاق إبراهيم بن سيّار بن هانئ النظام البصري: اقترن اسم الصرفة باسم النظام، واشتهر أنه أول المنادين بها والمظهرين لهذا القول. كان النظام من الموالي، وهو ابن أخت أبي الهذيل العلّاف- أحد كبار المعتزلة-. وقيل له النظام، لأنه كان ينظم الخرز في سوق البصرة. تتلمذ للعلاف في الاعتزال ثم انفرد عنه وكوّن له مذهبا خاصا، وعاشره في بغداد حينا ومات وهو شاب في نحو السادسة والثلاثين من عمره سنة 231 هـ. وكان أستاذ الجاحظ. ترجم له الإمام أبو منصور البغداديّ في كتابه «الفرق بين الفرق» عند ذكره الفرقة النّظّامية فقال: (عاشر- أي النّظام- في شبابه قوما من الثنوية وقوما من السّمنيّة القائلين بتكافؤ الأدلة، وخالط بعد كبره قوما من ملاحدة الفلاسفة، ثم دوّن مذاهب الثنوية وبدع الفلاسفة وشبه الملاحدة في دين الإسلام، وأعجب بقول البراهمة بإبطال النبوات، ولم يجسر على إظهار هذا القول خوفا من السيف، فأنكر إعجاز القرآن في نظمه، وأنكر ما روي في معجزات نبينا صلى الله عليه وسلم من انشقاق القمر وتسبيح الحصى في يده، ونبع الماء

من بين أصابعه، ليتوصل بإنكار معجزات نبينا عليه السلام إلى إنكار نبوته، ثم إنه استثقل أحكام شريعة الإسلام في فروعها، ولم يجسر على إظهار رفعها فأبطل الطرق الدالة عليها، فأنكر لأجل ذلك حجية الإجماع، وحجية القياس في الفروع الشرعية، وأنكر الحجة من الأخبار التي لا توجب العلم الضروري. ثم إنه علم إجماع الصحابة على الاجتهاد في الفروع الشرعية فذكرهم بما يقرؤها غدا في صحيفة مخازيه، وطعن في فتاوى أعلام الصحابة رضي الله عنهم، وجميع فرق الأمة من فريقي الرأي والحديث) (¬1). وتدل سيرة النظام على أنه كان على جانب كبير من الذكاء، يروي عن الجاحظ قوله: (كان الأوائل يقولون في كل ألف سنة رجل لا نظير له فإن كان ذلك صحيحا فهو النظام) (¬2). ولكنه لم يستعمل ذكاءه هذا في خدمة الشريعة والبحث فيها لإبراز أسرارها ولكشف حكمها ومكنوناتها، بل كان مسيئا إليها مستخفا بأوامر الدين غير متمسك بالأحكام شديد الجرأة على المحدثين، قليل الإيمان بصحة الحديث، ولا يرى غضاضة في ردّ الحديث والطعن في راويه ولو كان صحابيا، لأنه لم يوافق عقله أو بالأحرى هواه. ويقال إنه ألف كتابا سماه «كتاب النكت» انتصر فيه لكون الإجماع ليس بحجة، فاضطره ذلك إلى أن يذكر عيوب الصحابة ويوجّه إلى كل واحد منهم طعنا. يقول عنه ابن قتيبة (¬3): (وجدنا النظام شاطرا من الشطار يغدو على سكر ويروح على سكر ويبيت على جرائرها ويدخل في الأدناس ويرتكب الفواحش والشائنات، وهو القائل: ما زلت آخذ روح الزقّ في لطف ... وأستبيح دما من غير مجروح ¬

_ (¬1) «الفرق بين الفرق» للبغدادي، ص 131 - 132. وقد ذكر البغدادي عشرين قضية من انحرافاته وسماها فضائح، ومن أراد الاطلاع على مزيد من فضائحه فليراجع «الفرق بين الفرق» من ص 131 - 150. (¬2) «ضحى الإسلام» لأحمد أمين، 3/ 118. (¬3) انظر كتابه «تأويل مختلف الحديث» ص 25.

حتى انثنيت ولي روحان في جسدي ... والزقّ مطّرح جسم بل روح وفرقة النظامية التي تنسب إليه بالإضافة إلى ما تقدم من مخالفات لجماعة المسلمين فقد تبنّوا آراء شاذة في العقائد منها: أن الله لا يقدر أن يفعل بعباده في الدنيا ما لا صلاح فيه، ولا أن يزيد وينقص من عقاب وثواب، وكونه مريدا لفعله كونه خالقا ولفعل العبد كونه أمر به، والإنسان هو الروح والبدن، والأعراض والأجسام لا تبقى، والجسم مؤلف من الأعراض، والعلم والجهل المركب مثلان، والإيمان والكفر كذلك .. والتواتر يحتمل الكذب، وأوجبوا النص على الإمام، وثبوته لعليّ لكن عمر كتمه (¬1) ... ولهذه الآراء الشاذة والمعتقدات الباطلة نص الكثير من العلماء على تكفير النظام وفرقته، حتى من المعتزلة أنفسهم ومنهم أبو الهذيل- خاله- وألف كتابا في الرد عليه عرف باسم «الرد على النظام»، ومنهم الجبّائي كفّر النظام في مسائل ذكرها أبو منصور البغدادي، ومنهم الإسكافي وله كتاب في الرد على النظام كفّره في أكثر مذاهبه. أما أهل السنّة والجماعة فقد ضمن أكثرهم تكفير النظام مصنفاتهم، ويقال إن للشيخ أبي الحسن الأشعري ثلاثة كتب في الرد على النظام يكفره فيها. وللقلانسي في الرد عليه كتب ورسائل. وللقاضي أبي بكر الباقلاني كتاب كبير في بعض أصول النظّام، وقد أشار إلى ضلالاته في كتاب (إكفار المتأولين). 2 - وممن نسب إليه القول بالصرفة: الشريف المرتضى من الشيعة. جاء في ترجمته عند الزركلي في «الأعلام»: علي بن الحسين بن موسى بن محمد، من أحفاد الحسين بن ¬

_ (¬1) انظر كتاب «لوامع الأنوار» لمحمد بن أحمد السّفّاريني، 1/ 78.

علي بن أبي طالب، نقيب الطالبيّين، أحد الأئمة في علم الكلام والأدب والشعر. يقول بالاعتزال. مولده ووفاته ببغداد. وله تصانيف كثيرة أشهرها: أمالي المرتضى، وديوان شعره. قال الذهبي: وهو المتّهم بوضع نهج البلاغة، ومن طالعه جزم بأنه مكذوب على أمير المؤمنين. ت 436. ولكنه فسّر الصرفة بأن الله سلبهم العلوم التي يحتاج إليها في معارضة القرآن والإتيان بمثله. ومؤدّى كلامه أنهم أوتوا القدرة على المعارضة بما كانوا عليه من بيان وبلاغة وفصاحة فهم قادرون على النظم والعبارات، ولكنهم عاجزون عن الإتيان بمثل القرآن بسبب أنهم سلبوا العلم الذي يستطيعون به محاكاة القرآن في معناه. 3 - وممن قال بالصرفة: الفقيه الظاهري ابن حزم الأندلسي المتوفى سنة 456 هـ. جاء في كتاب «الأعلام» للزركلي في ترجمة ابن حزم: عالم الأندلس في عصره. كان في الأندلس خلق كثير ينتسبون إلى مذهبه يقال لهم الحزمية. ولد بقرطبة، وكانت له ولأبيه من قبله رئاسة الوزراء وتدبير المملكة، فزهدها وانصرف إلى العلم والتأليف ... انتقد كثيرا من العلماء والفقهاء، فتمالئوا على بغضه وأجمعوا على تضليله وحذروا سلاطينهم من فتنته، ونهوا عوامهم عن الدنوّ منه فأقصته الملوك وطاردته، كان يقال لسان ابن حزم وسيف الحجاج شقيقان. أشهر مصنفاته: «الفصل في الملل والأهواء والنّحل»، و «المحلى» في الفقه الظاهري، و «جمهرة الأنساب»، و «الإحكام في أصول الأحكام». وغيرها من المؤلفات. فقد قال في كتابه «الفصل» في سبب الإعجاز: لم يقل أحد إن كلام غير الله معجز، لكن لمّا قاله الله تعالى، وجعله كلاما له، أصاره معجزا،

حقيقة القول بالصرفة

ومنع من مماثلته .. ثم قال: وهذا برهان كان لا يحتاج إلى غيره (¬1). يقول الشيخ محمد أبو زهرة تعليقا على كلام ابن حزم هذا: (ولئن كان كل من النّظّام والمرتضى متهما بنوع من التهمة في عقيدته، فالنظام قد اتّهم بالإلحاد والزندقة، والمرتضى اتّهم باطّلاعه على فلسفة المعتزلة وكلامهم، فإن ابن حزم لم يتّهم بشيء من ذلك، وإنما يفسر قوله بالصرفة تمشيا مع مبدئه في عدم جواز تعليل كلام الله وشرعه، فقد ألزم نفسه بالأخذ بظاهر النصوص من غير تعليل، فالاتجاه إلى تعليل الإعجاز الوارد في قوله تعالى: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا وغيرها من الآيات بأن السبب فيه بلاغته التي علت عن طاقة العرب والتي جعلتهم يخرّون صاغرين بين يديه من غير مراء ولا جدال، يعدّ هذا تعليلا، وهو من باب الرأي الذي ينفيه) (¬1). 4 - وممن عرف بالقول بالصرفة ابن سنان الخفاجي المتوفى سنة (466) هـ. يقول في كتابه «سر الفصاحة»: وإذا عدنا إلى التحقيق وجدنا وجه إعجاز القرآن صرف العرب عن معارضته، بأن سلبوا العلوم التي بها كانوا يتمكّنون من المعارضة في وقت مرامهم ذلك ... ومتى رجع الإنسان إلى نفسه، وكان معه أدنى معرفة بالتأليف المختار وجد في كلام العرب ما يضاهي القرآن في تأليفه) (¬2). حقيقة القول بالصرفة: قالوا: (لقد عرف العرب منذ جاهليتهم بفصاحة الكلم، فلهم القصيد الطويل والنثر البديع والرجز اللطيف والسجع الغريب، ولهم المعلقات، وقد كانت ندواتهم ومحافلهم تقام لمعرفة ما استجد من أفانين القول، فكيف يعجزون عن الإتيان بمثل أقصر سور القرآن بمثل سطر واحد لا تتجاوز كلماته العشرة، فإن ثبت عجزهم فليس ذاك إلا أن صارفا صرفهم عن ¬

_ (¬1) نقلا عن كتاب «المعجزة الكبرى» لمحمد أبي زهرة، ص 80. (¬2) «سر الفصاحة» للخفاجي ص 89.

مما تقدم من أقوال القائلين بالصرفة نتعرف على مذهبين لهم

الاتيان بمثل القرآن أو بمثل سورة منه بأن سلب منهم العلوم التي تمكنهم معارضة القرآن بواسطتها، أو صرفهم عن الاهتمام بالمعارضة، ولولا ذلك لأمكنهم الإتيان بمثل القرآن). مما تقدم من أقوال القائلين بالصرفة نتعرف على مذهبين لهم: 1 - النظام ومن تبعه: ذهبوا إلى أن العرب صرفوا عن المعارضة أصلا ولم يتوجّهوا إليها، ولو توجّهوا لقدروا على الاتيان بمثل القرآن. 2 - والمذهب الثاني- وقال به الشريف المرتضى وابن سنان الخفاجي ومن تابعهما-: ذهبوا إلى أن الله سلب من العرب علومهم التي يحتاج إليها في معارضة القرآن والاتيان بمثله، ولو توجّهوا لما استطاعوا أن يأتوا بمثل القرآن. وكلا القولين مردود بأدلة نقلية وعقلية: أما الأدلة النقلية: 1 - فقد أجمعت الأمة قبل ظهور القول بالصرفة على أن إعجاز القرآن ذاتي (¬1) لاشتماله على ميزات جعلته يفضل كلام البشر. والقول بالصرفة يسلب عن القرآن إعجازه الذاتي، ويجعل المعجزة لهذا الصرف والمنع الذي حال بينهم وبين الاتيان بمثله. 2 - وصف الله سبحانه وتعالى القرآن بأوصاف ذاتية تجعله في منزلة لا تصل إليها المعجزات الأخرى، وبيّن أن وجود القرآن بينهم يتلى عليهم كافيا ومغنيا عن كل معجزة مادية أخرى: وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) [العنكبوت: 50 - 51]. ¬

_ (¬1) ذكر هذا القول القرطبي في تفسيره 1/ 66، وانظر الإتقان للسيوطي 2/ 118، وغيرهما.

وأما الأدلة العقلية

فهذه الأوصاف والمزايا توجب أن يكون إعجازه ذاتيا وقد قال سبحانه وتعالى: وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً [الرعد: 31]. أي لو كان من شأن كتاب أن يظهر له أثر في مثل هذه الأشياء لكان هذا القرآن أولى من كل كتاب بذلك. ويقول جلّ شأنه: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (23) [الزمر: 23]. فالقول بالصرفة يسلب هذه الصفات الذاتية عن القرآن الكريم ويجعل الإعجاز في المنع الذي حال بينهم وبين الإتيان بمثله. وأما الأدلة العقلية: 1 - إن قول النظام ومن تبعه: إن الله صرفهم بصرف الدواعي عن الاهتمام بالمعارضة يكذبه الواقع التاريخي، كيف يقال إنهم لم يهتموا بأمر القرآن والتوجّه لمعارضته وهم الذين لم يدّخروا وسعا في سبيل القضاء على القرآن والتخلص ممن أنزل عليه. - هل يقال إن دواعيهم كانت مصروفة عن المعارضة ولم يهتموا بشأن القرآن وهم الذين أوفدوا عتبة بن ربيعة ليفاوض محمدا صلى الله عليه وسلّم على ترك سب آلهتهم وتسفيه أحلامهم وله مقابل ذلك الملك والمال والجاه والنساء وكل ما يرغب؟!. - أيقال إن دواعيهم كانت مصروفة عن القرآن وهم الذين وجهوا أشرافهم إلى عم النبي صلى الله عليه وسلّم أبي طالب لكي يسلمهم محمدا يقتلوه ويعطوه بدله أنهد فتى في قريش، عمارة بن الوليد بن المغيرة؟!. - كيف يقال إن دواعيهم لم تتوجّه إلى معارضة القرآن وهم الذين لمّا يئسوا من المفاوضات قرروا إرسال فتى من كل قبيلة لاغتيال محمد صلى الله عليه وسلّم في بيته لكي يتفرّق دمه في القبائل فلا يستطيع بنو هاشم حرب

العرب جميعا فيضطرون إلى قبول ديته؟! ولما أنجاه الله منهم جمعوا الجيوش تلو الجيوش لخوض المعارك الضارية وهم يقدمون وقودا لها أبناءهم وفلذات أكبادهم في سبيل إطفاء نور الله والقضاء على دعوة محمد صلى الله عليه وسلّم. كل هذا وكان يكفيهم مؤنة ذلك ويبطل دعوة محمد صلى الله عليه وسلّم الإتيان بمثل أقصر سورة من سور القرآن، وكيف يبذل الإنسان حياته وما يملك في سبيل شيء بينما تحقيق غرضه يتم بشيء هو من مألوفات حياته اليومية العادية ومن أخص خصائصه التي اشتهر بها ونسبت إليه. إن ترك المعارضة بالحرف واللسان واللجوء إلى الضرب والطعن بالسنان من قريش- ذؤابة العرب وأهل الحجا والنّهى فيهم- لدليل على إحساسهم بالعجز المطلق أمام آيات الله البينات. بل كان هذا العقل الراجح يمنعهم من ارتكاب حماقات مثل حماقات مسيلمة في زعمه الإتيان بمثل سور القرآن فأصبح أضحوكة الأجيال والأزمان. إن من يعرف عادات العرب في الجاهلية وقريش خاصة في الحفاظ على احترام الآباء وتقديس العادات والمفاخرة بالأمجاد، يدرك مدى هول ما نزل بهم عند ما تحدّاهم القرآن وأبطل عاداتهم وتقاليدهم الموروثة من الآباء والأجداد وسفّه أحلامهم، ثم طلب منهم إن أرادوا النصرة لأنفسهم أن يأتوا بمثل سورة من القرآن، ثم سجل عليهم الخزي والهزيمة بقوله: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (24) [البقرة: 24]. 2 - وعن قول المرتضى ومن شايعه: أن الله سلب من العرب العلوم التي يحتاجون في معارضة القرآن، نقول: - وهل انحطت علومهم وعقولهم بعد التحدّي عما كانت عليه قبل التحدّي؟! إننا إذا قارنّا بين أساليبهم في الكلام قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلّم وبعد البعثة لم نجد تفاوتا بين أساليبهم، وعلى هذا الزعم كان ينبغي أن تسف

أساليبهم بعد التحدّي. ولو أن العلوم سلبت منهم فلماذا لم يلجئوا إلى كلام فصحائهم من القدماء الذين لم يحضروا عصر التنزيل ولم تسلب منهم العلوم، فيأتوا بقطعة شعرية أو خطبة محفلية فيعارضوا بها القرآن؟ ولماذا لم ينطقوا بهذا السلب ويشيعوا بأنهم سلبوا علومهم فلا يقدرون على معارضة القرآن؟. ولا يقال إن ذلك سيكون حجة عليهم ملزمة لهم لتصديقه، لأن باب الافتراء كان مفتوحا عندهم، فكانوا يستطيعون أن يدّعوا أن علومهم سلبت بطريق السحر كما افتروا إن تأثير القرآن على الأنفس إنما هو من قبيل السحر. إن الذين ادعوا أن إعجاز القرآن كان بسلب العلوم، يثبتون للعرب قدرة هم لم يدعوها لأنفسهم، بل جاء على لسان أهل البيان منهم ما ظهر الحق عليه من غير إرادة منه (ما يقول هذا بشر). وإن كان القرآن غير معجز بشيء ذاتي فيه، وإنما لم يعارضه العرب لصرف دواعيهم عن المعارضة أو لسلب العلوم منهم، فهل أحس النّظّام والمرتضى بما وصفوا العرب به من صرف وسلب؟ فلماذا لم يأتيا بمعارضة للقرآن، وكان النّظّام من الأذكياء الماهرين كما يشهد له تلميذه الجاحظ، والمرتضى مشهود له أنه كان من فرسان البلاغة والبيان؟. إننا نقول إن تحدّي القرآن وإثبات العجز للناس ليس مقتصرا على عهد النبوة فقط بل هذا التحدّي قائم، وهذا العجز من البشر ثابت إلى قيام الساعة. فمن قال بالصرفة فليحاول هو، وهل يحسّ بشيء من الصرف أو السلب في نفسه؟. إن استعظام العرب لفصاحة القرآن وبلاغته وتعجبهم من ذلك لهو دليل على بطلان الصرفة، فلو كانوا مصروفين عن المعارضة بنوع من الصرف لكان تعجبهم للصرف لا للبيان المعجز. ولو كان هنالك سلب علومهم لكان الفرق بين كلامهم بعد التحدّي وكلامهم قبله كالفرق بين

كلامهم بعد التحدّي وبين القرآن، ولما لم يكن كذلك بطل القول بالصرفة (¬1). والعرب لم تفقد عقولها بعد التحدّي، فإن سلب العلوم ونسيانها في هذه المدة اليسيرة دليل على زوال العقل، ومعلوم بقاء العقول بعد التحدّي كما كانت، بل من تغلب على نزغات الشيطان وترك اتباع الهوى في نفسه وترفع عن الحسد والبغضاء وآمن بدعوة الحق ازداد عقله رجاحة وصفاء. سئل عمرو بن العاص بعد إسلامه عن سبب تأخره في الاستجابة لدعوة الإسلام قال: لقد كان الأمر والتدبير لغيرنا سابقا، فكنا نسمع رأيهم ونطيع أمرهم، فلما آل الأمر إلينا رأينا أن الأمر أظهر من أن يحتاج إلى برهان. ولا شك أن القول بالصرفة كان نتيجة للتفكير الفلسفي المجرد عن نور الهداية، حيث نظر القائلون بها إلى أن القرآن مؤلف من كلمات عربية معروفة باستطاعة البلغاء أن يأتوا بمثلها، فإذا عرفت المفردات أمكن التوصل إلى تركيبها، وإذا عرفت التراكيب أمكن تأليفها (¬2)، وفاتهم أن المفردات والتراكيب تحتاج إلى الصبغة الإلهية واللمسة الربانية حتى تضفي عليها الإشراق والحياة فيسري فيها الروح فتكون معجزة وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53) [الشورى: 52 - 53]. إن مثل هؤلاء كمثل الطبيعيين اليوم ينظرون إلى الكائنات الحية وعلى رأسها الإنسان ويحاولون تحليلها إلى المواد الأولية التي تتكوّن منها. يحاولون بواسطة هذه التحليلات معرفة سر الحياة وإيجاد إنسان أو حيوان أو نبات في المعمل. لقد فات هؤلاء أيضا أن النفخة الإلهية هي سر الحياة، فلولا هذه النفخة الإلهية لما تكوّنت الحياة في المواد الأولية، ولولا الصبغة الربانية لما كانت الكلمات العربية معجزة. ¬

_ (¬1) انظر كتاب «الفوائد المشوق» لابن القيم، ص 252. (¬2) ورد مثل هذا الاستدلال في كلام ابن سنان الخفاجي في كتابه «سر الفصاحة» ص 90.

الفصل الثاني

الفصل الثاني الإعجاز عند علماء أهل السنة والجماعة تصدّى علماء أهل السنّة والجماعة للرد على القائلين بالصرفة النافين للإعجاز الذاتي عن القرآن الكريم، وكان أسلوبهم في هذا الرد مشابها لأساليب علماء المعتزلة الذين تولّوا الردّ على النظام وأتباعه حيث كان الطابع العام في هذه الردود بشكل عام: 1 - هو التوجه إلى بيان أساليب العرب في الكلام في شعرهم وخطبهم وكلامهم المنثور، ثم أخذ نماذج من هذا الكلام ودراسته وبيان وجوه البلاغة فيه واستنباط ألوان من المجاز والتشبيه والاستعارة والكناية والسجع والتضمين وغير ذلك من أفانين القول فيه. ثم مقارنة كل ذلك بما ورد في القرآن الكريم من ألوان بلاغته وإبراز مزايا ما ورد في القرآن الكريم على سائر الكلام، وأن المستوى الرفيع المذكور خارج عن طوق البشر معجز لقدرات المخلوقين. 2 - دراسة نماذج من الآيات الكريمة وبيان طريقة نظم الألفاظ واختيار الكلمات للدلالة على المعاني الجليلة التي لا عهد للبشر في طرقها والتعرض لها، فهي هدايات قرآنية جليلة اختص القرآن الكريم بها. نلحظ هذا الاتجاه في المناقشة والرد من خلال مؤلفات علماء اللغة وعلم الكلام والأدب والفقه والتفسير. فانظر مثلا في كلام ابن قتيبة في كتابه «تأويل مشكل القرآن»، وكذلك في كلام الخطّابي في رسالته «بيان إعجاز القرآن» فهم يبدءون بالحديث عن البلاغة وعلومها وضرب الأمثلة

الإعجاز في كتب متكلمي أهل السنة والجماعة

من كلام العرب على ذلك ثم يصلون إلى إعجاز القرآن من خلال المقارنة. إلا أن هذا اللون في البحث اختلف مساره على يد الإمام الباقلّاني المتوفى سنة 403 هـ حيث قصد إلى بحث إعجاز القرآن ابتداء فجعل البحث في وجوهه نقطة البدء. الإعجاز في كتب متكلمي أهل السنّة والجماعة: ثم جاء بعد ذلك الخطابي وهو أبو سليمان حمد بن محمد بن إبراهيم الخطّابي المتوفى سنة 388 هـ. ويعدّ الخطابي من علماء أهل السنّة والجماعة البارزين، وعرف بمؤلفاته الجليلة مثل «غريب الحديث»، و «معالم السنن» في شرح سنن أبي داود، و «أعلام السنن» في شرح البخاري، و «بيان إعجاز القرآن». وقد تعرض في كتابه لآراء العلماء الذين سبقوه بالحديث عن إعجاز القرآن وبلاغته، مما يدل على أنه استفاد من الذين ألفوا قبله في هذا الموضوع. وطريقته شبيهة بطريقة الرماني في عرض الكلام البليغ والأساليب البليغة والاستشهاد على ذلك من كلام العرب ثم الانتهاء إلى بلاغة القرآن، والمقارنة بين أسلوب القرآن وغيره من الأساليب. وجه الإعجاز عند الخطابي: لقد اطّلع الخطابي على ما كتبه السابقون عن إعجاز القرآن كالجاحظ وابن قتيبة والرماني. وكان موضوع النظم القرآني هو ميدان البحث في كتابات المتصدّين لبيان وجه الإعجاز، إلا أن حديث الخطابي عن النظم القرآني يختلف بعض الاختلاف عن حديث الجاحظ وعن حديث ابن قتيبة والرماني. فبينما اهتم السابقون ببيان وجوه المجاز والاستعارات والتشبيهات، واستخدام الألفاظ المختارة للدلالة على الأغراض المعيّنة،

وقارنوا كل ذلك بما ورد عن العرب في أشعارهم وخطبهم وفصيح كلامهم في محافلهم، وأبرزوا مزايا القرآن الكريم على كل ذلك، نجد الخطابي يضيف بعدا جديدا إلى مفهوم النظم حيث يقول: (وإنما يقوم الكلام بهذه الأشياء الثلاثة: لفظ حامل، ومعنى به قائم، ورباط لهما ناظم. وإذا تأملت القرآن وجدت هذه الأمور منه في غاية الشرف والفضيلة حتى لا ترى شيئا من الألفاظ أفصح ولا أجزل ولا أعذب من ألفاظه، ولا ترى نظما أحسن تأليفا وأشد تلاؤما وتشاكلا من نظمه، وأما المعاني فلا خفاء على ذي عقل أنها هي التي تشهد لها العقول بالتقدم في أبوابها والترقي إلى أعلى درجات الفضل من نعوتها وصفاتها) (¬1). والخطابي عند ما يطلق هذه الأوصاف العامة في النظم القرآني وألفاظه الفصيحة الجزلة ونظمه المتآلف المتلائم ومعانيه الفاضلة، لم يسق أمثلة تطبيقية من خلال نصوص آي الذكر الحكيم ليلمسنا هذه الجوانب لمس اليد ويضع أصابعنا على هذه الجوانب من النظم القرآني كما فعل الجرجاني الذي جاء بعده. ولعل جانبا آخر تميّزت به نظرية الخطابي في الإعجاز وهو مزيتا القرآن الكريم التي قال عنها الخطابي: (صفتا الفخامة والعذوبة) يقول في ذلك: ( ... فحازت بلاغات القرآن من كل قسم من هذه الأقسام حصة، وأخذت من كل نوع من أنواعها شعبة (¬2)، فانتظم لها بامتزاج هذه الأوصاف نمط من الكلام يجمع صفتي الفخامة والعذوبة، وهما على الانفراد في نعوتهما كالمتضادّين لأن العذوبة نتاج السهولة، والجزالة والمتانة في الكلام ¬

_ (¬1) «بيان إعجاز القرآن» للخطابي، مطبوع ضمن ثلاث رسائل في إعجاز القرآن، ص 27، بتحقيق محمد خلف الله، د. محمد زغلول سلام. ط دار المعارف. (¬2) يقصد الخطابي الكلام البليغ الذي قسمه إلى ثلاثة أقسام: (البليغ الرصيف الجزل، والفصيح القريب السهل، والجائز الطلق الرسل).

تعالجان نوعا من الوعورة، فكان اجتماع الأمرين في نظمه مع نبوّ كل واحد منهما على الآخر فضيلة خصّ بها القرآن، يسرّها الله بلطيف قدرته من أمره، ليكون آية بينة لنبيه، ودلالة على صحة ما دعا إليه من أمر دينه) (¬1). فهذه المزايا في نظم القرآن الكريم هي التي أعجزت العرب عن الإتيان بمثله أو بمثل أقصر سورة منه، (لذا انقطع الخلق دونه وعجزوا عن معارضته بمثله أو مناقضته في شكله. ثم صار المعاندون له ممن كفر به وأنكره يقولون مرة إنه شعر لما رأوه كلاما منظوما، ومرة سحر إذ رأوه معجوزا عنه غير مقدور عليه، وقد كانوا يجدون له وقعا في القلوب وقرعا في النفوس يريبهم، فلم يتمالكوا أن يعترفوا به نوعا من الاعتراف، ولذلك قال قائلهم إن له حلاوة وإن عليه طلاوة .. ) (¬2). وهكذا نجد الخطابي قد استوعب ما قاله سابقوه في وجه الإعجاز وعمّق مفهوم النظم القرآني بهذه التقسيمات. بالإضافة إلى ما تعرض له في كتابه في الرد على الصرفة والقائلين بها، وما أورده من وجوه أخرى في الإعجاز وإن لم يرتضها كالقول بالإعجاز الغيبي لأن جميع سور القرآن لا تشتمل على إخبار بالغيب، وقد جعل كل سورة من القرآن معجزة قائمة بذاتها. ثم يذكر من وجوه الإعجاز ما قال عنه: (إن الناس قد ذهبوا عنه فلا يكاد يعرفه إلا الشاذ من آحادهم وهو صنيعه بالقلوب وتأثيره في النفوس، فإنك لا تسمع كلاما غير القرآن منظوما أو منثورا إذا قرع السمع خلص له إلى القلب- من اللذة والحلاوة في الحال، ومن الروعة والمهابة في أخرى- ما يخلص من القرآن إليه، تستبشر به النفوس، وتنشرح له الصدور، حتى إذا أخذت حظها منه عادت مرتاعة، وقد عراها الوجيب والقلق وتغشاها ¬

_ (¬1) انظر «بيان إعجاز القرآن» للخطابي، ضمن ثلاث رسائل في إعجاز القرآن، ص 26. (¬2) المرجع السابق ص 28.

الباقلاني وكتابه"إعجاز القرآن"

الخوف والفرق، تقشعر منه الجلود وتنزعج له القلوب .. ) (¬1). وهذا الكلام الأخير للخطابي بمثابة الشرح والتفصيل لما جعله الوصفين المتميزين للقرآن الكريم (الفخامة والعذوبة). فنتيجة الفخامة أن يشعر التالي للقرآن بالروعة والمهابة ويدخل قلبه الوجيب والقلق من قوارعه وزواجره ووعيده وإنذاره. ونتيجة العذوبة هي تلك الحلاوة واللذة التي يتلمسها القارئ من خلال سطوره. وهكذا نجد الخطابي قد عمق مفهوم النظم القرآني بإضافات جديدة ومعاني لطيفة سديدة. الباقلاني وكتابه «إعجاز القرآن»: الباقلاني: هو أبو بكر محمد بن الطيب بن محمد بن جعفر بن القاسم المعروف بالباقلاني أو ابن الباقلاني. ولد بالبصرة ولم يحدد عام ولادته. وتلقى العلم على أعلامها ثم استوطن بغداد وأخذ من علمائها، وقضى نحبه فيها عام 403 هـ. من أشهر مؤلفاته: - «إعجاز القرآن». - كتاب «التمهيد»، وقد ألفه لابن عضد الدولة. وهو من أهم الكتب الكلامية التي تعلق بها أهل السنّة والجماعة، لاشتماله على أدلة المذهب في قضايا علم الكلام والعقائد وأدلة الجدل التي تعضد مذهبهم. وقد طبع الكتاب عام 1366 هـ. - كتاب «هداية المسترشدين والمقنع في معرفة أصول الدين». - وكتاب «الانتصار لصحة نقل القرآن والرد على من نحله الفساد بزيادة أو نقصان». ¬

_ (¬1) «بيان إعجاز القرآن» للخطابي، ص 70.

كتاب"إعجاز"القرآن"

وغيرها من الكتب المفيدة إلا أنها ناقصة الأجزاء ولم يطبع منها شيء للآن. وأغلبها كتب تتعلق بأصول الدين والعقائد والذب عن القرآن الكريم وعن مذهب أهل السنّة والجماعة. كتاب «إعجاز «القرآن»: يعتبر كتاب الباقلاني «إعجاز القرآن» من أوسع الكتب التي ألّفت لبيان إعجاز القرآن. وقصد إلى البحث مواجهة، وذكر كل قول يحتمل أو يرد على الإعجاز. وأكثر من الفصول التي تعرض فيها لآراء السابقين ومناقشتها والرد عليها- إن خالف رأيه آراءهم- وذكر أهمية البحث في إعجاز القرآن لأن نبوة محمد صلى الله عليه وسلّم مبنية على دلالة معجزة القرآن. وأفاض القول في إبطال الصرفة وذكر جملة من وجوه إعجاز القرآن أجملها في ثلاثة وجوه: 1 - الإخبار عن الغيوب، 2 - والإنباء عن قصص الأولين وسير المتقدمين، 3 - وبراعة النظم والتأليف والرصف، ثم فصل هذا الإجمال بضرب الأمثلة الكثيرة على كل وجه من الوجوه التي ذكرها. وأغلب الوجوه التي ذكرها- كما نجد من خلال الفصل الذي سنختاره من كتابه- تتعلق بالإعجاز البياني. ولعل الجديد الذي أضافه على وجوه الإعجاز التي ذكرها من تقدّمه هو هذا التفصيل والردود المطولة التي ناقش فيها الآخرين، انظر مثلا الفصل الذي عقده في نفي الشعر عن القرآن والآخر في نفي السجع عن القرآن. وقد أكثر الباقلاني من ذكر نصوص من خطب النبي صلى الله عليه وسلّم وخطب أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ وغيرهم من الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم. وكان قصده من سوق هذه النصوص الطويلة ليتدبرها العاقل (ويتأملها

فصل (في جملة وجوه إعجاز القرآن)

بسكون طائر وخفض جناح وتفريغ لب وجمع عقل، حتى يقع له الفصل بين كلام الآدميين وبين كلام رب العالمين، ويعلم أن نظم القرآن يخالف نظمهم، ويتبين الحد الذي يتفاوت بين كلام البليغين والخطيبين والشاعرين؛ وبين نظم القرآن جملة). كما اختار نماذج من الشعر المشهود له بالجودة من شعر امرئ القيس وشعر البحتري. ومن خلال نقده لقصيدة امرئ القيس وقصيدة البحتري ذكر بعض الآيات وأبرز وجوه الإعجاز فيها. ثم تعرض لبيان القدر المعجز من القرآن وأقوال العلماء في ذلك ثم عقد فصلا عن حقيقة المعجزة، وخصص فصلا للرد على بعض الشبهات التي أثارها الملاحدة، ثم ختم كتابه بذكر مزايا للقرآن الكريم. وهكذا نجد أن كتاب الباقلاني قد استوفى الجوانب التي تطرق لها في إعجاز القرآن بأسلوب مشرق، وحجة قوية بيّنة، وحماس منقطع النظير. ولا يزال كتابه المرجع الأكبر بين يدي الباحثين في إعجاز القرآن الكريم ونختار من كتاب الباقلاني الفصل الذي خصّصه لذكر وجوه إعجاز القرآن الكريم إجمالا. فصل (في جملة وجوه إعجاز القرآن) (¬1) ذكر أصحابنا وغيرهم في ذلك ثلاثة أوجه من الإعجاز: أحدها: يتضمن الإخبار عن الغيوب، وذلك مما لا يقدر عليه البشر ولا سبيل لهم إليه. فمن ذلك ما وعد الله تعالى نبيه عليه السلام، أنه سيظهر دينه على الأديان، بقوله عزّ وجلّ: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33) (¬2)، ففعل ذلك. ¬

_ (¬1) نقلنا هذا الفصل من كتاب إعجاز القرآن للباقلاني الطبعة الثالثة، بتحقيق السيد أحمد صقر. (¬2) سورة التوبة: 33.

وكان أبو بكر الصديق، رضي الله عنه، إذا أغزى جيوشه عرّفهم ما وعدهم الله، من إظهار دينه، ليثقوا بالنصر ويستيقنوا بالنجح. وكان عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، يفعل كذلك في أيامه، حتى وقف أصحاب جيوشه عليه، فكان سعد بن أبي وقاص، رحمه الله، وغيره من أمراء الجيوش، من جهته، يذكر ذلك لأصحابه، ويحرّضهم به، ويوثق لهم؛ وكانوا يلقّون الظفر في متوجّهاتهم، حتى فتح إلى آخر أيام عمر، رضي الله عنه، إلى بلخ، وبلاد الهند، وفتح في أيامه مرو الشاهجان، ومروالرّوذ، ومنعهم من العبور إلى جيحون، وكذلك فتح في أيامه فارس إلى إصطخر، وكرمان، ومكران، وسجستان، وجميع ما كان من مملكة كسرى، وكل ما كان يملكه ملوك فارس، بين البحرين من الفرات إلى جيحون، وأزال ملك ملوك الفرس، فلم يعد إلى اليوم ولا يعود أبدا، إن شاء الله تعالى، ثم إلى حدود إرمينية، وإلى باب الأبواب. وفتح أيضا ناحية الشام، والأردنّ، وفلسطين، وفسطاط مصر، وأزال ملك قيصر عنها، وذلك من الفرات إلى بحر مصر، وهو ملك قيصر. وغزت الخيول في أيامه إلى عمّورية، فأخذ الضواحي كلها، ولم يبق منها إلا ما حجز دونه بحر، أو حال عنه جبل منيع، أو أرض خشنة، أو بادية غير مسلوكة. وقال الله عزّ وجلّ: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ (12) [آل عمران: 12]، فصدق فيه. وقال في أهل بدر: وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ [الأنفال: 7]، ووفى لهم بما وعد. وجميع الآيات التي يتضمنها القرآن، من الإخبار عن الغيوب، يكثر جدّا، وإنما أردنا أن ننبه بالبعض على الكل. والوجه الثاني: أنه كان معلوما من حال النبي صلى الله عليه وسلم، أنه كان أميّا لا يكتب، ولا يحسن أن يقرأ.

وكذلك كان معروفا من حاله أنه لم يكن يعرف شيئا من كتب المتقدمين، وأقاصيصهم وأنبائهم وسيرهم. ثم أتى بجمل ما وقع وحدث، من عظيمات الأمور ومهمات السير، من حين خلق الله آدم عليه السلام، إلى حين مبعثه، فذكر في الكتاب، الذي جاء به معجزة له: قصة آدم عليه السلام، وابتداء خلقه، وما صار أمره إليه من الخروج من الجنة، ثم جملا من أمر ولده وأحواله وتوبته، ثم ذكر قصة نوح عليه السلام، وما كان بينه وبين قومه، وما انتهى إليه أمرهم؛ وكذلك أمر إبراهيم عليه السلام، إلى ذكر سائر الأنبياء المذكورين في القرآن، والملوك والفراعنة الذين كانوا في أيام الأنبياء، صلوات الله عليهم. ونحن نعلم ضرورة أن هذا مما لا سبيل إليه، إلا عن تعلم؛ وإذ كان معروفا أنه لم يكن ملابسا لأهل الآثار وحملة الأخبار، ولا مترددا إلى التعلم منهم، ولا كان ممن يقرأ، فيجوز أن يقع إليه كتاب فيأخذ منه، علم أنه لا يصل إلى علم ذلك إلا بتأييد من جهة الوحي. ولذلك قال عزّ وجلّ: وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (48) [العنكبوت: 48]، وقال: وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ [الأنعام: 105]. وقد بينا أن من كان يختلف إلى تعلم علم، ويشتغل بملابسة أهل صنعة، لم يخف على الناس أمره، ولم يشتبه عندهم مذهبه، وقد كان يعرف فيهم من يحسن هذا العلم، وإن كان نادرا، وكذلك كان يعرف من يختلف إليه للتّعلّم، وليس يخفى في العرف عالم كل صنعة ومتعلمها، فلو كان منهم لم يخف أمره. والوجه الثالث: أنه بديع النظم، عجيب التأليف، متناه في البلاغة إلى الحد الذي يعلم عجز الخلق عنه. والذي أطلقه العلماء هو على هذه الجملة، ونحن نفصل ذلك بعض التفصيل ونكشف الجملة التي أطلقوها. فالذي يشتمل عليه بديع نظمه، المتضمن للإعجاز وجوه: 1 - منها ما يرجع إلى الجملة، وذلك أن نظم القرآن على تصرف

وجوهه، وتباين مذاهبه، خارج عن المعهود من نظام جميع كلامهم، ومباين للمألوف من ترتيب خطابهم، وله أسلوب يختص به، ويتميز في تصرفه عن أساليب الكلام المعتاد. وذلك أن الطرق التي يتقيد بها الكلام البديع المنظوم، تنقسم إلى أعاريض الشعر، على اختلاف أنواعه، ثم إلى أنواع الكلام الموزون غير المقفى، ثم إلى أصناف الكلام المعدل المسجع، ثم إلى معدل موزون غير مسجع، ثم إلى ما يرسل إرسالا، فتطلب فيه الإصابة والإفادة، وإفهام المعاني المعترضة على وجه بديع، وترتيب لطيف، وإن لم يكن معتدلا في وزنه، وذلك شبيه بجملة الكلام الذي لا يتعمل [فيه]، ولا يتصنع له. وقد علمنا أن القرآن خارج عن هذه الوجوه، ومباين لهذه الطرق. ويبقى علينا أن نبين أنه ليس من باب السجع، ولا فيه شيء منه، وكذلك ليس من قبيل الشعر، لأن من الناس من زعم أنه كلام مسجع، ومنهم من يدعي فيه شعرا كثيرا، والكلام عليهم يذكر بعد هذا الموضع. فهذا إذا تأمله المتأمل تبين- بخروجه عن أصناف كلامهم، وأساليب خطابهم- أنه خارج عن العادة، وأنه معجز، وهذه خصوصية ترجع إلى جملة القرآن، وتميّز حاصل في جميعه. 2 - ومنها أنه ليس للعرب كلام مشتمل على هذه الفصاحة، والغرابة، والتصرف البديع، والمعاني اللطيفة، والفوائد الغزيرة، والحكم الكثيرة، والتناسب في البلاغة، والتشابه في البراعة، على هذا الطول، وعلى هذا القدر. وإنما تنسب إلى حكيمهم كلمات معدودة وألفاظ قليلة، وإلى شاعرهم قصائد محصورة، يقع فيها ما نبينه بعد هذا من الاختلال، ويعترضها ما نكشفه من الاختلاف، ويشملها ما نبديه من التعمل والتكلف والتجوّز والتعسف. وقد حصل القرآن على كثرته وطوله متناسبا في الفصاحة، على ما وصفه الله تعالى به، فقال عزّ من قائل: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ [الزمر: 23]، وقوله: وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النساء: 82]. فأخبر سبحانه أن كلام

الآدمي إن امتد وقع فيه التفاوت، وبان عليه الاختلال. وهذا المعنى هو غير المعنى الأول الذي بدأنا بذكره، فتأمله تعرف الفصل. 3 - وفي ذلك معنى ثالث: وهو أن عجيب نظمه، وبديع تأليفه لا يتفاوت ولا يتباين، على ما يتصرف إليه من الوجوه التي يتصرف فيها، من ذكر قصص ومواعظ واحتجاج، وحكم وأحكام، وإعذار وإنذار، ووعد ووعيد، وتبشير وتخويف، وأوصاف، وتعليم أخلاق كريمة، وشيم رفيعة، وسير مأثورة، وغير ذلك من الوجوه التي يشتمل عليها. ونجد كلام البليغ الكامل، والشاعر المفلق، والخطيب المصقع، يختلف على حسب اختلاف هذه الأمور. فمن الشعراء من يجوّد في المدح دون الهجو. ومنهم من يبرز في الهجو دون المدح. ومنهم من يسبق في التقريظ دون التأبين. ومنهم من يجود في التأبين دون التقريظ. ومنهم من يغرب في وصف الإبل أو الخيل، أو سير الليل، أو وصف الحرب، أو وصف الروض، أو وصف الخمر، أو الغزل، أو غير ذلك مما يشتمل عليه الشعر ويتناوله الكلام، ولذلك ضرب المثل بامرئ القيس إذا ركب، والنابغة إذا رهب، وبزهير إذا رغب. ومثل ذلك يختلف في الخطب والرسائل وسائر أجناس الكلام. ومتى تأملت شعر الشاعر البليغ، رأيت التفاوت في شعره على حسب الأحوال التي يتصرف فيها، فيأتي بالغاية في البراعة في معنى، فإذا جاء إلى غيره قصر عنه، ووقف دونه، وبان الاختلاف على شعره؛ ولذلك ضرب المثل بالذين سميتهم، لأنه لا خلاف في تقدّمهم في صنعة الشعر، ولا شك في تبريزهم في مذهب النظم. فإذا كان الاختلال يتأتى في شعرهم، لاختلاف ما يتصرفون فيه، استغنينا عن ذكر من هو دونهم، وكذلك يستغنى به عن تفصيل نحو هذا في الخطب والرسائل ونحوها. ثم نجد من الشعراء

من يجوّد في الرجز، ولا يمكنه نظم القصيد أصلا، ومنهم من ينظم القصيد، ولكن يقصر [تقصيرا عجيبا، ويقع ذلك من رجزه موقعا بعيدا. ومنهم من يبلغ في القصيدة الرتبة العالية، ولا ينظم الرجز، أو يقصر] فيه مهما تكلفه أو تعمله. ومن الناس من يجود في الكلام المرسل، فإذا أتى بالموزون قصر ونقص نقصانا بيّنا، ومنهم من يوجد بضد ذلك. وقد تأملنا نظم القرآن، فوجدنا جميع ما يتصرف فيه من الوجوه التي قدّمنا ذكرها، على حدّ واحد، في حسن النظم، وبديع التأليف والرصف، لا تفاوت فيه، ولا انحطاط عن المنزلة العليا، ولا إسفاف فيه إلى الرتبة الدنيا، وكذلك قد تأملنا ما يتصرف إليه وجوه الخطاب، من الآيات الطويلة والقصيرة، فرأينا الإعجاز في جميعها على حدّ واحد لا يختلف. وكذلك قد يتفاوت كلام الناس عند إعادة ذكر القصة الواحدة [تفاوتا بيّنا، ويختلف اختلافا كبيرا. ونظرنا القرآن فيما يعاد ذكره من القصة الواحدة] فرأيناه غير مختلف ولا متفاوت، بل هو على نهاية البلاغة وغاية البراعة، فعلمنا بذلك أنه مما لا يقدر عليه البشر، لأن الذي يقدرون عليه قد بيّنا فيه التفاوت الكثير، عند التكرار وعند تباين الوجوه، واختلاف الأسباب التي يتضمن. 4 - ومعنى رابع: وهو أن كلام الفصحاء يتفاوت تفاوتا بيّنا في الفصل والوصل، والعلوّ والنزول، والتقريب والتبعيد، وغير ذلك مما ينقسم إليه الخطاب عند النظم، ويتصرف فيه القول عند الضم والجمع. ألا ترى أن كثيرا من الشعراء قد وصف بالنقص عند التنقل من معنى إلى غيره، والخروج من باب إلى سواه. حتى إن أهل الصنعة قد اتفقوا على تقصير البحتري، مع جودة نظمه، وحسن وصفه- في الخروج من النسيب إلى المديح. وأطبقوا على أنه لا يحسنه، ولا يأتي فيه بشيء، وإنما اتفق له- في مواضع معدودة- خروج يرتضى، وتنقل يستحسن. وكذلك يختلف سبيل غيره عند الخروج من شيء إلى شيء، والتحوّل

من باب إلى باب. ونحن نفصل بعد هذا ونفسر هذه الجملة، ونبين أن القرآن- على اختلاف [فنونه و] ما يتصرف فيه من الوجوه الكثيرة والطرق المختلفة- يجعل المختلف كالمؤتلف، والمتباين كالمتناسب، والمتنافر في الأفراد إلى حد الآحاد، وهذا أمر عجيب، تبين به الفصاحة، وتظهر به البلاغة، ويخرج معه الكلام عن حد العادة، ويتجاوز العرف. 5 - ومعنى خامس: وهو أن نظم القرآن وقع موقعا في البلاغة يخرج عن عادة كلام [الجن، كما يخرج عن عادة كلام الإنس]. فهم يعجزون عن الإتيان بمثله كعجزنا، ويقصرون دونه كقصورنا. وقد قال الله عزّ وجلّ: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (88) [الإسراء: 88]. فإن قيل: هذه دعوى منكم، وذلك أنه لا سبيل لنا إلى أن نعلم عجز الجن عن [الإتيان] بمثله، وقد يجوز أن يكونوا قادرين على الإتيان بمثله، وإن كنا عاجزين، كما أنهم قد يقدرون على أمور لطيفة، وأسباب غامضة دقيقة، لا نقدر نحن عليها، ولا سبيل لنا للطفها إليها، وإذا كان كذلك، لم يكن إلى علم ما ادعيتم سبيل. قيل: قد يمكن أن نعرف ذلك بخبر الله عزّ وجلّ، وقد يمكن أن يقال إن هذا الكلام خرج على ما كانت العرب تعتقده من مخاطبة الجن، وما يروون لهم من الشعر، ويحكون عنهم من الكلام، وقد علمنا أن ذلك محفوظ عندهم منقول عنهم. والقدر الذي نقلوه [من ذلك] قد تأملناه، فهو في الفصاحة لا يتجاوز حد فصاحة الإنس؛ ولعله يقصر عنها، ولا يمنع أن يسمع الناس كلامهم، ويقع بينهم وبينهم محاورات في عهد الأنبياء، صلوات الله عليهم، وذلك الزمان مما لا يمتنع فيه وجود ما ينقض العادات. على أن القوم إلى الآن يعتقدون مخاطبة الغيلان، ولهم أشعار محفوظة مدونة في دواوينهم. قال تأبط شرّا (¬1): ¬

_ (¬1) ترجمته في الشعر والشعراء 1/ 271، والأبيات في حماسة ابن الشجري ص 47.

وأدهم قد جبت جلبابه ... كما اجتابت الكاعب الخيعلا (¬1) إلى أن حدا الصبح أثناءه ... ومزّق جلبابه الأليلا (¬2) على شيم نار تنوّرتها ... فبتّ لها مدبرا مقبلا (¬3) فأصبحت والغول لي جارة ... فيا جارتا أنت ما أهولا وطالبتها بضعها، فالتوت ... بوجه تهوّل واستغولا (¬4) فمن سال أين ثوت جارتي ... فإن لها باللوي منزلا وكنت إذا ما هممت اعتزمت ... وأخر إذا قلت أن أفعلا وقال آخر (¬5): عشوا ناري فقلت منون أنتم ... فقالوا الجنّ قلت عموا ظلاما فقلت إلى الطعام فقال منهم ... زعيم يحسد الإنس الطعاما ويذكرون لإمرئ القيس قصيدة مع عمر والجني، وأشعارا لهما، كرهنا نقلها. وقال عبيد بن أيوب: فلله درّ الغول أي رفيقة ... لصاحب قفر خائف متقفّر أرنّت بلحن بعد لحن وأوقدت ... حواليّ نيرانا تلوح وتزهر وقال ذو الرمة (¬6) بعد قوله: ¬

_ (¬1) الأدهم هنا: الليل. اجتابت: لبست. الخيعل: ثوب تبتذله المرأة. والبيت في اللسان 13/ 223. وقد نسبه ابن بري لحاجز السروى. (¬2) حدا: ساق أثناء الليل: أوقاته وقطعه. الأليل: الشديد الظلمة. (¬3) الشيم: النظر إلى النار، وفي حماسة ابن الشجري: «على ضوء». تنورتها: تبصرتها. (¬4) البضع: الفرج، تهوّل: صار هولة، من الهول: أي كريه المنظر يفزع منه. واستغول: تلوّن. (¬5) هو شمير بن الحارث الضبي كما في نوادر أبي زيد ص 123. راجع خزانة الأدب 3/ 3 والحيوان 4/ 482، 6/ 197، ومعنى عشوا ناري: رأوها ليلا على بعد فقصدوها مستضيئين بها. وفي نوادر أبي زيد: أتوا ناري فقلت منون قالوا سراة الجن ... (¬6) ديوانه ص 574 والحيوان 6/ 175.

قد أغسف النازح المجهول مغسفه ... في ظل أخضر يدعو هامه البوم (¬1) للجنّ بالليل في حافاتها زجل ... كما تناوح يوم الرّيح عيشوم (¬2) دوّية ودجى ليل كأنهما ... يم تراطن في حافاته الروم (¬3) وقال أيضا: وكم عرّست بعد السرى من معرّس ... به من كلام الجن أصواب سامر (¬4) وقال: ورمل عزيف الجن في عقباته ... هزيز كتضراب المغنّين بالطبل (¬5) وإذا كان القوم يعتقدون كلام الجن ومخاطباتهم، ويحكون عنهم، وذلك القدر المحكي لا يزيد أمره على فصاحة العرب، صح ما وصف عندهم من عجزهم عنه كعجز الإنس. ويبين ذلك من القرآن: أن الله تعالى حكى عن الجن ما تفاوضوا فيه من القرآن فقال: وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) [الأحقاف: 29]، إلى آخر ما حكى عنهم فيما يتلوه. ¬

_ (¬1) أعسف: أسير على غير هداية. النازح: البعيد. والأخضر هنا: الأسود، والمراد به الليل. وفي الديوان:» أغضف» أي أسود، والهام: ذكر البوم، وأنثاه الصدى. (¬2) حافاتها: جوانبها. زجل: صوت. عيشوم: من ضروب النبت يتخشخش إذا هبت عليه الريح. (¬3) الدوية: الفلاة، واليم: البحر. الدجى: الليل. والرطانة: كلام العجم والروم وما ليس بعربي من اللغات. حافاته: جوانبه. شبه البرية وما تراكم عليها من سواد الليل بالبحر وأمواجه. (¬4) ديوانه ص 292 والحيوان 6/ 176، والتعريس: النزول آخر الليل للنوم والاستراحة. سامر: الذين يتحدثون بالليل. (¬5) ديوانه ص 488، والحيوان 6/ 176. وفي الديوان: «في عقداته هدوءا». وعزيف الجن: صوت يسمع بين الرمال. وعقدات الرمل: ما انعقد منه. هدوءا: أي بعد ساعة من الليل. هزيز: صوت، يعني صوت الرحى وما أشبهها.

فإذا ثبت أنه وصف كلامهم، ووافق ما يعتقدونه من نقل خطابهم، صح أن يوصف الشيء المألوف بأنه ينحط عن درجة القرآن في الفصاحة. وهذان الجوابان أسدّ عندي من جواب بعض المتكلمين عنه، بأن عجز الإنس عن القرآن يثبت له حكم الإعجاز، فلا يعتبر غيره. ألا ترى أنه لو عرفنا من طريق المشاهدة عجز الجن عنه، فقال لنا قائل: فدلّوا على أن الملائكة تعجز عن الإتيان بمثله، لم يكن لنا في الجواب غير هذه الطريقة التي قد بيناها. وإنما ضعّفنا هذا الجواب، لأن الذي حكي وذكر عجز الجن والإنس عن الإتيان بمثله، فيجب أن نعلم عجز الجن عنه، كما علمنا عجز الإنس عنه ولو كان وصف عجز الملائكة عنه، لوجب أن نعرف ذلك أيضا بطريقه. فإن قيل: أنتم قد انتهيتم إلى ذكر الإعجاز في التفاصيل، وهذا الفصل إنما يدل على الإعجاز في الجملة؟. قيل: هذا كما أنه يدل على الجملة، فإنه يدل على التفصيل أيضا، فصح أن يلحق هذا القبيل، كما كان يصح أن يلحق بباب الجمل. 6 - ومعنى سادس: وهو أن ينقسم عليه الخطاب، ومن البسط والاقتصار، والجمع والتفريق، والاستعارة والتصريح، والتجوّز والتحقيق، ونحو ذلك من الوجوه التي توجد في كلامهم، موجود في القرآن. وكل ذلك مما يتجاوز حدود كلامهم المعتاد بينهم، في الفصاحة والإبداع والبلاغة وقد ضمنا بيان ذلك [من] بعد، لأن الوجه هاهنا ذكر المقدّمات، دون البسط والتفصيل. 7 - ومعنى سابع: وهو أن المعاني التي تضمنها، في أصل وضع الشريعة والأحكام، والاحتجاجات في أصل الدين، الردّ على الملحدين على تلك الألفاظ البديعة، وموافقة بعضها بعضا في اللطف والبراعة، مما

يتعذر على البشر ويمتنع وذلك أنه قد علم أن تخير الألفاظ للمعاني المتداولة المألوفة، والأسباب الدائرة بين الناس، أسهل وأقرب من تخير الألفاظ لمعان مبتكرة، وأسباب مؤسسة مستحدثة. فإذا برع اللفظ في المعنى البارع، كان ألطف وأعجب من أن يوجد اللفظ البارع في المعنى المتداول المتكرّر، والأمر المتقرّر المتصوّر، ثم انضاف إلى ذلك التصرف البديع في الوجوه التي تتضمن تأييد ما يبتدأ تأسيسه، ويراد تحقيقه، بان التفاضل في البراعة والفصاحة، ثم إذا وجدت الألفاظ وفق المعنى، والمعاني وفقها، لا يفضل أحدهما على الآخر، فالبراعة أظهر والفصاحة أتم. 8 - ومعنى ثامن: وهو أن الكلام يتبين فضله ورجحان فصاحته، بأن تذكر منه الكلمة في تضاعيف كلام، أو تقذف ما بين شعر، فتأخذها الأسماع، وتتشوّف إليها النفوس، ويرى وجه رونقها باديا غامرا سائر ما تقرن به، كالدرّة التي ترى في سلك من خرز، وكالياقوتة في واسطة العقد. وأنت ترى الكلمة من القرآن يتمثل بها في تضاعيف كلام كثير، وهي غرّة جميعه، وواسطة عقده، والمنادي على نفسه بتميزه وتخصصه، برونقه وجماله، واعتراضه في حسنه ومائه، وهذا الفصل أيضا مما يحتاج فيه إلى تفصيل وشرح ونص، ليتحقق ما ادّعيناه منه. ولولا هذه الوجوه التي بيناها، لم يتحير فيه أهل الفصاحة، ولكانوا يفزعون إلى التعمل للمقابلة، والتصنع للمعارضة، وكانوا ينظرون في أمرهم، ويراجعون أنفسهم، أو كان يراجع بعضهم بعضا في معارضته ويتوقفون لها. فلما لم نرهم اشتغلوا بذلك، علم أن أهل المعرفة منهم بالصنعة إنما عدلوا عن هذه الأمور، لعلمهم بعجزهم عنه، وقصور فصاحتهم دونه. ولا يمتنع أن يلتبس- على من لم يكن بارعا فيهم، ولا متقدّما في الفصاحة منهم- هذا الحال حتى لا يعلم إلا بعد نظر وتأمل، وحتى يعرف حال عجز غيره. إلا أنا رأينا صناديدهم وأعيانهم ووجوههم سلموا ولم

يشتغلوا بذلك، تحققا بظهور العجز وتبينا له. وأما قوله تعالى حكاية عنهم: لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا [الأنفال: 31]، فقد يمكن أن يكونوا كاذبين فيما أخبروا به عن أنفسهم، [وقد يمكن أن يكون قاله منهم أهل الضعف في هذه الصناعة دون المتقدمين فيها]، وقد يمكن أن يكون هذا الكلام إنما خرج منهم، وهو يدل على عجزهم. ولذلك أورده الله مورد تقريعهم، لأنه لو كانوا على ما وصفوا به أنفسهم لكانوا يتجاوزون الوعد إلى الإنجاز، والضمان إلى الوفاء؛ فلما لم يفعلوا ذلك- مع استمرار التحدّي وتطاول زمان الفسحة في إقامة الحجة عليهم بعجزهم عنه- علم عجزهم، إذ لو كانوا قادرين على ذلك لم يقتصروا على الدعوى فقط. ومعلوم من حالهم وحميّتهم أن الواحد منهم يقول في الحشرات والهوام والحيّات وفي وصف الأزمّة والأنساع والأمور والتي لا يؤبه لها ولا يحتاج إليها، ويتنافسون في ذلك أشد التنافس، ويتبجحون به أشد التبجح. فكيف يجوز أن تمكنهم معارضته في هذه المعاني الفسيحة، والعبارات الفصيحة، مع تضمن المعارضة لتكذيبه، والذب عن أديانهم القديمة، وإخراجهم أنفسهم من تسفيهه رأيهم، وتضليله إياهم، والتخلص من منازعته، ثم من محاربته ومقارعته. ثم لا يفعلون شيئا من ذلك، وإنما يحيلون أنفسهم على التعاليل، ويعلّلونها بالأباطيل. [هذا محال]. 9 - ومعنى تاسع: وهو: أن الحروف التي بنى عليها كلام العرب تسعة (¬1) وعشرون حرفا، وعدد السور التي افتتح فيها بذكر الحروف ثمان وعشرون سورة، وجملة ما ذكر من هذه الحروف في أوائل السور من حروف المعجم نصف الجملة، وهو أربعة عشر حرفا، ليدل بالمذكور على غيره، وليعرفوا أن هذا الكلام منتظم من الحروف التي ينظمون بها كلامهم. ¬

_ (¬1) المشهور أن عدد الحروف في اللغة العربية ثمانية وعشرون حرفا وعدد السور المفتتحة بالحروف المقطعة تسع وعشرون سورة. (المؤلف).

والذي تنقسم إليه هذه الحروف على ما قسمه أهل العربية وبنوا عليها وجوهها أقسام، نحن ذاكروها: فمن ذلك أنهم قسموها إلى حروف مهموسة، وأخرى مجهورة. فالمهموسة منها عشرة: وهي الحاء، والهاء، والخاء، والكاف، والشين، والثاء، والفاء، والتاء، والصاد، والسين. وما سوى ذلك من الحروف فهي مجهورة. وقد عرفنا أن نصف الحروف المهموسة مذكورة في جملة الحروف المذكورة في أوائل السور. وكذلك نصف الحروف المجهورة على السواء، لا زيادة ولا نقصان. «والجمهور» معناه: أنه حرف أشبع الاعتماد في موضعه ومنع أن يجري معه [النفس] حتى ينقضي الاعتماد ويجري الصوت. «والمهموس» كل حرف أضعف الاعتماد في موضعه حتى جرى معه النفس. وذلك مما يحتاج إلى معرفته لتبنى عليه أصول العربية. وكذلك مما يقسمون إليه الحروف، يقولون: إنها على ضربين: أحدهما حروف الحلق، وهي ستة أحرف: العين، والحاء، والهمزة، والهاء، والخاء، والغين. والنصف [الآخر] من هذه الحروف مذكورة في جملة الحروف التي تشتمل عليها الحروف المثبتة في أوائل السور، وكذلك النصف من الحروف التي ليست بحروف الحلق. وكذلك تنقسم هذه الحروف إلى قسمين آخرين: أحدهما حروف غير شديدة، وإلى الحروف الشديدة، وهي التي تمنع الصوت أن يجري فيه، وهي الهمزة، والقاف، والكاف، والجيم، والظاء، والذال، والطاء، والباء. وقد علمنا أن نصف هذه الحروف أيضا هي مذكورة في جملة تلك الحروف التي بني عليها تلك السور.

ومن ذلك الحروف المطبقة، وهي أربعة أحرف، وما سواها منفتحة. فالمطبقة: الطاء، والظاء، والصاد، والضاد. وقد علمنا أن نصف هذه [الحروف] في جملة الحروف المبدوء بها في أوائل السور. وإذا كان القوم- الذين قسموا في الحروف هذه الأقسام لأغراض لهم في ترتيب العربية وتنزيلها بعد الزمان الطويل من عهد النبي صلى الله عليه وسلم، رأوا مباني اللسان على هذه الجهة، وقد نبه بما ذكر في أوائل السور على ما لم يذكر، على حد التصنيف الذي وصفنا- دل على أن وقوعها الموقع الذي يقع التواضع عليه، بعد العهد الطويل، لا يجوز أن يقع إلا من الله عزّ وجلّ، لأن ذلك يجري مجرى علم الغيوب. وإن كان إنما تنبهوا على ما بنى عليه اللسان في أصله ولم يكن لهم في التقسيم شيء، وإنما التأثير لمن وضع أصل اللسان. فذلك أيضا من البديع الذي يدل على أن أصل وضعه وقع موقع الحكمة التي يقصر عنها اللسان. فإن كان أصل اللغة توقيفا فالأمر في ذلك أبين، وإن كان على سبيل التواضع فهو عجيب أيضا؛ لأنه لا يصح أن تجتمع هممهم المختلفة على نحو هذا إلا بأمر من عند الله تعالى. وكل ذلك يوجب إثبات الحكمة في ذكر هذه الحروف على حد يتعلق به الإعجاز من وجه. وقد يمكن أن تعاد فاتحة كل سورة لفائدة تخصها في النظم، إذا كانت حروفا، كنحو الم، لأن الألف المبدوء بها هي أقصاها مطلعا، واللام متوسطة، والميم متطرفة، لأنها تأخذ في الشفة، فنبه بذكرها على غيرها من الحروف، وبين أنه إنما أتاهم بكلام منظوم مما يتعارفون من الحروف التي تتردّد بين هذين الطرفين. ويشبه أن يكون التصنيف وقع في هذه الحروف دون الألف، لأن الألف قد تلغى، وقد تقع الهمزة وهي موقعا واحدا.

10 - ومعنى عاشر: وهو: أنه سهّل سبيله، فهو خارج عن الوحشيّ المستكره، والغريب المستنكر، وعن الصنعة المتكلّفة. وجعله قريبا إلى الأفهام، يبادر معناه لفظه إلى القلب، ويسابق المغزى منه عبارته إلى النفس. وهو مع ذلك ممتنع المطلب، عسير المتناول، غير مطمع مع قربه في نفسه، ولا موهم مع دنوّه في موقعه أن يقدر عليه أو يظفر به. فأما الانحطاط عن هذه الرتبة إلى رتبة الكلام المبتذل، والقول المسفسف، فليس يصحّ أن تقع فيه فصاحة أو بلاغة، فيطلب فيه الممتنع، أو يوضع فيه الإعجاز. ولكن لو وضع في وحشيّ مستكره، أو غمر بوجوه الصنعة، وأطبق بأبواب التعسف والتكلف-: لكان لقائل أن يقول فيه ويعتذر، أو يعيب ويقرع. ولكنه أوضح مناره، وقرّب منهاجه، وسهّل سبيله، وجعله في ذلك متشابها متماثلا، وبيّن مع ذلك إعجازهم فيه. وقد علمت أن كلام فصحائهم وشعر بلغائهم لا ينفك من تصرف في غريب مستنكر، أو وحشيّ مستكره، ومعان مستبعدة. ثم عدولهم إلى كلام مبتذل وضيع لا يوجد دونه في الرتبة، ثم تحوّلهم إلى كلام معتدل بين الأمرين، متصرف بين المنزلتين. فمن شاء أن يتحقق هذا نظر في قصيدة امرئ القيس: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل. ونحن نذكر بعد هذا على التفصيل ما تتصرف إليه هذه القصيدة ونظائرها ومنزلتها من البلاغة، ونذكر وجه فوت نظم القرآن محلها، على وجه يؤخذ باليد، ويتناول من كثب، ويتصوّر في النفس كتصور الأشكال. ليتبين ما ادعيناه من الفصاحة العجيبة للقرآن. واعلم أن من قال من أصحابنا: إن الأحكام معللة بعلل موافقة

عبد القاهر الجرجاني ونظريته في إعجاز القرآن

لمقتضى العقل، جعل هذا وجها من وجوه الإعجاز، وجعل هذه الطريقة دلالة فيه، كنحو ما يعللون به الصلاة ومعظم الفروض وأصولها. ولهم في كثير من تلك العلل طرق قريبة، ووجوه تستحسن. وأصحابنا من أهل خراسان يولعون بذلك، ولكن الأصل الذي يبنون عليه، عندنا غير مستقيم. وفي ذلك كلام يأتي في كتابنا في الأصول. وقد يمكن في تفاصيل ما أوردنا من المعاني الزيادة والإفراد، فإنا جمعنا بين أمور، وذكرنا المزية المتعلقة بها. وكل واحد من تلك الأمور مما قد يمكن اعتماده في إظهار الإعجاز فيه. فإن قيل: فهل تزعمون أنه معجز، لأنه حكاية لكلام القديم سبحانه، أو لأنه عبارة عنه. أو لأنه قديم في نفسه؟. قيل: لسنا نقول بأن الحروف قديمة، فكيف يصح التركيب على الفاسد؟ ولا نقول أيضا: إن وجه الإعجاز في نظم القرآن [من أجل] أنه حكاية عن كلام الله، لأنه لو كان كذلك لكانت التوراة والإنجيل وغيرهما من كتب الله عزّ وجلّ معجزات في النظم والتأليف. وقد بيّنا أن إعجازها في غير ذلك، وكذلك كان يجب أن تكون كل كلمة مفردة معجزة بنفسها ومنفردها، وقد ثبت خلاف ذلك» (¬1). عبد القاهر الجرجاني ونظريته في إعجاز القرآن: يعتبر أبو بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني المتوفّى سنة 471 هـ، صاحب نظرية خاصة في البحث عن وجه إعجاز القرآن. لم يخصص الجرجاني كتابا معينا يقصره على البحث في إعجاز ¬

_ (¬1) إلى هنا ينتهي النقل من كتاب إعجاز القرآن للباقلاني وقد نقلناه بطوله لأنه يمثل خلاصة الكتاب وزبدته، وسائر الكتاب أمثلة وردود ومناقشات. وقد حذفنا هوامش المحقق المتعلقة بالفروق بين النسخ، وأبقينا على التعليقات الأخرى للفائدة.

القرآن وإنما كتب ثلاثة كتب لها علاقة وثيقة بإعجاز القرآن، وهي: 1 - «أسرار البلاغة». 2 - «دلائل الإعجاز». 3 - «الرسالة الشافية». ولقد عمد عبد القاهر الجرجاني إلى البحث عن البلاغة ووجوهها وأساليبها للارتقاء بالذوق البلاغي عند القارئ ومن ثم ليضع يده على موطن البلاغة في كل كلام بليغ سواء كان هذا الكلام شعرا أو نثرا أو خطبة. ويبرز وجه الحسن في الكلام من خلال أمثلة مختارة. وبعد ذلك يلتفت من خلال تلك المقدمات والأمثلة إلى إعجاز القرآن الكريم ورأيه في ذلك. وسننقل رأيه في الإعجاز الذي عرضه عرضا مفصّلا بعد أن أورد أقوال السابقين في بيان وجه الإعجاز في القرآن وأكثر من ضرب الأمثلة على ما ذهب إليه ثم ناقش الاعتراضات التي يمكن أن تورد على نظريته هذه. وكأن عبد القاهر الجرجاني شعر بأن السابقين الذين كتبوا في نظم القرآن وبيان إعجازه قد أكثروا من الحديث عن الجانب اللفظي، ولم يتناولوا جانب المعاني إلا لماما. فحصر جهده وكتاباته على إبراز جانب المعاني، يقول عبد القاهر في هذا الصدد: ( ... وإذا ثبت أنه في النظم والتأليف، وكنا قد علمنا أن ليس النظم شيئا غير توخي معاني النحو وأحكامه فيما بين الكلم، وأنا إن بقينا الدهر نجهد أفكارنا حتى نعلم للكلم المفردة سلكا ينظمها، وجامعا يجمع شملها ويؤلفها، ويجعل بعضها من بعض، غير توخي معاني النحو وأحكامه طلبنا ما كل محال دونه). ويقصد الجرجاني بالنحو دلالته الواسعة بحيث يشمل علم النحو وعلم البلاغة. وفيما يلي جملة من الأمثلة التي ساقها الجرجاني لإبراز وجهة نظره في وجه إعجاز النظم القرآني:

من أمثلة عبد القاهر الجرجاني على أن حسن الكلام من جهتي اللفظ والنظم: ( ... ومن دقيق ذلك وخفيّه أنك ترى الناس إذا ذكروا قوله تعالى: وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً [مريم: 4]، لم يزيدوا فيه على ذكر الاستعارة، ولم ينسبوا الشرف إلا إليها ولم يروا للمزية موجبا سواها، هكذا ترى الأمر في ظاهر كلامهم وليس الأمر على ذلك، ولا هذا الشرف العظيم، ولا هذه المزية الجلية، وهذه الروعة التي تدخل على النفوس عند الكلام لمجرد الاستعارة، ولكن لأن يسلك بالكلام طريق ما يسند الفعل فيه إلى الشيء، وهو لما هو من سببه، فيرفع به ما يسند إليه ويؤدي بالذي الفعل له في المعنى منصوبا بعده، مبينا أن ذلك الإسناد وتلك النسبة إلى ذلك الأول إنما كان من أجل هذا الثاني، ولما بينه وبينه من الاتصال والملابسة، كقولهم طاب زيد نفسا وقرّ عمرو عينا وتصبّب عرقا وكرم أصلا وحسن وجها وأشباه ذلك مما تجد الفعل منقولا عن الشيء إلى ما ذلك من سببه، وذلك أنا نعلم أن (اشتعل) للشيب في المعنى وإن كان هو للرأس في اللفظ، كما أن طاب للنفس وقر للعين وتصبب للعرق، وإن أسند إلى ما أسند إليه .. يبين أن الشرف كان لأن سلك فيه هذا المسلك، وتوخّي به هذا المذهب، أن تدع هذا الطريق فيه، وتأخذ اللفظ فتسند إلى الشيب صريحا، فتقول: اشتعل شيب الرأس، والشيب في الرأس، ثم تنظر هل تجد ذلك الحسن وتلك الفخامة؟ وهل ترى الروعة التي كنت تراها؟ فإن قلت: فما السبب في أن كان (اشتعل) إذا استعير للشيب على هذا الوجه كان له الفضل، ولم بان بالمزية من الوجه الآخر هذه البينونة؟ فإن السبب أنه يفيد مع لمعان الشيب في الرأس الذي هو أصل المعنى المشمول، وأنه قد شاع فيه، وأخذه من نواحيه، وأنه قد استقر به، وعم جملته، حتى لم يبق من السواد شيء، أو لم يبق منه إلا ما لا يعتد به، وهذا ما لا يكون إذا قيل: اشتعل شيب الرأس، أو الشيب في الرأس. بل لا يوجب اللفظ حينئذ أكثر من ظهوره فيه على الجملة، ووزان هذا أنك تقول: اشتعل البيت نارا، فيكون المعنى أن النار قد وقعت فيه وقوع الشمول، وأنها قد

ومن أمثلة عبد القاهر الجرجاني على حذف المفعول للعناية بنفس الفعل

استولت عليه وأخذت في طرفيه ووسطه، وتقول: اشتعلت النار في البيت، فلا يفيد ذلك، بل لا يقتضي أكثر من وقوعها فيه، وإصابتها جانبا منه، فأما الشمول وأن تكون قد استولت على البيت وابتزته فلا يعقل من اللفظ البتة) (¬1). (ونظير هذا في التنزيل قوله عزّ وجلّ: وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً [القمر: 12] التفجير للعيون في المعنى، وأوقع على الأرض في اللفظ، كما أسند هناك الاشتعال إلى الرأس، وقد حصل بذلك من معنى الشمول هاهنا مثل الذي حصل هناك، وذلك أنه قد أفاد أن الأرض قد كانت صارت عيونا كلها، وأن الماء قد كان يفور من كل مكان منها، ولو أجري اللفظ على ظاهره، فقيل: وفجّرنا عيون الأرض، أو العيون في الأرض، لم يفد ذلك، ولم يدل عليه، ولكان المفهوم منه أن الماء قد كان فار من عيون متفرقة في الأرض، وتبجس من أماكن منها. واعلم أن في الآية الأولى شيئا آخر من جنس النظم، وهو تعريف الرأس بالألف واللام وإفادة معنى الإضافة من غير إضافة، وهو أحد ما أوجب المزية، ولو قيل: واشتعل رأسي، فصرح بالإضافة لذهب بعض الحسن فاعرفه .. ) (¬2). ومن أمثلة عبد القاهر الجرجاني على حذف المفعول للعناية بنفس الفعل: (وإن أردت أن تزداد تبيينا لهذا الأصل- أعني وجوب أن تسقط المفعول لتتوفر العناية على إثبات الفعل لفاعله ولا يدخلها شوب- فانظر إلى قوله تعالى: وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ [القصص: 23، 24]. ففيها حذف مفعول في أربعة مواضع، إذ المعنى: وجد عليه أمة من الناس ¬

_ (¬1) دلائل الإعجاز ص 132 - 133. (¬2) «دلائل الإعجاز» ص 133 - 134، ط مكتبة القاهرة.

ومن أمثلة عبد القاهر على احتمال النظم وجوها ثم اختيار وجه معين دون غيره من الوجوه

يسقون أغنامهم، أو مواشيهم، وامرأتين تذودان غنمهما، لا نسقي غنمنا، فسقى لهما غنمهما. ثم إنه لا يخفى على ذي بصر أنه ليس في ذلك كله إلا أن يترك ذكره ويؤتى بالفعل مطلقا، وما ذاك إلا أن الغرض في أن يعلم أنه كان من الناس في تلك الحال سقي ومن المرأتين ذود، وأنهما قالتا: لا يكون منا سقي حتى يصدر الرعاء، وأنه كان من موسى عليه السلام من بعد ذلك سقي، فأما ما كان المسقي- أغنما أم إبلا أم غير ذلك؟ - فخارج عن الغرض وموهم خلافه، وذلك أنه لو قيل: وجد من دونهم امرأتين تذودان غنمهما، جاز أن يكون لم ينكر الذود من حيث هو ذود، بل من حيث هو ذود غنم حتى لو كان مكان الغنم إبل لم ينكر الذود، كما أنك إذا قلت: مالك تمنع أخا لك؟ كنت منكرا المنع لا من حيث هو منع، بل من حيث هو منع أخ، فاعرفه تعلم. أنك لم تجد لحذف المفعول في هذا النحو من الروعة والحسن ما وجدت إلا لأن في حذفه وترك ذكره فائدة جليلة وأن الغرض لا يصح إلا عن تركه) (¬1). ومن أمثلة عبد القاهر على احتمال النظم وجوها ثم اختيار وجه معين دون غيره من الوجوه: (ومثال ذلك قوله تعالى: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ [الأنعام: 100]، ليس بخاف أن لتقديم الشركاء حسنا وروعة ومأخذا من القلوب أنت لا تجد شيئا منه إن أنت أخّرت فقلت: وجعلوا الجن شركاء لله. وأنك ترى حالك حال من نقل عن الصورة المبهجة والمنظر الرائق والحسن الباهر إلى الشيء الغفل الذي لا تحلى منه بكثير طائل، ولا تصير النفس به إلى حاصل، والسبب في أن كان ذلك كذلك هو أن للتقديم فائدة شريفة ومعنى جليلا، لا سبيل إليه من التأخير. ¬

_ (¬1) دلائل الإعجاز ص 182.

بيانه: أنّا وإن كنا نرى جملة المعنى ومحصوله أنهم جعلوا الجن شركاء وعبدوهم مع الله تعالى، وكان هذا المعنى يحصل مع التأخير حصوله مع التقديم، فإن تقديم الشركاء يفيد هذا المعنى، ويفيد معه معنى آخر وهو أنه ما كان ينبغي أن يكون لله شريك لا من الجن ولا غير الجن، وإذا أخّر فقيل: جعلوا الجن شركاء لله، لم يفد ذلك ولم يكن فيه شيء أكثر من الإخبار عنهم، بأنهم عبدوا الجن مع الله تعالى، فأما إنكار أن يعبد مع الله غيره وأن يكون له شريك من الجن وغير الجن فلا يكون في اللفظ مع تأخير الشركاء دليل عليه، وذلك أن التقدير يكون مع التقديم أن (شركاء) مفعول أول لجعل و (لله) في موضع المفعول الثاني، ويكون (الجن) على كلام ثان وعلى تقدير أنه كأنه قيل: فمن جعلوا شركاء لله تعالى فقيل: الجن، وإذا كان التقدير في (شركاء) أنه مفعول أول و (لله) في موضع المفعول الثاني، وقع الإنكار على كون شركاء الله تعالى على الإطلاق من غير اختصاص شيء دون شيء. وحصل من ذلك أن اتخاذ الشريك من غير الجن قد دخل في الإنكار، دخول اتخاذه من الجن لأن الصفة إذا ذكرت مجرّدة غير مجراة على شيء كان الذي يعلق بها من النفي عاما في كل ما يجوز أن تكون له الصفة. فإذا قلت: ما في الدار كريم، كنت نفيت الكينونة في الدار عن كل من يكون الكرم صفة له، وحكم الإنكار أبدا حكم النفي. وإذا أخّر فقيل: وجعلوا الجن شركاء لله، كان (الجن) مفعولا أول والشركاء مفعولا ثانيا. وإذا كان كذلك كان الشركاء مخصوصا غير مطلق من حيث كان محالا أن يجري خبرا على الجن، ثم يكون عاما فيهم وفي غيرهم، وإذا كان كذلك احتمل أن يكون القصد بالإنكار إلى الجن خصوصا أن يكونوا شركاء دون غيرهم، جلّ الله وتعالى عن أن يكون له شريك وشبيه بحال. وجعلوا الجن شركاء لله وما ينبغي أن يكون لله شريك لا من الجن ولا من غيرهم فقام التقديم والتأخير مقام الكلام السابق).

إعجاز القرآن عند مفسري أهل السنة والجماعة

إعجاز القرآن عند مفسري أهل السنّة والجماعة تعرض المفسرون لذكر وجوه الإعجاز في القرآن الكريم في تفاسيرهم بإحدى طريقتين: أ- التحدث عن إعجاز القرآن عند تفسيرهم لآيات التحدي في سورة البقرة ويونس وهود والإسراء. وحيثما ذكرت آيات جامعة لمعان غزيرة وبأسلوب فيه إيجاز، فقد تعرضوا كثيرا لبيان وجه البلاغة والفصاحة فيها، وإبراز النكات البلاغية. وذلك كأسلوب تطبيقي لإبراز الإعجاز البياني في القرآن الكريم وهم في كل ذلك بين مطنب في عرضها وبين مقتصد. من هؤلاء أبو حيان في «البحر المحيط»، وأبو السعود في «إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم»، والشوكاني في «فتح القدير». ب- وخصص بعض المفسرين في مقدماتهم لكتبهم في التفسير مقدمات تتعلق بموضوعات في علوم القرآن ومن هذه الموضوعات بيان إعجاز القرآن. فذكروا أقوال العلماء في وجه الإعجاز وضربوا بعض الأمثلة على ذلك. من هؤلاء المفسرين ابن عطية في تفسيره «المحرر الوجيز»، والقرطبي في تفسيره «الجامع لأحكام القرآن»، والألوسي في تفسيره «روح المعاني في تفسير القرآن الكريم والسبع المثاني». وسنختار نموذجا من النوع الثاني ما كتبه القرطبي في مقدمة تفسيره تحت عنوان (باب ذكر نكت في إعجاز القرآن وشرائط المعجزة وحقيقتها).

وباستعراض ما كتبه القرطبي تحت العنوان المتقدم نجد أنه بدأ بذكر المعجزة وشرائطها وضرورتها للرسالة على طريقة علماء التوحيد وعلم الكلام، ثم ذكر وجوه إعجاز القرآن وجعلها وجوها عشرة- وأغلب هذه الوجوه تتعلق بالإعجاز البياني، وجعل الإخبار بالغيب من وجوه إعجاز القرآن، وأشار مقتضبة إلى الإعجاز التشريعي بقوله: (ومنها: ما تضمنه القرآن من العلم الذي هو قوام جميع الأنام في الحلال والحرام وفي سائر الأحكام) ثم ذكر الصرفة وردها. نجد من خلال العرض السريع السابق أن القرطبي قد اطلع على ما كتبه السابقون في إعجاز القرآن وبالأخص الخطابي والباقلاني ولخص آراءهما وعرضها عرضا موجزا في مقدمة تفسيره. وصنيع القرطبي هو ما عمله بعض المفسرين كما تقدمت الإشارة إليهم.

الفصل الثالث

الفصل الثالث إعجاز القرآن في دراسات المعاصرين 1 - مصطفى صادق الرافعي وكتابه «إعجاز القرآن والبلاغة النبوية»: ولد الرافعي عام 1297 هـ، وعاش في طنطا بمصر، وأصله من طرابلس الشام عالم بالأدب شاعر كتاب، له «ديوان شعر» في ثلاثة أجزاء، و «تاريخ أدب العرب» جزآن، و «إعجاز القرآن والبلاغة النبوية»، و «تحت راية القرآن»، و «أوراق الورد» وغيرها من كتب الأدب. كان أبرز من تصدى لطه حسين في كلامه حول الشعر الجاهلي. توفي بطنطا سنة 1356 هـ. كان أصل الكتاب جزءا من كتابه «تاريخ آداب العرب» ثم نشره بعد ذلك كتابا مستقلا. يذهب الرافعي إلى (أن القرآن معجز بالمعنى الذي يفهم من لفظ الإعجاز على إطلاقه، حين ينفي الإمكان بالمعجز عن غير الممكن، فهو- أي القرآن- لا تبلغ منه الفطرة الإنسانية مبلغا، وليس إلى ذلك مأتى ولا جهة، وإنما هو أثر كغيره من الآثار الإلهية، يشاركها في إعجاز الصنعة وهيئة الوضع، وينفرد عنها بأن له مادة من الألفاظ كأنها مفرّغة إفراغا من ذوب تلك المواد كلها) (¬1). ¬

_ (¬1) «إعجاز القرآن» للرافعي، ص 156.

الحروف

ويحدد الرافعي في موضع آخر من كتابه جهات الإعجاز فيقول: (إنما هي صفات من نظم القرآن وطريقة تركيبه، فنحن الآن قائلون في سر الإعجاز الذي قامت عليه هذه الطريقة وانفرد به ذلك النظم) (¬1). فإعجاز القرآن في بلاغة النظم. وقسم الرافعي النظم إلى الحروف والكلمات والجمل. الحروف: يقول الرافعي: (إن القيمة الفنية للحروف كامنة في كونها دالة على أصوات والصوت وسيلة من وسائل التعبير، وهو يحمل رعشات الطرب، واضطرابات الفزع، وهمسات لا يفسرها غير سماعها، فأصوات الحروف إنما تنزل منزلة النبرات الموسيقية المرسلة في جملتها كيف اتفقت، فلا بد لها مع ذلك من نوع في التركيب وجهة من التأليف حتى يمازج بعضها بعضا، ويتألف منها شيء فتتداخل خواصها وتتجمع صفاتها ويتكون منها اللحن الموسيقى) (¬2). (وحسبك بهذا اعتبارا في إعجاز النظم القرآني، وأنه مما لا يتعلق به أحد، ولا يتفق على ذلك الوجه الذي هو فيه إلا فيه، لترتيب حروفه باعتبار من أصواتها ومخارجها ومناسبة بعض ذلك لبعضه مناسبة طبيعية في الهمس والجهر والشدة والرخاوة والتفخيم والترقيق والتفشي والتكرير) (¬3). الكلمات وحروفها: ثم يتحدث الرافعي عن الجمال التنسيقي في صف الحروف في الكلمات والذي يتجلى في جوانب ثلاثة: ¬

_ (¬1) «إعجاز القرآن» ص 209. (¬2) المرجع السابق ص 213. (¬3) المرجع السابق ص 215.

الجمل وكلماتها

الأول: دلالة الكلمة الموضعية الذي سماه (صوت النفس) أي المناسبة بين الكلمة ومدلولها. الثاني: الدلالة العقلية للكلمات في الجملة والذي سماه (صوت العقل) وهي دلالة الكلمة البيانية. الثالث: تفاوت الجمل في دقة التصوير والإبداع، والذي سماه (صوت الحسّ) وهو أبلغ الثلاث. ويقول الرافعي: (إن القرآن قد حاز القدر المعجز من هذا الجانب بل هو روح الإعجاز في القرآن الكريم فالقرآن يبادرك الروعة في كل جزء منه، كما تبادرك الحياة في كل حركة للجسم الحي) (¬1). (ولو تدبرت ألفاظ القرآن الكريم في نظمها، لرأيت حركاتها الصرفية واللغوية تجري في الوضع والتركيب، مجرى الحروف أنفسها فيما هي له من أمر الفصاحة، فيهيّئ بعضها لبعض، ويساند بعضها بعضا، والتي لا تجدها إلا مؤتلفة مع أصوات الحروف، مساوقة لها في النغم الموسيقى) (¬2). الجمل وكلماتها: تحدث الرافعي عن التنسيق في انتظام الكلمات في الجملة، والتعابير تتفاوت في الفصاحة والبلاغة والحسن والجمال، بمقدار التنسيق الموجود في الجمل التي تتألف فيها .... وأسلوب القرآن بلغ في هذا التنسيق حد الإعجاز، وإنما اطرد ذلك للقرآن من جهة تركيبه الذي انتظم أسباب الإعجاز، من الصوت في الحرف إلى الحرف في الكلمة إلى الكلمة في الجملة، حتى يكون الأمر مقدّرا على تركيب الحواس النفسية في الإنسان تقديرا يطابق وضعها وقواها وتصرفها) (¬3). ¬

_ (¬1) «إعجاز القرآن» للرافعي، ص 221، وما بعدها بتصرف. (¬2) المرجع السابق ص 227. (¬3) «إعجاز القرآن» للرافعي، ص 237.

وجه الإعجاز عند الرافعي

(فأنت ما دمت في القرآن حتى تفرغ منه، لا ترى غير صورة واحدة من الكمال، وإن اختلفت أجزاؤها في جهات التركيب ومواضع التأليف، وألوان التصوير وأغراض الكلام كأنها تفضي إليك جملة واحدة) (¬1). وجه الإعجاز عند الرافعي: انطلق الرافعي كما رأينا في حديثه عن الإعجاز من الحروف وأصواتها، ثم من الحركة الصرفية واللغوية للألفاظ القرآنية المشتملة على تلك الحروف، حتى ليمكن القول: إن عماد حديثه عن إعجاز النظم الموسيقى يعتمد بالدرجة الأولى على الألفاظ وعلى الجانب الصوتي منها على وجه الخصوص. يقول الرافعي: (ولو تدبرت ألفاظ القرآن في نظمها لرأيت حركتها الصرفية واللغوية تجري في الوضع والتركيب مجرى الحروف أنفسها فيما هي له من أمر الفصاحة، فيهيّئ بعضها لبعض، ويساند بعضها بعضا، ولن تجدها إلا مؤتلفة مع أصوات الحروف، مساوقة لها في النظم الموسيقى، حتى إن الحركة ربما كانت ثقيلة لسبب من أسباب الثقل أيا كان، فلا تعذب ولا تساغ وربما كانت أوكس النصيبين في حظ الكلام من الحرف والحركة، فإذا هي استعملت في القرآن رأيت لها شأنا عجيبا، ورأيت أصوات الأحرف والحركات التي قبلها قد امتهدت لها طريقا في اللسان واكتنفتها بضروب من النغم الموسيقى، حتى إذا خرجت فيه كانت أعذب شيء وأورقه، وجاءت متمكنة في موضعها وكانت لهذا الموضع أولى الحركات بالخفة والروعة). ثم يضرب لذلك أمثلة يوضح بها ما ذهب إليه، فيقول: (من ذلك لفظة (النّذر) جمع نذير، فإن الضمة ثقيلة فيها لتواليها على النون والذال معا، فضلا عن جشأة هذا الحرف ونبوّه عن اللسان، وخاصة إذا جاء ¬

_ (¬1) «إعجاز القرآن» للرافعي، ص 237.

2 - رأي الدكتور محمد عبد الله الدراز

فاصلة للكلام، فكل ذلك مما يكشف عنه ويفصح عن موضع الثقل فيه، ولكنه جاء في القرآن على العكس، وانتفى من طبيعته في قوله تعالى: وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ (36) [القمر: 36]. فتأمل هذا التركيب وأنعم ثم أنعم على تأمله، وتذوّق مواقع الحروف وأجر حركاتها في حسن السمع وتأمل مواضع القلقلة في دال (ولقد) وفي الطاء من (بطشتنا) وهذه الفتحات المتوالية فيما وراء الطاء إلى واو (تماروا) مع الفصل بالمد كأنها تثقيل لخفة التتابع في الفتحات إذا هي جرت على اللسان، ليكون ثقل الضمة عليه مستخفا بعد، ولتكون هذه الضمة قد أصابت موضعها كما تكون الأحماض في الأطعمة، ثم ردد نظرك في الراء من (تماروا) فإنها ما جاءت إلّا مساندة لراء (النذر) حتى إذا انتهى اللسان إلى هذه انتهى إليها من مثلها. فلا تجفو عليه ولا تغلظ ولا تنبو فيه، ثم اعجب لهذه الغنّة التي سبقت الطاء في نون (أنذرهم) وفي ميمها وللغنة الأخرى التي سبقت الذال في (النذر) ... ) ثم يعقب على هذه الآية بقوله: (وما من حرف أو حركة في الآية إلا وأنت مصيب من كل ذلك عجبا في موقعه والقصد به، حتى ما تشك أن الجهة واحدة في نظم الجملة والكلمة والحرف والحركة، ليس منها إلا ما يشبه في الرأي أن يكون قد تقدم في النظر وأحكمته الرويّة وراضه اللسان، وليس منها إلا متخير مقصود إليه من بين الكلم ومن بين الحروف ومن بين الحركات) (¬1). 2 - رأي الدكتور محمد عبد الله الدراز: من الذين تحدثوا عن الإعجاز الدكتور محمد عبد الله الدراز في كتابه «النبا العظيم» الذي ألفه سنة: 1933 م. وذكر فيه ثلاثة أوجه من الإعجاز: ¬

_ (¬1) «تاريخ آداب العرب» للرافعي، 2/ 25، 239، 240.

1 - الإعجاز اللغوي. 2 - الإعجاز العلمي. 3 - الإعجاز التشريعي. وقد فصل في الوجه الأول، لأنه هو الذي وقع من جهته التحدّي بالقرآن. ويتجلى ذلك في ناحيتين. الناحية الأولى: الجمال التوقيعي في توزيع حركاته وسكناته ومدّاته وغنّاته ويقول في ذلك: (دع القارئ المجوّد يقرأ القرآن يرتله حق ترتيله، نازلا بنفسه على هدي القرآن، وليس نازلا بالقرآن على هدي نفسه، ثم انتبذ منه مكانا قصيا لا تسمع فيه جرس حروفه، ولكن تسمع حركاتها وسكناتها، ومدّاتها وغنّاتها واتصالاتها وسكتاتها، ثم ألق سمعك إلى هذه المجموعة الصوتية وقد جرّدت تجريدا، وأرسلت ساذجة في الهواء، فستجد نفسك منها بإزاء لحن غريب عجيب لا تجده في كلام آخر لو جرّد هذا التجريد، وجوّد هذا التجويد). (وإيقاع الشعر وغيره متقاربة ولذلك لا يلبث السمع أن يمجها والطبع أن يملّها، بينما وأنت من القرآن أبدا في لحن متنوّع متجدد، تنتقل فيه بين (أسباب وأوتاد وفواصل) على أوضاع مختلفة، يأخذ منها كل وتر من أوتار قلبك بنصيب سواء، فلا يعروك منه على كثرة ترداده ملالة ولا سأم، بل لا تفتا تطلب منه المزيد) (¬1). والناحية الثانية: الجمال التنسيقي في رصف الحروف وتأليفها من مجموعات مؤتلفة مختلفة. يقول: (فإذا ما اقتربت بآذانك قليلا قليلا، فطرقت سمعك جواهر حروفه خارجة من مخارجها الصحيحة، فاجأتك منه لذة أخرى في نظم تلك الحروف ورصفها وترتيب أوضاعها فيما بينها. هذا ¬

_ (¬1) «النبأ العظيم» 101، 102.

ينقر، وذلك يصفر، وثالث يهمس، ورابع يجهر، وآخر ينزلق عليه النفس وآخر يحتبس عنده النفس وهلم جرّا .. ) (¬1). من هذه الخصوصية والتي قبلها تتألف القشرة السطحية للجمال القرآني، وليس الشأن في هذا الغلاف إلا كشأن الأصداف مما تحويه من اللئالئ النفيسة، فإنه جلت قدرته قد أجرى سنته في نظام هذا العالم أن يغشي جلائل أسراره بأستار لا تخلو من متعة وجمال، ليكون ذلك من عوامل حفظها وبقائها بتنافس المتنافسين فيها وحرصهم عليها ... ومن أجل ذلك سيبقى صوت القرآن أبدا في أفواه الناس وآذانهم ما دامت فيهم حاسة تذوق وحاسة تسمع ... ثم يتحدث الدراز عن الجانب المعنوي وجماله ويسميه اللب الداخلي للصدفة الجميلة وهذه الناحية هي أداة لتصوير المعاني ونقلها من نفس المتكلم إلى نفس المخاطب بها، وهي أعظم الناحيتين أثرا في الإعجاز اللغوي، إذ اللغات تتفاضل من حيث هي بيان، أكثر من تفاضلها من حيث هي أجراس وأنغام. ثم يتحدث الدراز عن خصائص القرآن البيانية ويرتّبها على أربعة مراتب: 1 - القرآن في قطعة قطعة منه. 2 - القرآن في سورة سورة منه. 3 - القرآن فيما بين بعض السور وبعض. 4 - القرآن في جملته. ثم ساق أمثلة مستفيضة لإبراز الجانب البياني في كل ذلك بما يشفي الغليل ويقنع الفكر ويطمئن القلب. ¬

_ (¬1) «النبأ العظيم» ص 104.

3 - سيد قطب ورأيه في إعجاز القرآن

3 - سيد قطب ورأيه في إعجاز القرآن: ولد سيد قطب في قرية من قرى محافظة أسيوط عام 1906 م. اتصل بالأديب عبّاس محمود العقاد في بداية تحصيله العلمي وتأثر به، ثم التزم مع الاتجاه الإسلامي. واستشهد عام 1966 م. له مؤلفات عديدة في الأدب والنقد، وعن الإسلام عامة، إلا أن الكتب التي تحدد آخر مراحل تطور فكره هي: «هذا الدين» و «المستقبل لهذا الدين» و «في ظلال القرآن»، و «معالم في الطريق». كتب سيد قطب كتابات كثيرة حول القرآن ونظمه وأسلوبه والوجوه الكثيرة التي تدل على ربانية مصدره، وذلك في الكتب الثلاثة التي ألفها حول القرآن الكريم: «التصوير الفني في القرآن» - «مشاهد القيامة في القرآن» - «في ظلال القرآن». إلا أن الجانب الذي أبرزه في كتاباته هو جانب التصوير الفني في القرآن وارتبط اسم التصوير الفني في القرآن باسم سيد قطب. وهو أول من أبرز الجوانب الجمالية الفنية في أسلوب القرآن الكريم من هذه الناحية، ونقتطف بعض المقاطع وهو يشرح نظريته هذه: يقسم سيد قطب مراحل تذوق الجمال القرآني إلى ثلاث مراحل: المرحلة الأولى: مرحلة التذوق الفطري: فالعرب الذين تلقوا القرآن الكريم، تذوقوا بحاستهم الفنية جماله الفني الساحر وأحسّوا تأثيره المباشر على قلوبهم وتحسسوا سلطانه العجيب على نفوسهم، والكافرون منهم الذين شنوا ضده حربا دعائية ضخمة، وقالوا عنه: إنه شعر وإنه سحر، لكنهم اعترفوا بالعجز البالغ عن معارضته، وأدركوا إعجازه البياني الرفيع، وتذوقوا جماله الفني وتحسسوه شبه مسحورين. وإذا نظرنا في الروايات التي سجّلت تأثير القرآن في قلوب المؤمنين

المرحلة الثانية

والكافرين والكلمات التي تحدثوا بها عن ما يحسون من أثر القرآن فإننا لا نجد فيها تعليلا فكريا لهذا الأثر. فعمر بن الخطاب يقول عن القرآن (ما أحسن هذا الكلام وأكرمه!) ويقول عن تأثير القرآن في نفسه (فلما سمعت القرآن رقّ له قلبي، فبكيت ودخلني الإسلام) (¬1). وكذلك قول الوليد بن المغيرة عند ما تحدث عن مشاعره وأحاسيسه عن القرآن في لحظة صدق مع نفسه قال: (والله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أسفله لمغدق، وإن أعلاه لمثمر، وإنه ليحطم ما تحته، وإنه ليعلو وما يعلى عليه، ما يقول هذا بشر) (¬2). وزعماء قريش يجدون شيئا خفيا يسيّرهم كل ليلة ليستمعوا قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يستطيعون الامتناع عن السير إليه مع تعاهدهم عليه ولا يملكون مخالفة هذا الدافع الخفي (¬3). هذه المرحلة الأولى لتذوق الجمال الفني القرآني، هي مرحلة التذوق الفطري المباشر، يجد فيها الإنسان مس القرآن، ويلمس تأثيره ويبهر به، ويستسلم له، ولا يحاول أن يبحث عن سر ما يلمس، وتعليل ما يجد، لأنه في شغل عن بيان كل هذا: المرحلة الثانية: مرحلة إدراك مواضع الجمال المتفرقة: وتبدأ هذه المرحلة في منتصف القرن الثاني للهجرة عند ما أقبل العلماء على القرآن الكريم من مفسرين وأدباء ومتكلمين. إلا أن نظراتهم اقتصرت على نواح جزئية حيث نظروا في الآية ¬

_ (¬1) «السيرة النبوية» لابن هشام 1/ 372. (¬2) انظر «سيرة ابن هشام» 1/ 288. (¬3) انظر حادثة أبي جهل والأخنس بن شويق ... في سيرة ابن هشام 1/ 377. وانظر «التصوير الفني في القرآن» ص 23.

المرحلة الثالثة

كوحدة منفصلة، وراحوا يستخرجون منها مباحث في اللغة والأدب والبلاغة والأصول والفقه والتشريع والعقيدة وغيرها، وألفوا مؤلفات كثيرة ضخمة في التفسير، وملئوها بمباحث في النحو والبلاغة ... كما ألّفت كتب عديدة في علوم القرآن ضمنت مباحث متنوعة مثل قصص القرآن وبديع القرآن وتشبيهات القرآن ومعاني القرآن وإعجاز القرآن. إلا أن القليل من المفسرين والبلاغيين وفّقوا في بعض الأحيان إلى إدراك الخصائص العامة للجمال الفني في القرآن الكريم ووقفوا عند نظرات جزئية، وأدركوا فيها بعض مواضع الجمال المتفرقة. وسبب عدم إدراكهم للخصائص العامة هو وقوفهم عند حدود عقلية النقد العربي القديمة، تلك العقلية الجزئية التي تتناول كل نص على حدة فتحلّله وتبرز الجمال الفني فيه، إلى الحد الذي تستطيع- دون أن تتجاوز هذا- إلى إدراك الخصائص العامة في العمل الفني كله (¬1): المرحلة الثالثة: مرحلة إدراك الخصائص العامة: وهي المرحلة التي جاءت متأخرة، ولم تتم إلا في العصر الحديث، حيث بدأت الكتابة في الخصائص العامة للجمال الفني في القرآن، باكتشاف القاعدة العامة والطريقة الموحدة في التعبير القرآني. وتناول سيد قطب جانبا هاما من القواعد الأساسية في أسلوب القرآن الكريم في كتاب «التصوير الفني في القرآن» فكان رائدا من رواد هذه المرحلة في إبراز قاعدة أساسية عامة من الأساليب البيانية للقرآن الكريم. يقول سيد قطب في ذلك: (إن حقيقة جديدة تبرز لي، إن الصور في القرآن ليست جزءا منه يختلف عن سائره، إن التصوير هو قاعدة التعبير في هذا الكتاب الجميل، القاعدة الأساسية المتبعة في جميع الأغراض- فيما ¬

_ (¬1) «التصوير الفني في القرآن» ص 23، 25، 26، 30 باختصار.

عدا غرض التشريع بطبيعة الحال- فليس البحث إذن عن صور تجمع وترتب، ولكن عن قاعدة تكشف وتبرز، ذلك توفيق لم أكن أتطلّع إليه، حتى التقيت به) (¬1). ويقول: (التصوير هو الأداة المفضلة في أسلوب القرآن، فهو يعبر بالصورة المحسّة المتخيّلة عن المعنى الذهني والحالة النفسية وعن الحادث المحسوس والمشهد المنظور، وعن النموذج الإنساني والطبيعة البشرية ثم يرتقي بالصورة التي يرسمها فيمنحها الحياة الشاخصة أو الحركة المتجددة، فإذا المعنى الذهني هيئة أو حركة وإذا الحالة النفسية لوحة أو مشهد، وإذا النموذج الإنساني شاخص حيّ، وإذا الطبيعة البشرية مجسّمة مرئية. وأما الحوادث والمشاهد، والقصص والمناظر فيردها شاخصة حاضرة فيها الحياة، وفيها الحركة، فإذا أضاف إليها الحوار فقد استوت لها عناصر التخيل فما يكاد يبدأ العرض حتى يحيل المستمعين نظارة، وحتى ينقلهم نقلا إلى مسرح الحوادث الأول الذي وقعت فيه أو ستقع، حيث تتوالى المناظر وتتجدد الحركات، وينسى المستمع أن هذا كلام يتلى ومثل يضرب، ويتخيل أنه منظر يعرض وحادث يقع ... إنها الحياة هنا وليست حكاية الحياة). أمثلة على نظرية سيد قطب في التصوير الفني: 1 - قوله تعالى: إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ [الملك: 7 - 8]. (فهي مخلوقة حي لها صفات الأحياء من البشر فها هي تكظم غيظها فتكاد تميز من الغيظ وتتمزق منه فترتفع أنفاسها من كظمها له فتفور ويسمع السامعون لها شهيقا مرعبا فظيعا) (¬2). 2 - وفي قوله تعالى: وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ ¬

_ (¬1) «التصوير الفني في القرآن» ص 8. (¬2) «في ظلال القرآن» 6/ 3634 باختصار.

اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ [الحج: 5]. (والهمود درجة بين الحياة والموت فإذا نزل عليها الماء (اهتزت وربت) وهي حركة عجيبة سجلها القرآن، قبل أن تسجّلها الملاحظة العملية بمئات الأعوام فالتربة الجافة حين ينزل عليها الماء تتحرك حركة اهتزاز وهي تتشرب الماء وتنتفخ فتربو) (¬1). 3 - وفي قوله تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (39) [النور: 39] (تحوّلت أعمالهم المعنوية هنا إلى سراب مجسم بقيعة يراه الرائي ماء). 4 - وفي قوله تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ [العنكبوت: 41]. (الولاية لغير الله- وهي أمر معنوي مجرد- صارت هنا صورة منفرة محقّرة محسوسة مجسمة، بيت عنكبوت ضئيل هزيل واهن). بهذه الدراسات القيّمة يكون سيد قطب قد أضاف بعدا جديدا إلى مفهوم إعجاز النظم القرآني من الناحية البيانية. ويبقى كتاب الله الخالد ومعجزة رسوله الباقية المعين الثرّ والنبع المتدفق للمعارف الراقية والدراسات المتجددة ولن تنقضي عجائبه ولن يحيط بأسراره مخلوق مهما أوتي من العلم والحكمة. * فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (78) لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (80) [الواقعة: 75 - 80]. ¬

_ (¬1) «في ظلال القرآن» ص 4/ 2411.

القسم الثاني الجانب الموضوعي لإعجاز القرآن

القسم الثاني الجانب الموضوعي لإعجاز القرآن

وجوه إعجاز القرآن

وجوه إعجاز القرآن تباينت أقوال العلماء في تحديد وجوه الإعجاز في القرآن الكريم: فمنهم من أوصلها إلى عشرة وجوه، ومنهم من نيف على ذلك، ومنهم من جعل وجوه الإعجاز وجها واحدا ونافح عنه وأورد الاعتراضات على سواه. ومن يتتبّع هذه الوجوه التي ذكرها العلماء قديما وحديثا يجد كثيرا منها تتداخل أو تتشابه ويمكنه بعد الاستقراء والتحقق أن يجمع بين كثير منها. نجد أن وجوها كثيرة تدور حول الأداء البياني وأسلوب القرآن الكريم المتميّز في ذلك ... ووجوه تنصب على الهدايات في القرآن الكريم ومراميه في إسعاد البشرية بإخراجها من الظلمات إلى النور وإيصالها إلى دار السعادة والنعيم المقيم ... ومن الوجوه ما يتعلق بالإخبار عن الغيوب ... ومنها ما اشتمل على إشارات وإيحاءات إلى سنن الله في الكون والطبيعة والحياة التي خلقها الله سبحانه وتعالى. لذا يمكن أن نجمع الأقوال جميعا في أربعة وجوه وهي: أولا: الإعجاز البياني. ثانيا: الإعجاز العلمي (التجريبي). ثالثا: الإعجاز التشريعي. رابعا: الإعجاز الغيبي.

الفصل الأول الإعجاز البياني

الفصل الأوّل الإعجاز البيانيّ

المبحث الأول

المبحث الأول فصاحة القرآن وبلاغته أولا: تعريف الفصاحة والبلاغة: الفصاحة: في اللغة: الظهور والبيان، ومنها أفصح اللبن إذا انجلت رغوته، ويقال أفصح الصبح إذا بدا ضوؤه واستبان (¬1)، ولسان فصيح أي طلق. وفي القرآن الكريم على لسان موسى عليه: وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي [القصص: 34]. وفصاحة الكلام في الاصطلاح: خلوصه من التعقيد، وفصاحة القرآن: كونه لفظا عربيا مستعملا مؤدّي المعنى بوجه لا تعقيد فيه (¬2). نجد أن التعاريف كلها تدور حول الإظهار والوضوح مع الخلوّ من التعقيد. والبلاغة في اللغة: مأخوذة من البلوغ وهو الوصول إلى الشيء والانتهاء إليه. يقال بلغت المكان بلوغا: وصلت إليه. وفي الاصطلاح: البلاغة في الكلام: إيصال المعنى إلى القلب في أحسن صورة من اللفظ (¬3). وقيل: أن يبلغ به المتكلم ما يريد من نفس ¬

_ (¬1) «لسان العرب»: 2/ 545. (¬2) «الفوائد المشوق» لابن القيم، ص 9. (¬3) «الفوائد المشوق» لابن القيم، ص 9.

السامع بإصابة موضع الاقتناع من العقل والوجدان من القلب. وفي لسان العرب: رجل بليغ: حسن الكلام فصيح يبلغ بعبارة لسانه كنه ما في قلبه .. وقال خالد بن صفوان: أبلغ الكلام ما قلّت ألفاظه وكثرت معانيه، وخير الكلام ما شوّق أوله إلى سماع آخره (¬1). وقال بعض المتأخرين: البلاغة: التعبير باللفظ الرائع عن المعنى الصحيح بلا زيادة ولا نقصان (¬2). ونجد أن تعاريف البلاغة تدور معظمها حول: إيصال المعنى إلى قلب المخاطب بعبارة سهلة موجزة، مراعيا في ذلك مقتضى حال السامع بحيث يؤثر في نفسه، ويبلغ منها ما يريد القائل. وهو ما دل عليه التعريف الأول ولعله أرجحها. وهل من فرق بين الفصاحة والبلاغة؟ قال بعضهم: إنهما متعاقبان على معنى واحد. وذهب أغلبهم إلى التفريق فقالوا: إن الفصاحة من عوارض الألفاظ مع ملاءمة المعنى والبلاغة من عوارض المعنى، وهو تكميل المعنى باللفظ الذي يفهمه. فالبلاغة في المعاني، والفصاحة في الألفاظ. يقال: معنى بليغ ولفظ فصيح. يقول الخفاجي في «سر الفصاحة»: (والفرق بين الفصاحة والبلاغة: أن الفصاحة مقصورة على وصف الألفاظ، والبلاغة لا تكون إلا وصفا للألفاظ مع المعاني. لا يقال في كلمة واحدة لا تدل على معنى يفضل عن مثلها بليغة، وإن قيل فيها فصيحة وكل كلام بليغ فصيح، وليس كل فصيح بليغا) (¬3). ¬

_ (¬1). 8/ 420. (¬2) مقدمة تفسير الفاتحة ليوسف الحسين الحسيني. (¬3) سر الفصاحة للخفاجي، ص 49 - 54 باختصار.

ويقول: (فالفصاحة نعت للألفاظ إذا وجدت على شروط عدة، ومتى تكاملت تلك الشروط فلا مزيد على فصاحة تلك الألفاظ، وبحسب الموجود منها تأخذ القسط من الوصف، وبوجود أضدادها تستحق الإطراح والذم، فمن هذه الشروط: 1 - أن يكون تأليف تلك اللفظة من حروف متباعدة المخارج (¬1). 2 - أن تجد لتأليف اللفظة في السمع حسنا ومزية على غيرها. 3 - أن تكون الكلمة غير متوعرة وحشية. 4 - أن تكون الكلمة غير ساقطة عامية. 5 - أن تكون الكلمة جارية على العرف العربي الصحيح غير شاذة. 6 - أن لا تكون الكلمة قد عبّر بها عن أمر آخر يكره ذكره. 7 - أن تكون الكلمة معتدلة غير كثيرة الحروف). وإذا استعرضنا آيات القرآن الكريم من أول سورة الفاتحة إلى آخر سورة الناس على تعريف الفصاحة والبلاغة، وشروط الألفاظ الفصيحة والكلام البليغ، لوجدنا كل آية قد تحققت فيها الفصاحة والبلاغة في أبهى صورهما، ولوجدنا أن معاني الكلمات تنساب إلى القلب قبل أن تبهرنا الألفاظ بجمالها الساحر، سواء في ذلك السور والآيات التي تلفت أنظارنا إلى الآفاق لنستدل على الصانع من لوحة إبداعه الرائعة أو الآيات المتعلقة بمبدإ البعث والنشور والموقف والحساب أو ما يتعلق منها بتنظيم شئون الحاكم مع رعيته، أو الأسرة وحقوق أفرادها، وغيرها من الأمور التي تولى القرآن الكريم الحديث عنها. ¬

_ (¬1) فالكلمات: الجردقة (الرغيف). والجرموق: اسم لقوم. وجوسق، وجلق، وجوالق: للوعاء. ومنجنيق، وجلنبلق: لصوت الباب. والجص، والصجة، والصولجان، والمحجن، والأجاص. كلها كلمات معرّبة غير فصيحة لتقارب مخارج حروفها.

كل تلك الآيات عليها الصبغة الزاهية من البيان الرائع والجمال اللفظي في أبسط أسلوب وأوضحه وأقربه إلى الفهم والقلب. لقد كان معروفا ولا زال عند علماء البلاغة وأهل البيان أن هناك أمورا معيّنة وأحوالا خاصة يجيد فيها الشاعر أو الكاتب دون سواها. وحالته النفسية تلعب دورا في إعطاء الملامح والمزايا لإنتاجه، لذا عرف بعض الشعراء بجودة المديح والغزل وآخرون بالهجاء والذم، وكانت الأسبقية لآخرين في الشجاعة ووصف الحروب، ولغيرهم في الحكم ودقة التعبير عن المعاني العقلية أو النفسية. وكان إذا ترك أحدهم ما طبع عليه، وحاول أمرا لم يعتد عليه تناقصت قيمة شعره وإنتاجه وربما جاء بما يستنكر أو يستكره. لذا ضرب المثل بامرئ القيس إذا ركب والنابغة إذا رهب وزهير إذا رغب. أما أن تلتزم الطبقة العليا في الفصاحة وذروة سنام البلاغة في كل صغيرة وكبيرة مهما اختلفت المواضيع وتباينت الأحوال وامتد الزمن فذلك ما لا نجده في إنتاج أحد من البشر، لأن البشر- كما يقول ابن عطية- يعمهم الجهل والنسيان والذهول، ومعلوم ضرورة أن أحدا من البشر لا يحيط بكل شيء علما، ولا يكون ذلك إلا للخالق جلّ جلاله وتعالى شأنه، الذي أحاط بالكلام كله فيعلم مكان اللفظة وما يناسبها في الترتيب، وما يصلح أن يكون رديفا لها، فلذا جاء نظم القرآن في الغاية القصوى من الفصاحة (¬1). والمتتبع لآيات القرآن الكريم من العارفين بأفانين البلاغة يجد فيه فنونها بأسرها، من إفادة المعاني الكثيرة باللفظ القليل، ومن ضروب التأكيد، وأنواع التشبيه والتمثيل، إلى ضرب الأمثال، وأصناف الاستعارة، وحسن المطالع والمقاطع والفواصل، والتقديم والتأخير، والفصل والوصل، ¬

_ (¬1) مقدمة «المحرر الوجيز» لابن عطية، 1/ 38. ط المغرب.

ثانيا: أمثلة على بعض الفنون البلاغية

وخلوه عن اللفظ الغث الشاذ الخارج عن القياس، والشارد النافر عن الاستعمال، إلى غير ذلك من أنواع الفنون البلاغية بحيث لا يرى المتصفّح للقرآن الكريم وتراكيبه المتمرّس في فنون البلاغة نوعا منها إلا وجده أحسن ما يكون، لا يقدر أحد من البلغاء الواصلين إلى ذروة البلاغة من العرب العرباء وإن استفرغ وسعه أن يحيط بأنواع قليلة منها. ومن كان أعرف بلغة العرب وفنون بلاغتها كان أعرف بمزايا بلاغات القرآن الكريم وإعجازه للثقلين. ثانيا: أمثلة على بعض الفنون البلاغية: 1 - إيجاز القصر: أ- قال تعالى في سورة النحل:* إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) [سورة النحل: 90]. - أمر الله سبحانه وتعالى في أول هذه الآية بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، ونهى في وسطها عن الفحشاء والمنكر والبغي، ووعظ في آخرها وذكّر، فجمع في هذه ضروبا من البيان وأنواعا من الإحسان. فذكر العدل والإحسان، والفحشاء والمنكر بالألف واللام التي هي للاستغراق، أي استغراق الجنس المحتوي على جميع أنواعه وضروبه. - وفي نهايتها الطباق اللفظي والطباق المعنوي، أما اللفظي ففي قوله (يأمر ... وينهى) وأما المعنوي ففي قوله: العدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وقوله: الفحشاء والمنكر والبغي، فإن الثلاثة الأواخر من القبيح. فطابق بين الحسن والقبيح مطابقة معنوية. - ثم بين خصوصية ذوي القربى بإعادة الإيصاء عليهم والإيتاء لهم ومع أن الأمر بالإحسان قد تناولهم.

- وبدأ بالعدل لأنه فرض، وتلاه بالإحسان لأنه مندوب إليه وقد يجب، فاحتوت الآية على حسن النسق، وعطف الجمل بعضها على بعض فقدم العدل وعطف عليه بالإحسان الذي هو جنس عام، وخص منه نوعا خاصا وهو إيتاء ذي القربى. - ثم أتى بالأمر مقدما، وعطف عليه النهي بالواو، ثم رتب جمل المنهيات كما رتب جمل المأمورات في العطف بحيث لم يتأخر في الكلام ما يجب تقديمه ولم يتقدم عليه ما يجب تأخيره. - ثم ختم ذلك كله بأمور مستحسنة ودعا إلى سبيله بالحكمة والموعظة الحسنة فاحتوت الآية على ضروب من المحاسن والقضايا وأشتات من الأوامر والنواهي والمواعظ والوصايا، ما لو بث في أسفار عديدة لما أسفرت عن وجوه معانيها، ولا احتوت على أصولها ومبانيها (¬1). ب- المثال الثاني على الإيجاز بسورة قصيرة من القرآن الكريم وهي سورة الكوثر وأقصر سور القرآن: فعلى الرغم من كلماتها القليلة المحدودة تضمنت من المعاني البديعة والفصاحة والبلاغة الرائعة التي اقتضت بها أن تكون مصداقا لقوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (23) [البقرة: 23]. فمن هذه المزايا والنكات البلاغية في سورة الكوثر: 1 - أن قوله تعالى: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (1) دل على عطية كثيرة مسندة إلى معط كبير، ومن كان كذلك كانت النعمة عظيمة عنده، وأراد بالكوثر الخير الكثير، ومن ذلك الخير الكثير ينال أولاده إلى يوم القيامة من أمته، من غير ما وعد به الله وأعطاه في الدارين، من مزايا التعظيم، والتقديم، والثواب ما لم يعرفه إلا الله، وقيل إن الكوثر ما اختص ¬

_ (¬1) «الفوائد المشوق» لابن القيم، ص 69.

به من النهر الذي ماؤه أحلى من العسل وعلى حافاته أواني الذهب والفضة كعدد النجوم. 2 - أنه جمع ضمير المتكلم، وهو يشعر بعظم الربوبية، فالعطاء يتناسب مع مقام الربوبية المشار إليها بضمير التعظيم. 3 - أنه بنى الفعل على المبتدأ فدل على خصوصية وتحقيق. 4 - أنه صدّر الجملة بحرف التوكيد الجاري مجرى القسم. 5 - أنه أورد الفعل الماضي دلالة على أن الكوثر لم يتناول عطاء العاجلة دون عطاء الآجلة، ودلالة على أن التوقع من سيب (¬1) الكريم في حكم الواقع. 6 - جاء بالكوثر محذوف الموصوف، لأن المثبت ليس فيه ما في المحذوف من فرط الإيهام والشياع، والتناول على طريق الاتساع، لذا وردت الأقوال الكثيرة عن العلماء في تفسير الكوثر، فمن قائل نهر ومن قائل الأتباع ومن قائل الذكر ... والكوثر يشمل كل ذلك ويزيد، فهو الخير الكثير الموهوب من الرب العظيم. 7 - اختيار الصفة المؤذنة بالكثرة (على وزن فوعل). 8 - أتى بهذه الصفة مصدّرة باللام المعروفة بالاستغراق لتكون ما يوصف بها شاملة، وفي إعطاء معنى الكثرة كاملة. 9 - وفاء التعقيب في الآية الثانية مستفادة من معنى التسبب لمعنيين: - جعل الإنعام الكثير سببا للقيام بشكر المنعم وعبادته. - جعله لترك المبالاة بقولة العدو. فإن سبب نزول هذه السورة: ما روي أن العاص بن وائل قال إن ¬

_ (¬1) السيب: العطاء. انظر لسان العرب 1/ 477 مادة (سيب).

محمدا صنبور- والصنبور الذي لا عقب له- فشق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزلت هذه السورة. 10 - قصده بالأمر التعريض بذكر العاص وأشباهه ممن كانت عبادته ونحره لغير الله. 11 - تثبيت قدمي الرسول صلى الله عليه وسلم على الصراط المستقيم وإخلاصه العبادة لوجهه الكريم. 12 - أشار بهاتين العبادتين إلى نوعي العبادات: الأعمال البدنية والصلاة قوامها، والمالية ونحر البدن ذروة سنامها، للتنبيه على ما للرسول صلى الله عليه وسلم من الاختصاص في الصلاة التي جعلت فيها قرة عينه، ونحر الإبل التي كان لا يجارى فيه، فقد روي أنه أهدى مائة بدنة فيها جمل في أنفه برة من ذهب. 13 - حذف اللام الأخرى لدلالة الأولى عليها. فلم يقل وانحر له أو لربك. 14 - مراعاة حق السجع الذي هو من جملة صفة البديع إذا ساقه قائله مساقا مطبوعا بعيدا عن التكلّف. 15 - قوله (لربك) فيه لطيفتان: وروده على طريق الالتفات التي هي (أمّ) في علم البلاغة. وصرف الكلام عن لفظ المضمر إلى لفظ المظهر وفيه إظهار لكبرياء شأنه وإثباته لعز سلطانه. 16 - علم بهذا أن من حقوق الله التي تعبّد العباد بها أنه ربهم ومالكهم وعرّض بترك التماس العطاء من عبد مربوب ترك عبادة ربه. 17 - وفي الآية الثالثة علل الأمر بالإقبال على شأنه وترك الاحتفال بشانئيه على سبيل الاستئناف الذي هو حسن حسن الموقع، وقد كثرت في التنزيل مواقعه.

18 - ويتجه أن نجعلها جملة الاعتراض مرسلة إرسال الحكمة الخاتمة والاعتراض كقوله تعالى: إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ [القصص: 26]. وعني بالشانئ العاص بن وائل. 19 - إنما لم يسمه باسمه ليتناول كل من كان في مثل حاله. 20 - صدّر الجملة بحرف التوكيد الجاري مجرى القسم وعبّر عنه بالاسم الذي فيه دلالة على أنه لم يتوجه بقلبه إلى الصدق، ولم يقصد بلسانه الإفصاح عن الحق بل نطق بالشنآن الذي هو قرين البغي والحسد، وعين البغضاء ولذلك وسمه بما ينبئ عن الحقد. 21 - جعل الخير معرفة وهو (الأبتر) والشانئ كذلك، ليعلم أنه المعروف لدى الناس يقال له الصنبور) (¬1). ج- المثال الثالث في المقارنة بين كلام موجز من القرآن الكريم وبين كلام موجز ورد عن العرب: أما الآية الكريمة فقوله تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ [البقرة: 179]، وهو جزء من آية، ومعناها أن الإنسان إذا علم أنه متى قتل قتل به، كان ذلك داعيا إلى أن لا يقدم على القتل، فارتفع بالقتل الذي هو القصاص كثير من قتل الناس بعضهم لبعض، وكان ارتفاع القتل حياة لهم. ورد في هذا عن العرب قولهم: (القتل أنفى للقتل) وأبرز العلماء بلاغة العبارة القرآنية على الثانية بعشرين وجها أو أكثر هي: 1 - أن ما يناظره من كلامهم هو قوله: فِي الْقِصاصِ حَياةٌ أقل حروفا، فإن حروفها اثنا عشر حرفا، وحروف (القتل أنفى للقتل) أربعة عشر. 2 - أن نفي القتل لا يستلزم الحياة، والآية ناصّة على ثبوتها التي هي الغرض المطلوب منه. ¬

_ (¬1) «الفوائد المشوق» لابن القيم، ص 253.

3 - أن تنكير حياة يفيد تعظيما، فتدل على أن في القصاص حياة متطاولة كقوله: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ [البقرة: 96]. ولا كذلك المثل، فإن اللام فيه للجنس، ولذا فسروا الحياة فيها بالبقاء. 4 - أن الآية مطردة بخلاف المثل، فإنه ليس كل قتل أنفى للقتل، بل قد يكون أدعى له، وهو القتل ظلما. وإنما ينفيه قتل خاص، وهو القصاص ففيه حياة أبدا. 5 - أن الآية خالية من تكرار لفظ القتل الواقع في المثل، والخالي من تكرار أفضل من المشتمل وإن لم يكن مخلا بالفصاحة. 6 - أن الآية مستغنية عن تقدير محذوف، بخلاف قولهم فإن فيه حذف (من) التي بعد أفعل التفضيل وما بعدها، وحذف (قصاصا) مع القتل الأول و (ظلما) مع القتل الثاني، والتقدير القتل قصاصا أنفى للقتل ظلما من تركه. 7 - أن في الآية طباقا معنويا، لأن القصاص مشعر بضد الحياة، بخلاف المثل. 8 - أن الآية اشتملت على فن بديع، وهو جعل أحد الضدين الذي هو الفناء والموت، محلا ومكانا لضده، الذي هو الحياة، واستقرار الحياة في الموت مبالغة عظيمة، وذلك بجعل القصاص كالمنبع للحياة والمصرف لها، وذلك مستفاد من كلمة (في) الداخلة على القصاص. 9 - أن في المثل توالي أسباب كبيرة خفيفة، وهو السكون بعد الحركة وذلك مستكره فإن اللفظ المنطوق به إذا توالت حركاته تمكن اللسان من النطق به، وظهرت فصاحته، بخلاف ما إذا تعقب كل حركة سكون، فالحركات تنقطع بالسكنات. نظيره إذا تحركت الدابة أدنى حركة فجثت، ثم تحركت فجثت لا يتبين انطلاقها ولا تتمكن من حركتها على ما تختاره، فهي كالمقيدة.

10 - أن المثل كالمتناقض من حيث الظاهر، ولأن الشيء لا ينفي نفسه. 11 - سلامة الآية من تكرار قلقلة القاف الموجب للضغط والشدة وبعده عن غنة النون. 12 - اشتمالها على حروف متلائمة لما فيها من الخروج من القاف إلى الصاد، إذ القاف من حروف الاستعلاء، والصاد من حروف الاستعلاء والإطباق. بخلاف الخروج من القاف إلى التاء التي هي حرف منخفض، فهو غير ملائم للقاف، كذا الخروج من الصاد إلى الحاء أحسن من الخروج من اللام إلى الهمزة لبعدها دون طرف اللسان. 13 - في النطق بالصاد والحاء والقاف حسن الصوت، ولا كذلك تكرار القاف والتاء. 14 - سلامتها من لفظ القتل المشعر بالوحشة، بخلاف لفظ الحياة فإن الطباع أقبل له من لفظ القتل. 15 - أن لفظ القصاص مشعر بالمساواة، فهو منبئ عن العدل بخلاف مطلق القتل. 16 - الآية مبنية على الإثبات، والمثل مبني على النفي، والإثبات أشرف لأنه أول والنفي ثان عنه. 17 - أن المثل لا يكاد يفهم إلا بعد فهم أن القصاص هو الحياة، وقوله ولكم في القصاص حياة، مفهوم من أول وهلة. 18 - أن في المثل بناء أفعل التفضيل من فعل متعد، والآية سالمة منه. 19 - أن أفعل في الغالب تقتضي الاشتراك، فيكون ترك القصاص نافيا للقتل، ولكن القصاص أكثر نفيا، وليس الأمر كذلك، والآية سالمة منه. 20 - أن الآية رادعة عن القتل والجرح معا لشمول القصاص لهما، والحياة أيضا في قصاص الأعضاء، لأن قطع العضو ينقص مصلحة الحياة، وقد يسري إلى النفس فيزيلها، ولا كذلك المثل.

2 - ومن الفنون البلاغية: التتميم

21 - في أول الآية (لكم) وفيها لطيفة، وهي بيان العناية بالمؤمنين على الخصوص وأنهم المراد حياتهم لا غيرهم، لتخصيصهم بالمعنى مع وجوده فيمن سواهم (¬1). 2 - ومن الفنون البلاغية: التتميم (¬2): وهو على ثلاثة أقسام تتميم النقص، وتتميم الاحتياط، وتتميم المبالغة، وقد وردت الأقسام الثلاثة كلها في قوله تعالى: أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266) [البقرة: 266]. جاء أول هذه التتميمات في قوله تعالى في تفسير الجنة مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ فلو قال جنة لكان كافيا، ولكن عندئذ تحتمل أن تكون جنة ذات أثل وخمط وشيء من سدر قليل، فإن لفظ الجنة يصدق على كل شجر مجتمع يستر بظل غصونه الأرض كائنا ما كان، ومن الشجر ماله نفع عظيم عميم كالنخيل والأعناب. فإذا كانت الجنة عظيمة الفائدة ثم احترقت كان أسف صاحبها أعظم ومصابه أفدح. ثم علم الله سبحانه وتعالى أن الجنة إن كانت من نخيل وأعناب ما لم تجر الأنهار من تحتها لم يثمر شجرها ولم ينتفع بسكنها ولم تكن لها حياة البتة، فتمم هذا النقص بقوله تعالى: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ. ثم علم الله سبحانه وتعالى أن الجنة لو جمعت إلى النخيل والأعناب كل الثمرات كان وصفها أتم ونفعها أعظم، والأسف على فسادها أشد فقال تعالى: لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ، متمما لذلك تتميم مبالغة. ولما فرغ سبحانه وتعالى من أوصاف الجنة أخذ في وصف صاحبها: فوصفه بالكبر، لأنه لو كان شابا لرجا أن يخلفها بعد إحراقها، ¬

_ (¬1) انظر هذه المقارنة في «غرائب القرآن» للنيسابوري: 2/ 90، و «معترك الأقران» للسيوطي: 1/ 300. (¬2) انظر المثال في كتاب بديع القرآن لابن أبي الأصبع ص 8.

3 - من الفنون البلاغية: التشبيه

لما يجد في نفسه من القوة وما يأمل من طول المدة فقال محتاطا وَأَصابَهُ الْكِبَرُ. ثم علم سبحانه وتعالى أنه إذا كان عقيما مع الكبر سلّاه عنها قرب المدة وعدم من يهتم بضياعه بعده فلا يشتدّ أسفه عليها، فقال عزّ وجلّ محتاطا أيضا: وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ. ثم علم أنه إذا لم يصف الذرية بالضعف احتمل الإطلاق أن يكونوا أقوياء، فيترجى إخلافهم لها، فيخفض ذلك من أسفه فقال محتاطا: ضُعَفاءُ. ثم لما فرغ من وصف الجنة أخذ في وصف الحادث المهلك لها بقوله عزّ وجلّ: فَأَصابَها إِعْصارٌ. وعلم تبارك اسمه أن الإعصار لا يعجل فساد هذه الجنة، ولا يحصل هلاكها به إلا بعد استمراره عليها في مدة طويلة، وهو يريد الإخبار بتعجيل هلاكها فقال: فِيهِ نارٌ. ثم اقتصر سبحانه وتعالى من الرياح على الإعصار لكونه عبارة عن تقابل الرياح المثيرة للعجاج الكثيف الذي يعمي دوامه عيون الماء، ويطم الآبار والأنهار، ويحرق بسمومه ورهجه الأشجار، وإذا اتفق مع ذلك أن تكون فيه نار أدارها على المكان الذي يكون فيه بحيث لا ينصرف عنه، لأنه لا يقصد وجهة مقابلة فينصرف ما يكون فيه إليها. ثم علم الله سبحانه وتعالى أن النار يحتمل أن تكون ضعيفة فتطفأ لضعفها عن مقاومة ما في الجنة من الأنهار، ورطوبة الأشجار، فاحتاط لذلك بقوله: فَاحْتَرَقَتْ فنفى هذا الاحتمال، وأوجز تتميم المعنى المراد. وهكذا نجد أن الآية الكريمة قد تضمنت من الدقائق واللطائف ما يبرز الغرض المقصود من سوق المثل وهو إبراز عظيم أسف صاحب الجنة وتحسره على ما فاته منها، في حالة كان بأمس الحاجة إلى نتاجها وخيراتها. وكذلك المرائي بصدقته الذي ينفقها رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر، فإنه سيفقد هذا الثواب في وقت هو بأمس الحاجة إلى ما يثقل ميزان حسناته. 3 - من الفنون البلاغية: التشبيه: قال تعالى: إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ

نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلًا أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24) [يونس: 24]. فإن في الآية عشر جمل وقع التركيب من مجموعها بحيث لو سقط منها شيء اختل التشبيه، إذ المقصود تشبيه حال الدنيا في سرعة تقضّيها، وانقراض نعيمها، واغترار الناس بها، بحال ماء نزل من السماء، وأنبت أنواع العشب وزين بزخرفها وجه الأرض كالعروس إذا أخذت الثياب الفاخرة، حتى إذا طمع أهلها فيها وظنوا أنها مسلمة من الجوائح أتاها بأس الله فجأة، فكأنها لم تكن بالأمس (¬1). يقول صبحي الصالح تعليقا على قول السيوطي: وإنه ليعنينا أن نقف قليلا عند تشبيه الحياة الدنيا، فلقد أصاب السيوطي في استخلاص وجه الشبه، وتقسيمه هذا التركيب القرآني إلى عشر جمل، أما موضع الجمال الحقيقي في هذا المشهد- مشهد الحياة القصيرة التي يوشك أن تزول- فلم يتتبعه السيوطي في تنسيق الجمل العشر، والصور التي تطويها كل جملة منها في أوقات يتفاوت عرضها الخيالي طولا وقصرا. لأن هذا التفاوت في العرض الخيالي تبعا لمراحل المشهد المصور لم تكن جزءا من التشبيه المركب، فما على السيوطي إلا أن يذكر المعنى العام للآية وقد وفق فيه وأجاد، وإن علينا نحن أن نشير إلى المراحل التي أبطأ فيها التصوير وتمهل، أو التي اندفع فيها وأسرع، حتى تم لهذا المشهد القرآني من الإعجاز بالألفاظ الجامدة ما لا يتم من الإبداع بالريشة والألوان. لقد استخدمت في هذا المشهد الوسائل المقصرة لعرض مراحل النبات، فالفاء التعقيبية تطوي المسائل بسرعة عظيمة، ما كاد الماء ينزل من السماء حتى اختلط به نبات الأرض مباشرة، وأصبح فجأة في متناول الناس يأكلونه والأنعام تتمتع به، إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ ¬

_ (¬1) «الإتقان» 2/ 70، و «مباحث في علوم القرآن» لصبحي الصالح ص 322.

فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ (¬1). ولكن أهل هذه الأرض المتمتعين بنباتها البهيج يمتدّ بهم الغرور، ويلجّون في اللهو كأنهم يعيشون أبدا، وكأنهم يقدرون على إخلاد الأرض وإخلاد أنفسهم فيها، غارقين في متعها متقلبين في نعائمها، مسحورين بزخرفها، فاستخدمت (حتى) الدالة على امتداد الصور امتدادا يعرف أوله ويجهل منتهاه. وتتابعت أوصاف الغرور الإنساني تترى، لكل وصف منها تعبير متمهّل متبطّئ، فأما الأرض فشخصت مرتين، وقامت بحركتين، إذ أخذت بنفسها زخرفها كما تفعل العروس في جلوتها، وتطلبت الزينة تطلبا وسعت إليها سعيا فلم تزين ولكنها ازينت. وأما أهل الأرض فانتفخت أوداجهم زهوّا واختيالا وصعّروا خدودهم عجبا وكبرا وأيقنوا- وإن كان يقينهم ظنا وخيالا- أنهم في الأرض على كل شيء قادرون، ولكن الظن لا يغني من الحق شيئا. وهذه الآماد الطوال كلها ليست إلا ومضات خيالية تزول كما تزول الأطياف. ففي لحظة من ليل أو نهار يأتي تلك الأرض أمر الله فيطوي تلك الأخيلة الكواذب في وقت كلمح البصر بل هو أقرب، إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) [يس: 82]. وانظر ما من زخرف وما من زينة، ثم انظر فالناس المغرورون أعجز من أن يتصوروا ولو بالخيال ربوعهم ومغانيهم في تلك الأرض التي أصبح نباتها حصيدا هشيما تذروه الرياح حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلًا أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24) (¬2). ¬

_ (¬1) في الاقتران بين الناس والأنعام في الأكل دليل على إقبالهم على هذا الخليط من غير تروّ وشعور وإدراك للعواقب، وإنما الدافع لهم هو الشهوة الحيوانية. وهو شأن أهل الدنيا. (¬2) «مباحث في علوم القرآن» لصبحي الصالح، ص 324.

المبحث الثاني

المبحث الثاني النظم القرآني (جزالته وتناسقه) ويقصد بنظم القرآن طريقة تأليف حروفه، وكلماته، وجمله، وسبكها مع أخواتها في قالب محكم، ثم طريقة استعمال هذه التراكيب في الأغراض مع أخواتها في قالب محكم، ثم طريقة استعمال هذه التراكيب في الأغراض التي يتكلم عنها، للدلالة على المعاني بأوضح عبارة في أعذب سياق وأجمل نظم. والفرق بين الأسلوب والنظم: أن دائرة الأسلوب أوسع وأشمل ولا يدرك الأسلوب بالجملة الواحدة (¬1)، بينما النظم يمكن إدراكه في الجملة الواحدة بل وحتى في الكلمة الواحدة. إن المتأمل في حروف القرآن الكريم وكلماته لا يجد فيها شيئا خارجا عن المألوف المتداول في لغة العرب قديما وحديثا، ولكن عند ما نتلو آيات الله نشعر أن للعبارة القرآنية كيانا خاصا بنى عليه تراكيبه ورسم معالم صورة نظمه الفريد على هذا الكيان الفريد. فالكلام كما عهدته العرب شعر ونثر وما هو بين الشعر والنثر وهو السجع، ولو كان لإنسان عربي أن يتكلم أو يكتب أو يعلم أو يشرع أو يلفظ لما خرج في نظم كلامه أو تأليفه عن أخذ هذه الأنواع المعهودة عند العرب. ¬

_ (¬1) الأسلوب القرآني سنتحدث عنه في المبحث اللاحق.

ولكن القرآن جاء في ثوب غير تلك الأثواب وفي صورة غير تلك الصور، جاء نسيج وحده، وصورة ذاته، فلا هو شعر ولا هو نثر ولا هو سجع، وإنما هو قرآن، فالآية في النظم القرآني وهو ليست بيت شعر وجملة نثر ومقطع سجع، بل هي قطعة من القرآن لها بداية ونهاية متضمّنة في سورة، ولكل آية مقطع تنتهي به هو الفاصلة، وليست هذه الفاصلة قافية شعر ولا حرف سجع وإنما هي شاهد قرآني لا يوجد إلا فيه، ولا يعتدل في كلام غيره. إن النظم القرآني البديع بهر العرب بحسن مبادئ الآي والمقاطع وتماسك الكلمات واتساقها في التراكيب، وقد تأمّلوه آية آية وعشرا عشرا وسورة سورة فلم يجدوا في الجميع كلمة ينبو بها مكانها ولفظة ينكر شأنها أو يرى غيرها أصلح هناك أو أشبه أو أحرى، بل وجدوا اتساقا بهر العقول وأعجز أهل الحكم والبلاغات، ونظاما والتئاما وإتقانا وإحكاما لم يدع في نفس واحد منهم موضع طمع حتى خرست الألسن أن تدّعي وتتقوّل. وأقروا في قرارة أنفسهم أن هذا ليس من قول البشر وإن أنكروا ذلك بألسنتهم. ومجيء النظم القرآني على هذا الشكل من الإتقان والإحكام إنما يعود- كما يقول ابن عطية- إلى أن الله تعالى قد أحاط بكل شيء علما وأحاط بالكلام كله علما إذا ترتبت اللفظة من القرآن علم بإحاطة أي لفظة تصلح أن تبين المعنى بعد المعنى ثم كذلك من أول القرآن إلى آخره، والبشر معهم الجهل والنسيان والذهول ومعلوم ضرورة أن بشرا لم يكن قط محيطا. فلهذا جاء نظم القرآن في الغاية القصوى من الفصاحة. ويظهر لك قصور البشر في أن الفصيح منهم يضع خطبة أو قصيدة يستفرغ فيها جهده ثم لا يزال ينقحها حولا كاملا ثم تعطى لأحد نظيره فيأخذها بقريحة خاصة فيبدّل فيها وينقّح ثم لا تزال كذلك فيها مواضع للنظر والبدل. وكتاب الله لو نزعت منه لفظة ثم أدير لسان العرب في أن

التناسق بين العبارة والموضوع الذي يراد تقريره

يوجد أحسن منها لم يوجد، ونحن تتبين لنا البراعة في أكثره ويخفى علينا وجهها في مواضع لقصورنا عن مرتبة العرب يومئذ في سلامة الذوق وجودة القريحة وميز الكلام. وفيما يلي بعض مزايا النظم القرآني وأمثلة عليها: التناسق بين العبارة والموضوع الذي يراد تقريره: إن الذي يتمعن النظر في النظم القرآني يلاحظ التناسق الكامل والتآلف التام بين العبارة القرآنية والمعنى الذي يراد بيانه وتوضيحه؛ فالألفاظ في النظم يلائم بعضها بعضا وهي كلها متوجهة إلى الغرض المنشود بحيث إذا كان المعنى غريبا كانت ألفاظه غريبة وإذا كان المعنى معروفا مستحدثا كانت الألفاظ تناسبها. يقول بديع الزمان: فالكلام إذا حذا حذو الواقع وطابق نظمه نظامه حاز الجزالة بحذافيرها. ويكون ذا قوة وقدرة إذا كان أجزاؤه مصداقا لما قيل: عباراتنا شتى وحسنك واحد ... وكل إلى ذاك الجمال يشير بأن تتجاوب قيودات الكلام ونظمه وهيئته ويمدّ كل بقدره الغرض الكلي مع ثمراته الخصوصية (¬1). وفي الأمثلة التالية نلقي أضواء على هذا الجانب: أ- لما أراد الله سبحانه وتعالى أن يصف حالة يعقوب عليه السلام وهو يتأسف على يوسف عليه السلام، وكانت هذه الحالة غريبة في نظر أبنائه لأنهم لم يسدوا مكان يوسف، عبر عن هذه الحالة بكلمات غريبة كلها، فقال سبحانه وتعالى على لسانهم: قالُوا تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً [يوسف: 85]، حيث أتى بأغرب ألفاظ القسم بالنسبة ¬

_ (¬1) «إشارات الإعجاز في مظان الإعجاز» ص 85.

إلى أخواتها؛ فإن التاء أقل استعمالا وأبعد عن أفهام العامة، والباء والواو أعرف عند الكافة وهي أكثر دورانا على الألسنة وأكثر استعمالا في الكلام. ثم أتى الله سبحانه وتعالى بأغرب صيغ الأفعال التي ترفع الأسماء وتنصب الأخبار بالنسبة إلى أخواتها فإنّ (كان) وما قاربها أعرف عند الكافة من تفتأ. وهم ل (كان) وما قاربها أكثر استعمالا منها وكذلك لفظ (حرضا) أغرب من جميع أخواتها من ألفاظ الهلاك (¬1) فاقتضى حسن الوضع في النظم أن تجاوز كل لفظة بلفظة من جنسها في الغرابة أو الاستعمال توخيا لحسن الجوار ورغبة في ائتلاف المعاني بالألفاظ ولتتعادل الألفاظ في الوضع وتتناسب في النظم. ب- وفي هذا الباب قوله تعالى: وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ [الأنبياء: 46]، في سياق بيان الضعف البشري أمام جبروت الخالق تبارك وتعالى فأراد بيان ضعفهم أمام العذاب الخفيف القليل فأتى بكلمات كلها تتجه إلى إظهار الغرض وهو وصف للعذاب بالقلة فأتى ب (إن) التي تفيد التشكيك في وقوعه، وأتى بكلمة (المسّ) بدل الإصابة أو الحرق فهو دونها في المرتبة ودون الدخول، وكذلك كلمة (نفحة) مع تنوينها المشعر بضعف العذاب وحقارته و (من) المفيدة للبعضية فلم يأتهم كل العذاب وإنما هي نفحة عابرة يسيرة من جزء صغير من العذاب، ثم العذاب لم يضف إلى اسم دال على القهر والجبروت بل أضيف إلى أرق اسم دال على الشفقة وهو (رب)، ثم أضيف الرب إلى مقرّب محبوب وهو ضمير خطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. إن الكلمات كلها مسوقة إلى هدف واحد وهو وصف هذا العذاب بالقلة والضآلة والحقارة ليبيّن بالتالي أن المذنبين يندمون ويتأسفون على ما عملوا عند تعرضهم لنفحة بسيطة من عذاب الله وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ. ¬

_ (¬1) «في مفردات الراغب» ص 163، الحرض: ما لا يعتد به ولا خير فيه، لذلك يقال لما أشرف على الهلاك (حرض).

ومن مزايا النظم القرآني اهتمامه بالجملة القرآنية واختيار المكان المناسب فيها للكلمة المعبرة

وهكذا لو ذهبنا نستعرض الآيات القرآنية في موضوع من الموضوعات المذكورة فيه نجد هذا التناسق وهذا الانسجام بين المعاني والألفاظ المختارة لأدائها فلا تعقيد يعثر الفكر في طلب المراد، بل الألفاظ تسابق معانيها، ومعانيها تسابق ألفاظها، كما أن الألفاظ عربيّة مستعملة جارية على قوانين اللغة سليمة عن التنافر بعيدة عن البشاعة عذبة سلسة كالماء في السلاسة والعسل في الحلاوة وكالنسيم في الرقة. ومن مزايا النظم القرآني اهتمامه بالجملة القرآنية واختيار المكان المناسب فيها للكلمة المعبرة: بالإضافة إلى ما ذكرنا سابقا عن التناسق بين العبارة والمعنى الذي يراد توضيحه فإن هنالك نوعا من التناسق الرائع بين الكلمات في الجملة الواحدة وبين الحروف في الكلمة الواحدة. فنظرة إلى تلك الحروف تبرز تناسبها لبعضها تناسبا طبيعيا في الهمس والجهر والشدة واللين والتفخيم والترقيق مما يشكّل أنغاما متناسقة متناسبة. وهذه الخاصية تعود بلا شك إلى طريقة اختيارها وسبكها وتناسب مخارجها. كما أن وضع الكلمة في الآية واختيار موقعها والتئامها مع جاراتها له الأثر الكبير في إعطاء هذا الجرس الخاص والإيقاع المؤثر في نفس السامع. ولا يقتصر وضع الكلمة في الآية على تأثيره في اللحن والنغم وإنما لهذا الموقع والوضع المناسب تأثير على المعنى وإبرازه، لذا نجد أن كثيرا من الباحثين اقتصروا على إبراز هذه الناحية دون الإشارة إلى ناحية اللحن والإيقاع. والحقيقة أن الكلمات القرآنية لها دور وضرورة في السياق للدلالة على المعنى، كما أن لها دورا في تناسب الإيقاع دون أن يطغى هذا على ذاك أو يخضع النظم لأحد الأمرين.

وفي الأمثلة التالية نرى اهتمام النظم القرآني في اختيار الكلمة المناسبة ذات الجرس المعين لأداء وظيفتها في الإيقاع كما أنها تؤدي في نفس الوقت دورها في تصوير المعنى وتشخيصه وإيضاحه على أتم صورة. أ- اختير كلمة (حرث) لتشبيه النساء به دون الأرض أو الحقل أو الزرع وغيرها من المترادفات وذلك في قوله تعالى: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ [البقرة: 223]. ولعل اختيار هذه اللفظة دون سواها لما فيها من لطف الكناية في ذلك التشابه بين صلة الزارع بحرثه وصلة الزوج بزوجه في هذا المجال الخاص، وبين ذلك النبت الذي يخرجه الحرث وذلك النبت الذي تخرجه الزوج وما في كليهما من تكثير وعمران وفلاح. بينما هذه اللطائف لا تستفاد من كلمة (الأرض) إذ قد تكون جدباء لا تصلح لحراثة الزرع وكذلك الحقل فإنه لا يدل على عمل المالك فيه بل تدل الكلمة على شيء جاهز لا دخل فيه لبذر الحارث. بذلك نلاحظ أن القرآن الكريم يتناول من الكلمات المترادفة أدقها دلالة على المعنى وأتمها تصويرا وتشخيصا للصورة وأجملها وأحلاها إيقاعا ووزنا بالنسبة إلى نظائرها. ب- ومن هذا القبيل كلمة (أغطش) في قوله تعالى: وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها (29) [النازعات: 29]. فهي مساوية من حيث الدلالة اللغوية لأظلم، ولكن (أغطش) تمتاز بدلالة أخرى من وراء حدود اللغة فالكلمة تعبر عن ظلام انتشر فيه الصمت وعمّ الركود وبدت في أنحائه مظاهر الوحشة. ولا يفيد هذا المعنى كلمة (أظلم) إذ هي تعبر عن السواد الحالك ليس غير. ج- وحينما يصف القرآن الكريم دعوة امرأة العزيز للنسوة- اللائي تحدثن منتقدات عن مراودتها يوسف عن نفسه- إلى جلسة لطيفة في بيتها لتطلعهن فيها على يوسف وجماله فيعذرنها فيما أقدمت عليه، لقد قدمت لهن في ذلك المجلس طعاما ولا شك. ولقد أوضح القرآن هذا، ولكنه لم

يعبر عن ذلك بالطعام فهذه الكلمة إنما تصور شهوة الجوع وتنتقل بالفكر إلى المطبخ بكل ما فيه من ألوان الطعام وروائحه وأسبابه، ولكن بماذا يعبّر إذن؟ وأين في اللغة الكلمة التي تؤدي معنى الطعام ولا تمس الصورة بأي تعكير أو تشويه؟ لقد أبدع القرآن لذلك تعبيرا عجيبا رائعا حيث قال: فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً [يوسف: 31]. (متكأ) كلمة تصور من الطعام ذلك النوع الذي إنما يقدّم تفكّها وتبسطا وتجميلا للمجلس وتوفيرا لأسباب المتعة فيه، حتى إن الشأن فيه أن يكون الإقبال عليه في حالة من الراحة والاتّكاء. ولعلها أدركت بغريزتها النسائية ما سيئول إليه أمرهن فاختارت هذا المتكأ مما يحتاج فيه إلى سكين وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً. د- وأحيانا يكون الاختيار للكلمة في مكان دون أماكن ويستبدل به غيرها لسرّ لطيف بالرغم من كون الموضوع واحدا، لكن الكلمة المختارة تعطي مدلولا خاصا لا يوفّيه حقّه إلا استعمال الكلمة القرآنية المختارة. فمثلا: جاءت الملائكة بالبشرى لزكريا عليه السلام بيحيى، وأيضا جاءت بالبشرى للسيدة مريم العذراء بالمسيح عليه السلام. لكن وضع المبشّرين مختلف، وتلقّي الخبر منهما يكون له رد فعل يغاير ما في نفس الآخر، واستغراب كلّ منهما يكون لجانب أشد التصاقا بحاله ووضعه. قال زكريا عليه السلام عند ما جاءته البشرى: قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ [آل عمران: 40]. وقالت مريم عليها السلام عند ما جاءتها البشرى: قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ [آل عمران: 47]. ورد في كلام زكريا عليه السلام لفظ الغلام وهو الموافق والمطابق لحاله لأنه رجل متزوج ومن شأن المتزوجين كما هي العادة أن يولد لهم، ولكن الغريب في الأمر والمعجزة أن يولد له في هذه السن المتأخرة من حياته وامرأته عاقر فكانت الكلمة التي تؤدي الغرض ووجه الاستغراب هي كلمة (غلام).

أما مريم عليها السلام فالتعجب في جانب آخر إذ إنها عذراء ولم يمسسها بشر ولم تك بغيّا، فالغرابة والمعجزة أن تلد وهي عذراء فكانت الكلمة المعبرة التي تؤدي المعنى بدقة وتوضح وجه الاستغراب لها هي كلمة (ولد) (¬1). فسبحان الذي أحاط علمه بسر اللغة ومكنوناتها أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ. هـ- ومن هذا القبيل استعمال كلمة (قرية) تارة واستعمال كلمة (المدينة) في موضع آخر في سورة الكهف. فعند ما كان الحديث عن بخل ولؤم السكان جاء التعبير بكلمة (أهل قرية) لأن مادة (قرى) تدل على الجمع ومن مستلزماته الإمساك والبخل، بينما عند ما جاء الحديث عن الغلامين والخوف من ضياع كنزهما جاء التعبير ب (المدينة) لأن زحمة المدينة وكثرة الوجوه الغريبة فيها أليق بإضاعة المساكين والضعفاء، كما أن التحايل والغبن يكثر في المدن أكثر منها في القرى. وكل ذلك تجده في قوله تعالى: فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما ... وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ ... [الكهف: 77، 82]. ¬

_ (¬1) أما مجيء لفظة غلام في كلام السيدة مريم عليها السلام في قوله تعالى: قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا (19) قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) [مريم: 19، 20]، فهو من قبيل ترداد اللفظة التي سمعتها من المخاطب، فشدة الاستغراب والدهشة تجعل السامع يردد نفس الكلمة التي سمعها كما في جواب القائل قالوا صف شيئا نجد لك طبخه قلت اطبخوا لي جبة وقميصا، فلما رأت مريم عليها السلام الملك في صورة البشر ودخل عليها وهي عارية للاغتسال في حجاب وعزلة عن الناس فتعوذت منه لأن ذلك ليس من شأن الأتقياء، فلما أخبرها بالغلام ازداد استغرابها فرددت الكلمة المسموعة أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ. بخلاف ما ورد في سورة آل عمران فلم يسبق استغرابها ذكر كلمة الغلام فانصب الاستغراب على الولادة وهي عذراء.

وبالإضافة إلى اختيار الكلمة المناسبة لأداء المعنى المعين فإن النظم القرآني يهتم بالإيقاع والانسجام في اللفظ والنغم

وفي قصة يوسف عليه السلام استعمل التعبير القرآني كلمة فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ ولم يستعمل افترسه الذئب، علما أن الشائع في الاستعمال إطلاق كلمة الافتراس على مثل هذا النوع، وذلك للطيفة دقيقة وهي أن الافتراس من فعل السبع معناه القتل فحسب، وأصل الفرس: دق العنق، والقوم إنما ادّعوا على الذئب أنه أكله أكلا، وأتى على جميع أجزائه وأعضائه فلم يترك مفصلا ولا عظما. وذلك أنهم خافوا مطالبة أبيهم إيّاهم بأثر باق منه يشهد بصحة ما ذكروه فادّعوا فيه الأكل ليزيلوا عن أنفسهم المطالبة، والفرس لا يعطي تمام هذا المعنى فلم يصلح على هذا أن يعبّر عنه إلا بأكل. وبالإضافة إلى اختيار الكلمة المناسبة لأداء المعنى المعيّن فإن النظم القرآني يهتم بالإيقاع والانسجام في اللفظ والنغم: فيؤتى بالكلمة وتوضع في مكان معيّن من العبارة بحيث لو تغيّر وضعها تقديما أو تأخيرا أو حذفا لاختل ذاك التناسق اللفظي وذاك الوزن الخاص. ففي قوله تعالى: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (20) [النجم: 19 - 20]. لو حذفت كلمة (الأخرى) لاختلّت الفاصلة ولتأثّر الإيقاع، ولو قيل أفرأيتم اللات والعزى ومناة الأخرى بحذف كلمة (الثالثة) لاختل الوزن أيضا. وكذلك قوله تعالى: أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى (21) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى، فلو قيل ألكم الذكر وله الأنثى تلك قسمة ضيزى، بحذف كلمة (إذن) لاختل الإيقاع المستقيم بكلمة (إذن). فكأن هذه الكلمات والحروف موزونة بميزان شديد الحساسية تميله أخف الحركات والاهتزازات. ومن هنا يبدو لنا بجلاء سبب إطلاق العرب الأوائل في بداية نزول الوحي اسم الشعر على القرآن الكريم، لأنهم لم يعهدوا هذه الحساسية وهذا الوزن وهذا النغم إلا في الشعر. ولكنهم عند ما قاسوه على أوزان

الشعر المعهودة لديهم، وجدوا القرآن الكريم- بالرغم من اشتماله على روعة الشعر وإيقاعه وحساسيّته وتآلف كلماته واستخدامه التصوير البارع في التعبير، والمنطق الساحر في الإقناع- لم يتقيد بقيود الشعر الكثيرة من قافية موحدة وتفعيلة تامة. لذا وجدوا أن القرآن الكريم ملك حرية التعبير الكاملة عن جميع أغراضه العامة كما أنه بفواصله الخاصة به قد أوجد الإيقاع الخاص به فلم يملك قائلهم إلا أن يقول: إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أسفله لمغدق، وإن أعلاه لمثمر، وإنه ليعلو ولا يعلى عليه، وإنه ليحطم ما تحته.

المبحث الثالث

المبحث الثالث الأسلوب القرآني الفريد ويطلق الأسلوب في اللغة على الطريق الممتد، ويقال للسطر من النخيل أسلوب، والأسلوب الطريق والوجه والمذهب، والأسلوب الفن، يقال: أخذ فلان في أساليب من القول، أي أفانين منه. وفي اصطلاح البلاغيين: هو طريقة اختيار الألفاظ وتأليفها للتعبير بها عن المعاني قصد الإيضاح والتأثير، أو هو العبارات اللفظية المنسّقة لأداء المعاني. فالأسلوب القرآني: هو طريقته التي انفرد بها في تأليف كلامه واختيار ألفاظه (¬1)، ولقد تواضع العلماء قديما وحديثا على أن للقرآن أسلوبا خاصا به مغايرا لأساليب العرب في الكتابة والخطابة والتأليف. وكان العرب الفصحاء يدركون هذا التمايز في الأسلوب القرآني عن غيره من الأساليب، روى مسلم في صحيحه (¬2) (أن أنيسا أخا أبي ذر قال لأبي ذر: لقيت رجلا بمكة على دينك، يزعم أن الله أرسله، قلت: فما يقول الناس، قال: يقولون شاعر، كاهن، ساحر- وكان أنيس أحد الشعراء- قال أنيس: لقد سمعت قول الكهنة فما هو بقولهم، ولقد وضعت قوله على أقراء الشعر فلم يلتئم على لسان أحد بعدي أنه شعر، والله إنه لصادق وإنهم لكاذبون). ¬

_ (¬1) «مناهل العرفان» للزرقاني 2/ 199. (¬2) صحيح مسلم، كتاب فضائل الصحابة 7/ 153.

أولا: المرونة والمطاوعة في التأويل

ولقد أبرز العلماء ميزات للأسلوب القرآني اختص بها من بين سائر الكلام، فمن هذه الميزات: أولا: المرونة والمطاوعة في التأويل: نجد في الأسلوب القرآني مرونة في التأويل ومطاوعة على التقليب بحيث لا يدانيه أسلوب من الأساليب، وهذه المرونة في التأويل لا تحتمل الآراء المتصادمة أو المتناقضة وإنما مرونة تجعله واسع الدلالة سعة المورد الذي تزدحم عليه الوفود ثم تصدر عنه وهي ريّانه راضية. فالأسلوب القرآني يشفي قلوب العامة ويكفي الخاصة، فظاهره القريب يهدي الجماهير وسواد الناس ويملأ فراغ نفوسهم بالترغيب والترهيب والجمال الأخاذ في تعابيره ومشاهده، وباطنه العميق يشبع نهم الفلاسفة إلى مزيد من الحكمة والفكر، يحل العقد الكبرى عندهم من مبدأ الكون ومنتهاه ونظامه ودقة صنعه وإبداعه. وهذه المرونة من أسباب خلود القرآن فإن الأساليب العربية طوال أربعة عشر قرنا قد عراها كثير من التغيير والتلوين اللفظي والذهني، ومع ذلك فإن القرآن بقي خالدا بأسلوبه المتميّز وبخصائصه الفريدة يتجدّد مع العصور وظل رائع الأثر على ترامي الأجيال إلى هذه الأيام وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. إن الأسلوب القرآني لم يستغلق فهمه على العرب الذين نزل القرآن بين ظهرانيهم ولم يكن لهم إلا الفطرة السليمة الذوّاقة للجمال، وفهمه وتفاعل معه من جاء بعد ذلك من أهل العلوم والأفكار، وفهمه زعماء الفرق المختلفة على ضروب من التأويل، وقد أثبتت العلوم الحديثة المتطوّرة كثيرا من حقائقه التي كانت مخفيّة عن السابقين، وفي علم الله ما يكون من بعد. والمعهود من كلام الناس لا يحتمل كل ذلك ولا بعضه بل كلما كان

ثانيا: اعتماد الأسلوب القرآني الطريقة التصويرية في التعبير

نصا في معناه كان أدنى إلى البلاغة، وكيفما قلبته رأيته وجها واحدا وصفة واحدة لأن الفصاحة لا تكون في الكلام إلا إبانة، وهذه لا تفصح إلا بالمعنى المتعين، وهذا المعنى محصور في غرضه الباعث عليه. لقد فهم علماء السلف رضوان الله عليهم الآيات الكريمة: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ (3) بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ (4) [القيامة: 3، 4]، وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (30) [النازعات: 30]، غير ما فهمه العلماء المتأخرون بعد تطور العلوم الطبيّة والفلكية ولم يبعد عن الصواب من قال: (الزمن خير مفسر للقرآن). وما ذاك إلا لأن القرآن كتاب الإنسانية الخالد الذي لا يستطيع جيل من الأجيال استفراغ ما فيه من كنوز العلوم والحكم والحقائق. ثانيا: اعتماد الأسلوب القرآني الطريقة التصويرية في التعبير: من السمات البارزة للأسلوب القرآني هو اعتماده الطريقة التصويرية للتعبير عن المعاني والأفكار التي يريد إيضاحها، سواء كانت معاني ذهنية مجرّدة، أو قصصا غابرة، أو مشاهد ليوم القيامة وغيرها من المجالات. إن الأسلوب القرآني يحمل تاليه إلى أجواء الصورة وكأنه ينظر في تفصيلات الصورة المجسّمة أمامه، وكأن المشهد يجري أمامه حيّا متحرّكا، ولا شك أن الفكرة أو المعنى الذي يراد إيضاحه يكون أقرب إلى الفهم وأوضح في الذهن مما لو نقل المعنى مجرّدا من تلك الصور الحية، ويكفي لبيان هذه الميزة أن نتصور هذه المعاني كلها في صورها التجريدية ثم نقارنها بالصورة التي وضعها فيها القرآن الكريم، فمثلا: أ- معنى النفور الشديد من دعوة الإيمان: إذا أردنا أن نتصور هذا المعنى مجرّدا في الذهن يمكن أن نقول: إنهم ينفرون أشد النفرة من دعوة الإيمان فيتملّى الذهن وحده معنى النفور في برود وسكون. ولنمعن النظر في الأسلوب القرآني وهو يصوّر لنا هذا المعنى في هذه

الصورة الغريبة: فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) [المدثر: 49 - 51]. فتشترك مع الذهن حاسة النظر وملكة الخيال وانفعال السخرية وشعور الجمال: السخرية من هؤلاء الذين يفرون كما تفر حمر الوحش من الأسد لا لشيء إلا لأنهم يدعون إلى الإيمان، والجمال الذي يرتسم في حركة الصورة حينما يتملّاها الخيال في إطار من الطبيعة تشرد فيه الحمر يتبعها قسورة، فالتعبير هنا يحرك مشاعر القارئ وتنفعل نفسه مع الصورة التي نقلت إليه وفي ثناياها الاستهزاء بالمعرضين. ب- ومعنى عجز الآلهة التي يعبدها المشركون من دون الله! يمكن أن يؤدى في عدة تعبيرات ذهنية مجرّدة، كأن يقول إن ما تعبدون من دون الله لأعجز عن خلق أحقر الأشياء فيصل المعنى إلى الذهن مجرّدا باهتا. ولكن التعبير التصويري يؤديه في هذه الصورة: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ [الحج: 73]. فيشخص هذا المعنى ويبرز في تلك الصور المتحركة المتعاقبة: لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً درجة، وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وهذه أخرى، وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ وهذه ثالثة، والاقتران بين الطالب والمطلوب ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ وهي الرابعة. إنه الضعف المزري الذي يثير في النفس السخرية اللاذعة والاحتقار المهين، ولكن أهذه مبالغة؟ وهل البلاغة فيها هي الغلو؟. كلا فهذه حقيقة واقعة بسيطة. إن هؤلاء الآلهة لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ. والذباب صغير حقير ولكن الإعجاز في خلقه هو الإعجاز في خلق الجمل والفيل؛ إنها معجزة الحياة يستوي فيها الجسيم والهزيل. فليست المعجزة هي خلق الهائل من الأحياء إنما هي خلق الخلية الحيّة كالهباء. والصورة الفنية هنا هي الربط بين قدسية الآلهة المزعومة حيث

وضعت في أذهان معتنقيها في أقدس صورة والربط بينها وبين مخلوق صغير حقير. ولم يكتف بهذا الربط بل حشد لهذا المخلوق جموعا ضخمة فعجزوا عن خلقه، ثم في الصورة التي تنطبع في الذهن من طيرانهم خلف الذباب لاستنقاذ ما يسلبه، وفشلهم مع اتباعهم عن هذا الاستنقاذ. ج- ومعنى انتهاء الكون ثم محاسبة الناس على أعمالهم ودخول المحسنين الجنة والمسيئين النار، ولذة أهل النعيم والترحيب بهم وشقاء أهل العذاب وتبكيتهم: كل ذلك يمكن أن يفهمها الإنسان مجردة وهي حقائق لم تقع بعد. فالتعبير عنها بكلمات مجردة تنقل الفكرة إلى الذهن باهتة. ولكن التعبير القرآني وضع لنا هذه الحقائق في إطار زاه حافل بالحركة، وكأن المرء- حين يقرؤها- يعيش أجواءها، وتنقبض النفس لمشاهدة الأهوال وتخضع لقوة الجبار وتتشوّق لمرافقة السعداء. فهذا مشهد يوم القيامة قال تعالى: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ (68) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (69) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ (70) وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72) وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ (73) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (74) وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (75) [الزمر: 66 - 75].

إنه مشهد رائع حافل، يبدأ متحركا ثم يسير وئيدا حتى تهدأ كل حركة ويسكن كل شيء ويخيّم على الساحة جلال الصمت ورهبة الخشوع. ويبدأ المشهد بالأرض جميعا في قبضة ذي الجلال، وها هي السماوات جميعا مطويّات بيمينه. إنها صورة يرتجف لها الحسّ ويعجز عن تصويرها الخيال، ثم ها هي ذي الصيحة الأولى تنبعث، فيصعق من يكون باقيا على ظهرها من الأحياء. ولا نعلم كم مضى من الوقت حتى انبعثت الصيحة الثانية فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ. وفي غير ضجيج وعجيج، تجتمع الخلائق. وذلك أنّ كل شيء في هذا المشهد يتم في هدوء ويتحرّك في سكون. فعرش ربك هنا تحف به الملائكة فما يليق الصخب في مثل هذا المقام. وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها أرض الساحة التي يتم فيها الاستعراض، أشرقت بالنور الهادئ بِنُورِ رَبِّها فإذا هي تكاد تشف من الإشراق، وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ، وطوي كلّ خصام وجدال في هذا المشهد خاصة وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (69) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ. فلا حاجة إلى كلمة واحدة تقال ولا إلى صوت واحد يرتفع. وهكذا تجمل هنا عملية الحساب والجزاء، لأن المقام مقام روعة وجلال. وإذا تم الحساب وعرف المصير وجّه كل فريق إلى مأواه وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حتى إذا وصلوا إليها بعيدا هناك استقبلهم خزنتها بتسجيل استحقاقهم لها وتذكيرهم بما جاء بهم إليها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ (71) فالموقف موقف إذعان واعتراف وتسليم قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72). وكذلك وجّه الذين اتقوا ربهم إلى الجنّة حتى إذا وصلوا هناك استقبلهم خزنتها بالسلام والثناء سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ وارتفعت أصوات أهل الجنة بالحمد والدعاء: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ. ثم يختم الشريط المصوّر بما يلقي في النفس روعة ورهبة وجلالا

ثالثا: طريقة الأسلوب القرآني المتميزة في المحاجة والاستدلال

تتسق مع المشهد كله وتختمه خير ختام وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (75) (¬1). ثالثا: طريقة الأسلوب القرآني المتميزة في المحاجّة والاستدلال: لقد أورد القرآن الكريم من أفانين القول في سياق محاجّة الكفار وتصحيح زيغ المحرّفين والوعد لأوليائه والوعيد لأعدائه ما يخرج عن طوق البشر الإحاطة بمثل هذه الأساليب في أوقات متقاربة أو متباعدة؛ فالنفس الإنسانية لا تستطيع التحول في لحظات عابرة في جميع الاتجاهات بل تتأثر بحالة معينة. ولا تستطيع التحول عنها إلى اتجاه معاكس إلا ضمن بيئة ملائمة. أما الأسلوب القرآني فيلاحظ فيه الانتقال في شتى الاتجاهات في لحظات متقاربة متتالية، وأحيانا تكون مترادفة. فمن مشرّع حكيم يقر الدساتير والأنظمة في تؤدة وأناة ورويّة، إلى وعيد وتهديد لمن يرغب عن التشريعات ويريه سوء المصير، إلى غافر يقبل توبة العبد إذا تاب وأناب، إلى معلم يعلم كيفية الالتجاء إلى الخالق سبحانه وتعالى بأدعية لا تخطر على البال، إلى مقر لحقائق الكون الكبرى، ومن مرئيات الناس ومألوفاتهم والتدرج بهم إلى أسرار سنن الله في الكون. لنتأمل قوله تعالى: ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (68) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69) [الأنفال: 67 - 69]. هاتان الآيتان نزلتا بعد إطلاق أسرى بدر وقبول الفداء منهم. وقد بدأتا بالتخطئة والاستنكار لهذه الفعلة، ثم لم تلبث أن ختمتا بإقرارها وتطييب النفوس بها بل صارت هذه السابقة التي وقع التأنيب عليها هي القاعدة لما جاء بعدها. ¬

_ (¬1) انظر أمثلة هذه الميزة في «مشاهد القيامة» و «التصوير الفني في القرآن» لسيد قطب.

فهل الحال النفسية التي يصدر عنها أول هذا الكلام- لو كان عن النفس مصدره- يمكن أن يصدر عنها آخره ولمّا تمض بينهما فترة تفصل بين زمجرة الغضب وبين ابتسامة الرضى والاستحسان؟ إن هذين الخاطرين لو فرض صدورهما عن النفس متعاقبين لكان الثاني منهما إضرابا عن الأول ماحيا له ولرجع آخر الفكر وفقا لما جرى به العمل. فأي داع دعا إلى تصوير ذلك الخاطر المحمود وتسجيله على ما فيه من تقريع علني وتنغيص لهذه الطعمة التي يراد جعلها حلالا طيبة؟. إن الذي يفهمه علماء النفس من قراءة هذا النص أن هاهنا شخصيتين منفصلتين وأن هذا صوت سيد يقول لعبده: لقد أخطأت ولكني عفوت عنك وأذنت لك (¬1). ومن الأمور المميّزة للأسلوب القرآني طريقة استدلاله بأشياء وأحداث مثيرة صغيرة في ظاهرها وهي ذات حقيقة ضخمة تتناسب والموضوع الضخم الذي يستدل بها عليه. تأمل في قوله تعالى: نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ (62) أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ 67 أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ 68 أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ 69 لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ 70 أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ 71 أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ 72 نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ 73 فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ 74 [الواقعة: 57 - 74]. ومثل هذه الإشارات ترد كثيرا في القرآن الكريم لتجعل من مألوفات البشر وحوادثهم المكرورة قضايا كونية كبرى يكشف فيها عن النواميس ¬

_ (¬1) انظر هذا وغيره من الأمثلة في كتاب «النبأ العظيم» للدكتور محمد عبد الله دراز، ص 19.

الإلهية في الوجود، يقرر بها عقيدة ضخمة شاملة وتصورا كاملا لهذا الوجود كما يجعل منها منهجا للنظر والتفكير وحياة للأرواح والقلوب ويقظة في المشاعر والحواس. إن هذه الظواهر هي حقائق ضخمة ولكن الإلف والعادة بلّدت حواس الناس فلا تشعر بدلالاتها. إن الأنفس من صنع الله، وما حول الناس من ظواهر الكون من إبداع قدرته، والمعجزة كامنة في كل ما تبدعه يده، وهذا القرآن قرآنه. ومن ثمّ يأخذهم إلى هذه المعجزات الكامنة فيهم والمبثوثة في الكون من حولهم، يأخذهم إلى هذه الخوارق المألوفة لديهم التي يرونها ولا يحسّون حقيقة الإعجاز فيها لأنهم غافلون عن مواضع الإعجاز فيها. يمسهم الأسلوب القرآني بهذه اللفتات الاستفهامية المتتالية ليفتح عيونهم على السر الهائل المكنون، سرّ القدرة العظيمة وسرّ الوحدانية المفردة ليثير في فطرتهم الإقرار الأول في عالم الذر .. أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ [الأعراف: 172]. إن طريقة القرآن الكريم في مخاطبة الفطرة البشرية تدل بذاتها على مصدره إنها المصدر الذي صدر منه الكون؛ فطريقة بنائه هي طريقة بناء الكون من أبسط المواد الكونية تنشأ أعقد الأشكال وأضخم الخلائق. والقرآن يتخذ من أبسط المشاهدات المألوفة للبشر مادة لبناء أضخم عقيدة دينية وأوسع تصور كوني؛ المشاهدات التي تدخل في تجارب كل إنسان: النسل، الزرع، الماء، النار، الموت. وأي إنسان على ظهر هذه الأرض لم تدخل هذه المشاهدات في تجاربه؟ أي إنسان مهما كان بدائيا لم يشهد نشأة جنينية ونشأة حياة نباتية ومسقط ماء وموقد نار ولحظة وفاة؟. إن انفراد الأسلوب القرآني بهذه الميزات لهو دليل مصدره الإلهي فما الأسلوب إلا صورة فكرية عن صاحبه.

فالحذّاق من الكتاب عند ما يقرءون قطعة نثرية أو قصيدة شعرية لكاتب ما يدركون بملكتهم الأدبيّة وحسّهم المرهف الحالة النفسية التي كان عليها الكاتب عند الكتابة بل يذهبون إلى أكثر من هذا، إلى ما وراء السطور فيستنبطون كثيرا من أوصافه النفسية والخلقية فيحكمون عليه أنه عاطفي المزاج أو قوي النفس أو صاحب عقل ودراية أو حقود أو منافق أو غير ذلك من الأمور الخاصة. ولا شك أن هذا إدراك شيء أعظم وأرقى من العلوم الظاهرة والتي تقف بأصحابها عند جودة الأسلوب ومتانته وقوة السبك ورصانته، فإذا كان الأدباء وأهل البلاغة يدركون هذه الحقائق بعد العلوم الاكتسابية التي تعلّموها ومارسوها فإن العربي الذوّاقة لأساليب الكلام وكان عمدة شغله وصناعته وأحد دعائم حياته فنون القول وتذوّق مواطن الجمال في الكلام، لا شك أنه كان من أعرف الناس بما وراء الألفاظ والكلمات وكان يدرك بنظرته السليمة وسليقته الصافية حقيقة الذات التي وراء الأسلوب. إن العربي الذواقة لجمال القول أدرك أسلوب القرآن المتميز وعرف أن سبب هذا التميز هو أن القرآن من مصدر غير مصادر كلام البشر ومن ذات غير مخلوقة لذا تميز الأسلوب عن أساليب المخلوق، فما دامت قوة الخلق والإبداع من العدم ليس في مقدور البشر بل وكل المخلوقات فلن يستطيع أحد منهم إيجاد أسلوب يشبه أو يقارب الأسلوب القرآني. ولعل هذا الإدراك هو الذي منع العقلاء وأهل الفصاحة واللسن من سائر العرب من محاكاة القرآن. ومن تعرّض لمحاكاته صار أضحوكة بين الناس لأنه حاول أن يخرج عن طبيعته وذاته ونفسيته إلى محاكاة الذات الإلهية. أورد الإمام ابن كثير في تفسيره قال: ( .. سأل الصدّيق بعض أصحاب مسيلمة الكذاب بعد أن رجعوا إلى دين الله أن يقرءوا عليه شيئا من قرآن مسيلمة. فسألوه أن يعفيهم من ذلك فأبى عليهم إلا أن يقرءوا عليه شيئا منه ليسمعه من لم يسمعه من الناس فيعرفوا فضل ما هم عليه من

الهدى والعلم، فقرءوا عليه قوله: (والطاحنات طحنا والعاجنات عجنا والخابزات خبزا واللاقمات لقما إهالة وسمنا، إن قريشا قوم يعتدون)، وقوله: (يا ضفدع بنت ضفدعين، نقي ما تنقين، نصفك في الماء ونصفك في الطين، لا الماء تكدرين ولا الشارب تمنعين) إلى غير ذلك من هذياناته، فقال أبو بكر رضي الله عنه: ويحكم أين كان يذهب بعقولكم؟ والله إن هذا لم يخرج من إل- أي إله) (¬1). لقد أدرك الصدّيق رضي الله عنه بحسه المرهف وذوقه السليم النفسية التي خرجت منها العبارات والتراكيب وطريقة صياغتها والصبغة الخاصة بنفسية قائلها؛ إنها طبيعة بشرية وليست صادرة عن الخالق سبحانه وتعالى. فإن الفرق بين القرآن العظيم وكلام البشر كالفرق بين الخالق سبحانه وتعالى وبين المخلوق. ¬

_ (¬1) انظر تفسير ابن كثير 2/ 411.

وجه دلالة الإعجاز البياني على مصدر القرآن

وجه دلالة الإعجاز البياني على مصدر القرآن من خلال استعراضنا لجوانب من بيان القرآن الكريم مما يتعلق بفصاحته وبلاغته ونظمه وأسلوبه، وذكر الأمثلة على ذلك من الآيات الكريمة، يتضح لكل منصف أن أفانين القول التي وردت في القرآن الكريم من فاتحته إلى خاتمته لا تخلو آية من آياته عن نكتة لطيفة أو حكمة طريفة أو بيان مفحم أو عبارة تأخذ بالألباب وتحير العقول بجمالها وبلاغتها. ولهذا كان بيانه كالسحر الحلال يستولي على عقل السامع ويسلبه إرادته ويسخره لأغراضه، ولهذا كان القرآن معجزا، أعجز الثقلين أن يأتوا بمثل أقصر سورة منه فكان المعجزة الخالدة المستمرة إلى يوم القيامة والحجة القاهرة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. إن الأسلوب المتميز من بين الأساليب الذي اختص به القرآن الكريم، والنظم المحكم الدقيق الذي لا تكاد العقول تدرك بعض خصائصه إلا ويبهرها الجمال وتسيطر عليها الدهشة، مع استمرار الفصاحة والبلاغة من أول آياته إلى آخرها لدليل واضح على أن هذا الكتاب الكريم ليس من صنع البشر وإنما هو تنزيل من خالق القوى القدر وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا 5 قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً 6 [الفرقان: 5، 6]، وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ 37 [يونس: 37].

الفصل الثاني الإعجاز العلمي التجريبي

الفصل الثاني الإعجاز العلميّ التّجريبيّ سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ [فصلت: 53]

الإعجاز العلمي (التجريبي)

الإعجاز العلميّ (التجريبيّ) تمهيد: بين يدي البحث في الآيات الكونية: إن الهدف الأساسي للقرآن الكريم هو تبصير الإنسان بطريق الهداية ودعوته لسلوكها، إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (9) [الإسراء: 9]. وجاءت هذه الهدايات والدعوة إليها بأساليب متنوعة، فمن مخاطبة للفطرة الإنسانية، ومن استدلال بواقع الأشياء المحسوسة، إلى مجادلة عقلية، إلى تذكير بعاقبة الأمم السابقة، إلى لفت نظر إلى واقع القصور البشري .. ولما كان المخاطبون هم جملة الناس بمختلف طبقاتهم وفئاتهم وعلى اختلاف مستوياتهم الفكرية والثقافية، جاء في القرآن الكريم من البراهين والأدلة والأمثال ما يعم الشرائح الاجتماعية على مختلف العصور والبيئات لأن المنطلقات الإنسانية محكومة بالفطرة والعقل والتجارب، وكل ذلك في دائرة المحدود الممكن، لذا كانت قواعد المخاطبات وأسسها العامة تعمّ كل من كان في عصر نزول الوحي ومن يأتي بعدهم إلى يوم القيامة. وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا 54 [الكهف: 54]. وإذا أدركنا هدف القرآن ومنهجه في الخطاب أدركنا أن ورود الآيات الكونية سواء ما يتعلق منها بالآفاق وما يتعلق منها بالأنفس البشرية شيء بدهي أيضا، لأن من فئات الناس المكلفين المخاطبين بالقرآن الكريم من ينصبّ جلّ اهتمامه على هذه الجوانب من مخلوقات الله، ولا بد من إقامة

الحجة عليهم وإظهار أن القرآن كلام الله المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ليبشر به المؤمنين وينذر به قوما لدّا، ومن العسير أن تتذوق هذه الطوائف الجمال البياني وتدرك فصاحته وبلاغته لتعترف بالتالي أنه كلام الله المعجز ... ولكنهم يدركون أن هذه المعارف الإنسانية وهذه الحقائق الكونية لا يتصوّر أن يدركها بشر من ذاته، لأن كثيرا منها لم تكتشف إلا في عصور متأخرة جدا بعد التقدم العلمي في العلوم الكونية وبعد اختراع آلات دقيقة لم يكن للسابقين عهد بها. فإن ورود هذه الحقائق الضخمة والدقيقة في نفس الوقت على لسان رجل لم يكن له إلمام بمثل هذه العلوم دليل على أنه تلقّاها ممن يعلم السرّ في السماوات والأرض قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً 6 [الفرقان: 6]. والمتتبع لآيات القرآن الكريم يجد أن مئات الآيات قد تحدثت عن سنن الله سبحانه وتعالى في هذا الكون ونظامه وألوان العناية الربانية بمخلوقاته فيه (¬1)، لذا كان لزاما على المهتمين بالدراسات القرآنية أن يولوا هذا الجانب اهتمامهم. إلا أن دراسات سابقة اتجهت هذا الاتجاه (¬2)، من غير ضوابط، على الرغم من حماس أصحابها وصدق مشاعرهم قد أدت إلى نتائج عكسية، مما جعل كثيرا من الناس يحملون على هذا الاتجاه حرصا منهم على إبعاد القرآن الكريم من مجال الإخضاع للنظريات العلمية المتقلّبة، أو التعسف في تأويل النصوص أو تحميلها ما لا تحتمل من الدلالات (¬3). ¬

_ (¬1) يقدر بعض الباحثين عدد الآيات التي تحدثت عن الكون (الآفاق والأنفس) بما يزيد عن: 900 آية مبثوثة في ثنايا سور القرآن الكريم. انظر كتاب «القرآن والعلوم» للدكتور جمال الدين الفندي. (¬2) انظر على سبيل المثال: «تفسير الجواهر» للشيخ طنطاوي جوهري. (¬3) انظر كتابات بنت الشاطئ في هذا الخصوص.

إلا أن طرفي القضية قد وقع في محظور فالذين اتجهوا هذا الاتجاه من غير ضوابط تكبح جماح الفكر والخيال والسعي وراء النظريات قد أفرطوا ووقعوا في أخطاء ينبغي تنزيه القرآن الكريم من مثل ذلك، وكذلك الطرف الآخر الذين منعوا هذه البحوث وحاولوا سد الباب أمام الباحثين قد فرّطوا في مئات الآيات ولم يعطوها حقها في التدبر والبحث، ومنعوا الدعاة من حمل سلاح من أمضى الأسلحة في العصر الراهن لإقامة الحجة على ملاحدة العصر، وإثبات صحة الرسالة وصدق الرسول، هذا ما يجعلنا نضع ضوابط محددة قبل البدء في تقليب النظر في آيات القرآن الكريم التي تتحدث عن الآفاق والأنفس.

ضوابط في مبحث الإعجاز العلمي وتفسير الآيات الكونية في القرآن الكريم

ضوابط في مبحث الإعجاز العلمي وتفسير الآيات الكونية في القرآن الكريم قبل البدء ببحث الآيات الكونية ينبغي أن نضع نصب أعيننا الضوابط التالية: 1 - القرآن كتاب هداية: إن القرآن الكريم كتاب هداية، هداية الناس إلى بارئهم للقيام بالدور الذي أوكل إليهم في خلافة الأرض ولأداء المهمة التي خلقوا من أجلها: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ 56 ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ 57 إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ 58 [الذاريات: 56 - 58]. وقد سلك القرآن الكريم جميع الأساليب والمسالك العقلية والفطرية لحمل الإنسان على هذا الهدف فلفت الأنظار من أجل ذلك إلى الكون المحيط بأفلاكه وكواكبه وليله ونهاره وسهوله وجباله وبحاره وأنهاره وسحبه وأمطاره ونباته وأشجاره. ولفت النظر كذلك إلى أعماق النفس الإنسانية بعواطفها ومشاعرها وطاقاتها وقدراتها وإمكانات جوارحها، وارتفاعها أو إخلادها إلى الأرض. وشد الانتباه إلى ما يحيط بالإنسان مما هو مسخّر له لخدمته وتيسير المشقّات عليه من الحيوان والنبات والجماد ... فينبغي أن تبقى الدراسات القرآنية المتعلقة بالآيات الكونية في حدود هذا الغرض، ولا تؤثر على الهدف الأساسي للقرآن الكريم. 2 - ترك الإفراط والتفريط: عدم التفريط في البحث في الآيات الكونية، وبشرط التقيد بالمنهج القرآني وعدم تحميل النصوص ما لا تحتمل، فلا ينبغي أن تهمل

3 - مرونة الأسلوب القرآني

التوجيهات بصدد ما في الكون المسخر لمصلحة الإنسان فإن أهملنا فقد فرطنا في مئات الآيات التي تشدّنا إليها شدا. إلا أن هذا الشد وهذا التنبيه ينبغي أن نقف عند حدوده فلا نتجاوزه إلى البحث عن دقائق خصائص هذه الأمور الكونية أو الإنسانية أو الحيوانية أو النباتية، فنفصل القول في ذلك ونجعل تفاسير القرآن وكأنها كتب لهذه العلوم المختصة ولا نترك شاردة ولا واردة ولا نظرة مستحدثة إلا ونربطها بتفسير الآية الكريمة. إن هذا العمل يخرجنا عن حدّ الاعتدال، كما يخرج القرآن الكريم والتفسير- الذي هو بذل الجهد في بيان مراد الله من الآية- يخرج كل ذلك عن الهدف الأساسي وهو أن القرآن الكريم كتاب هداية، وأن تفاسيرنا ينبغي أن تكون لشرح وبيان الأساليب المستخدمة لتحقيق هذه الهداية. 3 - مرونة الأسلوب القرآني: الأسلوب القرآني في الآيات مرن يقبل وجوها في التأويل فينبغي أن يكون معلوما لدينا أن القرآن الكريم عند ما يعرض القضايا الكونية أو الجوانب المادية أو المعنوية في الإنسان أو ما يحيط به، يستعمل أسلوبا مرنا يقبل وجوها للتأويل. فعند إرادة فهم الكلمة القرآنية أو العبارة القرآنية لا بد من الرجوع إلى دلالات الكلمة الحقيقية والمجازية، واستعمالاتها في اللغة العربية، لتكون المعاني التي تحتملها الكلمة واضحة في الذهن عند الإقدام على تفسيرها في هذا المجال. 4 - الحقائق العلمية مناط الاستدلال: الاقتصار على الحقائق العلمية في صدد تفسير الآيات بأن نبعد عن الساحة الفرضيات والنظريات العلمية التي لم تصل إلى درجة الحقيقة العلمية، وينبغي عدم ذكر النظريات ولو من باب الاستئناس بها، لأن ربط نظرية قابلة للتغيّر والإبطال بتفسير آية قرآنية يورث شعورا معينا لدى القراء، وفي حال ظهور بطلان هذه النظرية فلن يسلم الفهم الخاص بالآية من

5 - عدم حصر دلالة الآية على الحقيقة الواحدة

تشويش واهتزاز، وكلام الله سبحانه وتعالى منزه عن أن يطرأ عليه مثل ذلك، ومن هنا كان خطأ بعض المفسرين الذين ذكروا الروايات الإسرائيلية- التي تدخل تحت نص: «حدّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج» - عند ما وضعوها في تفاسيرهم وقرنوها بالآيات الدالة على ما هو قريب منها، حتى أصبح الناس ينظرون إليها على أنها تفسير للآية لا محيد عنه. ثم ظهر بطلان كثير من هذه الروايات ومناقضتها للحقائق التاريخية والكونية والفلكية مما هزّ ثقة الناس بالتفسير بالمأثور. 5 - عدم حصر دلالة الآية على الحقيقة الواحدة: عند إحاطتنا بدلالات الكلمة اللغوية الحقيقة والمجازية واستعمالات العرب لها، إن وجدنا أن حقيقة علمية تؤيد إحدى هذه الدلالات، لا بأس عندئذ أن نرجح الدلالة التي أيدتها الحقيقة العلمية على أن لا نحكم بالبطلان والفساد على الدلالة التي رجحناها من جهة أخرى، فقد تكون الحقيقة العلمية التي رجحنا على ضوئها هذه الدلالة إحدى وجوه دلالات الآية، وظلالها ممتدّة إلى حقائق أخرى لم نتمكن من التوصل إليها حسب ثقافة عصرنا، إلا أن التقدم العلمي والحضاري كفيل أن يميط اللثام لنا عن جوانب أخرى. فمثلا قوله تعالى: بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ 4 [القيامة: 4]. كان إلى ما يقرب من مائة سنة ينظر إلى دلالة (تسوية البنان) نظرة تختلف عن نظرتنا لها الآن بعد معرفة قضية البصمات، إلا أننا لا نبطل كلام السلف في معنى الآية، فالآية تدل على ما قالوه وما فهموه. والشعور الذي استقر في نفوسهم عن أن هنالك حكمة عظيمة في خلق البنان وتسويته على هذه الشاكلة شعور مرهف وصحيح، وإن كان فهمنا الآن لدلالة الآية على ضوء معطيات العلم الحديث أعمق وأدل، وكذلك فإن شعورنا في دقة صنعة الخالق سبحانه وتعالى وحكمته سليم

6 - استحالة التصادم بين الحقائق القرآنية والحقائق العلمية

وصحيح. ومع ذلك فإننا لا نستطيع أن نقول: إن معنى الآية هو هذا فحسب، وليس بعد فهمنا لها فهم آخر، بل قد يكشف لنا المستقبل عن أسرار إلهية في البنان فوق ما تصورناه ووصلت إليه مداركنا العصرية، وتبقى الآية الكريمة مجال بحث الباحثين واستنباط المفكرين وبصمة إعجاز على جبين العصور بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ 4. 6 - استحالة التصادم بين الحقائق القرآنية والحقائق العلمية: يستحيل التصادم بين الحقائق القرآنية وبين الحقائق العلمية لأنهما من مشكاة واحدة. وينبغي أن يكون من المسلّمات في أذهاننا أن الحقائق القرآنية المتعلقة بأيّ جانب من جوانب الكون أو الإنسان والحيوان والنبات- إذا كانت قطعية الدلالة- لا يمكن أن تصادمها حقيقة علمية توصّل الجهد البشري إليها بناء على جهود المختصين خلال التاريخ الحضاري للبشرية. وما يثيره بعض الناس من توهم بوجود تناقض فهو سوء فهم للحقيقة القرآنية بأن يتوهمها قطعية الدلالة ولا تكون كذلك، أو سوء فهم للحقيقة العلمية بأن يظنها حقيقة علمية وهي لا تزال في طور النظرية. ونحن نقول جازمين باستحالة وقوع مثل هذا التناقض، لأننا نؤمن بأن القرآن منزل من خالق السماوات والأرض وواضع سننه ومدبّر شئونه وأن الحقائق العلمية التي تكتشف هي من صنعه ووضعه في الكون، ولا يليق بحكمة الحكيم الخبير أن يخلق شيئا على هيئة معينة ثم يخبرنا بخلافها، حاشاه سبحانه وتعالى عن ذلك علوّا كبيرا أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ 14 [الملك: 14]، قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً 6 [الفرقان: 6]. 7 - اتباع المنهج القرآني في طلب المعرفة: من البر والحكمة سلوك سبل الأسباب للوصول إلى حقائق المعرفة «دخول البيوت من أبوابها» وعدم تعجل النتائج بأن نعلم أن الأمور مرهونة

بأوقاتها وأن خير مفسر للقرآن الزمن، وأن نضع نصب أعيننا قوله تعالى وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [البقرة: 189]، فإنه التوجيه القرآني لسلوك المنهج الذي ينبغي أن يسلك في هذه المجالات. وبما أن أمور الكون قائمة على سنن خلقها الله سبحانه وتعالى، وسيّر الكون بموجبها، فإن من تعرّف على هذه السنن أمكنه تسخيرها لمصالحه والإفادة منها في تيسير سبل العيش وإحراز التقدم المادي، بغضّ النظر عن معتقده وسلوكه، وذلك بمقدار ما يشاء الله ويخص بذلك من يريد. وهذه سنة الله في أمور الحياة الدنيا، فهي تعطى لمن أحبه الله ولمن لم يحبه، أما الآخرة والهدايات الربانية فلا تعطى إلا لمن يحبه الله. وإلى مثل هذا تشير الآيات الكريمة: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً 18 وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً 19 كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً 20 [الإسراء: 18 - 20].

بدء الكون ومصيره

بدء الكون ومصيره يقول تعالى:* قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (11) فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [فصلت: 9 - 12]. في الآيات الكريمة إشارة إلى ثلاث حقائق كونية: 1 - خلق الأرض وتقدير الأقوات فيها في أربعة أيام قبل السماء. 2 - أصل الكون المادي من الدخان. 3 - الدورات التكوينية للأرض والسماء ومجموعها ستة أيام. إن العلوم الفضائية والعلوم الطبيعية لا زالت تحبو للتعرف على أصل الكون ونشأته والمادة الأولية التي تتكوّن منها الأجرام السماوية وطريقة تشكيلها. ولقد درسوا مليّا ما يقع على الكرة الأرضية من خارج مجالها من النيازك (¬1) والأتربة الكونية وما حصلوا عليه أخيرا من قطع من سطح القمر. ¬

_ (¬1) النيزك: كتلة صلبة تخترق الغلاف الجوي وتصل الأرض، أما الكتل التي تحترق في الغلاف الجوي للأرض بفعل الحرارة الناتجة عن دخول الغلاف الجوي فتسمى (شهبا). وقد أمكن للآن التعرف على مائة نيزك أما الشهب فهي كثيرة جدا تشاهد كل ليلة. «من روائع الإعجاز». د. جمال الدين الفندي، ص 52.

كل ذلك يؤكد وحدة أصل الكون المادي. وأصبح ذلك حقيقة علمية عندهم ولكنهم لم يستطيعوا تحديد الحالة الأولية لهذه المواد التي كانت عليها قبل تجمّعها في مجموعات من النجوم والكواكب والمجرّات ولن يستطيعوا ذلك إلا ظنا وتخمينا. يقول تعالى:* ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً (51) [الكهف: 51]. وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا الأصل الموحد وساق حقائق كونية في غاية الوضوح، يقول تعالى: أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ (30) وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31) وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ [الأنبياء: 30 - 32]. ويفصل في آيات أخرى مراحل الخلق والتكوين، فيقول جلّ جلاله: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (11). لم يصل العلم الحديث للآن إلى معرفة أصل الوجود المادي للكون على الرغم من توصل العلم إلى نجاحات كبيرة في المسائل التطبيقية والاستفادة من دراسة خصائص المادة واستخدام الطاقات الكونية المختلفة. فنحن نعرف طرقا شتى لاستخدام الكهرباء في التدفئة والعلاج والإنارة وإدارة الآلات وتسيير القاطرات والسيارات وغير ذلك من الاستخدامات إلا أننا لا نعرف تماما ما هي الكهرباء. وقل مثل ذلك في الضوء والحرارة .. فنطلق على كل ذلك لفظا مبهما هو الطاقة التي أودعت بين ثنايا الكون وأرجائه المختلفة. «ويمكن أن يتحول بعضها إلى بعض، إلا أنه لا يمكن خلقها أو استحداثها من العدم». وعلى الرغم من محاولة العلم الحديث التعرف على اللبنات الأولى

التي ينبني عليها الكون المادي ومحاولة التعرف على الذرة، إلا أنه لم يخرج بطائل من دراسته هذه يقول العلم الحديث: قوام الذرات جسيمات متناهية في الصغر تتشابه في جميع ذرات العناصر المختلفة، ويتوقف على عددها وترتيبها داخل كل ذرة- بالإضافة إلى النواة- نوع المادة أو العنصر، وأبسط الذرات تركيبا على الإطلاق ذرة الإيدروجين وهو الغاز المعروف باسم الغاز الكوني، أو الغاز الذي خلقت منه الأجرام السماوية وتطورت عنه داخل الشموس والنجوم سائر المواد المعروفة. وقد كان المعتقد إلى عهد ليس ببعيد بين جمهرة العلماء أنّ الذرة غير قابلة للتجزئة إلى جسيماتها أو طاقاتها الأولية ... ولكن لما عرفت وسائل تحطيم الذرة في هذا العصر أمكن الجزم بإمكان اقتسام الذرة وانطلاق طاقات عظمى مما يدّخر بين ثناياها، أساسها الطاقة التي استخدمت في الأصل في ربط جسيماتها الأولية، فهل هذا الغاز الكوني هو الدخان الذي شكل أصل التكوين المادي أو أن المراد بالدخان هي تلك السدم الغازية الملتهبة التي تتجمع في ساحات هائلة من الكون تشكل نجوما أو مجموعات منها؟. والأمر الآخر في آيات «فصّلت» هو خلق الأرض ووضع البركة فيها وتقدير الأقوات في أربعة أيام، كل ذلك قبل تشكيل السماء وجعلها سبع سماوات. وهذه الحقيقة لا يستطيع العلم البشري أن يصل إليها إلا من طريق الوحي من خالق السماوات والأرض، لأن وسائل البشر محدودة فلا يستطيع أن يخترق بوسائله المادية حجب غيب الماضي ليعرف تكوين الأجرام الكونية والسابق منها عن اللاحق. وهنا لا بد من الإشارة إلى آيات سورة «النازعات» فقد يفهم بعضهم أنها تتعارض مع آيات سورة «فصلت». وقد ثار هذا الإشكال في عصر الصحابة رضوان الله عليهم:

في صحيح البخاري قال .. وقال المنهال عن سعيد بن جبير قال: قال رجل لابن عباس رضي الله عنهما إني لأجد في القرآن أشياء تختلف عليّ، قال: فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ، وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (27)، وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ فقد كتموا في هذه الآية، وقال تعالى: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها (27) إلى قوله تعالى: وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (30) فذكر خلق السماء قبل الأرض ثم قال تعالى: قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ إلى قول: طائِعِينَ فذكر في هذه خلق الأرض قبل خلق السماء، قال: وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً عَزِيزاً حَكِيماً، سَمِيعاً بَصِيراً فكأنه كان ثم مضى. فقال ابن عباس رضي الله عنهما: فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ في النفخة الأولى وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ وفي النفخة الأخرى وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ، وأما قوله: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً فإن الله تعالى يغفر لأهل الإخلاص ذنوبهم فيقول المشركون تعالوا نقول لم نكن مشركين فيختم على أفواههم فتنطق أيديهم فعند ذلك يعرف أن الله تعالى لا يكتم حديثا وعنده يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا ... الآية. وخلق الأرض في يومين ثم خلق السماء ثم استوى إلى السماء فسواهن في يومين آخرين، ثم دحى الأرض ودحيها أن أخرج منها الماء والمرعى وخلق الجبال والرمال والجماد والآكام وما بينهما في يومين آخرين، فذلك قوله تعالى: دَحاها، وقوله: خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ. فخلق الأرض وما فيها من شيء في أربعة أيام وخلق السماوات في يومين. وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً سمى نفسه بذلك وذلك قوله: أي لم يزل كذلك فإن الله تعالى لم يرد شيئا إلا أصاب به الذي أراد. فلا يختلفن عليك القرآن فإن كلا من عند الله عزّ وجلّ (¬1). ¬

_ (¬1) صحيح البخاري كتاب التفسير 6/ 35.

يقول ابن كثير: (فأما خلق الأرض فقبل خلق السماء بالنص. وفي قوله تعالى: وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (30) أن دحو الأرض كان بعد خلق السماء، فالدحو، هو مفسر بقوله: أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها). أما الحقيقة الثالثة في آيات سورة «فصلت» فهي الدورات التكوينية للأرض والسماء ومجموعها ستة أيام. وقد اختلف المفسرون قديما في مقدار اليوم المقصود في الآيات الكريمة، فاليوم الاصطلاحي الذي ترتبط به الأحكام التكليفية من الصوم والصلاة والعدة وغير ذلك هو من مطلع الفجر أو الشمس إلى غروبها. إلا أن هذه المدة الزمنية المعيّنة لا تقدّر بهذا المقدار إلا بعد وجود الأرض والشمس ووجود دوراتهما في أفلاكهما. والحديث هنا عن خلق الأرض والسماء، فكيف تقدر قبل وجودهما؟!. هذا ما دفع بعض المفسرين للذهاب إلى تقدير تلك الأيام بفترات زمنية تتناسب مع أدوار التكوين. فعن مجاهد: يوم من الستة الأيام كألف سنة مما تعدّون. وهو يشير إلى قوله تعالى: وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [الحج: 47]. وجاء في سورة المعارج قوله تعالى: تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) [المعارج: 4]. وفي سورة السجدة يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5) [السجدة: 5]. ويذهب علماء الفلك المعاصرون إلى ما يطلقون عليه (النسبية الزمنية) وأن لكل كوكب وحداته الزمنية الخاصة به، وذلك يقدر بالنسبة لسبحها في الفضاء ودورانها في أفلاكها (¬1). ¬

_ (¬1) - يوم القمر نحو (30) يوما وهو مقدار دورته حول الأرض. - يوم الزهرة حوالي (30) يوما تقريبا من أيام الأرض أما دورتها حول الشمس فسبعة أشهر ونصف. - يوم عطارد (88) يوما من أيام الأرض أي بمقدار طول سنته فهو يتم دورته حول

وإطلاق القرآن الكريم اسم اليوم على مقدار ألف سنة تارة وخمسين ألف سنة تارة أخرى يشير إلى مفهوم النسبية هذا. هذا ما جعل الباحثين في أصل تكوين الأجرام السماوية يطلقون اصطلاح الدورات التكوينية. فالدور الأول: كون الأرض مع السماء رتقا، ودور انفصال الأرض عن السماء هو الثاني، والدور الثالث والرابع هما دور تهيئة الأرض للحياة بإرساء الجبال فيها وتقدير الأقوات، وخلق الحياة. إلا أن تقدير هذه الدورات بالمدد الزمنية تتفاوت أقوالهم فيها، وهم في ذلك يتّبعون الظن وما هم بمستيقنين. يتساءل بعضهم: (هل يمكن أن يصل العلم إلى الزمن المحدّد الصحيح المؤكّد لخلق الأرض؟ هذا مستحيل .. فالتوقيت الزمني الذي خلقت فيه الأرض لا يوجد ما يدل عليه إطلاقا، وإذا وصل العلم إلى التوقيت السليم فسيكون هو الأقرب إلى الصحيح اجتهادا. وهل يمكن أن يصل العلم إلى الطريقة التي خلقت فيها الأرض، والأزمنة الصحيحة التي تطورت فيها منذ كانت دخانا إلى أن أصبحت صالحة لإقامة الإنسان؟ وكذلك بالنسبة للإنسان وخلقه .. والسماء وخلقها وما فيها ... ). فطالما أن الإنسان- أي إنسان- لم يشهد خلق السماوات والأرض وكذلك لم يشهد خلق نفسه ولا خلق غيره فكيف يعرف الحقيقة إذن؟ وصدق الله العظيم:* ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً (51) [الكهف: 51]. ¬

_ الشمس وحول محوره في مدة واحدة. - يوم الشمس أطول من ثلاثة أسابيع عند خط استواء الشمس 25 يوما وعند القطبين أكثر من شهر. - يوم المريخ يزيد عن يوم الأرض بمقدار سبع وثلاثين دقيقة.

السماء

السماء يقول الله تعالى: وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) [الذاريات: 47]. إن بناء الكون المادي المترامي الأطراف المشتمل على بلايين المجرات التي تحتوي كلّ مجرة منها بلايين الشموس والنجوم وما يتبع كل شمس أو نجم من كواكب وأقمار، وكل ذلك إلى جانب ما يعجّ به الفضاء من طاقات وإشعاعات مختلفة القدر والصفات، وقد اتسعت له مقدرة الخالق عزّ وجلّ، ولديه أكثر وأكثر يضاف إلى ذلك، إنا لموسعون السماء حين خلقنا الكون ابتداء على اتساع لا نهاية له، ولذلك فهو يتسع لكل المجرات مهما تباعدت عن بعضها بعضا. ومن الوجهة العلمية لم يثبت حجم الكون على حال منذ راح العلماء يقيسون أبعاده. ولقد جعل العلماء للنجوم أقدارا بحسب درجات بريقها أو لمعانه، وعدد النجوم التي يمكن أن ترى في القبة السماوية وتلمع بدرجات متفاوتة القدر بالنسبة للعين المجردة لا تزيد عن نحو ستة آلاف نجم تقريبا. وعند ما استخدمت المناظير الفلكية المكبّرة صوّر الفلكيون مجرّتنا وحدها على هيئة قرص أو عدسة، تقع شمسنا على بعد 30 ألف سنة ضوئية من مركزها، ويبلغ قطرها نحو مائة ألف سنة ضوئية، أما سمكها فيبلغ زهاء ستة آلاف سنة ضوئية (¬1). ¬

_ (¬1) «القرآن والعلم»، د. جمال الدين الفندي، ص 213 مختصرا.

السماوات والأرض

السماوات والأرض ويقول تعالى: اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) [الرعد: 2 - 3]. ويقول تعالى: خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) هذا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي ماذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (11) [لقمان: 10 - 11]. الحقيقة الواردة في الآيتين في «الرعد» و «لقمان» حول السماء هو ذكر العمد، وذكر المفسرون تأويلين للآيات: - فمنهم من أثبت أن للسماوات أعمدة إلا أنها لا ترى. فمعنى الآية: الله الذي رفع السماوات- بغير عمد مرئية- وذلك بجعل جملة (ترونها) صفة ل (عمد) والضمير يعود إلى عمد. - ومنهم من ذهب إلى أن ليس للسماوات عمد أصلا، ويكون معنى الآية: الله الذي رفع السماوات كما ترونها، بغير عمد، وذلك بجعل جملة (ترونها) حالا من السماوات ويعود الضمير إلى السماوات. ويميل علماء الفلك المعاصرون إلى التأويل الأول فيقولون: إن الأجرام السماوية كلها قد بناها الخالق سبحانه وتعالى وجعل كل جرم فيه

بمثابة لبنة من بناء شامخ، ورفع هذه الأجرام كلها بعضها فوق بعض بقوى هي نوع القوة الطاردة المركزية، كما ربطها في نفس الوقت برباط الجاذبية العالية، والجاذبية تتعادل مع القوى الطاردة المركزية الناجمة عن الدوران في مسارات شبه دائرية أو قطاعات ناقصة، وهي بمثابة الأعمدة المقامة بالفعل. ورغم أننا لا نبصرها بأعيننا إلا أن ذلك لا يعني أن تلك الأعمدة غير موجودة بحال من الأحوال، فنحن نستطيع أن نتصورها في مجال كل جسم مادي وربما إذا منح شخص منا حاسة أخرى زيادة على ما لدينا من حواس يستطيع ذلك الشخص أن يرى تلك الأعمدة أو يحسبها تماما كما ندرك بحواسنا العادية أيّ جسم مادي عادي (¬1). ¬

_ (¬1) «القرآن والعلم»، د. جمال الدين الفندي، ص 228، ط دار المعرفة، رئيس قسم الفلك وأستاذ الطبيعة الجوية بجامعة القاهرة.

الأرض

الأرض جاءت آيات كثيرة في القرآن الكريم تتحدث عن الأرض خصائصها ومزاياها مبدأ خلقها ونهايتها. يقول تعالى: خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5) [الزمر: 5]. في «مفردات الراغب» في مادة (كور) (¬1)؛ كور الشيء: إدارته وضمّ بعضه إلى بعض ككور العمامة، وقوله تعالى: يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ فإشارة إلى جريان الشمس في مطالعها وانتقاص الليل والنهار وازديادهما. وفي «لسان العرب» (¬2): وتكوير الليل والنهار: أن يلحق أحدهما بالآخر، وقيل تكوير الليل والنهار تغشية كل واحد منهما صاحبه، وقيل: إدخال كل واحد منهما في صاحبه، والمعاني متقاربة. وفي «الصحاح»: وتكوير الليل على النهار تغشيته إياه، ويقال زيادته في هذا من ذلك. وفي التنزيل العزيز: يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل، أي يدخل هذا على هذا وأصله من تكوير العمامة وهو لفها وجمعها. وكوّرت الشمس جمع ضوؤها ولفّ كما تلفّ العمامة، وقيل معنى كوّرت غوّرت. ¬

_ (¬1) ص 665. (¬2). 5/ 156.

يقول سيد قطب (¬1) عند تفسير هذه الآية: يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ: (وهو تعبير عجيب يقسر الناظر فيه قسرا على الالتفات إلى ما كشف حديثا عن كروية الأرض، ومع أنني في هذه الظلال حريص على ألّا أحمل القرآن على النظريات التي يكشفها الإنسان لأنها نظريات تخطئ وتصيب وتثبت اليوم وتبطل غدا، والقرآن حق ثابت يحمل آية صدقه في ذاته ولا يستمدها من موافقة أو مخالفة لما يكشفه البشر الضعاف المهازيل. مع هذا الحرص فإن هذا التعبير يقسرني قسرا على النظر في موضوع كروية الأرض، فهو يصوّر حقيقة مادية ملحوظة على وجه الأرض، فالأرض الكروية تدور حول نفسها في مواجهة الشمس. فالجزء الذي يواجه الشمس من سطحها المكوّر يغمره الضوء ويكون نهارا، ولكن هذا الجزء لا يثبت لأن الأرض تدور وكلما تحركت بدأ الليل يغمر السطح الذي كان عليه النهار، وهذا السطح مكوّر فالنهار كان عليه مكورا والليل يتبعه مكورا. وكذلك وبعد فترة يبدأ النهار من الناحية الأخرى يتكور على الليل، وهكذا في حركة دائبة: يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل ... واللفظ يرسم الشكل ويحدد الوضع، ويعين نوع طبيعة الأرض وحركتها، وكروية الأرض ودورانها يفسران هذا التعبير تفسيرا أدق من أي تفسير آخر لا يستصحب هذه النظرية اهـ. ولقد توصل علماء الفلك في العصر الحديث إلى حقائق علمية دقيقة حول دورات الأرض في المجموعة الشمسية منها: أ- تدور الأرض حول نفسها بسرعة ألف ميل في الساعة ومن هذه الدورة يتولد الليل والنهار. ب- تدور الأرض حول الشمس بسرعة خمسة وستين ألف ميل في ¬

_ (¬1) «في ظلال القرآن» 6/ 3038.

الساعة وتتولد من هذه الدورة الفصول الأربعة، وهي تميل أثناء دورانها حول الشمس بمقدار 5، 23 لتوزيع الفصول (¬1). ج- وتسير الأرض مع المجموعة الشمسية كلها بمعدل عشرين ألف ميل في الساعة نحو برج الجبار، ولم يتوصل العلم الحديث إلى الآن إلى ما يترتب على هذه المسيرة من أوضاع وهيئات، ولا بد أن له ارتباطا بنظام الكون بشكل ما (¬2). فسبحان القائل: تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً (61) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً (62) [الفرقان: 61، 62]. الأرض: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً (25) أَحْياءً وَأَمْواتاً (26) وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً (27) [المرسلات: 25 - 27]. في «مفردات الراغب»: كفت: الكفت: القبض والجمع. قال تعالى: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً (25) أَحْياءً وَأَمْواتاً. وقيل معناه: تضم الأحياء التي هي الإنسان والحيوان والنبات، والأموات التي هي الجمادات من الأرض والماء وغير ذلك. ¬

_ (¬1) يرى بعض الباحثين المعاصرين في قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا (45) ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً (46) [الفرقان: 45 - 46]، إشارة إلى دورة الأرض حول نفسها وحول الشمس وقبض الظل حين ميل الأرض أثناء دورانها بالمقدار المذكور لتتولد الفصول الأربعة. انظر في ذلك: القرآن وإعجازه العلمي لمحمد إسماعيل إبراهيم ص 82، ط دار الفكر العربي. (¬2) للمزيد من معرفة هذه الحقائق انظر كتاب: الكون والإعجاز العلمي للقرآن للدكتور منصور حسب النبي ص 157 وما بعدها، ط. دار الفكر العربي. وكتاب الطبيعيات والإعجاز العلمي للقرآن الكريم للدكتور عبد العليم عبد الرحمن خضر ص 113، وما بعدها ط الدار السعودية للنشر.

والكفات: قيل هو الطيران السريع وحقيقته قبض الجناح للطيران. والكفت: (السوق الشديد) (¬1). وفي «لسان العرب» لابن منظور: (الكفت: صرفك الشيء عن وجهه. وكفت يكفت كفتا وكفاتا: أسرع في العدو والطيران وتقبض فيه .. وفرس كفت سريع .... وعدو كفيت: أي سريع) (¬2). وقال الجوهري: (الكفت: السوق الشديد. والكفات: الموضع الذي يضم فيه الشيء ويقبض .. وفي التنزيل العزيز: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً (25) أَحْياءً وَأَمْواتاً قال ابن سيده: هذا قول أهل اللغة، قال: وعندي أن الكفات هنا مصدر من كفت إذا ضم وقبض، وأن أحياء وأمواتا منتصب به أي ذات كفات للأحياء والأموات، وكفات الأرض ظهرها للأحياء وبطنها للأموات، ومنه قولهم للمنازل: كفات الأحياء وللمقابر كفات الأموات .. وفي الحديث: «نهينا أن نكفت الثياب في الصلاة» أي نضمها ونجمعها من الانتشار، يريد جمع الثوب باليدين عند الركوع والسجود. وهذا جراب كفيت إذا كان لا يضيع شيئا مما جعل فيه ... ). هذا هو أدق وصف وأجمعه لواقع الأرض فهي كرة كفات من حيث الجريان والسرعة مسوقة بقدرة إلهية في مدارها، وفي نفس الوقت تضم سكانها على ظهرها في حال الحياة والموت. وفي تسلسل الحديث: من ذكر خلق الإنسان في الرحم- القرار المكين الذي يضم الإنسان في مراحله الأولى في النشأة والتكوين- وهو الشكل الكمّثرى الهيئة، وقد جعله قرارا مكينا للجنين بشدّه بتلك الأربطة ¬

_ (¬1) «المفردات في غريب القرآن» للراغب الأصفهاني، ص 652. (¬2). 2/ 87، 79.

من العضلات وجعل مستنده الحوض المحاط من أغلب جهاته بجدران الحوض المقعّر، وهيأ له وسائل التغذية والراحة لمدة معلومة إلى قدر محدد محسوب عند القادر ونعم القادر. ثم عقب ذلك بضم الكرة الأرضية لهم أحياء وأمواتا تكفت بهم وتسرع في مجراها تضمهم على ظهورها أحياء وفي بطنها أمواتا، وهي محتفظة بهم في كلتا الحالين فلا تقذف بهم بعيدا. ووسائل حفظ الأشلاء موجودة في الأرض إلى يوم الوقت المعلوم. إنها مناسبات معبّرة دقيقة في ذكر المستقر لكل طور من الطورين: أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ (21) إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ (23) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً (25) أَحْياءً وَأَمْواتاً (26) وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً (27) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ. الأرض: يقول جل جلاله: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها (27) رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (30) أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها (31) وَالْجِبالَ أَرْساها (32) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (33) [النازعات: 27 - 33]. ويقول تعالى: وَالشَّمْسِ وَضُحاها (1) وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها (2) وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها (3) وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها (4) وَالسَّماءِ وَما بَناها (5) وَالْأَرْضِ وَما طَحاها (6) [الشمس: 1 - 6]. وهنا كلمتان معبرتان تتعلقان بالأرض وهما كلمتا (دحاها، وطحاها). فلننظر إلى دلالات الكلمتين في قواميس اللغة ثم نتدبر ما يقوله العلم الحديث. في «مفردات الراغب» (¬1): (دحاها، قال تعالى: ¬

_ (¬1) ص 239.

وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (30) أي أزالها عن مقرها، وكقوله: يوم ترجف الأرض والجبال، وهو من قولهم: دحا المطر الحصا من وجه الأرض أي جرفها. ومر الفرس يدحو: إذا جريده على وجه الأرض فيدحو ترابها). وفي «لسان العرب» (¬1) لابن منظور: (دحاها: الدحو: البسط. دحا الأرض يدحوها دحوا: بسطها. وقال الفرّاء في قوله عزّ وجلّ: وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (30) قال: بسطها. وقال شمر: دحا الأرض: أوسعها. وفي حديث علي وصلاته رضي الله عنه: اللهم داحي المدحوات، يعنى باسط الأرض موسعها. والأدحية: مبيض النعام في الرمل، لأن النعامة تدحوه برجلها ثم تبيض فيه. وفي حديث ابن عمر: فدحا السيل فيه بالبطحاء أي رمى وألقى. وقال ابن الأعرابي: يقال: هو يدحو الحجر بيده أي يرمي به بيده ويدفعه، قال: والداحي الذي يدحو الحجر بيده، ... ودحا المطر الحصى عن وجه الأرض دحوا: نزعه. وفي حديث أبي رافع: كنت ألاعب الحسن والحسين رضوان الله عليهما بالمداحي، هي أحجار أمثال القرصة، كانوا يحفرون حفرة ويدحون فيها بتلك الأحجار، فإن وقع الحجر فيها غلب صاحبها، وإن لم يقع غلب، والدحو: هو رمي اللاعب بالحجر والجوز وغيره. قال شمر: المدحاة لعبة يلعب بها أهل مكة، قال: وسمعت الأسدي ¬

_ (¬1). 14/ 251 وما بعدها.

يصفها ويقول: هي أحجار أمثال القرصة وقد حفروا حفرة بقدر ذلك الحجر فينتحون قليلا، ثم يدحون بتلك الأحجار إلى تلك الحفرة، فإن وقع فيها الحجر فقد قمر وإلا فقد قمر). وأما كلمة «طحاها»: ففي «مفردات الراغب»: الطحو كالدحو، وهو بسط الشيء والذهاب به، قال تعالى: وَالْأَرْضِ وَما طَحاها (6) قال الشاعر: طحا بك قلب في الحسان طروب: أي ذهب. وفي «لسان العرب» تدور المادة كلها حول البسط والامتداد والذهاب، وبعضهم جعلها مثل الدحو. ولو رجعنا إلى ما يقوله العلم الحديث في فلك الأرض وواقعه لوجدنا أن أدق وصف وأبلغه يتضمن في وصف الأرض بالدحو. فالدحو وفق الاستعمال اللغوي يتضمن دفعا من الداحي وحركتين للمدحو إحداهما على خط مسار ما، والأخرى حركة دورانية حول نفسه. والأرض كرة مدحوة في الفضاء ذات حركتين: حركة في مسار دائري حول الشمس، وحركة حول نفسها .. وتعقيب الدحو بإخراج الماء والمرعى، وهي من مستلزمات دحو الأرض فلو لم يكن دوران الأرض حول نفسها لما وجد الليل والنهار، ولو لم يكن دورانها حول الشمس لما وجدت الفصول، فنتيجة الدحو كان أن تهيأت لإخراج الماء والمرعى وبالتالي وجود الحياة عليها.

الشمس والقمر

الشمس والقمر وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً (16) [نوح: 16]. تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً (61) [الفرقان: 61]. هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً [يونس: 5]. وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلًا (12) [الإسراء: 12]. إن الآيات الكريمة تفرق بدقة متناهية بين صفة كل من الشمس والقمر، ووظيفة كل منهما، فالشمس سراج وهاج يعطي الضوء من ذاته .. والقمر كالمرآة التي تعكس الضوء الساقط على سطحها نورا يبدد به الظلام. يقول العلم الحديث في هذا التفريق بين الجرمين السماويين: تبلغ حرارة سطح الشمس ستة آلاف درجة مئوية، وحرارة جوفها تصل إلى 20 مليون درجة مئوية. وألسنة اللهب ترتفع عن سطحها إلى نصف مليون كيلومتر ناثرة في الفضاء طاقة تساوي 400، 167 حصان من كل متر مربع، لا يصل منها للأرض سوى جزء من مليون جزء (¬1). ¬

_ (¬1) «النجوم في مسالكها» للدكتور أحمد الكرداني نقلا عن «وجوه من الإعجاز القرآني» لمصطفى الدباغ.

أما القمر فقد تجلت الأسرار وزالت الأستار عن وجهه بعد نزول الإنسان عليه فهو كوكب هامد جامد لا أثر للماء والحياة فيه وهو يعكس ضوء الشمس الذي يقع عليه ليعيده إلى الكرة الأرضية ثانية. الشمس والقمر: الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ (5) [الرحمن: 5]. يتبادر إلى الذهن أنهما جعلا لإدراك حساباتنا بهما كما جاء في قوله تعالى: وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ [الإسراء: 12]. ولكن هناك حسبان يتعلق بذات الشمس والقمر. (إن الشمس هي أهم نجم بالنسبة لنا- نحن سكان الكوكب الأرضي الصغير الذي يعيش هو وسكانه جميعا على ضوء الشمس وحرارتها وجاذبيتها- وكذلك القمر وهو تابع صغير للأرض ولكنه ذو أثر قوي في حياتها وهو العامل الأهم في حركة الجزر والمدّ في البحار. وحجم الشمس، ودرجة حرارتها، وبعدها عنا وسيرها في فلكها، كل ذلك بحسبان، وكذلك حجم القمر وبعده ودورته، كلها محسوبة حسابا كامل الدقة بالقياس إلى آثارهما في حياة الأرض، وبالقياس إلى وضعهما في الفضاء مع النجوم والكواكب الأخرى. إن الشمس تبعد عن الأرض حوالي 93 مليون ميل ولو كانت أقرب إلينا من هذا لاحترقت الأرض وانصهرت أو استحالت بخارا يتصاعد إلى الفضاء. ولو كانت أبعد منا لأصاب التجمد والموت ما على الأرض من حياة إذ الذي يصل إلينا من حرارة الشمس لا يتجاوز جزءا من مليون جزء من حرارتها. وهذا القدر الضئيل هو الذي يلائم حياتنا، ولو كانت الشعرى بضخامتها وبإشعاعها هي التي في مكان الشمس منا لتبخرت الكرة الأرضية، وذهبت بددا.

وكذلك القمر في حجمه وبعده عن الأرض، فلو كان أكبر من هذا لكان المد الذي يحدثه في بحار الأرض كافيا لغمرها بطوفان يعم كل ما عليها وكذلك لو كان أقرب مما وضعه الله بحسبانه الذي لا يخطئ مقدار شعرة. وجاذبية الشمس وجاذبية القمر للأرض لهما حسابهما في وزن وضعها وضبط خطاها في هذا الفضاء الشاسع الرهيب، والذي تجري فيه مجموعتنا الشمسية كلها بسرعة عشرين ألف ميل في الساعة في اتجاه واحد نحو (برج الجبار)، ومع هذا لا تلتقي بأي نجم في طريقه على ملايين السنين (¬1). والأشعة فوق البنفسجية التي تطلقها الشمس يصل منها مقدار بحسبان وهو المقدار الضروري لهذه الحياة على الكرة الأرضية، ولو وصلت كلها إلى الأرض لقضت على الحياة على وجه الأرض، لذلك كان على ارتفاع معين من قشرة الأرض طبقة من الأوزون لا تسمح بالمرور إلا للقدر المعلوم. ¬

_ (¬1) «في ظلال القرآن» 27/ 112، ولفتات علمية من القرآن ص 35.

النجوم

النجوم يقول تعالى:* فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) [الواقعة: 75]. هذه الآية من الآيات التي تظهر إعجاز القرآن الكريم في تقرير حقائق الكون، فلم يكن يدور بخلد أحد عند نزول القرآن أن مواقع النجوم شيء جدير بأن يقسم به الخالق ويقرر عظمته. والحديث عن مواقع النجوم يتناول جانبين: بعدها، منازلها: يقرر العلم الحديث أن أقرب نجم (¬1) إلينا داخل مجرتنا ممثلا في مجموعة النجم (قنطورس) مثلا يبعد عنا بمسافة تقدر بعدد من السنين الضوئية وشمسنا في طرف مجرتنا تبعد آلاف السنين الضوئية عن المركز، حيث تتكدس الشموس والنجوم. وعند ما نخرج إلى خضم الفضاء الفسيح نجد أن أقرب المجرات تبعد عنا بعدة مئات آلاف السنين الضوئية، ويتزايد بعد المجرات الأخرى عنا حتى تصل حدود الكون المرئي على مسافة نحو خمسة آلاف مليون سنة ضوئية. وهكذا نرى أننا نعيش على كوكب يقع شمسه في طرف ذراع مجرة من بين بلايين المجرات التي تقبل إلينا أضواؤها خافتة لشدة بعدها عنا إنها مواقع النجوم التي أقسم الخالق جل شأنه بها وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76). ¬

_ (¬1) اصطلح الفلكيون على التفريق بين النجم والكوكب، فالنجوم والشموس: أجرام سماوية مستعرة ومضيئة بذاتها، أما الكواكب: فهي التي بردت سطوحها كالأرض.

ويقرب أحد الفلكيين أحجام الكواكب والنجوم إلينا بمثال حسي مصغر فيقول: لو أننا أردنا وضع نموذج صغير جدا للكون نجعل فيه الأرض بحجم حبة الخردل فإن القمر سيكون ذرة بحجم ربع حبة الخردل، وعلى مسافة بوصة واحدة ستكون الشمس بحجم التفاحة وبقية الكواكب السيارة ستتباعد وتقترب من حجم الذرة إلى أكبر من ذلك. ومسافاتها عن الشمس تختلف بين عشرة أقدام إلى ربع ميل، هذه المجموعة الشمسية على نموذج نصف ميل، وبعدها لا بد أن تقطع فضاء على هذه النسبة نفسها- مساحته أعرض من قارة أمريكا حتى تستطيع أن ترى جرما سماويا، وهكذا تبتعد النجوم بعضها عن بعض بحيث إن نموذجا مساحته مساحة الكرة الأرضية لا يتسع لأكثر من ثلاثة نجوم على فرض أن حجم الكرة الأرضية فيه بحجم حبة الخردل. فما بالنا بالمساحة التي عليها أن تكفي وتحتوي على مائة مليون نجم مثلا؟! (¬1). وهذا العدد الهائل من النجوم ما يمكن رؤيته بالعين المجردة، وما لا يرى إلا بالمجاهر والأجهزة، وما يمكن أن تحس به الأجهزة دون أن تراه، وكلها تسبح في الفلك الغامض ولا يوجد أي احتمال أن يقترب مجال مغناطيسي لنجم من مجال نجم آخر أو يصطدم بكوكب آخر إلا كما يحتمل تصادم مركب في البحر الأبيض المتوسط بآخر في المحيط الهادي يسيران في اتجاه واحد وبسرعة واحدة، وهو احتمال بعيد وبعيد جدا، إن لم يكن مستحيلا (¬2). هذا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي ماذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (11) [لقمان: 11]. ¬

_ (¬1) «وجوه من الإعجاز القرآني» لمصطفى الدباغ ص 89. (¬2) «الله والعلم الحديث» لعبد الرزاق نوفل، نقلا عن «لفتات علمية من القرآن» ص 19.

وجانب آخر من مواقع النجوم هو تلك المنازل والمدارات التي لا تتبدل ولا تتغير بنسبة بعضها إلى بعض على مر العصور، وقد أمكن الوصول إلى معرفة نسب مقدرة تقديرا دقيقا في المجموعة الشمسية. يقول علماء الفلك في ذلك: إن أبعاد السيارات في المجموعة الشمسية جارية على نسب مقدرة ومطردة تسير وفق (9) منازل، أولها الصفر ثم تليه ثمانية أعداد تبدأ بالعدد (3) ثم تتدرج مضاعفة هكذا: (0، 3، 6، 12، 24، 48، 96، 192، 384). فإذا أضيف إلى كل واحد من هذه الأعداد العدد (4) ثم ضرب حاصل الجمع بتسعة ملايين ميل ظهر مقدار بعد الكوكب عن الشمس. ومن المعلوم المقرر أن ترتيب هذه الكواكب حسب بعدها عن الشمس كالتالي: (عطارد، الزهرة، الأرض، المريخ، المشتري، زحل، أورانوس، نبتون). 0 3 6 12 24 48 96 192 384 فإذا أردنا معرفة بعد كوكب (الزهرة) مثلا، وهو في المنزلة الثانية من الترتيب إذ ليس أمامه غير عطارد ومنزلته الصفر، فمنزلة الزهرة رقم (3) وإذا أضفنا إلى رقم منزلة الكوكب العدد (4) كما أفادت القاعدة ثم ضربنا الناتج في (9) ملايين يكون الناتج (63) مليون ميل وهو بعده عن الشمس. وإذا أخذنا المريخ ومنزلته الرابعة بعد (عطارد، الزهرة، الأرض، المريخ) لأمكننا بكل سهولة حساب بعده عن الشمس بتطبيق القاعدة المتقدمة: (12+ 4) 9 مليون 144 مليون ميلا تقريبا وهكذا سائر الكواكب. ولقد لفت نظر الفلكيين في بداية الأمر إشكال لم يلبس أن وضح حله وزال من أذهانهم، فقد لاحظوا أن المنازل التي تقدرها حساباتهم هي

تسعة منازل في حين أن الكواكب المعروفة لديهم في المجموعة الشمسية ثمانية، فمنزلة العدد (24) ليس فيها كوكب بل يأتي بعد المريخ- صاحب العدد (12) - كوكب المشتري وهو صاحب العدد (48)، فأثيرت الشبهة في إطراد هذه النسبة بين المجموعة الشمسية، ثم وجدوا بعد الرصد الدقيق والبحث المتواصل، وجدوا في هذا الفراغ الذي قدروا أنه لا بد من وجود كوكب فيه وجدوا كويكبات صغيرة كثيرة تدور كلها في الفراغ المذكور بين المريخ والمشتري، أي في المنزلة رقم (24). ومما يقرره علماء الفلك بهذا الصدد أن المجموعة الشمسية وغيرها من المجموعات التي تسير في مواقعها وتسبح في أفلاكها لو حادت قيد شعره عن مسارها المخصص لاختلف نظام الكون كله باختلال نظام الجاذبية بين الكواكب، فسبحان الذي عظم من هذه الحقائق بقوله:* فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76). هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5) إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6) [يونس: 5 - 6].

الجبال

الجبال (¬1) يقول الله تعالى: وَالْجِبالَ أَوْتاداً (7) [النبأ: 7]. وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً (27) [المرسلات: 27]. أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (61) [النمل: 61]. خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) هذا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي ماذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (11) [لقمان: 10 - 11]. نجد في الآيات المتعددة التي تتحدث عن الجبال ودورها ثلاث كلمات تحدد دور الجبال ووظائفها وهذه الكلمات: رواسي، أن تميد، أوتادا. يقول الراغب في شرح هذه الكلمات: (رسا، يقال رسا الشيء يرسو: ثبت، قال تعالى: رَواسِيَ شامِخاتٍ أي جبالا ثابتات. وَالْجِبالَ أَرْساها وذلك إشارة إلى قوله تعالى: وَالْجِبالَ أَوْتاداً (¬2). وفي «ميد» يقول: (الميد اضطراب الشيء العظيم، كاضطراب الأرض) (¬3). ¬

_ (¬1) الجبال: هي المرتفعات من الأرض التي يزيد ارتفاعها عن ألف متر وتكون مساحة قمتها أقل من مساحة قاعدتها. (¬2) ص 285. (¬3) ص 725.

فدور الجبال يبرز في ترسية الأرض وتثبيتها من الميدان وهو الاضطراب فهي كالأوتاد التي تمسك الخيمة من الاضطراب والسقوط. ويفسر العلم الحديث هذا الدور فيقول: تقرر الحقيقة العلمية القاطعة أن توزيع الجبال على الكرة الأرضية إنما قصد به حفظها من أن تميد إلى الشمس أو تحيد عنها، وأنها فعلا السبب الأول والرئيسي لحفظ توازن الأرض، فكأن الجبال هي أوتاد للأرض تحفظها في مكانها وتحفظ عليها حركتها (¬1). والحقيقة العلمية التي ذكرها القرآن الكريم في دور الجبال في حفظ توازن الأرض من الاضطراب والميدان وأنها كالأوتاد: وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ [الحجر: 19] أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً (6) وَالْجِبالَ أَوْتاداً (7) [النبأ: 6 - 7]. هذه الحقيقة أدركها علماء طبقات الأرض (الجيولوجيا) في العصر الحديث، ولنسمع ما يقوله أهل الاختصاص في هذا الشأن: لو كانت الأرض بحجمها الحالي مكونة من الماء لبلغ وزنها خمس ما هي عليه ولما أمكنها حفظ نسبة بعدها عن الشمس بل لانجذبت إليها، ولو كانت مكونة كلها من اليابس لبلغ ضعف ما هي عليه ولبعدت عن الشمس البعد الذي لا تتحقق معه الحياة. ولا تقف الدراسات عند هذا الحد، بل وصلت إلى مزايا للجبال ودورها في القشرة الأرضية نفسها، فلكل قارة جبالها التي تتميز بها، وهناك سلسلة من الجبال موزعة على سطح الأرض توزيعا دقيقا محكما، وارتفاع الجبل يتناسب ومكانه من الكرة الأرضية، ونوع الصخور المكونة له وطبيعة الأرض من حوله. والجبال الثقيلة يتكون أسفلها من مواد هشة خفيفة، وتحت المياه ¬

_ (¬1) «من الآيات العلمية» لعبد الرزاق نوفل، ص 56، 57.

توجد المواد الثقيلة الوزن، وذلك حتى تتوزع الأوزان في المناطق المختلفة للكرة الأرضية، ووجد العلماء أن هذا التوزيع يتماشى مع مرونة القشرة الأرضية ودرجة حرارتها. ثم كانت الحقيقة القاطعة في إثبات دور الجبال في ترسية الأرض في فلكها الذي تدور فيه، كما تقدم، ومما يلفت النظر كثرة ذكر المياه، والمياه العذبة على الخصوص عند ذكر الجبال أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً (25) أَحْياءً وَأَمْواتاً (26) وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً (27) [المرسلات: 25 - 27]. وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً [الرعد: 3]. وقد توصل العلماء بعد الاستقراء إلى أن أعذب المياه وأغزرها ما كانت ينابيعها من الجبال وسفوحها.

البحر

البحر يقول تعالى: أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (61) [النمل: 61]. ويقول جل شأنه: مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ (19) بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ (20) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (21) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ (22) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (23) وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (24) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (25) [الرحمن: 19 - 25]. الكلمات المعبرة ذات الدلالة في هذه الآيات هي: حاجز، مرج، برزخ. يقول الراغب في «مفرداته» في مادة «حجز» (¬1): (يقال: الحجز المنع بين الشيئين بفاصل بينهما، قال عزّ وجلّ: وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً). وفي مادة «مرج» (¬2) يقول الراغب: (والمروج الاختلاط، يقال: مرج أمرهم اختلط. ويقال: أمر مريج: أي مختلط ومنه غصن مريج مختلط). وفي مادة «برزخ» (¬3) يقول الراغب: (البرزخ: الحاجز، والحد بين الشيئين، والبرزخ في القيامة: الحائل بين الإنسان وبين بلوغ المنازل الرفيعة في الآخرة، وقيل البرزخ في القيامة ما بين الموت إلى القيامة). ¬

_ (¬1) ص 156. (¬2) ص 706. (¬3) ص 56.

إن الكلمات المذكورة تفيد إطلاق ماء البحرين فيختلطان، ولكن لا يتجاوز ماء أحدهما على ماء الآخر. ولقد توصل العلم الحديث إلى صور شتى وحالات متعددة لا يتجاوز فيها ماء أحد البحرين على الآخر ولا يتعدى الحاجز الموضوع للفصل بينهما. فمن هذه الصور قالوا: 1 - إن دورة المياه في الكون والتي تبدأ بتبخر كميات هائلة من سطح المحيطات وتتكون منها السحب وتنزل على اليابسة مطرا ينبت به الزرع وتحيى الأرض بعد موتها، وهذه المياه كميات لا يستهان بها وهي مياه عذبة، فارتفاعها من المحيطات لا يزيد من نسبة ملوحة المياه في البحر وتبقى نسبة الملوحة كما هي، كما أن الأمطار التي تشكل السيول والأنهار تصب ثانية في البحار والمحيطات حاملة معها ملوحة الأرض وشيئا من المعادن والأتربة لا يجعلها تطغى على البحر بل يبقى البحر ملحا أجاجا بنسبة واحدة. 2 - وقالوا: إن مستوى سطح الأنهار أعلى في العادة من مستوى سطح البحر، ومن ثم لا يبغي البحر على الأنهار التي تصب فيه، ويغير مجاريها بمائه الملح فيحولها عن وظيفتها ويبغي على طبيعتها، وبينهما دائما هذا البرزخ من صنع الله فلا يبغيان. 3 - ويقرر علماء البحار أن الأنهار الضخمة تشكل عند مصباتها أشبه ما يكون ببحيرات خاصة، لها خواصها من حيث المذاق فليست هي بالمياه العذبة كمياه النهر، وليست بالمياه المالحة الأجاج كما هي الحال في مياه البحر، وهذه المنطقة تعيش فيها الكائنات الحية التي لا تستطيع الخروج إلى مياه البحر لعدم ملاءمة البيئة لها فتهلك، ولا تستطيع الخروج إلى مياه النهر لعدم إمكان العيش فيها أيضا. فهذه المنطقة حجر محجور، يحجر كائناته الخاصة وطبيعة مياهه عن الاختلاط بغيره، ومحجور عن المياه الأخرى، فسبحان الذي جعل بين البحرين برزخا وحجرا محجورا.

4 - وقال بعضهم: إن هنالك حاجزا بين البحار أنفسها يمكن تمييز خاصيات ماء كل بحر على جانبي الحاجز، وكذلك ما فيها من معادن وكائنات حية. يقول صاحب لفتات علمية (¬1): نشرت بعثة السيرجون أفري مع بعثة الجامعة المصرية وخفر السواحل لدرس أعماق البحر الأحمر، والمحيط الهندي في جنوب عدن، نشرت بعض الملاحظات منها: أ- أن البعثة وجدت المياه في خليج العقبة تختلف في خواصها وتركيبتها الطبيعية والكيميائية عن المياه في البحر الأحمر، وحققت البعثة (بواسطة قياس الأعماق) وجود حاجز مغمور عند مجمع البحرين يبلغ ارتفاعه أكثر من ألف متر. ب- وكذلك تبين وجود حاجز مغمور بين المحيط الهندي والبحر الأحمر، وأثبتت التحاليل الكيميائية أن مياه المحيط الهندي تختلف في خواصها الطبيعية والكيميائية عن مياه البحر الأحمر، ومرجع ذلك إلى وجود هذا الحاجز المغمور عند ملتقى كل بحرين. 5 - وقال بعضهم: إن هنالك حاجزا من نوع آخر أيضا وفي داخل المحيطات إذ ثبت أن أعظم الأنهار على الإطلاق موجودة داخل البحار، يقول فرديناند لين (¬2): وتوجد أعظم أنهار الدنيا في البحر، ويبدو نهر المسيسبي أو حتى نهر النيل أو نهر الأمازون بجانبيها وكأنه غدير، يبدو غريبا أن تستطيع تيارات المياه أن تتحرك لمثل هذا البعد خلال مياه أخرى دون أن تختلط بها ولكن أي مجرى من الماء أدفأ أو أبرد من الماء المحيط من كل الجهات يستمر في جريانه بمفرده لزمن طويل، وفي بعض الأحيان تتميز ضفتاه بوضوح يشبه تقريبا وضوحهما لو كان المجرى على الأرض اليابسة، وقد يختلف أيضا تيار الماء المتحرك في لونه عن ماء البحر المحيط به. ¬

_ (¬1) ص 57. (¬2) «كل شيء عن البحر» ترجمة الدكتور محمود محمد رمضان، ص 41.

وتوجد حركات أخرى في البحر هي أعظم حتى من التيارات السطحية، وهذه هي صعود المياه الأدفأ والمياه الأخف، وهبوط المياه الأثقل والمياه الأبرد. وفي البحار القطبية تغوص المياه الباردة إلى أسفل وتزحف على قاع المحيط كما أن المياه الدافئة في المناطق الحارة تندفع ببطء على السطح تجاه القطبين ومثل هذه الحركات تمد كل الكائنات الحية في البحر باحتياجاتها فهي تحمل الأوكسجين الضروري للحياة إلى أسفل قاع المحيط، وتوزع الأملاح والمعادن الأخرى هنا وهناك في الماء تماما مثلما يضع الفلاحون السماد في التربة. وهذه المعادن ضرورية لحياة النباتات التي هي غذاء الحياة الحيوانية في البحر، وتيارات السطح، وصعود المياه ونزولها، والزحف البطيء على طول القاع في المحيط، كل هذه تنظف البحر وتنقيه، فهي تحميه من أن يأسن كما يأسن ماء البركة الراكد، ويقدر العلماء أن مياه المحيط القطبي الشمالي تتغير كل 165 سنة كما يتغير الماء في حمام السباحة، ويجري هذا في كل مكان في المحيطات وفي أغلب الخلجان والمداخل الصغيرة (¬1). وهكذا نجد أن النص القرآني المعجز يحتمل كل ما قيل واكتشف من الحواجز سواء كانت بين الأنهار العذبة وبين مصباتها في البحار، أو بين البحار الملحة أنفسها، أو بين التيارات المائية في المحيط ومائه. وقد يكتشف غير هذا في المستقبل، وتبقى الحقيقة الخالدة وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) [فاطر: 12] * وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً (53) [الفرقان: 53]. ¬

_ (¬1) «كل شيء عن البحر» ص 47.

الظواهر الجوية (الرياح - السحب - المطر - الرعد والبرق)

الظواهر الجوية (الرياح- السحب- المطر- الرعد والبرق) يقول الله سبحانه وتعالى: اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) [الروم: 48]، وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ [الحجر: 22]. إن الحقائق التي ذكرتها آيات القرآن الكريم عامة وما يتعلق منه بتأثير الرياح في إنشاء السحب وتلقيحها وتشكيلها، ثم نزول المطر أو البرد منها، هذه الحقائق من أعجب الأمور وأدقها التي توصل إليها العلم الحديث فلو لم يكن في القرآن الكريم إلا هذه الحقائق لكانت كافية في تعريفنا بأن منزل القرآن هو خالق السماوات والأرض ومصرّف الرياح ومنزل الماء من السماء تحيى به الأرض بعد موتها. ولنسمع ما يقوله العلم الحديث في هذا الشأن: الأصل في تكوين السحب على اختلاف أنواعها وأشكالها إنما هي الرياح، فالسحب الطبقية وهي التي تنمو في اتجاه أفقي يكون الهواء الذي يحملها صاعدا إلى أعلى ببطء، أما السحب الركامية الرأسية تكون الرياح التي تحملها صاعدة إلى أعلى بسرعة ... فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ. وحقيقة أخرى أشارت إليها الآية الكريمة: وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ (22) [الحجر: 22]، فقد

حملها كثير من المفسرين على أن الرياح اللواقح تلقح النباتات فتحمل الطّلع من الذكر إلى الأنثى فتلقح بويضاتها، والحقيقة أن هذا الأمر مما يتحقق بواسطة الرياح، إلا أن سياق الآية في هذا المقام لا يحتمل ذلك بل يشير إلى حقيقة أخرى أدق وهي «تلقيح السحب» (¬1). وقد توصل العلم الحديث إلى أن نمو السحب ونزول المطر يتطلب أن تلقح الرياح هذه السحب بأكداس من جسيمات مجهرية تسمى (نويات التكاثف)، ومن أهم خواص هذه النويات أنها تمتص الماء أو تذوب فيه، وتحمل الرياح كذلك بخار الماء وتلقح به السحاب لكي يمطر، وتتم العملية بتجمع جزئيات الماء المنفصلة والموجودة في الهواء حول نويات التكاثف العملية بتجمع جزيئات الماء المنفصلة والموجودة في الهواء حول نويات التكاثف حيث إن أصغر نقط الماء تحتوي على ما لا يقل عن (100) جزئي وليس من السهل أن يتجمع مثل هذا العدد مع بعضه لمجرد الصدفة ما لم توجد نويات تترسب عليها الجزيئات وتحتفظ بها، وعلى هذا النحو عرف الناس الآن أن الآية الكريمة إنما تشير إلى تلقيح الرياح للسحب ببخار الماء ثم بنويات التكاثف كخطوة أساسية لكي تجود بالمطر (¬2). أما قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ (43) [النور: 43]، فيشير إلى جملة من الحقائق الباهرة التي لم تكتشف إلا بعد تقدم علوم الأرصاد الجوية في العصر الحديث، من ذلك: يقول علماء الأرصاد الجوية: إن المطر يتوقف على تكوين السحب ¬

_ (¬1) أشار ابن القيم في كتابه «مفتاح دار السعادة» ص 201 إلى ذلك، حيث يقول: ( ... فجعله رخاء- أي الهواء- ورحمة وبشرى بين يدي رحمته ولاقحا للسحاب يلقحه بحمل الماء كما يلقح الذكر الأنثى بالحمل). (¬2) «من روائع الإعجاز في القرآن» للدكتور جمال الدين الفندي، ص 84.

الماطرة (المزن) ومن هذه المزن ما يسمى (المزن الركامي) وهي سحب تنمو في الاتجاه الرأسي، وقد تمتد إلى علو عشرين كيلومترا، وداخل السحب الركامية ثلاث طبقات، وهي الطبقة السفلى وقوامها نقط نامية من الماء ثم الطبقة الوسطى وتكون درجة حرارة نقط الماء فيها تحت الصفر المئوي، ومع ذلك فهي باقية في حالة السيولة (¬1)، أما الطبقة العليا فتتكون من بلورات الثلج ذات اللون الأبيض الناصع وجعل الله سبحانه وتعالى نقط الماء فوق المبردة غير مستقرة قابلة للتجمد بمجرد ارتطامها بجسم صلب، لذا فبمجرّد أن تتساقط بلورات الثلج من الطبقة العليا إلى الطبقة الوسطى وتلتقي بنقط الماء فوق المبردة تلتصق البلورات بنقط الماء وتتجمد فينمو حجمها سريعا، وينشط عليها التكاثف فتتساقط على هيئة برد: وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ. وأثناء سقوط هذا البرد يلتقي بنقط الماء النامية فيتجمع معها، ويزداد حجم النقط كثيرا ولا يقوى الهواء على حملها فتتساقط على هيئة مطر، ويذوب أغلب البرد قبل وصوله إلى سطح الأرض. ولنمو البرد وذوبانه أهمية عظيمة في عمليات شحن السحابة بالكهربائية التي تسبب البرق والرعد، فالبرد عند ما ينمو فوق (2) ملمتر يشحن بالكهربائية، وعند ما يذوب يشحن أيضا بشحنة مضادة، وفي كلتا الحالتين يحمل الهواء الصاعد شحنة كهربائية مضادة عظمى. والآية الكريمة ذكرت كلمة (ركاما) وأعقبتها بال (برد) وقد أثبت العلم أن هذا النوع (السحب الركامية) هي الوحيدة التي تعطي البرد. وفي التعبير بقوله: ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ سر من الأسرار الدقيقة الرائعة التي تعتبر الآن من أمهات الحقائق الجوية، إذ فيها الدلالة على الحقيقة ¬

_ (¬1) يجمد الماء تحت الضغط العادي في درجة الصفر المئوي، أما إذا اختل الضغط الجوي الذي يقدر ب (76) سنتمتر زئبق، فإن تجمد الماء وكذلك غليانه يختلفان، لذا تكون درجة الحرارة أقل من الصفر ولا يجمد الماء لضعف الضغط الجوي.

الكهربائية التي تقوم عليها تلك الظواهر الجوية كلها. فإن التأليف بين السحاب وصف دقيق للتقريب بين السحاب المختلف الكهربائية حتى يتجاذب ويتعبأ في الجو تعبئة الجيوش، وهو يتفق مع ما يريد الله أن يخلقه من بين السحاب من برق وصواعق، ومطر أو برد. وتشبيه الآية الكريمة هذه السحب بالجبال لا يدركه إلا من ركب الطائرة وعلت به فوق السحب أو بينها، فإنه سيدهش لدقة الوصف فإنه يجد مشهد الجبال حقا بضخامتها ومساقطها وارتفاعاتها وانخفاضاتها. وأشارت الآية الكريمة إلى عظم القوى الكهربائية المشتركة في تكوين البرد بالنص على عظم برقه وشدته وبلوغه من الحرارة درجة الابيضاض، الذي يخطف بالأبصار ويصيبها بالعمى المؤقت، وأكثر من يعاني من هذه الظاهرة هم الطيارون: يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ (¬1). ¬

_ (¬1) «سنن الله الكونية» للدكتور محمد أحمد الغمراوي، نقلا عن «لفتات علمية في القرآن» ص 53.

الحيوان

الحيوان يقرر القرآن الكريم حقائق عن الحيوان لا تقل في الأهمية والدقة عن الحقائق التي يقررها في كل جانب من جوانب الكون والحياة، فهو يلفت النظر تارة إلى المنافع التي يحصل عليها الإنسان من تسخير هذه الدواب ركوبا وحملا ولباسا وطعاما وشرابا وزينة، فهي مسخرة للإنسان مذللة له منقادة. (أ) التذليل: إن ظاهرة انقياد الحيوان للإنسان ظاهرة تستدعي شكر المنعم الذي جعل فيها هذه الطبائع، ولولا وجود هذا الطبع فيها لما استطاع الإنسان إلى التغلب عليها سبيلا. أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ (71) وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ (73) [يس: 71 - 73]. يقول الإمام الغزالي: اعلم- وفقك الله وإيانا- أن الله خلق البهائم لمنافع العباد وامتنانا عليهم .. فخلقها سميعة بصيرة ليبلغ الإنسان حاجته لأنها لو كانت عمياء صماء لم ينتفع بها الإنسان ولا وصل بها إلى شيء من مآربه. ثم منعت العقل والذهن حكمة من الله، لتذل للإنسان فلا تمتنع عليه إذا أكدها عند حاجته إلى إكدادها في الطحن وحمل الأثقال إلى غير ذلك .. أما ترى الحمار يذل للحمولة والطحن، والبعير لا يطيقه عدة رجال لو استعصى وينقاد لصبي صغير، والثور الشديد يذعن لصاحبه حتى يضع النير على عنقه ليستحرثه، والفرس تركب وتحمل عليها السيوف والأسنة في

(ب) الرزق

الحروب وقاية لراكبها، والقطيع من الغنم يرعاها صبي واحد، فلو تفرقت فأخذت كل شاة منها جهة لنفورها، لتعذرت رعايتها، وربما أعجزت طالبها. وكذلك جميع الحيوان المسخر للإنسان، وما ذلك إلا لأنها عدمت العقل والتروي فكان ذلك سببا لتذليلها (¬1). (ب) الرزق: وعبرة أخرى يلفت القرآن الكريم الأنظار إليها في الحيوان وهي مسألة رزق الحيوان، إن الإنسان يعقل ويفكر ويخطط ويسعى في سبيل تحصيل معيشته وكسبه وإذا حصل على الكسب بطريقة ما، فكر في ادخاره وخزنه للمستقبل، أما الحيوان فليست عنده القدرة على التفكير والتخطيط، وليس من طبعه ذلك، إلا أنواع قليلة منها يعدها علماء الحيوان في الطبقة الراقية من الحيوان كالنمل والنحل. إن قدرة الحكيم الخبير المحيطة بكل شيء قد تكفلت بأرزاقها، وتوفر سبل البقاء أمامها. يقول عز من قائل: وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60) [العنكبوت: 60]. هكذا شأن الألوهية في المخلوقات: العلم والإحاطة بالمكان وتكفل الرزق في جميع الظروف، فالحيوان مرزوق في كل مكان، في أعماق البحار والمحيطات، وفي الصحراء المحرقة، والأصقاع المتجمدة، تحت الصخور الصماء وفي أجواء الفضاء، كل ذلك في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى. وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (6) [هود: 6]. ¬

_ (¬1) «الحكمة في مخلوقات الله» للإمام الغزالي، ص 101.

(ج) أنماط الحياة والتكاثر

يقول الإمام الغزالي: ولما كانت البهائم لا أذهان لها ولا أكفّ، ولا أصابع تهيأ للأعمال، كفيت مؤنة ما يضر بها، بأن جعلت كسوتها في خلقها باقية عليها ما بقيت، فلا تحتاج إلى استبدال بها وتجديد بغيرها، بخلاف الآدمي فإنه ذو فهم وتدبير، وأعضاء مهيأة لأعمال ما يقترحه، وله في إشغاله بذلك صلاح، وفيه حكمة، فإنه خلق على قابلية لفعل الخير والشر. انظر إلى النمل وما ألهمت له، في احتشادها في جمع قوتها وتعاونها على ذلك وإعدادها لوقت عجزها عن الخروج والتصرف بسبب حر أو برد. وألهمت في تقلب ذلك من الحزم ما لم يكن عند من يعرف العواقب حتى تراها في ذلك إذا عجز بعضها عن حمل ما حمله أو جهد به أعانه آخر منه، فصارت متعاونة على النقل كما يتعاون الناس على العمل الذي لا يتم إلا بالتعاون. ثم إنها ألهمت حفر بيوت في الأرض، تبتدئ في ذلك بإخراج ترابها وتقصد إلى الحب الذي فيه قوتها، فتقسمه خشية أن ينبت بنداوة الأرض فما خلق هذا في جبلتها إلا الرحمن الرحيم، ثم إذا أصاب الحب بلل أخرجته فنشرته حتى يجف، ثم إنها لا تتخذ البيوت إلا فيما علا من الأرض، خوفا من السيل أن يغرقها (¬1). (ج) أنماط الحياة والتكاثر: لقد نص القرآن الكريم أن هذه المخلوقات من الدواب والحشرات المتباينة في الأشكال والحجوم وطريقة الحركة والسير أمم وفصائل أمثال الناس: وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45) [النور: 45]. ¬

_ (¬1) «الحكمة في مخلوقات الله» للإمام الغزالي، ص 112.

وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38) [الأنعام: 38]. لقد أدرك العلم الحديث شيئا جزئيا من حياة الحيوان بالمخالطة والتتبع والاستقراء، وتأكد لدى الباحثين أن كل حيوان ينتمي إلى فصيلة معينة تجمع بين أفرادها خصائص واحدة وتربطها فيما بينها نظم ثابتة ولها وسائلها الخاصة في التفاهم. ومن دراسة ظواهر الحيوانات الأليفة أثبتوا أن لكل صنف منها لغة خاصة يتفاهم بها ويتعارف مع غيره على أحواله، وأحوال ما يحيط به. فالدجاجة تصدر أصواتا خاصة مميزة عند ما تدعو صغارها إلى التقاط الحبوب وترى الصغار تتجمع حولها بسرعة، ولكنها تصدر أصواتا أخرى عند تحذيرها من خطر وشيك، فترى الصغار تهرب للاختباء في القنّ أو تحت أجنحتها. يقول «ألن يفو» أحد علماء الحيوان: إنه وقف يوما يرقب ثلاثة من صغار الثعالب تلعب حول أمها، وإذا بصغير منها يدخل الغابة ويبتعد عنها كثيرا حتى غاب عن النظر، فاستوت الأم قائمة ومدت أنفها إلى الناحية التي ذهب منها وبقيت على حالها هذه برهة عاد بعدها الصغير في اتجاه لا يلتفت يمنة ولا يسرة كأنما تجذبه بخيط لا تراه العين. والنحلة إذا حصلت على حقل مزهر عادت إلى الخلية، وما أن تتوسطها حتى ترقص رقصا خاصا فإذا بالنحل يندفع إليها ويسير خلفها إلى حيث تهديها النحلة إلى الزهور، بل برقصاتها المعينة تكون قد حددت الجهة والبعد ونوع المرعى .. فلا بد لكل هذه الفصائل من الحيوانات والحشرات من لغة للتفاهم ونظام تسير عليه. لقد قرر القرآن الكريم هذه الحقائق بكل وضوح قبل أن يتطور علم الحيوان الذي لا يزال يدرس الحالات الظاهرة، وبين أن هذه اللغة يمكن

إدراكها إذا شاء الله سبحانه وتعالى، بأن أودع في الإنسان خاصية تمكنه من استقبال إشارات هذه اللغة، وأخبر القرآن الكريم أن ذلك قد تحقق لأحد أصفياء الله من البشر وهو سليمان عليه السلام: وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16) وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ (19) [النمل: 16 - 19]. وهناك فصائل من الحيوان تمتاز عن غيرها بصفات أودعها الله سبحانه وتعالى فيها غريزة وفطرة يعجز عنها العقل البشري مع وسائله المتطورة المتقدمة. فمثلا النحل ومملكته، والتنظيم الرائع بين أفراد النحل عامة، إن دراسات مستفيضة قامت حول هذه المملكة فأظهرت العجب العجاب. فالتقسيمات الدقيقة بين أصناف النحل وتحديد مهمة كل صنف منها: صنف مهمته جمع رحيق الأزهار وإيداعه في مستودعاته من الخلية، وصنف يعمل داخل الخلية لبناء بيوت سداسية الشكل، واختيار الشكل السداسي لم يأت اتفاقا، بل عن اختيار وحكمة فإن أي شكل هندسي آخر لا يمكن أن يملأ كل الفراغات، بل تبقى زوايا مهملة لا يستفاد منها، أما الشكل السداسي فلا تبقى معه أي زاوية مهملة، وهناك صنف من النحل يجهز للملكة طعاما خاصا، ومهمة الملكة هي الإنجاب ليس إلا، إذ بعد أن تضع بيوضها تموت لتختار ملكة جديدة من بين الجيل القادم وتقتل كل الأصناف الشبيهة بالملكة المختارة حتى لا تنازع الملكة سلطتها وهنالك على باب الخلية حرس يفتشون العاملات بدقة متناهية، فالتي تقع على نجاسة أو شيء خبيث الرائحة يكون جزاؤها القتل أو الطرد والمنع من دخول الخلية.

فسبحان الذي أوحى إلى النحل مهمتها في الحياة، وخصها بهذا الدور العظيم لإخراج ما فيه الشفاء للناس: وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69) [النحل: 68 - 69]. وليظهر الله سبحانه وتعالى معجزات كتابه ويري آياته للناس في هذا العصر فقد سخر أناسا لدراسة طبيعة العسل وتركيبه، وذهبوا إلى تشريح جسم النحلة واستخراج السم الذي في بطنها وتحليله للتعرف على خاصياته، وتوصلوا إلى نتائج باهرة تميط اللثام عن معجزة الكتاب الخالد: يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ وفيما يلي إشارات إلى بعض هذه النتائج: أما عن تركيب العسل فقد وجدوا أنه يتركب من: (25 - 40) دكستروز (جلوكوز) (30 - 45) ليفيلوز (فروكتوز) (15 - 25) ماء والجلوكوز الموجود فيه بنسبة أكثر من أي غذاء آخر هو سلاح الطبيب في أغلب الأمراض، واستعماله في ازدياد مستمر بتقدم الطب، فيعطى بالفم وبالحقن الشرجية وتحت الجلد وفي الوريد، ويعطى بصفته مقويا ومغذيا ومضادا للتسمم الناشئ عن مواد خارجية مثل الزرنيخ والزئبق والذهب .. وضد التسمم الناشئ من أمراض الكبد والاضطرابات المعدية والمعوية، وضد التسمم في الحميات مثل التيفوئيد والالتهاب الرئوي والسحائي المخي والحصبة، وفي حالات ضعف القلب، وحالات الذبحة الصدرية، وبطريقة خاصة في الارتشاحات العمومية الناشئة من التهابات الكلى الحادة، وفي احتقان المخ وفي الأورام المخية.

واتجهت الأبحاث العلمية التي تجرى على النحل والعسل إلى دراسة سم النحل، إذ تقوم حاليا بعض المؤسسات الطبية باستخراج سمّ النحل الذي يفرزه عن طريق آلة اللسع لاستعماله في معالجة بعض الأمراض المستعصية، وفي أمريكا وإنجلترا حاليا مناحل لا غرض لها إلا تربية النحل لاستخراج مصله، وعمل حقن منها لعلاج كثير من الأمراض الروماتيزمية، اللمباجو وعرق النسا، ونجحت في علاج التراخوما «الرمد الحبيبي»، وما زال العلم يحمل إلينا في كل يوم فائدة طبية من فوائد ما يخرج من بطون النحل من عسل وسم. ونقلت الصحف في 19 فبراير 1956 نقلا عن أخبار لندن أنه توجد فيها امرأة نمساوية تدعى (مسز أوين) تداوي المرضى الذين يئس الأطباء من شفائهم بقرص النحل، وقد أثار خبر هذه السيدة اهتماما كبيرا في أوساط لندن، لا سيما وأن نتائج معالجتها قد أدت إلى الشفاء. ومن الأخبار العلمية التي نشرت في مارس 1956 م أن أحد كبار الجراحين في مستشفى «نور فولك» الإنجليزي استخدم عسل النحل لتغطية آثار الجروح الناتجة عن العمليات الجراحية التي يجريها بعد أن ثبت أنه يساعد على سرعة التئام هذه الجروح وإزالة آثارها، فلا تترك ندوبا وتشويها بعد العملية، كما تبين أن طبيعة العسل وما يحويه من مواد تساعد على نمو الأنسجة البشرية من جديد فتلتئم الجروح بطريقة مستوية، ويقوم الطبيب برش العسل على موضع الجرح بصورة سائل وعلى هيئة حبيبات (¬1). قام الدكتور «أف. ج. ساكيت» بكلية كولورادو الزراعية بتجربة فزرع جراثيم مختلف الأمراض على العسل الصافي، ولبث ينتظر النتيجة، وقد أثارت النتائج إعجابه، إذ ماتت الجراثيم وقضي عليها كلها في فترة بضع ساعات، أو في مدة أقصاها بضعة أيام. ماتت جراثيم حمى التيفوس بعد ¬

_ (¬1) «لفتات علمية» ص 84.

(24) ساعة، وماتت جراثيم الالتهاب الرئوي (المكورات الرئوية) في اليوم الرابع، وكذلك بعض الأنواع الأخرى كجراثيم التهاب البريتون والبلورا والخراجات والمكورات العنقودية والمكورات العقدية، أما جراثيم الدوسنتاريا فقد قضي عليها بعد (10) ساعات. وخلال الحرب العالمية الثانية استعمل الأطباء العسل في علاج الجروح المتسببة عن الإصابات بالرصاص، وكانت النتيجة مذهلة من حيث سرعة التئام الجروح وشفائها، واستعمل المرهم المكون من المزيج التالي في شفاء الجروح المستعصية التي فشل علاجها بالأشعة وسائر المضادات الحيوية، ويتكون من: 80 غ عسل نحل+ 20 غ زيت كبد الحوت+ 3 زير ونورم. وقد وجد في نتائج هذه الوصفة ما يأتي: أحد المصابين في الحرب وعمره (35) عاما عنده ندبة كبيرة في ظهر قدمه اليمنى وفي وسط الندبة قرحة مساحتها 3* 5 سم وقاعها عميق، ظل الجرح على هذه الحالة لمدة ثلاثة شهور ولم تجد المراهم والعلاج بالأشعة وغيرها من الطرق معها نفعا، وقد استعمل مرهم العسل لمدة (22) يوما فشفيت القرحة. وقد استعمل العسل ولا يزال علاجا عالميا للزكام بإضافته إلى بعض أنواع السوائل، فبعض الأطباء مثل «ك. أ. منبيس» و «س. كنيب» ينصحون بالعسل مع اللبن الدافئ وآخرون ينصحون باستعمال العسل الممزوج بعصير الليمون، أما الدكتور «أورتل» فأوصى باستعمال العسل الممزوج بعصير البرسيم الدافئ في علاج الزكام علاجا ناجحا. وللعسل تأثير قوي لعلاج السعال. أما العسل مع الرمان فينصح به ابن سينا لعلاج أمراض القلب والذبحة الصدرية، وفي العصر الحديث يقول الدكتور «م. س. جولدمب ورافي، وغيرهم» إن تناول ما بين 50 - 140 غ يوميا من العسل لمدة شهر أو شهرين للمرضى الذين يشكون من علل

خطيرة في القلب يحدث تحسنا ملحوظا في حالتهم ويرجع حالة الدم إلى الحالة العادية ويزيد من الهيموجلوبين وقوة الجهاز الدوري. ويتفق الأطباء الأمريكيون والروس على أن العسل أفضل علاج للمصابين بقرح المعدة والاثنى عشر، على أن يؤخذ قبل وجبات الطعام بساعة أو أكثر، وأفضل الأوقات هو قبل الإفطار، ومذابا في كوب ماء دافئ. ويقرر «أ. أويرتل دي» أن عسل النحل علاج ممتاز للاضطرابات العصبية، وأن كوب ماء مذاب فيه العسل إذا أخذ قبل النوم كفيل بتوفير نوم هادئ. وقد وصف بعض الأطباء الروس والصينيين العسل لعلاج أمراض الجلد والخراريج والدمامل، أما علاج قرح القرنية في العين بالعسل، فقد أعطى نتائج مذهلة. ويقول الدكتور «بيك» الأمريكي، إن مرض السرطان غير معروف بين النحالين في الغالب، وهذا يرجع إما إلى العسل الذي يتناوله النحالون باستمرار أو نتيجة الغذاء الملكي أو حبوب اللقاح الموجودة بالعسل أو أنها نتيجة لسم النحل الناتج من اللسع. وإذا أخذ مرضى السكر العسل تحت إشراف الطبيب فقد أثبتت التجارب انخفاض نسبة السكر في دمائهم وعودتها إلى الحالة الطبيعية (¬1). هذا بعض ما توصلوا إليه من شأن النحل والشراب الخارج من بطونها، ومن يدري ماذا يكون بعد تطور وسائل المعرفة والاكتشاف؟ فقد تكتشف خصائص للعسل أضعاف ما عرفوا الآن، وستبقى المعجزة الخالدة تحدوهم فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ وستبقى الحقيقة الإيمانية ماثلة في الأذهان: «اسقه عسلا .. صدق الله العظيم وكذب بطن أخيك» (¬2). ¬

_ (¬1) انظر في استعمالات العسل في الطب: كتاب «الأدوية والقرآن الكريم» للدكتور محمد هاشم، ص 68 وما بعدها. (¬2) رواه البخاري، كتاب الطب، 7/ 13.

الإنسان

الإنسان لقد حظي الإنسان بالجانب الأكبر من اهتمام القرآن الكريم، كيف لا، وهو سيد المخلوقات الذي سخر له كل ما في السموات والأرض، وخص بملكة العقل والبيان، فكان أهلا لحمل الأمانة التي عجزت عنها السماوات والأرض والجبال وأشفقت منها وحملها الإنسان. لقد بيّن القرآن مبدأ خلق النوع البشري، ثم سنة الله في تطوره وتكاثره من الزوجين الذكر والأنثى، وبيّن أطوار خلقه في الظلمات الثلاث داخل القرار المكين إلى أن يخرج خلقا آخر مكتمل الخلقة سويها، كما تحدث القرآن الكريم عن خصائص هذا الإنسان الذي أكرمه ربه من بين سائر المخلوقات، إلا أن الإنسان كثيرا ما يتنكر لهذه النعم ويسيء الأدب مع خالقه المتفضل عليه بالنعم الوافرة، كما يتحدث القرآن الكريم عن مصير الإنسان باعتباره كائنا حيا فمصيره الموت، ثم بالبعث والنشور للحساب. إن دراسة الإنسان من خلال آي الذكر الحكيم لن يصل إلى دقائق أسرارها جيل من الأجيال مهما بذلت الجهود من المختصين ومهما رصدت الأموال للأبحاث في مخلوق يكتنف الغموض جوانب كينونته وتلتف الأسرار حقيقة ماهيته. وفي عصرنا الحاضر وعلى الرغم من تقدم العلوم الهائل في مجالات الحياة المختلفة فلا يزال الإنسان ذاك اللغز المحير، ولا تزال جوانب كثيرة مجهولة تماما في الإنسان لم يستطع العلماء أن يفهموا حتى ظواهرها

البسيطة: كيف يفكر الإنسان؟ كيف يحلل الأمور؟ كيف ينام؟ كيف يضحك؟ كيف يحب؟ كيف يغضب؟ كيف .. ؟ كيف .. ؟. قائمة من التساؤلات التي قد تبدو بسيطة لأول وهلة للإنسان العادي، ولكنها تحير الدراسين المتعمقين في دراسة الإنسان. إن الدراسات لا تزال تقف على عتبة الظواهر التشريحية لمعرفة وظائف الأعضاء ولم تصل إلا إلى بعض وظائفها، إلا أنها عاجزة تمام العجز عن إدراك كيفية عملها، فإن خلف ذلك سر الروح والحياة: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85) [الإسراء: 85]. يقول ألكسيس كاريل: (لقد بذل الجنس البشري مجهودا جبارا لكي يعرف نفسه ولكن بالرغم من أننا نملك كنزا من الملاحظات التي كدسها العلماء والفلاسفة والشعراء وكبار العلماء والروحانيين في جميع الأزمان، فإننا استطعنا أن نفهم جوانب معينة فقط من أنفسنا، إننا لا نفهم الإنسان ككل، إننا نعرفه على أنه مكون من أجزاء مختلفة، وحتى هذه الأجزاء ابتدعتها وسائلنا، فكل واحد منا مكون من موكب من الأشباح، تسير في وسطها حقيقة مجهولة. وواقع الأمر أن جهلنا مطبق، فأغلب الأسئلة التي يلقيها على أنفسهم أولئك الذين يدرسون الجنس البشري تظل بلا جواب لأن هناك مناطق غير محدودة في دنيانا الباطنية ما زالت غير معروفة (¬1). الإنسان: قال تعالى: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ (7) [الطارق: 5 - 7]. ¬

_ (¬1) «الإنسان ذلك المجهول» ص 17.

يقول ابن القيم: (فارجع الآن إلى النطفة وتأمل حالها أولا وما صارت إليه ثانيا، وأنه لو اجتمع الإنس والجن على أن يخلقوا لها سمعا أو بصرا أو عقلا أو قدرة أو علما أو روحا بل عظما واحدا من أصغر عظامها بل عرقا من أدق عروقها بل شعرة واحدة لعجزوا عن ذلك، بل ذلك كله آثار صنع الله الذي أتقن كل شيء في قطرة من ماء مهين، فمن هذا صنعه في قطرة ماء فكيف صنعه في ملكوت السماوات وعلوها وسعتها واستدارتها وعظم خلقها وحسن بنائها وعجائب شمسها وقمرها وكواكبها ومقاديرها وأشكالها) (¬1). يقول تعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ (172) [الأعراف: 172]. ويقول جل ثناؤه: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ (7) [الطارق: 5 - 7]. تشير الآية الأولى أن الله سبحانه وتعالى أخذ من ظهور بني آدم ذريتهم، وذلك في عالم الذر، وأشهدهم على أنفسهم الإقرار بربوبية الله سبحانه وتعالى وعبوديتهم لخالقهم. وموطن الشاهد في الآية أن مكمن الذرية هي الظهور، وتشير الآيات في سورة الطارق إلى أن الماء الدافق مصدره من بين الصلب والترائب، يقول خبراء علم الأجنة: إن الجنين عند تكوينه في الرحم تنبت الخصيتان في ظهره عند أسفل الكليتين تماما وتبقيان كذلك في ظهره حتى أشهره الأخيرة في بطن أمه ثم تنحدران إلى الأسفل، وعند الولادة تكونان في المركز المعتاد. وكذلك مركز المبيض في الأنثى فإنه في الظهر تماما تحت الكلية ذكرا كان أم أنثى، ومعلوم أن الخصيتين والمبيض هما مستقرا النطفة التي ¬

_ (¬1) «مفتاح دار السعادة» 1/ 196.

هي مبدأ خلق الإنسان وهما في الظهر، ويقولون: إن الخصية والمبيض يعتمدان على شريان يمدهما بالدم، وأصل هذا الشريان من الشريان الأورطي في مكان يقابل مستوى الكلية الذي يقع بين الصلب والترائب، ويقولون: إن الخصية والمبيض يعتمدان على الأعصاب التي تتصل بالضفيرة اللاورطية ثم بالعصب الصدري العاشر الذي يخرج من النخاع بين الضلع العاشر والحادي عشر، وهذا أيضا بين الصلب والترائب (¬1). ¬

_ (¬1) «القرآن والعلوم» ص 12 - 14.

الرحم والنشأة الجنينية

الرحم والنشأة الجنينية يقول الله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (13) [المؤمنون: 12 - 13]. ويقول تعالى: أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ (21) إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ (23) [المرسلات: 20 - 23]. ويقول جل جلاله: يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ [الزمر: 6]. الآيات الكريمة تشير إلى أصل الخلقة من الماء المهين- النطفة- التي تودع في القرار المكين- الرحم- وتسمية الرحم بالقرار المكين الذي يستقر فيه الجنين إلى قدر معلوم حدده الله سبحانه وتعالى تسمية ذات دلالة، وقد وفر له وسائل الراحة والاستقرار والعناية الربانية التي تفوق التصور، وتبرز هذه الوسائل ودقتها في الأمور التالية: 1 - الحوض وشكله: ويتكون من مجموعة من العظام متصلة ببعضها اتصالا دقيقا، فتكون مثل الصندوق الخشبي، ونظرا لاختلاف وظيفة حوض المرأة عن وظيفة حوض الرجل في قضية المحافظة على وضع الرحم فإن الله قد هيأه بعنايته لاحتواء الرحم المتنامي الذي يبلغ آلاف المرات في نهاية الحمل عن حجمه قبل الحمل، حيث لا تتجاوز سعة الرحم قبل الحمل لأكثر من (5، 2) ميليلتر عند الأنثى البالغة، أما في نهاية الحمل فيتسع لسبعة آلاف ميليلتر. لذا كان تجويف الحوض عند الأنثى أوسع وأقصر، وعظام الحوض

أرق وأقل خشونة وأبسط تضاريسا، كل ذلك ليكون حصنا ودرعا للرحم الذي يشتمل على هذه الدرة الثمينة التي تتجلى عظمة الخالق في تكوينها. ولتيسير طروء التغيرات على هذه العظام عند الولادة فتكوين عظام الحوض يتناسب تماما مع ما يتطلب منها من القيام بعمل تنفرد به دون غيرها من عظام الهيكل، وهكذا يحفظ الحوض العظمي الرحم بداخله بحيث لا يصله شيء من الكدمات والهزات التي تتعرض لها المرأة، بل لو أصيبت المرأة في حادث أو سقطت من شاهق وتكسرت عظامها فإننا نجد الرحم في أغلب الأحوال سليما لم يمسه سوء، ولو أن شخصا اعتدى على امرأة ومزق أحشاءها بالسكين فإنه لن يستطيع أن يصل إلى الرحم، إلا إذا كانت المرأة حاملا في الشهر الرابع فما بعده، وأما قبل ذلك فيكاد يكون من المستحيل الوصول إلى الرحم بأي أذى. والحوض على متانته له مفاصل أربعة يمكن من خلالها أن يتحرك قليلا حتى يزداد اتساعه وخاصة عند الحمل والولادة، بينما حوض الرجل لا يكاد يتزحزح. 2 - العضلات والأربطة: تكاد العضلات تحيط بالرحم من جميع جوانبه لتحفظ توازنه وبقاءه معلقا في منتصف الحوض، فمنها العضلات التي تمسكه من أعلى، ومنها ما تشده إلى أسفل، ومنها ما تجره يمنة ويسرة، ومنها التي تشده إلى عظام الحوض، وإلى جهات أخرى من الأحشاء تعرف بالصفاقات الحشوية والصفاقات الجدارية. وهذه الأربطة تتعاون جميعا في حفظ الرحم في موضعه الطبيعي، وفي نفس الوقت تسمح له بالحركة الحقيقية والنمو الهائل في فترة الحمل، ولكأنما الرحم جسر معلق تربطه مجموعة محكمة من الأربطة والأعمدة المتينة المحكمة، بل إنه أعظم من ذلك بكثير، إذ لا يمكن للجسر المعلق أن ينمو أو يغير وضعه وهو متصل بمكانه لا يبرحه، كما أن وجود وفرة من الأحشاء الطرية اللينة وامتلاء الحوض بها يهيئ فراشا وثيرا للرحم عند

امتلائه بالجنين وتعاظمه خلال الأشهر الأخيرة من الحمل. 3 - هرمون الحمل (البروجسترون): ويؤثر هذا الهرمون على تقلصات عضلات الرحم فيجعلها متئدة وقورة بدلا من تلك الحركات النزقة الطائشة التي يسببها هرمون الأنوثة (الأوستروجين) ولهرمون الحمل تأثير هام في استقرار الرحم في فترة الحمل، حتى لا يقذف الجنين وخاصة في أشهره الأولى. وهكذا تتضافر هذه العوامل لجعل الرحم القرار المكين وهل هناك وصف أعظم من هذا الوصف، وتحديد أدق للوظيفة من التحديد الرباني لطبيعة تكوين الرحم ومهمته، إنه وصف الخالق لمخلوقه أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) [الملك: 14]. إنها العناية الإلهية بهذا المخلوق المعزز المكرم، إنه الله سبحانه الذي قدر وأحكم. وإنه الإعجاز القرآني الباهر الذي جاء على لسان النبي الأمي أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ (21) إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ (23) [المرسلات: 20 - 23]. أما الظلمات الثلاث: فإن اكتشافها أحدث، وإن واقعها أعجب، وإن وظائفها أعظم، يقول الطب الحديث عن الظلمات الثلاث ما يلي: إنها ثلاثة أغشية تحيط بالجنين داخل الرحم وتسمى: (أ) غشاء السلى أو (الأمنيون) ويحيط بالجنين مباشرة. (ب) غشاء الكوريون (الغشاء المشيمي). (ج) الغشاء الساقط. (أ) غشاء السلى «الأمنيون»: وهو عبارة عن كيس غشائي رقيق ومقفل يحيط بالجنين إحاطة تامة وبه سائل يزداد مع نمو الجنين .. والجنين يلعب وسط هذا السائل ويتقلب يمنة ويسرة بل ويتشقلب رأسا على عقب. ويمسك بالحبل السري وهو في أمان تام، وللسائل الأمنيوني فوائد جمة من أهمها:

أ- تغذية الجنين: حيث يحتوي السائل على مواد زلالية وسكرية وأملاح يمتصها الجنين مما يساعد على تغذيته ونموه. ب- حماية الجنين ووقايته من الصدمات المفاجئة والحركات الخفيفة والسقطات التي تتعرض لها الأم. ج- يحتفظ الجنين بحرارة ثابتة تقريبا فهو مكيف جيد بحيث لا تزيد الحرارة ولا تقل إلا في حدود ضئيلة جدا. د- يمنع السائل الأمنيوني غشاء الأمنيوني من الالتصاق بالجنين، وذلك لأن التصاق الغشاء بالجنين من العوامل الهامة في حدوث التشوهات الخلقية فوجود السائل عامل مهم في تجنب هذه التشوهات الخلقية. (ب) غشاء الكوريون (الغشاء المشيمي): وهو الغشاء الثاني من الأغشية التي تحيط بالجنين، والزغابات الكثيرة الموجودة في هذا الغشاء ينتقل الغذاء والأوكسجين بواسطتها من الأم إلى الجنين، كما ينتقل غاز ثاني أوكسيد الكربون والبولينا من الجنين إلى دم الأم. وبداية تكوين هذا الغشاء عند تكون النطفة الأمشاج بعد تلقيح البويضة بالحيوان المنوي، وتنقسم البويضة الملقحة وتصبح مثل الكرة أو مثل ثمرة التوت وتسمى (التوتة). وتتكون من طبقات فالطبقة الداخلية يتكون منها الجنين أما الطبقة الخارجية فيتكون منها هذا الغشاء المشيمي وإليه الإشارة بقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ [الحج: 5] فهي المضغة غير المخلقة التي تقوم بمهمة مصنع كامل لتهيئة الغذاء المبسط المناسب للجنين، وإبعاد الفضلات التي يطرحها إلى الدورة الدموية للأم، حيث تفرزها بواسطة الكلى عن طريق البول. (ج) الغشاء الساقط: وهو الغشاء الثالث الذي يحيط بالجنين من

النشأة الجنينية

جميع جوانبه، وهو مكوّن من الغشاء المخاطي المبطن للرحم، وسمي الساقط لأنه يسقط ويخرج مع دم النفاس. فسبحان من خلق فسوى، وقدر فهدى وجلّ جلاله وعظمت حكمته .. : أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ (59) [الواقعة: 58 - 59]. النشأة الجنينية: يقول تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ (¬1) مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (14) [المؤمنون: 12 - 14]. تشير الآيات الكريمة إلى أطوار التكوين السبعة التي يمر فيها الإنسان حتى يصبح بشرا سويا. ولقد أصبحت هذه الأطوار من أهم دراسات العلوم الطبية الحديثة، وكشفت هذه العلوم أسرار التعبير بهذه الألفاظ المخصوصة في هذه الأطوار «نطفة، علقة، مضغة، تكوّن العظام، تكوّن اللحم على العظام». ولا يتسع المجال لذكر ما قالوه هنا، وإنما نشير إلى مقتطفات من أقوالهم تلقي الضوء على جوانب من أسرار التعبير المعجز. ولنستمع إلى رأي العلم الحديث في الطب في هذا الصدد فهم أهل الذكر في هذا المجال: يقول الدكتور محمد علي البار في كتابه القيم «خلق الإنسان بين الطب والقرآن». من هذه الآيات (¬2) الكريمة نستطيع أن نحدد معالم أطوار الجنين ¬

_ (¬1) في «مفردات» الراغب: .... وقوله تعالى: مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ أي من الصفو الذي يسلّ من الأرض. (¬2) آيات سورة: السجدة، الانفطار، آل عمران، الحج، المؤمنون.

مرحلة النطفة

الإنساني وهي: (1) نطفة، (2) علقة، (3) مضغة مخلقة وغير مخلقة، (4) عظام، (5) لحم يكسو العظام، (6) التسوية والتصوير (خلق آخر) والتعديل، (7) نفخ الروح. مرحلة النطفة: والنطفة تطلق على ثلاثة أشياء هي: 1 - نطفة الذكر وهي الحيوانات المنوية. 2 - نطفة الأنثى وهي البويضة. 3 - النطفة الأمشاج وهي النطفة المختلطة من ماء الرجل وماء المرأة أي البويضة الملقحة، والنطفة الأمشاج هي بداية مرحلة خلق الإنسان حيث يلقح الحيوان المنوي البويضة: إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً (2) [الإنسان: 2]. فإذا ما لقّحت البويضة وصارت بويضة ملقحة، ابتدأت انقسامات متعددة. وتعرف هذه المرحلة بمرحلة الانقسام والانشقاق وتتحول البويضة الملقحة (النطفة الأمشاج) إلى ما يشبه التوتة. ويبقى قطر النطفة الأمشاج حتى بعد أن تصبح كرة جرثومية لا يزيد عن 4/ 1 (ربع) مليمتر، وتستغرق هذه المرحلة أسبوعا كاملا حتى تعلق هذه النطفة الأمشاج التي تحولت إلى كرة جرثومية لها خلايا آكلة وقاضمة تعلق بواسطتها وبواسطة حملات دقيقة بجدار الرحم، وتتحول حينئذ إلى المرحلة التي تليها وهي: مرحلة العلقة: وهي الطور الثاني الذي تنتقل إليه النطفة، ويبدأ العلوق منذ اليوم السابع (منذ التلقيح) عند ما تلتصق الكرة الجرثومية بجدار الرحم .. وهناك جملة تعلقات في هذه المرحلة: تعلق أولي بواسطة الخملات الدقيقة، ثم تعلق ثان بواسطة الخلايا الآكلة، ثم تعلق ثالث بواسطة الخملات المشيمية،

مرحلة المضغة"الأسبوع الرابع"

ثم تعلق رابع يربط بين الجنين الحقيقي وبين الغشاء المشيمي بواسطة المعلاق، ولا شك أن أهم ما يميز هذه المرحلة هو هذا التعلق، وإن وصف العلقة العالقة بجدار الرحم والمحاطة بالدم المتجمد (المتخثر) هو أدق وصف لهذه المرحلة. وتستغرق هذه المرحلة أسبوعين تقريبا ينمو خلالها القرص الجنيني إلى لوح كمثري الشكل. وفي نهاية هذه الرحلة تنكشف الطبقة المتوسطة القريبة من محور الجنين لتشكل الكتل البدنية، ويبدأ ظهور أول كتلة بدنية في اليوم العشرين أو الواحد والعشرين منذ التلقيح، وعندئذ تكون العلقة قد تحولت إلى مضغة. وفي هذه المرحلة نجد أن الكرة الجرثومية التي كانت قبيل العلوق لا تزيد عن 2/ 1 نصف مليمتر قد أصبحت بعد العلوق بأسبوع واحد فقط مليمترا ونصف. وفي نهاية الأسبوع الثالث، منذ التلقيح، يصبح طول اللوح الجنيني ملمترين ونصف. مرحلة المضغة «الأسبوع الرابع» (¬1): ويبدأ هذا الطور بظهور الكتل البدنية ويكون أول ظهورها في أعلى اللوح الجنيني جهة الرأس ثم يتوالى ظهور هذه الكتل من الرأس إلى مؤخرة الجنين .. ويبدأ ظهورها في اليوم العشرين أو الواحد والعشرين منذ التلقيح .. ثم تستمر في الظهور واحدة على كل جانب من محور الجنين .. ¬

_ (¬1) عند ما يكون عمر الجنين أسبوعين «مرحلة العلقة» فإن حجمه لا يزيد عن نقطة، وفي بداية المضغة (24) يوما لا يزيد عن حرف، وفي نهايتها يبلغ حجمه حبة القمح، وفي قمة تكوين الأعضاء في الأسبوع السادس ونصف لا يبلغ حجمه حجم حبة الفاصوليا، وفي نهاية تلك المرحلة في الأسبوع السابع والنصف لا يزيد كثيرا عن حبة الفول، وفي الأسبوع التاسع يكون شكله الإنساني مميزا، ويستمر النمو بعد ذلك .. «خلق الإنسان بين الطب والقرآن» ص 418.

مرحلة العظام واللحم

ويكون وصف المضغة أو القطعة من اللحم التي مضغتها الأسنان ولاكتها ثم قذفتها هو أصدق وصف وأدقه لهذه المرحلة. مرحلة العظام واللحم: وهي مرحلة تستغرق الأسبوع الخامس والسادس والسابع، وفي الأسبوع السادس تكون هذه الهياكل الغضروفية لعظام الأطراف العلوية والسفلية قد ظهرت بوضوح وإن كان الطرف العلوي يسبق الطرف السفلي ببضعة أيام، وأول علامة على وجود عضلات الأطراف تظهر في الأسبوع السابع. ومعنى هذا أن العظام تسبق العضلات .. ثم تكسو العضلات العظام وصدق الله العظيم حيث يقول: فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً. ثم أنشأناه خلقا آخر: وهو التصوير والتسوية والتعديل ثم نفخ الروح، لقوله تعالى: هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ [آل عمران: 6]. ويقول عز من قائل: يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ (8) [الانفطار: 6 - 8]. وأما التسوية فهي تتم مع التصوير وقبله وبعده .. فهي تشمل جميع الأعضاء، إن عملية الهدم والبناء والتسوية والتعديل مستمرة في الجنين بشكل مثير .. إذ كل يوم بل كل ساعة تشهد جديدا .. هذه أنبوبة القلب المستطيلة تتحول إلى شكل ( S) ثم تتكون الغرف المتتالية: الأذين العام، والبطين العام، وبصلة القلب، والجيب الوريدي، ثم يعاد التركيب ليدخل الجيب الوريدي في الأذين الأيمن، وتدخل بصلة القلب في البطين الأيمن والأيسر. ومن بصلة القلب تنشأ جذور الشريان الأورطي والشريان الرئوي. إن عملية التسوية والتعديل عملية مستمرة في بناء جسم الإنسان منذ

أن كان جنينا إلى أن يصبح شيخا هرما .. ولكن هذه التسوية والتعديل أبرز ما تكون في الجنين. ولا يمكن أن تتم التسوية والتعديل إلا بعد وضع الأسس. والأسس لجميع الأعضاء توضع في الفترة ما بين الأسبوع الرابع والثامن .. ولهذا تعتبر هذه الفترة هي الفترة الحرجة التي تكون فيها الجينات أشد ما تكون قابلية للتغيير، ولذا فإن تأثير الأدوية والعقاقير أو الأشعة أو الحميات .. تكون في أوج تأثيرها على الجنين في هذه الفترة. وقد شرحت بعض الأحاديث النبوية جوانب في هذه المراحل، فقد جاء في صحيح مسلم قول الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم: «إذا مر بالنطفة اثنتان وأربعون ليلة بعث الله ملكا فصورها وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها، ثم قال: يا رب ذكر أم أنثى؟ فيقضي ربك ما يشاء ويكتبه الملك» (¬1). ويقول الطب الحديث: في نهاية الأسبوع السادس تكون النطفة قد بلغت أوج نشاطها في تكوين هذه الأعضاء وهي قمة المرحلة الحرجة الممتدة من الأسبوع الرابع وحتى الأسبوع الثامن. والمبيض والخصية لا يمكن التعرف عليهما إلا في الأسبوع السابع والثامن حيث يمكن التعرف على الغدة التناسلية خصية هي أم مبيض. وفي رواية أخرى عند مسلم: «إن النطفة إذا استقرت في الرحم أربعين ليلة ثم يتسور عليه الملك فيقول: يا رب ذكر أم أنثى؟» وفي رواية: «بضع وأربعين ليلة» وفي رواية: «لخمس وأربعين» (¬2). وهكذا نرى من مجموعة الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة أن قمة تكوين الأعضاء وتحديد الذكورة والأنوثة على مستوى الغدد التناسلية إنما يكون في الأربعين. وفي هذه الفترة يستطيل الحميل من (5) مليميترات إلى (23) ¬

_ (¬1) صحيح مسلم كتاب القدر 8/ 45. (¬2) السابق ص 46.

مليمترا، وتظهر عليه علامات خارجية كثيرة وواضحة، وإن كان بعضها لم يكتمل في هذه الفترة. ومما تقدم يبدو أن التقسيم القرآني لمراحل نمو الجنين الإنساني أدق من وصف علم الأجنة، ولا يركز بعض علماء علم الأجنة على مرحلة العلقة كما يركز عليها التقسيم القرآني، وكذلك مرحلة التصوير والتسوية والتعديل، أما نفخ الروح فهو لا يزال في طي الغيب الذي لا يعلمه إلا الله وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا [آل عمران: 7] (¬1). أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ (59) [الواقعة: 58 - 59]. هذا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي ماذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (11) [لقمان: 11]. وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ (21) [الذاريات: 21]. ¬

_ (¬1) نقلنا هذا المقطع من كتاب «خلق الإنسان بين الطب والقرآن» للدكتور محمد علي البار، باختصار من الصفحة 365 - 379.

تحقيق الشخصية"البصمات"

تحقيق الشخصية «البصمات» يقول تعالى: لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ (1) وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ (3) بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ [القيامة: 1 - 4]. لقد أثارت الإشارة في الآيات الكريمة انتباه المفسرين ودهشتهم، حيث أقسم الله سبحانه وتعالى بيوم القيامة وبالنفس الباقية على فطرتها التي تلوم صاحبها على كل معصية أو تقصير في طاعة، أقسم بهما على شيء عظيم يعتبر الركن الثاني من أركان العقيدة، ألا وهو بعث الإنسان بعد موته وجمع عظامه للحساب والجزاء. فبعد القسم على ذلك بين الله سبحانه وتعالى أن ذلك غير مستحيل، لأن من كان قادرا على تسوية بنان الإنسان يقدر على جمع عظامه وإعادة الحياة إليها. والشيء المستغرب لأول وهلة في هذا الاستدلال، هو أن القدرة على تسوية البنان، والبنان جزء صغير من تكوين الإنسان، لا يدل بالضرورة على القدرة على إحياء العظام وهي رميم، لأن القدرة على خلق الجزء لا يستلزم بالضرورة القدرة على بناء الجسم كله. وعلى الرغم من محاولات المفسرين إلقاء ضوء على البنان وإبراز جوانب الحكمة والإبداع في تكوين رءوس الأصابع من عظام دقيقة وتركيب الأظافر فيها ووجود الأعصاب الحساسة وغير ذلك، إلا أن الإشارة الدقيقة أدركت فيما بعد في القرن التاسع عشر الميلادي، عند ما اكتشف علماء الطب أن الخطوط الدقيقة الصغيرة الموجودة على البشرة في رءوس الأصابع تختلف من شخص لآخر وأن هذه الخطوط تكون على ثلاثة أنواع

«أقواس، أو عراو، أو دومات- بمعنى دوائر متحدة المركز» وهناك نوع رابع يختلف عن الأنواع المذكورة ويطلق عليه اسم (المركبات) لأنها مركبة من أشكال متعددة. وهذه الخطوط تظهر في جلد الجنين وهو في بطن أمه عند ما يكون عمره بين 100 - 120 يوما، وتتكامل تماما عند مولده، ولا تتغير مدى الحياة ومهما عرض له من إصابات وحروق وأمراض، كما أنه لا تتطابق تمام التطابق من شخص إلى آخر بل لا بد من فوارق تميز أحدهما عن الآخر. لقد قلب الأطباء هذا الاكتشاف العجيب على وجوه، وأجريت الدراسات العميقة حولها وعلى أعداد كبيرة من الناس من مختلف الجنسيات والأعمار، ثم وقفوا أمام الحقيقة عارية ليحنوا الرءوس للقادر على أن يسوي البنان، وفي سنة 1884 م استعملت البصمات في إنجلترا رسميا كوسيلة للتعرف على شخصية الشخص المراد، ولا تزال البصمات أمضى سلاح يشهر في وجه الجريمة إلى يومنا هذا. وتبرز عظمة الخالق سبحانه وتعالى في تشكيل هذه الخطوط على مسافة ضيقة لا تتجاوز بضعة سنتيمترات مربعة، فلا تشابه بين بنان اثنين من ألوف الملايين من البشر. ولو أعطي إنسان مساحة بمقدار قعر الكف مثلا وطلب منه أن يرسم لوحات كثيرة لا تتشابه في خطوطها وتقسيماتها، إن هذا الإنسان مهما كان واسع العقل، ومهما بلغت حيلته في هذا الشأن يمكن أن يرسم ألف أو عدة آلاف من النسخ، تتباين أشكالها وتقسيماتها، ومن ثم تنتهي إمكانياته، وتأتي الأشكال بعد ذلك متماثلة مع بعض ما سبق رسمه، أما خلق الله وإبداعه فلا يعجزه شيء في ذلك. هذا ما توصل إليه العلماء إلى وقتنا الحاضر، ولا نقصر دلالة الآية القرآنية على هذا الجانب حصرا بل قد يأتي اليوم الذي تكتشف فيه أسرار

ربانية أخرى في تسوية البنان، وتبقى الحقيقة الخالدة بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ معلما بارزا على مر الأجيال والعصور تشير إلى مصدر القرآن الكريم. قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الفرقان: 6]. وشيء قريب من سر الخالق في البنان، قضية اختلاف ألوان الناس وأصواتهم فلا نجد شخصين متطابقين في تقاسيم الوجه والبشرة واللون، وكذلك نبرات الصوت وطريقة الكلام، إنها قدرة الخالق العظيم الذي لا تنتهي بدائع صنعه، ولا تنقضي عجائب مخلوقاته، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا: وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ (22) [الروم: 22].

الحساسية الجلدية

الحساسية الجلدية يقول الله في معرض بيان ألوان العذاب التي يلاقيها يوم القيامة الذين كفروا بآيات الله وأغمضوا بصرهم وبصيرتهم عن نور الحق: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً (56) [النساء: 56]. إن قدرة الله سبحانه وتعالى لا يقف أمامها شيء فتبديل الجلود المحترقة بأخرى جديدة أمر غير معجوز عنه، وقد أعاد بعث العظام وهي رميم، إنما الإشارة المعجزة في قوله تعالى: لِيَذُوقُوا الْعَذابَ. لقد قرر الأطباء أن حدود الشعور بألم الكي في الجلد السطحي، فلو احترق الجلد ووصل إلى اللحم لما كان هناك شعور بالألم بدرجة الحالة السابقة لأن الأعصاب التي تشعر بالألم موجودة في الجلد الخارجي. أما في الأنسجة والعضلات والأعضاء الداخلية، فالإحساس فيها ضعيف، لذلك يقول الأطباء: إن الحرق الذي لا يتجاوز الجلد يحدث ألما شديدا بخلاف الحرق الشديد الذي يتجاوز الجلد إلى الأنسجة لأنه مع شدته وخطره لا يحدث ألما كثيرا، فكأن الآية الكريمة تبين أن النار كلما أنضجت الجلد الذي يحتوي على أعصاب الإحساس بالألم جددت هذه الجلود بجلود جديدة ليستمر الشعور بالألم بلا انقطاع ويذوقوا العذاب الأليم (¬1). إنه علم الله الذي أحاط بكل شيء، ودليل على أن هذا الكتاب ¬

_ (¬1) «الجانب العلمي في القرآن الكريم» للدكتور صلاح الدين خطاب، ص 49 بتصرف.

الضغط الجوي وتأثيره على الإنسان

الخالد هو تنزيل الذي خلق الجلود والأنفس وأودع فيها خاصيات الإحساس بالألم وإلا فمن علم الأمي هذه الحقائق المذهلة في نفس الإنسان وتكوينه وميزاته التي تميز بها عن سائر المخلوقات. الضغط الجوي وتأثيره على الإنسان: يخبرنا القرآن الكريم عن حالة الذين يضيقون ذرعا بهدايات الإسلام ووعيده وإنذاره، يشبه حالتهم عند سماعها بحالة من يصعد في السماء وذلك في قوله تعالى: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (125) [الأنعام: 125]. قال المفسرون: إن الآية الكريمة تشير إلى أن حالة الكفار عند سماع الإسلام كحالة من يزاول أمرا غير ممكن لأن صعود السماء مثل فيما يمتنع ويبعد عن الاستطاعة، فكأن الكافر في نفوره من الإسلام وثقله عليه بمنزلة من يتكلف الصعود إلى السماء، فحاله كحال من يزاول ما لا يقدر عليه (¬1). وهذا الفهم محتمل من حيث ظاهر الآية، ولم يكن يتصور قبل صعود الإنسان في الفضاء أكثر من ذلك. إلا أن آفاقا جديدة فتحت في دلالة الآية الكريمة عند ما صعد الإنسان في الفضاء وعرف تأثير الضغط الجوي على أجهزة الإنسان الداخلية. يقول العلم الحديث في هذا الصدد: إن الله سبحانه وتعالى جعل الضغط في داخل الجسم متناسبا تماما مع الضغط الجوي المحيط بالجسم، وقدر قياس هذا الضغط بما يساوي وزن ستة وسبعين سنتمترا من الزئبق. ففي الأحوال الاعتيادية للإنسان ليس هنالك أي تغلب من الضغط الداخلي على الخارجي ولا العكس، وبعد اكتشاف الوسائل الحديثة للارتفاع في أجواء السماء فقد لاحظوا مدى التأثير عند الصعود بهذا الضغط وما ¬

_ (¬1) انظر في ذلك «غرائب القرآن» للنيسابوري، 2/ 21، و «تفسير البيضاوي» ص 178.

يرافقه من انقباض وضيق في الصدر وآلام مبرحة في الرأس والأذنين وجميع المناطق الحساسة في الجسم، وكلما ارتفع في الجو تخلخل الضغط الجوي وزاد الضغط الداخلي واشتد هذا الضيق والشعور بالاختناق، وإذا ما استمر الإنسان في الصعود يأتي الوقت الذي يكون فيه هلاكه المحتم، لذا يضطر رواد الفضاء والطيارون الذين يحلقون عاليا في الأجواء إلى استخدام الألبسة المجهزة الخاصة بهذه الحالات، والتفسير العلمي لهذه الظواهر هو: - كلما ارتفع الإنسان في الجو، انخفض الضغط الجوي، وتغلب عليه الضغط الداخلي للإنسان. - تخلخل الهواء وعدم وجود الأوكسجين الكافي للتنفس. - برودة الجو وعدم حفظ درجة الحرارة بنسبة معينة. - يصل الإنسان عند الخروج من الغلاف الجوي إلى انعدام الوزن وهي مرحلة دقيقة خطيرة. وكل هذه الظواهر تؤدي إلى تغير في وظائف أعضاء الإنسان الداخلية فالغازات في المعدة والأمعاء تتمدد وتسبب تقلصات عنيفة، وقد يؤدي تمدد هذه الغازات إلى انتفاخ يدفع الحجاب الحاجز إلى أعلى، فيضغط على القلب والرئتين مما يسبب الإغماء أو الاختناق في الحالات الشديدة، ويختل نظام الدورة الدموية فقد تنفجر بعض العروق والأغشية في الجسم كغشاء الطبل في الأذنين والإصابة برعاف شديد .. إلخ. هذه هي الحالة التي يشبه بها القرآن الكريم حالة الذين يضيقون ذرعا بسماع آيات القرآن وهدايات الإسلام، إنها كحالة من يصعد في السماء من شعور بالضيق والاختناق: .. وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ. هكذا تنكشف الحجب عن الآيات المعجزة كلما تقدم العلم وتطور على مر العصور.

وجه دلالة الإعجاز العلمي على مصدر القرآن الكريم

وجه دلالة الإعجاز العلمي على مصدر القرآن الكريم إن الإشارات التي وردت في ثنايا آي الذكر الحكيم تتحدث عن بديع صنع الخالق سبحانه وتعالى في هذا الكون الفسيح في مختلف مجالاته، وتتحدث عن النفس الإنسانية وأعماقها وعواطفها ومشاعرها. بلغت هذه اللفتات والإشارات من السعة والشمول مبلغا لا تستطيع أجيال من العلماء الإحاطة بها مهما أوتوا من وسائل وإمكانيات وجهود وطاقات، فهي من الشمول بحيث تمتد في البعد الزمني إلى أصل الكون بمجراته وأفلاك نجومه وكواكبه. ومن الإحاطة بحيث تتعرض للأنظمة المرئية وغير المرئية التي تسير عليها الكائنات الحية والجمادات من رياح، وسحب، وبحار، ونبات، وحيوان، وإنسان، وبلغت هذه الإشارات والتلميحات مبلغا من الدقة بحيث تعجز أحدث الوسائل والمختبرات العلمية عن متابعة هذه الحقائق، وكما رأينا من الأمثلة المتقدمة يقف العلم التجريبي الحديث فاغرا فاه عند بعض هذه الحقائق الدقيقة. إن سوق القرآن الكريم هذه الحقائق بهذه السعة والشمول، وبهذه الدقة المتناهية يحمل كل صاحب عقل منصف إلى القول بأن هذا تنزيل العزيز الحكيم الذي أحاط بكل شيء علما. إن البشرية كلها عاجزة عن الإحاطة بهذه الحقائق والوصول إلى ماهيتها وأسرارها، فهل يعقل أن يكون هذا القرآن من عند رجل أمي عاش

في بيئة أمية لم يذكر التاريخ عن أسلافها تقدما في فنون علوم الكون أو النفس البشرية؟. وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً (4) وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (6) [الفرقان: 4 - 6].

الفصل الثالث الإعجاز التشريعي

الفصل الثالث الإعجاز التّشريعيّ الحديث عن الإعجاز التشريعي في القرآن الكريم حديث عن النظام الخالد للكون وما فيه، فالذي أبدع الكون من العدم وأوجد فيه من المخلوقات ما لا يحصى عددا وجعل أشرف هذه المخلوقات وأكرمها بني آدم، قد اختار لهذا المخلوق المعزز دستورا في الحياة ينظم سلوكه في الدنيا وعلاقته بنفسه وبخالقه سبحانه وتعالى، ورتب نتائج دنيوية وأخروية على نتيجة سيره وفق هذا الدستور الإلهي الكريم، حيث يحصل الإنسان على الطمأنينة والعزة والرفاه في الدنيا ويشعر بإنسانيته الحقة، ويدرك الحكمة الإلهية من خلقه وإيجاده وتفضيله على سائر المخلوقات، كما ضمن الله سبحانه وتعالى له السعادة في الآخرة استمرارا لسعادته الدنيوية: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ [الأعراف: 32]. واشتمل القرآن الكريم على الأنظمة التي يحتاجها البشر في حياتهم المعاشية ولم يدع جانبا من جوانب الحياة إلا كانت له نظرته الخاصة وتشريعه المستقل بحيث ينتج من مجموع أنظمته تشريع متكامل لمناحي الحياة كلها الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً [المائدة: 5]. وينتج من تطبيقه على الناس أمة متكاملة الشخصية متميزة الملامح والسلوك عن سائر الأمم كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ

وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران: 110]. إن الجانب التشريعي والخلقي في القرآن الكريم لآية وأيما آية على كون القرآن من عند الله وليس من عند البشر. فالأسس الأخلاقية والقواعد التشريعية السامية التي تضمنها القرآن الكريم تخرج عن طوق البشر إحاطة ودقة وشمولا. يدل تاريخ الإنسانية على أنها لم تنجب مفكرا أو فيلسوفا أو مصلحا اجتماعيا استطاع أن يضع نظاما كاملا للعلاقات الداخلية والخارجية لدولة ما، وكم من حكيم حاول ذلك، ولكن نظرياته ظهر فيها النقص أحيانا والتناقض طورا ومجانبة الصواب كثيرا، وثار على بعضها أتباعه في حياته أو بعد مماته. ولا تزال هذه الظاهرة تتكرر إلى يومنا هذا في الأمم والشعوب التي لا تدين دين الحق، علما أن هذه النظريات لا تتناول إلا جانبا واحدا بل وضيقا من جوانب الحياة الاجتماعية، أما أن توضع نظرية متكاملة الجوانب للكون والمخلوقات والأفراد والجماعات في شتى صورها وحالاتها، فهذا مما يخرج من طاقة البشر مهما أوتوا من علم وحكمة، فما بالك إذا ورد مثل هذا النظام الكامل على لسان رجل أمي لم يشتهر في حياته بالاطلاع على كتب وفلسفات الأقدمين، ولم يعرف بالأسفار العلمية والتجوال في الآفاق بحثا وراء الأنظمة والتشريعات. وبقيت تلك العلوم والمبادئ قرونا وأجيالا كلما مر عليها دول وأزمان وتناولتها الأيدي والأفكار بالبحث والنقاش والنقد والتمحيص ظهر بريقها واشتد لمعانها وأدرك المنصفون من أهل كل عصر ربانية مصدرها وجدارة تطبيقها وصلاحها دون غيرها لكل زمان ومكان. إن المبادئ السامية التي وردت في الشريعة الإسلامية وتضمنها القرآن الكريم برهان ساطع على مصدر القرآن الكريم ودليل صدق على نبوة

أولا: في العقيدة

محمد صلّى الله عليه وسلم وأنه تلقاها من لدن الحكيم الخبير، ليكون رحمة للعالمين. وسنلقي في مبحث الإعجاز التشريعي بعض الأضواء على جوانب من الهدايات القرآنية في: أولا: العقيدة. ثانيا: الشريعة. ثالثا: الأخلاق. وسنكتفي بالعموميات في كل ذلك، لأن التفاصيل تستغرق عمر الأجيال ولا زال علماء الأمة الإسلامية يستنبطون تشريعاتهم وأنظمة حياتهم وحلول مشاكلهم المستجدة من آي الذكر الحكيم، وسيبقى الدستور الخالد نبراسا في حياة المسلمين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. أولا: في العقيدة: جاء القرآن الكريم بعقيدة سهلة خالية من التعقيد ملائمة للفطرة الإنسانية تملأ النفس طمأنينة وارتياحا، والقلب نورا وانشراحا، والعقل قناعة. فقد تولى القرآن الكريم توضيح العقيدة الإسلامية بأسلوب عذب جذاب لا يمكن لتاليه أو سامعه إلا أن يستجيب لنداء الفطرة ومقالة الحق بأنه تنزيل من حكيم حميد: 1 - ففي مجال بيان توحيد الله سبحانه وتعالى والاستدلال عليه من خلال مخلوقاته وآثار الإبداع في خلقه- وهي الطريقة الفطرية للإقناع والإتباع- يقول تعالى:* إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95) فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98) وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ

مُتَشابِهٍ انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99) وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ (100) بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101) ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102) لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103) قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104) [الأنعام: 95 - 104]. ورد القرآن شبه المنحرفين وزيغ الزائغين عن عقيدة التوحيد بالبراهين العقلية الدامغة، يقول تعالى: قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42) [الإسراء: 42] لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) [الأنبياء: 22] مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92) [المؤمنون: 91 - 92]. 2 - وقرر القرآن الكريم وحدة الرسالات السماوية في أهدافها ومنطلقاتها ووسائلها، وإن اختلفت في جزئيات تشريعاتها، يقول تعالى: كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (213) [البقرة: 213]. وبين القرآن الكريم أن اختيار الرسل من البشر ومن جنس أقوامهم وبألسنتهم سنّة الله في الرسالات إذ لا تتحقق الغاية من إرسالهم على الشكل الأمثل إلا بتلك المواصفات، كما أن تأييدهم بالمعجزات أمر لازم لإقامة الحجة على الناس، يقول تعالى: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ [فاطر: 24] وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي

الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36) [النحل: 36] وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4) [إبراهيم: 4] وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلَّا أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا (94) قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا (95) [الإسراء: 95]. ويوضح القرآن الكريم أن مهمة الرسل تبليغ رسالات ربهم إلى الأقوام بعد تطبيقها العملي في حياتهم الخاصة، وليس من مهماتهم حمل الناس على الدخول في دينهم أو إنزال العقوبات بهم، يقول تعالى: قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ (57) قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58) [الأنعام: 57 - 58]. ويقرر القرآن أن الميثاق قد أخذ على الأنبياء وأقوامهم أن يؤمنوا بخاتم النبيّين ويجاهدوا معه لنصرة دعوته إن أدركوا زمان بعثته التي يتم بها صرح النبوات، يقول تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) [آل عمران: 81]. ويقرر القرآن الكريم أن الإيمان برسل الله جميعا وبما جاءوا به من عند الله من أركان الإيمان وأساسياته، يقول تعالى: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) [البقرة: 136] إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ

ذلِكَ سَبِيلًا (150) أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (151) [النساء: 150 - 151]. 3 - وقرر القرآن الكريم عقيدة البعث بعد الموت والحساب والجزاء يوم القيامة أوضح تقرير وأدقه، فاليوم الآخر من مستوجبات العدل الإلهي المطلق، فلا بد من التمييز بين المحسن والمسيء والصالح والطالح، يقول تعالى: أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) [القلم: 35 - 36]: أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28) [ص: 28]. أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116) [المؤمنون: 115 - 116]. ولما كان البعث بعد الموت من الأمور الغيبية التي لا تدرك آثارها فقد أكثر القرآن الكريم من ضرب الأمثال والحجج العقلية والقياس على الأمور المشاهدة المحسوسة. يقول تعالى: وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (49) * قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً (50) أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً (51) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا (52) [الإسراء: 49 - 52]. وقال تعالى: وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83) [يس: 78 - 83]. وقال تعالى: وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) [فصلت: 39]. إن الإيمان بالبعث بعد الموت والحساب والجزاء عنصر مهم في

تقويم سلوك الإنسان في الحياة الدنيا ودفعه نحو الكمالات النفسية والتحلي بالفضائل والابتعاد عن الرذائل، كما أنه عزاء لأهل الخير والصلاح إن فاتتهم سراء أو أصابهم الضر في الحياة الدنيا. لذا نجد القرآن الكريم يصف منكري البعث بالخسران: قال تعالى: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (31) وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (32) [الأنعام: 31 - 32]. ولقد خسر الكافرون بالبعث عقولهم وأفهامهم إذ فهموا- خطأ- أن لا حكمة من خلقهم. وخسروا العزاء إذا شقوا في الحياة الدنيا. وخسروا ما أعده الله لأوليائه المؤمنين يوم القيامة. هذه أسس العقيدة الإسلامية: الألوهية- الرسالة- المعاد- وقد فصلها القرآن الكريم أوضح تفصيل وأبلغه، ولم يدع مجالا من مجالاتها إلا وقرره أحكم تقرير. ولكل من هذه القضايا مستلزمات ومقومات عرضها القرآن الكريم أيضا فمن مقتضيات الإيمان بالألوهية: الإيمان بأسماء الله وصفاته وما يجب لله سبحانه وتعالى من صفات الكمال المطلق وتنزيهه عن صفات النقص. والرسالة تستلزم الإيمان بالكتب التي تضمنت الرسالات وبالأشخاص الذين حملوها، وما يجب توفره فيهم من صدق وأمانة وفطانة وعصمة، كما تستلزم الرسالة الإيمان بالملائكة الذين هم السفراء بين عالم الغيب والشهادة الأمناء على تنفيذ حكم الله في خلقه. والإيمان بالمعاد يستلزم الإيمان بما ورد في هذا اليوم من موقف ومحشر وميزان وصراط وجنة ونار، وما أعد لأهل الجنة من نعيم وما يلقاه أهل النار من الجحيم. وقد تناول القرآن كل ذلك تفصيلا، فكانت العقيدة الإسلامية الراسخة

ثانيا: في الشريعة

النقية الصافية الجلية المشرقة من غير تعقيد أو غموض، أو حيرة واضطراب: آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) [البقرة: 285]. ثانيا: في الشريعة: لقد أرسى القرآن الكريم دعائم المجتمع الإسلامي على أسس متينة وشرع لنا من التشريعات المستمدة من العقيدة الراسخة ما يوفر له السعادة والطمأنينة ويسمو به نحو الكمال البشري. وتمتزج هذه التشريعات بالعقيدة امتزاج الروح بالجسد، ويمكن تلمس هذه النتائج العظيمة من خلال التطبيق الجاد المخلص لأحكامه، وأحداث التاريخ التي ملئت بها بطون الكتب من سير السلف الصالح خير شاهد على مدى نجاح هذه التشريعات في توفير السعادة والطمأنينة والرفاه. وفيما يلي إشارة سريعة إلى جملة من هذه الأسس والتشريعات التي تضمنها القرآن الكريم: 1 - الرابطة بين أفراد المجتمع الإسلامي رابطة الولاء لله ولرسوله وللمؤمنين: إن الأساس الذي يبنى عليه هيكل المجتمع الإسلامي هو أن رابطة العقيدة هي التي تشكل الآصرة التي تربط الأفراد في المجتمع، وليس للرابطة الوطنية أو القومية أو القبلية أو الجنس أو اللون أي أثر في المجتمع الإسلامي. وارتباط المسلم بالوطن والقوم بمقدار ارتباط هذا الوطن وأهله بالإسلام، فولاء المسلم لعقيدته أولا وآخرا، لذا نجد القرآن الكريم ندد بمن آثر الوطن والمسكن والأهل والأقارب على العقيدة، وامتدح الذين ضحوا بكل ذلك في سبيل عقيدتهم، يقول تعالى: لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ

بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22) [المجادلة: 22]. وقال تعالى: وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً (66) [النساء: 66]. وقد تضمن القرآن الكريم من أحكام العبادات والمعاملات والحدود والقصاص ما يقوي أواصر الجماعة ويثبت روح التعاون والتعاضد بين أفرادها ويعودهم على النظام والطاعة والانقياد للقيادة المؤمنة العليا في المجتمع الإسلامي، ويتجلى ذلك في تشريعات الصلاة والزكاة والصوم والحج .... ففي الصلاة تربية الفرد على النظام وتلقي الأوامر من الرئيس المباشر (الإمام)، ولعل هذا المعنى أثر في نفس عدو الله رستم في القادسية عند ما كان يراقب الجيش الإسلامي وهو يؤدي صلاة الجماعة صفوفا خلف الإمام حيث قال: (لقد مزق عمر كبدي، يعلم الأعراب النظام). وفي الزكاة قضاء على الحقد والبغضاء بين الطبقات وإشعار بتكافل المسلمين وتضامنهم. وفي الصوم إشعار بوحدة الأمة وتعويد لها على الصبر وقوة الإرادة وتنمية مراقبة الله تعالى في السر والعلن. وفي الحج إبراز المساواة بين الناس وتذكيرهم بالموقف الأكبر وإظهار للمساواة بين المسلمين، ووحدة أمتهم الإسلامية على اختلاف ألوانها وأجناسها وتحقيق لقوله تعالى: إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92) [الأنبياء: 92].

إلى جانب تقوية صلة الفرد بالله سبحانه وتعالى وتزكية روحه والتسامي على الأهواء والنزوات المنحطة. قرر القرآن الكريم من التشريعات التفصيلية للفرد والمجتمع ما يقطع دابر الشقاق والخلاف بين المسلمين، وإن وقع شيء من ذلك ضيق هوّة النزاع بين المتخاصمين للحيلولة دون انتشاره واستمراره. فمن أجل ذلك جاءت التشريعات لصيانة دماء الناس فيما بينهم فشرع القصاص في النفس والأعضاء بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (178) [البقرة: 178]. وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45) [المائدة: 45]. وشرع من الأحكام ما صان أعراض الناس وحذر من انتهاكها ولم يبحها إلا بعقد الزوجية أو ملك اليمين، يقول تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2) الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3) [النور: 2 - 3]. كما سن القرآن الكريم من التشريعات ما يحفظ أموال الناس ويمنع من الاستيلاء عليه عن طريق الغش والخداع والنصب والإكراه وحيل الربا وأنواع الاستغلال الحرام، يقول تعالى: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188) [البقرة: 188].

2 - الأسرة ومكانتها في القرآن

وأبدل بذلك إباحة البيع والشراء فقال تعالى: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا [البقرة: 275]. وفرض الزكاة وحث على الصدقات المطلقة توسيعا لقاعدة التداول المالي قال تعالى:* إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60) [التوبة: 60]. وحرم كنز المال ومنعه عن أصحاب الحقوق والمحتاجين فقال تعالى: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35) [التوبة: 34 - 35]. ووعد المنفقين في سبيل الله بالمضاعفة في الدنيا والمثوبة العظيمة في الآخرة فقال جل من قائل: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245) [البقرة: 245]. وقال: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (261) [البقرة: 261]. كل ذلك لمنع تجميع المال في أيد قليلة تعيش طفيلية على جهد العاملين وكدحهم: كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ [الحشر: 7]. 2 - الأسرة ومكانتها في القرآن: أولى القرآن الكريم الأسرة اهتماما كبيرا باعتبارها اللبنة الأولى من لبنات الأمة، ومن البدهي أن البناء يستمد قوته من قوة لبناته وضعفه من ضعفها، فكلما كانت الأسرة قوية متماسكة ذات مناعة تجاه الأوبئة الخلقية والانحرافات الاجتماعية بني صرح الأمة قويا منيعا وإذا كانت الأسرة ضعيفة

منحلة كان انحلال الأمة وتفسخها نتيجة طبيعية لذلك، لذا لم يترك القرآن الكريم جانبا من شئونها إلا وتوجه له بالتوجيه والتسديد: أ- جعل القرآن الكريم الزواج أصل نشوء الأسرة ومن هنا أخذ الزواج نفس العناية التي أخذتها الأسرة وأسبغ عليه نفس القدسية والجلال، يقول تعالى: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72) [النحل: 72]. وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21) [الروم: 21]. وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (20) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (21) [النساء: 20 - 21]. ب- ولما كان للزواج هذه الأهمية فقد عني القرآن الكريم بجملة من الوسائل التي من شأنها إذا روعيت أن تقوي الحياة الزوجية وتدعم استمرارها وتحول بين تدهورها وانحلالها. من هذه الوسائل ما يجب مراعاته في الزواج منذ اللحظة الأولى، لحظة التفكير فيه والتوجيه إليه والعزم عليه، ومنها ما يجب مراعاته بعد أن يتم عقد الزواج وتسير الحياة الزوجية في طريقها، ومنها ما يجب مراعاته حين الشعور بمبدإ الزعزعة والاضطراب فترجع النفوس عن غيها وتقف في جانب المحافظة ودوام الاتصال بدلا من الاندفاع في الغضب والانحلال. أما إذا لم تتسع ساحة الدار للشقاق والخلاف بين الزوجين فقد أمر الله بعرض النزاع على المهتمين بشئون الزوجين من القرابة لإيجاد الحل الذي يحفظ على الزوجين ودّهما ويعيد المياه إلى مجاريها. وإن كانت الأخرى فلكي يمضي كل في سبيله وقد عرف ما له وما عليه فلا ضيم ولا ظلم ..

3 - الدولة والحكومة في القرآن

وهكذا لو تتبعنا المسيرة القرآنية مع الأسرة لطال بنا المسير ونحن نستعرض التشريعات الحكيمة في حالات الوفاق والاستمرار، وفي حالات الطلاق والانفصال، وفي حالة الحياة وبعد الممات. 3 - الدولة والحكومة في القرآن: ومن الموضوعات اللافتة للنظر في القرآن الكريم تشريعاته المتعلقة بشئون السلطة والسياسة الداخلية والخارجية للدولة الإسلامية في السلم والحرب، لقد أقام الإسلام دولة لم يشهد التاريخ لها مثيلا تحققت فيها كل مقومات السعادة والأمن والعدل وكل مظاهر القوة والعظمة والمجد، وذلك نتيجة تطبيق أحكام القرآن الكريم، فالدولة تستمد عظمتها ومجدها من المبادئ التي تحملها إلى الإنسانية وتسهر على تطبيقها بنزاهة وعدالة. ونشير إلى جملة من هذه المبادئ الأساسية التي قامت عليها الدولة الإسلامية: أ- الشورى: لقد قرن القرآن الكريم بين الشورى وبين عناصر الشخصية المؤمنة مثل الصلاة والزكاة فهي من المقومات الأساسية في تكوين شخصيته أيضا. يقول تعالى: وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (38) وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) [الشورى: 37 - 39]. ولم يحدد القرآن الكريم طريقة المشورة ووسيلتها توسعة ورحمة لأن الوسيلة قد تختلف من جيل إلى جيل. إلا أن السوابق الدستورية في عصر رسول الله صلّى الله عليه وسلم والخلافة الراشدة تبين أنهم كانوا يوسعون من أبعادها بقدر الإمكان، حتى تشمل فئات المسلمين وطبقاتهم، وأهل الاختصاص والرأي فيهم، وإذا ما انتهت الشورى إلى رأي أو قرار وأجمع أهل الحل والعقد على أمر وجب على جميع المسلمين طاعتهم.

ب - العدل المطلق بين الرعية

ب- العدل المطلق بين الرعية: فلا وجود في الدولة الإسلامية للمتنفذين الذين يتسلطون على حقوق الضعفاء، بل الناس سواسية، الحاكم والمحكوم، القوي والضعيف، الصغير والكبير، أمام القضاء والحكم. ومن هنا إقامة العدل بين الناس من أوليات الدعوة الإلهية. يقول سبحانه وتعالى: فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15) [الشورى: 15]. ويبين القرآن الكريم أن العدل في كل الظروف وحيال جميع المواقف وتجاه كل إنسان يجب أن يطبق سواء كانوا من الأقرباء أو البعداء، وسواء كانوا من الأصدقاء أو الأعداء، من المحبين أو المبغضين. يقول تعالى:* إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) [النحل: 90].* يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (135) [النساء: 135]. فلا تفرقة بين الأشخاص في تحقيق العدالة، وإذا حوبي القريب المحب على حساب العدالة، وأبغض البعيد وظلم بسبب العداوة أو الجنس أو اللون اضطرب شأن الدولة واختلت المعايير والقيم فيها فقوض أركانها. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (8) [المائدة: 8]. ج- التكافل الاجتماعي: يبين القرآن الكريم أهمية التكافل الاجتماعي في بناء الدولة الإسلامية إذ إن شعور أفراد الأمة الإسلامية بمسئوليتهم جميعا عن تصرفات الأفراد،

وأن كل واحد منهم حامل لتبعات أخيه ومحمول على أخيه، فيسأل عن نفسه ويسأل عن غيره. وهذا قانون من قوانين الاجتماع الراقي، ومن المقومات التي توفر الحياة السعيدة الكريمة للأمة وتوفر لها المناخ الملائم لأداء دورها في الحياة. وقد أشار القرآن الكريم إلى شعبتي التكافل الاجتماعي ودعا إلى القيام بهما: أما الشعبة الأولى فهي الجانب الأدبي في التكافل. وهي تبرز تكافل المسلمين وتعاونهم على إحقاق الخير وتأييده ونصرته وكسر شوكة الباطل واجتثاث جذوره والقضاء عليه. إنه دعامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يقول تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71) [التوبة: 71]. إن سنّة الله في المجتمعات هي أن أفراد المجتمع إن لم يسندوا أولي الأمر في محاربة الباطل، وإقامة العدل، والأخذ على يد الظلمة والفسقة، إن لم يقوموا بما كلفهم الله به استشرى الباطل وعجز السلطان عن تنفيذ الأحكام فكان مصير الأمة الدمار والخراب فَلَوْلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ وَكانُوا مُجْرِمِينَ (116) [هود: 116]. وأما الشعبة الثانية في التكافل الاجتماعي فشعبة مادية. وسبيلها على مستوى الفرد في الجماعة الإسلامية هو أن يمد يد المعونة في حاجة المحتاج وإغاثة الملهوف وتفريج كربة المكروب وتأمين الخائف وإطعام الجائع، وقد حث القرآن الكريم على هذا التعاون المادي واستنهض الهمم فيه، يقول جل جلاله:* لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى

4 - الأسس التي بنيت عليها علاقات الدولة الإسلامية بغيرها

حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177) [البقرة: 177]. وعلى نطاق الدولة فمهمتها كفالة المجتمع الإسلامي بأسره وتوفير الحاجيات الأساسية من مطعم وملبس ومأكل، وقد جاء ذلك صريحا في سنّة رسول الله صلّى الله عليه وسلم وسنّة خلفائه الراشدين، يقول عليه الصلاة والسلام: «أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن مات وعليه دين ولم يترك وفاء فعلي قضاؤه، ومن ترك مالا فلورثته» وفي رواية: «من ترك دينا أو ضياعا فليأتني فأنا مولاه» رواه مسلم من حديث أبي هريرة (¬1). ويقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (ولم يبق أحد من المسلمين إلا وله في هذا المال حق، إلا ما تملكون من رقيقكم، فإن أعش إن شاء الله لم يبق أحد من المسلمين إلا سيأتيه حقه، حتى الراعي بسر وحمير يأتيه ولم يعرق فيه جبينه) (¬2). 4 - الأسس التي بنيت عليها علاقات الدولة الإسلامية بغيرها: ذكر القرآن الكريم المبادئ التي يحدد المسلمون بموجبها علاقتهم بغيرهم والنظرة القرآنية إلى هذه العلاقات متمشية مع مبادئه السامية في نظرته إلى الكون والإنسان عامة. فمن سنن الله في المجتمعات الإنسانية سنة التدافع، فالحق لا بد له من قوة تسند مسيرته، وإلا تغلب عليه الباطل وأهله وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ [البقرة: 251]. لذا كانت نظرة القرآن الكريم إلى الإنسانية أنها مأمورة بالسير في ¬

_ (¬1) صحيح مسلم، كتاب الفرائض ج 5 ص 62. (¬2) تفسير ابن كثير ج 4 ص 340، ورواه النسائي بلفظ قريب في كتاب قسم الفيء ج 7 ص 137.

الكون على منهج خالق الكون، فإذا اضطرب أمرها واندثرت معالم الحق منها كانت مهمة الرسل عليهم الصلاة والسلام بيانه لها، فإن صممت على السير في متاهات الحياة على غير بصيرة اقتضت مصلحتها أن تعاد إلى الطريق السوي بالقوة. فالنظرة الإسلامية إلى الإنسان نظرة شفقة وعطف ورحمة، والمسلمون حين يدعون الناس إلى الإسلام إنما يريدون لهم الخير والفلاح، فإن أصر الناس على معاندة الحق وتنكب طريق الفلاح كانت النظرة الإسلامية العلاجية لمثل هذه الحالات إعلان الجهاد في سبيل إحقاق الحق وإزالة العقبات أمام الدعوة والدعاة ورفع الظلم والاضطهاد عن المستضعفين. وإلى هذه الغايات تشير الآية الكريمة: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) [الحج: 39 - 40]. والناس أمام دعوة الحق فئات، وقد أشار القرآن إلى الموقف الذي ينبغي اتخاذه تجاه كل فئة. 1 - فمنهم الذين يقفون في وجه دعوة الحق موقف العداء، ويحاولون الاعتداء على بيضة الإسلام في أرض المسلمين، أو يمنعون الدعاة من إبلاغ الدعوة إلى الشعوب بالاعتداء عليهم وإخراجهم من أرض الله، أو يفتنون المسلمين من سكان بلادهم عن دينهم بمنعهم من إقامة شعائر دينهم، فهؤلاء المحاربون الذين حث القرآن على قتالهم بكل وسائله وطرقه بالهجوم على مآمنهم والقصد إلى مكامنهم، وفي ذلك يقول الله سبحانه وتعالى: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) [التوبة: 5].

ويقول تعالى: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ (29) [التوبة: 29]. إلا أن الجهاد الإسلامي لا يتجاوز معسكر الحكام والجيوش، أما العلاقة بين المسلمين والشعوب فتبقى علاقة ود وعطف ورغبة في الهداية، يقول تعالى: لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9) [الممتحنة: 8 - 9]. ويرغب القرآن الكريم في إنهاء القتال إن مال الأعداء إلى السلم ما لم تظهر منهم أمارات الخديعة والمكر:* وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63) [الأنفال: 61 - 63]. 2 - والفئة الثانية أهل الميثاق: وتمشيا مع شرعة القرآن في جعل الجهاد علاجا لحالات لم تنفع فيها الحكمة والموعظة الحسنة فقد سن للمسلمين حق إنشاء معاهدات ومواثيق بينهم وبين غيرهم بدأ وبعد حرب، وأمر بالوقوف عند هذه المواثيق بقطع النظر عن أي اعتبار ما داموا لا ينقضون منها شيئا ولا يظاهرون على المسلمين أحدا، يقول تعالى: وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا [الإسراء: 34] ويقول: وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (91) [النحل: 91]. إلا أن مراعاة المواثيق والعهود لا تجعلنا في غفلة عن حال العدو، فنحن ملتزمون بمضمون المعاهدة إذا حافظ عليها الطرف الآخر ولم تبد من

جانبه نية الخيانة ولم يخل بشيء من التزاماته، ولم يظاهر علينا عدوا بالمال أو السلاح أو الرأي والتدبير، فإن بدر منه ما ينقض مضمون المعاهدة كان لنا أن نعامله بالمثل، وبذلك تفقد المعاهدة حرمتها ونكون في حل من التزاماتها، ولكن القرآن أوجب عندئذ إعلام الطرف الآخر بنبذ المعاهدة ولا يسمح بالمباغتة إلا بعد وصول نبأ النبذ إليهم، يقول تعالى: وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ (58) [الأنفال: 58]. 3 - والفئة الثالثة هم فئة المسالمين (المحايدين): وهم الذين يعتزلون قتال المسلمين ويكفون أيديهم وألسنتهم ولا يظاهرون عليهم عدوا، وهم الذين لا يريدون أن يكونوا مع المؤمنين على قومهم، ولا مع قومهم على المؤمنين، فهؤلاء لا يقاتلون ما التزموا الحياد في مكانهم بعيدين عن المحاربين. يقول تعالى في شأن هؤلاء: إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا (90) [النساء: 90]. وهكذا تتضح لنا معالم هدايات القرآن الكريم في تنظيم شئون الحياة كلها صافية نقية توفر السعادة للفرد والأمن والاستقرار للمجتمع وتحفظ للأمة كيانها وهيبتها ومركزها بين الأمم. وإذا كان المعيار الذي يعرف به عظمة التشريعات وصلاحها وشمولها ودقتها هو الأثر الذي تتركه في المجتمعات ومدى توفير السعادة والطمأنينة للشعوب فإن أثر تطبيق الشرائع الإسلامية ظاهرة للعيان في مختلف العصور الإسلامية وفي سائر أقطار المسلمين. فسعادة المسلمين ورقيهم وتقدمهم مرتبطة بالتمسك بشرائع الإسلام وهم قوم أعزهم الله بالإسلام فمهما ابتغوا العزة في غيره أذلهم الله.

ثالثا: في الأخلاق

ثالثا: في الأخلاق: لقد أولى القرآن الكريم الأخلاق أهمية كبيرة، وحث على التمسك بفضائلها بمختلف الأساليب، وحذر من ارتكاب مرذولها بشتى الطرق، ونظرة القرآن إلى الأخلاق منبثقة أيضا من نظرته إلى الكون والحياة والإنسان. وإذا كانت العقائد تشكل أركان الصرح الإسلامي فإن التشريعات تكون تقسيمات حجراته وممراته ومداخله، والأخلاق تضفي البهاء والرونق والجمال على الصرح المكتمل، وتصبغه الصبغة الربانية المتميزة. وإذا كانت العقيدة الإسلامية تشكل جذور الدوحة الإسلامية وجذعها فإن الشريعة تمثل أغصانها وتشعباتها، والأخلاق تكون ثمارها اليانعة وظلالها الوارفة ومنظرها البهيج النضر: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) [إبراهيم: 24 - 25]. لقد عرضت آيات القرآن الكريم الدعوة إلى التحلي بالأخلاق الفاضلة من خلال الالتزام بالعقيدة الإسلامية ومن خلال الأوامر الربانية، لأن الله الذي خلق الإنسان وأودع فيه الفطرة المستقيمة أودع فيه أيضا العواطف والمشاعر والغرائز والحاجات ووضح المنهج الأمثل الذي يحافظ على استقامة الفطرة، وينمي فيها نوازع الخير، ويحد من أهواء النفس والشهوات ويهذب الغرائز ويسمو بها ويوجهها إلى الكمالات الإنسانية: إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى [النجم: 32]. ولقد تنوعت الأساليب القرآنية في عرض الأخلاق والحث على التحلي بها فكثيرا ما يكرر القرآن الكريم خلقا من الأخلاق أو صفة مستمدة منه ويستعملها استعمالات شتى. وما ذاك إلا بهدف ملء أسماع المؤمنين من هذه الصفة، فإذا ما سيطرت عليهم استشعروها في أنفسهم واتصفوا بها

في سلوكهم ونفروا من ضدها، وهذا أسلوب من الأساليب التربوية الرفيعة. خذ مثلا على ذلك خلق (العزة) فقد كرر القرآن الكريم وصف ذات الله القدسية بصفة العزيز ما يقرب من تسعين مرة. ووصف به الرسول والمؤمنين في قوله تعالى: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ [المنافقون: 8]. وقال تارة أخرى عن عباد الله الذين يحبهم ويحبونه: أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ [المائدة: 54]. وتارة يحصرها في الخالق سبحانه يهبها لمن يشاء: قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) [آل عمران: 26]. وفيما يلي جملة من هذه الأساليب من خلال آيات الذكر الحكيم: أ- تعرض كثير من الآيات الكريمة أمهات الأخلاق الفاضلة وتدعو إلى التمسك بها لأنها أمر إلهي، وفي التمسك بها فلاح البشرية وسعادتها والفوز برضوان الله سبحانه وتعالى. وبالنص على هذه الأمور العامة وكأن الهدايات القرآنية ترسم الخطوط العريضة في خارطة السلوك البشري وما ينبغي أن يكون الحال عليه. فنقرأ مثلا قوله تعالى: * إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (91) [النحل: 90 - 91]. والبر والتقوى مرتبتان لا يدركهما إلا من اتصف بصفات عظيمة وارتفع عن الشهوات وتسامى في العواطف والمشاعر، وكانت منطلقاته في

ذلك الإيمان الراسخ بالله واليوم الآخر، يقول تعالى:* لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177) [البقرة: 177]. فالآية الكريمة جمعت أطراف البر ابتداء بالعقيدة إذ هي الأساس الذي يبنى عليه غيره واستطرادا إلى التشريعات التي تكون الهيكل والقوام وانتهاء بالأخلاق والفضائل وهي المزايا الكريمة الراقية. يقول ابن عاشور: (فلله هذا الاستقراء البديع الذي يعجز عنه كل خطيب وحكيم غير العلام الحكيم، وقد جمعت هذه الخصال جماع الفضائل الفردية والاجتماعية الناشئة عنها صلاح أفراد المجتمع من أصول العقيدة وصالحات الأعمال، فالإيمان وإقام الصلاة هما منبع الفضائل الفردية، لأنهما ينبثق عنهما سائر الفرديات المأمور بها، والزكاة وإيتاء المال أصل نظام الجماعة صغيرها وكبيرها، والمواساة تقوى عنها الأخوة والاتحاد وتسدد مصالح للأمة كثيرة، وببذل المال في الرقاب يتعزز جانب الحرية المطلوبة للشارع حتى يصير الناس كلهم أحرارا، والوفاء بالعهد فيه فضيلة فردية وهي عنوان كمال النفس وفضيلة اجتماعية وهي ثقة الناس بعضهم ببعض، والصبر فيه جماع الفضائل وشجاعة الأمة، ولذلك قال تعالى هنا: أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ فحصر فيهم الصدق والتقوى حصرا ادعائيا للمبالغة (¬1). فهذه الآية الفذة قد جمعت بين البر في العقيدة والبر في التشريعات والبر في الأخلاق، وهي قوام التقوى والفلاح في الدارين: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ [الأعراف: 96]. ¬

_ (¬1) تفسير (التحرير والتنوير) 2/ 132.

إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55) [القمر: 54]. ب- وتارة تعرض جملة من أمهات الأخلاق على شكل وصية وميثاق يؤخذ على المؤمنين وعليهم الالتزام به والقيام عليه والوفاء به. يقول تعالى:* قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153) [الأنعام: 151 - 153]. ج- وتأتي التوصية أحيانا على لسان أحد الأولياء المصطفين وهو يمحض النصيحة لمن يحرص على نجاته ويعز عليه انحرافه وضلاله، وهذا ما نقرؤه في قوله تعالى على لسان لقمان وهو يعظ ابنه: وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15) يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16) يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19) [لقمان: 13 - 19].

د- وتارة يأتي الحث على أمهات الأخلاق من خلال الثناء على طائفة ممتازة مختارة من عباد الله الذين نهجوا في حياتهم الدنيا نهجا ربانيا استحقوا بذلك هذا الثناء في الدنيا ورضوان الله في الآخرة، وفي كل ذلك من الأساليب التربوية الرائعة عن طريق الإيحاء الشيء الكثير. يقول تعالى: وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً (65) إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (66) وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً (67) وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً (68) يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً (69) إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (70) وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً (71) وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً (72) وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً (73) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً (74) أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً (75) خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (76) قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً (77) [الفرقان: 63 - 77]. قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (5) إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ (9) أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ (11) [المؤمنون: 1 - 11].

هـ- هذا إلى جانب الحث على خلق معين عند وجود الدواعي لإفراده بالذكر أو المناسبة المقتضية للنهي عن ضده أو التنفير عن خلق ذميم. - فالحث على التقوى والصدق نجده في قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119) [التوبة: 119]. وذلك في تعقيب رائع على قصة الثلاثة الذين خلفوا والتزموا الصدق في موقفهم فأكرمهم الله بقبول توبتهم وخلود ذكرهم، فقد كانوا متقين صادقين وعلينا أن نتأسى بموقفهم وسيرتهم. - والحث على الكرم والإيثار يأتي في تعقيب خاطف على الموقف المشرف الذي وقفه الأنصار من إخوانهم المهاجرين بعد حادثة فيء بني النضير حيث قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أحببتم قسمت ما أفاء الله عليّ من بني النضير بينكم وبينهم، وكان المهاجرون على ما هم عليه من السكن في مساكنكم وأموالكم، وإن أحببتم أعطيتهم وخرجوا من دياركم»، فقال سعد بن عبادة وسعد بن معاذ: (بل تقسمه بين المهاجرين، ويكونون في دورنا كما كانوا) ونادت الأنصار قائلة: (رضينا وسلمنا يا رسول الله)، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار» وأعطى المهاجرين ولم يعط الأنصار شيئا، إلا اثنين أو ثلاثة كان بهم فقر وحاجة، فنزل فيهم قول الله تعالى: وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) [الحشر: 9]. فكانت مأثرة خالدة للأنصار وهم أهل لها وجديرون بها وبالتالي فهي خصلة إسلامية يندب لها ويكتب النجاح والفلاح لمن اتصف بها. - والأمر بالتواضع يأتي في صيغة خطاب موجه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم:

فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) [آل عمران: 159]. وفي قوله تعالى: وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) [الشعراء: 215]. ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو القدوة والمثل الأعلى في سلوكه وتصرفاته وصفاته، فأمره بخفض الجناح للأتباع، واستشارتهم في شئون الدولة والحكم إنما هو رسم للمنهج الإسلامي في شئون الحياة. ولو ذهبنا نستعرض هدايات القرآن الكريم في شأن الأخلاق لطال بنا التطواف ولا نستطيع الإحاطة بالأساليب القرآنية في الحث على التحلي بالفضائل الخلقية والكمالات النفسية. ومن أراد المزيد من ذلك فليراجع كتاب: «مدارج السالكين» لابن القيم، و «أخلاق القرآن» للدكتور محمد عبد الله الدراز، وكتاب «موسوعة أخلاق القرآن» للدكتور أحمد الشرباصي.

دلالة الإعجاز التشريعي على مصدر القرآن الكريم

دلالة الإعجاز التشريعي على مصدر القرآن الكريم إن المتعمق في دراسة التشريعات الإسلامية في مختلف مناحي الحياة يدرك إدراكا واضحا وجليا أن هذه التشريعات تهدف إلى هداية الإنسان في حياته الدنيا إلى أقوم السبل التي تحفظ للإنسان إنسانيته وتطلق طاقاته الإيجابية نحو الكمالات البشرية، وتحفظ له نظرته المستقيمة، وتوفر له التوازن الدقيق في متطلباته الجسدية المادية وأشواقه الروحية، مع انسجام تام مع المحاكمات العقلية، مما يثمر الطمأنينة النفسية والسعادة في حياته الدنيا، وهي السبيل إلى الحياة الباقية في الدار الآخرة. إن تاريخ البشرية لم يحدثنا عن مصلح اجتماعي أو فيلسوف عبقري أنه وضع نظام حياة لشعب من الشعوب بمختلف فئاته وتنوع مجالاتها بل حاول كثير من المصلحين أن يضعوا قوانين تنظيمية لدولة من الدول. ولكن محاولاتهم كثر الانتقاد عليها في حياتهم وبعد مماتهم لأنها كانت متأثرة ببيئة واضعها، وقاصرة عن استيعاب المشاكل لمجتمعهم، وأوجدت الجور والحيف على بعض الفئات لمصلحة آخرين. وما قانون حمورابي وصولون .. وغيرهم، وما أخذ عليها وما نتج من تطبيقاتها قديما إلا مظهر من المظاهر التي ابتلي بها الإنسان في مراحل شقائه. ولا زالت هذه الظواهر تتكرر في المجتمعات التي لا تدين دين الحق، فالمجتمعات الرأسمالية والاشتراكية والشيوعية والوثنية تكتوي بمثل هذه التجارب المريرة إلى يومنا هذا. إن التشريعات الإسلامية التي جمعت بين الروح والمادة فأشبعت كلا منهما في الإنسان بما يناسبها، ووفرت السعادة والطمأنينة في الحياة الدنيا وأزالت القلق عن النفوس من المستقبل مع مراعاة الفطرة وتلاؤمها معها،

لدليل على أن أحدا من البشر لا يستطيع أن يدرك هذه المجالات أو يحيط بها، وهي برهان ساطع على أنها منزلة من خالق الإنسان الذي أودع فيه هذه الطاقات والقدرات والاستعدادات فأنزل ما ينظمها جميعا ويوجهها لعبادة الخالق سبحانه وتعالى. وتكون الدلالة أوضح والبرهان أظهر عند ما تعلم أن الذي نزلت عليه كان أميا لم يتلق العلم على يد أحد من البشر، ولم يعرف بتجواله في الآفاق بحثا عن النظريات والدساتير الإصلاحية. يقول الشيخ محمد أبو زهرة في كتابه القيم «المعجزة الكبرى»: ( ... إن ما اشتمل عليه القرآن من أحكام تتعلق بتنظيم المجتمع وإقامة العلاقات بين آحاده على دعائم من المودة والرحمة والعدالة لم يسبق به في شريعة من الشرائع الأرضية، وإذا وازنا ما جاء في القرآن بما جاءت به قوانين اليونان والرومان، وما قام به الإصلاحيون للقوانين والنظم بما جاء في القرآن وجدنا أن الموازنة فيها خروج عن التقدير المنطقي للأمور، مع أن قانون الرومان أنشأته الدولة الرومانية في تجارب ثلاثمائة سنة وألف، من وقت إنشاء مدينة روما إلى ما بعد خمسمائة من الميلاد، ومع أنه قانون تعهده علماء قيل إنهم ممتازون منهم: سولون الذي وضع قانون أثينا، ومنهم ليكورغ الذي وضع نظام أسبرطة. فجاء محمد صلى الله عليه وسلم ومعه القرآن الذي ينطق بالحق عن الله سبحانه وتعالى من غير درس درسه، وكان في بلد أمي ليس فيه معهد ولا جامعة ولا مكان للتدريس، وأتى بنظام للعلاقات الاجتماعية والتنظيم الإنساني، لم يسبقه سابق، ولم يلحق به لا حق) (¬1). إن الإعجاز التشريعي لآية بينة على أن القرآن الذي اشتمل عليه هو كلام الله أنزله على قلب عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم ليخرج الناس من ظلمات الانحراف والضلال والشقاء إلى نور الإيمان والهداية والتمسك بحبل الله المتين: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9) [الصف: 9]. ¬

_ (¬1) «المعجزة الكبرى» ص 455.

الفصل الرابع الإعجاز الغيبي

الفصل الرّابع الإعجاز الغيبيّ من وجوه الإعجاز للقرآن الكريم التي ذكرها العلماء الإعجاز بما فيه من أنباء الغيب ويقصدون بذلك كل ما كان غائبا عن محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يشهد حوادث الواقعة ولم يحضر وقتها، فيدخل في الغيب بهذا المفهوم كل ما ورد في القرآن الكريم عن بداية نشأة الكون وما وقع منذ خلق آدم عليه السلام إلى مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم من عظيمات الأمور ومهمات السير، وكذلك يشمل ما غاب عن محمد صلى الله عليه وسلم في وقته من الحوادث التي كانت تحدث ويخبر بها بطريق الوحي، كإخبار الله سبحانه وتعالى له بما يكيده اليهود والمنافقون، ويشمل أيضا ما تضمنه من الإخبار عن الكائنات في مستقبل الزمان. ولشمول كلمة الغيب كل هذه المعاني سيكون بحثنا في هذا الفصل في جوانب ثلاثة وفي ثلاثة مباحث: المبحث الأول: غيب الماضي. المبحث الثاني: غيب الحاضر. المبحث الثالث: غيب المستقبل.

المبحث الأول

المبحث الأول غيب الماضي لقد سمى الله سبحانه وتعالى الأخبار عن الأمم السابقة غيبا، وأشار إلى وجه دلالتها على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى كون القرآن الكريم إنما نزل بوحي من الله سبحانه وتعالى، فكثيرا ما يفتتح القرآن القصة أو يختمها بالإشارة إلى أن هذه الأمور ما كان لرسول الله طريق إلى العلم بها إلا عن طريق الوحي من الله تعالى شأنه وجلت قدرته، فمثلا بعد ذكر قصة مريم وكفالة نبي الله زكريا لها يقول تعالى: ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44) [آل عمران: 44]، فإن هذا النص يدل على أن القرآن من عند الله، وعلى أن ذلك النوع من العلم ما كان عند محمد صلى الله عليه وسلم، وليس له به دراية. ويقول عز من قائل بعد قصة نوح عليه السلام: تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49) [هود: 49] وهذه أيضا إشارة واضحة إلى أن هذا العلم من عند الله، وأنه لم يكن معروفا عند العرب وما كانوا يتذاكرون به. ويقول جلت حكمته بعد قصة يوسف وذكر دقائقها وتفصيلاتها وعظاتها وعبرها: ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102) [يوسف: 102]. وقبل عرض قصة موسى عليه السلام يقول عز من قائل: نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) [القصص: 3]، وبعد انتهائها يقول جل ثناؤه: وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى

الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44) وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45) [القصص: 44 - 46]. إن ورود أخبار الأمم الماضية والقرون الخالية بهذا الشكل المفصل الدقيق في القرآن الكريم لدليل على أنه وحي من الله سبحانه وتعالى وليس من عند البشر، لأن من ترعرع في بيئة مثل البيئة التي نشأ فيها محمد صلى الله عليه وسلم لا يمكنه أن يطلع على مثل هذه الأمور التي لا سبيل للحصول عليها إلا بالتلقي، ولم يكن في تلك البيئة الأمية من يعرف هذه الأنباء على هذا الوجه الدقيق. وإن وجد في ذلك العصر في أطراف الجزيرة العربية بعض أهل الكتاب فلقد كانوا منغلقين على أنفسهم، وليس لهم تأثير فيمن حولهم، وكان المتخصص منهم في علم الكتاب- على قلتهم- يرى في اطلاعه على جوانب من قصص السابقين ميزة عظيمة له، فكان ضنينا به حتى لا ينافس على مركزه. وكانوا يعرفون قرب مبعث الرسول الخاتم للأنبياء والمرسلين، فكان من جملة ما يتحققون به من صدقه سؤاله عن القرون الغابرة ومصائر الأمم السابقة، كما ورد في سبب نزول سورة الكهف، حين سألت قريش اليهود أن يدلوهم على أمور يتحققون بها صدق محمد صلى الله عليه وسلم، فلما أجابهم القرآن الكريم ووافق ما عندهم من أنباء بل فاقها دقة وتفصيلا، وصحح ما التبس عليهم أمره واختلط عليهم وقائعه، أو حرفوه وبدّلوه عن قصد منهم، أو كتموه تعمية وتضليلا ووقف موقف التحدي منهم، وبيّن الحق والصواب من بين ركام الباطل الذي ألقوه عليه، علموا أن هذا لم يكن لبشر أن يدركه بالاطلاع والتتبع والاستقراء مهما أوتي من علم وحكمة ودراسة لسير الأولين فما بالك إذا كان الذي جاء به أميا ونشأ في بيئة أمية كما أخبر عنه ربه جل جلاله: وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (48) [العنكبوت: 48].

أهداف غيب الماضي

لقد اتهمت قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه افتراه وأعانه عليه قوم آخرون، وقالوا تارة أخرى إنه يتلقاه من بشر. وسموا أنباء الغيب الماضي أساطير الأولين. وهذه التهم شهادة غير مباشرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، كانت قريش تعلم أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل البعثة، ولم يتهموه أنه اتصل بأحد من أحبار اليهود أو رهبان النصارى، ولم تكن له أسفار للبحث والتنقيب عن آثار الأمم. وعند ما قالوا إنها تملى عليه كانوا يدركون عدم صدقهم في هذه التهمة. فمن الذي أوتي علوم الأولين والآخرين حتى يستطيع إملاءها على التهمة. فمن الذي أوتي علوم الأولين والآخرين حتى يستطيع إملاءها على محمد صلى الله عليه وسلم؟! ولماذا لم يدع هو النبوة بدل محمد صلى الله عليه وسلم؟ لذا كانت تهمتهم هذه اعترافا منهم بأن هذه الأنباء لا يمكن أن يأتي بها محمد صلى الله عليه وسلم من عند نفسه، وتمويها وتضليلا للناس وخداعا لأنفسهم فليلصقوها بأحد أتباع محمد صلى الله عليه وسلم، ورواجا لهذه الفرية ليكن شخصا غريبا عن قريش لعل في ذلك زيادة في التضليل والتمويه، فليكن صهيبا الرومي أو يسارا مولى الحضرمي، أو عداسا مولى حويطب بن عبد العزى أو جبرا مولى ابن عامر، واختاروهم من الموالي الغرباء عن قريش ليوهموا العامة أن هؤلاء الغرباء على علم لا تعلمه قريش. وهذا ما تولى القرآن الكريم الرد عليه في قوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً (4) وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5) [الفرقان: 4 - 6]. وقوله تعالى: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103) [النحل: 103]. أهداف غيب الماضي: من خلال تتبع القصص القرآني وما ورد فيه من أنباء الأمم السابقة ندرك أن الهدف الأساس من هذا النوع من الغيب هو إثبات صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكثيرا ما يستدل القرآن الكريم على ذلك بالإشارة إلى

مطابقة ما ورد في القرآن لما ورد في الكتب السابقة، كما في قوله تعالى: وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (37) [يونس: 37]. وهناك أهداف تبعية لغيب الماضي مثل: أ- تثبيت فؤاد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإدخال الطمأنينة إلى قلبه أن منهجه هو منهج الأنبياء والرسل السابقين، وأن ما يلاقيه من عنت المشركين وعنادهم هو سنّة الله في جميع الأقوام. كما في قوله تعالى: وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (120) [هود: 120]. ب- تربية الأمة وتهذيبها من خلال العظات والعبر التي ترد في قصص السابقين كالإخلاص والتوكل في قصة إبراهيم عليه السلام، والبر والوفاء والطاعة في قصة إسماعيل عليه السلام والصبر والتحمل في قصة أيوب عليه السلام ... ج- تنمية المشاعر النبيلة والاستمتاع الوجداني والتسلية والترويح من خلال هذا الزاد الثقافي العظيم، كما في قوله تعالى بعد قصة يوسف عليه السلام لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111) [يوسف: 111]، وقوله تعالى: وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ (58) [القصص: 58]. د- إبراز وجه من وجوه الإعجاز البياني للقرآن الكريم، فالقصة الواحدة تتكرر أحيانا عدة مرات، وتحس في كل مرة بقضايا وأمور جديدة مع الحفاظ على أصل القصة، ومن غير تناقض في وقائعها، ويؤدى ذلك كله بأسلوب معجز، وهذا ليس في قدرة البشر، يقول الإمام فخر الدين الرازي: ( .. إنه كان يذكر القصة الواحدة مرارا مختلفة بألفاظ مختلفة،

وكل ذلك مشابهة في الفصاحة، مع أن الفصيح إذا ذكر قصة واحدة مرة واحدة بالألفاظ الفصيحة عجز عن ذكرها بعينها مرة أخرى بألفاظ فصيحة، فيستدل بفصاحة الكل على كونها من عند الله تعالى لا من البشر (¬1). ¬

_ (¬1) انظر كتاب أسرار التأويل ص 7.

المبحث الثاني

المبحث الثاني غيب الحاضر ويقصد بغيب الحاضر ما جرى في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم من حوادث لم يحضرها، ثم نزل القرآن متضمنا لها ومخبرا بحقيقة ما جرى. وفي تنبيه القرآن الكريم الرسول صلى الله عليه وسلم ومعه المؤمنون على الحقيقة وتوجيههم إلى ما ينبغي اتخاذه حيال الوقائع ضمان لسلامة سير الدعوة وتجنب لها عن الوقوع فيما يخطط لها أعداؤها من الكفار والمنافقين. فالغاية الأساسية من غيب الحاضر هو تأييد الدعوة والأخذ بيدها والسير بها على بينة من أمرها، وتربية الأمة وتهذيبها. وإن كان يؤخذ إلى جانب ذلك من هذا النوع من الغيب صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يبلغ عن ربه، حيث لم يكن له علم بما دار في غيابه، وما خطط وما جرى تنفيذه، حتى أماط القرآن الكريم اللثام عن هذه الأمور. لذا لا نجد تنبيه القرآن الكريم عند الحديث عن هذه الحوادث الجارية، على إثبات أصل الرسالة كما كان الأمر عند الحديث عن غيب الماضي، حيث وجدناه كثيرا ما يجعل إخبار رسول الله عن أنباء الأمم السابقة دليل كونه من عند الله كما في قوله تعالى: تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49) [هود: 49]. ونذكر أمثلة على هذا النوع من الغيب، ليظهر لنا من خلالها الهدف الأساسي الذي رمى إليه هذا التوجيه الرباني، والأهداف اللاحقة أو التبعية التي تستفاد من سوق الخبر أو الحادثة.

أولا: ما جاء في شأن اليهود

وأغلب هذه الحوادث تتعلق بكشف خطط أعداء الله وكيدهم للقضاء على جماعة المسلمين، وإطفاء نور الله سبحانه وتعالى، فمن ذلك: أولا: ما جاء في شأن اليهود: أ- لما أدرك أعداء الله صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يخبر، ومطابقة كثير من أحكام القرآن الكريم لما في توراتهم عمدوا إلى التوراة فحرفوا أحكامها، وجاءوا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم عنها وهم يقولون: إن قال بمثل ما في أيديكم فخذوه وإلا فاحذروا، روى أحمد ومسلم وغيرهما عن البراء بن عازب قال: مر على النبي صلى الله عليه وسلم يهودي محمم مجلود، فدعاهم فقال: «هكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟» فقالوا: نعم، فدعا رجلا من علمائهم فقال: «أنشدك الله الذي أنزل التوراة على موسى هكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟» فقال: لا والله، ولولا أنك ناشدتني بهذا لم أخبرك، نجد حد الزاني في كتابنا الرجم، ولكنه كثر في أشرافنا، فكنا إذا زنى الشريف تركناه، وإذا زنى الضعيف أقمنا عليه الحد، فقلنا: تعالوا حتى نجعل شيئا نقيمه على الشريف والوضيع، فاجتمعنا على التحميم والجلد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه» فأمر به فرجم، فأنزل الله: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إلى قوله: إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ يقولون ائتوا محمدا فإن أفتاكم بالتحميم والجلد فخذوه وإن أفتاكم بالرجم فاحذروه (¬1). وأخرج الحميدي في مسنده عن جابر بن عبد الله قال: (زنى رجل من أهل فدك، فكتب أهل فدك إلى الناس من اليهود بالمدينة أن اسألوا محمدا عن ذلك، فإن أمر بالجلد فخذوه عنه، وإن أمركم بالرجم فلا تأخذوه عنه .. ) (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: مسند الإمام أحمد 4/ 286 وصحيح مسلم، كتاب الحدود، 5/ 122. (¬2) انظر هذه الروايات وغيرها «في لباب النقول في أسباب النزول» للسيوطي، ص 96.

وهذا ما حدّث عنهم رب العزة بقوله: وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ [المائدة: 41]. ب- ومن هذا القبيل ما أخبر القرآن الكريم عن أساليبهم الملتوية في إدخال الوسواس والأحزان في قلوب المسلمين، يقول تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8) [المجادلة: 8]. وذلك أن اليهود عليهم غضب الله كانوا إذا مر بهم رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم جلسوا يتناجون بينهم حتى يظن المؤمن أنهم يتناجون بقتله أو بما يكرهه، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن النجوى فلم ينتهوا، فأنزل الله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8) وأخرج أحمد والبزار، عن عبد الله بن عمرو أن اليهود كانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم سام عليكم، ثم يقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول، فنزلت هذه الآية: وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ (¬1). ج- ومن ذلك أيضا قوله تعالى: لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (188) [آل عمران: 188]. وفي صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن ¬

_ (¬1) انظر «لباب النقول» ص 226، ومسند الإمام أحمد 6/ 229.

ثانيا: ما ورد في شأن المنافقين

رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل اليهود عن شيء فكتموه إياه وأخبروه بغيره، فأروه أن قد استحمدوا إليه بما أخبروا عنه فيما سألهم، وفرحوا بما أتوا من كتمانهم (¬1). ثانيا: ما ورد في شأن المنافقين: والفئة الثانية التي لم يقر لها قرار في المدينة بعد أن استوطنها المسلمون المهاجرون وآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم وبين الأنصار هي فئة المنافقين، وكان يتزعمها عبد الله بن أبي ابن سلول، فكان هو وأتباعه يحاولون النيل من الإسلام ووضع بذور الشقاق والخلاف بين المسلمين من الأوس والخزرج، وبينهم وبين المهاجرين كلما وجدوا إلى ذلك سبيلا، ولكن آيات القرآن الكريم كانت لهم بالمرصاد حيث كشفت عن أعمالهم وعن دخيلة أنفسهم فكان المسلمون على بينة من أمرهم. أ- فمن الأساليب التي كان يلجأ إليها المنافقون حرب الأعصاب، ففي غزوة أحد قام رأس النفاق بشطر الجيش وسحب أنصاره منه وهم زهاء الثلاثمائة وهم يريدون بذلك إيقاع البلبلة والاضطراب في قلوب المسلمين، ولما هزم المسلمون في المعركة أبدوا شماتة الجبناء الأنذال، والقرآن يصور خستهم القائمة على الخبث والجبن ويبرز الحقيقة الكامنة فيهم، وهي أن ألسنتهم وصدورهم إنما تعيشان باستمرار على طرفي نقيض: وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لَاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ (167) [آل عمران: 166 - 167]. وفي غزوة الخندق كان لنذالة المنافقين دورها، فقد حفر المسلمون الخندق حول المدينة ليكونوا في مأمن من هذا الهجوم ولكن المسلمين أصبحوا مع ذلك في خطر يتهددهم من داخل المدينة من قبل اليهود لا ¬

_ (¬1) صحيح البخاري 6/ 51، ط صبيح.

سيما بنو قريظة الذين غدروا بالعهد ليطعنوا المسلمين من الخلف ولم يكتف المنافقون بمهمة التثبيط حتى قال قائلهم (¬1): كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا لا يقدر على أن يذهب إلى الغائط. لم يكتفوا بهذا بل قاموا بدور الانسحاب مرة أخرى، والمعركة في أحد غير المعركة داخل المدينة، فإن كانوا قد انسحبوا من الميدان في أحد فكيف ينسحبون وهم في دور الدفاع عن كيان بلدهم، ومرة أخرى انتحلوا عذرا واهيا زاعمين أن بيوتهم عورة مكشوفة معرضة للخطر، عليهم أن يتولوا حراستها والدفاع عنها، علما أن الخطر لم يكن كامنا على بيوتهم بل على الجبهة التي وقف أمامها المسلمون، ولكن خسة الطبع زينت لهم هذا الغدر وسوغته فتركوا الميدان: هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً (12) وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً (13) [الأحزاب: 11 - 13]. ب- ويتكرر موقف التخاذل والنذالة والانسحاب في غزوة تبوك- غزوة العسرة- بعد أن يحاولوا تثبيط المسلمين عن الخروج للجهاد، وجهز رأسهم جيشا من المنافقين واليهود ينافس به جيش المسلمين، حتى كان يقال ليس عسكر ابن أبيّ بأقل العسكرين، ثم أعلن حرب الأعصاب حين قرر التخلف والانسحاب وهو يقول: يغزو محمد بني الأصفر- مع جهد الحال والحر والبلد البعيد إلى ما لا قبل له به- يحسب محمد أن قتال بني الأصفر اللعب، والله لكأني أنظر إلى أصحابه غدا مقرنين في الحبال (¬2). هذا ديدنهم في الشدائد وعند الاستعداد للمعارك، وهو أن يفروا من الميدان، ويبررون هزيمتهم هذه بأتفه الأعذار، وانظر إلى عذر أحدهم (¬3). ¬

_ (¬1) هو متعب بن قشير، انظر «سيرة ابن هشام» 3/ 262. (¬2) انظر الروايات في «سيرة ابن هشام»، 4/ 175 وما بعدها. (¬3) هو الجدّ بن قيس، ذكره ابن هشام: 4/ 173.

يقول: إنه يخشى على نفسه الفتنة من نساء الروم لجمالهن. وانظر إلى الآيات وهي تعري حقائقهم: إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45) * وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ (46) لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كارِهُونَ (48) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (49) [التوبة: 45 - 49]. ج- وخسة المنافقين ونذالتهم وكيدهم للمسلمين لا يقتصر على زمن الحرب بل لا يتورعون عن شيء يخدم قضيتهم إلا واستغلوه، ويبدو ذلك في قضية الإفك جليا، فبعد النصر الساحق للمسلمين على بني جذيمة في غزوة بني المصطلق، رجع المسلمون وهم في نشوة الانتصار، والمنافقون كانوا في مأتم لأن كيدهم لم ينفع، فوجدوا مجالا في تخلف السيدة عائشة رضي الله عنها عن الركب وحمل صفوان بن المعطل رضي الله عنه لها على بعيره، وجدوا في هذا ما يشفي غلّهم وحقدهم الدفين، وليعكروا صفو هذا الانتصار، ولتسوء العلاقة بين الرسول صلى الله عليه وسلم وأم المؤمنين عائشة، وبينه وبين صديقه الأول أبي بكر، وفوق كل ذلك لتتزعزع ثقة المسلمين ببعضهم وبرسولهم، لكن الله سبحانه وتعالى، جعل التباطؤ في قضية الإفك الذي حسبه المسلمون شرا كله، جعل فيه الخير الكثير، حيث كشف دخيلة أنفس المنافقين، وعلّم المسلمين درسا بليغا في التربية وضبط النفس وعدم الانسياق والانحراف مع الإشاعات المغرضة المدسوسة. إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ (11) لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) لَوْلا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ

(13) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ (14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15) وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) [النور: 11 - 17]. هكذا نجد مواكبة القرآن الكريم لمسيرة الدعوة، وتوجيهها ورعايتها بإلقاء الضوء أمامها كلما اشتد الظلام وتفرقت السبل واختلط الأمر، وقويت وطأة التآمر من أعداء الله وراجت شائعاتهم، للنيل من وحدة المسلمين، وإلقاء الوهن في قلوبهم. هذا هو الهدف الأساسي من ذكر هذا النوع من الغيب، ولكن هناك مقاصد أخرى تأتي تبعا، وقد نتوصل إليها كنتائج عند ما نتدبر النصوص التي كشفت النفاق والمنافقين وجميع أعداء الله. فالنصوص التي استعرضنا قسما منها عرفتنا بحقيقة الأنفس التي بارزت الله والرسول بالعداء، لأن في ذكر خصال هذه الأنفس بتعرية النماذج الأولى منها في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكشف حقيقتهم تمكينا للمسلمين في شتى عصورهم وعلى اختلاف أمكنتهم وأزمنتهم من معرفة أعداء الله، والأساليب التي يلجئون إليها، فهذه النماذج تتكرر باستمرار، فما وجدت دعوة وقائمون عليها لا بد من وجود أعداء يعلنون ما في قلوبهم من غيظ وحنق، ومنافقين يلبسون لكل حالة لبوسها. وإلى جانب ذلك فهنالك بعض الحالات التي تنزل بشأنها الآيات الكريمة والأطراف فيها مؤمنون صادقون، قد زلت بهم القدم أو اجتهدوا اجتهادا لم يوفقوا فيه إلا لحصول أجر الاجتهاد فتنزل الآيات لتخبر رسوله بما جرى وما ينبغي أن يكون عليه الحال. ومن أمثلة ذلك: أ- ما نزل في قصة التحريم في قوله تعالى: وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَها

بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3) إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ (4) [التحريم: 3 - 4]. فإن ما اتفقت عليه عائشة وحفصة من حرمان رسول الله صلى الله عليه وسلم من شرب العسل في بيت زينب بادعاء أنهما تشمان رائحة المغافير منه لم يطلع رسول الله صلى الله سلم عليه، وإنما نزل عليه الوحي مخبرا ومهددا للاثنتين بالطلاق إن لم تكفا عن مثل هذه المواقف التي تزعزع ثقة المسلمين ببيت النبوة، مصدر التشريع للأمة. فالحادثة جرت بين أمهات المؤمنين لا بقصد الإساءة وإنما بقصد الاستحواز على حب رسول الله صلى الله عليه وسلم والاهتمام بهن وإيثارهن على غيرهن من الضرائر. فنزلت الآيات الكريمة موجهة هادية للصواب مصححة للموقف (¬1). ب- وفي غزوة حنين خرج المسلمون في اثني عشر ألف مقاتل، ولأول مرة في تاريخ المسلمين يخرجون بمثل هذا العدد، فكان من بعض الجند إعجاب بهذه الكثرة وغفلة عن أن النصر بيد الله يؤتيه من يشاء ومتى شاء، وما العدد والعدة إلا أسباب ظاهرة أمرنا باتخاذها وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [آل عمران: 126]. فلما فوجئ جند المسلمين بالعدو ولوا مدبرين، لولا أن تداركهم رحمة الله فثبت الرسول صلى الله عليه وسلم ومعه عصبة من المهاجرين والأنصار، لكانت هزيمة نكراء. يقول عز من قائل في الحادثة: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (26) [التوبة: 25 - 26]. ¬

_ (¬1) للمزيد من الدروس والعظات والعبر في حادثة التحريم انظر كتابنا: تربية الأسرة المسلمة في ضوء سورة التحريم ص 54 وما بعدها.

إن المقالة التي قالها أحد المسلمين (لن نغلب اليوم من قلة) (¬1) لم يسمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم مباشرة، ولولا نزول الوحي في ذكرها لذهبت الكلمة في ضجيج الناس وصخب المشاة. إلا أن خطورة الغفلة عن الأسباب الحقيقية للنصر، ووجود المخالفات في صفوف المجاهدين ينعكس أثره على الجميع، ولذلك جاء إسناد الإعجاب إلى المجموع (أعجبتكم) فنزل الوحي منبها مصححا مهذبا. ج- وفي غزوة أحد كشف لجانب آخر من الأمور الخفية التي لا سبيل لأحد من البشر الاطلاع عليها، وهي النية الكامنة في القلب عند التوجه لأداء فعل ما. فقد خرج المسلمون إلى قتال أعدائهم، وتخاذل المنافقون وعاد بهم القهقرى كبيرهم ابن أبيّ، وخوطبت الفئة التي دخلت المعركة وانتصرت في بدايتها ثم انشغلت طائفة منهم بجمع الغنائم، خوطبت بقول الله تعالى: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152) [آل عمران: 152]. يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: ما كنت أرى أن أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد الدنيا حتى نزلت فينا يوم أحد: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ (¬2). إن هذه الإرادة أمر قلبي لا يطلع عليه أحد سوى الله الذي لا تخفى عليه خافية. وهذا الكشف عن هذا الجانب الغيبي يجعل المؤمن حارسا لوساوس القلب مراقبا للمشاعر والأحاسيس. وفي ذلك إحياء للقلب وتصفية للنوايا من الشوائب والرغائب الدنيوية ليبقى المؤمن في أفق رفيع متألق من الإخلاص لله عزّ وجلّ. نتلمس من ذلك كله أن تسديد مسيرة الدعوة وتربية الأمة وتهذيب ¬

_ (¬1) فتح القدير للشوكاني 2/ 348. (¬2) انظر الدر المنثور 2/ 349.

الأنفس هو الغرض الأساس في غيب الحاضر. ويستدل تبعا لذلك أن ما نطق به رسول الله صلى الله عليه وسلم من كشف الأمور ومجريات الأحداث- وهو لم يحضرها ولم يشاهدها- دليل على أنه وحي أوحي إليه من ربه وأنه رسول مؤيّد من الذي لا تخفى عليه خافية في السماوات والأرض.

المبحث الثالث غيب المستقبل

المبحث الثالث غيب المستقبل ويقصد بغيب المستقبل ما ذكره القرآن الكريم من حوادث ستقع ولم تكن قد وقعت عند نزول الآيات التي تحدثت عن وقوع الحادثة. ومن خلال استقراء الآيات التي تحدثت عن هذا النوع من الغيب يمكن تقسيمه إلى ثلاثة أنواع: أولا: ما تحدث القرآن عنه ووقع في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن ذلك: أ- ما تحدث عن مصير بعض المكذبين وأنهم سيموتون على الكفر ويخلدون في النار، كما جاء في قوله تعالى: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ (2) سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5) [المسد: 1 - 5]. وقوله تعالى: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مالًا مَمْدُوداً (12) وَبَنِينَ شُهُوداً (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) [المدثر: 11 - 26]. وقوله تعالى: أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (9) عَبْداً إِذا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى (14) كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ (15) ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ (18) [العلق: 9 - 18].

وقوله تعالى: خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50) [الدخان: 47 - 50]. لقد حددت الآيات الكريمة مصير كل من أبي لهب والوليد بن المغيرة وأبي جهل في الدنيا والآخرة، فلو لم يكن القرآن تنزيلا من حكيم حميد الذي بيده الحياة والموت لما صحّ ذلك في كل ما أخبر به، بل لما كان من عاقل من البشر أن يضع مصير دعوته على شيء معين، فلو آمن واحد من هؤلاء الثلاثة الذين دمغهم القرآن الكريم بالكفر، وخلد في الأشقياء ذكرهم، لانطفأت شعلة الإسلام، ولقامت الحجة على القرآن ومن جاء به، لو أسلم أبو لهب مثلا لما كان لقوله تعالى: سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ (3) منصرف ولا واقع، ولأصبحت هذه الآية في واد والواقع في واد آخر. وكيف كان محمد صلى الله عليه وسلم يقابل الناس بها، وقد أصبح أبو لهب، من الصحابة كعمر بن الخطاب، وغيره من الذين كان لهم موقف معاد للإسلام قبل أن يدخلوا فيه، أفليست هذه معجزة قاهرة، وأي معجزة أبهر وأقهر من أمر لا يكلف صاحبه أكثر من كلمة يقولها بلسانه فيبطل بها قول محمد صلى الله عليه وسلم، ويفسد أمره جميعه، ثم لا يقول الكلمة، ولا تسمح له الحياة بأن يقولها فقد عاجلته المنية قبل يوم الفتح الذي دخلت فيه قريش كلها الإسلام فلو دخل هؤلاء لكان إسلامهم هدما للإسلام كله. أفلا يدل هذا جليا أن القرآن من عند خالق الحياة والممات، والذي مصير كل شيء بيده، ومآل كل أمر إليه، وهو الذي حفظ دينه وكتابه. ب- قوله تعالى: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) [القمر: 45]. سورة القمر من السور المكية التي نزلت في المرحلة المتوسطة حيث كان أذى المشركين يزيد يوما بعد يوم على المؤمنين، فكانت الآيات الكريمة تنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم لتثبيت قلبه بذكر قصص الأنبياء والمرسلين وتبين أن العاقبة لهم وأن نصر الله آتيهم لا محالة، وأن مصير المعاندين هو

الهزيمة والخزي والعار وكان المؤمنون ينتظرون يوم النصر والفرج إلى أن جاء ذلك يوم بدر، يوم الفرقان يوم أعز الله جنده وأخزى أعداءهم، يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه كنت أقرأ قوله تعالى: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) فأقول أي جمع هذا وأية هزيمة إلى أن كان يوم بدر رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يثب في الدرع وهو يقول: (سيهزم الجمع ويولون الدبر)، فعرفت تأويلها يومئذ (¬1) وعند نزول الآية الكريمة ما كان أحد يتوقع أن تكون للمسلمين شوكة وجيش يواجهون به جموع المشركين. فكان أن تحققت النبوءة بعد سنوات عديدة في السنة الثانية من الهجرة النبوية. ج- قوله تعالى: الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) [الروم: 1 - 4]. كانت الدولتان العظيمتان في ذلك الحين الفرس والروم. فحدث أن وقعت معركة بين الدولتين وانتصر الفرس على الروم وألحقت هزيمة نكراء بجيش الروم واقتطعت أراضي من بلاد الشام من الممالك الرومانية، وكانت دولة الفرس وثنية تعبد النار، وكانت دولة الروم نصرانية تدعي متابعتها للإنجيل، ففرح المشركون الوثنيون بانتصار الوثن على أهل الكتاب. تفاؤلا بانتصارهم على المسلمين أتباع القرآن. فلما نزلت الآيات الأولى من سورة الروم، سخر المشركون من هذا النبأ، لأن الهزيمة التي لحقت بالروم في مقاييس الأسباب الظاهرية أضخم من أن تزال آثارها في عشرات السنين، فضلا عن تحقيق النصر على العدو المناوئ في بضع سنين، ولكن الأمر لله من قبل ومن بعد، وما كان وعد الله ليتخلف، ولم تمض عشر سنين حتى دحرت الروم الفرس، في وقت فتح الله على رسوله فتحا مبينا، وفرح المسلمون بانتصارهم السياسي في غزوة الحديبية. ¬

_ (¬1) الدر المنثور 7/ 681.

ثانيا: ما تحدث عنه القرآن الكريم ووقع بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم. أ- فمن ذلك قوله تعالى: قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ [الفتح: 16]. فقد استنفر رسول الله صلى الله عليه وسلم الأعراب من حول المدينة في غزوة الحديبية، وتخلف كثير منهم خوفا من بطش قريش وسطوتها، وقالوا ما محمد وأصحابه إلا أكلة رأس، فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية جاءوا يعتذرون إليه ويقولون: شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا [الفتح: 11]. ففتح الله تعالى لهم باب التوبة بشرط الاستجابة لنداء الجهاد في قوله تعالى: قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ ... ولم يدع هؤلاء الأعراب في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما استنفروا للجهاد بعد وفاته في عهد الخلفاء الراشدين. ب- وفي قوله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً [النور: 55]. وقد تحقق ذلك في عهد الخلفاء من بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فدحروا دولة الفرس والروم ووصلت الفتوحات الإسلامية إلى أطراف الصين شرقا وإلى المحيط الأطلسي غربا، وخضعت الشعوب والأمم للإسلام ودخل كثير منهم في الإسلام طواعية وعم ضياؤه أرجاء المعمورة وسارت الظعينة من حضرموت إلى صنعاء لا تخشى إلا الله والذئب على غنمها، وكان الناس في أمن وأمان. وكان كل ذلك في العهود اللاحقة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ج- وفي قوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (9) [الحجر: 9]، نبوءة متجددة مستمرة، فقد تعاقبت أحداث بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأمة الإسلامية لو نزلت بأي أمة من الأمم لاندثر تاريخها، ولطمست معالم ثقافتها، ولبادت حضارتها كما بادت حضارات كثيرة في تاريخ البشرية. إلا أننا نجد أن كتاب الله الذي تكفل الله بحفظه

لم تنقطع سلسلة حفاظه الذين يتلقونه جيلا عن جيل من الصدور. ونجد الأمة بعد كل كبوة تستعيد فتوتها، وتجدد نشاطها، لتقوم بدورها الحضاري مرة أخرى وما ذاك إلا بفضل كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وتحقيقا لوعد الله الذي تكفل بحفظ كتابه: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (9). ثالثا: ما تحدث عنه القرآن الكريم ولم يقع إلى الآن، وسيقع حتما من غير ريب فمن ذلك ما ذكره القرآن عن أشراط الساعة والأحداث التي تقع قبيل قيامها وجاءت جملة منها في ثنايا الآيات الكريمة منها: أ- في قوله تعالى:* وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ (82) [النمل: 82]. وجاء ذكرها مجملا، فلا ندرك حقيقتها ولا مكان خروجها، ولا وقته المحدد، إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فصّل القول في بعض أوصافها ومكان خروجها: فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تخرج دابة الأرض ومعها عصا موسى، وخاتم سليمان، فتجلو وجه المؤمن بالخاتم، وتخطم أنف الكافر بالعصا حتى يجتمع الناس على الخوان يعرف المؤمن من الكافر» (¬1). وأخرج الطيالسي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وصححه وابن مردويه والبيهقي في البعث عن حذيفة بن أسيد الغفاري قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدابة فقال: لها ثلاث خرجات من الدهر، فتخرج خرجة بأقصى اليمن، فينشر ذكرها بالبادية في أقصى البادية، ولا يدخل ذكرها القرية- يعني مكة- ثم تكمن زمانا طويلا ثم تخرج خرجة أخرى دون تلك، فيعلو ذكرها في أهل البادية، ويدخل ذكرها القرية- يعني مكة- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ثم بينما الناس في أعظم المساجد على الله حرمة وأكرمها، المسجد الحرام لم يرعهم إلا وهي ترغو بين الركن والمقام، ¬

_ (¬1) رواه أحمد 2/ 295 وابن ماجة في كتاب الفتن باب دابة الأرض 2/ 1351.

وتنفض عن رأسها التراب، فارفض الناس عنها شتى، وبقيت عصابة من المؤمنين، ثم عرفوا أنهم لن يعجزوا الله فبدأت بهم، فجلت وجوههم حتى جعلتها كأنها الكوكب الدري، وولت في الأرض لا يدركها طالب، ولا ينجو منها هارب، حتى إن الرجل ليتعوذ منها بالصلاة فتأتيه من خلفه فتقول: يا فلان الآن تصلي؟، فيقبل عليها فتسمه في وجهه، ثم ينطلق، ويشترك الناس في الأموال، ويصطحبون في الأمصار، يعرف المؤمن من الكافر حتى إن المؤمن ليقول: يا كافر اقضني حقي، وحتى الكافر ليقول: يا مؤمن اقضني حقي (¬1). ب- وفي قوله تعالى: حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ (97) [الأنبياء: 96 - 97]. من علامات الساعة خروج يأجوج ومأجوج وإفسادهم في الأرض وسيطرتهم على العالم. ومن أخبارهم ما رواه أحمد ومسلم وأصحاب السنن عن النواس بن سمعان قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدجال ذات غداة فخفض فيه ورفع، حتى ظننا أنه في ناحية النخل فقال: غير الدجال أخوفني عليكم، فإن خرج وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم، وإن خرج ولست فيكم، فكل امرئ حجيج نفسه، والله خليفتي على كل مسلم، إنه شاب جعد قطط عينه طافئة، وإنه تخرج خيله بين الشام والعراق، فعاث يمينا وشمالا، يا عباد الله اثبتوا، قلنا يا رسول الله صلى الله وسلم: ما لبثه في الأرض؟ قال: أربعون يوما، يوم كسنة ويوم كشهر ويوم كجمعة، وسائر الأيام كأيامكم، قلنا: يا رسول الله، فذلك اليوم الذي هو كسنة، أتكفينا فيه صلاة يوم وليلة؟ قال: لا ... اقدروا له قدره، قلنا: يا رسول الله، ما أسرعه في ¬

_ (¬1) انظر الدر المنثور للسيوطي 6/ 381 ومستدرك الحاكم كتاب الفتن والملاحم 4/ 484.

الأرض؟ قال: كالغيث يشتد به الريح، فيمر بالحي فيدعوهم فيستجيبون له، فيأمر السماء فتمطر، والأرض فتنبت، وتروح عليهم سارحتهم وهي أطول ما كان درا، وأمده خواصر وأشبعه ضروعا، ويمر بالحي فيدعوهم فيردون عليه قوله، فتتبعه أموالهم فيصبحون ممحلين ليس لهم من أموالهم شيء، ويمر بالخربة فيقول لها: أخرجي كنوزك، فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل، ويأمر برجل فيقتل فيضربه ضربة بالسيف فيقطعه جزلتين رمية الغرض، ثم يدعوه فيقبل إليه، فبينما هم على ذلك إذ بعث الله المسيح بن مريم، فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهرودتين (¬1)، واضعا يده على أجنحة ملكين فيتبعه فيدركه فيقتله عند باب لدّ الشرقي، فبينما هم كذلك أوحى الله إلى المسيح عيسى بن مريم، أني قد أخرجت عبادا من عبادي لا يدان لك بقتالهم، فحرز عبادي إلى الطور، فيبعث الله يأجوج ومأجوج كما قال الله: وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ فيرغب عيسى وأصحابه إلى الله فيرسل نغفا في رقابهم فيصبحون موتى كموت نفس واحدة، فيهبط عيسى وأصحابه إلى الأرض فيجدون نتن ريحهم، فيرغب عيسى وأصحابه إلى الله فيرسل الله عليهم طيرا كأعناق البخت، فتحملهم فتطرحهم حيث شاء الله، ويرسل الله مطرا لا يكن منه بيت مدر ولا وبر أربعين يوما، فتغسل الأرض حتى تتركها زلفة (¬2)، ويقال للأرض: أنبتي ثمرتك فيومئذ يأكل النفر من الرمانة، ويستظلون بقحفها، ويبارك في الرسل (¬3) حتى أن اللقحة (¬4) من الإبل لتكفي الفئام (¬5) من الناس، واللقحة من البقر تكفي الفخذ، والشاة من الغنم تكفي البيت، فبينما هم على ذلك إذ بعث الله ¬

_ (¬1) المهرودتان: حلتان مصبوغتان بالورس فيهما صفرة خفيفة. انظر النهاية لابن الأثير 5/ 285 باختصار. (¬2) زلفة: قيل مصنع الماء، وقيل المرآة، شبهها بها لاستوائها ونظافتها. النهاية 2/ 309. (¬3) الرسل: من الإبل والغنم ما كان بين عشر إلى خمس وعشرين. النهاية 2/ 222. (¬4) اللقحة: الناقة القريب العهد بالنتاج. النهاية 4/ 262. (¬5) الفئام: الجماعة الكثيرة. النهاية 3/ 406.

ريحا طيبة تحت آباطهم فتقبض روح كل مسلم، ويبقى شرار الناس يتهارجون تهارج الحمر وعليهم تقوم الساعة (¬1). ج- نبوءة قرآنية نعايشها الآن: جاء في قوله تعالى: وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً (4) [الإسراء: 4]. ذهب كثير من المفسرين إلى أن العلو في الأرض والإفساد الأول قد تم فأرسل الله عليهم بختنصر ملك بابل فشردهم وقتل الكثير منهم وساق الكثير أسرى إلى بابل. أما العلو الآخر والإفساد الآخر فلم يأت بعد، حيث لم تقم لليهود بعد أسر بابل دولة ولا كيان. وفي سورة الإسراء نفسها في أواخرها جاء قوله تعالى: وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً (104) وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً (105) [الإسراء: 104 - 105]. أي قيل لهم انتشروا في الأرض فإذا جاء وعد المرة الآخرة في العلو والإفساد في الأرض جئنا بكم من أطراف الأرض جماعات جماعات. ونحن نرجح أن مرحلة العلو في الأرض بدأت من مؤتمر اليهود في بال بسويسرا عام 1897 م عند ما أعلن رئيسهم هرتزل عن وضع اللبنة الأولى لدولة إسرائيل، وقال إن الإعلان عن قيامها سيتم بعد خمسين عاما من ذاك التاريخ، وبالفعل أعلن قيام دولة إسرائيل عام 1948 م. وتسابقت الدول العظمى إلى الاعتراف بها. ومنذ مؤتمر سويسرا وإلى اليوم فإن السياسة العالمية مسخرة لتسهيل هجرة اليهود من أنحاء العالم إلى فلسطين، وكان قيام الحربين العالميتين والمستفيد الأكبر منهما هم اليهود، ففي الأولى أزيلت الدولة العثمانية الإسلامية من الوجود وكانت تقف سدا منيعا في وجه اليهود، وفي الثانية هيئت الأجواء الدولية للاعتراف بإسرائيل ودعمها ماديا ¬

_ (¬1) انظر الحديث في مسند الإمام أحمد ج 4/ 682 وصحيح مسلم، كتاب الفتن 8/ 198.

ومعنويا، فالسنوات العشرون بعد الحرب العالمية الثانية كان اقتصاد ألمانيا موجها لدعم دولة إسرائيل تحت شعار التعويض عن جرائم النازية. إن تجميع اليهود في فلسطين من سنن الله القدرية التي لن تتخلف. لتأتي المرحلة اللاحقة، ويتوجه جند الإسلام لاجتثاث جذور الشر والإفساد وتقوم الدول النصرانية لمساندة اليهود وتقوم الملاحم الكبرى على أرض الشام، فقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: لا تقوم الساعة حتى ينزل الروم بالأعماق أو بدابق فيخرج إليهم جيش من المدينة من خيار أهل الأرض يومئذ ... ) الحديث (¬1) وتستمر المعارك بين جند الإسلام وبين الروم أربع جولات، تكون الغلبة للمسلمين في الجولة الرابعة، بعد أن تلحق خسائر بشرية هائلة بالطرفين وبعد تمكن أعداء الله من هدم الكعبة المشرفة وتدمير الأقصى وإقامة الهيكل مكانه، تنطلق كتائب الإيمان إلى أرض فلسطين لاقتلاع جذور الشر بقيادة المهدي ويحين نزول عيسى عليه السلام، ويكون الدجال قد تزعم مملكة إسرائيل فينادي الحجر والشجر يا مسلم يا عبد الله إن ورائي يهوديا فتعال فاقتله (¬2). إننا نعيش بدايات علو بني إسرائيل للمرة الآخرة. كما إننا نتلمس بذور جند الإسلام في شباب الصحوة الإسلامية العارمة التي تنتشر في العالم الإسلامي اليوم، وإلى أن يأتي الوعد الحق، فإننا منتظرون، ولا يخلف الله الميعاد. ¬

_ (¬1) انظر صحيح مسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة 8/ 176، قال بعض شراح الحديث المراد بالمدينة مدينة حلب، والأعماق ودابق من السهول القريبة من حلب. (¬2) في الصحيحين من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون حتى يختبىء اليهودي من وراء الحجر والشجر فيقول الحجر والشجر يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود). انظر صحيح مسلم، كتاب الفتن 8/ 188. ولمزيد عن هذه الأحداث ارجع إلى كتابنا: معالم قرآنية في الصراع مع اليهود ص 250 وما بعدها.

د- الآيات الكثيرة التي تتحدث عن اختلال النظام الكوني عند قيام الساعة كما في قوله تعالى: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ (6) [التكوير: 1 - 6]. وقوله تعالى: فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (15) وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ (17) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ (18) [الحاقة: 13 - 18]. وقوله تعالى: فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) [القيامة: 7 - 10]. فإن هذه الأحداث الجسام التي تضع نهاية للنظام الكوني واقعة لا محالة، وهذا المعتقد جزء من ديننا وعقيدتنا لا يكون المؤمن صحيح الإيمان إلا باعتقاده. ونتلمس من خلال استقراء الآيات الكريمة التي تحدثت عن غيب المستقبل، أن الهدف الأساس في إيراد هذا النوع من الغيب، هو الغرض التربوي لترسيخ الإيمان في القلب، وحسن التوكل على الله خالق السماوات والأرض، الذي بيده مقاليد الأمر، الذي يقول للشيء كن فيكون. والهدف التبعي لمثل هذا النوع من الغيب تصديق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى.

وجه دلالة الغيب على مصدر القرآن

وجه دلالة الغيب على مصدر القرآن إن حالة محمد صلى الله عليه وسلم عند إطلاق هذه الأنباء الموغلة في القدم، أو الحاضرة الخافية في صدور أهلها، أو الوعود المستقبلة التي كانت في مجاهل الغيب، كان حاله في كل ذلك حال الواثق المتيقن من الأمر، وهو بشر لم يطلع على كتب السابقين ولا يملك من تصرف أمور المستقبل شيئا، وكان هو بذاته ينفي عن نفسه علم الغيب: قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ [الأعراف: 188]. فلو لم يكن مستندا إلى ركن قوي ما أطلق مثل هذا، وجازف بدعوته وهو الذي عرف عنه التعقل والحكمة ولم يعهد منه تسرع في أمر، أو تقول بلا روية، حتى قبل أن يكرمه الله بالرسالة. فلا شك أن الوحي الإلهي كان ينطقه، كما أن الصدق المطلق الذي رافق القرآن الكريم من يوم نزوله إلى يوم انقطاع الوحي بالتحاق رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى، أمر يوجب التوقف والتدبر، إن الصدق في أخبار القرآن الكريم ظاهرة لا يستطيع إنكارها أحد، حتى الذين عادوا الإسلام، كان هؤلاء يضمرون في أنفسهم احترام صدق القرآن وحقيقته بالرغم من ركام الوثنية والشرك والتكذيب الذي لاقوه به، بل كان هذا الاحترام المنتزع منهم والمفروض عليهم ملازما لشخص الرسول صلى الله عليه وسلم الذي كان ينطق بالقرآن. ولقد أدرك مشركو العرب هذه الحقيقة من خلال اختلاطهم

برسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به، حيث صدقت الحوادث الكونية كثيرا مما أخبرهم به القرآن الكريم. كما أدرك أهل الكتاب صدق القرآن فيما أخبرهم به من الحوادث الغابرة التي كانوا يعرفونها من بطون كتبهم، وكذلك أدركوا هذا الصدق المطلق من خلال كشف القرآن الكريم لمخططاتهم ومؤامراتهم على الإسلام وأهله. إن هذه الأنباء الصادقة التي جاء بها القرآن الكريم لدليل ظاهر وبرهان قاهر على أنه كلام رب العالمين، الذي يستوي عنده علم السابق واللاحق، لا تخفى عليه خافية، لقد ظهر صدق القرآن الكريم لكل ذي عينين في عشرات الحوادث التي أخبر عن وقوعها في المستقبل ووقعت بالفعل كما أخبر، ولا زالت الأيام تكشف عن جوانب من هذه الأنباء، سواء في الكون أو الإنسان أو الحوادث الكونية العامة الشاملة. إن ظاهرة الإخبار بالمغيبات في القرآن الكريم وتصديق الوقائع لها وعدم تخلف الصدق عنها ولو في جزئية بسيطة، لدليل على أنه وحي ممن خلق الأرض والسماوات العلى، أنزله على رسوله ليكون دلالة على صدقه.

الخاتمة

الخاتمة كانت هذه جولات سريعة مع آي الذكر الحكيم في الآفاق والأنفس حاولنا أن نلقي فيها الأضواء على جهود السلف في إبراز الإعجاز في النظم القرآني، بعد أن ابتدع المعتزلة القول بالصرفة، وتصدى لمقولتهم علماء المسلمين، فكان سببا لقيام صرح علم البلاغة. وقد أطنبنا القول في الإعجاز العلمي، لأن العصر الحالي عصر اكتشاف سنن الله في الكون والآفاق وتسخيرها للإنسان. ولما كانت المعجزة قرينة الرسالة، ولما كان القرآن الكريم معجزة الرسالة الخالدة، فلا بد من أن تقام الحجة بالقرآن الكريم على كل جيل من الأجيال ليذعن أهل الإنكار والجحود في كل عصر لعظمة منزله، ويوقنوا في قرارة نفوسهم أنه كلام الذي أحاط بكل شيء علما، الذي يعلم السر في السماوات والأرض. وكلما تقدمت الوسائل العلمية، وتوسعت دائرة المعرفة البشرية ستفتح آفاق جديدة أمام الباحثين في إعجاز القرآن الكريم. وعلى أهل الاختصاص من علماء المسلمين أن يعايشوا القرآن المجيد ويستنطقوا آياته لكشف الأستار عن الإشارات القرآنية وتلميحاته عن الحقائق المودعة في مخلوقات الله، لتكون أبحاثهم ونتاج جهودهم وسيلة لتحقيق وعد الله سبحانه وتعالى: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) [فصلت: 53]. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

الفهارس

الفهارس 1 - فهرس الآيات القرآنية 2 - فهرس الأحاديث النبوية 3 - فهرس الأعلام 4 - فهرس المراجع 5 - فهرس الموضوعات

فهرس الآيات

فهرس الآيات الآية رقم الآية/ رقم الصفحة سورة البقرة- وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ .. / 23 - 24/ 14، 40، // 66، 122 - وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ... / 31/ 12 - وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ .. / 96/ 126 - ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها ... / 106/ 18 - قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ ... / 136/ 235 - وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ ... / 143/ 31 - لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ... / 177/ 245، 252 - يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى .. / 178/ 240 - وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ ... / 179/ 125 - وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ ... / 188/ 240 - وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها .. / 189/ 164 - كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً .. / 213/ 15، 234 - نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ .. / 223 // 138 - مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً ... / 245/ 241 - وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ ... / 251/ 246 - مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ .. / 261/ 241 - أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ .. / 226 / 128 - وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا .. / 275/ 241

- آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ ... / 285/ 238 سورة آل عمران- هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ ... / 6/ 219 - وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا .. / 7/ 221 - قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ ... / 12/ 76 - قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ ... / 19 - 20/ 140 - قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ ... / 26/ 251 - قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ ... / 40/ 139 - ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ ... / 44/ 261 - قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ ... / 47/ 139 - وَرَسُولًا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ... / 49/ 21، 28 - ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ ... / 79 - 80/ 24 - وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ .. / 81/ 235 - كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ... / 110/ 231 - وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ/ 126/ 274 - وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ .. / 152/ 275 - فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ... / 159/ 256 - وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ ... / 166 - 167/ 270 - لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا .. / 188/ 269 - إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ .. / 190/ 18 سورة النساء- وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً .. / 20 - 21/ 242 - إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ ... / 56/ 225

الآية رقم الآية رقم الصفحة- وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ... / 66/ 239 - وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً ... / 82/ 78 - ... إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ ... / 90/ 249 - يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ ... / 135/ 244 - إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ ... / 150 - 151/ 235 سورة المائدة- الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ... / 5/ 231 - يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ ... / 8/ 244 - يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ ... / 41/ 268، 269 - وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ ... / 45/ 240 - أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ ... / 54/ 251 - إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً ... / 112 - 115/ 35 سورة الأنعام- وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ ... / 8/ 26 - قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ ... / 31 - 32/ 237 - وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ... / 38/ 202 - قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ ... / 57 - 58/ 235 - إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ ... / 95 - 104/ 233 - وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ ... / 100/ 94 - وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ ... / 105/ 77 - وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ ... قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ ... / 109/ 17، 20 - فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ ... / 125/ 226

- قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً ... / 151 - 153/ 253 سورة الأعراف- قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ ... / 32/ 231 - قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ ... / 73/ 17، 35 - وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ ... / 96/ 252 - قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً ... / 158/ 30 - .. أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ... / 172/ 151، 210 - لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها ... / 179/ 14 - قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ ... / 188/ 287 سورة الأنفال- وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ ... / 7/ 76 - إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ ... / 22/ 14 - وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا ... / 31/ 37، 86 - وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ ... / 58/ 249 - وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ... / 61 - 63/ 248 - ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ ... / 67 - 69/ 149 سورة التوبة- فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ... / 5/ 247 - لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ ... / 25 - 26/ 274 - قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ... / 29/ 248 - هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى ... / 33/ 75 - وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ ... / 34 - 35/ 241 - إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ... / 45 - 49/ 272

- إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها ... / 60/ 241 - وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ... / 71/ 245 - يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ/ 119/ 255 سورة يونس- هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً ... / 5 - 6/ 181، 187 - قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ ... / 16/ 37 - إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ ... / 24/ 129 - وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ ... / 37 - 39/ 34، 37، // 39، 40،// 154، 264 سورة هود- وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها ... / 6/ 200 - أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ ... / 13/ 39 - تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها ... / 49/ 261، 267 - قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ ... / 53/ 25 - فَلَوْلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ ... / 116/ 245 - وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ... / 120/ 264 سورة يوسف- فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ ... / 31/ 139 - قالُوا تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً ... / 85/ 135 - ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ ... / 102/ 261 - لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ ... / 111/ 264 سورة الرعد- اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ... / 2/ 172

- وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً ... / 3/ 190 - وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ ... / 31/ 32، 65 سورة إبراهيم- وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ ... / 4/ 235 - تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا ... / 10/ 17 - أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ ... / 24 - 25/ 250 سورة الحجر- وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ... / 6 - 15/ 31، 32 - إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ ... / 9/ 280 سورة النحل- وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ... / 36/ 235 - وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً ... / 68 - 69/ 204 - وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً ... / 72/ 242 - إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى ... / 90/ 121، 244، // 251 - وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها ... / 91/ 248 - وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ... / 103/ 38، 263 سورة الإسراء- سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ... / 1/ 13 - وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ ... / 4/ 284

- إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ... / 9/ 157 - وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ ... / 12/ 181، 182 - مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ... / 18 - 20/ 164 - وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا ... / 34/ 248 - قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا/ 42/ 234 - وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً ... / 49 - 52/ 236 - وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ... / 85/ 209 - قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ... / 88/ 37، 81، 88 - وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً ... / 90 - 93/ 31 - وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى ... / 94 - 95/ 235 - وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا ... / 104 - 105/ 284 سورة الكهف- الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ ... / 1/ 14 - ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ ... / 51/ 166، 170 - وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ ... / 54/ 157 - فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها ... / 77 - 82/ 140 سورة مريم- وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً ... / 4/ 92 - فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا ... / 17 - 22/ 28 - قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا ... / 29 - 33/ 28 سورة الأنبياء- أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما ... / 30 - 32/ 166 - لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا ... / 22/ 234 - وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ ... / 46/ 136 - إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ... / 92/ 239

- وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ ... / 107/ 36 - حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ ... / 96 - 97/ 282 سورة الحج- يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ ... وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا ... / 5/ 109، 215 - أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ... / 39 - 40/ 247 - وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ... / 47/ 169 - إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ ... / 73/ 146 سورة المؤمنون- قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ ... / 1 - 11/ 254 - وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ... / 12 - 14/ 212، 216 - وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ ... / 71/ 34 - مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ ... / 91 - 92/ 234 - أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ ... / 115/ 13، 236 سورة النور- الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ ... / 2 - 3/ 240 - إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ ... / 11 - 17/ 272 - وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً ... / 39/ 110 - أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً ... / 43/ 196 - وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ ... / 45/ 201 - وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ ... / 55/ 280 سورة الفرقان- وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ ... / 4/ 42، 229، // 293

- وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ... / 5/ 38، 154 - قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ... / 6/ 158، 163، // 224 - .. يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ ... / 22/ 55 - أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ ... / 45 - 46/ 42، 176 - وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ ... / 53/ 194 - تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً ... / 61 - 62/ 176، 181 - وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً ... / 63 - 77/ 254 سورة الشعراء- أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ ... / 7 - 9/ 56 - فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ ... / 32/ 26 - أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ ... / 128/ 18 - قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ ... / 153 - 159/ 25، 26 - وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ... / 215/ 256 سورة النمل- فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها ... / 8 - 12/ 25 - وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ ... / 12/ 26 - وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ ... / 16 - 22/ 27، 203 - أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً ... / 61/ 188، 191 - وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً ... / 82/ 281 سورة القصص- نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ... / 3/ 261 - وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ ... / 23 - 24/ 93 - إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ .. / 26/ 125 - فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ ... / 32/ 17 - وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً ... / 34/ 117 - وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ ... / 44/ 261

- وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها ... / 58/ 264 سورة العنكبوت- مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً ... / 41/ 110 - وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ ... / 48/ 77، 262 - وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ ... / 50 - 51/ 32، 36، 64 - وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ ... / 60/ 200 سورة الروم- الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ ... / 1/ 279 - وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها ... / 21/ 242 - وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ ... / 22/ 224 - اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ ... / 48/ 195 سورة لقمان- خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ ... / 10/ 172، 188 - هذا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي ماذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ ... / 11/ 185، 221 - وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ ... / 13/ 253 - أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ... / 20/ 12 سورة السجدة- يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ ... / 5/ 169 سورة الأحزاب- هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً ... / 11 - 13/ 271 - إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ... / 72/ 13

سورة سبأ- وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ ... / 5/ 18 - وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ ... / 12/ 27 سورة فاطر- وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ ... / 12/ 194 - وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ ... / 24/ 234 سورة يس- أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ ... / 71 - 73/ 199 - وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ... / 78 - 83/ 236 - إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ... / 82/ 131 سورة (ص) - أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ ... / 28/ 236 سورة الزمر- خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ ... / 5/ 174 - يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ... / 6/ 42، 212 - اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً ... / 23/ 65، 78 - وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ ... / 66 - 75/ 147 سورة غافر- وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ ... / 78/ 19، 20 سورة فصلت- قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ ... / 9 - 12/ 165، 166 - وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ ... / 39/ 236

- سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ ... / 53/ 155، 289 سورة الشورى- فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ ... / 15/ 244 - وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ ... / 37 - 39/ 243 - وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ... / 52 - 53/ 68 سورة الدخان- خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ ... / 47 - 50/ 38، 278 سورة الأحقاف- وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ ... / 29/ 83 سورة الفتح- شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا .. / 11/ 280 - قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ ... / 16/ 280 سورة الذاريات- وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ ... / 21/ 221 - وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ ... / 47/ 171 - وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ... / 56 - 58/ 13، 160 سورة الطور- أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ/ 30 - 34/ 37، 40 سورة النجم- عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى ... / 5 - 10/ 13، 14 - أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى ... / 19 - 22/ 141 - إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ ... / 32/ 250 سورة القمر- وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً ... / 12/ 93

- وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ .. / 36/ 103 - وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ .. / 41 - 42/ 35 - سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ .. / 45/ 278 - إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ .. / 54/ 253 سورة الرحمن- الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ .. / 1 - 4/ 11 - الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ .. / 5/ 182 - مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ .. / 19 - 25/ 191 سورة الواقعة- لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ .. // - لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ .. // - نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ .. / 57 - 74/ 150، 216، // 221 - فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ .. / 75 - 80/ 110، 184، // 187 سورة المجادلة- أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ .. / 8/ 269 - لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ .. / 22/ 238 سورة الحشر- كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ .. / 7/ 241 - وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ .. / 9/ 255 - لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً .. / 21/ 34 سورة الممتحنة- لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ .. / 8 - 9/ 248 سورة الصف- هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ .. / 9/ 258

سورة الجمعة- مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها .. / 5/ 14 سورة المنافقون- وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ .. / 8/ 251 سورة التحريم- وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ .. / 3 - 4/ 274 سورة الملك- إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ .. / 7/ 109 - أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ/ 14/ 140، 163،// 214 سورة الحاقة- فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ .. / 13 - 18/ 286 سورة القلم- أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ .. / 35/ 236 سورة المعارج- تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ .. / 4/ 169 سورة نوح- وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً .. / 16/ 181 سورة المدثّر- ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً .. / 11 - 26/ 38، 45، 277 - فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ .. / 49 - 51/ 146 سورة القيامة- أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ .. / 3 - 4/ 145 - بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ .. / 4/ 162، 163 - فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ. وَخَسَفَ الْقَمَرُ .. / 7 - 10/ 286

- أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً .. / 36/ 13 سورة الإنسان- إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ .. / 2/ 217 - إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً .. / 3/ 13 سورة المرسلات- أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ .. / 20/ 178، 212، // 214 - أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً .. / 25 - 27/ 42، 176، // 190 - وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ .. / 27/ 188 سورة النبأ- وَالْجِبالَ أَوْتاداً .. / 6 - 7/ 188، 189 سورة النازعات- أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها .. / 27/ 178 - أَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها .. / 29/ 138 - وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها .. / 30/ 145 سورة التكوير- إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ. وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ .. / 1 - 6/ 286 سورة الانفطار- يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ .. / 6/ 219 سورة الطارق- فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ .. / 5 - 7/ 209، 210 سورة الشمس- وَالشَّمْسِ وَضُحاها .. / 1 - 6/ 178 سورة التين- لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ .. / 4/ 11

سورة العلق- عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ .. / 5/ 12 - أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى .. / 9 - 18/ 38، 277 سورة الكوثر- إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ .. / 1/ 122 سورة المسد- تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ .. / 1/ 38، 277

فهرس الأحاديث النبوية

فهرس الأحاديث النبوية الحديث رقم الصفحة- «اجتمع أشراف قريش بعد غروب الشمس .. » 32 - «إذا مر بالنطفة اثنتان وأربعون ليلة بعث الله ملكا .. » 220 - «اسقه عسلا .. صدق الله العظيم وكذب بطن أخيك .. » 207 - «أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم فمن مات وعليه دين .. » 246 - «إن أحببتم قسمت ما أفاء الله عليّ من بني النضير بينكم .. » 255 - «أن أنيسا أخا أبي ذر قال لأبي ذر لقيت رجلا بمكة على دينك .. » 143 - «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل اليهود عن شيء فكتموه إياه .. » 269 - «إن النطفة إذا استقرت في الرحم أربعين ليلة .. » 220 - «تخرج دابة الأرض، ومعها عصا موسى، وخاتم سليمان ... » 281 - «حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج» 162 - «غير الدجال أخوفني عليكم ... » 282 - «قال رجل لابن عباس رضي الله عنهما إني لأجد في القرآن أشياء تختلف عليّ .. » 168 - «لا تقوم الساعة حتى ينزل الروم بالأعماق ... » 285 - «لها ثلاث خرجات من الدهر ... » 281 - «ما من الأنبياء نبي إلا قد أعطي من الآيات .. » 30 - «مرّ على النبي صلى الله عليه وسلم يهودي محمم مجلود فدعاهم .. » 268 - «نهينا أن نكفت الثياب في الصلاة» 177 - «وكان النبي يرسل إلى قومه خاصة وبعثت إلى كل أحمر وأسود .. » 30

فهرس الأعلام

فهرس الأعلام حرف الهمزة آدم عليه السلام: 12، 77، 259 إبراهيم عليه السلام: 19، 77، 264 إبراهيم بن سيار النظام: 46، 59، 60، 61، 63، 64، 65، 67، 69 ابن الأعرابي: 179 ابن أبي حاتم: 281 ابن جرير الطبري: 48، 281 ابن حجر: 21 ابن حزم الأندلسي: 62، 63 ابن سنان الخفاجي: 63، 64، 118 ابن سيده: 177 ابن سينا: 206 ابن عاشور: 252 ابن عباس: 168، 269 ابن عضد الدولة: 73 ابن عطية: 96، 120، 134 ابن عمر: 179 ابن القرية: 55 ابن القيم: 210، 256 ابن كثير: 152 ابن مردويه: 281 ابن منظور: 177، 179 بن المنذر: 281 ابن هشام: 32 أبو بكر أحمد بن علي (ابن الإخشيد): 47، 49 أبو بكر السراج: 49 أبو بكر الصديق: 53، 74، 76، 153، 272 أبو بكر عبد الله بن أبي داود السجستاني: 47 أبو بكر الباقلاني: 61، 70، 73، 74، 75، 97 أبو جعفر المنصور: 58 أبو جهل: 38، 278 أبو الحسن الأشعري: 61 أبو الحسن علي بن عيسى الرماني: 49، 50، 70 أبو حيان: 96 أبو ذر: 143 أبو رافع: 179 أبو زيد البلخي: 47 أبو السعود: 96 أبو سليمان الخطابي: 69، 70، 71، 72، 73، 97

أبو عبد الله محمد بن يزيد الواسطي: 48 أبو لهب: 38، 278 أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري: 47، 60، 69، 70 أبو منصور البغدادي: 59، 61 أبو هريرة: 246، 281 أحمد بن حنبل: 268، 269، 282 الإسكافي: 61 إسماعيل عليه السلام: 264 الألوسي: 96 امرؤ القيس: 75، 79، 82، 89، 120 أنيس: 143 أيوب عليه السلام: 264 حرف الباء البحتري: 75، 80 البخاري: 30، 269 بديع الزمان: 135 البراء بن عازب: 268 البزار: 269 البيهقي: 281 حرف التاء تأبط شرا: 81 حرف الجيم الجاحظ: 46، 47، 49، 55، 59، 67، 70 جار الله الزمخشري: 53 جابر بن عبد الله: 268 الجبّائي: 61 الجواهري: 177 حرف الحاء الحجاج: 62 حذيفة بن أسيد الغفاري: 281 الحسن البصري: 55 الحسن بن علي بن أبي طالب: 179 الحطيئة: 29 حفصة: 274 الحميدي: 268 حرف الخاء خالد بن صفوان: 118 حرف الدال داود عليه السلام: 203 حرف الذال الذهبي: 62 ذو الرمة: 82 حرف الراء الراغب الأصفهاني: 174، 176، 178، 180، 188، 191 حرف الزاي الزبرقان: 29 الزجاج: 49 الزركلي: 61، 62 زكريا عليه السلام: 139 زهير بن أبي سلمى: 79، 120 زينب أم المؤمنين: 274 حرف السين سعد بن أبي وقاص: 76

سعد بن عبادة: 255 سعد بن معاذ: 255 سعيد بن جبير: 168 سليمان عليه السلام: 27، 203 السهيلي: 36 السيوطي: 130 سيبويه: 55 سيد قطب: 106، 108، 175 حرف الشين الشريف المرتضى: 61، 63، 64، 66، 67 شمر: 179 الشوكاني: 96 حرف الصاد صالح عليه السلام: 25، 26، 35 صبحي الصالح: 130 صفوان بن المعطل: 272 حرف الطاء طه حسين: 99 الطيالسي: 281 حرف العين عائشة أم المؤمنين: 272 العاص بن وائل: 123، 125 عبد الجبار المعتزلي: 53 عبد القاهر الجرجاني: 48، 71، 90، 91، 92، 93، 94 عبد الله بن أبي أمية: 34 عبد الله بن أبي ابن سلول: 270، 271، 275 عبد الله بن عباس: 168، 269 عبد الله بن عمرو بن العاص: 269 عبد الله بن مسعود: 275 عبد بن حميد: 281 عبيد بن أيوب: 82 عتبة بن ربيعة: 65 عثمان بن عفان: 74 العلاف: 59، 61 علي بن أبي طالب: 61، 74، 179 عمارة بن الوليد: 65 عمر بن الخطاب: 61، 74، 76، 107، 246، 278، 279 عمرو بن العاص: 68 عيسى عليه السلام: 28، 35، 139، 283 حرف الغين الغزالي (أبو حامد): 201 حرف الفاء الفراء: 179 فخر الدين الرازي: 264 فرعون: 26، 27 حرف القاف القرطبي: 96، 97 قصي بن كلاب: 33 القلانسي: 61 حرف اللام الليث بن سعد: 30 حرف الميم محمد أبو زهرة: 63، 257

محمد عبد الله دراز: 103، 105، 256 محمد علي البار: 216 مريم عليها السلام: 139، 261 مسلم: 30، 47، 220، 268، 282 مسيلمة الكذاب: 66، 152 مصطفى صادق الرافعي: 99، 100، 101، 102، موسى عليه السلام: 91، 23، 25، 26، 27، 94، 117، 261 حرف النون النابغة: 79 النواس بن سمعان: 282 نوح عليه السلام: 77، 261 حرف الهاء هارون عليه السلام: 117 هود عليه السلام: 25 حرف الواو واصل بن عطاء: 46 الوليد بن المغيرة: 38، 45، 107، 278 حرف الياء يعقوب عليه السلام: 135 يوسف عليه السلام: 135، 138، 261، 264

فهرس المراجع

فهرس المراجع أولا: كتب التفسير وعلوم القرآن: 1 - الإتقان في علوم القرآن، السيوطي، طبعة المشهد الحسيني. 2 - إعجاز القرآن، الباقلاني، دار المعارف، تحقيق السيد أحمد صقر. 3 - إعجاز القرآن والبلاغة النبوية، الرافعي، مطبعة الاستقامة. 4 - إعجاز القرآن، الخطيب، دار الفكر العربي. 5 - الإعجاز البياني، بنت الشاطئ، دار المعارف. 6 - أنوار التنزيل، البيضاوي، مكتبة الجمهورية. 7 - البحر المحيط، أبو حيان، مطبعة السعادة. 8 - البرهان في توجيه متشابه القرآن، الكرماني، دار الاعتصام، تحقيق عبد القادر عطا. 9 - البرهان في علوم القرآن، الزركشي، مطبعة الحلبي. 10 - بيان إعجاز القرآن، الخطابي، دار التأليف. 11 البيان في مباحث من علوم القرآن، الغزلان، دار التأليف. 12 - تفسير أبي السعود (إرشاد العقل السليم ... )، أبو السعود مكتبة الرياض الحديثة، تحقيق عبد القادر أحمد عطاء. 13 - تفسير غرائب القرآن، النيسابوري، مطبعة الحلبي. 14 - تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، مطبعة الحلبي. 15 - التنوير في أصول التفسير، المجدوي البركتي، مطبعة المجيدي. 16 - ثلاث رسائل في إعجاز القرآن، الرماني، الخطابي، الجرجاني، دار المعارف، تحقيق محمد زغلول سلام وآخر. 17 - جامع البيان في تفسير القرآن، الطبري، المطبعة الأميرية. 18 - الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار الكتب. 19 - روح المعاني، الآلوسي، المطبعة المنيرية. 20 - فتح القدير، الشوكاني، مطبعة الحلبي.

ثانيا: كتب الحديث

21 - الفتوحات الإلهية، الجمل، مطبعة الحلبي. 22 - الفوائد المشوق إلى علوم القرآن، ابن القيم، مطبعة السعادة. 23 - في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق. 24 - الكشاف، الزمخشري، مطبعة الحلبي. 25 - لباب النقول في أسباب النزول، السيوطي، مطبعة الملاح. 26 - معترك الأقران في إعجاز القرآن، السيوطي، دار الفكر العربي. 27 - المعجزة الكبرى، أبو زهرة، دار الفكر العربي. 28 - المغنى، القاضي عبد الجبار، وزارة المعارف المصرية. 29 - مفاتيح الغيب، الفخر الرازي، المطبعة المصرية. 30 - المفردات، الراغب الأصفهاني، مكتبة الأنجلو المصرية. 31 - مناهل العرفان في علوم القرآن، الزرقاني، مطبعة الحلبي. 32 - النبأ العظيم، الدراز، دار القلم. ثانيا: كتب الحديث: 33 - الجامع الصحيح، الإمام البخاري، طبعة استانبول. 34 - الجامع الصحيح، الإمام مسلم، دار الفكر. 35 - الجامع الصحيح، الإمام الترمذي، دار الفكر. 36 - سنن أبي داود مع حاشية عون المعبود، أبو داود السجستاني، دار الكتاب العربي. 37 - فتح الباري، ابن حجر، مطبعة الحلبي. 38 - مسند الإمام أحمد، الإمام أحمد بن حنبل دار صادر. ثالثا: كتب مختلفة: 39 - الآيات العلمية، عبد الرزاق نوفل، مكتبة الأنجلو المصرية. 40 - الإسلام، سعيد حوى، الشركة المتحدة. 41 - الإسلام عقيدة وشريعة، محمود شلتوت، دار القلم. 42 - الإسلام يتحدى، وحيد الدين خان، المختار الإسلامي. 43 - إشارات الإعجاز إلى مظان الإيجاز، سعيد النورسي، مطبعة النور. 44 - الإنسان ذلك المجهول، ألكسيس كاريل (تعريب شفيق أسعد) مكتبة المعارف. 45 - التشريع الجنائي في الإسلام، عبد القادر عودة، دار العروبة. 46 - التصوير الفني في القرآن، سيد قطب، دار المعارف. 47 - الجانب العلمي في القرآن. الخطاب، الناشر العربي.

48 - دلائل الإعجاز، الجرجاني، مكتبة القاهرة. 49 - رسالة التوحيد، محمد عبده، الثقافة العربية. 50 - الرسول، سعيد حوى، دار الإرشاد. 51 - خلق الإنسان في الطب والقرآن، محمد علي البار، الدار السعودية. 52 - الطب محراب للإيمان، خالص كنجو، مؤسسة الرسالة. 53 - لفتات علمية، يعقوب صروف، الدار السعودية. 54 - موسوعة أخلاق القرآن، الشرباصي، دار الرائد العربي. 55 - العلم يدعو إلى الإيمان، ترجمة محمود الفلكي. 56 - الله يتجلى في عصر العلم، ترجمة محمود الدمرداش، مؤسسة الحلبي.

فهرس الموضوعات

فهرس الموضوعات الموضوع الصفحة مقدمة الطبعة الثالثة 5 مقدمة الطبعة الثانية 6 بين يدي المباحث 9 مقدمة في مكانة الإنسان بين المخلوقات 11 المبحث الأول: المعجزة 17 تمهيد 17 تعريف المعجزة 18 شروط المعجزة 19 إمكان وقوع المعجزة 22 وجه دلالة المعجزة على صدق الرسول 23 المبحث الثاني: معجزات الأنبياء السابقين ومعجزات خاتمهم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين 25 سنة الله سبحانه وتعالى في معجزات الأنبياء 26 مزايا معجزة رسول الله صلى الله عليه وسلم العظمى (القرآن الكريم) 29 الحكمة في الصرف عن المطالبة بالمعجزات المادية إلى معجزة القرآن الكريم 31 مراحل التحدي والقدر المعجز من القرآن الكريم 36 القسم الأول: في الجانب التاريخي لإعجاز القرآن إعجاز القرآن في دراسات العلماء 45 الفصل الأول: الإعجاز في كتب المعتزلة 49 الإعجاز عند مفسري المعتزلة 53 الصرفة 58

القسم الثاني: الجانب الموضوعي لإعجاز القرآن

مصدر القول بالصرفة 58 القائلون بالصرفة ومذاهبهم فيها 59 حقيقة القول بالصرفة 63 الأدلة النقلية والعقلية على بطلان الصرفة 64 الفصل الثاني: الإعجاز عند علماء أهل السنّة والجماعة 69 الإعجاز في كتب متكلمي أهل السنّة والجماعة 70 وجه الإعجاز عند الخطابي 70 الباقلاني وكتابه «إعجاز القرآن» 73 عبد القاهر الجرجاني ونظريته في إعجاز القرآن 90 إعجاز القرآن عند مفسري أهل السنّة والجماعة 96 الفصل الثالث: إعجاز القرآن في دراسات المعاصرين 99 1 - مصطفى صادق الرافعي وكتابه «إعجاز القرآن» والبلاغة النبوية 99 2 - رأي الدكتور محمد عبد الله دراز 103 3 - سيد قطب ورأيه في إعجاز القرآن 106 القسم الثاني: الجانب الموضوعي لإعجاز القرآن وجوه إعجاز القرآن 113 الفصل الأول: الإعجاز البياني 115 المبحث الأول: فصاحة القرآن وبلاغته 117 المبحث الثاني: النظم القرآني (جزالته وتناسقه) 133 المبحث الثالث: الأسلوب القرآني الفريد 143 وجه دلالة الإعجاز البياني على مصدر القرآن 154 الفصل الثاني: الإعجاز العلمي (التجريبي) 155 تمهيد: بين يدي البحث في الآيات الكونية 157 ضوابط في مبحث الإعجاز العلمي 160 بدء الكون ومصيره 165 السماء 171 السماوات والأرض 172 الأرض 174

الفهارس

الشمس والقمر 181 النجوم 184 الجبال 188 البحر 191 الظواهر الجوية (الرياح، السحب، المطر، الرعد والبرق) 195 الحيوان 199 الإنسان 208 الرحم والنشأة الجنينية 212 تحقيق الشخصية (البصمات) 222 الحساسية الجلدية 225 وجه دلالة الإعجاز العلمي على مصدر القرآن الكريم 228 الفصل الثالث: الإعجاز التشريعي 231 أولا: في العقيدة 233 ثانيا: في الشريعة 238 ثالثا: في الأخلاق 250 وجه دلالة الإعجاز التشريعي على مصدر القرآن الكريم 256 الفصل الرابع: الإعجاز الغيبي 259 المبحث الأول: غيب الماضي 261 المبحث الثاني: غيب الحاضر 267 المبحث الثالث: غيب المستقبل 277 وجه دلالة الغيب على مصدر القرآن 286 الخاتمة 289 الفهارس 1 - فهرس الآيات القرآنية 293 2 - فهرس الأحاديث النبوية 309 3 - فهرس الأعلام 310 4 - فهرس المراجع 314 5 - فهرس الموضوعات 317

صدر للمؤلف

صدر للمؤلف 1 - مباحث في إعجاز القرآن: الطبعة الثالثة، دار الأرقم. 2 - مباحث في علوم المواريث: الطبعة الرابعة، دار المنارة. 3 - مباحث في التفسير الموضوعي: الطبعة الثانية، دار القلم. 4 - تربية الأسرة المسلمة: الطبعة الأولى، دار المنارة. 5 - معالم قرآنية في الصراع مع اليهود: الطبعة الثانية، دار القلم. 6 - مناهج المفسرين (التفسير في عصر الصحابة): الطبعة الأولى، دار المسلم. 7 - تفسير عبد الرزاق الصنعاني 3 أجزاء (تحقيق): الطبعة الأولى، مكتبة الرشد. 8 - مقرر التفسير: للسنة الثالثة المتوسطة بالمعاهد العلمية، جامعة الإمام محمد بن سعود. 9 - مقرر التفسير: للسنة الأولى الثانوية بالمعاهد العلمية، جامعة الإمام محمد بن سعود. 10 - التفسير الميسّر مع مجموعة من العلماء: الطبعة الأولى، مجمّع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنورة. تحت الطبع: - المعجزة والرسول في ضوء سورة الفرقان. تحت الإعداد: - التفسير الموضوعي: (دراسة وتقويم وتأصيل).

§1/1