مباحث التفسير لابن المظفر الرازي

الرازي، ابن المظفر

بسم الله الرحمن الرحيم

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ـ[مباحث التفسير لابن المظفَّر (وهو استدركات وتعليقات على تفسير الكشف والبيان للثعلبي)]ـ المؤلف: الإمام أبو العباس أحمد بن محمد بن المظفَّر بن المختار الرازي الحنفي (المتوفى 631 هـ) دراسة وتحقيق: حاتم بن عابد بن عبد الله القرشي الناشر: كنوز إشبيليا - المملكة العربية السعودية الطبعة: الأولى، 1430 هـ - 2009 م عدد الأجزاء: 1 أعده للشاملة/ أبو إبراهيم حسانين [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع، وهو مقابل]

_ فائدة قال محقق الكتاب ما نصه: الحمد للَّهِ أن وفقني لتحقيق هذا الكتاب لعالم من علماء أهل السنة، وهو كتاب مهم مفيد موضوعه شيق وهو تعقبات واستدراكات، ونقاش لمسائل في تفسير الثعلبي الكشف والبيان، بدأه دون مقدمة وينقل قول الثعلبي ثم يتعقبه وربما أضاف أو زاد معنى على ذلك، أو أجاب عن شبهة وسار بترتيب المصحف في الجملة، وتنوعت استدراكاته في عدة علوم. وكانت استدراكاته في 70 سورة، ولم يستدرك في 44 سورة. وبلغ عدد المسائل التي استدرك فيها 255 مسألة، وهي على النحو التالي: * التفسير وعلوم القرآن والقراءات والتجويد = 149 مسألة. * اللغة: النحو والشعر والأمثال والمفردات = 34 مسألة. * الحديث = 34 مسألة، منها 12 مسألة في آخر البحث. * الفقه = 15 مسألة. * التاريخ والتراجم والسير = 13 مسألة. * العقيدة = 10 مسائل. وهذا عد وإحصاء باجتهاد منّي وكما يُعلم أن بعض المسائل متداخلة في بعض العلوم، وقد اجتهدتُ في حصر أعدادها ليكون لدى القارئ تصور واضح عن الكتاب ومسائله.

القسم المحقق

القسم المحقق بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سورة الفاتحة 1 - قال أبو إسحاق الثعلبي -رحمه الله-: " العلة في كسرة {باسم الله} أن الباء حرفٌ ناقص ممال، والإمالة من دلائل الكسرة ". قلت: هذا باطل بالتاء فإنه حرف ناقص ممال ومع هذا لا يُكسر إذا أُلصقَ بالاسم بل يفتح فيقال تَالله. 2 - قال: " الدليل على أن الاسم هو المسمى قوله تعالى: {إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى} ثم قال: " يا يحيى نادى الاسم ".

قلت: ما نادى الاسم وإنما نادى المسمَّى بالاسم تعريفاً. 3 - قال: " أصل الاسم سِمْو واشتقاقه من سما يَسمو وكأن المُخْبَرَ عنه معدوم وما دام معدوماً فهو في درجة يَرتفِع بها إذا وُجد ويَعلو بدرجةِ وجوده على درجة عدمه ". قلت: هذا باطل بأسماء الله فإنه لا يتصور أنْ يُقال كانَّ المخبَر عنه معدوم ويعلو بدرجة وجوده على درجة عدمه وهذا محال بل كفر، ثم هذا الذي ذكره

من اشتقاق الاسم مِنْ سما يَسمو وأن أصله سموٌ قول البصريين، فأمَّا قول الكوفيين فأصل الاسم من الوسْم وهو العلامة قُلِبت الواو ألفاً. وقول البصريين أقوى بدليل التصريف.

4 - قال: " في الحديث أن عيسى ابن مريم أرسلَتْهُ أمُّه إلى الكُتَّاب ليتعلم فقال له المعلم قل: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. قال له عيسى: الباء بهاء الله ". قلت: إن صح الحديث فلا يُعتَرَض عليه، ولكن دليل أنه غير ثابت وجوه: الأول: أنه صح أن عيسى كان في بطن أمه يحفظ التوراة والإنجيل وكان يقرؤها وهو في بطنها بحيث يُسمع أمه فكيف أرسلتْه إلى الكُتَّاب ليتعلم

وهي تعلم من حاله ذلك، والدليل على ذلك أنه حين تكلم وهو طفل رضيع قال: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ}. والثاني: أن (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) إنما قُرِئت وكتِبت بعد نزولها على نبينا - صلى الله عليه وسلم -، وقبل ذلك كانوا يكتبون باسمك اللهم. والثالث: أن معلم عيسى، وعيسى كانوا يقرؤون بالسّريانية لا بالعربية وهذا عربي. والرابع: كيف قال عيسى: الباء بهاء الله والسين سناء الله، والباء حرف زائد والسين حرف أصلي، وعلى تقدير أن تكون التسمية في الإنجيل تكون بالسريانية لا بالعربية. فلا تكون بهذه الصيغة وهذه الحروف فلا يتصور أن يقال ذلك في تفسيره.

5 - ثم فسر {بسم الله} بالملك والمجيد وهذا بعيد جداً؛ لأن الباء حرف زائد والسين والميم أصليان فكيف يسوي بين الكل؟ ثم إنا نعلم يقيناً أن الباء ههنا للإلصاق والابتداء ألحقوها بالاسم، وهما حرف واسم مركبان لمعنى معلوم مشهور لا يُفهم غير ذلك المعنى، وفتح هذا الباب يؤدي إلى تغيير الألفاظ عن معانيها الموضوعة لها لغة، وتحريف الكَلِم عن مواضعها وذلك غير جائز. 6 - قال: " أُدخِلَت الألف واللام بدلاً من الهمزة المحذوفة في (إله) فلزمتا الكلمة لزوم تلك الهمزة، وأجريتْ على الأصل، ولهذا لم يَدخُلْ عليه في النداء ما يَدْخُل على الأسماء المعرّفة من حروف التنبيه، فلم يقولوا: يا أيها الله ".

قلت: هذا لم يختص بالله فإن حروف التنبيه كما لم تدخل على الله كذلك لا تدخل على الرحمن، فلا يقال: يا أيها الرحمن. وإن لم يكن الألف واللام في الرحمن لازمتين؛ بل إنما لم يدخل التنبيه على أسماء الله سواء كان بالألف واللام، أو لم يكن؛ لأن التنبيه إنما يكون للغافل أو النائم، وتعالى الله عن ذلك. فعُلم أن ذلك ليس دليلاً، للزوم الألف واللام؛ بل دليل اللزوم أن في النداء يقال: يا الله، ولا يقال: يا الرحمن؛ بل يقال يا رحمن. فلما صار ألف الله في النداء باقياً، وغير باقٍ في الرحمن عند النداء دلّ ذلك على لزوم الألف واللام في الله. 7 - قال: " قال الخليل بن أحمد وجماعة: الله اسم موضوع لله - عز وجل -

لا يَشْرَكهُ فيه أحد ". قلت: كما قلت في أوّل الكتاب إنّ الاسم هو المسمى يَستحيل إذاً أن يكون الله اسماً موضوعاً؛ لأنه يلزم من كون الاسم موضوعاً كون المسمى موضوعاً مخلوقاً وهو كفر صُراح تعالى الله عن ذلك. فأنت بين أمرين: إما أن تُقرَ ببطلان هذا القول، أو ببطلان كون الاسم والمسمى واحداً. 8 - قال: " إذا أُطلق هذا الاسمُ على غير الله فإنما يقال بالإضافة كما يقال: إله كذا، أو يُنكرُ فيقال: إله كقوله: {اَجْعَل لنَاَ إِلهًا}. قلت: لا يطلق قط هذا الاسم على غير الله لا مضافاً ولا منكراً، فإنا ما سمعنا قط يقال: إله بغداد أو إله الغلام، أو إله الدار، ولا أن يقال: فلان إله.

وإنما الله تعالى أخبر عن جماعة جُهّال أنهم اجترؤوا بهذا اللفظ وتجاسروا إساءة الأدب فقالوا: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} ظناً منهم أن العِجْل هو الله المعبود جهلاً وكفراً تعالى الله عما يشركون. 9 - قال: " غلَّظ بعض القراء اللام في قوله: (الله) حتى طَبَّقوا اللسان به والحنك لفخامة ذكره، وللفرق بينه وبين اللات ".

قلت: إنما يغلظون إذا ذهبوا إليه من النصب أو الضم، أما إذا ذهبوا من الخفض فلا. بخلاف اللات فإنه لا يُغلظ في الأحوال كلها. 10 - قال: " جاء في الدعاء (يا رحمن الدنيا ورحيم الآخرة) ". قلت: المروي: (يا رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما).

مطلب في البسملة

مطلب في البسملة 11 - قال: " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يكتبُ باسمك اللهم حتى نزل: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فكتب مثلها ". قلت: إنه مناقض لما رَوى في أول الكتاب أن أول ما نزل من القرآن: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وحجة هو أيضاً على من

يقول بأن {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} آية من أول كل سورة؛ لأن قبل سورة النمل قد نزلت سُوَرٌ كثيرةٌ فلو كانت التسمية معها منزلة لم يتَوقفْ كتابتها على نزولها في سورة النمل. 12 - قال: " في حديث أبي هربرة يقول الله: (قسمتُ الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فإذا قال العبد: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قال الله: مَجدني عبدي، وإذا قال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} فال الله: حمدني عبدي ... ) الحديث ". قلت: حديث أبي هريرة حديث صحيح رواه مسلم عن قتيبة عن

مالك: (من صلى صلاة لم يقرأ بها بأم القرآن فهي خداج). إلى قوله: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين اقرأوا يقول العبدُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} يقول الله: حمدني عبدي ... ) الحديث. ولم يذكروا قوله: (إذا قال العبد بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ). وذكر الخطابي

والبغوي في كُتِبهِما أن بهذا الحديث يستدل من لا يرى التسمية آيةً من الفاتحة؛ لأنه لم يبدأ بها إنما بدأ بالحمد لله. 13 - قال في حديث أنس: " (صليت خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلف أبي بكر وعمر وعثمان فلم أسمع أحداً منهم يجهر بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}). عُلِم بهذا أنه لم يَنفِ كون هذه الآية من جملة السورة ".

قلت: بل نَفَى؛ لأنه لو كان من جملة السورة لجهر بها كما جهر بالسورة؛ ولأنه تم استدلالهم به في ترك الجهر الذي هو عين الخلاف. 14 - قال: " قوله - صلى الله عليه وسلم -: (اقرأ ما تيسر معك من القرآن) يحتمل أنه أراد كل ما وقع عليه اسم القرآن، ويحتمل أنه أراد سورة بعينها ". قلت: لا يحتمل ذلك لأنه مطلق، والمطلق لا يحتمل التعيين. 15 - وقال: " بالعلة التي أوجبوا قراءة آية تامة مع قوله: (ما تيسر) أوْجَبْنا قراءة الفاتحة ".

سورة البقرة

قلت: في رواية عن أبي حنيفة يجوز دون آية بأن يقرأ أدنى ما ينطلق عليه اسم القرآن. * * * سورة البقرة 16 - قال في سورة البقرة: " لم تكن العرب تعرف الإيمان غير التصديق، والنقل عن اللغة لم يثبت فيه؛ إذ لو صح النقل عن اللغة لرُوي ذلك كما

{أتجعل فيها من يفسد فيها}

رُوي في الصلاة التي أصلها الدعاء ". قلت: بل النقل عن اللغة ثبت فيه وهو قوله تعالى: {وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ}، وقول النابغة: والمُؤمِنِ العَائذاتِ الطيرَ تَمْسَحُها ... رُكبَانُ مَكةَ بَين الغِيل والسِّنَدِ 17 - قال في قوله: {أتجعَلُ فِيهَا مَن يُفسِدُ فِيهَا}: " معناه: أتجعل فيها من يفسد فيها أم تجعل فيها من لا يفسد فيها ". قلت: لو قدرنا هكذا لم ينتظم مع قوله: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ} ومع

{أنبئوني بأسماء هؤلاء}

قوله: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ}. 18 - قال في قوله تعالى للملائكة: {أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ}: " دليل على جواز تكليف ما لا يطاق " قلت: هذا أمر تعجيز لا أمر تكليف، والخلاف في أمر التكليف. 19 - قال: " الاسم كل لفظة دلت على معنى ما، وشيء ما، وهو مشتق من السمة وهي العلامة التي يُعرف بها الشيء ".

قلت: لو كان حد الاسم هذا؛ لكان الاسم غير المسمى؛ لأن الدليلَ غيرُ المدلول. ولو كان مشتقاً من السمة لكان أصله وَسْم، لا سِمو، وحينئذ يكون في التصغير وُسَيم لا سُميٌ وفي الجمع أوسام لا أسماءٌ. 20 - قال: " كان سجود الملائكة للَّهِ وآدم قبلة، وقيل سجد الملائكة وآدم للَّهِ، وقيل أقرَّوا له أنه خيرهم ". قلت: هذا كله خلاف مدلول قوله: {اسْجُدُوا لِآدَمَ} وخلاف النقل الصحيح، والأولى أن يقول: كان سجود التعظيم لا العبادة، ثم نسخ

في شرعنا. والله أعلم. 21 - قال: " سمي إبليس لأنه أبلس من رحمة الله كما يقال: يا خبيث ويا فاسق ولا ينصرف لاجتماع العجمة والمعرفة ".

قلت: قوله: " سمي إبليس لأنه أبلس " مناقض لقوله " اجتمع العجمة والمعرفة "؛ بل الصحيح أنه اسم عجمي فلذا لا ينصرف. 22 - قال: " أهل الجنة مأمورون فيها بالمعرفة ومكلفون بذلك ". قلت: المكلف يكون من الكُلفة وهي المشقة، ولا مشقة في الجنة، وحد ْالتكليف أنه لو أتى به يثاب، ولو أبى يعاقب، وليس ذلك في الجنة بل هم ملهمون للمعرفة والذكر كالتنفس.

مطلب في آدم عليه السلام:

مطلب في آدم عليه السلام: 23 - قال: " عن سعيد: ما أكل آدم من الشجرة وهو يعقل ولكن حواء سقته الخمر حتى سكر فأكل ". قلت: خمر الجنة لا يُسكر، ولو كان كذلك لما كان معاتباً ملوماً على أكل الشجرة.

24 - قال: " لا رخصة لأحد من المؤمنين البالغين في إفطار شهر رمضان إلا لأربعة وعد منهم المفرِّط في قضاء رمضان ". قلت: المفرط لا رخصة له، ثم قال: " عليه القضاء والكفارة ". 25 - وكذا " على الشيخ الهرم، ومن به مرض لا يُرجى زواله قال: عليهم الكفارة ".

قلت: عليهم الفدية لا الكفارة. 26 - قال في قوله تعالى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى}: " أمرهم بالتقوى، وكفِّ الظلم، وذكرهم سفر الآخرة، وحثهم على التزود للدارين فإن التقوى زاد الآخرة ".

قلت: لو كان المعنى ما ذهب إليه لكان: (وتزودوا وإن خير الزاد التقوى) بالواو لا بالفاء لاختلاف الكلامين، ولكن يشبه أن يكون المعنى في قوله: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} احملوا الزاد في طريق الحج فإن الخير الحاصل من زاد الطريق أن يتقو به مالَ الناس وأزوادَهم ولا يكونوا كلاً عليهم محتاجين إليهم. 27 - قال: " عند أبي حنيفة وصاحبيه إذا طهرت المرأة لعشرة أيام حلَّ

وطؤها دون أن تغتسل، وإن طهرت لما دون العشر لم يحل وطؤها إلا بإحدى ثلاث: أن تغتسل، أو يمضي بها أقرب وقت الصلاة، أو تتيمم ". قلت: بل عند أبي حنيفة وأصحابه: إذا طهرت لما دون العشر لا يحل وطؤها إلا أن تغتسل، هكذا ذكر القدوري وفي رواية أو يمضي عليها وقت صلاة كامل ولم يذكر التيمم. قلت: والذي ذكر من إحدى الثلاث ليس في هذه المسألة وإنما هي في المطلقة

الرجعية وهي أنه " إذا انقطع الدم من الحيضة الثالثة لعشرة أيام انقطعت الرجعة وإن لم تغتسل، كان انقطع لأقل من عشرة أيام لم تنقطع الرجعة حتى تغتسل أو يمضي عليها وقت صلاة أو تتيمم وتصلي عند أبي حنيفة وأبي يوسف، وقال محمد: إذا تيممت انقطعت الرجعة ". 28 - قال: " تقول العرب: أكفرتُه وأفسقتُه إذا نسَبْتُه إليها ".

قلت: أنكر القُتَبيُ هذا واستشهد ببيت لبيد: مَنْ هَدَاهُ سُبُلَ الْخَيرِ اهْتَدَى ... نَاعِمَ البَالِ وَمَنْ شَاءَ أَضَلَ

29 - وقال: " أَفَتُرى لبيداً، أراد بقوله: من شاء أضل، أي سُمي ضالاً؟ لعمر الله ما عرف هذا لبيد ولا وجده في شيء من اللغات ". هذا

لفظ القتبي.

قلت: لعل كلام القتبي يشير إلى أن نسبة الرجل إلى الشيء يكون من التفعيل لا من الإفعال وفيه تقوية لحجة أهل السنة على القدرية في قوله: {يُضِل مَن يَشَآءُ}. 35 - قال: " إن نمروذ قال لإبراهيم: أنت تزعم أن ربك يحيي الموتى وتدعوني إلى عبادته، فقل لربك: يحيي الموتى إن كان قادرا، أو لأقتلنك. فقال إبراهيم: رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن بأني أحي الموتى

قال: بلى ولكن ليطمئن قلبي بقوة حجتي، ونجاتي من القتل فإن عدو الله تَوَعدني بالقتل إن لم تحي لي ميتاً ". قلت: عدو الله ما كان يوعده بالقتل إن لم يحي الله لإبراهيم ميتاً، ولكن أوعده بالقتل إن لم يحي الله لنمروذ ميتاً بحيث يعاينه، وهذا سؤال إبراهيم إحياء الموتى كان في غيبة نمرود فلم تنقطع حجة نمروذ بالإحياء في غيبته؛ بل كان حجته قائمة من وجوه: الأول: أن يقول كيف تدعي أن ربي الذي يحيي ويميت وما عاينتَه أنت ولا أنا، وإن ادعيت أنك عاينته فلا أصدقك إذ لم أعاين. الثاني: أنك انتقلت من دليل إلى دليل آخر قبل تمام الأول وذلك انقطاع. الثالث: أنك قصرت في الاحتجاج؛ لأنه كان لك أن تقول: فاحي هذا المقتول الذي قتلته الساعة. الرابع: أنك ادعيت أن الله يأتي بالشمس من المشرق وهذا أيضاً دعوى من غير دليل ولا معاينة ومن يقول بأن الذي يأتي بالشمس من المشرق هو ربك يا إبراهيم؛ بل أنا الذي آتى بالشمس من المشرق كل يوم. الخامس: أن قولك فأت بها من المغرب معارَض بمثله فليأت بها ربك من المغرب فهل تقدر أن تسأل ربك أن يأتي بها من المغرب؟ وإن سألته فهل هو فاعل ذلك وإن ادعيت أن ربي سيأتي بها من المغرب عند قرب الساعة فلا

يكون ذلك حجة علي في غيبتي. وفي الجملة فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين. 31 - قال: " معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: (نحن أحق بالشك من ابراهيم) إنما شك إبراهيم أيجيبه الله إلى ما سأل أم لا؟ وهل يستجيب دعاه؟ وهل اتخذه خليلاً؟ ".

قلت: إبراهيم - عليه السلام - لم يَدْع الله بإحياء الموتى؛ لأنه لو كان داعياً لذلك لقال: اللهم أحي الموتى أو أحيي فلاناً؛ ولكنه سأل أن يرَيه كيفية الإحياء. ولهذا قال الله تعالى: {قَالَ أولَم تُؤمِن} ولو كان سؤاله ليعلم أنه هل مجيبه أم لا؟ لما قال له: {أوَلَم تُؤمِن} كما لم يقل لعيسى: (بل يحي) بسؤاله؛ لأن قوله: {أولَم تُؤمِن} سؤال عن مطلق الإيمان فيكون ضده مطلق الشك لا الشك في الخلة والإيمان بالخلة.

32 - قال: " لا يقال للطائر إذا طار سعى، فقوله: {يَأتِينَكَ سَعْيًا} أي يأتينك وأنت تسعى سعياً ". قلت: لا معنى لسعي إبراهيم في حال إتيان الطير إليه: لأنه محال انتظار إتيان الطير إليه، وفي تلك الحالة لا فائدة لسعيه، ونسبة ذلك إليه غير معقول. 33 - قال في قوله تعالى: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} إلى قوله: {وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ} قال: ". إنما رد الماضي على المستقبل لأن العرب تلفظ بوددتُ مرة مع (لو) وهي للماضي فتقول: وددتُ لو ذهبتَ عنا. ومرة مع (أن) وهي للمستقبل فتقول: وددت أن تذهب عنا. و (لو) و (أن) مضارعان في معنى الجزاء، ألا ترى أن العرب إنما جمعت بين (لو) و (أن) قال الله تعالى: {وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا} كما يجمع بين (ما) و (أن) فلما جاز ذلك

صلح أن يقال: فعل بتأويل يفعل، ويفعل بتأويل فعل. وأن ينطق بـ (لو) مكان (أن)، وبـ (أن) مكان (لو) ". قلت: هذا غلط ظاهر ولكل جواد هفوة؛ لأن ما ذكر من الجمع بين (لو) و (أن) واحتج بقوله تعالى: {تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ} غير صحيح؛ لأنه ليس بجمع بين (لو) و (أَنْ)؛ وإنما هو جمع بين (لو) و (أنّ) المشددة، وما قرأ بالتخفيف أحد قط ". وقوله: " (لو) و (أن) مضارعان في معنى الجزاء " ليس كذلك؛ لأن (أن) ليس من الجزاء في شيء؛ ولكن وجه الآية أنه تعالى إنما عطف بالماضي على المستقبل في قوله: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ} إلى قوله: {وَأصَابَهُ اَلْكبرُ} لأن إصابة الكبر ليس بمودود، والجنة من النخيل والأعناب مودود، فلما خالفا في المعنى خالفا في الصيغة، والواو في قوله: {وَأصَابَهُ} للحال وتقديره: أيود أن تكون له كذا وقد أصابه الكبر.

سورة آل عمران

34 - قال في قوله تعالى: {فَنِعِمَّا هِيَ}: " (ما) في محل الرفع و (هي) في محل النصب كما تقول: نعم الرجل رجلاً ". قلت: بل (هي) في محل الرفع لا في محل النصب؛ لأن (هي) معرفة وخبر نعم إذا كان معرفة يكون مرفوعاً كقولك: نعم الرجل زيد. * * * سورة آل عمران 35 - قال في قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ}: " إن الواو واو العطف يعني يعلمه الراسخون، وحينئذ يكون قوله: {يَقُولُون} حالاً والمعنى: والراسخون في العلم قائلين، كقول الشاعر: فالرِيحُ تَبْكِي شَجْوَهَا ... وَالْبَرْقُ يَلْمَعُ فِي غَمَامَه

أراد والبرق لامعاً في غمامه يُبكى شجْوَه أيضاً، ولو لم يكن البرق يشرك الريح في البكاء لم يكن لذكر البرق ولمعانه معنى ". قلت: لا يمكن أن يكون {يَقُولُونَ} حالاً؛ لأنه لو كان حالاً لكان حالاً للمذكورين قبل، والمذكورون الله والراسخون؛ لأن من قال: جاءني زيد وعمرو وبكر راكبين. يلزم أن يكون الركوب حال الثلاثة لا الأخير وحده، فعلى هذا يلزم أن يكون القول حالاً للَّهِ والراسخين فيكون تقديره: (يقول الله والراسخون آمنا به كل من عند ربنا) وذلك محال؛ لأن الله تعالى لا يوصف بالإيمان بمعنى التصديق. وأما قوله: 36 - " الرِيحُ تَبْكِي شَجْوَهَا ... وَالْبَرْقُ يَلْمَعُ فِي غَمَامَه

أراد والبرق لامعاً ولو لم يكن البرق يشرك الريح في البكاء لم يكن لذكر البرق ولمعانه معنى ". قلت: هذا لا يستقيم من وجهين: أحدهما: أن قوله: (الريح تبكي شجوها) كلام تام مستقل، وكذا (البرق يلمع في غمامه) كلام تام مستقل مفيد لا يحتاج أحدهما إلى الآخر، ولا ضرورة في عطف البرق على الريح وجعل اللمعان حالاً. والثاني: وهو أن البرق لا يجوز أن يشرك الريح في البكاء؛ لأن البرق لا يوصف بالبكاء، ولا مشابهة بينه وبين الباكي أصلاً ورأساً، وإنما يوصف البرق بالضحِك، والضياء، حتى أنّ من وصف البرق بالبكاء يُسَفهُ في رأيه، بل الريح أو الغيم يوصف بالبكاء، فيكون قوله (والبرق يلمع في غمامه) كلاماً مفيداً مستقلاً. 37 - قال: " لَدُن يُخفض بها على الإضافة وُيرفع على مذهب مذ، وأنشد قول أبي سفيان بن حرب على الوجهين:

{ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله}

وَمَا زَالَ مُهْري مَزْجَرَ الْكَلْب مَنْهِم ... لَدُنْ غُدْوَةٍ حتى دَنَتْ لِغُرُوبِ قلت: لا يرفع بعدها على مذهب مذ، كما تقول: ما رأيته مذ يومان؛ بل ليس في لدن إلا الخفض بالإضافة. وينصب غدوةً بعدها والشعر مروي (لدن غدوةً) بالنصب لا غير. 38 - قال في قوله تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ}: " هذه اللام منقولة من أن بمعنى اللام ".

قلت: لا يمكن حمله على هذا؛ لأنه يصير تقديره: (ما كان أن بشر ليؤتيه الله كذا ثم يقول) وهذا خطأ ظاهر لا يفيد المعنى، بل الوجه والله أعلم أن يجعل اللام صلة، وكذلك أن تُجعَل صلة وتكون (ثم) بمعنى اللام فيكون تقديره: (ما كان لبشر يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ليقول للناس) حتى يستقيم استشهاده بقوله: " {مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ} أي: ما كان الله ليتخذ ولداً، وقوله: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} أي: ما كان النبي ليغل. أو نقول: لا حاجة إلى هذا التكلف بل معناه: ما كان لبشر أن يؤتيه الله ثم يأمر الناس بعبادة نفسه، كما تقول: ما كان لزيد أن أكرمه ثم يهينني.

39 - قال: " البشر جمع بني آدم لا واحد له من لفظه، كالقوم، والجيش، ويوضع موضع الواحد في الجمع ". قلت: أما القوم فيوضع موضع الواحد في الجمع؛ لأن جمعه أقوام، وكذلك الجيش لأن جمعه جيوش، وأما البشر فليس له جمع كالقوم والجيش، فإنه ما سُمع الأبشار ولا البُشور؛ ولكنه يوضع الواحد في اللفظ كما وضع ههنا في موضع الواحد، وهو قوله: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أن يُؤْتِيَهُ} فهو واحد من حيث اللفظ، جمع من حيث المعنى والله أعلم. 45 - قال: " عند أبي حنيفة وأصحابه يجوز للمريض أن يُحِجَّ عن نفسه ولو حُجَّ عنه وبَرَأَ سَقَطَ عنه فرضُ الحج ". قلت: إن برأ لا يسقط عنه فرض الحج، وإن دام المرض إلى الموت يجزيه كذا ذكر في التجريد والله أعلم.

سورة النساء

سورة النساء 41 - قال في قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} قال: " تمام الكلام عند قوله: {أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} ثم افتتح قصة صلاة الخوف بغير واو العطف، بفال إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا، يريد وإن خفتم كقوله: {وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذَلِكَ لِيَعْلَمَ} وقوله: {مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ}.

قلت: لا يستقيم هذا النظم؛ لأنه لو كان تمام الكلام عند قوله: {أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} لكان قوله: {إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ} شرطاً بغير جزاء، وكلاماً غير تمام ولا متناسب مع نفي الحرج سواء أضمرت فيه الواو، أو لم تضمر بخلاف قوله: {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} لأنه كلام تام، والدليل على أن قوله:

{إِنْ خِفْتُمْ} متصل بالكلام الأول حديث يعلى بن أمية قال: قلت لعمر بن الخطاب: فِيمَ قَصَر الناسُ الصلاةَ اليوم وإنما قال الله تعالى: {إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} وقد ذهبَ ذلك الخوفُ اليوم. فقال عمر: عجبتُ لما عجبتَ منه فذكرتُ ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: (صدقة تَصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته). فثبت القصر بالسنة لا بالكتاب إلا أن الآية نزلت على غالب أسفار النبي - صلى الله عليه وسلم - وأكثرها لم يَخْلُ عن خوف العدو، والحكم إذا ثبت لسبب ثم زال ذلك السبب يثبت الحكم، كما قلنا في الرمل في الطواف فإنه كان في الأول إظهاراً للتجلد على المشركين فزال السبب وبقي الحكم كذلك ههنا، وإنما عرفنا بقاء الحكم بالحديث عن ابن عباس قال: " سافر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

بين مكة والمدينة لا يخاف إلا الله يصلي ركعتين ". وليس هذا من باب نسخ الكتاب بالسنة؛ بل هو من باب البيان والتفصيل والله أعلم.

سورة المائدة

سورة المائدة 42 - قال في قوله تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} قال: " عند محمد بن الحسن لا يجب غسل المرفقين في الوضوء ". قلت: بل يجب عنده. 43 - وقال: " عند أبي يوسف فرض المسح نصف الرأس ".

قلت: بل عنده قدر ربع الرأس. 44 - وقال: " عند الشافعي يجوز إذا مسح مقدار ما يُسمَّى مسحاً لقوله: {وَامسَحُوا} فقد حصل من طريق اللسان ". قلت: الواجب عليه المسح الشرعي وهو المقدر بالربع والناصية بالحديث. لا المسح اللغوي. 45 - قال: " {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} الباء تدل على التبعيض ". قلت: نعم تدل على التبعيض، وذلك البعض مقدر بالناصية

بالحديث، لا بشعرة واحدة. و" احتج بحديث المغيرة توضأ فمسح بناصيته ". قلت: لا يصلح هذا حجة لمن يقول بأن الفرض مقدار شعرة واحدة، لكثرة شعرات الناصية كما هو حجة لأبي حنيفة وأصحابه.

46 - وقال: " الكعبان هما الناتئان من جانبي الرجل وعليهما الغسل وخالف محمد بن الحسن فقال: فهو الناتئ من ظهر القدم ". قلت: لم يخالف محمد بن الحسن في ذلك. 47 - قال: " في كفارة اليمين جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: أوجبت، فقال: (أعتق رقبة) فجاء برقبة أعجمية إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من ربك؟) ففهّمها الله فأشارت أنه واحد، فقال لها: (من أنا؟) فأشارت إلى السماء أي إنك رسول الله ". قلت: هذا تغيير وتحريف لحديث النبي - صلى الله عليه وسلم - لفظاً ومعنى، فإن هذا الحديث خرجه مسلم في الصحيح بطُرُق: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لها: (أين الله؟) فقالت في السماء، فقال: (من أنا؟) فقالت: أنت رسول الله. فقال - صلى الله عليه وسلم -: (أعتقها

فإنها مؤمنة).

{ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا}

48 - قال في قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا}: " أنه نزل حين سألوه - صلى الله عليه وسلم - عن الذين ماتوا وهم يشربون الخمر فيما طعموا، أي شربوا من الخمر {إِذَا مَا اتَّقَوْا} الشرك {وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا} الخمر والميسر بعد تحريمهما {ثُمَّ اتَّقَوْا} ما حرم الله عليهم كله، {وَأَحْسَنُوا} ".

قلت: لا يصح هذا التفسير؛ لأنه كما ذكر نزل في الذين ماتوا شاربين قبل التحريم فكيف اتقوا الخمر بعد التحريم؟ والاتقاء من الميت محال. وإنما الصحيح أن يقال: ليس عليهم جناح فيما طعموا أي شربوا من الخمر قبل التحريم إذا ما اتقوا الشرك، وآمنوا، وعملوا الصالحات، ثم اتقوا ما حرم الله عليهم كله، وآمنوا، وثبتوا على الإيمان، ثم اتقوا أي ثبتوا على التقوى وأحسنوا، والدليل على أن هذه الآية نزلت في الذين ماتوا شاريين قبل التحريم ما رُوي أن جماعة في إمارة عمر بن الخطاب شربوا الخمر فقيل لهم هذا (شربتم الخمر؟ قالوا: هي حلال) علينا لأن الله تعالى يقول: (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا) ونحن اتقينا وآمنا

سورة الأنعام

فذكر ذلك إلى عمر فشاور في ذلك جماعة من الصحابة فبعضهم أفتى بقتلهم، وبعضهم بتركهم، وبعضهم سكتوا، فسأل علي بن أبي طالب فقال: " يُستحضرون ويسألون هل بلغكم التحريم؟ فإن قالوا: لا، يُبَلغون ويعلمون أن الآية نزلت في الذين ماتوا شاربين قبل التحريم ويستتابون فإن تابوا تركوا، وإن قالوا: بلغنا التحريم ونُأوِلُ هذه الآية يعلمون تأويلها فإن قبلوا وتابوا وإلا ضربت أعناقهم، ففعلوا فقبلوا وتابوا. * * * سورة الأنعام 49 - قال في قوله تعالى: " {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ} أي هل رأيتم ". قلت: لعله ذهب بهذا التفسير إلى أنه من الرؤية وليس كذلك؛ لأنه حينئذ

{فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي}

لا ينتظم مع قوله: {إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ} لأن قوله: {إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ} مستقبل، فيستحيل أن تتعلق به الرؤية الماضية. وإنما معنى قوله: {أَرَأَيْتَكُمْ} وأرأيت وأرأيتم أي ما تقولون معناه الاستخبار يقول أخبروني والله أعلم. 50 - قال في قوله {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي}: " فيه أربعة أوجه من التأويل: الأول: أن إبراهيم - عليه السلام - أراد أن يستدرجهم بهذا القول وُيعَرِّفَهم خطأهم وجهلهم في تعظيم ما عَظمُوه، وُيقيم عليهم الحجة فلما أَفَل (أراهم النقص) الداخل عليهم وكانوا يعظمون النجوم، قال: وهذا مثل

الحواري الذي ورد على قوم يعبدون صنماً فأظهر تعظيمه وعبده فأكرموه، إلى أن دهمهم عدو فدعوا الصنم فلم يكفهم، فقال لهم: ندعوا إله السماء، فدعوه فرفع عنهم فأسلموا. الثاني: إن إبراهيم رآهم يعبدون النجوم فقال لهم على جهة الاستفهام {هَذَا ربِي} يعني أهذا ربي؟. الثالث: أنه قاله على وجه الاحتجاج على قومه لا على معنى الشك، كأنه قال: هذا ربي عندكم فيما تظنون، فلما أفل قال: لو كان إلهاً لما غاب، كقوله: وانظروا إلى إلهكم بزعمك. الرابع: أن في الآية إضماراً أي قال: يقولون هذا ربي ". قلت: كل هذه الوجوه للضعف من عِلَلِ النحويين: أما الأول قال: " إن إبراهيم أراد أن يستدرجهم ويعرفهم خطأهم " قلت: هذا لا يشبه الاستدراج؛ لأن هذا كله كان في ليلة واحدة، أو في ساعة من الليل في زمان غفلة الناس ونومهم وزمان الخلوة، وبحيث لا يسمعه إلا قليل منهم، والاستدراج إنما يكون إذا دام على ذلك مدةً واشتهر منه ذلك، وكثر سماعهم منه، كما حُكي عن الحواري، وأين هذا من حكاية الحواري؟ فإن الحواري عبد الصنم مدة حتى وثقوا به ثم أراهم عجزه عن الإجابة وعدم الكفاية، وذلك نقصان

ظاهر، أما ههنا لم يرهِم إبراهيم نقصاً؛ لأنه قال: {فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} والأفول الغيبة، ولا نقص في الغيبة فإن إله السماء والأرض أيضاً غائب عن الأبصار، وهو معنى قوله: {يُؤمِنُونَ بِالغَيْبِ}. ثم قال: {لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} ولم يقل لا أحب المسخرين، أو لا أحب المحدودين المتحيزين. وأما الوجه الثاني: قال: " إن إبراهيم رآهم يعبدون النجوم فقال على جهة الاستفهام (أهذا ربي) قلت: هذا أيضاً بعيد من وجوه: الأول: إن قوم نمروذ ما كانوا يعبدون النجوم وإنما كانوا يعبدون نمروذ والأصنام، بدليل سياق القصة فإن إبراهيم قال لأبيه: من ربك؟ قال: نمروذ ولم يقل النجوم، وبدليل كسر الأصنام، وبدليل قوله: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ}؛ ولأنه ما سُمع أن أحداً من الأمم الضالة جمع بين عبادة الكوكب، والقمر، والشمس، وإنما كان بعضهم يعبدون نجماً، وبعضهم يعبدون الشمس.

الثاني: أن إدراج ألف الاستفهام فيه خلاف الأصل. الثالث: أن هذا لو كان استفهاماً منه لما كان تبرِّيه موقوفاً على الأفول بل تبرأ في الحال، وإنه ما تبرأ إلا بعد الأفول، والأفول الغيبة، ولا نقص في الغيبة فلا حجة فيها لأن استفهام الإنكار يكون نفياً، فيكون نافياً في الحال، والله أخبر أنه إنما نفي بعد الأفول. وأما الوجه الثالث: قال: " إنما قاله على وجه الاحتجاج لا على وجه الشك كقوله: {وَانظُر إِلى إِلهِكَ} ". قلت: هذا أيضاً بعيد؛ لأنه لا احتجاج في ذلك لما ذكرنا أن الأفول هو الغيبة، ولا نقص في الغيبة فلا حجة فيها، ولو قاله بطريق الاحتجاج على زعمهم لقال: (هذا ربكم) وما قال (ربي)، ولأنه لو قاله على زعمهم لكان هذا الكلام متصلاً بكلام آخر، كما حكي عن موسى حيث قال للسامري: {وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا} الآية، وإنه قال هذا ربي ابتداءً مفرداً فلا زعم ولا احتجاج.

وأما الوجه الرابع: قال: " فيه إضمار معنى يقولون هذا ربي ". قلت: هذا أيضاً بعيد؛ لأن الإضمار في المواضع الثلاثة خلاف الأصل؛ ولأنه لو كان كذا لقال: (يقولون هذا ربنا) ولتبدأ في الحال، وما انتظر الأفول بل ألزمهم لعيب آخر فيه أشد من الأفول كما ذكرنا. فإن قيل فما الوجه؟ قلت: إنما قال هذا كله في صغره قبل البلوغ، وقوله: {وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} لام العاقبة، وقد صار من الموقنين بعد ذلك.

{لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير}

51 - قال في قوله تعالى: " {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} لا تحيط به الأبصار بل تراه ولا تحيط به كما نَعْرِفُه " قلت: هو تناقض لأن العرب تقول أدركه البصير إذا رآه. فلا معنى لقوله: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} أي ما تراه، واستشهد بقوله: {وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا}. قلت: معناه لا يعلمون ذاته.

52 - قال: " كما أخبر عن قوم موسى: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} وكان قوم فرعون قد رأوا موسى ولم يدركوه " قلت: ليس هذا نظيره؛ لأن قوله: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} غير مقرون بالبصر، فلا يكون بمعنى الرؤية، وههنا مقرون بالبصر فيكون بمعنى الرؤية. 53 - قال: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} في الدنيا ". قلت: يلزم من ذلك زوال التمدح لأنه خرج مخرج المدح.

{وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها}

54 - قال في قوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا}: " إن شئت نصبته أي (جعلنا مجرميها أكابر) وإن شئت خفضته على الإضافة ". قلت: خفضه بالإضافة لا وجه له؛ لأن الجَعْل ههنا لو لم يكن له مفعولان لم يتم الكلام؛ لأنك إذا قلت: جعلتُ غلامَ زيد لا يتم الكلام حتى تقول: رئيسها. فلو قدَّرت مجرميها خفضاً بالإضافة كان كقولك: جعلت غلام زيد، وقوله: {فِى كُل قَرْيَةٍ} لا يصلح مفعوله الثاني؛ لأن الكلام لا يتم به؛ لأنه لا يصلح عَرَضاً. 55 - قال في قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ}:

" يعني قدر مدة ما بين بعثهم إلى دخولهم النار ". قلت: لا يصح على هذا الوجه، لأن الاستثناء إخراج الشيء مما دخل فيه غيرُه. وهذا الخطاب إنما يكون لهم في القيامة، وفي القيامة قَدْر مُدَة ما بين بعثهم إلى دخول النار مضى وانعدم؛ لأنه استثناء من الخلود، والخلود يكون بعد الدخول؛ لأنه يستحيل الخلود في النار قبل الدخول فيها، ولا يصح الاستثناء المعدوم من الموجود. 56 - قال: " عن بعضهم هذا الاستثناء هو أن لا ينبغي لأحد أن يحكم على الله في خلقه بالجنة أو النار ". قلت: ذلك في الأشخاص المعينين، أَمَا يجوز أن يُحكم للكفار مطلقاً بالنار، وللمؤمنين مطلقاً على العموم بالجنة لورود العمومات؟. 57 - قال: " إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ فكان ما شاء الله الأبد ". قلت: هذا أيضاً لا يصح؛ لأن الأبد والخلود واحد، ولا يجوز استثناء

الشيء من نفسه، كما لا يجوز أن يقال جاءني العشرة إلا العشرة، ولو قال: أنت طالق (ثلاثاً) إلا ثلاثاً يبطل الاستثناء، لأن ذلك استثناء الكل من الكل (فكذلك) ههنا. 58 - قال {خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ}: " يعني سوى ما شاء الله من أنواع العذاب ". قلت: هذا أيضاً لا يصح؛ لأن أنواع العذاب زائد على نفس الخلود، ولا يجوز استثناء الأكثر من الأقل، كما لا يجوز جاءني عشرة إلا عشرون. 59 - وقال: " إلا ما شاء الله من إخراج أهل التوحيد من النار ". قلت: هذا أيضاً لا يصح؛ لأن هذا الخطاب مع الكفار لأن أول الآية: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ} وأولياؤهم كفار؛ ولأن عموم هذا الخطاب وهو قوله: {النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا} لا يجوز أن يكون لجماعة فيها المؤمنون الموحدون. 60 - قال: " إِلا مَا شَاءَ اللهُ أن يزيدهم من العذاب فيها ". قلت: قد ذكرنا أنه لا يجوز استثناء الأكثر من الأقل، حتى أن من قال لفلان علي درهمان إلا أربعة دراهم يبطل الاستثناء.

61 - قال: " إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ من كونهم في الدنيا بغير عذاب ". قلت: قد ذكرنا أن هذا الخطاب إنما يكون لهم يوم القيامة، ويوم القيامة يكون كونُهم في الدنيا بلا عذاب ماضياً منعدماً، ولا يصح استثناء المعدوم من الموجود؛ لأن الاستثناء إخراجٌ، والمعدوم خارج، وإخراج الخارج محال. 62 - قال: " إِلا مَا شَاءَ اللهُ يعني من سبق في علمه أنه يؤمن ". قلت: هذا الخطاب إنما يكون لهم يوم القيامة؛ لأنه قال: {وَيَومَ يحشُرُهُم} ويوم القيامة لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل. فإن قيل فما وجه الآية؟. قلت: وجهها أنه استثنى الذين آمنوا وإن ارتكبوا الكبائر، ويجوز أن يسمى مرتكب الكبائر ولي الجن أو مطيع الشيطان، فيكون التقدير: النار مثواكم خالدين فيها إلا من آمن منكم في الدنيا فيكون (ما) بمعنى (مَنْ) ويجوز أن يكون هذا استثناء غير واقع وذلك كثير في كلامهم.

{سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا}

63 - قال في قوله تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} قال: " كذبهم الله في قولهم: (إن الله رضي ما نحن عليه) قال: والدليل على أن التكذيب ورد في هذا، لا في قولهم (لو شاء الله ما أشركنا) قوله: {كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} من التكذيب، ولو كان ذلك خبراً من الله عن تكذيبهم في قولهم: (لو شاء الله ما أشركنا) لقال: (كذَب الذين من قبلهم) بتخفيف الذال، وكان نسبهم إلى الكذب لا إلى التكذيب ". قلت: ليس كذلك من وجهين: أحدهما: أن قولهم: (إن الله رضي منا ما نحن عليه) غير مذكور في الآية، ولا يجوز أن يُتقول عليهم ما لم يقولوا.

الثاني: أنه تعالى قد نسبهم إلى الكذب أيضاً كما نسبهم إلى التكذيب بقوله في آخر الآية: {وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} أي تكذبون. ولكن الجواب: أن الله تعالى كذبهم في قولهم: (لو شاء الله ما أشركنا) كما كَذَّب المنافقين في قولهم: {نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} قال تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} ولو كان عين هذا الكلام منها وهو قوله: {نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} لكان صدقاً، وهو من المنافقين كذب، كذلك قولهم: (لو شاء الله ما أشركنا) كذب منهم، صدق منا، والأعمال بالنيات، وتختلف الأقوال باختلاف العقائد فبطلت حجة القدرية والله أعلم.

سورة الأعراف

سورة الأعراف 64 - قال في قوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}: " قالت عائشة: مكارم الأخلاق عشر صدق الحديث " قلت: هو من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - لا من كلام عائشة رواه الأوزاعي عن الزهري عن عروة قال: سمعت عائشة تقول: كان نبي الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (مكارم الأخلاق عشر) وذكر الحديث.

سورة الأنفال

سورة الأنفال 65 - قال في قوله تعالى: {وَمَا رَمَيتَ إِذ رَمَيتَ}: " قال حكيم بن حزام: لما كان يوم بدر سمعنا صوتاً وقع من السماء كأنه صوت حَصَاة على طَسْت، ورَمى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلك الرمية فهزمناهم ".

{إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله}

وقال في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}: " إنها نزلت في المطعمين يوم بدر وهم أبو جهل وعتبة وشيبة والنضر وأمية وحكيم بن حزام ".

سورة التوبة

قلت: وهذا تناقض، لأن القول الأول يدل على أن حكيم بن حزام يوم بدر كان مسلماً والثاني يدل على أنه كان كافراً يوم بدر. والصحيح أن حكيم بن حزام يوم بدر كان مع المشركين وإنما أسلم يوم فتح مكة. * * * سورة التوبة 66 - قال في قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} قال: " أُتى النبي - صلى الله عليه وسلم - بأسير يقال له: أبو ثمامة وهو سيد اليمامة. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (يا أبا ثمامة أيما

أحب إليك أعتقك أم أفاديك أم أقتلك أم تسلم؟) فقال: إن تعتق تعتق عظيماً، وإن تفاد تفاد عظيماً، وأَمَّا أَنْ أُسْلم فوالله لا أسلم أبداً. قال: (فإني أعتقك). قال: فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله ". قلت: على غير هذا الوجه مَرْوي وهو حديث صحيح رواه البخاري عن عبدالله، ومسلم عن قتيبة كلاهما عن ليث عن سعيد عن أبي هريرة قال: بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - خيلاً قِبَل نجد فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له ثمامة

ابن أثال فربطوه في سارية من سواري المسجد، فخرج إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: (ما عندك يا ثمامة) فقال: " عندي خير يا محمد إن تقتلني تقتل ذا دم، وإن تُنْعِم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسأل منه ما شئت ". حتى كان الغد ثم قال له: (ما عندك يا ثمامة) فقال: إن تنعم تنعم على شاكر، فأطلقه حتى كان بعد الغد، فقال: (ما عندك يا ثمامة) قال: عندي ما قلت لك، قال: (أطلقوا ثمامة) فانطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل، ثم دخل المسجد: فقال: " أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله " الحديث. 67 - قال في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}: " لا يتوارث مسلم ومشرك إلا صاحب جزية مقر بالخراج.

{إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل}

قلت: صاحب الجزية المقر بالخراج لا يَرِث المسلم، ولا يرثه المسلم بالاتفاق. 68 - قال في قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ}: " ابن السبيل هو الحاج المنقطع عند فقهاء العراق ". قلت: بل عند فقهاء العراق " ابن السبيل من كان له مال في وطنه وهو في مكان لا شيء له فيه " سواء كان من الحاج أو غيرهم، فأمَّا قوله تعالى: {وَفي سَبِيلِ اللَّهِ} فهو عند محمد بن الحسن المنقطع الحاج، وعند أبي حنيفة

{أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم}.

وأبي يوسف منقطع الغزاة. 69 - قال: " أخذ بظاهر قوله تعالى: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ}. قلت: لو أخذنا بظاهره لكان معناه أباني هذا المسجد خير أما باني ذاك المسجد؛ لأنه ذكره بلفظ (مَنْ)، و (مَنْ) للعقلاء، ونعلم أن تفضيل الباني على الباني ليس بمراد، بل تفضيل المسجد على المسجد هو المراد. فيكون (من) ههنا بمعنى (ما) وقد يقام إحداهما مقام الأخرى قال الله تعالى: {وَالسماءِ وَمَا بَنَاهَا} أي ومن بناها، وقال: {فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ} أي ما يمشي، والدليل على أنه بمعنى (ما) قراءة نافع،

{ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى}

وأهل الشام {أَفَمَنْ أُسِّسَ بُنْيَانُهُ} بضم الهمزة والنون، فيكون تقديره (فما أُسس بنيانه على التقوى خير أم ما أُسس بناينه على شفير جهنم) ومن قرأ (أَسس) يكون معناه والله أعلم (أفما أَسس بنيانه المؤسَس على التقوى خير أم ما أَسس على الشفا)، أو نقول معناه (فمن أَسس بنيان دينه على التقوى خير أم من أَسسه على قاعدة ضعيفة وحالِ الباطل). 70 - قال في قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى}: " أنها نزلت في أبي طالب، وأنه لما حضرته الوفاة دخل عليه

النبي - صلى الله عليه وسلم - وعنده أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية، فقال - صلى الله عليه وسلم -: (أي عم إنك أعظم الناس عليَّ حقاً، وأحسنهم عندي يداً، فقل كلمة تجب لك بها شفاعتي لا إله إلا الله). فقال أبو جهل: أترغب عن ملة عبد المطلب، ففال: أنا على ملة عبد المطلب، فقال - صلى الله عليه وسلم -: (لأستغفرن لك ما لم أُنه). فنزل قوله: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا} الآية ". قلت: هذا بعيد لأن السورة من آخر ما نزل من القرآن، ومات أبو طالب في عنفوان الإسلام بمكة، فكيف يكون سبب نزول هذه الآية استغفاره له؟

والذي نُقل عنه أنه قال بل على ملة عبد المطلب ليس فيه ما يَدُلُ على كفره؛ لأن عبد المطلب مات في الفترة، ولم تبلغه الدعوة، ولم يَكفر بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، بل نُقل عنه ما يدل على إيمانه وهو حبه للنبي - صلى الله عليه وسلم - وتربيته له، وقوله: إن لهذا البيت رباً ينصره لأبرهة، ودعاؤه وإجابة الله دعاءه في وجدان النبي - صلى الله عليه وسلم - حين فقده، وفي الاستسقاء وغيرها، فما نقل منه شيء يدل على الكفر بالله

ولا بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، فلا يكون عبد المطلب من أهل النار بالكتاب والسنة، أما الكتاب قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} أما السنة فقد جاء في الحديث: (ثلاثة يأتون يوم القيامة بحجة وعذرٍ منهم رجل مات في الفترة). أما ما ذكر من حديث عليٍّ أنه قال: (إن عمَّك الضال قد مات)

فقال: (اذهب فواره فواراه، فدعا لعلي). ليس فيه أيضاً ما يدل على كفره، لأن الضال قد يطلق على غير الكافر قال الله تعالى: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى}، ولا يجوز الكفر على الأنبياء في حال من الأحوال، وقول إخوة

يوسف: {إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ}، وقوله لحاطب بن أبي بلتعة: {وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} بل دُعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - لعلي عقيب دفنه أبا طالب يدل على إسلامه؛ لأن بدفن المسلم يستوجب الدعاء لا بدفن الكافر، وعدم شهود النبي - صلى الله عليه وسلم - دفنه لا يدل على كفره؛ لأن حينئذ لم يكن صلاة الجنازة مشروعة بعد، وأما ما رُوي من شِعْره فذاك أيضاً لا يدل على كفره وهو قوله: والله لَنْ يَصلُوا إلَيكَ بجَمْعِهمْ ... حَتَى أُوَسَّدَ فِي التُرَابِ دَفِيْناً فاصْدَعْ بأمْرِكَ مَا عَلَيْكَ غَضَاضَةٌ ... وَابْشِرْ وَقَرّ بذَلِكَ مِنْكَ عُيُوناً وَلَقدْ دَعَوْتَنِي وَزَعَمْتَ أَنكَ نَاصحِي ... وَلَقَدْ صَدَقْتَ وَكُنْتَ ثَمَّ أَمِيْناً وَعَرَضْتَ دِيناً لا مَحالَةَ أَنه ... مِنْ خَيْرِ أَدْيَانِ البَرَّيةِ دِيْناً لولا الملاَمَةِ أَو حِذاري سَبَّة ... لَوَجَدتَنِي سَمْحاً بذَلِكَ مُبيْناً أما الأبيات الأربعة فكلها تدل على إسلامه حيث صرّح فيها بتصديقه، ومدحه، ونصرته، وأما البيت الأخير فلا يدل على كفره؛ لأنه قال:

(لوجدتني سمحاً بذاك مبيناً) والمبين المظهر، ويجوز أن يكون قد تكلم بكلمة الإسلام سراً ولم يظهرها بدليل ما نُقل عن ابن عباس أنه قال: " أسرَّ أبو طالب بكلمة الشهادة "، وكذلك قوله: (إن أبا طالب لفي ضحضاح من النار) لا يدل على كفره؛ لأن المؤمن قد يكون في أكثر من الضحضاح لتقصير صدر منه، ثم يخرج من النار ويدخل الجنة لإيمانه، على أن هذا الحديث ¬

_ * لا يخفي ما في هذه التأويلات من تكلف، والراجح عند المحققين أن أبا طالب مات على الكفر. والله أعلم.

وأمثاله من أخبار الآحاد وأخبار الآحاد لا توجب العلم، وإنما توجب العمل، والذي نحن فيه من باب العلم، فلا تكون هذه الأخبار فيه حجة. على أنها معارَضَةُ بحديث جبربل لمحمد: (أن الله حرم على النار حِجْراً أكفلك وبطناً حملك وثدياً أرضعك) (¬1) (¬2). والدليل على إسلام أبي طالب أنه ثبت بطريق التواتر أنه كان يحب النبي - صلى الله عليه وسلم - وينصره ويوقره، ويكفُّ عنه أذى المشركين وهذا كله دلائل الإسلام، لأن الكافر لا يحب النبي ولا ينصره، بل يبغضه ويخذله، ولا يُحْمَلُ ذلك على القرابة، فإن أبا لهب كان عمه وكان مُظهراً للبغض والعداوة، فإن من كان ¬

_ (¬1) حديث موضوع، أخرجه ابن الجوزي في الموضوعات (2/ 10) برقم (545) في كتاب الفضائل. (¬2) من عجيب صنيع الرازي أنه يرد الأحاديث الثابتة الصحيحة بحجة أنها أخبار آحاد ثم يعارضها بالأحاديث الموضوعة!!.

كافراً فدينه وطبعه يحملانه على عداوة المسلمين فعلاً وقولاً. والثاني: أنه ثبت أيضاً بالنقل المتواتر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يحبه ويصاحبه، والنبي - صلى الله عليه وسلم - لا يحب الكافر شرعاً وطبعاً، مع أنه مأمور بمجانبة الكافر، ومعاداة المشركين الفجار قال الله تعالى: {لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} وقال: {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ} ولا يُحمل ذلك على القرابة فإن أبا لهب كان أيضاً عمه وما كان يحبه. كيف وقد نفى الله تعالى المحبة من المسلم للكافر مع وجود القرابة القريبة بقوله: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} الآية.

الثالث: أنه ثبت بالنقل عن الرواة والثقات: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يدعوا له، ويشكره ولا يليق بحال النبوة الثناء على المشركين، والدعاء لهم بما يُدْعى به للمسلمين المؤمنين، من ذلك ما رُوي في حديث الاستسقاء أنه قال: (لله در أبي طالب لو كان حياً لقرت عيناه) ثم قال: (أيكم ينشدنا شعره) فأنشده عليُ ابن أبي طالب: وأبيَض يُسْتَسْقى الغَمام بوَجْهِهِ ... ثِمَال اليَتَامَى عِصْمَة لِلأَرَامِلِ يَلوذ بِهِ الهَلاكُ مِنْ آل هَاشِم ... فَهمْ عِنْدَهُ فِي نِعْمَةٍ وَفَوَاضلِ كذبْتُمْ وَبَيْتُ الله نُبَزى مُحَمَّداً ... وَلَمَّا نُقاتِل دُوْنَهُ وَنَنَاضلِ ومن ذلك ما روى محمد بن كعب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل على أبي طالب في

مرضه فجلس إليه فقال: (يا عم جُزيت عني خيراً كفلتني صغيراً وحضنتني كبيراً فجزيت عني خيراً) وفي حديث سعيد بن المسيب قال له: (يا عم إنك أعظم الناس عليَّ حقًّا وأحسنهم عندي يداً، ولأنت أعظم عليَّ حقاً من والدي) ولو لم يكن أبو طالب أهلاً للإسلام لما وفقه الله تعالى لمثل تلك الصنائع المعروفة إذ لا يليق بحكمة الحكيم أن يُجري تلك الأمور على يد المشرك، أو لا يرزق الإسلام من كان على مثل تلك الأفعال والأقوال، قال الله تعالى: {إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} والله لا يخلف الميعاد. وأما ما نقلوه في التفاسير أنه نزلت فيه آيات مثل قوله تعالى: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} وقوله تعالى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} وقوله: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} فكل ذلك ورد بطريق

الآحاد عن بعض المفسرين وقد ذكرنا أن أخبار الآحاد لا توجب العلم ولا تعارِض ما ذكرنا من الأخبار المتواترة (¬1)، والدلائل القطعية من النقلية والعقلية. كيف وإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يدعوا للأجانب بالهداية والتوفيق؟ فلا يُظن به وهو أوصل الناس للأرحام، وأحرصهم على الإسلام أنه لم يكن يدعوا لأبي طالب مع ما له من الأيادي، ودفع العوادي من الأعادي، ولا يستجيب الله تعالى دعاءه فيه ولا يحقق ما يأمله ويرتجيه والله واسع حكيم. ¬

_ (¬1) لم أجد فيما ذكر من دليل أنه متواتر! بل هي للضعف والوضع أقرب.

{لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم}:

71 - قال في قوله: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ}: " (ما) صلة أي عنتم، وهو دخول المشقة عليكم ". قلت: ليس (ما) صلة؛ لأنه لا يستقيم النظم وشديد عليه دخلتم في المشقة، ولكن (ما) مصدرية يعني: شديد عليه عنتكم، أي دخولكم في الحرج والمضرة. والله أعلم.

سورة يونس

سورة يونس 72 - قال في قوله: {أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ}: " هنالك آمنتم ". قلت: (ثُمَّ) للتعقيب والتأخير وهي من حروف العطف. وهنالك معنى (ثَمَّ) لا معنى (ثُمَّ)، والأشبه أن يكون معناه: أبعد وقوع العذاب آمنتم به. والله أعلم. 73 - قال في قوله: {وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ}: " أخفوا {النَّدَامَةَ} على كفرهم {لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ}. قلت: هو مثل قوله في سورة سبأ {وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ} وذكر ثم: " أظهروا

{فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك}

{النَّدَامَةَ} والإسرار من الأضداد يكون بمعنى الإخفاء والإظهار والله أعلم. 74 - قال في قوله تعالى: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ} الآية: " قال كفار مكة: إنما يلقي هذا الوحي على لسان محمد شيطان فأنزل الله الآية ". قلت: هذا التأول لا وجه له؛ لأن الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - فلو كان سبب النزول قول الكفار لقال: (وإن كنتم في شك) لأن حينئذ كان الشك منهم ولا يجوز أن

يكون قول الكفار سبب الشك للنبي؛ لأن الشك يكون في القلب والله تعالى عَلِم من قلبه أنه لم يكن فيه شك؛ ولأنه رُوي أنه لما نزلت هذه الآية قال النبي - صلى الله عليه وسلم - (ولا أشك ولا أسألهم). 75 - قال: " فيها وجه آخر قال: الخطاب للرسول، والمراد به غيره من الشاكين ". قلت: هذا خلاف الأصل إذ لو جاز ذلك لجاز أن ينهاه عن عبادة الأصنام ويلومه على ذلك (لم تعبد الأصنام يا محمد) وذلك خلاف المعقول والمنصوص. 76 - قال: " كان الناس على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصناف: مكذب ومصدق وشاك فخاطب الشاك {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ} الشاك ". قلت: الجواب ما ذكرنا أنه خلاف الأصل والدليل على أن الخطاب ليس لغيره من الشاكين أنه قال: {مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ} والإنزال لم يكن إِلا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -.

77 - قال: " إن بمعنى الجحد وتقديره فما كنت في شك، كما قال: {وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} ". قلت: هذا أضعف من الكل؛ لأن قوله: {وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ} جاء بعده (لا) تأكيد النفي فتعين للنفي كقوله: {وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ} ولا كذلك

ههنا، لأن ههنا ذكر بعد إن (فسئل) وذكرم آخر الآية {فَلَا تَكونَنَّ مِنَ الْمُمتَرينَ} أي الشاكين. وحرف (إن) إذا جاء بعده الأمر بالفاء لا يُفهم منه إلا الشرط والجزاء كقوله: {إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ} خصوصاً إذا كان الأمر أمراً بالسؤال، وحرف الشرط دخل في قوله: {فَإِن كُنتَ فِى شَكٍّ} والسؤال يناسب الشك وكلاهما خطاب الواحد، فجَعْلُ أحدهما وحداناً والآخر جمعاً بعيد جداً. 78 - قال: " علم الله أنه لم يشك ولكن أراد أن يأخذ بقوله لا أشك كقصة عيسى ".

قلت: إنما يصح هذا أن لو سأله عن الشك، وهذا ليس بسؤال عن الشك، بل هو شرط وجزاء، والدليل على أنه لم يكن ليأخذه بقوله: (لا نشك) لأنه لم يذكر ذلك في القرآن كما ذكر عن قول عيسى: {سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ}. 79 - قال: " علم الله تعالى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - غير شاك فقال له: {فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ} وهذا كما تقول لغلامك الذي لا تشك أنه غلامك: إن كنت عبدي فأطعني ". قلت: هذا أيضاً لا وجه له؛ لأن قول القائل لعبده: إن كنت عبدي فأطعني. يقوله وهو متيقن أنه عبده فيلزم أن الله تعالى يعلم أن نبيه - صلى الله عليه وسلم - شاك؛ لأنه قال: {فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ} كقولنا: إن كنت غلامي. وهذا القائل لهذا الوجه غلط من حيث أنه تُوهم أن الكلام إنما وقع في شك الله لشك النبي، فقال: إن الله لم يشك في أن النبي لم يشك، وليس الكلام في شك الله. وإنما الكلام في شك النبي - صلى الله عليه وسلم -. فما استشهد به من النظير يحقق شك النبي لا أنه ينفيه؛ لأنه يلزم من ذلك علم الله بأنه شاك كصورة النظير حَذْو القُذة بالقُذة، والذي يعلمه الله تعالى يستحيل خلافه، فإذا علم الشيء موجوداً يستحيل أن يكون معدوماً، وإذا علمه معدوماً يستحيل أن يكون موجوداً، فيلزم أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - شاكاً. 80 - قال فيه وجهاً آخر: " الشاك في الشيء يضيق به صَدْره فيُقال للضيق الصدر شاك يقول: إنْ ضِقْتَ ذرْعاً بما تُعاين مِنْ بَغْيهم وأذاهم فاصبر واسأل

الذين يقرؤون الكتاب يخبروك بصبر الأنبياء على الأذى ". قلت: هذا أيضاً لا وجه له لوجهين: أحدهما: أن الشاك بمعنى الضيق الصَدْر غير مسموع، ولا مذكور في الكتب. والثاني: وهو أنه يلزم من ذلك نسبة المحال إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: {فَإِن كُنتَ} نسبة للمحال إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه قال: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ} فيكون معناه فإن كنت ضيق الصدر من القرآن -وحاشاه من ذلك-؛ ولأنه قال في آخرها {فَلَا تَكُونَن مِنَ المُمتَرينَ} وهو مُفتَعِلُ من المرية وهي الشك. 81 - قال فيها وجهاً آخر قال: " كان جائزاً على الرسول - صلى الله عليه وسلم - وسوسة الشيطان؛ لأن المجاهدة في ردها مما يُستَحقُ عليها الثواب ". قلت: هذا أيضاً لا وجه له، لأن الله تعالى أمره بالسؤال عن أهل الكتاب، وبالسؤال عن أهل الكتاب لا تزول الوسوسة ولا الشك؛ لأن أهل الكتاب إن كانوا مؤمنين به لم يكن لهم شك مما أنزل الله، فلا يجوز أن يكون النبي في شك، ومؤمنو أهل الكتاب في غير شك، فيكون غير النبي أعلى شأناً من النبي، ولو كان أهل الكتاب المسؤلون غير مؤمنين به لكانوا أكثر شكاً منه فكيف يزول الشك

بالسؤال عن الشاك الذي هو أكثر شكاً من السائل {ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ}. 82 - قال: " مع حرف الشرط لا يثبت الفعل ". قلت: إذا كان الكلام من الله يَثبُتُ الفعلُ على حرف الشرط لأن حرف (إن) للشك، ولا يجوز الشك على الله تعالى بدليل قوله: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} وقد ثبت إيمانهم. وكيف يجوز الشك على الله تعالى أو على النبي - صلى الله عليه وسلم - والشك في حق واحد من المسلمين كفر؟ حتى أن من شك في وحدانية الله تعالى أو في حَقِّيَّة القرآن من أهل الإيمان يكون كمن أنكر الصلاة. والله الموفق والمستعان. فإن قيل: فما وجه الآية؟. قلت وجهها: أن الله تعالى خاطب النبي - صلى الله عليه وسلم - والمراد به غيره كما ذكروا، هذا وإن كان خلاف الأصل، ولكنه سائغ في عرف العرب وغيره ولا يلزم أن يكون بطريق الاستفهام، فإن من أراد أن يوبخ شخصاً على سوء فعله يخاطب غيره بحضوره، فيكون زجراً له بطريق التعريض، وذلك إما أن يكون لحقارة

سورة هود

المُعرَّض به، أو لعظم شأنه، والشاهد لذلك قصة عيسى وغيرها والله أعلم. * * * سورة هود 83 - قال في قوله تعالى: {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ}: " قرأ أهل الكوفة {عَمِلَ غيرَ صَالِحٍ} بكسر الميم وفتح اللام، (غيرَ) بنصب الراء على الفعل، وقرأ الباقون بفتح الميم وضم اللام وتنوينه. (غيرُ) بالرفع على سؤالك عمل غير صالح. {فلا تسألن} قرأ ابن كثير بتشديد النون، وقرأ أهل المدينة والشام بتشديد النون وكسرها ". قلت: {عَمِلَ غَيْرَ صَالِحٍ} قراءة الكسائي ويعقوب، وقرأ ابن كثير {فلا تسألنَّ} بتشديد النون وفتحه وفتح اللام، وقرأ الباقون بسكون اللام وتخفيف النون وكسرها، وأثبت الياء أبو عمرو وورش عن نافع، والباقون بالحذف.

{فما لبث أن جاء بعجل حنيذ}

84 - قال في قوله: {فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ}: " محل (أن) نصب بإسقاط الخافض أي بأن {جَاءَ بِعِجْلٍ}. قلت: نصب بإسقاط الخافض أي (فما لبث في أن جاء بعجل)؛ لأنه يقال: لبث بمكان كذا، وهم يريدون أنه أقام به ولا يصح ههنا أن يكون ما أقام في الإتيان بالعجل، بل المراد أنه ما أقام في ترك الإتيان به، بل أتى به بالعجلة

{وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود}

والسرعة، يعني ما توقف في الإتيان به، فيكون (في) أصلح من (الباء) على أن اللبث لا يستعمل إلا مع (في)، قال الله: {كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ} وقال: {فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ} وقال: {وَلَبِثُوا فِى كَهْفِهِم} {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ}. 85 - قال في قوله تعالى: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ}: " من قولهم: ْسَجَلْتُ له سَجْلاً " إذا أعطيته، كأنهم أعطوا ذلك البلاء، واستشهد بقول

{وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه}

الفضل: مَنْ يُسَاجلْنِي يُسَاجلْ مَاجداً ... يَمْلأُ الدَّلْوَ إلى عَقْدِ الكُرَبِ قلت: ليس معنى المساجلة في البيت الإعطاء، أو التعاطي؛ بل معناه المفاخرة، وأصله المفاعلة من السَّجْل وهو الدلو المملوء ثم استعمل في المفاخرة بنزع الدلو ثم في المفاخرة مطلقاً، وقوله: " سَجَلْتُ له إذا أعطيته " لا يُستعمل في الشر وإنما يستعمل في الخير إن ثبت والله أعلم. 86 - قال في قوله تعالى: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ}: " أي

{بئس الرفد المرفود}

ما أريد أن أنهاكم عن أمر ثم أركبه ". قلت: إذا ركبه لا يكون مخالفاً لهم، وإنما يكون مخالفاً لأمر الله، وموافقاً لهم، والمخالفة لا تعدي بـ (إلى) إلا على الحذف والإضمار، فالأشبه أن يكون معناه: وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه يعني ما أريد أن أنهاكم عن معصية الله فتنتهوا عنها، ثم أرتكبها فأكون مخالفاً لكم وما أريد أن أميل إلى النهي عنه والله أعلم. 87 - قال في قوله تعالى: {بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ}: أي العون المعان، وذلك أنهم ترادفت عليه اللعنتان لعنة في الدنيا ولعنة في الآخرة ".

{فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق (106) خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض}

قلت: يشبه أن يكون هذا سهواً؛ لأن هذا الكلام كلام من يظن أن الرفد من الترادف، وليس كذلك؛ لأن الترادف تفاعل من الردف، لا من الرفد، وإنما الرفد العون والعطاء، فقوله: {بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ} أي بئس العطاء المعطى، أو العون المعان اللعنة من سب رجلاً ثم قال: بئس المدح. 88 - قال في قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ}: " قال ابن عباس: {مَا دَامَتِ

السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} من ابتداء كونهما إلى وقت فنائهما ". قلت: هذا يشعر بفناء أهل النار وبفناء عذابهم. 89 - قال فيه وجهاً آخر {إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ} وهو أن يأمر النار أن تأكلهم وتفنيهم ". قلت: هذا أيضاً يشعر بفناء أهل النار، وفناء عذابهم. 90 - قال: " ليأتين على جهنم زمان تخفق أبوابها ليس فيها أحد، وذلك بعد أن يلبثوا فيها أحقاباً ". قلت: هذا أيضاً يشعر بفناء أهل النار، وفناء عذابهم. 91 - قال: " عن الشعبي: " جهنم أسرع الدارين عمراناً وأسرعهما خراباً ".

قلت: هذا أيضاً يشعر بفناء أهل النار، ففناء عذابهم. 92 - قال: " أخبرنا بالذي يشاء لأهل الجنة فقال: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} أي غيرمقطوع، ولم يخبرنا بالذي يشاء لأهل النار فلم يقل عقيب الاستثناء (عذاب غير مقطوع) بل اقتصر على الاستثناء ". قلت: هذا أيضاً يشعر بفناء أهل النار، وفناء عذابهم. قال: " هو جزاؤه إلا أن يشاء ربُّك أن يتجاوز عنهم فلا يدخلهم النار، وفي وصف نار جنهم إلا ما شاء ربك فلا يُخلدهم الجنة ". قلت: كل ذلك محال، أما الأشقياء فمحال أن يتجاوز عنهم فلا يدخلهم النار؛ لأن الله لا يغفر أن يشرك به، وأما السعداء فمحال أن لا يُخلدهم في الجنة بعد الدخول، وقد قال: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} والاستثناء إخراج الشيء مما دخل فيه غيره،

ويستحيل أن نخرج المحال، لأن المحال خارج بإحالة، وإخراج الخارج محال. 94 - قال: " {إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ} من الفريقين من تعميرهم في الدنيا قبل مصيرهم إلى الجنة والنار ". قلت: هذا أيضاً لا وجه له " لأن الاستثناء إخراج الشيء مما دخل فيه غيره، وتعميرهم في الدنيا بعد مصيرهم إلى الجنة والنار قد مضى وانعدم، والمعدوم خارج، وإخراج الخارج محال؛ لأن الاستثناء إنما وقع بعد الخلود، والخلود إنما يكون بعد الدخول وحينئذ يستحيل استثناء كونهم في الدنيا. 95 - قال: " {إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ} من احتباس الفريقين في البرزخ ما بين الموت والبعث ". قلت: جوابه ما ذكرنا أن ذلك يكون معدوماً بعد الدخول واستثناء المعدوم محال والله أعلم. 96 - قال: " (إلا) هنا بمعنى (سِوَى) كما يقال: ما معنا رجل إلا زيد والمعنى: سوى ما شاء ربك من الخلود ". قلت: لا يصح هذا النظير؛ لأن الاستثناء من النفي إثبات (ومن الإثبات

نفي، فقوله: ما معنا رجل إلا زيد استثناء) من النفي فيكون إثباتاً لزيد، فيكون صحيحاً أما ما ربنا استثناء من الإثبات، فيكون منفياً، فيكون نظيره: معنا القوم إلا زيداً، فيكون نفياً لزيد كذلك. ههنا ينبغي أن يكون نفياً للخلود، ولأنه لو كان بمعنى (سوى) يصير تقديره لهم فيها الخلود سوى الخلود، ولا يقال: لزيد هذا الغلام سوى هذا الغلام. 97 - قال: " استثنى الإخراج وهو لا يريد أن يخرجهم منها، كما تقول في الكلام: (أردت أن أفعل كذا إلا أن أشاء غيره)، وأنت مقيم على ذلك الفعل، فالمعنى: أنه لو شاء أن يخرجهم لأخرجهم، ولكن لا يشاء ". قلت: هذا أيضاً لا وجه له؛ لأنه استثنى من الخلود ما شاء من نفي الخلود، وأثبت مشيئته بلفظ الماضي، ولا كذلك في صور النظير؛ لأن مشيئة العباد يجوز أن توجد ويجوز أن لا توجد، خصوصاً إذا ذكرت بلفظ المستقبل، وعلى تقدير الوجود يكون مجازاً من حيث أنه غير مستقل بنفسه، قال الله تعالى: (وَمَا تَشَاَءُونَ إِلا أن يَشَاءَ اللهُ)؛ ولأن الخُلفَ في كلام العباد جائز، ولا كذلك في كلام الله إذ لا يجوز الخلف فيه، وإنه تعالى أثبت المشيئة مشيئة الإخراج

بلفظ الاستثناء من الخلود فيكون الإخراج مراد، ومشيئته أزلية قديمة، فيكون الإخراج ثابتاً لا محالة فينتفي الخلود لا محالة. 98 - قال: " {إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ} من مقدار موقفهم على رؤوس قبورهم وللمحاسبة ". قلت: قد ذكرنا أن الاستثناء إخراج الشيء مما دخل فيه غيره، وإنه استثناء من الخلود والخلود يكون بعد الدخول، وموقفهم على رؤوس قبورهم بعد الدخول مضى وانعدم، ولا يصح استثناء المعدوم؛ لأن المعدوم خارج من الوجود، وإخراج الخارج محال والله أعلم. 99 - قال: " وقع الاستثناء على الزيادة، في النعيم والعذاب، أي: إلا ما شاء ربك من زيادة النعيم أو العذاب ". قلت: هذا أيضاً لا وجه له؛ لأنه يكون استثناء الأكثر من الأقل، واستثناء الأكثر من الأقل والكل من الكل باطل. 100 - قال: " معناه: وقد شاء ربك خلود هؤلاء وهؤلاء، و (إلا) بمعنى الواو سائغ في اللغة قال الله تعالى: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا}

أي ولا الذين ظلموا. قلت: (إلا) بمعنى الواو غير مسموع ولا مذكور في قواعد اللغة، وقوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا} بمعنى: ولا الذين ظلموا قول واحد من المفسرين وعلى تقدير الصحة، لا يصلح نظيراً؛ لأنه لو جُعل إلا لمعنى: ولا ههنا لكان تقديره: (خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض ولا ما شاء ربك) وهو محال، قوله: {إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا} بمعنى: ولا الذين ظلموا. هو رواية عن أبي عبيدة وحده. 101 - قال: " معناه كما شاء ربك، كقوله: {إِلا مَا قَد سَلَف}، أي: كما قد سلف ".

قلت: ذاك قول أبي زكريا العنبري وحده، أن: {إِلا مَا قَد سَلَف}، بمعنى: كما قد سلف لا قول الكل، والحاصل أن القول بزوال النعيم والعذاب قول، الجهمية، والقول بزوال العذاب قول الجاحظ والجهمية وجماعة من المتكلمين، واحتجوا بقوله: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} وبقوله: {قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ}؛ ولأن

الخُلْف في الوعيد جائز؛ بل هو لازم؛ ولأن العذاب المؤبد المخلد لكفر أيام معدودات لا يليق بالحكيم الكريم الرحيم، والعقوبة على ذنب لم يوجد غير جائز؛ بل العدل يقتضي أن يكون العذاب المؤبد في مقابلة وجود الكفر المؤبد حقيقة قال الله تعالى: {هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}، وقال: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} وقال: {مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا} والمماثلة منتفية، والله أعلم بالصواب. والمفسرون لم يزيدوا على هذه الأقوال، وهي كلها ضعيفة، والأشبه أن يكون هذا استثناء غير واقع؛ بل عادة العرب أن يستثنوا في الكلام تأدباً ولم

سورة يوسف

يقصدوا به حقيقة الإخراج. والله أعلم. * * * سورة يوسف 102 - قال في قوله تعالى: {ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ}: " هذه اللام في اليمين، وفي كل ما يُضارع القول كقوله: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ} وقوله: {وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ} دخلت (اللام) و (ما) لأنهما في

{ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون}

معنى القول واليمين ". قلت: أما قوله: {وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ} معناه: أيقنوا أنه ليس لهم مفر وملجأ، هو ما النفي لا تَعَلُقَ له بقوله: {لَيَسْجُنُنَّهُ} وقوله: " دخلت (اللام) و (ما) لأنهما في معنى القول واليمين ". قلت: دخول (ما) في قوله: {وَظَنُّوا مَا لَهُمْ} ليس لمعنى القول، ولا لمعنى اليمين؛ لأن الظن ليس بمعنى القول ولا اليمين، و (ما) لا تختص بالقول؛ بل تدخل (ما) في غير موضع القول واليمين، ولا يشبه النظيرُ النظيرَ. 103 - قال في قوله تعالى: {ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ}: " هذا خبر من يوسف عما لم يكن في رؤيا الملك ولكنه من علم الغيب ".

{ارجع إلى ربك فاسأله}

قلت: بل كان في رؤيا الملك؛ لأن رؤيا الملك: {سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ} وهي السنون المُخْصبة التي تكون أولاً، {يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ} وهي السنون الُمجْدِبة التي تأتي بعدها. فقوله: {سَبْعٌ عِجَافٌ} يدل على أن السنين المجدبة لا تزيد على السبع؛ إذ لو زادت وما كان يعرف مدتها لقال: (يأكلهن بقر عجاف) ولم يذكر العدد، فلما ذكر العدد عُلِمَ أن السنين المجدبة لا تزيد عن السبع، وتنتهي بانتهاء سبع سنين، وإذا انتهى القَحْط لا بد أن يكون بعده الخَصْب ضرورة وهو العام الذي فيه يغاث الناس وفيه يعصرون، وليس المراد من قوله: {عَام فِيهِ يُغَاثُ الناسُ} عاماً واحداً لا غيره لأنه نكرة موصوفة بل المراد زمان الخصب. 104 - قال في قوله: {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ}: " لو خَرَجَ يوسف من قبل أن يعلم الملك شأنه ما زالت في نفس العزيز منه حاجة يقول هو الذي راود امرأتي ".

{آوى إليه أخاه قال إني أنا أخوك}

قلت: لم يكن في نفسه شيء لو خرج لوجهين: أحدهما: أنه تيقن براءته بشهادة شاهد من أهلها. الثاني: أن الرائي الداعي ليوسف هو الملك كما ذكر في أول القصة، وزوج المرأة هو قطفير خازنه والله أعلم. 105 - قال في قوله: {آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ}: " سُئل فلان: كيف أخفاه حين أخذ الصواع وقد كان أخبره أنه أخوه؟ فقال: إنه لم يعترف له بالنسبة، ولكنه قال له إني أنا أخوك مكان أخيك وبدله، ولم يقل: أنا يوسف ".

{ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا}

قلت: لا حاجة إلى هذا التكلف، بل يجوز أن يكون أظهر له الأمر دون سائر الإخوة فيكون أخوه عارفاً دونهم، بدليل قوله في أول القصة: " فبكى يوسف وقام إليه وعانقه، و {قَال} له: {إِنَي أنَا أخُوكَ}، ومثل هذا لا يجري بين الأجنبيين، فحينئذ يكون وقت إخفاء الصواع هما عالمين بالحال دون باقي الإخوة ولا تناقض. 106 - قال في قوله تعالى: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا}: " لم يُرِدْ بالسجود وضع الجباه على الأرض؛ لأن ذلك لا يجوز إلا لله، وإنما هو الانحناء ". قلت: السجود في اللغة إنما هو وضع الجبهة على الأرض، والانحناء لا

يكون سجوداً أو لعله كان ذلك جائز في الشريعة الأولى بطريق التحية لا بطريق العبادة كما ورد في قصة آدم ثم نسخ. 107 - قال فيها {وَخَرُّوا}: " أي مَرُّوا ولم يرد به السقوط على الأرض نظيره قوله: {لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا} أي لم يمروا ".

قلت: الخرور إذا كان مقروناً بذكر السجود لا يكون إلا وضع الجبهة على الأرض بخلاف قوله: {لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا} لأنه غير مقرون بذكر السجود. 108 - قال فيها: " خروا لله سجداً " والهاء في (له) كناية عن الله ". قلت: هذا لا وجه له لوجوه: أحدها: أنه يكون كناية عن غير مذكور وهو خلاف الأصل. الثاني: أن يوسف قال في الأول: {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} ولم يقل: (رأيتهم لله ساجدين). الثالث: أنه قال في الآخر: {وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ} وإنما يكون تأويله أن لو كان السجود له لا لغيره.

{توفني مسلما}

109 - قال في قوله: {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا}: " أن يوسف تمنى الموت ". قلت: لا يلزم أن يكون هذا بطريق التمني للموت، بل يجوز أن يكون معناه: إذا توفيتني توفني مسلماً، سأل الله أن يكون موته على الإسلام يوم يتوفاه، كما قال: {فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} والدليل على أنه لم يكن متمنياً للموت أن هذا الكلام متصل بقوله: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ} وكان ذلك عند اجتماعه بيعقوب وعاش بعد قوله: {تَوَفَّنِي} نيفاً وثلاثين سنة؛ لأنه مات بعد أبيه يعقوب بخمسين سنة، ويعقوب عاش بمصر نيفاً وعشرين سنة فلا يجوز أن يتمنى الموت في ذلك الوقت لوجهين: أحدهما: أن دعاءه يكون حينئذ غير مستجاب إلى ثلاثين سنة وذلك لا يلائم أدعية الأنبياء.

الثاني: أن يوسف ويعقوب كان كل واحد منهما يَحِنُّ إلى صاحبه أربعين سنة في أشد حزن وأصعبه، فلما اجتمعا يتمنى الموت، ويتمنى أن يعود حزن يعقوب أشد مما كان! هذا بعيد. مع أن الأنبياء كان بقاؤهم خيراً لهم خاصة، وللناس عامة، ولهذا لم يتمنّ نبي الموت؛ بل كانوا يحبون الحياة لازدياد الخيرات، والإكثار من الطاعات، كما نقل في قصة موسى وإبراهيم عليهم الصلاة والسلام. وقوله: {تَوَفَّنِي مُسلَمًا} كما جاء في الدعاء المأثور: (توفنا مسلمين وألحقنا بالصالحين). ولا يجوز أن يكون ذلك تمنياً للموت؛ لأنه منهي عنه لقوله:

{أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ولدار الآخرة خير للذين اتقوا}

(لا يتمنين أحدكم الموت) كذا ههنا. 110 - قال في قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا}: " أَخبر بأَمْرَ الأُمم المكذبة (¬1) من قبلهم فيعتبروا، {وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ} يقول: هذا فعلنا في الدنيا بأهل ولايتنا، وطاعتنا أن ننجيهم من العذاب إذا نزل، وما في الدار الآخرة لهم خير، فترك ما ذكرنا اكتفاء لدلالة الكلام عليه، وأضيفت الدار إلى الآخرة لاختلاف لفظيهما ". ¬

_ (¬1) في الأصل " أَخَّر أَمْرَ الأُمم المكذوبة " والتصويب من الكشف والبيان.

سورة الرعد

قلت: قوله: " هذا فعلنا في الدنيا بأهل ولايتنا ". لا وجه له، لأنه لم يَجْرِ ذكرُ شيء يكون هذا إشارة إليه من الإنجاء، وإنما المذكور عاقبة أمر المكذبين وهو الإهلاك لا الإنجاء، ثم قال: " ما في الدار الآخرة لهم خير " كنى بقوله (لهم) عن أهل ولايتنا وطاعتنا وهم غير مذكورين في القرآن، وترك ذكر المذكورين في القرآن وهو قوله: {للذِين اتقَوا} وأضمر (ما) ولا حاجة إليه، لأنه لو قيل: (الآخرة خير للمتقين) كان كلاماً تاماً من غير إضمار نحو قوله: {وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ} وقوله: {وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى}، وقوله: {وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى} ونحوه كثير. فنظم التفسير أن يقال: تم الكلام عند قوله: {مِن قَبلِهِم}. ثم ابتدأ فقال: {وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ}. * * * سورة الرعد 111 - قال في قوله تعالى: {وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ}: " عاقبة الدار الآخرة ".

قلت: العقبى قد تكون بمعنى العاقبة، وقد تكون بمعنى الظفر، والغنيمة، بدليل قوله تعالى: {وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ} يعني فكان الظفر والغنيمة لكم من العقبى، وهي الظفر والغنيمة: {فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ}، يعني من الغنيمة. والأشبه أن العقبى في قوله: {وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ} بمعنى الظفر والغنيمة؛ لأنه لو كان بمعنى العاقبة، فالعاقبة تنطلق على الجنة والنار، ولكل واحد من الكافر والمؤمن عاقبة لا شك وهو معلوم في الدنيا لهم، ويحتمل أن يكون الكل مراد؛ لأن الله تعالى صرّح في آية أخرى بلفظ (العاقبة) بقوله: {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ}، وقال: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}

{وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى}، وإنْ كان حقيقة العاقبة والآخرة تطلق على الجنة والنار جميعاً من حيث اللغة، ولكنه إذا أُطلق صار المراد الجنة بقرائن إطلاقات القرآن، ويحتمل أن يكون المراد العاقبة المحمودة للمتقين. ويحتمل أنه إنما عُرف ذلك واستُفيد من حرف اللام في قوله: {لِمَن عُقبَى اَلدارِ} وقوله: {مَن تكُونُ لَهُ عاقبَةُ اَلدَّارِ} وغيرها من الآيات؛ لأن اللام لعود المنفعة وعلى المضرة، كما يقال: له وعليّ، قال - صلى الله عليه وسلم: (كلام ابن آدم كله عليه لا له) أي

يضره ولا ينفعه. فتكون العاقبة النافعة هي الجنة، والضارة هي النار. 112 - قال: " عن عكرمة أرسل إليّ عمر بن عبد العزيز أني نذرت أن أقطع يد غلام أو أحبسه حيناً فما عندك فيه؟ فقلت له: لا تقطع يده، واحبسه سَنَةً ". قلت: بل لا يجوز القطع ولا الحبس سَنَةً بالنذر.

سورة إبراهيم

سورة إبراهيم 113 - قال في قوله تعالى: {أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ}: " أي من زوال عن الدنيا أي لا تبعثون ". قلت: الزوال بمعنى البعث ما جاء في اللغة، وأيضاً فإنهم ما كانوا يزعمون أنهم لا يزولون عن الدنيا؛ لأن الزوال عن الدنيا إنما يكون بالموت، وهم كانوا يُقرون بالموت متفقين عليه، متيقنين منه من غير شك فيه، فلا يكن تفسيره على هذا الوجه، لأنه يكون معناه: ألم تحلفوا في الدنيا أنكم لا تموتون؟ وما كانوا يحلفون هكذا، وما كانوا ينكرون الموت، وإنما كانوا ينكرون البعث والنشور. فتحقيقه أن يقال: أو لم تكونوا أقسمتم منِ قبل أنكم لا تزولون عن قبوركم إلى المحشر بالبعث. ويحتمل أن يتم الكلام عند قوله: {مِنْ قَبْلُ} ثم ابتدأ وقال: {مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ} أي لا تزولون عن الآخرة إلى الدنيا كما تسألون، ويكون المحلوف عليه مضمر، أو يكون إشارة إلى قوله: {وَأقْسَمُوا

{وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال}

بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ}. 114 - قال في قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ}: " عن الحسن: " في القرآن خمسٌ (إن) بمعنى (ما) قوله: {وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ}، وقوله: {لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ}، وقوله: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ}، وقوله: {فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ}، وقوله: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ}.

سورة الحجر

قلت: (إن) بمعنى (ما) في القرآن أكثر من هذا بدليل قوله تعالى: {وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا} وقوله: {إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ}، وقوله: {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ}، وقوله: {وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} وغيرها. وأما قوله: {لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ} وقوله: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ} وقوله: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ} ليس شيء من ذلك بمعنى (ما) وإن كان ورد فيه قول ضعيف بعيد. * * * سورة الحجر 115 - قال في قوله تعالى في الحجر: {وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ}: " يعني: وفرغنا إلى لوط من ذلك الأمر ".

قلت: بل معناه ههنا: أخبرناه بذلك مثل قوله: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} أي أخبرناهم [ ....... ] (¬1) بمعنى: الفراغ، وقوله: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ}، {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ}، {فَلَما قَضَى} والقضاء في القرآن على عشرة أوجه بمعنى: الإيصاء، والإخبار، والفراغ، والفعل، والنزول، والوجوب، والكتابة، والإتمام، والفصل، والخلق. وكيف يكون ههنا بمعنى فرغنا وهو كان قبل الفراغ من هلاكهم؟ لأنه قال: {وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ} بمعنى أخبرناه بذلك. ¬

_ (¬1) كلمة غير واضحة بالمخطوط.

{قالوا أولم ننهك عن العالمين}

116 - قال في قوله تعالى: {قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ}: " أي: أو لم ننهك أن تُضيف أحداً من العالمين ". قلت: لو فسرناه على هذا الوجه يلزم منه التناقض؛ لأنه قال أولاً: {وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ} فكيف ينهونه عن شيء يستبشرون به، والأشبه أن يكون المراد من {الْعَالَمِينَ} أنفسهم، يعني: أو لم ننهك عنا وأن تحكم علينا وتمنعناه. 117 - قال في قوله تعالى: {وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ}: " بطرق واضح ". قلت: الأشبه أن يكون بطريق مستقيم يسلكه الناس، يقال: أقام واستقام إذا ثبت.

سورة النحل

سورة النحل 118 - قال في قوله تعالى: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ}: " محلِّ (ما) رفع بالابتداء ". قلت: هو رفع بخبر حذف الصفة، كقولك: لزيد درهم، أو محله نصب لوقوع {يَجْعَلُونَ} عليه وهو الأظهر.

{من بطون أمهاتكم}

119 - قال في قوله تعالى: {مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ}: " الأصل في الأمهات أُمَّات فزِيدت الهاء فيه للتأكيد كما زادوها في (اَهْرَقْتُ الماء) ". قلت: أي تأكيد يحصل من الهاء؛ بل إنما دخلت الهاء في الجمع لأن أماً كان لب الأصل أُمَّهَة فحُذِفتْ تخفيفاً ثم عاد في الجمع كما قلنا في شفاه ومياه وأفواه. 120 - قال في قوله تعالى: {وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}: قال: " {لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} كلام تام ثم ابتدأ وقال: {وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ}؛ لأن الله جعل لعباده السمع والأبصار والأفئدة قبل إخراجهم ".

قلت: لا شك بأن الله تعالى عدَّد هذه النعم في هذه الآيات للامتنان، وأن له على عباده المنة بإعطاء هذه النعم، فلو قدّرنا قوله: {لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} كلاماً تاماً لم يكن فيه ذكر نعمةٍ، ولو جعلناه متصلاً بقوله: {وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ} كان فيه ذكر النعم فكان أولى بالامتنان، والواو كما يكون للترتيب يكون للجمع المطلق. ولو قلنا بأن: {وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ} مرتب على الإخراج من بطون الأمهات لا يَبْعُد؛ لأن حقيقة السمع ما يسمع به، والبصر ما يبصر به حقيقة، والفؤاد ما يُعلم به، وهذه المعاني لم تكن موجودة قبل الإخراج، فكأنه جعل لهم السمع والأبصار والأفئدة بعد الإخراج. وفي الآية إشارة إلى ما قلت؛ لأنه قال {لَا تَعلَمُون شَيئًا} ثم ذكر إعطاء الأفئدة التي هي آلة للعلم بعد ذلك، فكأنه قال: (أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تسمعون ولا تبصرون ولا تعلمون فجعل لكم سمعاً تسمعون به وأبصاراً تبصرون بها وأفئدة تعلمون)؛ لأنه لما جاز أن لا يعلم شيئاً مع وجود الفؤاد قبل الإخراج جاز أن لا يَسمَع ولا يبصر مع وجود آلة السمع والبصر، ولهذا إذا أتلف واحدٌ بصرَ الطفل يجب عليه في الشرع حُكُومة العَدْل، وكذا سائر حواسه

{تتخذون أيمانكم دخلا بينكم أن تكون أمة هي أربى من أمة}:

بخلاف الكبير؛ لأنه يحتمل أنه لا يبصر به، وإنما يعرف ذلك في حالة الكبر، والدليل على ما قلنا أن من قوله {وَاَللَّهُ أخْرَجَكُم} إلى قوله: {تَشْكُرُونَ} في آية واحدة، والأصل أن تكون الآية الواحدة بطريق الاتصال لا التفرق والله أعلم. 121 - قال في قوله: {تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ}: " أي لئلا تكون أمة أكثر أمن أمة. قلت: لا يستقيم هذا المعنى؛ لأنهما كانوا ينقضون الأَيمان لئلا تكون أمة أكثر من أمة ونقض اليمين لا يكون سبباً لكثرة أمة؛ بل كثرة أمة دون أمة سبب النقص، فالمعنى أن تكون أمة، أي لأن تكون أمة أكثر من أمة.

{إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان}

122 - قال في قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ}: " أجمع الفقهاء على أن المُكْرَه على الكفر، وعلى شتم الرسول، والأصحاب، وترك الصلاة، وقذف المحصنة، وما أشبهها من ترك الطاعات وارتكاب المنهيات بوعيد مُتْلِف، أو ضرب شديد، له أن يفعل ما يُكْرَه عليه، وإن أبى ذلك حتى يعطب فهو الأفضل ". قلت: ما أجمع الفقهاء على هذا، فإن عند أبي حنيفة وأصحابه إذا أكره على أكل الميتة، وشرب الخمر لم تحل له، إلا أن يكره بما يخاف منه على نفسه، أو على عضو منه، فإذا خاف ذلك وسعه أن يقدم عليه، ولا يسعه أن يصبر على ما أوعده به، فإن صبر حتى أوقعوا به ولم يأكل فهو آثم.

123 - قال في قوله تعالى: {ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ}: " وذلك حين تنازعوا في مدة لبثهم في الكهف فبعثناهم لنعلم أيهم أصوب وأحفظ لما لبثوا ". قلت: يلزم من هذا أن يكون تنازعهم في لبثهم قبل البعث من النوم هو محال.

سورة الإسراء

124 - وقال في أول القصة: " سدوا باب الكهف ". وقال بعد " ينالهم برد الريح ونسيمها وهم في متسع لا تدخل الشمس عليهم " وهو تناقض. والله أعلم. * * * سورة الإسراء 125 - قال في قوله تعالى: {قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا}: قال: " بعث الله إبليس، فأخذ من أديم الأرض فخلق منه آدم؟ لذلك قال: {قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا}.

{فتهجد به نافلة لك}

قلت: صح أن الله تعالى إنما بعث جبريل ليأخذ من أديم الأرض فأقسمت عليه فلم يفعل، ثم ميكائيل كذلك، ثم عزرائيل فأخذه. وإنما قال إبليس ذلك لأنه كان يراه والله أعلم. 126 - قال في قوله تعالى: {فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ}: " عن مجاهد: النافلة للنبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة لأنه غُفر له، والناسُ يصلون لذنوبهم سوى المكتوبة فليست للناس نوافل ". قلت: هذا خلاف الإجماع وخلاف الحديث الصحيح، وهو: أن رجلين وقفا على رواحلهما فأمر بهما النبي - صلى الله عليه وسلم - فجيء بهما ترعد فرائصهما، إلى قوله: (فصليا معه فإنها لكم نافلة). وقوله: (لا يزال يتقرب بالنوافل)

{عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا}

الحديث. 127 - قال في قوله تعالى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا}: " في الحديث: (يدْنيني فيقْعِدني معه على العرش) ثم قال بعد سواء أقعده - صلى الله عليه وسلم -

على الأرض أو على العرش، ثم قال: بل هو رفع لمحله وإظهار لشرفه وتفضيل له على غيره من خلقه ". قلت: هذا تناقض ظاهر.

سورة الكهف

128 - قال: قوله (معه) بمنزلة قوله: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ} وقوله: {ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا} وغيرها. قلت: لفظ (عند) إذا كان مقروناً بالمكان لا يفهم منه إلا المكان كقولك: زيد في الدار عند عمرو، بخلاف قوله: زيد مصيبٌ عند عمر، والفرق بينهما واضح. * * * سورة الكهف 129 - قال في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ}: " يعني بندوسيس وهو أمير المدينة ".

{وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنة الأولين}

قلت: بل ليعلم الناس كلهم. 130 - قال في قوله تعالى: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ}: " يعني سنتنا في هلاكهم، أو يأتيهم العذاب عياناً وقُبُلاً أصنافاً ". قلت: لو اقتصرنا على هذا الكلام يكون معناه: ما يمنعهم من الإيمان والاستغفار بعد مجيء القرآن إلا إتيان العذاب والهلاك، ولا عن أن يكون إتيان العذاب والهلاك مانعاً من الإيمان؛ لأن المانع من الأمر الوجودي لا بد أن يكون موجوداً، وإتيان العذاب لم يكن موجودا في حال كفرهم، إذ لو وُجد لهلكوا، وما كانوا بعد الهلاك مكلفين بالإيمان، ولأن المانع من الإيمان إما تقصيرهم في النظر، أو خذلان الله إياهم، وعلى تقدير مجيء العذاب والهلاك إن آمنوا فلا يكون مجيء العذاب مانعاً، وإن لم يؤمنوا لا يكون امتناعهم من الإيمان لإتيان العذاب والهلاك؛ بل لأمر من خارج وهو ما ذكرنا، وكيف يكون إتيان العذاب والهلاك مانعاً لهم من الإيمان، فإن الإيمان

سورة مريم

ربما يوجد بعد إتيان العذاب فينفع كقوم يونس، وربما لا ينفع إيمان اليأس كفرعون وغيره، فلا بد من التحقيق. فتحقيقه: أنه وعيد وتهديد لهم بالعذاب كأنه قال: إنهم لا يؤمنون إلى أن يأتيهم العذاب فحينئذ يؤمنون ولا ينفعهم إيمانهم نظيره {كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} كما تقول في الشاهد لعدوك: ما تريد إلا أن أقتلك، ولا شك أنه لا يريد ذلك، كأنه قال: إنما يمتنعون من الإيمان لأعذبهم. والله أعلم. * * * سورة مريم 131 - قال في قوله تعالى: {قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا}: " أي مؤمناً مطيعاً قال: لأن التقي ذو نُهية. وقيل: كان تقي رجلاً من أمثل الناس ".

{وإن منكم إلا واردها}

قلت: لو اقتصرنا على ما فسّر يلزم أن تكون مريم -يعني أشرف الناس- استعاذت بالله من الرجل المتقي الصالح وإنما يُستعاذ من الشر لا من الخير، فلا يجوز أن تستعيذ مريم من المتقي، وإنما يصلح أن تستعيذ من العاصي، كما أمرنا بالاستعاذة من الشيطان، ولا يجوز أن نقول: نعوذ بالله من الأخيار. فتحقيقه: أن في الآية إضماراً واختصاراً تقديره: إني أعوذ بالرحمن منك. ثم قالت: إن كنت تقياً أي فلا تقربني أو نحو ذلك. 132 - قال في قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا}: " الدليل على أن الكل يدخلون ثم ينجو المؤمنون قوله - صلى الله عليه وسلم -: (إني لأرجو أن لا يدخل النار إن شاء الله أحد شهد بدراً والحديبية) ".

قلت: هذا ليس بدليل على أن الكل يدخلون بل هو دليل على أن الكل لا يدخلون وإنما يدخل البعض، وقال تمام الحديث: " أليس قد قال: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} قال: ألم تسمعيه يقول: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا} ". قلت: والنجاة أيضاً دليل الدخول. والله أعلم.

سورة طه

133 - قال: " هل أتاك أنك وارد النار؟ قال: نعم. قال: فهل أتاك أنك خارج منها؟ قال: لا. قال: ففيم الضحك؟ ". قلت: نعم أتانا الخروج بقوله: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا} أي آمنوا. * * * سورة طه 134 - قال في قوله تعالى: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا}: " أي أكاد أخفيها من نفسي فكيف أظهرها لكم؟ (ثم سأل): كيف يُخفي مِنْ نفسه وهو خَلَقَ الإخفاء؟ (وأجاب): أن الله تعالى كلَّم العرب بكلامهم الذي يعرفونه، ألا ترى أن الرجل يعذل أخاه فيقول له: أذعت سري. فيقول مجيباً له: والله لقد كتمت سرك من نفسي فكيف أذعته؟! ".

قلت: العرب لا يعرفون هذا الكلام، ولا يقولونه، ولا العجم، ولو قال أحدٌ هذا الكلام يكون كاذباً حالفاً باليمين الفاجرة وحاشا كلام الله عن مثل ذلك. ولكن الجواب: أن {أكاد} إذا كان مقروناً بالنفي يكون إثباتاً، وإذا كان مقروناً بالإثبات يكون نفياً قال الله تعالى: {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} ولا شك أنهم فعلوه، وقال تعالى: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ} وما انفطرت من قولهم {اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} كذلك ههنا (كاد) في موضع الإثبات فيكون نفياً للإخفاء من نفسه وهو للمبالغة في الإخفاء، والأشبه أن يكون {أكاد} بمعنى أريد أي: أريد إخفاءها من الناس.

{واحلل عقدة من لساني}

136 - قال في قوله: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي}: " كان في لسانه رُتَّةٌ لوضع الجمرة عليه ". قلت: الرتة لا تحصل من الجمرة، وذلك القَدْرُ من الاحتراق لا يُخِل بالكلام، وإنما طلب زيادة الفصاحة في تبليغ الرسالة. والله أعلم.

{فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى}

137 - قال في قوله تعالى: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى}: " سأل كيف؟ قال: {لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} وعلمه سابق في فرعون أنه لا يتذكر ولا يخشى. [ومجازه] لكي يتذكر متذكر ويخشى خاش إذا رأى لُطفي به ". قلت: المقصود [ ... ] (¬1) المأمور بتليين القول له فرعون فكيف يكون المراد غيره في التذكير؟ وهل يصح أن يفهم من قوله: أكرم زيداً لعله يكرمك. أكرم زيداً لعل عمر يكرمك؟!. 138 - قال أيضاً فيه: " تذكر فرعون وخشي حيث لم ينفعه التذكرة والخشية وذلك حين قال: {أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ}. ¬

_ (¬1) كلمة غير واضحة، ولعلها [بالفعل].

قلت: هذا أيضاً لا وجه له؛ لأن ذلك تذكر منه غير نافع ولا مقبول، وهل يجوز أن يقول لعله يتذكر وتذكره لا ينفعه ولا أقبله؟ ووجود ذلك التذكر وعدمه سواء. فيكون تقديره قولا له قولاً ليناً لعله لا يؤمن، وهذا لا يليق بكلام واحد من الناس فكيف يليق بكلام الله تعالى؟! ولكن الجواب أن (لعل) من كلمات الترجي وهو في حق الله تعالى واجب؛ لأن الترجي يكون بين الخوف والطمع وذلك لا يجوز على الله تعالى، وههنا لا يمكن حمله على الوجوب لأن فرعون لم يؤمن، ولا على الترجي لما ذكرنا، إلا أن المانع من الترجي ههنا إذا كان الترجي منسوباً إلى الله تعالى، أما إذا كان الترجي بالنسبة إلى غير الله فلا يكون هذا الترجي بالنسبة إلى موسى وهارون

{قال فما بال القرون الأولى}

فتكون (لعل) للترجي أو لترجية الغير. فكأن الله تعالى يأمرهما بالترجي فيقول: قولا له قولاً ليناً وكونا على رجاء من إسلامه، وطمع في إيمانه لئلا تفتروا في الدعوة. 139 - قال في قوله تعالى: " {قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى} إنما قال هذا فرعون لموسى حين قال موسى: {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ}

{منها خلقناكم وفيها نعيدكم}:

قَالَ {عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ} " قال: " رد موسى علم ذلك إلى الله لأنه لم يعلم ذلك ". قلت: قوله: {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ} ما قاله موسى وإنما قاله مؤمن آل فرعون، ولو لم يكن موسى عالماً بذلك فكيف كان يخوفهم بشيء لم يعلمه. فمن لم يكن عالماً أن زيداً أصابه خير أم شر، كيف يقول لعمر أحذرك ما نزل بزيد؟ ولكن يحتمل أنه سأله عن كيفية أحوالهم في القيامة فقال: لا علم لي بذلك إنما يعلمه الله والله أعلم. 140 - قال في قوله تعالى: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ}: " عن علي بن أبي طالب: أن المؤمن إذا قبض الملك روحه انتهى به إلى السماء وقال: يا رب عبدك فلان قبضناه فيقول: ارجعوا فإني وَعدته {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ}.

قلت: لعل هذا النقل غير صحيح عنه؛ لأن روح المؤمن إذا انتهى بها إلى السماء لا يقال له: ارجعوا لحديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ} قال: (إن الميت تحضره الملائكة فإذا كان الرجل صالحاً قالوا اخرجي أيتها النفس المطمئنة. حتى يعرج بها إلى السماء فيستفتح لها، فيقولون: من هذا؟ قالوا: فلان، فيقال مرحباً بالنفس الطيبة ادخلي حميدة، حتى يَنتهي إلى السماء السابعة ... ) الحديث. ولأن الروح غير مخلوقة من التراب فكيف يقول وَعَدْتهُ: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ} وإنما الجسد هو المخلوق من التراب، وذلك لا يُنتهَى به إلى السماء بل يكون مدفوناً في التراب؛ ولأن الروح لا ترَدُّ إلى القبر؛ لأنه لو رُد إلى القبر

{ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم}:

لكان الميت حياً في القبر وهو محال (¬1)؛ بل يُصْعَد به إلى السماء السابعة إن كان مؤمناً، أو تحت الأرضين إن كان كافراً. 141 - قال في قوله تعالى: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ}: " لا تَنْظُرْ إلى ما أعطيناهم أصنافاً من نعيم الدنيا ". قلت: إنما يكون هذا تفسيره لو قيل أزواجاً منهم أصنافاً من الكفرة، أو هو حال من الضمير، والفعل واقع على {مِنهُم} فيكون المُمَتَّعُ به أصنافاً أن لو ¬

_ (¬1) بنص حديث البراء السابق يدل على أن الروح تُرد إلى الجسد ثم يسأله الملكان. وبعد ذلك يكون المقبور في نعيم أو عذاب وهي واقعة على الروح والجسد معاً وهذا قول كثير من العلماء.

{فستعلمون من أصحاب الصراط السوي ومن اهتدى}

قال الله: {إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا}. ولم يقل هكذا، وإنما قال: {أَزْوَاجًا مِنْهُمْ} و (من) ههنا للتبعيض، فيكون تقديره: ولا تمدنَّ عينيك إلى ما أعطيناه بعضهم أصنافاً. فيكون أزواجاً بدلاً من ضمير الهاء في {أعطيناه} لأن محل (به) في قوله: {مَتَّعْنَا بِهِ} نصبٌ؛ لأن {مَتَّعْنَا بِهِ} بمعنى أعطيناه والله أعلم. 142 - قال في قوله: {فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى}: " من الضلالة أنحن أم أنتم؟ ". قلت: لو أجريناه هكذا على ظاهره ولم نَفْرُقْ بين (مَنْ) و (مَنْ) لا يستقيم؛ لأنه يكون تقديره: فستعلمون المحقين والمحقين؛ لأن أصحاب الصراط السوي أي المستقيم، والذين اهتدوا واحدٌ. ولا يقال: ستعلم مَنْ صديقك ومَنْ صديقك. وإنما يقال: ستعلم مَن صديقك ومَن عدوك. فلا بد من أن يجعل (مَن) الأولى استفهاماً، و (مَن) الثانية خبراً، فيكون المعنى فستعلمون من

سورة الأنبياء

أصحاب الصراط المستقيم؟ والذي اهتدى؟ فيكون تأكيداً لا تكراراً، كما يقال: ستعلم من صديقك والذي ينصحك، فيكون صحيحاً؛ لأن الثاني حينئذ يكون بياناً للأول، وتأكيداً لوصفه لا تكراراً. ولو أجريناه على ظاهره وسوينا بين (مَنْ) و (مَنْ) يكون تكرار غير مفيد، والله أعلم. * * * سورة الأنبياء 143 - قال في قوله تعالى: {وَمَن يَقُلْ مِنهُم}: " أي من الملائكة " {إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ} أي من دون الله {فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ} قال: عني بهذه الآية. إبليس حيث ادعى الشركة لأنه لم يقل أحد من الملائكة: (إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ).

{أفإن مت فهم الخالدون}

قلت: وإبليس أيضاً لم يقل: (إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ) بل كان مقراً بالعبودية بدليل قوله: {رَب فَأنظِرني} {خَلَقتَنِى} {رَب بِمَا أغْوَيتَني} وقوله: {إِلا عِبَادَك}. وإنما كان منه التكبر عن السجود لآدم، وليس يلزم أن يكون قولهم: (إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ) واقعاً بل هو تهديد لمن يقول ذلك، وتكذيب للذين عبدوهم والله أعلم. 144 - قال في قوله تعالى: {أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ}: " أي أفهم الخالدون، كقول الشاعر: فَقُلْتُ وَأَنْكَرْتُ الوُجوه هُمُ هُمُ ".

{لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم ولا هم ينصرون}

قلت: ليس هو من باب الإضمار، بل هو من باب التقديم والتأخير؛ لأن ألف الاستفهام موجود في الآية إلا أنه مقدَّمٌ في موضع لا يحتاج فيه إلى الاستفهام فيكون مؤخراً إلى موضع الحاجة، فيكون التقدير: فإن مت أفهم الخالدون؟ بخلاف البيت فإن ألف الاستفهام غير موجود رَفَوْنِي فقالوا: يا خُويلد لم ترع. قلت: والذي [ ... ] لأننا لو قلنا بأن ألف الاستفهام مضمر في قوله {فَهُم} يجتمع في الكلام استفهامان، فيكون تقديره: أفإن مت أفهم الخالدون. ولا يجوز ذلك؛ لأن في الاستفهام معنى الجحد، والجحد ينبغي أن يكون داخلاً في قولَه: {فَهُم} لأن خلودهم هو المنفي، ولا يجوز أن يكون داخلاً في قوله: {أَفَإِنْ مِتَّ} لأن موته ليس بمنفي، ويجوز أن يكون الألف داخلاً على المجموع وهو موته وخلودهم، فيكون المجموع منفياً فلا يحتاج إلى الإضمار والتأخير. والله أعلم. 145 - قال في قوله تعالى: {لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ}: " فيه اختصار يعني: لَمَّا أقاموا على كفرهم ".

{وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون}

قلت: لو اقتصرنا على هذا لا يكون الكلام تماماً؛ لأن حينئذ لا يكون مفعولُ (يَعلَم) مذكوراً ولا بد له من مفعول. وقوله: {لَا يَكُفُّونَ} لا يصلح مفعولاً له لأنه مظروف حينَ، فنقول تقديره: لو يعلم الذين كفروا عجزهم حين يكون كذا لآمنوا. 146 - قال في قوله: {وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ}: منسوخ بقوله: {وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ} ". قلت: لا يجوز أن يكون منسوخاً بها؛ لأن قوله: {وَاَقتَرَبَ} عطف على {حَتَّىَ إِذَا فُتِحَت يَأجُوجُ} فلا يُوجب العلمَ بالاقتراب الآن، أو جزاء {إذا فُتِحَت}، فلا يصلح ناسخاً بل هو منسوخ بقوله: {اَقتَرَبَ لِلنَّاسِ}.

سورة النور

سورة النور 147 - قال في قوله تعالى: {اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}: " النور المحسوس الذي هو ضد الظلمة لا يخلو من شعاع أو ارتفاع وسطوع ولموع، وهذه كلها منفية عن الله تعالى لأنها من أمارات الحدث. ولا يجوز أن يقال لله: يا نور، إلا أن يُضم إليه شيء آخر ". قلت: إيش تعني بقولك: " أنها من أمارات الحدث " تعني به أنه دليل الحدوث إن عنيت به هذا فليس كذلك؛ لأن دليل الحدوث هو التغيّر، والفناء، والزوال، وما يكون من صفات النقص لا ما ذكرت. وإن عنيت

به أن بعض الحادثات يُوصَف بهذه الصفات فهو باطل بالسمع، والبصر، والحياة، فإن بعض الحادثات يوصف بها، ثم الله تعالى يُوصَفُ بها وما لزم من ذلك الحدوث، والدليل على أن الله تعالى يجوز أن يوصف بالنور الكتاب والسنة: أما الكتاب: قوله تعالى: {وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} ولو كان المرادُ نوراً يخلقه الله تعالى فيضاف إليه، فالشمس والقمر أيضاً أنوار مخلوقة له، والأرض أيضاً في الدنيا مشرقة بنوره على هذا التفسير، فلا يكون لتخصيص يوم القيامة بهذا الوصف فائدة ومزيَّة على الدنيا، وكذلك قوله تعالى: {اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}؛ لأنه مضاف فيكون مقيداً، والمطلق داخل في المقيد، فيكون نور السماوات نوراً. أما الحديث: فقد جاء في الحديث: (أسألك بنور وجهك الكريم) وجاء: (يا نور)،

وفي الأسماء التسعة والتسعين: النور الهادي. والله أعلم.

سورة الفرقان

سورة الفرقان 148 - قال في قوله تعالى: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا}: " لأن البهائم تهتدي لمراعيها ومشارِبها، وتنقاد لأربابها التي تعلفها وتتعهدها ". قلت: ليس ترجيح البهائم عليهم من هذا الوجه؛ لأن الكفّار أيضاً كانوا يهتدون لمراعيهم ومشاربهم، وينقادون لمن يطعمهم من الناس. ولكن الترجيح من حيث أن البهائم والحيوانات تعرف خالقها ورازقها. فقد يُروى أن البقر لم ترفع رأسها إلى السماء منذ عُبِدَ العِجْلُ حياءً من الله، وجاء البعير إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يشكو

{ثم جعلنا الشمس عليه دليلا}

إليه صاحبها. وشهد الضب على رسالته، ونحو ذلك. 149 - قال في قوله {ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا}: " الظل يَتْبَعُ الشمسَ في طُولِه وقِصَرِه، كما يُتْبَعُ السائرُ الدليلَ، فإذا ارتفعت الشمسُ قَصُرَ الظّل، وإن انْحَطتْ طال ".

{ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا}

قلت: فهذا لا يكون اتباعاً؛ بل يكون مخالفة. وإنما كان متابعاً لها أن الشمس لو ارتفعت طال الظل، وإذا انحطت قصُر الظلُ. 150 - قال في قوله تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا}: " ولقَسَمْنَا الرُسل بينهم كما قَسَمْنَا المطر، فحينئذ نُخَفف عليك أعباءَ النبوةِ، ولكنا حَملْنَاكَ ثِقلَ نَذَارةِ جَميع القُرى لتستوجبْ بصبرك عليه ما أعتدنا لك من الكرامة ". قلت: والأشبه أن يكون المعنى: لو شئنا لجعلنا في كل قرية رسولاً فيُشَارِكونَك حينئذ في شَرَف الرِسالةِ، ولكنا رَفَعْنَا شَأنك فجعلنا رسالةَ الناسِ كافة ونبوةَ الخلق عامة إليك، لا يشارِكُكَ في هذا الشَرفِ أحدٌ في الدنيا في زمانك، ولا بعدك إلى يوم القيامة فاشكر لهذه النعمة ولا تطع الكافرين وجاهدهم به جهاداً كبيراً. 151 - قال في قوله: {وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا}: " ستراً ممنوعاً

يمنعُهُما فلا يَبْغِيَان ". قلت: إذا كان يمنعهما فيكون مانعاً لا ممنوعاً؛ إلا أن الحِجْر أصله المنع، ومنه قوله: {قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ} أي عَقْل لأن العقل مانعٌ، وقوله: {حِجْرًا مَحْجُورًا} أي حراماً محرماً؛ لأن الحرام ممنوعٌ، وحجر القميص لأنه يمنع ويستر، وحَجَرَ القاضي عليه. فكأنّ الحاجز بين البحرين حجراً محجوراً بمعنى الحاجز كقوله: {حِجَابًا مَسْتُورًا} أي ساتراً وهو ممنوع من أعين الناس وقدرتهم.

{قرة أعين}

152 - قال في قوله: {قُرَّةَ أَعْيُنٍ}: أصلها من البَرْدِ؛ لأن العَرَبَ تتأذى بالحر، وتَسْتَرْوِح إلى البرد ". قلت: كل الناس يتأذون من الحر والبرد جميعاً، ولكن أصله أن دمعة الحُزنِ حارَّة، ودمعة السرور باردة، ومنه المثل (أحرُّ مِنْ دَمْع المِقْلاةِ) وهي التي لا يَعيش لها ولدٌ. فقولهم (أقرَّ اللهُ عينَه) أي سَرَّهُ اللهُ حتى يَدمَعَ بارداً، أو ضده (أسخنَ اللهُ عينَهُ) من السخنة وهي الحرارةُ، وقيل: القُرةُ من القَرَارِ. 153 - قال في قوله: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ}: " أخبرَ اللهُ أنه لا حاجة له بهم إذ لم يَخْلُقْهُم مؤمنين ولو كان له بهم حاجَة لحبَّبَ إليهم الإيمان

سورة الشعراء

كما حبب إلى المومن ". قلت: ولا حاجة لله بأحد من خلقه سواء خلقهم مؤمنين أو كافرين والله غني عن العالمين. * * * سورة الشعراء 154 - قال في قوله تعالى: {وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ}: قال فلان: خرجتُ من بَلْخَ في طلب إبراهيم بن أدهم، فرأيته بحمص في أَتُّون يستجمر بها فكنت معه. فقال: لعل نفسك تنازعك إلى شيء من الطعام؟ فقلت: نعم. فأخذ تراباً ورماداً فخلطهما وأكلهما ".

قلت: لعل هذا لا يصح عنه من وجوه: أحدُها: أن إبراهيم إنما كان يُسَجِّر الأتُّون؛ ليستعين بأجرته على قوتٍ فإذا كان يأكل التراب فأي حاجة إلى إيقاد الأتُّون. فإن التراب موجود في جميع المواضع من غير إيقاد. والثاني: أن إبراهيم كيف لم يحصل له من أجرة الإيقاد ما يشتري قوتاً. الثالث: أن التراب أو الرماد لا يُشبع بل يمرض، فالصبر على الجوع كان أوْلَى من الصبر على الجوع والمرض بالاختيار. الرابع: أن أكل التراب والرماد إضرار بالنفس؛ لأنه يُوَلِّد الأمراض، وليس للعبد ذلك؛ لأنه يؤدي إلى إلقاء النفس للتهلكة، والنفس ملكٌ لله تعالى، والتصرف في ملك الغير بما لا يَحل ظلم. الخامس: يؤدي إلى العجز عن عبادة الله تعالى، وذلك غير جائز. والسادس: أنه خلاف أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة بل كانوا يَصبرُون. والسابع: أنه إظهار الجلادة، والقوة، والتصبر على الشدة بدليل أنهم قد نقلوه وكتبوه في الكتب فلو كتمها كان أجمل وأحسن. والثامن: أن فِعْلَه لا يناسبُ سؤاله؛ لأنه يسأل صاحبه عن حاجته إلى الطعام ثم أكل هو التراب وذلك لا يُشبعه فكيف يُشبع صاحبه؟ فهذا كله دليل على أن النقل غيرُ صحيح.

{ولو نزلناه على بعض الأعجمين (198) فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين}

155 - وكذا نَقَل " أن سفيان الثوري مكث بمكة دَهْراً يَسْتَفُّ من السبت كفاً من الرمل ". قلت: سفيان كان فقيهاً ذا مال، والفقه والمال يمنعان عن ذلك وحاشاهم أن يخالفوا سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو يفعلوا فعلاً مشتملاً على المضرة خالياً عن المنفعة مخالفاً للشريعة والله الموفق. 156 - قال في قوله تعالى: {وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ}: " أي لو نزلناه على رجل ليس بعربي اللسان فقرأه عليهم بغير لغة العرب ما كانوا به مؤمنين. وقالوا: ما نفقه قولك ". قلت: لو فسرنا على هذا الوجه يلزم منه أمران محذوران: أحدهما: أنه يلزم أن يكون معنى القرآن معتبراً، لا لَفْظه وصيغته، لأن قوله: " فقرأه " كناية عن القرآن حتى لو قرأ في الصلاة بالفارسية تجوز صلاته، ولا يجوز ذلك؛ لأن العربية صفة لازمة للقرآن؛ لأن القرآن عبارة عن مجموع هذه الصيغة والنظم والمعنى. قال الله تعالى: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ}.

سورة النمل

والثاني: أنه يلزم منه أن يكون كل من سمعه من العرب آمن به؛ لأنه جعل علة الكفر به كونه غير عربي، فيلزم أن تكون علة الإيمان كونه عربياً فيؤمن الكل ولم يؤمنوا، فيكون لقائل أن يقول: إذا سُمع قوله: {وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ}، ولو نزلْتَهُ على العربي فقرأه عليهم ما آمنوا أيضاً كما هو الواقع. فتحقيقه على وجه لا يلزم منه هذه الإشكالات: أن يكون الهاء في قوله: {وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ} كناية عن الكتاب المطلق لا عينَ هذا القرآن كأنه قال: لو نزلنا كتاباً فارسياً على رجل فارسي ما آمن به العرب. واحتجوا بأنَّا لا نَفْهَمُهُ، فكيف لم يؤمنوا وهو كتاب عربي على رجل عربي. وأما الثاني: قوله: {مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ} لم يُرِدْ به الكل، وإنما أراد به ما آمن هو لا الذين آمنوا. والله أعلم. * * * سورة النمل 157 - قال في قوله: {أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ}: " لم يَجزْ أن يُوصف كلامُه بأنه يَحُلُّ موضعاً، أو أنه جوهر،

ولا عرض، ولا حرف ولا صوت، بل هو صفة ينتفي عنه بها آفات الخرس والبكم ". قلت: هذا تناقض؛ لأن ما لا يكون حرفاً ولا صوتاً لا يَنْتَفِي به الخرسُ؛ لأن كلام النفس حاصل لكل أخرس، ولا ينتفي الخرسُ إلا بحقيقة الحرف والصوت، ولا حد للكلام إلا الحروف المنتظمة المفيدة للمعنى. 158 - قال أيضاً في القصة هذه: " كان تحت يد بلقيس اثنا عشر ألف قَيْلٍ، تحت يد كل قَيْل مائة ألف مقاتل ".

قلت: يشبه أن يكون هذا من مبالغات القُصَّاص؛ لأن مُلك بلقيس ما كان أكثر من اليمن، وهذه الخلائق بحوائجهم، ومعايشهم، ومزارعهم كيف كانوا يَسعَوُن في اليمن، ثم اليمن قريب من الشام وكان دارُ مملكةِ سليمان الشام، قال الله تعالى: {تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ} يعني الشام، ومثل سليمان في ملكه يسخر الرياح والشياطين كيف كان غير عالم بمُلك إلى هذا الحد في جواره، وهو كان مَلِكَ الدنيا كلها، وقد كانت الرياح والشياطين تخبره أخبار المشارق والمغارب من الأمور الخفية في الأماكن البعدية. 159 - قال في هذه القصة: " قالت بلقيسُ لسليمان: أخْبرني عن لون الربِّ فوثب سليمان عن سريره وَخَرَّ ساجداً وَصُعِقَ، فقامت عنه وتفرقت جنوده وذكر القصة ".

قلت: فكيف؟ وقد ذكر في سبب نزول: {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} عن أبي صالح عن ابن عباس: أن عامر بن الطفيل وأريد بن ربيعة أتيا النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال عامر: إلى ما تدعون يا محمد؟ فقال: إلى الله. فقال: صفه لنا أمِنْ ذهب هو أمْ مِنْ فضة أم من حديد أم من خشب؟ فنزلت هذه السورة. ولا شك أن

سورة القصص

سؤالهما أفظعُ من سؤال بلقيس. ونبينا - صلى الله عليه وسلم - أعظمُ شأناً من سليمان، ولم يكن منه الوثوب، والخرور، والصعق، وأمثال ذلك، وهو - صلى الله عليه وسلم - أكثر الناس تعظيماً لله تعالى وأعلم الناس بالله، وأخشاهم له. وقصة أربد صحيحة فلعل حديث بلقيس من مبالغات القصاص مما لا أصل له. * * * سورة القصص 160 - قال في قوله تعالى: {وَدَخَلَ المدِينَةَ}: " اختلف العلماء في السبب الذي من أجله دخل موسى هذه المدينة في هذا الوقت ". قلت: ولم يَذكر السببَ؛ لأنه قال: " كان موسى حين كبر يركب مراكب فرعون، فركب فرعون يوماً وليس عنده موسى، فلما جاء قيل له: ركب فرعون. فركب في أثره. قلت: وهذا لا وجه له، لما رَوى ابن إسحاق: " أن موسى لما كبر اشتد رأيه وعرف ما هو عليه من الحق، فخالف فرعون وقومه وعاداهم حتى أخافوه ". يدل على صحته أن الله تعالى يقول: {هَذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَذَا مِن عَدُوِّهِ}

فكيف كان يمشي خلفه، ويركب في أثره، وهو حين دخل المدينة على حين غفلة كان كبيراً عارفاً بالحق والباطل بدليل قوله: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي} الآية. 161 - وقال قولاً آخر: " أن موسى عَلا فرعونَ بالعصا في صغره. قال فرعون: هذا عدو فأراد قتله. فقالت امرأته: {قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ} فترك قتله وأمر بإخراجه من مدينته فلم يدخل المدينة إلا بعد أن كبر ونسوا [ ... ] ". قلت: فهذا أيضاً لا وجه له لأنه لو أُخرج في صغره ما كان له شيعة يجتمعون إليه ويستمعون منه ويقتدون به في مَصْرَ فرعونَ حتى يعرفوه ويستغيثوه فيما ذكر، ولأنه لو أمر بإخراجه في صغره لما قال: {وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ}. 162 - قال فيه: " كان لا يدخل قرية إلا خائفاً مستخفياً فدخلها {عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا}.

{فذانك برهنان}

قلت: فلم يذكر سبب الدخول، وإنما ذكر خوفه، وذلك معلوم والله أعلم. 163 - قال في قوله: {فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ}: " إنما شدد فرقاً بينها وبين النون التي تسقط للإضافة لأن: {ذان} لا تضاف ". قلت: تضاف سواء كانت مشدَداً أو مضعفاً بدليل أن الكاف في محل الخفض بإضافة {ذان} إليها في قوله: {فَذَانِك}. * * * سورة العنكبوت 164 - قال في قوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا}: " نزلت في سعد بن أبي وقاص، واسم أبي وقاص مالك بن وهبان، وذلك أنه لما

أسلم قالت له أمه حمنة بنت أبي سفيان: يا سعد بلغني أنك صَبوتَ الحديث إلى آخره ". قلت: هو سعد بن مالك بن وُهَيْب بن عبد مناف بن زهرة، واسم أمه خولة، لحديث الوصية بالثلث (والثلث كثير، لكن البائس سعد بن خولة).

{ولذكر الله أكبر}:

165 - قال في قوله تعالى: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ}: " عن كثير بن مُرَّة قال: سمعت أبا الدرداء يقول: " ألا أخبركم بخير أعمالكم وأحبها إلى مليككم وأتمها في درجاتكم وخير لكم من أن تغزوا عَدُوكَم فيضرب رقابكم وتضربون رقابهم، وخير من إعطاء الدنانير والدراهم؟ قالوا: وما هو يا أبا الدرداء؟ قال: ذكر الله ". قلت: ما هو من كلام أبي الدرداء بل هو حديث صحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - رواه ابن أبي الدنيا عن أبي علي الضرير عن أنس بن عياض عن

عبد الله بن سعيد عن زياد بن أبي زياد عن أبي بَحْرِية عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير لكم من إعطاء الذهب والورق وأنْ تلقوا عدوَّكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟) قالوا: وما ذاك يا رسول الله؟ قال: (ذكر الله). صحيح أخرجه الحاكم في المستدرك.

{بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم}:

166 - قال في قوله: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ}: " بل هو يعني محمداً - صلى الله عليه وسلم -، والعلم بأنه أمي {بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ} أهل الكتاب ودليل هذا التأويل قراءة ابن مسعود وابن السُمَيْفِع {بَلْ هُي آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ}. قلت: ما في قراءتهما دليل على هذا التأويل.

سورة الروم

سورة الروم 167 - قال في قوله تعالى: {وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ}: " الفائدة في تكرار {قَبْلِ} ههنا، أن الأولى للإنزال، والثانية: للمطر. وقيل: على التأكيد ". قلت: أما الأول فلا وجه له؛ لأن إنزال المطر، والمطر واحد من حيث أنهما ينلازمان فكأنه قال: من قبل المطر من قبل المطر، أو من قبل إنزال المطر عليهم من قبل إنزال المطر، وإنزال المطر لا يكون قبل المطر، أو من قبل إنزال المطر، من قبل إنزال المطر، لأن إنزال المطر بلا مطر محال فلا يكون في التكرار فائدة. وأما الثاني فلا وجه له أيضاً: لأن التأكيد إنما يكون إذا كان فيه زيادة فائدة إما من الوضوح، أو من الكثرة، أو نحو ذلك. وهذا التكرار لا يفيد فائدة ما، فلا يكون تأكيداً. والأشبه أن يكون الثاني كناية عن السحاب في قوله: {فَتُثيرُ سَحَابًا} فيكون التقدير: وما كانوا من قبل إنزال المطر عليهم من قبل السحاب إلا مُبلِسين على البلد، أو يكون الثاني كناية عن العشب والكلأ أي قبل المطر قبل العشب كناية عن غير مذكور.

سورة لقمان

ويجوز أن يكون تكرار {مِنْ قَبْلِهِ} تأكيداً لبعد عهدهم بالمطر، كما يقال: فعلت ذلك قبلَ قبلَ كذا. والله أعلم. * * * سورة لقمان 168 - قال في قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ}: " هذه الآية تقتضي أن كلامه غير مخلوق؛ لأن ما لا نهاية له ولمَا يتعلق به من معناه فهو غير مخلوق ". قلت: هذه لا تقتضي أن كلامه غير مخلوق، لأن نعيم الجنة لا نهاية له وما يتعلق به من معناه لا نهاية له، ومع هذا مخلوق. وليس حدُّ القِدم ما لا انتهاء

{وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد}:

به، وإنما حده ما لا ابتداء به. 169 - قال في قوله تعالى: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ}: " أي موفٍ بما عاهد علي الله في البحر. وقيل: مؤمن، وقيل: مقتصد في القول مضمر للكفر. وقيل: مقتصد في القول من الكفار، لأن بعضهم أشد قولاً وأعلى في الافتراء من بعض. وقيل على صلاح من الأمر.

سورة الأحزاب

قلت: لو اقتصرنا على هذا القدر لا يتم التفسير ولا يكمل الكلام؛ لأنه تعالى يذكر هذه الآية في ذكر نعمه على عباده، وكفرانهم، نظيرها قوله: {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} وقوله: {فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ}. فلا يستقيم ههنا أن نقول معناه: فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد، أي فمنهم مُوفٍ أو مؤمن أو مصلح، لأنه يخالف أمثالها ونظائرها، ويخالف مفهوم الخطاب، ولا يتم أيضاً أن نقول: فمنهم مقتصد أي مضمر للكفر، وأمثال ذلك؛ لأن في نظائرها لم يذكر بحرف {من}، وههنا قد ذكره بحرف {من} وهو للتبعيض فلا يجوز ذكر البعض والإعراض عن البعض، لأنه يكون تقديره: فلما نجاهم إلى البر فمنهم كافر فتحمله على الإضمار والاختصار، كأنه تعالى قال: فلما نجاهم إلى البر فمنهم شاكر ومنهم جاحد كقوله: {سَرَابِيلَ تَقِيكٌمُ الْحَرَّ} وأشباه ذلك والله أعلم. غاية ما في الباب أنه ترك ذكر الفريق الآخر لدلالة الكلام عليه فينبغي للمفسر أن لا يخل بهذا التنبيه لئلا يُنسب إلى التقصير. * * * سورة الأحزاب 170 - قال في قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ}: {تُظَاهِرُونَ} " بضم التاء وتخفِيف الظاء

وكسر الهاء قراءة عاصم، والحسن، قال أبو عمرو: وهذا منكر؛ لأن المظاهَرَة من التعاون ". قلت: ليس بمنكر بل هو صحيح؛ لأنه في السَبْع؛ ولأنه لو قال: ظاهَر من امرأته يكون صحيحاً، يقال: ظاهَر من امرأته يظاهر منها مظاهرة وظهاراً لغةٌ صحيحة مستعملة، ولا يصح عن أبي عمرو أنه أنكره، ولا يُظن بمثله ذلك. والدليل على أنه يصح معنى الظِهار أنه عداه بـ (مِن) وظاهر إذا عُدِّي

{يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها}:

بمِن لا يكون إلا بمعنى الظهار، وإنما يكون بمعنى التعاون كما ذكر إذا عُدَّي بغير (من)، كما يقال: ظاهَرَهُ. 171 - قال في قوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا}: " إذا خير الرجلُ امرأتَه واختارتْ زوجَها فلا شيء، وإن اختارت نفسها فواحدة وهو أحق بها وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه، وقال: إن اختارت زوجها فواحدة، وإن اختارت نفسها فثلاث، وهو قول مالك. وقال الشافعي: إن نوى الطلاق في التخيُّرِ كان طلاقاً وإلا فلا ". قلت: في هذه المسألة مذهب الشافعي مثل مذهب أبي حنيفة وأصحابه، غير أن عند أبي حنيفة وأصحابه طلقة بائنة، وعند الشافعي رجعية. والله أعلم.

172 - قال قوله: (هذا جبل يحبنا ونحبه): " يعني أحداً المراد أهله ". قلت: لا حاجة إلى هذا الإضمار، فإنه لا يمتنع أن أُحداً كان يُحِبُه، كما أن السارية الحنانة حنَتْ إليه، وسمع مَن في المسجد حنينها، وتسبيح الحصى في يده إلى غير ذلك، ولأن أُحُداً ليس له أهل حتى يكون مضمراً، ولا ساكن،

سورة فاطر

وإن أريد بأهله المدنيون والأنصار فهم أهل المدينة لا أهل أحُدٍ والله أعلم. * * * سورة فاطر 173 - قال في قوله تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ}: " يعني العالم والجاهل، {وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ} يعني الكفر والإيمان ". قلت: ليس هذا تفسير واضح، وإنما الواضح أن تقول ولا الكفر ولا الإيمان، ولو قلنا كذلك لا يستقيم أيضاً؛ لأن الاستواء إنما يكون بين شيئين كما يقال: لا يستوي زيد وعمرو، فأمَّا أن يقال: لا يستوي زيد لا يكون المراد نفي المساواة بينه وبين شيء آخر. فإذا قلت: لا يستوي زيدٌ، وأنت تريد نفي المساواة بينه وبين آخر فلا بد أن تقول: وعمرو. فإذا قلت: ولا عمرو. فقد نفيت المساواة بين عمرو وحده من غير ذكر آخر فلا يتم، قال الله تعالى: {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ} وقال ههنا: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ}

فوجه ذلك والله أعلم أن تجعل (لا) صلَةً في قوله: {وَلَا النورُ} وفي قوله: {وَلَا الحَرُورُ} {وَلَا الأموَاتُ} فيكون تقديره: ولا الظلمات والنور، ولا الظل والحرور، وما يستوي الأحياء والأموات كقوله: {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} أي يرجعون، وقوله: {مَا مَنَعَكَ ألَّا تَسجُدَ} أي تَسْجد، وقوله: {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ} أي ليعلم وأمثالها. وهذا بخلاف قوله {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ} ولم يقل: ومن أنفق من بعد الفتح؛ لأن هناك أظهر ما أضمره بقوله: {أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا} وليس كذلك ههنا والله أعلم.

سورة الصافات

ويشبه أن تكون {لَا} في قوله: {وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ} لتأكيد نفي المساواة كأنه قال: لا تستوي الظلمات وضدها، ولا النور وضده، كما يقال: ليس عمرو مثل زيد، ولا زيد مثل عمرو وليس في نفي التشبيه نفي كل واحد منهما والله أعلم. * * * سورة الصافات 174 - قال في قوله تعالى: {وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ}: " أي أنبتنا له، وقيل: عنده، كقوله: {وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ} أي عندي. قلت: (عليه) بمعنى (له) ما جاء في اللغة الصحيحة، لأنهما متضادان، يقال: هذا الأمر عليه، أي: يضره، وهو له، أي: ينفعه؛ ولأن (على) للتعلي، واللام للملك والاختصاص، وكذلك (عليه) بمعنى عنده غير مسموع، لأن (على) للوجوب، و (عند) تختص بما في ملكه، أو مُكنَتِه، حتى لو قال: لفلان عليَّ كذا يكون إقراراً بالدين، ولو قال: له عندي كذا يكون إقراراً بالوديعة. فقد اختلفا لُغةً وشرعاً وكذا نقول في قوله: {وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ} أي يجب

سورة ص

لهم علي المطالبة بذنب فلا حاجة إلى إقامة أحد الحروف مقام الآخر من غير ضرورة، فنقول في قوله: {وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً} أنه من صلة التضمين، لأن معظم المقصود من إنبات الشجرة تظليله، فكأن معنى التظليل في ضمن الإنبات فعُدي الإنبات تعدية التظليل، كأنه قال: وأنبتنا مُظَلِلةَ عليه فيكون (على) صلة للتظليل الذي هو في ضمن الإنبات مثل قوله: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} لأن في المخالفة الإعراض فعُدِّي تعديتين ونحوها كثير. والله أعلم. * * * سورة ص 175 - قال في قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ}: " أي لأَمْرٌ يُرادُ بنَا ". قلت: الكفار لم يكونوا يُقِرُّون أنهم يُراد بهم أَمْرُ خَيْر. والأمر يَحْتَمِلُ الخيرَ والشرَّ، فالأشبه أن المعنى أن هذا الشيء يُريدونه لأنفسهم، ويقولون برأيهم والله أعلم.

{أحببت حب الخير عن ذكر ربي}:

176 - قال في قوله تعالى: {أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي}: " يعني حب الخيل عن الصلاة ". قلت: لم يَذكرْ تحقيقَهُ؛ لأن فيه موضعين للبحث: أحدهما: {أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ} ولا يقال: أحببت حُبَّ زيد، والمرادُ أحببتُ زيداً، وههنا المراد أحببتُ الخيرَ، فما وجه ذكر الحُبّ؟ الثاني: قوله: {عَنْ ذِكْرِ رَبِّي} ولا يقال أحببتُ كذا عن كذا، فتحقيقه: أن هذا من صلة التضمين كما ذكرنا قبلُ؛ لأن في حب الشيء الاشتغال به، والاشتغال يُعدَّي بعن، فلما كان الاشتغال في ضِمْنِ الأحْبَابِ عُدِّيَ تعديته، كأنه قال: اشتغلت بحبِّ الخير عن ذكر ربي، أو آثرت حُبَّ الخير مشتغلاً عن ذكر ربي، ولهذا ذكر المصدر مع الفعل، أو تكون (عن) بمعنى (على). 177 - قال في قوله تعالى: {إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ}: " قُرئ مضافاً وبالتنوين ".

{قل ما أسألكم عليه من أجر}:

قلت: لم يذكر تفسيرَه، فنقول: أخلصناهم أي اخترناهم، واصطفيناهم كقوله: {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ}، {بِخَالِصَةٍ} أي بعبادة خالصة يعني إنما اخترناهم بسبب أنهم كانوا يُخلصون العبادة. قوله: {ذِكْرَى الدَّارِ} بدل من الخالصة، وهو في محل الخفض على البدل يعني يُذكِرّون بالدار الآخرة، وُيزهِدُون في الدنيا، فسِّرَ الخالصة بذكرى الدار، يعني كان عبادتهم الخالصة أنهم يَذْكرون الدّار الآخرة بقلوبهم، ويخافونها، والفرْق بين الذكر والذكرى أن الذكر باللسان والذكرى بالقلب، والاتعاظ به والدار المطلقة هي الدار الآخرة والله أعلم. 178 - قال في قوله تعالى: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ}: " عن الحُسين ابن الفَضْل هذه الآية ناسخة لقوله: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}.

قلت: لا يجوز أن تكون ناسخة لها لوجوه: الأول: أن النسخ يَجْري في الأحكام، وليس هذا من الأحكام؛ لأن محبة أقرباء النبي - صلى الله عليه وسلم - ليس من باب الأحكام فلا تتعلق بالنسخ. والثاني: أن المفهوم من قوله: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} هو الجُعْل والمال كما صَرَّحَ في موضع آخر {وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا} فيكون قوله: {إِلَّا الْمَوَدَّةَ} استثناء منقطعاً، وإذا كان المراد من الأجر المالُ لا يتناول

سورة الزمر

مودة القرب فلا يكون منسوخاً. الثالث: أن مودة أقرباء النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يجوز أن تكون منسوخة بل هي واجبة فريضة على المسلمين إلى يوم القيامة، لما ورد فيها من الأخبار. * * * سورة الزمر 179 - قال في قوله تعالى: " {لَوْ أَرَادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا}: كما زعموا {لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} ". قلت: ما زاد على هذا التفسير، وحينئذ تقوى حجة الكفار؛ لأنهم يقولون هل هذا إلا عين مقالتنا فإنا نقول: قد أراد الله أن يتخذ ولداً وقد اصطفى مما يخلق ولداً وهم الملائكة، أو عزيراً، أو عيسى. فجوابه: أنّ اتخاذ الولد غير الولادة التي هي الجزئية والبعضية التي كانوا يدعونها بقوله: {أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}

{أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذ من في النار}

والله تعالى نفى الولادة واتخاذ الولد جميعاً عن نفسه. أما نفي الولادة بقوله: {لَمْ يَلِدْ} وأما اتخاذ الولد بقوله: {مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ} وقال: لو أرَدْتُ أنْ أتخذَ ولداً بأن أسميه ولدي من غير التجزي والوالد لاتخذتُ ذلك من الملائكة الذين اصطفيتُهُم وخلقتهم كما يَزْعُمون، ولكني ما فَعلْتُ ذلك، ولا أَفْعَله قطّ، وهو قوله بعدَهُ: (سُبْحَانَهُ هُوَ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ) أي هو مُنَزُّه عن الولادة واتخاذ الولد، وواحد لا مِثْلَ له. 180 - قال في قوله تعالى: {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ}: " كرر الاستفهام كما كرر (أنكم) في قوله: {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ}. قلت: أما التكرار في قوله: {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ} الآية، إنما أعاد، لأنه طال الكلام، مثل قوله: {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ} الآية، وأما قوله: {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ}

" {فويل للقاسية قلوبهم من ذكر}

فليس من نظائره بل هو من نظائر قوله: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ} وقوله: {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ} وقوله: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ}. وأجْزِيةُ ذلك محذوفة تقديره: (أفمن هو قائم كمن ليس بقائم) و (أمن هو قانت كمن ليس بقانت) (أفمن شرح كمن لم يشرح) (أفمن حق عليه كمن لم يحق عليه) والله أعلم. 181 - قال في قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ}: " أبو جهل وذووه من الكفار أولئك في ضلال مبين ". قلت: لم يَزد على هذا في التفسير، ولو اقتصرنا عليه لكان لقائل أن يقول: كيف يقسو القلب من ذكر الله؟ وإنما هو يلين ويطمئن، قال الله: {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} فنقول هذا أيضاً من صلة التضمين، لأن في القساوة البُعدُ من الله ومن ذكره. والبُعْد يُعَدَّى بـ (مَنْ) فلما كان البُعد في ضمْن

القساوة عُدِّي تعديته، كأنه قال: فويل للبعيدة قلوبهم من ذكر الله. وقيل: من ذكر الله أي من أجل ذكره، أي إذا ذكر اللهُ عندهم اشمأزوا وازدادت قلوبهم قساوة، وقُرئ: {عن ذكر الله} أي غَلُظَ عن قبول الذكر. والله أعلم. 182 - قال في قوله تعالى: {وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ}: " أي بنجاتهم من العذاب بأعمالهم الحسنة " قلت: لا يتضح المعنى إن اقتصرنا على هذا القدر؛ لأنه لا يقال نجاه بمنجاته، وإنما يقال: نجاه من كذا، أو سبب كذا، أو إلى كذا فإيضاحه: ينجي الله الذين اتقوا بأعمالهم الحسنة التي هي سبب فوزهم، والمفازة

سورة غافر

سبب الفوز كما أن المبْخَلة بسبب البُخْل. والفوز النجاة، والفوز الظَفْرُ. * * * سورة غافر 183 - قال في قوله تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ}: " أرجلهم في الأرض السفلى ورؤوسهم قد خرقت العرش، وهم خشوع ". ثم قال: " بين الملائكة وبين العرش سبعون حجاباً من نور ". قلت: وهذا يُشْبه التناقض وهو مُستبعدٌ. والله أعلم. 184 - قال في قوله تعالى: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ}: " هو السائل وهو المجيب؛ لأنه يقول ذلك حين لا حيٌّ مجيبه، فيجيب نفسه، فيقول {لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} ".

قلت: هذا التأويل غير مطابق لما قَبْلَ الآيةِ وما بعدَها؛ لأن ما قبلها {يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْ} وما بعدها {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ}، ولا شك بأن الجزاء يكون بعدَ البعث، ولما ذكر عن ابن مسعود أنه قال: " يجمع الله الخلق يوم القيامة في صعيد واحد فأول ما يتكلم به أن ينادي منادٍ (لمن الملك اليوم؟). ولأنَّا أجمعنا على أن سكان الجنة من الحور لا يموتون والذين استثنوا من الصعق وهم الشهداء بقوله: {فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللهُ}

{وحاق بآل فرعون سوء العذاب (45) النار}

لا يموتون فكيف يكون هذا القول حين لا حي يجيبه، والأحياء حينئذ أكثر منهم اليوم على أن كلامه تعالى مع نفسه غير مُنكَر، ولا ينكر كلامَه إلا مبتدع ضال والله أعلم. 185 - قال في قوله تعالى: {وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ}: " قال النار رفع على البدل من سوء ". قلت: فيه نظر لأن البدل ما يجوز أن يُقام مقام الُمبْدَل، وههنا لا يجوز أن يُقال: نزل بآل فرعون النار؛ لأنه لا يُقال نزل به النار، وإنما يقال نزل به العذابُ ودخل. فالأشبه أن تكون النارُ تفسيرًا لسوء العذاب، أو هو خبر مبتدأ محذوف، كأنه سُئل: ما سوء العذاب؟ فقيل: هو النار، أو يكون رفعاً على الابتداء، و {يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا} خبرَه. والله أعلم. * * * سورة فصلت 186 - قال في قوله تعالى: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ}:

{وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم}

" قال أبو بكر: والله لا أفرقُ بين شيء جمع الله بينه ". قلت: لم يقل أبو بكر هذا، وإنما قال: " والله لأُقاتِلن من فرّق بين الصلاة والزكاة، والله لو يمنعوني عناقاً كانوا يؤدونها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقاتلتهم ". وكيف يقول أبو بكر - رضي الله عنه -: " والله لا أفرق بين شيء جمع الله بينه؟ " وهو لفظ غير مستقيم؛ لأن التفريق إنما يكون بين الشيئين، وكذلك الجمع يكون بين الشيئين. 187 - قال في قوله تعالى: {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ}: " أي تستخفون في قول أكثر العلماء ".

{ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي}:

قلت: لا يتضح التفسير بهذا القدر، فإيضاحه أن قولَه: {أن يَشهَدَ} بمعنى الشهادة؛ لأن (أن) مع الفعل في معنى المصدر، ويكون (من) مضمراً تقديرُهُ: وما كنتم تستخفون من شهادة الأعضاء عليكم وإنما كنتم تستخفون في الدنيا من شهادة الناس عليكم. ومعناه: وما كنتم تستترون خيفة أن تشهد عليكم جوارحكم لإنكاركم البعث، ولكن لظنكم بأن الله لا يعلم. والله أعلم. 188 - قال في قوله تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ}: " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يدخل على يسار وكان يهودياً أعجمياً، فقال المشركون، إنما يعلمه يسار. فأنزل الله هذه الآية ". قلت: دخوله على يسار سبب نزول قوله تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} في النحل. أما هذه الآية فلا تُطابق هذا السبب؛ لأن الله تعالى أخبر عنهم لو سمعوا القرآن أعجمياً لقالوا: أكتاب أعجمي ورسول عربي؟ ولم يجعل اللهُ القرآنَ أعجمياً. فلم يقولوا ذلك.

{وظنوا ما لهم من محيص}

189 - قال في قوله تعالى: {وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ}: " (ما) ههنا حرف وليس باسم فلذلك لم يعمل فيه الظن وجعل الفعل ملغياً ". قلت: يجوز أن يعمل الفعل في الحرف نحو قوله: {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ} (أن) حرف وقد عَمِلَ الخوف فيه، وهو في محل النصب بوقوع الخوف عليه ونحوها كثير، وليس الظن ههنا ملغياً بل هو واقع على الجملة وهي: {مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ} في [ ... ] في موضع النصب بوقوع الظن عليه. * * * سورة الشورى 190 - قال في قوله تعالى: {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا}: " بلا ذكور،

سورة الزخرف

{وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ} فلا يكون له إناث ". قلت: لو اقتصرنا عليه كان لقائل أن يقول: لِمَ نكر الإناث وعرف الذكور؟ فالجواب عنه من ثلاثة أوجه: الأول: أنه إنما عرَّف الذكور لموافقة رؤس الآيات وهي {الذكُور} و {عَلِيمٌ قَدِيرٌ}. الثاني: أن في التعريف تعظيماً وهو أولى بالذكور. الثالث: الألف واللام توجب استغراق الجنس فتوجب الكثرة، وكثرة الذكور نعمة فتلائم الهبة، وكثرة الإناث ليست بنعمة فلا تلائم الهبة. * * * سورة الزخرف 191 - قال في قوله: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} أي وصفناه "، كقوله: {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ} " ويستحيل أن يكون بمعنى الخلق "، ثم

قال بعده في قوله: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ} " عن ابن عباس: أول ما خلق الله القلم، فأمره أن يكتب ما يريد أن يخلق في الكتاب عنده ". قلت: فقد نقض الكلام الأول؛ لأن القلم إذا كان أول الخلق ولم يكن معه شيء من الخلق فكيف كان يكتُبُ على العدم؟ اللهم إلا أن يُريد أن يكتب المخلوق بالكلام القديم وخلق القلم ثم خلق اللوح ثم كتب ولكنه غير مذكور. والله أعلم.

{إنني براء}

192 - قال في قوله تعالى: " {إِنَّنِي بَرَاءٌ} أي بريء ". قلت: الأشبه أن يكون على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه كقوله: [ ... ] [ ... ] ولا يقال معناه: إنه عامل فيكون المعنى إنني ذو براءة، والبراءة والبراء واحد والله أعلم. 193 - قال في قوله تعالى: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ}: " يعني هذه الكلمة وهذه المقالة وهي قوله: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ}. وقيل: كلمة التوحيد ". قلت: لو اقتصرنا على هذا القدر كان لقائل أن يقول: مَنِ الجاعلُ؟ إنْ قلتَ: الجاعل إبراهيمُ فكيف ينتظم جعلُ إبراهيمَ كلمة التوحيد باقية في عقبه لعَلّ عقبه يرجعون عن الكفر. وكيف يَقدِرُ إبراهيم أن يجعل ذلك، وأن

سورة الجاثية

يجعلهم موحدين. وعلى تقدير أن تكون كلمة التوحيد باقية في عقبه كيف يستقيم {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}؟ وكيف يستقيم (جعلهم مسلمين) (لعلهم يسلمون). وإن قلت: الجاعلُ هو الله فكيف جعلَ اللهُ كلمةَ الوحيد باقيةً في عقبه وأكثرهم كافرون؟ ثم كيف يستقيم جعلهم موحدين {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} عن الكفر، وقد رجعوا. والجواب أن الأشبه أن يكون الجاعل إبراهيم لأنه هو المذكور، ووجهه أن إبراهيم تبرأ من عبادة الأصنام وأوصى بذلك عَقِبَهُ بقوله في البقرة: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ} وجعل الوصية بهذه الكلمة باقية في عقبه لعلهم يَقبَلون وصيَتَه ويرجعون عن الكفر، وليس يلزم من جعل الكلمة والوصية باقية في عقبه أن يجعلهم موحدين كلهم، بل المراد في عَقِبه من يُوحد ويدعوا إلى التوحيد [ ... ] العقب. * * * سورة الجاثية 194 - قال في قوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ} " نزلت في عمر حين قال فنحاص اليهودي: أحتاج ربُّ محمد.

{أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم}:

فهمَّ عمرُ بقتله فنزلت هذه الآية ". قلت: فنحاص اليهودي كان بالمدينة وهذه السورة مكيَّةُ. 195 - قال في قوله تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ}: " معناه المؤمن في الدنيا والآخرة مؤمن، والكافر في الدنيا والآخرة كافر ". قلت: لو كان المعنى كما قال لكان الكناية في قوله: {مَحْيَاهُمْ} إلى المؤمنين، وكذلك في {وَمَمَاتُهُمْ} ولكان الكناية في {وَمَمَاتُهُمْ} إلى الكافرين وكذلك في {مَحْيَاهُمْ}. ولو كان كذلك كان هذا إخباراً من الله تعالى ولم يكن داخلاً في الاستفهام. فيكون قوله: {سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} كلاماً منقطعاً عن الأول.

{إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين}

فالأشبه أن نقول: الكناية في قوله {مَحْيَاهُمْ} إلى المؤمنين والكافرين، وكذلك {مَمَاتُهُمْ}، وذلك داخل في الاستفهام، وهو بمعنى النفي. وقوله: {سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} متصل بالكل وتقديره: أحَسِبَ الكافرون أن نجعلهم كالمؤمنين وأن يكون محيا المؤمنين والكافرين سواء، وممات المؤمنين والكافرين سواء، بئس ما يَقضُون. لا نجعل محيا المؤمنين والكافرين سواء، لأن هؤلاء من أهل الجنة، وهؤلاء من أهل النار. ولا نجعل ممات المؤمنين والكافرين سواء؛ لأن هولاء في الجنة، وهؤلاء في النار. والدليل على هذا القول قراءة أهل الكوفة {سواءً} بالنصب. والله أعلم. 196 - قال في قوله: {إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ}: " إنها كائنة ". قلت: لو اقتصرنا على هذا القدر كان لقائل أن يقول: لا يقال ما نعلم إلا علماً وما نحب إلا حباً. فما وجه الكلام؟ وما وجه النصب؟. فالجواب: أنّ قوله (إن) بمعنى (ما) في النفي والاستثناء، من النفي إثبات،

{فلله الحمد رب السماوات ورب الأرض رب العالمين}

ومن الإثبات نفي، وهذا استثناء النفي، فيكون إثباتاً للظن، فكأنه قال: نظن ظناً. فيكون نصباً على المصدر. والله أعلم. 197 - قال في قوله تعالى: {فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}: " قراءة العامة بكسر الباء في ثلاثتها على النعت، وقرأ ابن محيصن رفعاً على معنى هو ربُّ ". قلت: لو اقتصرنا على هذا القدر كان لقائل أن يقول: لأي معنى عطف {وَرَبِّ الْأَرْضِ} ولم يعطف {رَبِّ الْعَالَمِينَ}. كيف ما ذكر الكل بغير حرف عطف؟ أو ما ذكر الكل بحرف عطف؟ فالجواب: أن {رَبِّ السَّمَاوَاتِ} صفة لله {رَبِّ الْعَالَمِينَ} صفة لـ {رَبِّ الْأَرْضِ}

سورة الأحقاف

فهو صفة وموصوف، وصفة وموصوف والواو في قوله {وَرَبِّ الْأَرْضِ} واو عطف، والعطف دليل التغاير بين الرب والرب، وإنما هو بين السماوات والأرض، ولم يذكر الواو في {رَبِّ الْعَالَمِينَ} لأنه لا تغاير. والله أعلم. * * * سورة الأحقاف 198 - قال في قوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا}: " حمله ستة أشهر، ورضاعهُ أربعة وعشرون شهراً ". قلت: ليس هذا بتفسير واضح. وإنما الواضح حمله ستة أشهر، وفطامه أربعة وعشرون شهراً، لأن الفصال هو الفطام لا الرضاع. ولو فسرنا على ما هو الواضح يلزم أن تكون مدة الفطام داخلة في الثلاثين، كما أن مدة الحمل داخلة في الثلاثين، والفطام إنما يكون في ساعةٍ وامتداده لا نهاية له فقوله: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} فالحمل زمانه داخل في حد

الثلاثين، والفصال ليس بداخل في حد الثلاثين، وإنما هو خارج من حد الثلاثين؛ لأن بالفصال تنتهي الثلاثون، فكأنه قال: من ابتداء حمله إلى وقت فصاله ثلاثون. وتحقيقه حمله والزمان الذي يُؤدي إلى الفصال وهو الرضاع ثلاثون. فيكون إطلاق اسم الشيء الذي يَؤول إليه على الآيل كقوله [ ... ]، وكقوله: {إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} أي يؤل إليه والله أعلم. وبهذه الآية يتبين أن أقل مدة الحمل ستة أشهر لأن مدة الرضاع عُلمت من قولهِ: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} وهما أربعة وعشرون فلا يبقى إلا ستة أشهر والله أعلم.

وتقطعوا اثرهم بينهتم

199 - قال في قوله تعالى: {وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ}: (¬1) " اختلفوا في دينهم فصاروا فرقاً ". قلت: لو اقتصرنا على هذا القدر كان لقائل أن يقول: {تَقَطعُوا} فعل لازم فكيف أوقعه على أمرهم حتى نصبه؟ والجواب: أنه نصب بنزع الخافض أي: في أمرهم. * * * سورة القتال وهي سورة محمد - صلى الله عليه وسلم - 200 - قال في قوله: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ}: " فلعلكم إن أعرضتم عن القرآن، وفارقتم أحكامه {أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ} بالمعصية والبغي ". قلت: لو اقتصرنا على هذا القدر كان لقائل أن يقول: كيف دخلت (هل) وهي من حروف الاستفهام على (عسى) وهي من أفعال الترجي، وهو مفسر ¬

_ (¬1) رجع هنا إلى سورة الأنبياء.

سورة الفتح

بلعلَّ؟ وهل يقال: هل لعلك تزورني؟! ثم كيف قال: إن أعرضتم أن تفسدوا؟ وهل يقال: إن زرتني أن أكرِمَك؟. والجواب: أن (هل) من حروف الاستفهام، ولكنه ههنا استفهام التقرير؛ لأنه من الله تعالى. و (عسى) و (لعل) من الله تعالى واجبان، وأما إن أعرضتم أن تفسدوا ففي الإضمار يعني: إن أعرضتم يكون حالكم أن تفسدوا وإن وليتم أمر الناس يكون حالكم أن تقطعوا أرحامكم. ويجوز أن يكون على التقديم والتأخير تقديره: فهل عسيتم أن تفسدوا في الأرض إن توليتم ويجوز أن يقال: عسى أن تسَرني إن زرتني. وإذا كانت (هل) استفهام تقرير ههنا، و (عسى) من الله واجباً يكون المعنى والله أعلم: إنكم إن توليتم عن القرآن والعمل به تفسدوا في الأرض، أو إنكم إن وليتم أمر الناس تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم. * * * سورة الفتح 201 - قال في قوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا}: الآية. " عن الحسن: {وَالَّذِينَ مَعَهُ} أبو بكر الصديق، {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ} عمر، {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} عثمان بن عفان، {تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا} علي بن أبي طالب، {يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا}

طلحةُ والزُبَيْرُ وعبدُ الرحمن بن عوف وسعدُ وسعيدٌ وأبو عبيدةَ ". قلت: في هذا القول نظر، وذلك لأن قوله: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} مبتدأ وخبر وتم الكلام. {وَالَّذِينَ مَعَهُ} في محل الرفع بالابتداء، {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ} رفعٌ لخبر الابتداء، والمبتدأ وخبره ينبغي أن يكونا شيئاً واحداً، نحو قولنا: زيدٌ منطلق.

فهما شخص واحد حتى لو كانا شيئين اثنين لا يصحُّ. فلو قلنا: زيد عمرو، أو بكر خالدٌ. لا يصح لأنهما شيئان، فعلى هذا لو قلنا: {وَالَّذِينَ مَعَهُ} أبو بكر، {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ} عمر، لا يصح لأنهما شخصان يستحيل أن يكونا شخصاً واحداً، لأنه يستحيل أن يكون زيدٌ عمراً فيصير التقدير: أبو بكر عمر. وهو محال؛ ولأن وصف الواحد بصفة الجمع خلاف الأصل، وإن كان جائزاً، ولأن مفهوم الخطاب تمثيل النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه في قلتهم وضعفهم ابتداءً، وكثرتهم وقوتهم انتهاءً [ ... ] يَبْدو قليلاً قليلاً، ثم ينمو ويكثر ويقوى، والكثرة والقوة لا تحصل بالواحد ولا بالعشرة؛ وإنما تحصل بالجمع الكثير والجم الغفير، كما كان الصحابة عشرين ألفاً. فحَمْلُهُ على عامة الصحابة أولى لفظاً ومعنى، وهو أقرب إلى الإنصاف، وترك التعصب والاعتساف. ولا فيه من إعطاء كل واحدٍ من الصحابة حظه من هذه الفضيلة دون الحرمان. فإن كلهم كانوا أعلام الإسلام، وإيمان الإيمان رضي الله عنهم أجمعين. 202 - وفي هذه الآية روى حديثاً مُنكراً " عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم -:

(يكون في آخر الزمان قوم ينبزون الرافضة يَرفُضُون الإسلام فاقتلوهم فإنهم مشركون). والدليل على أن هذا الحديث غير ثابت الكتاب والسنة وإجماع الأمة: أما الكتاب فقوله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} يعني: فإن تابوا من الشرك ولا شك بأن الروافض ليسوا مشركين، وأنهم يقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة.

وأما السنة فقوله - صلى الله عليه وسلم -: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم) وقوله: {لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى معان ثلاث: كفر بعد إيمان، وزنا بعد إحصان، وقتل نفس بغير حق). وأما إجماع الأمة: فإن الأمة أجمعت على أن من قتل واحداً منهم عمداً من غير قتل أو فساد في الأرض إنه يجب عليه القصاص. والحديث الذي يخالف الكتاب والسنة وإجماع الأمة لا يجوز أن يكون صحيحاً؛ لأن التناقض في الأحكام غير جائز عند أهل الإسلام. والله أعلم.

203 - وكذا الحديث الذي ذكره بعده وهو " حديث علي: (فإن أدركتهم فاقتلهم) ". غير ثابت بدليل أن علياً أدركهم وما قتلهم إلا الغلاة الذين قالوا: إن علياً إلهٌ. فقتلهم وقتل الناكثين والقاسطين، والمارقين، كما ورد في الحديث الصحيح: (إنك قاتل الناكثين والقاسطين والمارقين). قاتل الله

سوره الذاريات

الخوارج والروافض وجميع أعداء الله. ولا يجوز التكفير ولا استباحة الدماء بأخبار الآحاد والله أعلم. * * * سوره الذاريات 204 - قال في قوله تعالى: {ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ}: " لم يقل (هذه)؟ لأن الفتنة ههنا بمعنى العذاب ". قلت: ويجوز أن يكون تمام الكلام عند قوله: {فِتْنَتَكُمْ} ثم قال: {هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ}. 205 - قال في قوله تعالى: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ}: " قال: تمام الكلام عند قوله: {كَانُوا قَلِيلًا} أي كانوا قليلاً من الناس. ثم ابتدأ فقال: {مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ}

أي: لا ينامون بالليل ". قلت: هو وجه ضعيف خطأ لوجوه: أحدها: أن الله تعالى يذكر صفاتهم الموجبة لهم دخول الجنة، فلو كان تمام الكلام عند قوله: {كَانُوا قَلِيلًا} لم تكن القلة من الصفات الموجبة. والثاني: أنه يكون قوله: {مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} ابتداء كلام، فيكون نفياً لهجوعهم في الحال لا في الزمان الماضي، فيكون نفياً لهجوعهم حال دخول الجنة من الليل وهو محال. الثالث: أنه لو كان كما قال لقال: (بالليل) ولم يقل: {مِنَ اللَّيْلِ}، لأنه يقال فلان [ ... ] ينام بالليل، ولا يقال من الليل، إلا أن يقال ما ينام من الليل إلا قليلاً، فدلّ أنه متصل بالأول. الرابع: أن [ ... ] ما بعدها فيما قبلها. تقول: زيداً لم أضرب. ولا تقول: زيداً ما ضربت. 206 - قال فيها أيضاً: جعله بعضهم بمعنى: الذي، ومعناه: كانوا قليلاً من الليل الذي يهجعون، أي كانوا قليلاً من الليل هجوعهم ".

قلت: هذا الوجه أيضاً ضعيف؛ لأنه لو كان كما يقول لقال: كان قليلاً من الليل ما يهجعون. ولم يقل: كانوا، لأن على القول الذي يقول: يكون كانوا فعل الهجوع، لا الفعل الهاجعين، والهجوع مصدر، ولفظه واحد أن فيكون فعله كان، لا كانوا. فكان ينبغي أن يقول: كان قليلاً من الليل هجوعهم أي: كان هجوعهم من الليل قليلاً. 207 - قال فيها أيضاً: " (ما) صلة أي كانوا قليلاً من الليل يهجعون ". قلت: هذا أيضاً غير واضح، لأن خبر كان غير ظاهر، ولا يجوز أن يكون قليلاً خبر كانوا، لأن القلة صفة الهجوع أو صفة زمان الهجوع لا صفتهم اللهم إلا أن يقول: قليلاً نصب على الظرف يعني ينامون زماناً قليلاً من الليل. ثم هذه الجملة تكون في محل النصب بخبر كان، فهذا إيضاحه. وكذلك على القول الذي جعل (ما) بمعنى الذي يكون تحقيق قوله: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} يكون ضمير الواو في: {كَانُوا} اسماً لكان، والجملة التي بعدها خبر فكأنه قال: كانوا بهذه الصفة. أي كانوا قليلَ الهجوع بالليل، والجملة في ذلك أن (ما) زائدة، والمعنى: كانوا يهجعون في طائفة قليلة من الليل إن جَعَلْتَ {قَلِيلًا} ظرفاً ولك [ ... ] أي كانوا يهجعون هجوعاً قليلاً. أو يكون (ما) مصدرية أي: كانوا هجوعهم قليلاً من الليل، أو موصولة بمعنى الذي وهو في محل الرفع، لأنه فاعلُ قليلاً أي كانوا يَقِّلُ الذي يهجعون

{فتولى بركنه وقال ساحر أو مجنون}

من الليل. والله أعلم. 208 - قال في قوله: {فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ}: " (أو) بمعنى الواو، كقوله: {آثِمًا أَوْ كَفُورًا}. قال: " لأنهم قالوها جميعاً. نُقل عن أبي عبيدة ". قلت: لا حاجة إلى أن نجعل (أو) بمعنى الواو، بل لا وجه له؛ لأنهم نسبوه إلى السحر والجنون في مقامين، لا في مقام واحد؛ لأن قولهم هذا ساحر أو مجنون. يكون معناه: إنه إنما يُظهِرُ هذه الأشياء لسحره، أو هو إنما يدعي النبوة لجنونه؛ لأنهم إنما أرادوا أن ينسبوه إلى البطلان، والموجب للبطلان إما السحر، أو الجنون. فلو قلنا: بأنّ (أو) بمعنى الواو كان معناه هذا ساحر ومجنون فيكون كلاماً متنافياً؛ لأن فرعون كان يَعلم أن السحر لا يجتمع مع الجنون؛ لأن السحر يحتاج إلى عقل. فأمَّا المجنون لم يكن قادراً على السحر فكيف ينسبه إليهما جميعاً في حالة واحدة، بخلاف قوله: {آثِمًا أَوْ كَفُورًا} لأن

الإثم والكفر اجتمعا في الوليد بن المغيرة، فلذلك قلنا بأن (أو) بمعنى الواو لأن الواو للجمع، ولأنه إنما جُعِلَ (أو) بمعنى الواو في قوله: {آثِمًا أَوْ كَفُورًا} وفي قوله: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} لأن (أو) للشك، والشك لا يجوز على الله تعالى، ويجوز على فرعون فظهر الفرق من هذا الوجه والله أعلم.

سورة النجم

سورة النجم 209 - قال في قوله تعالى: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى}: " دنا الرب من محمد "، ثم قال: " دنو الله بالرتبة والمنزلة وإجابة الدعوة وإعطاء المُنيَة لا بالمكان والمسافة ". قلت: فإذاً لا فرق بين المعراج والأرض، وبين محمد وغيره من الناس، فلا معنى لقوله: {ثُمَّ دَنَا} وقد كان حاصلاً قبله على ما قال.

{ما كذب الفؤاد ما رأى}

210 - قال في قوله تعالى: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى}: " أي ما كَذبَ فؤادُ محمد الذي رأى بل صدق، ومجازه: ما كذب الفؤاد فيما رأى ". قلت: لو اقتصرنا على هذا القدر لا يتضح المعنى، فنقول: تحقيقه أن حقيقة الكذب والصدق إنما يكون باللسان، ثم إذا أضيف إلى شيء آخر يُرادُ به المعنى الذي يختص به، وحقيقته كما يقال: صبح صادق، وصبح كاذب، وشهوة صادقة وكاذبة، ومحبة صادقة وكاذبة. فها هنا نفى الكذب عن الفؤاد فيثبت ضده وهو الصدق، وصدق الفؤاد علمه ويقينه، وهو المعنى الذي يختص بالفؤاد وحقيقته فكأنه قال: علم محمد ما رآه وتيقنه ولم يشك في شيء من ذلك. والله أعلم. 211 - قال: " رأى عمر وكأنه دخل الجنة وفيها قِبَابٌ لذي الكلاع، وقد قُتل مع معاوية، قال: فأعتق ذو الكلاع اثني عشر ألف

{فبأي آلاء ربك تتمارى}

بيت ". قلت: كيف أعتق وإنه كان مقتولاً؟. 212 - قال في قوله تعالى: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى}: " تشك وتجادل ". قلت: لو اقتصرنا على هذا القدر كان لقائل أن يقول: لا يُقال تماري به.

سورة الواقعة

وإنما يقال: تماري فيه. قال الله تعالى: {فَلَا تُمَارِ فِيهِم}. وإنما يقال: كذب به. فالجواب: أنه يجوز أن تكون (الباء) بمعنى (في) وحروف الصفات قد يقوم بعضها مقام البعض، ويجوز أن يكون مفعوله مضمراً، ويكون الباء للسببية تقديره: بسبب [ ... ] تجادل في الدين والنبي والقرآن، نعني لا ينبغي أن تجادل أو تشك مع هذه النعم في الدين كما يقال: بأي إحساني إليك جفوتني. والله أعلم. ويجوز أن يكون {تَتَمَارَى} ههنا بمعنى تكذب كقوله: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} قال الله تعالى: {فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ} يعني: فكذبوا بإنذار لوط شكًّا منهم وهو تفاعل من المزيد. * * * سورة الواقعة 213 - قال في قوله تعالى: {وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ}: " وما نحن بعاجزين عن إهلاككم وإبدالكم بأمثالكم ".

{فلولا إذا بلغت الحلقوم}، {فلولا إن كنتم غير مدينين}:

قلت: لو اقتصرنا على هذا القدر كان لقائل أن يقول فما وجه قوله: {عَلىَ} إن كان من صلة السبق فالسبق يُعدَّى بـ (إلى) لا بـ (على). وإن كان من صلة العجز، فالعجز يعدّى بـ (عن)، وكذلك قوله: {عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ} وليس الأمثال يُبْدلون، وإنما يُبَدِّل هؤلاء بالأمثال. فالجواب: أن قوله: {عَلَى} من صلة المعنى؛ لأن المفهوم من قوله: {وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} نحن قادرون والقدرة يُعدّى بعلى، وقوله: {نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ} أي نُبدلكم بأمثالكم، كأنه قال: نخلق أمثالكم بدلاً منكم والله أعلم. 214 - قال في قوله تعالى: {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ}، {فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ}: " أجيب بجواب واحد وهو قوله: {تَرْجِعُونَهَا} ومثله قوله: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ}. قلت: قوله: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ}، ليس مما أجيب بجواب واحد ولكن جوابه مضمر تقديره: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فاتبعوه. لأنه

سورة الحديد

لا يستقيم أن يقال: فإما يأتينكم مني هدى فلا خوف عليهم؛ لأن الخوف لا يَنْتَفي بإتيان الهدى وهو الرسول والقرآن بدليل قوله: {فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ}؛ لأن القرآن قد أتى الكفار [ ... ]. * * * سورة الحديد 215 - قال في قوله تعالى: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً}: " فيه دلالة واضحة على تفضيل أبي بكر ". قلت: لا نشك في فضل أبي بكر، إلا أن الاستدلال بهذه الآية فيه نظر؛ لأن أبا بكر - رضي الله عنه - كما أسلم وأنفق قبل الفتح وقاتل، فغيره من العشرة أنفقوا وقاتلوا، لأن فتح مكة متأخر، ولا نظن بالمهاجرين والأنصار أنهم ما أنفقوا قبل ذلك وما قاتلوا في تلك المدة المديدة. وحديث أوليته في الإسلام معارض بحديث: (أولكم وروداً علي الحوض أولكم إسلاماً علي بن أبي طالب) (¬1). ¬

_ (¬1) أخرجه الحاكم في المستدرك (3/ 147) برقم (4662) في كتاب معرفة الصحابة، ذكر إسلام أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه -، وقال الحاكم: " الخلاف أن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - كان أول الرجال البالغين إسلاماً وعلي بن أبي طالب تقدم إسلامه قبل البلوغ ". أهـ بتصرف، ولم يصححه الحاكم وسكت عنه الذهبي في التلخيص.

وأما حديث عمرو بن عبسة أنه رُبعُ الإسلام فغير صحيح؛ لأن الناس وإن اختلفوا في سبق إسلام أبي بكر وعلي أيهما كان أسبق؟ لم يختلفوا في أن

إسلام علي كان سابقاً على إسلام عمر بن عبسة وكذا إظهار الإسلام. 216 - قال: " أبينا هو أول من قاتل على الإسلام بسيفه ". قلت: هذا أيضاً فيه نظر؛ لأن القتال بالسيف لم يكن بمكة مأذوناً فيه، فأوَّل قتالٍ كان للمسلمين مع الكفار كان يوم بدر بالمدينة، ويوم بدر قد شهده أبو بكر وعمر وعلي وثلائمائة من المهاجرين والأنصار. 217 - " وحديث: (خَل العباءة) الذي يرويه

ابنُ عمر " ففيه أيضاً نظر؛ لأن أبا بكر - رضي الله عنه - كان يوم خروج النبي - صلى الله عليه وسلم - من مكة يملك ناقتين وقطيعاً من الغنم، فكيف لم يبق معه إلا العباءة المخلولة.

218 - " وأما حديث علي: (لا أوتى برجل فضلني عليه إلا جلدتُه) " أيضاً فيه نظر؛ لأن علياً فضل نفسه بحديث مناشدته يوم الشورى وفي خطبة السقيفة فكيف كان يجلد من يقول مثل قوله (¬1). ¬

_ (¬1) اتفق أئمة أهل السنة وعامتهم على تفضيل أبي بكر على غيره من الصحابة بما فيهم عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب، كما ذكر ابن تيمية، والأدلة على ذلك كثيرة مستفيضة بل ومن حديث علي بن أبي طالب، وحديث أفضلية الصديق ثم الفاروق عليهم " رواه جمع من أصحاب علي بن أبي طالب ممن مثلهم يصدق على علي - رضي الله عنه - " كما قال الآجري في الشريعة (4/ 1738) وانظر ما عقده من فصل بعنوان " مذهب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - في أبي بكر وعمر وعثمان - رضي الله عنهم - أجمعين " في الشريعة (5/ 2311 - 2347)، وقد توسع في ذلك، وانظر أيضاً شرح اعتقاد أهل السنة للالكائي (4/ 1445 - 1485). وقال ابن تيمية: " ويروى هذا عن علي بن أبي طالب من نحو ثمانين وجهاً. وقال أيضاً: " وقد ثبت عن علي من وجوه متواترة أنه كان يقول: خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر ". أهـ

{وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة}:

219 - قال: " في بيت عمرو بن كلثوم (وانظرنا نخبرك اليقينا) يعني انتظرنا ". قلت: بل معناه أمهلنا بدليل أول البيت (أبا هند فلا تعجل علينا). 220 - قال في قوله: {وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ}: " يعني: أو مغفرة

سورة المجادلة

قلت: لا حاجة إلى إضمار الألف بل المعنى عذاب شديد للكفار، ومغفرة للمؤمنين. والله أعلم. * * * سورة المجادلة 221 - قال في قوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ}: " لو نصَبْتَ على أنها فعلٌ كان صواباً ". قلت: لا وجه للنصب؛ لأن النجوى في محل الخفض بحرف الجر، و {ثَلَاثَةٍ} خفض بالإضافة.

سورة الممتحنة

سورة الممتحنة 222 - قال في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا}: " في الكلام تقديم وتأخير ونظم الآية: (لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق إن كنتم خرجتم جهاداً) ". قلت: لا حاجة إلى التقديم والتأخير بل هو مُنتظم مستقيم؛ لأن قوله: {تُلْقُونَ} حال أي لا تتخذوا مُلقين إليهم. وقوله: {يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ} حال أيضاً أي كفروا مخرجين {أَنْ تُؤْمِنُوا} أي لأن آمنتم {إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا} أي لا تتخذوهم أولياء إن كنتم مهاجرين. * * * سورة الملك 223 - قال في قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ}: " قدم الموت على الحياة لأنه إلى القهر أقرب، كما قدم البنات على البنين في قوله: {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ). والله أعلم ".

{الذي خلق سبع سماوات طباقا ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت}:

قلت: وأي قهر في تقديم ذكر الموت على ذكر الحياة، وأي مشابهة بينة وبين تقديم ذكر الإناث على ذكر الذكور، وأي قهر في تقديم الإناث. ولكن الأشبه أنه إنما قدم الموت على الحياة لأنه مقدم في الوجود لقوله: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ}. وأما تقديم الإناث على الذكور فلوجهين: أحدهما: لموافقة رؤوس الآيات. والثاني: أن تقديمهما كتقديم الظالم على المقتصد والسابق، كأن في ذلك جَبْراً لهما. 224 - قال في قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ}: " أي من اعوجاج واختلاف ". قلت: لو اقتصرنا على هذا القدر كان لقائل أن يقول: أليس في خلق الجبال، والأشجار، والأرضين، اعوجاج واختلاف وتفاوت، وكذلك في خلق الناس، وخلق القبيح، والحسن، والكفر، والإيمان؟. فالجواب: أنه من العام الذي أريد به الخاص وهو خلق السماوات السبع لا غير.

{أمن هذا الذي هو جند لكم}

225 - قال: في قوله تعالى: {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ} مَنَعَةٌ لكم {يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ} فيدفع عنكم ما أراد بكم. قلت: لو اقتصرنا على هذا القدر كان لقائل أن يقول: كيف اجتمعت أربعة أسماء من أسماء الإشارة، وهي (من) و (هذا) و (الذي) و (هو) وَلمَ دخل (أم) على (من) ولم يسبقه استفهام؟. فالجواب: أن تقديره آالله ينصركم أم هذا الذي هو جند لكم؟ لأن (أمن) هو (أم من) فأدغم. و (من) بمعنى الذي، ولا يقال: أم الذي هذا الذي. فتكون (من) صلة. والله أعلم. * * * سورة (ن) 226 - قال في قوله تعالى: {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ}: " معناه: ما أنت بمجنون والنعمة لربك، كقولهم سبحانك اللهم وبحمدك. أي والحمد لك ". قلت: قوله: " ما أنت بمجنون والنعمة لربك ". ليس بنظم متناسب.

سورة الحاقة

والأشبه أن يكون الباء في قوله: {بِنِعْمَةِ رَبِّكَ} باء الإلتباس كالباء في قوله: {وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ} معناه مع الكفر. فيكون المعنى ههنا: ما أنت مع نعمة ربك عليك بمجنون. ويجوز أن تكون الباء في قوله: {بِنِعْمَةِ رَبِّكَ} باء القسم كأنه يُقسم بنعمة الله أنه ليس بمجنون والله أعلم. ويجوز أن تكون باء السببية يعني: بسبب ما أنعم الله عليك لست بمجنون والله أعلم. * * * سورة الحاقة 227 - قال في قوله تعالى: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ}: " قرأ ابن عامر ويعقوب بالياء، وغيرهم بالتاء.

سورة المعارج

قلت: لو اقتصرنا على هذا القدر كان لقائل أن يقول: فما وجه (ما) وبأي شيء نُصبَ قليلاً؟. فالجواب: أن (ما) للمصدر وهي مع الفعل في معنى المصدر. و {قَلِيلًا} نصب بإضمار فعل تقديره: أرى قليلاً إيمانكم أرى قليلاً تذكركم، أي أرى إيمانكم وتذكركم قليلاً. * * * سورة المعارج 228 - قال في قوله: {إِنَّهَا لَظَى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوَى}: " قراءة العامة {نَزَّاعَةٌ} بالرفع على نعت اللظى. قلت: ليس بنعت للظى؛ لأن لظى معرفة؛ لأنه علم، و {نَزَّاعَةٌ} نكرة فلا يصلح نعتاً له، ولكنها خبر مبتدأ محذوف أي: وهي نزاعة للشوى.

سورة المزمل

سورة المزمل 229 - قال في قوله: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا}: " سُئلت عائشة عن قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} ما كان تَزمُّلُه ذلك؟ قالت: كان مِرْطاً طوله أربعة عشر ذراعاً نصفه عليّ وأنا نائمة، ونصفه على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي ". قلت: كيف يتصور هذا وهذه السورة مكية من أوائل ما نزل من القرآن وحينئذ لم تكن عائشة مع النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما بَنَى بها بالمدينة وهي بنت تسع، ووقت نزول قوله: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} ما كانت عائشة وُلدِتْ بعدُ. فكيف يكون نصفه عليها وهي [ ... ]؟

سورة المدثر

سورة المدثر 230 - قال في قوله تعالى: {لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ}: " رفع على نعت {سَقَرُ} في قوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ}. قلت: بل هي رفع بخبر ابتداء مضمر، أي هي لواحة. ولا يصلح نعتاً لـ {سَقَرُ} لأن سقر معرفة ولواحة نكرة. * * * سورة القيامة 231 - قال في قوله تعالى: {بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} " يجوز أن يكون تأنيثه للإضافة إلى النفس كما تقول: ذهَبَتْ بعضُ أصابعه ". قلت: ما أضاف إلى النفس ولا إلى غيرها، والنفس ليس بمضاف إليها، وإنما هو جَر لدخول {عَلَى} عليه، والأشبه أن يكون الهاء في {بَصِيرَة} للمبالغة

سورة الإنسان

كقولهم: علاّمة، وراوية، والله أعلم. * * * سورة الإنسان 232 - قال في قوله تعالى: {وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا}: " أي أمامهم وقدامهم كقوله: {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ} {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ} ". قلت: قوله: {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ} أي قدامهم؛ لأن ذلك المَلِك لم يكن خلفهم وإنما كان قدامهم، وكذلك البرزخ ليس خلفهم وإنما هو قدامهم، أما ههنا لا ضرورة أن يُفسر {وَرَاءَهُمْ} بقدامهم؛ لأن المراد أنهم يُعْرِضُون

سورة المرسلات

عن ذكر اليوم الثقيل كما يقال: جعله خَلْفَ ظَهْره ودُبُرَ أذنه، وإن كان ذلك بين يديه. لأنا لو فسرنا {وَرَاءَهُمْ} ههنا بقدامهم يكون معناه يتركون اليوم الثقيل قدامهم، فلا يكون لهم في ذلك ذم؛ وإنما يكون ذماً لهم أن لو جعلوها خلف ظهورهم كقوله: {فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِم} وهذا مستعمل في كلامهم أن من ترك العمل لشيء يقال: جعله خلف ظهره وتركه وراءه، وإن كان ذلك الشيء بين يديه حقيقة، ومن كان يعمل لشيء يقال: أقبلَ عليه وإن كان ذلك الشيء خلفه حقيقة. والله أعلم. * * * سورة المرسلات 233 - قال في قوله: {وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ}: " رفع عطف على قوله: {يُؤذَن} ". قلت: جواب النفي بالفاء لا يكون عطفاً على النفي، بل يكون نصباً، ويشبه أنه إنما رُفِع ههنا لموافقة رؤوس الآيات.

سورة البروج

سورة البروج 234 - قال في قوله تعالى: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ}: " أي: وما علموا فيهم عيباً ولا وجدوا لهم جُرماً {إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا} يعني (إلا) لأن، ومن أجل أن يؤمنوا بالله العزيز ". قلت: في هذا التفسير نظر من وجهين: أحدهما: أن قوله: {مَا نَقَمُوا مِنْهُمْ} فسره بـ " ما علموا منهم عيباً ولا وجدوا لهم جُرماً ". والذي هو المسموع في اللغة: نقْم منه كذا. أي أنكره وعابه. والثاني: أنه لا يقال وجدتُ له جرماً من أجل أن فعل كذا أو ما علمت فيه عيباً إلا لأنه شتمني. والأشبه أن نقم يَنقِمُ ونُقِم يَنقَمُ منه وعليه أي أنكره وعابه وكرهه. وقوله: {إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا} أن مع الفعل في معنى المصدر، يعني ما أنكروا عليهم إلا إيمانهم بالله كقوله {هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ}.

سورة الطارق

سورة الطارق 235 - قال في قوله: {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ}: " بالتشديد يعني: ما كل نفس إلا عليها، وبالتخفيف إن كل نفس لعليها حافظ ". قلت: لو اقتصرنا عليه يُوهم أن معناه: ما كل نفس لعليها حافظ. فيكون خطأ. فلا بد أن نقول إنَّ {إِنْ} على قراءة التخفيف المخففة من الثقيلة، واللام جوابُه مجازه: إن كل نفس لعليها حافظ. * * * سورة البلد 236 - قال في قوله تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ}: " عن سفيان: كل

سورة التين

شيء قال: {وَمَا أَدْرَاكَ} فإنه أخبره به، وما قال (وما يدريك) فإنه لم يخبره به ". قلت: فقد قال: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ} ولم يخبره بها. وقال: {وَمَا يُدرِيكَ} في عبس وقد أخبره به بقوله: {يَزَّكَّى}. * * * سورة التين 237 - قال في قوله تعالى: {فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّين}: " {فَمَا يُكَذِّبُكَ} أيها الإنسان بعد هذه الحجة والبرهان {بِالدِّين} والحساب والجزاء ". قلت: لا يتضح التفسير على هذا الوجه؛ لأن الاستفهام على سبعة أوجه: استفهام استعلام ليحصل العلم للسائل نحو قوله: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ}، واستفهام تقرير نحو قوله: {أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ}، واستفهام توبيخ نحو

قوله: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ}، واستفهام زجر وتكذيب نحو قوله: {أفَسِحْرٌ هَذَا} واستفهام تأنيس نحو قوله: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى}، واستفهام عتاب نحو قوله: {وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى}، واستفهام نفي نحو قوله: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} واستفهام تعجب نحو قوله: {وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا}. وههنا لَمَّا كان الخطاب للكافر في قوله: {فَمَا يُكذبُكَ} يكون تقديره: أيها الكافر من يُكذبك في قولك: لا بعث ولا حساب، فيكون جوابه الله يُكذبني ورسوله، فلا يكون في هذا الاستفهام فائدة؛ لأنه لا يمكن حمله على قسم من هذه الأقسام، لأنه لا يجوز أن يكون استعلاماً ولا نفياً، فيكون معناه: لا يكذبك أحدٌ. وهو محال لأنه مُكَذَّب. فلا بد أن يحمل على استفهام التعجب، ولو فسرناه على الوجه الذي فَسَّر لا يكونُ فيه تعجب؛ لأنه مكذب بالاتفاق. فلا بد أن نفسره على وجه الاستبعاد نحو قوله: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ}. وإنما يكون مفسراً على هذا الوجه أن نقول معناه أي شيء يجعلك مكذباً أيها الإنسان بعد القرآن بالبعث. والله أعلم.

سورة لم يكن

سورة لَمْ يَكُن 238 - قال في قوله تعالى: {رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ}: " بدل من البينة وهي محمد - صلى الله عليه وسلم - {يَتْلُو} يقرأ {صُحُفًا} كتباً، {مُطَهَّرَةً} من الباطل، {فِيهَا كُتُبٌ} من الله {قَيِّمَةٌ} مستقيمة عادلة ". قلت: لو اقتصرنا على هذا القدر لكان لقائل أن يقول: النبي - صلى الله عليه وسلم - ما كان يقرأ إلا كتاباً واحداً وهو القرآن؛ لأن ما سواه نُسخ به، فما وجه قوله: يتلو صحفاً فيها كتب؟. الجواب من وجهين: أحدهما: أنه أطلق اسم الجمع على الواحد تعظيماً، وذلك سائغ في كلامهم قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ} والمراد منه محمد - صلى الله عليه وسلم -.

سورة العاديات

والثاني: أنه جعل كل سورة بمنزلة صحيفة، وكتاب يجوز أن يكون معناه أنه يتلو صحف إبراهيم وموسى، وإنجيل عيسى وغيرها من الكتب من حيث المعنى، لأن من حيث اللفظ كما قال: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} وقال: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ}، ويجوز أن يكون قوله: {رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ} بمعنى: رسل من الله يتلون صحفاً. * * * سورة الْعَادِيَاتِ 239 - قال في قوله تعالى: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا}: " عن علي أنه قال: إنها الإبل. لأن في غزوة بدر ما كان معهم إلا فرسان، فالمراد الإبل من

عرفة إلى مزدلفة، ومن مزدلفة إلى منى، وبه قال ابن عباس وجماعةٌ، فيكون المراد من الضَبح الضَبْعُ وهو مد الأعناق ". قلت: يشبه أن لا يكون هذا النقل صحيحاً؛ لأن قوله: {فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا} " هي الخيل توري النارَ بحوافرها إذا سارت في الحجارة " وذلك لا يكون من الإبل، فلما جاز أن يقسم بالخيل في قوله: {فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا} مع أنه لم يكن

في غزوة بدر إلا فرسان لم لا يجوز أن يقسم بالخيل في قوله: {وَالْعَادِيَاتِ} مع هذا الدليل. 240 - قال: " تسمّى نارُ حوافرِ الخيلِ نار أبي حباحبٍ ".

قلت: بل تُسمى نارَ الحباحب، وبذلك نطقت أشعارهم قال النابغة: وُيوقِدْنَ بالصُّفاح نارَ الحباحب، وقال القطامي:

سورة التكاثر

أَلاَ إنَّمَا نِيرَانُ قَيْس إذا شَتَوْا ... لِطَارِقِ لَيْل مِثْلُ نَارِ الحُبَاحِبِ وفي أمثالهم (أخلفُ من نار الحباحب). وليس في شيء من كلامهم نار أبي حباحب. والله أعلم. * * * سورة التكاثر 241 - قال في قوله تعالى: {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ}: " يصلح أن يكون في معنى المُضي جواباً لـ (لو) تقديره: لو ترون العلم اليقين لرأيتم الجحيم بقلوبكم، ثم رأيتموها بالعين اليقين ". قلت: لا يصلح هذا المعنى؛ لأن مَنْ عَلِم العلم اليقين، ورأى الجحيم بقلبه

سورة قريش

لا يَرَى الجحيم بالعين، إنما يراه الكفار قال الله تعالى: {وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ} وقال: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ}. * * * سورة قُرَيْشٍ 242 - قال في قوله تعالى: {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ} السورة: " كانت لهم رحلتان في كل عام للتجارة في الشتاء إلى اليمن، وفي الصيف إلى الشام، فلولاها لم يكن لأحد بمكةَ مقامٌ، فاخصبت تَبَاله وجُرَش والجند من بلاد اليمن فحملوا الطعام إلى مكة وكفاهم الله مؤنة الرحلتين وأمرهم بعبادة ربِّ البيت ".

سورة الناس

قلت: كيف كفاهم مؤنة الرحلتين وقد مَنَّ عليهم بالرحلتين، وذكر أنه إنما كفاهم أمر أصحاب الفيل ليألفوا الرحلتين، قال: {إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ}. * * * سورة النَّاسِ 243 - قال في قوله تعالى: {مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ}: " أَوَ الجن ناسٌ؟ حيث قال: {فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ} ثم قال في جوابه إن الله سماهم في هذا الوضع ناساً كما سماهم رجالاً في قوله: {بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ} ". قلت: السؤال باق بحاله فنقول إنه على سبيل التقديم والتأخير تقديره والله أعلم: أعوذ من شر الوسواس من الجنة والناس الذي يوسوس في صدور الناس، والوسواس من الناس هم فَسَّاقُهُم ومُضلوهم، كما قال: {شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ}.

244 - ومن المباحث أن أبا إسحاق - رحمه الله - أورد أحاديث موضوعة في أوائل السور في فضل القراءة وأخذ بأحاديث حسان في مواضعها

244 - ومن المباحث أن أبا إسحاق -رحمه الله- أوْرَدَ أحاديثَ موضوعة في أوائل السور في فضل القراءة وأخذ بأحاديثَ حسانٍ في مواضعها، من ذلك قوله تعالى في البقرة: {فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ} لم يذكر فيه حديث عائشة وهو ما روى يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة قال: سألت عائشة بما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفتتح الصلاة من الليل؟ قالت: كان يقول: (اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اُختلفَ فيه من الحق بأمرك أنتَ تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم). حديث صحيح. 245 - ومن ذلك قوله في سورة الزمر: {قُلِ اللهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} الآية. لم يذكر فيها حديث عائشة هذا.

246 - ومن ذلك قوله تعالى في سورة المؤمنين {وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض}

246 - ومن ذلك قوله تعالى في سورة المؤمنين: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ} لم يذكر فيه حديث ابن عباس وهو ما رَوى مقاتل عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (أنزل الله سبحانه من الجنة إلى الأرض خمسة أنهار سيحون، وجيحون، ودجلة، والفرات، والنيل أنزلها من عين واحدة من عيون الجنة من أسفل درجاتها على جناحي جبريل، فاستودعها الجبال، وآخرها في الأرض، وجعل فيها منافع للناس فذلك قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ} فإذا كان عند خروج يأجوج ومأجوج أرسل الله جبريل فرفع من الأرض القرآن، والعلم، والحَجَر من ركن البيت وهذه الأنهار فرفعها إلى السماء فذلك قوله: {وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ}).

247 - ومن ذلك قوله تعالى في سورة الأنعام {فالق الإصباح وجعل الليل سكنا}

247 - ومن ذلك قوله تعالى في سورة الأنعام: {فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا} الآية، لم يذكر فيه حديث أبي هريرة وهو ما روى مالك في الموطأ بإسناده عن أبي هريرة قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعو فيقول: (اللهم فالق الإصباح وجاعل الليل سكناً والشمس والقمر حسباناً اقضِ عني الدين، وأغنني من الفقر، وأمتعني بسمعي، وبصري، وقوتي في سبيلك). 248 - ومن ذلك قوله تعالى في سورة المؤمنين: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} لم يذكر فيه حديث خالد بن الوليد وهو ما روى مالك في الموطأ بإسناده عن خالد بن الوليد أنه قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - يا رسول الله إني أُرَوَّع في منامي؟ فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (قل أعوذ بكلمات الله

249 - ومن ذلك قوله تعالى {الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم}

التامات من غضبه وعقابه وشر عباده ومن همزات الشياطين وأن يحضرون). 249 - ومن ذلك قوله تعالى: {اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} لم يذكر فيه حديث زيد بن ثابت وهو ما رُوي بأن زيداً شكا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأرق. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (قل: اللهم غَارَت النجوم ونامت العيون

250 - من ذلك قوله تعالى في لقمان {ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله}

وأنت حي قيوم لا تأخذك سنة ولا نوم يا حي يا قيوم اهدء ليلتي وأنم عيني). 250 - من ذلك قوله تعالى في لقمان: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} لم يذكر الدعاء المأثور فيه وهو: (اللهم إني أسألك بأسمائك الحسنى كلها الحميدة المجيدة التي إذا وُضعت لشيء ذل لها، وإذا طُلب بها الحسنات أدركت، وإذا دُري بها السيئات صُرفت، وأسالك بكلماتك التامات التي لَو أن ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ أن تفعل بي كذا وكذا).

251 - ومن ذلك قوله {يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها}

251 - ومن ذلك قوله: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} لم يذكر فيه حديث جبريل وهو ما عَلّم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول لدفع عفريت من الجن يطلبه (أعوذ بوجه الله الكريم وبكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر من شر ما ينزل من السماء وشر ما يعرج فيها ومن شر ما ذرأ في الأرض وشر ما يخرج منها ومن شر الليل والنهار). 252 - ومن ذلك قوله تعالى: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} لم يذكر فيه الحديث الذي هو سبب نزوله وهو ما رَوَى نافعٌ عن ابن عمرَ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (رحم الله امرئ تكلم فغنم

أو سكت فسلم إن اللسان أملك شيء للإنسان، ألا وإن كلام ابن آدم كله عليه لا له إلا ذكر الله أو أمراً بمعروف أو نهياً عن منكر أو إصلاح بين المسلمين). (¬1) ¬

_ (¬1) لم أجد الحديث بهذه الصيغة، إنما هو مكون من حديثين، فالشطر الأول وهو: (رحم الله امرئ تكلم فغنم أو سكت فسلم) فقد روي مرفوعاً من حديث أنس، ومرسلاً عن الحسن، فقد أخرجه مرفوعاً البيهقي في شعب الإيمان (4/ 241) برقم (4938) في باب في حفظ اللسان، فصل في فضل السكوت عما لا يعنيه، والقضاعي في مسند الشهاب (1/ 339) برقم (582). وأخرجه مرسلاً عن الحسن البيهقي في الشعب في الموضع السابق برقم (4934)، وابن أبي الدنيا في الصمت (1/ 63) برقم (41). وحكم عليه الألباني بالحُسْن بمجموع طرقه كما في السلسلة الصحيحة (2/ 510) برقم (855). أما الشطر الثاني من الحديث فهو حديث أم حبيبة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (كل كلام ابن آدم عليه لا له إلا أمر بمعروف أو نهي عن منكر أو ذكر الله). فقد أخرجه الترمذي في السنن (4/ 212) برقم (2412) في أبواب الزهد، باب ما جاء في حفظ اللسان، وقال أبو عيسى: " هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث محمد بن يزيد بن خنيس ". أهـ، وأخرجه ابن ماجة في السنن (5/ 460) برقم (3974) في كتاب الفتن، باب كف اللسان في الفتنة، وأخرجه البخاري في التاريخ الكبير (1/ 261)، والطبراني في المعجم الكبير (23/ 243) برقم (484) وأخرجه أبو يعلى في المسند (13/ 45) برقم (7132)، والبيهقي في شعب الإيمان (4/ 245) برقم (4954) في باب في حفظ اللسان، فصل في فضل السكوت عما لا يعنيه، والحاكم في المستدرك (2/ 557) برقم (3892) في كتاب التفسير، تفسير سورة عم يتساءلون، وسكت عنه هو والذهبي في التلخيص، والخطيب في تاريخ بغداد (14/ 273)، وأحمد بن حنبل في الزهد (ص 43) برقم (123)، وعبد بن حميد في المسند (1/ 448) برقم (1554). وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (3/ 545) برقم (1366). ولم أجد عبارة (إن اللسان أملك شيء للإنسان). وزيادة (أو إصلاح بين المسلمين)، جاءت عند الخطيب في تاريخ بغداد قال: (أو الصلح بين الناس)، وقال عنها الألباني في السلسلة الضعيفة: " وهذه الرواية شاذة متناً وسنداً " أهـ، وقد قال عن الحديث المنذري في الترغيب والترهيب (3/ 345): " رواته ثقات ... " وتعقبه الألباني في الضعيفة وأبطل قوله: لأن في سند الحديث أم صالح ولم يوثقها أحد بل أشار الذهبي إلى أنها مجهولة ". أهـ بتصرف.

وحديث معاذ: يا رسول الله: أنؤاخذ بما نتكلم به؟ فقال: (ثكلتك أمك يا معاذ! وهل يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم) فمن

253 - ومن ذلك قوله تعالى {ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون}

أراد السلامة فليحفظ ما جرى به لسانه وليَحْرُس ما انطوى عليه جنانه، وليحسن عمله، وليقصر أمله، ثم لم تمض أيام حتى نزل قوله تعالى: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} الآية. 253 - ومن ذلك قوله تعالى: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} لم يذكر فيه حديث أنس وهو ما رَوى مالك عن إسحاق بن عبد الله عن أنس بن مالك قال: قيل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون؟ فقال: (الذين نظروا إلى باطن الدنيا حين نظر الناس إلى ظاهرها، واهتموا بآجل الدنيا حين اهتم الناس بعاجلها، فأماتوا منها ما خشوا أن يُميتهم، وتركوا منها ما علموا أنه سيتركهم، فما عرضهم من زائلها عارض إلاّ رفضوه، ولا خادعهم من رفعتها خادع إلا وضعوه، خَلَقَت الدنيا عندهم فما يُجَدِّدونها، وخربت بينهم فما يعمرونها) الحديث ".

{فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم}

254 - ومن ذلك قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} لم يذكر فيه حديث أبي هريرة وهو ما روى حماد عن ثابت عن أبي رافع عن أبي هريرة قال: بينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم جالس إذ رأيتُه ضحك حتى بدت نواجذه. فقيل له: لم تضحك يا رسول الله؟ قال: (رجلان من أمتي جثيا بين يدي الله فقال أحدهما: يا ربِّ خذ لي مظلمتي من أخي، إلى أن قال: من يملكُ؟ ثم قال: أنت بعفوك عن أخيك. قال: عفوت قال: خذ بيده وأدخله الجنة. قال - صلى الله عليه وسلم -: (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ) (¬1). ¬

_ (¬1) أخرجه الحاكم في المستدرك (4/ 620) برقم (8718) في كتاب الأهوال، وقال: " هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ". أهـ، وابن أبي الدنيا في حسن الظن بالله (1/ 109) برقم (118). وعزاه العراقي في تخريج الإحياء (2/ 310) إلى الخرائطي في مكارم الأخلاق، والحاكم، وأبو يعلى الموصلي، وقال: " وضعفه البخاري وابن حبان ". أهـ، ولم أعثر عليه في كتبهم بحسب ما اطلعت وضعفه الألباني كما في ضعيف الترغيب والترهيب (2/ 136) برقم (1469) وقال: " ضعيف جداً ". أهـ

255 - ومن ذلك قوله تعالى {واعتصموا بحبل الله جميعا}

255 - ومن ذلك قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا} الآية لم يذكر فيها حديث أبي هريرة وهو ما رَوى مالك عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن الله يرضى لكم ثلاثاً ويسخط لكم ثلاثاً، يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً، وأن تناصحوا مَنْ ولاه الله أمركم، ويسخط لكم قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال) حديث صحيح. قرأ علي الشيخ الإمام الجليل الفاضل الصالح كمال الدين جمال الفضلاء جمشيد بن يهوذا أدامه الله بتوفيقه بتمامها. كتبه أحمد بن محمد بن المظفر المختار الرازي حامداً ومصلياً في سلخ شهر ربيع الأول سنة ثلاثين وستمائة.

الخاتمة

الخاتمة الحمد لله أن وفقني لتحقيق هذا الكتاب لعالم من علماء أهل السنة، وهو كتاب مهم مفيد موضوعه شيق وهو تعقبات واستدراكات، ونقاش لمسائل في تفسير الثعلبي الكشف والبيان، بدأه دون مقدمة وينقل قول الثعلبي ثم يتعقبه وربما أضاف أو زاد معنى على ذلك، أو أجاب عن شبهة وسار بترتيب المصحف في الجملة، وتنوعت استدراكاته في عدة علوم. وكانت استدراكاته في 70 سورة، ولم يستدرك في 44 سورة. وبلغ عدد المسائل التي استدرك فيها 255 مسألة، وهي على النحو التالي: * التفسير وعلوم القرآن والقراءات والتجويد = 149 مسألة. * اللغة: النحو والشعر والأمثال والمفردات = 34 مسألة. * الحديث = 34 مسألة، منها 12 مسألة في آخر البحث. * الفقه = 15 مسألة. * التاريخ والتراجم والسير = 13 مسألة. * العقيدة = 10 مسائل. وهذا عد وإحصاء باجتهاد منّي وكما يُعلم أن بعض المسائل متداخلة في بعض العلوم، وقد اجتهدتُ في حصر أعدادها ليكون لدى القارئ تصور واضح عن الكتاب ومسائله. وأذكر هنا أبرز النتائج التي توصلت لها: (1) أن الاستدراك هو علم مهم مفيد، يوضح المعنى، ويكمل النقص، وقد كان معروفاً من القرون المفضلة، وسار عليه العلماِء بعد ذلك، وصُنفت فيه المصنفات.

(2) غزارة علم ابن المظفر الرازي في مختلف العلوم. (3) أهمية كتاب مباحث التفسير من حيث المبدأ والمضمون، فمبدؤه في علم الاستدراك، ومضمونه استدراكات على تفسير مهم كتفسير الثعلبي. (4) في كثير من استدراكات الرازي هو موافق لجمهور العلماء، وفي بعضها جانب الصواب. وأختم بذكر توصيات هامة: (1) إخراج الرسائل التي حققت الكشف والبيان للثعلبي في المكتبات ليتسنى لطلاب العلم النظر فيها، وصرفهم عن الطبعة السقيمة. (2) يُفصل كرسائل جامعة أو بحوث ترقية مثل: الأخطاء العقدية في الكشف والبيان، أو نقد الأقوال النحوية في تفسير الثعلبي، أو نقد المسائل الفقهية في تفسير الثعلبي. (3) القيام بتحقيق بقية كتب ابن المظفر الرازي تحقيقاً علمياً وإبراز مكانته كعلم من علماء أهل السنة. (4) دراسة المسائل التي ذكرها ابن المظفر الرازي دراسة مستقلة مستفيضة، مع الترجيح. وفي الختام أحمد الله حمداً كثيراً طيباً، وأسأله عز وجل أن يرزقني الإخلاص، وأعوذ بالله من الرياء والعجب ومن علم لا ينفع، والله الموفق لسواء السبيل. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين،،، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه الأطهار.

§1/1