ما لم ينشر من الأمالي الشجرية

ابن الشجري

ما لم ينشر من الأمالي الشجرية لابن الشجري المتوفى سنة 542 هـ تحقيق الدكتور حاتم صالح الضامن كلية الآداب - جامعة بغداد مؤسسة الرسالة

بسم الله الرحمن الرحيم

ما لم ينشر من الأمالي الشجرية

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة الرسالة ولا يحق لأية جهة أن تطبع أو تعطي حق الطبع لأحد، سواء كان مؤسسة رسمية أو أفرادًا. الطبعة الأولى 1405 هـ - 1984 م مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع مؤسسة الرسالة بيروت - شارع سوريا - بناية صمدي وصالحة هاتف: 319039 - 241692 ص. ب: 7460 برقيًا: بيوشران

مقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة الأمالي الشجرية من الكتب المهمة التي جمعت أقوال كثير من النحاة واللغويين والأدباء، وقد أملاها ابن الشجري (1) في أربعة وثمانين مجلسًا إلا أن طبعة حيدر آباد لا تضم إلا ثمانية وسبعين مجلساً، ونظراً لأهمية هذا الكتاب ارتأينا نشر ما لم ينشر منه خدمة للعلم وللعلماء. ويجدر بي هنا أن أشير إلى بعض الملاحظات (2) التي عنت لي أثناء

_ (1) هو الشريف أبو السعادات هبة الله بن علي العلوي، ولد سنة 450 هـ وتوفي سنة 542 هـ. كان نقيب الطالبيين في الكرخ وأحد أئمة النحاة وكان معجباً بالبصريين إعجابًا كبيرًا جعله يقول في حجج الكوفيين: "ولنحاة الكوفيين في أكثر كلامهم تهاويل فارغة من الحقيقة" (الأمالي 2/ 129، 147). له مؤلفات كثيرة نشر منها: الأمالي والحماسة والمختارات. (ينظر عن ابن الشجري: نزهة الألباء 404، أنباه الرواة 3/ 356، وفيات الأعيان 6/ 45، معجم الأدباء 19/ 282، بغية الوعاة 2/ 324، النجوم الزاهرة 5/ 281، مرآة الجنان 3/ 375، العبر في خبر من غبر 4/ 116). (2) وهي مما فات الزميل عبد المنعم التكريتي ذكرها في رسالته الموسومة: (ابن الشجري ومنهجه في النحو).

تحقيقي لهذه المجالس وهي: 1 - كان ابن الشجري عيالاً على الهروي إذ نقل فصلين كاملين من كتابه: الأزهية في علم الحروف، ولا بأس في أن يتأثره ابن الشجري أو يتابعه أو ينقل نصوصاً كاملة من كتابه إلا أن عرض هذه الأقوال غفلاً وعدم نسبتها إليه مما لا يقره العلم. 2 - ونقل أيضًا عن ثعلب في شرحه لديوان زهير وعن الجرجاني في الوساطة وعن ابن جني والواحدي وأبي القاسم الأصفهاني وابن فورجة في شروحهم لشعر المتنبي ولم يشر لذلك. 3 - خص ابن الشجري المجلس الموفي الثمانين ومعظم المجلس الحادي والثمانين في ذكر زلات مكي بن أبي طالب المغربي (3) في كتابه (مشكل إعراب القرآن) (4) وقد اهتم ابن الشجري بهذا الكتاب ونقل عنه كثيراً في أماليه وتابعه في بعض أوهامه إلا أن الذي يلفت النظر هو اهتمامه البالغ بذكر زلاته وسقطاته. ويغلب على الظن أن هجوم مكي على المعتزلة ووصمهم بالإِلحاد في كتابه (5) كان هو الدافع الذي حفز ابن الشجري إلى تتبع زلاته إذ نرى ابن الشجري قد استشهد كثيرًا بآراء الرماني المعتزلي. وإذا لم يكن هذا هو الدافع. فلِمَ هذا الِإهتمام بكتاب

_ (3) ولد سنة 355 هـ وتوفي سنة 437 هـ. كان محبًا للعلم يكثر السعي والرحلة في سبيله، واسع الإطلاع وتظهر لنا سعة ثقافته في مؤلفاته الكثيرة ومما تتصف به من تنوع، وكان عالمًا بالقراءات ساعيًا في نشرها في الأندلس، طبع من كتبه: الإبانة عن معاني القراءات والوقف على كلا وبلى في القرآن. (ينظر عن مكي: جذوة المقتبس 351، بغية الملتمس 469، الديباج المذهب 346، معالم الإيمان 3/ 213، الصلة 631، معجم الأدباء 19/ 167، وفيات الأعيان 5/ 274، غاية النهاية 2/ 309). (4) وهو الكتاب الذي حققناه ونلنا به شهادة الماجستير بتقدير " ممتاز" عام 1973. (5) مشكل إعراب القرآن 454، 579.

مخطوطتا الكتاب:

مكي والتحامل عليه بدون مبرر؟ ولمَ لم يرد على أبي جعفر النحاس الذي تابعه مكي في نقله لهذه الأقوال؟ ولمَ لم يرد على أبي عبيدة صاحب الرأي الذي نقله مكي؟ وربما أثار ابن الشجري أيضًا أن مكيًا كان ناشرًا للمالكية في الأندلس (6). 4 - يبدو لي أن ابن الشجري كانت تنقصه الدقة فقد تعقبه ابن هشام في عدة مواضع من كتابه المغني مغلطًا له (7) ومثبتًا عليه عدم التحري في نقل آراء سيبويه والكسائي والأخفش وأبي علي الفارسي (8). مخطوطتا الكتاب: اعتمدت في تحقيق هذه المجالس على مخطوطتين هما: 1 - مخطوطة مكتبة الدراسات العليا ببغداد المرقمة 369، وهي نسخة جيدة كتبت سنة 614 هـ والموجود منها الجزء الثالث فقط ويبدأ من المجلس السادس والخمسين إلى آخر الكتاب وقد رمزت لها بالحرف (د). 2 - مخطوطة الخزانة التيمورية المرقمة 672 (أدب تيمور) وقد كتبت سنة 1920 بخط واضح مقروء وفي أولها فهرس مفصل لمجالس الكتاب، وقد رمزت لها بالحرف (ت). وقد اتبعت في التحقيق طريقة النص المختار رغبة في أن تظهر هذه

_ (6) الديباج المذهب 346. (7) مغني اللبيب 41، 62، 338. (8) مغني اللبيب 181، 682. ويلاحظ أن ابن الشجري اعتمد كثيرًا على كتب أبي علي الفارسي.

المجالس في أقصى درجة ممكنة من الكمال مع التقيد بقواعد التحقيق العلمي المعروفة. والله أسال أن يكون عملي خالصًا لوجهه إنه نعم المولى ونعم النصير. * .. * .. * .. * * .. * .. *

بقية (المجلس الثامن والسبعون)

النص بقية (المجلس الثامن والسبعون) .... وغطاها كما يغطي السحاب السماء وقد فعلت العرب ذلك في أشعارها ولا سماه لذلك سحاباً جعله يستسقي فيسقى مع أن الطير لا تصيب من القتلى ما تصيبه وهي في الجو وإذا كانت تهبط إلى الأرض حتى تقع على القتيل فالسحاب الساقي عال عليها. فأما استسقاء الطير فجار على العرب في استعارة هذه اللفظة تعظيماً لقدر الماء. قال علقمة بن عبدة يطلب أن يفك أخوه شأس من الأسر يخاطب

بذلك ملك الشام. وفي كل حي قد بنعمة ... وحق لشأس من نداك ذنوب وأصل الذنوب الدلو العظيمة، وقيل للنصيب ذنوب في قوله تعالى: (فإنَّ للَّذينَ ظلموا ذنوباً مثلَ ذنوبِ أصحبهمْ) لأنهم كانوا يقتسمون الماء فيأخذ هذا ذنوباً وهذا ذنوباً. وقال رؤبة: يا أيها المائح دلوي دونكما ... أني رأيت الناس يحمدونكما وهما لم يستقيا في الحقيقة ماء وإنما استطلق أحدهما أسيراً وطلب الآخر عطاء ولذلك قال أبو تمام: .......................... ... بعقبان طير في الدماء نواهل.

والنهل لا يكون إلا من المشروب دون المطعوم وقد كرر أبو الطيب هذا المعنى فغيره وألطف فجاء كالمعنى المخترع قال: يفدى أتم الطير عمرا سلاحه ... نسور الملا أحداثها والقشاعم وما ضرها خلق بغير مخالب ... وقد خلقت أسيافه والقوائم وذكر الطير في مواضع أخر فأحسن وجاء بما لم يسبق إليه فقال: يطمع الطير فيهم طول أكلهم ... حتى تكاد على أحيائهم تقع ومن المستحسن ما قيل أيضاً في هذا المعنى قوله في وصف جيش: وذي لجب لا ذو الجناح أمامه ... بناج ولا الوحش المثار بسالم قال أبو الفتح: أراد أن الجيش يصيد الوحش والعقبان فوقه تسايره

فتخطف الطير أمامه. وقال أبو العلاء المعري: يقول إذا طار ذو الجناح أمامه فليس بناج لأن الرماة كثرة في الجيش وإن ثار الوحش أدركوه فأخذوه. وقول أبي العلاء إن ذا الجناح تصيبه الرماة أوجه لأن الشاعر أراد تفخيم الجيش وتعظيمه فلا يفوته طائر ولا وحش ثم قال: تمر عليه الشمس وهي ضعيفة ... تطالعه من بين ريش القشاعم أراد أن الجيش ارتفع غباره فالشمس تصل إليه ضعيفة داخلة بين ريش الطير التي تتبعه لتصيب من لحوم القتلى، ثم قال: إذا ضوءها لا من الطير فرجة ... تدور فوق البيض مثل الدراهم وذكر أبو نصر بن نباتة الطير قواد زيادة أبدع فيها فقال: ويوماك يوم للعفاة مذلل ... ويوم إلى الأعداء منك عصبصب إذا حومت فوق الرماح نسوره ... أطار إليها الضرب ما تترقب

وقال: وإنك لا تنفك تحت عجاجة ... تقطع فيها المشرفية بالطلا إذا يئست عقبانها من خصيلة ... رفعت إليها الدراعين على القنا الخصيلة كل لحمة فيها عصب والطلا الأعناق. وقول أبي تمام إذا ظللت عقبان أعلامه .... يقال للراية عقاب وتجمع عقباناً. (آخر المجلس).

المجلس التاسع والسبعون

المجلس التاسع والسبعون ذكر المعاني إن الخفيفة المكسورة قد تصرف العرب فيها فاستعملها شرطية ونافية ومخففة من الثقيلة وزائدة مؤكدة. فإذا كانت نافية فسيبويه لا يرى فيها إلا رفع الخبر يقول: إن زيد قائم كما تقول في اللغة التميمية: ما زيد قائم. وإنما حكم سيبويه بالرفع بعدها حرف يحدث معنى في الاسم والفعل كألف الاستفهام وكما لم تعمل ما النافية في اللغة التميمية وهو وفاق للقياس ولما خالف بعض العرب القياس فاعملوا (ما) لم يكن لنا إن نتعدى القياس في غير ما، وغير سيبويه اعمل إن على تشبيهها بليس كما استحسن بعض العرب ذلك في (ما) واحتج بأنه لا فرق بين إن وما في المعنى إذ هما لنفي ما في الحال وتقع بعدهما جملة الابتداء كما تقع بعد ليس وأنشد: إن هو مستولياً على أحد ... إلا على حزبه الملاعين

وهو قول الكسائي وأبي العباس المبرد ووافق الفراء في قوله سيبويه. ولك في إن إذا كانت نافية ثلاثة أوجه: أحدهما أن لا تأتي بعدها بحرف إيجاب كقولك: إن زيد قائم وإن أقوم معك كما قال تعالى: (إنْ عندكم مّن سلطنِ بهذا) وقال: (ولئن زالتا إنْ أمسكهما منْ أحدٍ من بعدةِ) اللام في لئن مؤذنة بالقسم وقوله: (إن امسكهما من أحد من بعده) جواب القسم المقدر وقال تعالى: (قلْ إنْ أدرى أقريبٌ ما توعدونَ) أي: ما أدري. فأما قوله: (ولقدْ مكَّنَّهمْ فيما إنَّ مكَّنَّكم فيهِ) (ففي إن قولان أحدهما أنها نافية وما بمعنى الذي فالتقدير: مكناهم في الذي ما مكناكم فيه) (والقول الآخر أن (إنْ) زائدة فالتقدير: مكناهم في الذي مكناكم فيه). والوجه هو القول الأول بدلالة قوله تعالى: (ألمْ يروا كمْ أهلكنا من قبلهم مَن قرنٍ مَّكَّنَّهمْ في الأرضِ ما لمْ نمكّن لَّكمْ). والثاني من أوجهها الثلاثة أن تأتي بعدها بإلا فاصلة بين الجزأين فتجعل الكلام موجباً كقولك: إن زيد إلا قائم وإن خرج إلا أخوك وإن لقيت إلا زيدا كما قال تعالى: (إنَّ الكفرونَ إلا في غرورٍ) و (إنْ أمَّهتهمْ إلا الَّائي ولدنهمْ) و (إنْ هوَ إلَّا نذيرٌ

مُّبينٌ) و (إن يقولونَ إلَّا كذباَ) و (إن يدعونَ من دونهِ إلَّا إنثاً)، (وتظنُّونَ إن لبثتمْ إلَّا قليلاً) فأما قوله: (وإنْ منْ أهلِ الكتبِ إلَّا ليؤمننَّ بهِ) فالتقدير فيه: وإن أحد من أهل الكتاب وحذف الموصوف وأقيمت صفته مقامه، ومثله: (وإن منكمْ إلَّا واردها) التقدير: وإن أدح منكم. والوجه الثالث أن تدخل لما التي بنعنى إلا موضع إلا وهي التي في قولهم: بالله لما فعلت أي إلا فعلت، تقول: إن زيد لما قائم تريد: ما زيد إلا قائم، قال الله تعالى: (إن كلُّ نفسٍ لَّمَّا عليها حافظٌ) وقال: (إن كلٌّ لَّمَّا جميعٌ لدينا محضرونَ)، (وإن كلُّ ذلكَ لمَّا متعُ الحيوةِ الدُّنيا)، وقد قرئت هذه الآيات بتخفيف الميم فمن شدد جعل لما بمعنى إلا وإن نافية فالمعنى: ما كل نفس إلا عليها حافظ، وكذلك الآيتان الأخريان. ومن خفف الميم جعل ما زائدة وإن مخففة من الثقيلة واللام للتوكيد فارقة بين النافية والموجبة والمعنى: إن كل نفس لعليها حافظ، والكوفيون يقولون في هذا النحو: إن نافية واللام بمعنى إلا، وهو من الأقوال البعيدة. والمخففة من الثقيلة لك فيها وجهان: إن شئت رفعت ما بعدها بالابتداء وألزمت خبرها لام التوكيد

فقلت: إن زيد لقائم تريد: إن زيداً لقائم، هذا هو الوجه لأنها إنما كانت تعمل بلفظها وفتح آخرها على التشبيه بالفعل الماضي فلما نقص اللفظ وسكن الآخر بطل الأعمال فمن ذلك قول النابغة: وإنْ مالك للمرتجى إن تقعقعت ... رحى الحرب أو دارت علي خطوب قول آخر: إن القوم والحي الذي أنا منهم ... لأهل مقامات وشاء وجامل الجامل الجمال وكذلك الباقر البقر وإنما ألزمت خبرها اللام إذا رفعت لئلا تلتبس بالنافية لو قلت: إن زيد قائم، وإن شئت نصبت فقلت: إن زيداً قائم وإن أخاك خارج، وتستغني عن اللام إذا نصبت لأن النصب قد أبان للسامع إيجاب وإن استعملت اللام مع النصب جاز وأنشدوا بالنصب قو الشاعر: كليب إن الناس الذين عهدتهم ... بجمهور حزوى فالرياض لذي النخل نصب الناس على نية تثقيل إن، وعلى هذا قراءة من قرأ: (وإنَّ كلّاً لمَّا ليوفينَّهمْ ربُّكَ أعملهمْ) وإذا بطل عمل المخففة جاز أن يقع

بعدها الفعل فلم يكن بينها وبين النافية فرق في ذلك إلا باللام تقول في النافية: (إن قام زيد وإن ضربت زيدا، وتقول في المؤكدة): إن قام لزيد وإن ضربت لزيدا تدخل اللام على الفاعل وعلى المفعول للفرق بين الإيجاب والنفي قال: شلت يمينك إن قتلت لمسلما ... وجبت عليك عقوبة المتعمِّدِ وكذلك تقول: إن كان زيد منطلقاً تريد: ما كان زيد منطلقاً، وتقول: إن كان لمنطلقاً تريد: إنه كان زيد منطلقاً فتدخلها على خبر كان كما جاء في التنزيل: (وإن كنتَ من قبلهِ لمنَ الغافلين) (إن كانَ وعدُ ربّنا لمفعولاً) وعلى خبر كاد: (وإن كادوا ليفتنوكَ) وعلى المفعول الثاني من باب الظن: (وإن نَّظنُّكَ لمنَ الكاذبينَ)، (وإن وجدنا أكثرهمْ لفاسقينَ)، إن في هذه المواضع مخففة من الثقيلة بإجماع البصريين واللام لا الوي والكوفيون يجعلنها النافية ويزعمون أن اللام بمعنى إلا وقد ذكرت انه قول ضعيف بعيد.

وأما الزائدة فقد زادوها بعد ما النافية كافة لها عن العمل في لغة أهل الحجاز فيقع بعدها المبتدأ والخبر والفعل والفاعل تقول: ما إن زيد قائم وما عن يقوم زيد وما إن رأيت مثله، قال فروة بن مسيك: فما إنْ طبنا جبن ولكن ... منايانا ودولة آخرينا (طبنا شأننا) وقال النابغة: ما إن أتيت بشيء أنت تكرهه ... إذن فلا رفعت سوطي إلي يدي وقال امرؤ القيس: حلفت لها بالله حلفة فاجر ... لناموا فما إن من حديث ولا صال أراد: فما حديث فزاد إن ومن، وقد زادها آخر بعد ما المصدرية في قوله:

ورج الفتى للخير ما إنْ رأيته ... على السن خيراً لا يزال يزيد أراد لا يزال خيراً وقد ذكروا لهذا الحرف معنى خامساً فقالوا أنه بمعنى إما في قول النمر بن تولب: سقته الرواعد من صيف ... وإن من خريف فلن يعدما قال سيبويه: أراد وإما من خريف وحذف ما لضرورة الشعر وإنما يصف وعلا، وقبل هذا البيت: فلو أن من حتفه ناجيا ... لكان هو الصدع الاعصما والمعنى: سقته الرواعد من مطر الصف وإما في الخريف فلن يعدم السقي. وقال الأصمعي: إن ههنا للشرط أراد: وإن سقته من خريف فلن يعدم الري وبقول الأصمعي أخذ أبو العباس المبرد لأن إما تكون

مكررة وهي ههنا غير مكررة وأحتج من قال بقول سيبويه بأنه وصفه بالخصب وأنه لا يعدم الري ويجب في قول الأصمعي إن لا يقطع له بالري لأنه إذا كانت إن الشرطية لم يقطع له بأن الخريف يسقيه كما تقول: إن حضر زيد أكرمته فلا يقطع له بالحضور كما يقطع له به في قولك: إذا حضر زيد أكرمته وكذلك قولك: أسافر إذا جاء الصيف ولا تقول: أسافر إن حضر الصيف، لأن الصيف لا بد من مجيئه فكأنه قال: وإن سقاه الخريف فلن يعدم الري فدل على أنه يعدم الري إن لم يسقه الخريف. وقول الأصمعي قوي من وجهتين أحدهما: إن ما لا تستعمل إلا مكررة أو يكون معها ما يقوم مقام التكرير كقولك: إما أن تحدث بالصدق وإلا فاسكت وإما أن تزورني أو أزورك، وهذا معدوم في البيت. والثاني: إن مجيء الفاء في قوله: فلن يعدما، يدل على أن إن الشرطية لأن الشرطية تجاب بالفاء وإما لا تقتضي وقع الفاء بعدها ولا يجوز ذلك فيها تقول: إما تزورني وإما أزورك ولا يجوز: وإما فأزورك فبهذين كان قول الأصمعي عندي أصوب القولين. وكذلك اختلفوا في قول دريد بن الصمة: لقد كذبتك عينك فاكذبنها ... فإن جزعا وإنْ أجمال صبر قال سيبويه: فهذا على إما ولا يكون على إن التي للشرط لأنها

لو كانت للشرط لاحتيج إلى جواب لأن جواب إن إذا ألحقتها الفاء لا يكون إلا بعدها فإن لك تلحقها فقلت: أكرمك إن زرتني سد ما تقدم على حرف الشرط مسد الجواب، ولو ألحقت الفاء فقلت: أكرمك فإن زرتني، لم يسد مسد جواب الشرط فلا بد أن تقول: أكرمك فإن زرتني زدت في إكرامك أو ما أشبه هذا فلذلك بطل أن يكون قوله: فإن جزعا على معنى الشرط وحملت إن على معنى إما وحذفت ما للضرورة والمعنى: فإما جزعت جزعا وإما أجملت إجمال صبر. وقال غير سيبويه: هو على إن التي للشرط والجواب محذوف فكأنه قال: إن كان شأنك جزعا شقيت به وإن كان إجمال بر سعدت به. وقول سيبويه هو القول المعول عليه لأنه غبر مفتقر إلى هذا الحذف الذي هو حذف كان ومرفوعها وحذف جوابين لا دليل عليهما. الصدع الفتي من الأوعال وواد الأوعال وعل وهو تيس الجبل، وفي الأعصم قولان: قيل هو الذي فر رسغه بياض والرسغ موصل الكف في الذراع وموصل القدم في الساق ويقال لموصل الكف في الذراع المعصم، وقيل: إنه سمي أعصم لاعتصامه في قلة الجبل. وزعم قوم أن (إنْ) وردت بمعنى (إذْ) واستشهدوا بقوله تعالى: (وذروا ما بقيَ منَ الرّبوا إن كنتمْ مؤمنينَ) فقالوا المعنى: إذ كنتم مؤمنين لأن الخطاب للمؤمنين ولو كانت إن للشرط لوجب أن يكون الخطاب لغير المؤمنين، (ومثله: (ولا تهنوا ولا تحزنوا وانتمُ الأعلونَ إن

ذكر أقسام أن المفتوحة المخففة

كنتمْ مؤمنينَ))، ومثله أيضاً: (فاللهُ أحقُّ أن تخشوهُ إن كنتم مؤمنينَ). وقال من رد هذا لقول: إن للشرط والمعنى: من كان مؤمناً ترك الربا ومن كان مؤمنا لم يخش إلا الله وهذا أصح القولين. وقد حكى قطرب أن إن قد جاءت بمعنى قد وهو من الأقوال التي لا ينبغي أن يعرج عليها. ذكر أقسام أنْ المفتوحة المخففة فأحد أقسامها أن تدخل على الفعل فتكون معه في تأويل مصدر (إن كان ماضياً أو مستقبلاً أو أمرياً وهذا الحرف أحد الحروف الموصولة فيكون مع صلته في تأويل مصدر) في موضع رفع مثاله: (وأن تصوموا خيرٌ لَّكمْ). أي: وصومكم ومثله: (وأن تعفوا أقربُ للتَّقوى) أي وعفوكم. ومن المرفوع بكان: (أكانَ للنَّاسِ عجباً أنْ أوحينا) و (فما كانَ جوابَ قومهِ إلا أن قالوا) في قراءة من نصب الجواب. ومن

المنصوب: (يريدُ اللهُ أن يخفِّفَ عنكمْ) و (إنِّا أرسلنا نوحاً إلى قومهِ أنْ أنذرْ قومكَ) معناه بأن أنذر قومك فلما حذفت الباء تعى الفعل فنصب ومنه في أحد القولين: (ما قلتُ لهمْ إلَّا ما أمرتني بهِ أنِ اعبدوا اللهَ) قوله: (أنِ اعبدوا الله) في موضع نصب على البدل من قوله: (ما أمرتني به) ويجوز أن تكون (أنْ) ههنا مفسرة بمعنى (أيْ) فلا يكون لها موضع من الإعراب. ومثال المجرور: (قالوا أوذينا من قبلِ أن تأتينا) أي من قبل أتيانك. وتقع بد عسى مع صلتها في تأويل مصدر منصوب إذا كانت عسى ناقصة كقولك: عسى زيد أن ينطلق ومثله: (عسى ربُّكمْ أن يرحمكمْ)، وتكون في تأويل مصدر مرفوع إذا كانت عسى تامة كقولك: عسى أن انطلق ومثله: (وعسى أن تكرهوا شيئاً .. وعسى أن تحبُّوا شيئاً). والقسم الثاني من أقسامها أن تكون مخففة من الثقيلة ويليها الاسم والفعل فإذا وليها الاسم فلك فيه مذهبان: أحدهما أن تنصبه على نية تثقيلها، تقول: علمت أن زيداً قائم، قال الشاعر: فلو أنكِ في يوم الرخاء سألتني ... فراقكِ لم أبخلْ وأنتِ صديق

وقال كعب بن زهير: وقد علم الضيف والمرملون ... إذا أغبر أفق وهبت شمالا بأنك ربيع وغيث مريع ... وقدما هناك تكون الثمالا المرملون الذين لا زاد معهم والمريع الكثير النبات. غيث مريع ومكان مريع وقد مرع المكان امرع. وهبت شمالا أضمر الريح ولم يجر لها ذكر فنصب شمالاً على الحال وقد أشبعت الكلام في هذا النحو، وهناك في هذا البيت ظرف زمان وإنما وضع ليشار به إلى المكان واتسع فيه، ومثله في التنزيل: (هنا لكَ الواليةُ للهِ الحقِّ) و (هنالكَ دعا زكريَّا ربَّهُ) والثمال الغيث. ومما جاء فيه أن معملة على هذا الوجه من أشعار المحدثين قول المتنبي: وأنكَ بالأمس كنت محتلما ... شيخ معد وأنت أمردها في قوله محتلما كلام رأيت إيراده لما فيه من الفائدة، وذلك أن

محتلما حال وخبر كان قوله: شيخ معد فالعامل في الحال كان ومن منع من إعمال كان في الأحوال فغير مأخوذ بقوله لأن الحال فضلة في الخبر منكورة فرائحة الفعل تعمل فيها فما ظنك بكان وهي فعل متصرف تعمل الرفع والنصب في الاسم الظاهر والمضمر وليست كلن في نصبها الحال بأسوأ حالاً من حرف التنبيه واسم الإشارة. وحكى أبو زكريا في تفسيره لشعر المتنبي عن أبي العلاء المعري أنه قال: زعم بعض النحويين أن كان لا تعمل في الحال، قال: وإذا أخذ بهذا القول جعل العامل في (محتلما) من قوله: أنك بالأمس (كنت محتلما الفعل المضمر الذي عمل في قوله: بالأمس)! وأقول: إن هذا القول سهو من قائله، وحاكيه، لأنك إذا علقت قوله: بالأمس بمحذوف فلا بد أن يكون (بالأمس) خبراً لأن أو لكان لأن الظرف لا تعلق بمحذوف إلا أن يكون خبراً أو صفة أو حالاً أو صلة ولا يجوز أن يكون خبراً لأن ولا لكان لأن ظروف الزمان لا توقع أخباراً للجثث ول صفات لها ولا صلات ولا أحوالاً منها، وإذا استحال أن يتعلق قوله (بالأمس) بمحذوف علقته بكان وأعملت كان في (محتلما). والوجه الثاني من وجهي إعمال أن انك تعملها في مقدر وهو الضمير الشأن وتوقع بعدها الجملة خبراً عنها كقولك: علمت أن زيد قائم وأكثر قولي أن لا إله إلا الله، ومنه قوله تعالى: (وآخرُ دعواهمْ أنِ الحمدُ للهِ

فصل

ربِّ العالمينَ) التقدير: أنه قائم وأنه لا إله إلا الله وانه الحمد لله، ومثله: (أن لَّعنةُ اللهِ على الظاَّلمينَ) في قراءة من خفف ورفع، ومثله: (وناديناهُ أن يا إبراهيمُ قد صدَّقت الرُّؤيا) التقدير: أنه قد صدقت الرؤيا أو أنك قد دقت الرؤيا، ومنه قول الأعشى: في فتية كسيوف الهند قد علموا ... أن هالك كل من يحفى وينتعل وإذا وليها الفعل لم يجمعوا عليها مع النقص الذي دخلها بحذف إحدى نونيها (وحذف) اسمها أن يليها ما لا يجوز أن يليها وهي مثقلة فكان الأحسن عندهم الفصل بينها وبينه بأحد أربعة أحرف السين وسوف ولا وقد، تقول: علمت أن ستقوم وأن سوف تقوم وأن لا تقوم وأن قد تقوم، وفي التنزيل: (علم أن سيكون منكم مرضى) وفيه: (أفلا يرونَ ألَّا يرجعُ إليهمْ قولاً) وقال جرير:

زعم الفرزدق أن سيقتل مربعا ... أبشر بطول سلامة يا مربع وقال بن أبي الصلت: وقد علمنا لو أن العلم ينفعنا ... أن سوف يتبع أخرانا بأولانا وربما وليها الفعل بغير فصل كقوله تعالى: (وأن لَّيسَ لإنسان إلا ما سعى)، وإنما حسن أن يليها ليس لضعف ليس في الفعلية وذلك لعدم تصرفها، وقد وليها الفعل المتصرف في الشعر في قوله: إني زعيم يا نوي ... قة إن سلمت من الرزاح وسلمت من غرض الحتو ... ف من الغدوَّ إلى الرواحِ أن تهبطين بلاد قو ... م يرتعون من الطلاح رفع الفعل لأنه أراد أنك تهبطين. الرزاح الإعياء، يقال: إبل مرازيح

ورزحى ورزاحى. والطلاح جمع الطلح وهو شجر عظام كثير الشوك. وأما الطلح في قوله تعالى: (وطلحٍ مَّنضودٍ) فزعم المفسرون أنه الموز. فصل الأفعال التي تقع بعدها أن ثلاثة أضرب: ضرب قد ثبت في النفوس واستقر وهو علمت وأيقنت ورأيت في معنى علمت، وضرب بعكس هذا نحو طمعت وخفت واشتهيت، وضرب متوسط بينهما وهو حسبت وخلت وظننت. فالضرب الأول لا يقع بعده إلا الثقيلة والمخففة منها لأن التوكيد إنما يقتضيه ما ثبت في النفوس واستقر. والضرب الثاني لا يقع بعدها إلا المصدرية، تقول: طمعت أن تزورني وخفت أن تهجرني واشتهيت أن تواصلني. وفي التنزيل: (والَّذي أطمعُ أن يغفرَ لي خطيئتي) وفيه: (أخافُ أن يأكلهُ الذئبُ وأنتمْ عنهُ غافلونَ) والضرب الثالث تقع بعده المخففة والمصدرية كما جاء في التنزيل: (وحسبوا ألَّا تكونَ فتنةٌ) قرئ برفع تكون ونصبها. وق جاءت المخففة من الثقيلة بعد الخوف في قول أبي محجن الثقفي:

إذا مت فادفني إلى أل كرمة ... تروي عظامي بعد موتي عروقها ولا تدفنني بالفلاة فإنني ... أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها وقد جاءت الثقيلة بعد الخوف في قول آخر: .................... ... وما خفت يا سلام أنَّك قاطعي وأشد من هذا مجيئها بعده في التنزيل في قوله: (ولا تخافونَ أنَّكمْ أشركتمْ باللهِ). والثالث من أقسام أن استعمالها زائدة للتوكيد كقولك: لما أن جاء زيد أكرمته، ووالله أن لو أقمت لكان خيراً لك، قال: ولما أن رأيت الخيل قبلا ... تباري بالخدود شبا العوالي القبل جمع الأقبل وهو الذي ينظر إلى طرف أنفه، وفي التنزيل: (فلمَّا أن جاءَ البشيرُ). والرابع كون أن بمعنى أي التي للعبارة والتفسير لما قبلها كقولك:

دعوت الناس أن رجعوا معناه: أي ارجعوا، قال الله تعالى: (وانطلقَ الملأُ منهمْ أن امشواْ) معناه: أي: امشوا، وقال جل شأنه: (وعهدنا إلى إبراهيمَ وإسماعيلَ أن طهِّرا بيتي) معناه: أي طهرا، وتكون هذه في الأمر العام خاصة ولا تجيء إلا بعد كلام تام لأنها تفسير ولا موضع لها من الإعراب لأنها حرف يعبر به عن المعنى. فصل اختلف النحويون في مواضع من كاب الله تعالى منها قوله: (يبينُ اللهُ لكمْ أن تضلُّوا)، (ومنها: (يبين لكمْ على فترةٍ من الرُّسلِ أن تقولوا ما جاءنا من بشيرٍ)، ومنها: (ألستُ بربّكمْ قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يومَ القيامةِ إنَّا كنَّا عنْ هذا غافلينَ)، ومنها: (وألقى في الأرضِ رواسيَ أن تميدَ بكمْ)، ومنها: (إنَّ اللهَ يمسكُ السماواتِ والأرضَ أن تزولا)، ومنها: (ولا تجهروا لهُ بالقولِ كجهرِ بعضكمْ لبعضٍ أن تحبطَ أعمالكمْ)، ومنها: (يحرجونَ الرَّسولَ وإيَّاكمْ أن تؤمنوا باللهِ ربِّكمْ)، وأضافوا إلى ذلك قول عمرو بن كلثوم:

فصل

نزلتم منزل الأضياف منا ... فعجلنا القرى أن تشتمونا فقال الكسائي والفراء: يبين لكم لئلا تضلوا، وقال أبو العباس المبرد: بل المعنى: كراهة أن تضلوا. وكذلك قوله: (يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم)، وقال الكوفيان معناه: لئلا تؤمنوا بالله، وقال المبرد: كراهة أن تؤمنوا بالله. وكذلك قول عمرو ابن كلثوم: فجعلنا القرى تشتمونا قالا معناه: لئلا تشتمونا، وقال أبو العباس: أراد كراهة أن تشتمونا، وقال علي بن عيسى الرماني: إن التقديرين في قوله تعالى: (يبين الله لكم أن تضلوا) واقعان موقعهما لأن، البيان لا يكون طريقاً إلى الضلال فمن حذف القسم في نحو: واله أقوم حذف المضاف لإقامة المضاف إليه مقامه أكثر من حذف لا. وأقول ليس يجري حذف لا في نحو: (يبين الله لكم أن تضلوا) مجرى حذفها من جواب القسم لأن الدلالة عليها إذا حذفت من جواب القس قائمة لأنك إذا قلت: والله أقوم، لو لم ترد لا لجئت باللام والنون فقلت: لأقومن. فصل زعم بعض النحويين أن (أنْ) قد استعملت بمعنى إذ في نحو: هجرني زيد أن ضربت عمرا، قال معناه: إذ ضربت واحتج بقول الله

تعالى: (وعجبوا أن جاءهم مُّنذرٌ منهمْ) قال: أراد إذ جاءهم وبقوله: (ألمْ ترَ إلى الَّذي حاجّ إبراهيمَ في ربّهِ أنْ آتاهُ اللهُ الملكَ)، وبقوله: (إنَّا نطمعُ أن يغفرَ لنا ربُّنا خطايانا أن كنَّا أوَّلَ المؤمنينَ)، وبقوله: (ولا تأكلوها إسرافاً وبداراً أنْ يكبرواْ)، وبقوله: (ولا يجرمنَّكمْ شنئانُ قوم أن صدُّكمْ عنِ المسجدِ الحرامِ)، وبقوله: (أفنضربُ عنكمُ الذّكرَ صفحاً أن كنتمْ قوماً مسرفينَ) في قراءة من فتح الهمزة، وبقول الشاعر: سالتاني الطلاق أن رأتاني ... قلَّ مالي قد جئتماني بنكر وبقول جميل: أحبك أنْ سكنت جبال حسمى ... وأنْ ناسبت بثنة من قريب وبقول الفرزدق:

أتغضب أنْ قتيبة حزتا ... جهارا ولم تغضب لقتل ابن خازم وهذا قول خال من العربية والصواب أن (أنْ) في الآي المذكورة والأبيات الثلاثة على بابها فهي الفعل الذي وصلت به تأويل مصدر مفعول من أجله فقوله: (وعجبوا أنء جاءهم منذر منهم) استشهد به، ثم أقول أن تقدير إذ في بعض هذه الآي التي استشهد بها يفسد المعنى ويحيله، ألا ترى أن قوله تعالى: (ولا تأكلوها إسرافاً وبدارا أنْ يكبروا) لا يصح إلا بتقدير: من أجل أن يكبروا ويفسد المعنى بتقدير: إذ يكبروا، ثم إذا قدرها في هذه الآية بالظرف الذي هو إذ ونب بها الفعل فحذف نون يكبرون كان فساداً ثانياً. قول جميل: ناسبت بثنة اسم محبوبته بثينة وإنما كبرها ضرورة والبثنة الزبدة.

المجلس الموفي الثمانين

المجلس الموفي الثمانين يتضمن ما وعدت به من ذكر زلات مكي بن أبي طالب المغربي في "مشكل إعراب القرآن" فمن ذلك أنه قال في قول الله سبحانه: (أولئكَ على هدًى منْ ربِّهمْ) واحد أولئك ذلك فإذا كان للمؤنث فواحده "ذي" أو "ذه" أو "تي". انتهى كلامه. وأقول إن أسماء الإشارة منها ما وضع للقريب ومنها ما وضع للمتراخي البعيد ومنها ما وضع للمتوسط. فالموضوع لقريب المذكر ذا والمؤنث ذي وذه وتا وللإثنين تان وللجماعة الذكور والإناث ألاء ممدود وألا مقصور وقالوا للمتوسط ذاك فزادوا الكاف وتيك ذانك وتانك واولاك وأولئك وقالوا للمتباعد الغائب ذلك

فزادوا اللام وتلك وتالك قال القطامي: .................. ... فان لتالك الغمم انقشاعاً وقالوا أولاك على هذا أنشدوا: أولالك قومي لم يكونوا أشابة ... وهل يعظ الضليل إلا أولالكا وقالوا في المثنى ذانك وتانك فشددوا النون فكان الصواب أن يذكر مع أولئك ذاك وتيك فذكره ذي وذه خطأ والصحيح نظير ذي وذه للمؤنث تا فأما تي فمجهولة في أكثر الروايات. وقال في قوله (واللهُ محيطٌ بالكافرينَ): أصل محيط مُحْيِط ثم ألقيت حركة الياء على الحاء. والصحيح أن أصل محيط محوط لأنه من حاط يحوط والحائط أصله حاوط لأنك تقول حوطت المكان إذا

جعلت عليه حائطاً فألقيت كسرة الواو على الحاء فصارت الواو ياءً لسكونها وانكسار ما قبلها كما صارت واو الوزن والوقت والوعد ياء في ميزان وميقات وميعاد. وقال في قوله تعالى: (كلَّما أضاءَ لهمْ مَّشوا فيهِ) كلما نصب على الظرف بمشوا وإذا كانت كلما ظرفاً فالعامل فيها الفعل الذي هو جاب لها وهو مشوا لأن فيها معنى الشرط فهي تحتاج إلى جواب ولا يعمل فيها أضاء لأنه في صلة "ما". ومثله: (كلَّما رزقوا) الجواب "قالوا" وهو العامل في كل وما اسم ناقص الفعل الذي يليه. انتهى كلامه. وأقول: إنه لا يجوز أن تكون "ما" في كلما هذه ونظائرهما اسماً ناقصاً لأن التقدير فيها إذا جعلتها ناقصة: كل الذي أضاء لهم البرق مشوا في البرق لأن الهاء التي في "فيه" تعود على البرق فلا ضمير إذن في الصلة يعود على الموصول ظاهراً ولا مقدراً والصحيح أن "ما" هنا نكرة موصوفة بالجملة (مقدرة باسم زمان فالمعنى كل وقت أضاء لهم البرق مشوا فيه فإن قيل: فإذا كانت نكرة موصوفة بالجملة) فلا بد أن يعود عليها من صفتها عائد كما لابد أن يعود على الموصول عائد من صلته فالجواب أن الجملة إذا وقعت صفة بخلافها إذا وقعت صلة لأن

الصلة مع الموصول بمنزلة اسم مفرد فلا معنى للموصول إلا بصلته وليس كذلك الصفة مع الموصول وإذا عرفت هذا عرفت هذا فالعائد من الجملة الوصفية إلى الموصوف محذوف التقدير: كل وقت أضاء لهم البرق فيه مشوا فيه فحذفت (فيه) هاهنا كما حذفت من الجملة الموصوف بها في قوله تعالى: (واتَّقوا يوماً لا تجزي نفسٌ عن نَّفسٍ شيئاً) التقدير: لا تجزي فيه كما قال: (واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله). وقال في قوله: (إلَّا إبليسَ) إبليس نصب على الاستثناء المنقطع ولم ينصرف لأنه أعجمي معرفة. وقال أبو عبيدة: هو عربي مشتق من أبلس إذا يئس من الخير ولكنه لا نظير له في الأسماء وهو معرفة فلم ينصرف لذلك. قلت: إن كان يريد بقوله لا نظير له في الأسماء عدم نظير له في وزنه فليس هذا بصحيح لأن مثال إفعيل كثير في العربية كقولهم للطلع إغريض وللعصفر إحريص وللسنام الطويل إطريح ولا خلاف في أنك لو

سميت بإغريض ونحوه لصرفت. وإن كان يريد أنه لا نظير له في هذا التركيب على هذا المثال فكذلك إغريض منفرد بهذا التركيب على هذا المثال ولو انضم التعريف إلى لم يمتنع من الصرف وأبو عبيدة إنما كان صاحب لغة. وقال في قوله تعالى: (ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً). قوله كفاراً مفعول ثان ليردونكم وإن شئت جعلته حالاً من الكاف والميم يردونكم. قلت: لا يجوز أن يكون قوله (كفاراً) مفعولاً ثانياً ليردونكم لأن رد ليس مما يقتضي مفعولين كما يقتضي مفعولين كما يقتضي ذلك باب أعطيت بدلالة أنه إذا قيل: أعطيت زيدا قلت: ماذا أعطيته فيقال: درها أو الدرهم الصحيح أو نحو ذلك. ولو قيل: ردت زيدا لم تقل: ماذا رددته فبهذا تعتبر الفعل المتعدي وغير المتعدي ويزيد ذلك وضوحاً أن منصوب رددت الثاني يلزمه التنكير والإشقاق وأن يكون هو الأول كقولك: رددت زيدا مسروراً ورددته ماشيا ورددته راكباً ولو كان مفعولاً به لم تلزمه هذه الأشياء، ألا ترى أنك تقول: أعطيت زيدا الدرهم فتجد في المنصوب الثاني التعريف والجمود وأنه غير الألو ثم يجوز مع هذا أن يكون المنصوب الثاني في هذا الباب مضمراً تقول: الدرهم أعطيته وأعطيتك إياه وجميع هذه الأوصاف لا يصح فيها وصف واحد في قولك: رددت زيدا راكباً

ونحو حتى أن التعريف وحده ممتنع تقول: ردتكم ركبانا ولا تقول: رددتكم الركبان ولا رددتك الراكب. وقال في قوله: (حسداً من عند أنفسهم) من متعلقة بحسد فيجوز الوقف على "كفاراً" ولا على "حسداً". قلت: إن قول النحويين هذا الجار متعلق بهذا الفعل يريدون أن العرب وصلته به واستمر سماع ذلك منهم فقالوا: رغبت في زيد ورضيت عن جعفر وعجبت من بشر وغضبت على بكر ومررت بخالد وانطلقت إلى محمد وكذلك قالوا: حسدت زيداً على علمه وعلى ابنه ولم يقولوا حسدته من ابنه وكذلك وددت لم يعلقوا به من فثبت بهذا أن قوله "من عند أنفسهم" لا يتعلق بحسداً ولا بود ولكنه تعلق بمحذوف يكون وصفاً لحسد أو وصفاً لمصدر ود فكأنه قيل: حسداً كائناً من عند أنفسهم أو ودا كائنا من عند أنفسهم. وقال في قوله: (كذلكَ قال الَّذينَ لا يعلمونَ) و (كذلكَ قالَ الَّذينَ من قبلهم) الكاف في الموضعين في موضع نصب نعت لمصدر محذوف أي قولاً مثل ذلك قال الذين لا يعلمون وقولاً مثل ذلك قال الذين من قبلهم ثم قال: ويجوز أن تكونا في موضع رفع على

الابتداء وما بعد ذلك الخبر. انتهى كلامه. وأقول لا يجوز أن يكون موضع الكاف في الموضعين رفعاُ كما زعم لأنك إذا قدرتها مبتدأ احتاجت إلى عائد الجملة وليس في الجملة عائد فإن قلت قدر العائد محذوفاً كتقديره في قراءة من قرأ: (وكلَّاً وعدَ اللهُ الحسنى) أي وعده الله فاقدر كذلك قاله الذين لا يعلمون وكذلك قاله الذين من قبلهم لم يجز هذا لأن قال قد تعدى إلى ما يقتضيه من منصوبه وذلك قوله (مثل قولهم) ولا يتعدى إلى منصوب آخر. وقال في قوله عز وجل: (ولا تجعلواْ اللهَ عرضةً لأيمانكمْ أن تبرُّواْ) أن تبروا في موضع نصب على معنى في أن تبروا فلما حذف حرف الجر تعدى الفعل وقيل تقديره: كراهة أن وقيل: لئلا أن. انتهى كلامه. وأقول إن ما حكاه من أن التقدير لئلا أن خطأ فاحش لتكرير أن تبروا مراد بعدها فالتقدير: لئلا أن تبروا وأمن تبروا وأن تبروا معناه بركم فالتقدير: لئلا بركم.

ومما أهمل ذكره ولم يفعل ذلك متعمداً ولكنه خفي عليه وهو من مشكل الإعراب لأن عامله محذوف وجه النصب في "رجالا" من قوله: (فإنْ خفتمْ فرجالاً أوْ ركباناً) والقول فيه أن رجالا هاهنا ليس بجمع رجل وإنما هو راجل كصاحب وصائم وصيام ونائم ونيام وقائم وقيام وتاجر وتجار وقد قالوا في جمعه رجل كما قالوا صحب وتجر وركب ولكونه جمع راجل عطف عليه جمع راكب وانتصابه على الحال بتقدير فصلوا رجالاً ودل على هذا الفعل قوله: (حافظواْ على الصَّلواتِ) ثم قال: فإن خفتم فصلوا رجالاً أو على الركائب ومن شواهد هذا الجمع قول عمرو بن قميئة: ونكسو القواطع هام الرجال ... وتحمي الفوارس منا الرجالا الرجال الأولى جمع رجل والثانية جمع راجل. وقال في قوله تعالى: (لا تبطلواْ صداقتكمْ بالمنْ والأذى كالَّذي ينفقُ) الكاف في موضع نصب نعت لمصدر محذوف تقديره: إبطالاً كالذي. هذا منتهى كلامه. ومن عادته أن يقف على الموصولات

بغير صلاتها كما وقف على أن في قوله: لئلا أن وكراهة أن. وأقول في قوله إن الكاف نعت لمصدر محذوف تقديره: إبطالاً كالذي ينفق إنه قول فيه بعد وتعسف لأن ظاهره تشبيه حدث بعين ولا يصح إلا بتقدير حذفين بعد حذف المصدر أي إبطالاً كإبطال إنفاق الذي ينفق ماله والوجه أن يكون موضع الكاف نصباً على الحال من الواو في تبطلوا بالتقدير: لا تبطلوا صدقاتكم مشبهين الذي ينفق ماله رياء الناس فهذا قول لا حذف فيه والتشبيه فيه عين بعين. ومن زلاته في سمرة آل عمران أنه قال في قوله تعالى: (كدأبِ آلِ فرعونَ) الكاف في موضع نصب على النعت لمصدر محذوف تقديره عند الفراء: كفرت العرب كفراً ككفر آل فرعون قال: وفي هذا القول إيهام للتفرقة بين الصلة والموصول. أراد أن الكاف في هذا القول قد دخلت في صلة الذين من قوله: (إنَّ الَّذينَ كفرواْ لن تغنيَ عنهمْ أموالهمْ ولا أولادهمْ منَ اللهِ شيئاً وأولئكَ همْ وقودُ النَّارِ) فبعدت من الناصب لها وهو "كفروا" وكان الواجب على هذا المعرب حيث أنكر قول الفراء أن يعتمد على قول غيره ولا يقتصر على ذكر قول

مناف لقياس العربية. قال أبو إسحاق الزجاج: كدأب آل فرعون أي (كشأن آل فرعون) كذا قال أهل اللغة ويقال: دأبت أدأب دأبا ودأبا ودؤوباً إذا اجتهدت وموضع الكاف رفع لأنها في موضع خبر ابتداء المعنى: دأب هؤلاء كدأب فرعون والذين من قبلهم أي اجتهادهم في كفرهم (وتظاهرهم على النبي كاجتهاد آل فرعون في كفرهم) وتظاهرهم على موسى. ولا يصلح أن تكون الكاف في موضع نصب بكفروا لأن كفروا في صلة الذين فلا يصلح أن الذين كفروا ككفر آل فرعون لأن الكاف خارجة من الصلة فلا يعمل فيها ما في الصلة انتهى كلام الزجاج. وهذا القول منه قول من نظر في كتاب الفراء لأنه حكى كلامه بلفظه. وقال علي بن عيسى الروماني: كدأب آل فرعون كعادتهم في التكذيب بالحق وقيل: كعادتهم في الكفر وقيل: شأنهم كشأن آل فرعون في عقاب الله إياهم، والكاف في "كدأب" يتصل بمحذوف تقديره: عادتهم كدأب آل فرعون فموضع الكاف رفع لأنها في موضع خبر الابتداء، ولا يجوز أن يعمل فيها "كفروا" لأن صلة الذين قد انقطعت بالخبر. وهذا الكلام أيضاً كلام من نظر في كتاب الفراء.

وقال نصب اليوم من قوله (يومَ تجدُ كلُّ نفسٍ مَّا عملتْ منْ خيرٍ مُّحضراً) يوم منصوب بيحذركم أي ويحذركم الله نفسه يوم تجد ثم قال وفيه نظر وقال: ويجوز أن يكون العامل فيه فعلاً مضمراً أي واذكر يا محمد يوم تجد ويجوز أن يكون العامل فيه (المصيرُ) أي وإليه المصير في يوم تجد ويجوز أن يكون العامل فيه (قديرٌ) أي قدير في يوم تجد. انتهى كلامه. وأقول: إنه لا يجوز أن يكون العامل فيه "يحذركم" لأن تحذير الله للعباد إنما يكون في الدنيا دون الآخرة ولا يصح أن يكون مفعولاً به كما كان كذلك في قوله: (وأنذرهمْ يومً الأزفةِ) وقوله: (لينذرَ يومَ التَّلاقِ) وقله: (وأنذرهمْ يومَ الحسرةِ) وإنما يجز أن يكون اليوم في هذه الآيات ظرفاً لأن الإنذار لا يكون في يوم القيامة فانتصب اليوم فيهن انتصاب الصاعقة في قوله: (فقلْ أنذرتكمْ صاعقةً) وإنما لم يصح أن يكون اليوم في قوله: (يوم تجد) مفعولاً به لأن الفعل من قوله: (ويحذركم الله نفسه) قد تعدى إلى ما يقتضيه من المفعول به، ولا يجوز أن يعمل فيه المصدر الذي هو "المصير"للفصل بينهما ولا يعمل فيه أيضاً "قدير" لأن قدرة الله على الأشياء كلها لا تختص بزمان

دون زمان فبقي أن يعمل فيه المضمر الذي هو أذكر وإن شئت قدرت احذروا يوم تجد كل نفس فنصبته نصب المفعول به كما نصبته في تقدير أذكر على ذلك. وقال قوله تعالى: (آيتكَ ألَّا تكلمَ الناسَ ثلاثةَ أيَّامٍ إلا رمزاً) قوله إلا رمزاً استثناء ليس من الأول وكل استثناء ليس من جنس الأول فالوجه في النصب. انتهى كلامه. وأقول: إن إلا في قوله: (إلا رمزاً) إنما هي لإيجاب النفي كقولك: ما لقيت إلا زيداً فليس انتصاب "رمزاً" على الاستثناء ولكنه مفعول به منتصب بتقدير حذف الخافض فالأصل: أن لا تكلم الناس إلا برمز أي تحريك الشفتين باللفظ من غير إبانة بصوت فالعامل الذي قبل إلا مفرغ في هذا النحو للعمل فيما بعدها بدلالة أنك لو حذفت إلا وحرف النفي استقام الكلام، تقول في قولك: ما لقيت إلا زيداً، لقيت زيداً، وفي قولك: ما خرج إلا زيد، خرج زيد. وكذلك لو قيل: آيتك أن تكلم الناس رمزاً كان كلاماً صحيحاً وليس كذلك الاستثناء في نحو: ليس القوم في الدار إلا زيداً وإلا زيد فلو حذفت النافي والموجب فقلت: القوم في الدار زيداً أو زيد لم يستقم وكذلك ما خرج إخوتك إلا جعفر، لو قلت: خرج إخوتك جعفر لم يجز وكذلك الإستثناء المنقطع نحو: ما خرج القوم إلا حماراً، لو قلت: خرج القوم حماراً لم يستقم فاعرف الفرق بين الكلامين ثم أقول إن المستثنى الذي من جنس الأول يصح أن

يقع به الفعل الذي عمل في الأول تقول: ما لقيت أحداً إلا حماراً فيصح أن تقول: لقيت حماراً. وكذلك ما مر بي أحد إلا غزالاً يصح أن تقول: مربي غزال ولا يصح أن توقع التكليم بالرمز فنقول: كلمت رمزاً كما تقول: كلمت زيداً. وقال في قوله تعالى: (تعالواْ إلى كلمةٍ سواءِ بيننا وبينكمْ ألَّا نعبدَ إلا اللهَ) أن في موضع خفض بدل من كلمة وإن شئت في موضع رفع على إضمار مبتدأ تقديره: هي أن لا نعبد، ويجوز أن تكون مفسرة بمعنى أي على أن تجزم نعبد ونشرك بلا، ولو جعلت أن مخففة من الثقيلة رفعت نعبد ونشرك وأضمرت الهاء. انتهى كلامه. وأقول أغرب الوجوه التي قد ذكرها في إعراب نعبد وما عطف عليه الجزم، قال الزجاج: لو كان أن لا نعبد إلا الله بالجزم ولا نشرك لجاز على أن تكون أن مفسرة في تأويل أي ويكون "لا نعبد" على جهة النهي والمنهي هو الناهي في الحقيقة كأنهم نهوا أنفسهم. انتهى كلام أبي إسحاق. وأقول إن النهي قد يوجهه الناهي إلى نفسه إذا كان له فيه مشارك كقولك لواحد أول لأكثر: لا نسلم على زيد ولا ننطلق إلى أخيك، وكذلك الأمر كقولك: لنقم إلى زيد ولتنطلق إلى أخيك كما جاء في التنزيل: (ولنحملْ خطاياكمْ) .. وليس لمكي فيما أورد من الكلام في هذه الآية زلة وإنما ذكرت ما ذكرته فيها لما فيه من الفائدة.

وقال في قوله جل وعز: (لن يضرُّوكمْ إلَّا أذى) في موضع نصب استثناء ليس من الأول. وهذا القول النظير ما قاله في قوله تعالى: (إلا رمزاً) إنما أذى موضعه نصب بتقدير حذف الخافض أي لن يضروكم إلا بأذى (لأنك لو حذفت لن وإلا فقلت: يضروكم بأذى) كان مستقيماً. وقال في قوله: (ربَّنا أخرجنا منْ هذهِ القريةِ الظَّالمِ أهلها) إنما وحد الظالم لجريانه على موحد. قوله وحد لجريانه على موحد قول فاسد لأن الصفة إذا ارتفع بها ظاهر وحدت وأن جرت على مثنى أو مجموع نحو: مررت بالرجلين الظريف أبواهما وبالرجال الكريم آباؤهم لأن الصفة التي ترفع الظاهر تجري مجرى الفعل الذي يرتفع به الظاهر في نحو: خرج أخواك وينطلق غلمانك. وحكى عن الراء أن "الصابئون" من قول الله تعالى: (إنَّ الَّذينَ

آمنواْ والَّذينَ هادواْ والصَّابئونَ والنَّصارى) معطوف على المضمر في هادا فنسب إليه ما لم يقله عن نفسه وإنما حكاه عن الكسائي وأبطله الفراء من وجه أبطله مكي فقال في كتابه الذي ضمنه معاني القرآن: قال الكسائي: ترفع الصابئون على اتباعه الإسم الذي في هادوا ويجعله من قوله: (إنَّا هدنا إليكَ) أي تبنا ولا يجعله من اليهودية. قال الفراء: وجاء التفسير بغير ذلك لأنه أراد بقوله (الذين آمنوا) الذين آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ثم ذكر اليهود والنصارى والصابئين فقال: من آمن منهم فله كذا وكذا فجعلهم منافقين ويهودا ونصارى وصابئين. انتهى كلام الفراء. يعني أنه إذا صار معنى هادوا تابوا هم والصابئون بطل ذكر اليهود في الآية وأما الوجه الذي أبطل به مكي قول الكسائي وعزاه إلى الفراء فقوله: وقد قال الفراء في "الصابئون" هو عكف على المضمر في هادوا قال: وهذا غلط لأنه يوجب أن يكون الصابئون والنصارى يهوداً وأيضاً فإن العطف على المضمر المرفوع قبل أن يؤكد أو يفصل بينهما بما يقوم مقام التوكيد قبيح عند بعض النحويين ثم ذكر وجوها في رفع الصابئين.

وأقول إنك إذا عطفت على اسم إن قبل الخبر لك يجز في المعطوف إلا النصب نحو: إن زيداً وعمراً منطلقان ولا يجوز أن ترفع المعطوف حملا على موضع إن واسمها لأن موضعهما رفع بالابتداء ومنطلقان خير عنه وعن اسم إن فقد أعملت في الخبر عاملين الابتداء وإن وغير جائز أن يعمل في اسم عاملان وإن لم تثن الخبر فقلت: إن زيداً وعمرو منطلق ففي ذلك قولان: أحدهما أن يكون خبر إن محذوفاً دل عليه الخبر المذكور فالتقدير: إن زيداً منطلق وعمرو منطلق وإلى هذا ذهب أبو الحسن الأخفش وأبو العباس المبرد. والآخر قول سيبويه: وهو أن يكون الخبر المذكور خبر إن وخبر المعطوف محذوفاً فالتقدير: إن زيداً منطلق وعمرو كذلك فالتقدير في الآية على المذهب الأول: إن الذين آمنوا والذين هادوا من آمن بالله أي: من آمن منهم بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلا خوف عليهم (والصابئون والنصارى من آمن منهم بالله واليوم الآخر وعمل (صالحاً) فلا خوف

عليهم) فحذف الخبر الأول لدلالة الثاني عليه. وعلى المذهب الآخر وهو أن يكون الخبر المذكور خبر وإن وخبر الصابئين والنصارى محذوف كأنه قيل: والصابئون والنصارى كذلك.

المجلس الحادي والثمانون

المجلس الحادي والثمانون يتضمن ذكر ما لم نذكره من زلات مكي فمن ذلك غلطه في قوله في سورة الأنعام: (وكذلكَ نفصّلُ الآياتِ ولتستبينَ سبيلُ المجرمينَ) قال: من قرأ بالتاء ونصب السبيل جعل التاء علامة خطاب واستقبال وأضمر اسم النبي في الفعل. ومن قرأ بالتاء ورفع السبيل جعل التاء علامة تأنيث واستقبال ولا ضمير في الفعل ورفع السبيل بفعله. حكى سيبويه: استبان الشيء واستبنته أنا. فأما من قرأ بالياء ورفع السبيل فإنه ذكر السبيل لأنه مما يذكر ويؤنث ورفعه بفعله ومن قرأ بالياء ونصب السبيل أضمر اسم النبي عليه السلام في الفعل ونصب السبيل لأنه مفعول به. واللام في ("لتستبين" متعلقة بفعل محذوف تقديره): ولتستبين سبيل المجرمين فصلناها. انتهى كلامه. وأقول إنه غلط في قوله واستقبال بعد قوله: جعل التاء علامة خطاب

وجعل التاء علامة تأنيث لأن مثال تستفعل لا شبه بينه وبين مثال الماضي فتكون التاء علامة للاستقبال، فقولك: تستقيم أنت وتستعين وهي لا يكون إلا للاستقبال تقول: أنت تستقيم غداً وهي تستعين بك بعد غد ولا تقول: تستقيم ولا تستعين أول من أمس بخلاف تفعل لأنك إذا قلت: أنت تبين حديثها وهي تبين حديثك أردت تتبين فحذفت التاء الثانية استثقالاً للجمع بين المثلين متحركين كما حذفت من قوله: (تنزَّلُ الملائكةُ والرُّوحُ فيها) الأصل تتنزل ففعل فيه ما ذكرنا من حذف الثانية ولما حذفت التاء من قولك تتبين صار بلفظ الماضي في قولك: قد تبين الحديث وفي قوله تعالى: (قد تَّبيَّنَ الرُّشدُ منَ الغيّ) فحصل الفرق بين الماضي والمستقبل باختلاف حركة آخرهما ففي هذا النحو يقال للخطاب والاستقبال أو للتأنيث والاستقبال. السبيل مما ذكروه وأنثوه فالتأنيث في قوله تعالى: (قلْ هذهِ سبيليَ) والتذكير في قوله تعالى: (وإن يرواْ سبيلَ الرُّشدِ لا يتخذوهُ سبيلاً وإن يرواْ سبيلَ الغيّ يتخذوهُ سبيلاً) وقال في جنات من قوله عز وجل: (وهوَ الَّذي أنزلَ منَ السَّماءِ ماءً فأخرجنا بهِ نباتَ كلِّ شيءٍ فأخرجنا منهُ خضراً نُّخرجُ منهُ حبّاً متراكباً ومنَ

النَّخلِ من طلعها قنوانٌ دانيةٌ وجنَّاتٍ منْ أعنابٍ) من نصب جنات عطفها على نبات وقد روي الرفع عن عاصم على الابتداء بتقدير: لهم جنات ولا يجوز عطفها على قنوان لأن الجنات لا تكون من النخل. أراد أنك لا ترفع جنات بالعطف على قنوان من قوله: (قنوان دانية) لأن القنوان جمع قنو وهو العذق التام ويقال له أيضاً الكباسة فلو عطفت جنات على قنوان صار المعنى: ومن النخل لا تكون من النخل فيه لبس لأنه يوهم أنها لا تكون إلا من العنب دون النخل وليس الأمر كذلك بل قد تكون الجنة من العنب على انفراد وتكون من النخل على انفراد وتكون منهما معاً فدلالة كونها منهما معاً قوله: (أوْ تكونَ لكَ جنَّةٌ من نَّخيلٍ وعنبٍ). ودلالة كونها من الخل بانفراد قول زهير: كأن عيني في غربي مقتلة ... من النواضح تستقي جنة سحقا

قوله سحقاً صفة لمضاف محذوف فالتقدير: تسقي نخل جنة سحقاً لأن السحق جمع سحوق وهي النخلة الباسقة فكان الصواب أن يقول: لأن الجنات التي من الأعناب لا تكون من النخل. قول زهير: كأن عيني في غربي مقتلة: الغربان الدلوان الضخمان والمقتلة المذللة وإنما جعلها مذللة لأن المذللة تخرج الغرب ملآن يسيل من نواحيه، والصعبة تنفر فتهريقه فلا يبقى منه إلا صبابة، وكل بعير استقي عليه فهو ناضح والرجل الذي يستقى عليه ناضح. ومن أغاليطه (قوله في) قوله تعالى في سورة الأعراف: (حتَّى إذا ادَّاركواْ يها) أصل اداركوا ثم أدغمت التاء في الدال فسكن أول المدغم فاحتيج إلى ألف الوصل فثبتت الألف في الخط ولا تستطاع على وزنها مع ألف الوصل لأنك ترد الزائد أصلياً فتقول وزنها افاعلوا فتصير تاء تفاعلوا فاء الفعل لإدغامها في فاء الفعل وذلك لا يجوز فإن وزنتها على الأصل جاز فقلت تفاعلوا. انتهى كلامه. وأقول: إن عبارته في هذا الفصل مختلة ورأيت في نسخة من هذا التأليف: لا يستطاع على وزنها بالياء والصحيح استعماله بغير الجار: لا يستطاع على وزنها بالياء والصحيح استعماله بغير الجار: لا يستطاع وزنها لأن استطعت مما يتعدى بنفسه كما جاء: (فلا

يستطيعونَ توصيةً) وتستطاع بالتاء جائز على قلق فيه وكان الأولى أن يقول: ولا يسوغ وزنها مع التلفظ بتاء تفاعلوا فاء ثم أن منعه أن توزن هذه الكلمة وفيها ألف الوصل غير جائز لأنك تلفظ بها مع إظهار التاء فتقول وزن اداركوا اتفاعلوا وإن شئت قلت: ادفاعلوا فلفظت بالدال المبدلة من التاء. وقال في قوله تعالى: (ساءَ مثلاً القومُ) في ساء ضمير الفاعل ومثلاً تفسير والقوم رفع بالابتداء وما قبلهم خبرهم أو رفع على إضمار مبتدأ تقديره: ساء المثل مثلاُ هم القوم الذين كذبوا مثل: نعم رجلا زيد. وقال الأخفش: تقديره: ساء مثلاً مثل القوم. قلت: ساء بمنزلة بئس وهذا الباب لا يكون فيه المقصود بالذم والمدح إلا من جنس الفاعل فلا يجوز: بئس غلامك إلا أن يراد: مثل غلامك فحذف المضاف. فقول الأخفش هو الصواب ومن زعم أن التقدير: ساء مثلاً هم القوم فقد أخطأ خطأً فاحشاً. ومن أغاليطه الشائعة أقوال حكاها في سورة الأنفال في قوله تعالى: (كما أخرجكَ ربُّكَ من بيتكَ بالحقِّ) قال: الكاف من كما في

موضع نصب نعت لمصدر يجادلونك أي جدالاً كما وقيل: هي نعت لمصدر يدل عليه معنى الكلام تقديره: الأنفال ثابتة لله والرسول ثبوتاً كما أخرجك. وقيل: هي نعت لحق أي هم المؤمنون حقاً كما. وقيل: الكاف في موضع رفع والتقدير: كما أخرجك ربك من بيتك بالحق فاتقوا الله فهو ابتداء وخبر. وقيل: الكاف بمعنى الواو للقسم أي: الأنفال لله والرسول والذي أخرجك. انتهى كلامه. وهذه الأقوال رديئة منحرفة عن الصحة انحرافاً كلياً وأوغلها في الرداءة القول الرابع والخامس. فقوله: الكاف من كما في موضع رفع بالابتداء وخبره فاتقوا الله قول ظاهر الفساد من وجوه: أحدها أن الجملة التي هي "فاتقوا الله" مع تقديمها على الكاف بينها وبين الكاف فصل بثلاث آيات وبعض آية رابعة وهذا الفاصل مشتمل على عشر جمل وليس في كلام للعرب ولا في الشعر الذي هو محل الضرورات خبر قدم على المخبر عنه مع الفصل بينهما بعشر جمل أجنبية. والثاني دخول الفاء في الجملة التي زعم أنها الخبر والفاء لا تدخل في خبر المبتدأ إلا أن يغلب غليه شبه الشرط بأن يكون اسماً موصولاً بجملة فعلية أو يكون نكرة موصوفة كقولك: الذي يزورني فله درهم وكل رجل يزورني فله درهم، أو يكون خبر المبتدأ الواقع بعد أما. والثالث أن الجملة التي هي قوله: (فاتَّقوا اللهَ) خالية من ضمير يعود على الكاف الذي زعم أنه

مبتدأ وهي مع ذلك جملة أمرية والجمل الأمرية لا تكاد تقع أخباراً إلا نادراً، وتمثيل هذا الذي قد قدره قائله وهو تقدير باطل قولك: فاتق الله كما أخرجك زيد من الدار وأي فائدة في انعقاد هذين الكلامين. والقول الآخر التابع لما قبله في الرذالة والآخذ بالحظ الوافر من الاستحالة قول من زعم أن الكاف للقسم بمنزلة الواو. وهذا مما لا تجوز حكايته فضلاً عن تقبله وما علمت في مذهب أحد ممن يوثق بعلمه في النحو بصري ولا كوفي أن الكاف يكون بمنزلة الواو في القسم فلو قال قائل: كالله لأخرجن يريد والله لأخرجن لاستحق أن يبصق في وجهه، ثم أنه قد جعل هذا القسم واقعاً على أول السورة. وجعل ما التي في قوله: (كما أخرجك) بمعنى الواو فقال في حكايته: الأنفال لله والرسول والذي أخرجك. وذا لو كان على ما يلفظ به لوجب أن يكون فاعل أخرجك مضمراً عائداً على الذي وكيف يكون في أخرجك ضمراً عائداً على الذي وكيف يكون في أخرجك ضمير والفاعل ربك فكأنه قيل (له الأنفال لله والرسول والذي أخرجك ربك) ثم تعليقه لهذا الذي زعم أنه قسم بأول السورة يجري مجرى القول الذي قبله في تباعد المتعاقدين. وأما قوله: إن موضع الكاف نصب على أنها نعت لمصدر يجادلونك (فإنه أيضاً قول فاسد لأن قوله: يجادلونك) في الحق معناه: في إخراجك من بيتك وخروجهم معك

فلهذا قال: (كأنَّما يساقونَ إلى الموتِ) فيكون المعنى على هذا التأويل: يجادلونك في إخراجك من بيتك جدالاً مثل ما أخرجك ربك من بيتك فهذا تشبيه الشيء بنفسه لأنه تشبيه إخراجه من بيته بإخراجه من بيته. وقوله: إن الكاف يكون نعتاً لمصدر يدل عليه معنى الكلام تقديره: قل الأنفال ثابتة لله والرسول ثبوتاً كما أخرجك، فهذا أيضاً ضعيف التباعد ما بينهما. وأقرب هذه الأقوال إلى الصحة قوله: إن الكاف يكون نعتاً للمصدر الذي هو "حقاً" لأمرين أحدهما تقارب ما بينهما والآخر أن إخراجه من بيته كان حقاً بدلالة وصفه بالحق في قوله: (كما أخرجك ربُّك من بيتك بالحقِ) وإيراد مكي لهذه الأقوال الفاسدة من غير إنكار شيء منها دليل على أنه كان مثل قائليها في عدم البصيرة.

والقول في تحقيق إعراب هذا الحرف أن قوله تعالى: (يسألونكَ عنِ الأنفالِ) الآية في أنفال أهل بدر وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى قلة أصحابه وكراهيتهم للقتال قال ليرغبهم في القتال: من قتل قتيلاً فله كذا ومن أسر أسيراً فله كذا فما فرغ من أهل بدر قام سعد ابن معاذ فقال: يا رسول الله إن نفلت هؤلاء ما سميت لهم بقي كثرة من المسلمين بغير شيء فأنزل الله: (قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله في قسمة المغانم فهي له يصنع فيها ما يشاء) فسكتوا وفي أنفسهم من ذلك كراهية وهو قوله: كما أخرجك ربك من بيتك بالحق على كره منهم ومن المسلمين فامض لأمر الله في المغانم كما مضيت على مخرجك وهم له كارهون. فموضع الكاف على هذا رفع بأنها مع ما اتصلت به خبر مبتدأ محذوف فالتقدير: كراهيتهم لقسمتك الأنفال كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وأن فريقاً من المؤمنين لكارهون. فقوله: كما أخرجك معناه: مثل إخراجك. وإن قدرت المبتدأ هذا وأشرت به إلى كراهيتهم لقسمة النبي الأنفال فأردت: هذا لكما أخرجكم (معناه مثل إخراجك) ربك من بيتك بالحق فحسن وبالله التوفيق. ومن أغاليطه في سورة براءة ما قاله في قوله تعالى: (الَّذينَ يلمزونَ

المطّوِّعينَ منَ المؤمنينَ في الصَّدقاتِ والَّذينَ لا يجدونَ إلَّا جهدهمْ فيسخرونَ منهمْ) قال: والذين لا يجدون في موضع خفض عطف على المؤمنين ولا يحسن عطفه على المطوعين لأنه لم يتم اسماً بعد لأن "فيسخرون" عطف على "يلمزون" هكذا ذكر النحاس في الإعراب له وهو عندي وهم منه. انتهى كلامه. يعني أن النحاس ذكر أن قوله: (والذين لا يجدون) عطف على "المطوعين" ومنه هو من هذا لأن المطوعين بزعمه لم تتم صلته وليس الأمر على ما قال بل صلة الألف واللام من المطوعين آخرها قوله (في الصدقات) واحتج بأن المطوعين لم تتم صلته بعطف يسخرون على يلمزون وأي حجة في هذا ويلمزون قبل المطوعين، وزعم أن الذين لا يجدون عطف على المؤمنين وهذا غير صحيح لأن تقدير الكلام على قوله: يلمزون من تطوع من المؤمنين ومن الذين لا يجدون إلا جهدهم فيكون الذين لا يجدون إلا جهدهم غير مؤمنين لأن المعطوف يلزمه أن يكون غير المعطوف عليه، تقول: جاءني أصحابك والرجال النصارى فيكون النصارى غير أصحابك وجاءني الرجال النصارى وأصحابك فيكون أصحابك غير نصارى والصواب عطف الذين لا

يجدون على المطوعين فالتقدير: يلمزون الأغنياء المطوعين ويلمزون ذوي الأموال الحقيرة الذين لا يجدون إلا جهدهم، وذلك أن عبد الرحمن بن عوف أتى بصرة من الذهب تملأ الكف وأتى رجل يقال له أبو عقيل بصاع من تمر فعابه المنفقون بذلك فقالوا: رب محمد غني عن صاع هذا. فالنحاس إذن مصيب والراد عليه هو المخطئ. وقال في قوله تعالى في سورة يونس: (ولوْ يعجِّلُ اللهُ للنَّاسِ الشَّرَّ استعجالهم بالخير) قوله استعجالهم مصدر تقديره: استعجالاً مثل استعجالهم ثم أقام الصفة وهي مثل مقام الموصوف وهو الاستعجال ثم أقام المضاف وهو مثل، هذا مذهب سيبويه. وقيل تقديره (في استعجالهم وقيل) كاستعجالهم فلما حذف حرف الجر نصب ويلزم من قدر حذف حرف الجر منه أن يجيز: زيد الأسد فينصب الأسد على تقدير: كالأسد. قلت لا يلزم من قدر الكاف في قوله استعجالهم أن يجيز: زيد الأسد لأن الكاف حرف شاعت فيه الاسمية حتى دخل عليه الخافض وأسند إليه الفعل وليس من الحروف الخافضة التي إذا أسقطتها نصبت ما

بعدها وإنما هي أداة تشبيه إذا حذفت جرى ما بعدها على إعراب ما قبلها كقولك: فينا رجل كأسد ورأيت رجلاً كأسد ومررت برجل كأسد. تقول إذا ألقيته: فينا رجل أسد ورأيت رجلاً أسداً ومررت برجل أسد فلا يجوز: زيد الأسد بالنصب لأن منزلتها منزلة مثل في قولك: زيد مثل بكر، تقول إذا حذفت مثلاً: زيد بكرٌ كما قال الله تعالى: (وأزواجهُ أمَّهاتهمْ) ولعمري أن قول سيبويه في الآية هو الوجه ومن قدر الكاف وحذفها فنصب ما يعدها فلأن ما قبلها منصوب. وقال في قوله تعالى: (فزيَّلنا بينهمْ) هو فعلنا من زلت الشيء عن الشيء فأنا أزيله إذا نحيته والتشديد للتكثير ولا يجوز أن يكون فيعلنا من زوال يزول لأنه يلزم فيه الواو فيقال: زولنا. وحكى أنه فريء: فزايلنا من قولهم: لا أزايل فلاناً أي لا أفارقه ومعنى زايلنا وزيلنا واحد. انتهى كلامه. أما قوله لا يجوز أن يكون فيعلنا من زال يزول لأنه يلزم فيه الواو فيقال زولنا صحيح من قبل أنه لو كان فيعلنا من زال يزول كان أصله زيولنا ثم تصير الواو ياء لوقوع الياء قبلها ساكنة ثن تدغم الياء في الياء فقال: زيلنا وذلك أن من شرط الياء والواو إذا تلاصقنا والأولى منهما ساكنة أن تقلب الواو يا ولا تقلب الياء واواً كما زعم مكي فمما تقدمت فيه الياء قولهم في فيعل من الموت ميت ومن هان يهون سواد يسود هين

وأقول إن "إن" ليست من الحروف التي تنصب الأحوال كما تنصبها كأن نحو كأن زيدا

وسيد الأصل: ميوت وهيون وسيود ففعل فيهن ما ذكرنا. ومما تقدمت فيه الواو الشي والطي واللي مصادر شويت وطويت ولويت أصلهن: شوي وطوي ولوي ثم صرن إلى القلب والإدغام. وقال في قوله تعالى في سورة الحجر: (إنَّ المتَّقينَ في جنَّاتٍ وعيونٍ ادخلوها بسلامٍ آمنينَ ونزعنا ما في صدورهمْ مّنْ غلِّ إخواناً) إخوانا حال من المتقين أو من الضمير المرفوع في "ادخلوها" أو من الضمير في "آمنين" ويجوز أن يكون حالاً مقدرة من الهاء والميم في "صدورهم". وأقول إن "إن" ليست من الحروف التي تنصب الأحوال كما تنصبها كأن نحو كأن زيداً محاراً أسد لما في كأن من التشبيه الذي ضارعت به الفعل ولكن ويجوز أن يكون قوله "إخواناً" حالاً من المضمر في الظرف الذي هو خبر إن لأنه ظرف تام والظروف التوامُّ تنصب الأحوال لنيابتها عن الاستقرار والكون فالتقدير إن المتقين مستقرون في جنات، وجاز أن يكون "إخواناً" حالاً من هذا الضمير على ضعف وذلك لبعد الحال منه لأن مجموع هذه الآيات تشتمل على ثلاث جمل الأولى أن المتقين في جنات. والثانية ادخلوها بسلام. والثالثة ونزعنا ما في صدورهم من غلٍّ. فإن جعلت إخواناً حالاً من الواو في "أدخلوها" فهي

حال مقدرة لقوله (على سررٍ متقابلين) لأنهم لا يدخلونها وهم متقابلون على سرر وإنما يكون ذلك بعد الدخول فالتقدير مقدرين التقابل على سرر. وإن جعلت الحال من المضمر في "آمنين" فحسن. وإن جعلتها من الضمير الذي هو الهاء والميم في "صدورهم" فالحال من المضاف إليه ضعيفة وقد بسطت القول في هذا النحو فيما تقدم ولكن يجوز ويحسن أن يكون قوله "إخوانا" حالاً من هذا الضمير شيئان أحدهما قربه منه والآخر أن المضاف الذي هو الصدور بعض المضاف إليه فكأنه قيل ونزعنا ما فيهم من غل، فليس هذا المضاف كالمضاف في قول تأبط شراً سلبت سلاحي بائساً وشتمتني فاعرف الفرق بين الحالين. وقال في قوله عز وجل في سورة مريم: (ثمَّ لننزعنَّ من كلِّ شيةٍ أيُّهمْ أشدُّ) ذهب يونس إلى أن (أيُّهم) رفع بالابتداء لا على

الحكاية ويعلق الفعل وهو "لننزعنّ" فلا يعمله في اللفظ. ولا يجوز عليق مثل لننزعن عند سيبويه والخليل وإنما يجوز أن يعلق أفعال الشك وشبهها مما لم يتحقق وقوعه. قلت: اختصاصه بالتعليق أفعال الشك وشبهها مما لم يتحقق وقوعه خطأ لأن أفعال العلم ولها في تحقق الوقوع القدم الراسخة، فمما علق فيه الماضي منها عن لام الابتداء قوله تعالى: (ولقدْ علمواْ لمنِ اشتراهُ مالهُ في الآخرةِ منْ خلاقٍ) ومما علق فيه المستقبل منها عن الاسم الاستفهامي قوله: (ولتعلمنَّ أيُّنا أشدُّ عذاباً). هذه جملة ما علقت به من سقطات هذا الكتاب على أنني لم أبالغ في تتبعها وإنما ذكرت هذه الردود على هذه الأغاليط لئلا يغتر بها مقصر في هذا العلم فيعول عليها ويعمل بها والله ولي التوفيق للصلاح في كل ما أنويه واعتمده بمنه وطوله.

مما دقق فيه أبو الطيب قوله: لا يستكنُ الرعبُ بين ضلوعه ... يوماً ولا الإحسان أن لا يحسنا وأقول إن الإحسان في اللغة على معنيين الأول نظير الإنعام ونقيض الإساءة ويتعدى فعله بحرف خفض إما إلى أو الباء، تقول: أحسنت إليه كما جاء: (وأحسن كما أحسنَ اللهُ إليكَ)، وإن شئت: أحسنت به كما (جاء في التنزيل أيضاً): (وقدْ أحسنَ بي إذْ أخرجني منَ السِّجنِ)، وكذلك نقيضه تقول: أسأت إليه وأسأت به، قال كثير: أسيئي بنا أو أحسني لا ملومةٌ ... لدينا ولا مقليَّةٌ إنْ تقلَّتِ والثاني أن يكون الإحسان بمعنى إجادة العمل، يقال: هو يحسن كذا، إذا كان عارفاً به حاذقاً له وفعله يتعدى بنفسه كما ترى، ومنه التنزيل: (وهمْ يحسبونَ صنّعاً)، وقال امرؤ القيس:

وقد زعمت بسباسةُ اليومً أنني ... كبرتُ وأن لا يحسنُ اللهوَ أمثالي وقال الراجز: قد قارعتْ معنٌ قراعاً صلبا=قراعَ قومٍ يحسنونَ الَّضربا فقول أبي الطيب: "أن لا يحسنا" معمول الإحسان فكأنه قال: ولا يستكن بين ضلوعه أن يحسن أن لا ينعم، ومثله قول الآخر: يحسنُ أن يحسنَ حتى إذا ... رامَ سوى الإحسان لم يحسنِ المعنى يجيد أن ينعم حتى إذا ما رام سوى الإنعام لم يجد ما رامه. ومن قيله: منًى كنَّ لي أنّ البياضَ خضابُ ... فيخفى بتبييض القرونِ شبابُ لياليَ عند البيضِ فواديَ فتنةٌ ... وفخرٌ وداكَ الفخرُ عندي عابُ منًى مبتدأ وإن كان نكرة وقد يفيد الابتداء بالنكرة إذا أخبرت عنها

بجملة تتضمن اسماً معرفة كقولك: امرأة خاطبتني، وكذلك إن أخبرت بظرف مضاف إلى معرفة كقولك: رجل خلفك، قال الهذيل بن مجاشع: ونارُ القرى فوقَ اليفاع ونارهم ... مخبأةٌ بتُّ عليها وبرنسُ البت الكساء الغليظ. وإنما ضعف الابتداء بالنكرة لأن النفس تتنبه بالمعرفة على طلب الفائدة وإذا كان المخبر عنه مجهولاً كان المخبر حقيقياً بإطراح الإصغاء إلى خبر من لا يعرفه. وحدُّ الكلام إذا كان المبتدأ منكوراً وتضمن خبره اسماً معروفاً أن يقدم الخبر كقولك: لزيد مال لأن الغرض في كل خبر أن يتطرق إليه بالمعرفة فيصدر الكلام بها وهذا موجود هاهنا لأنك وضعت زيداً ومجروراً لتخبر عنه بأن له مالا قد استقر له فقولك: لزيد مال في تقدير: زيد ذو مال فالمبتدأ الذي هو مال هو الخبر في الحقيقة وقولك: لزيد هو المبتدأ في المعنى، وقوله: متى كن لي، مفيد لأن في ضمن الخبر ضمير المتكلم وهو أعرف المعارف، ولو قال: منًى كنَّ لرجل لم يحصل بذلك فائدة لخلوه من اسم معروف فاحتفظ بهذا الفصل فإنه أصل كبير. وقوله: أن البياض خضاب منقطع من أول البيت وتحتمل أن الرفع والنصب فالرفع على إضمار مبتدأ كأنه (قال إحداهن أن البياض خضاب لأنه) قد أخبر بأن ذلك كان في أيام حداثته وريعان شبيبته بقوله: ليالي

عند البيض فوادي فتنة، الفود: معظم شعر اللمة مما يلي الأذنين. وأما النصب فعلى إضمار تمنيت لدلالة منى عليه كما أضمر نتبع في قوله تعالى: (فلْ بلْ ملَّةَ إبراهيمَ)، وكإضمار أشدد في قول أحيحة بن الجلاح: ألا أبلغ سهيلاً أنني ما عشت كافيكا ... حيازيمك للموتِ فإن الموت لاقيكا فإن قيل أن التمني مما لم يثبت كالرجاء والطمع فلا يقع على أن الثقيلة لأنها للتحقيق فهي أشبه بأفعال اليقين وإنما يقع التمني وما شاكله على أن الخفيفة لأنها تخلص الفعل للاستقبال فهي أشبه بالطمع والرجاء والتمني من حيث تعلقت هذه المعاني بما يتوقع، ومنه قول لبيد: تمنّى ابنتايَ أنْ يعيشَ أبوهما ... وهل أنا إلا من ربيعةَ أو مضرْ فيل لا يمتنع وقوع التمني على أن الثقيلة كما لم يمتنع وقوع (وددت) عليها ووددت وتمنيت بمعنى واحد، فمن ذلك في التنزيل: (وتودُّونَ أنَّ غيرَ ذاتِ الشوكة تكونُ لكمْ)، ويدلك على أن وددت وتمنيت معناهما واحد قوله تعالى: (يومئذٍ يودُّ الَّذينَ كفرواْ وعصواْ

الرَّسولَ لوْ تسوَّى بهم الأرضُ) والمعنى: لو يجعلون والأرض سواء كما قال: (يومَ ينظرُ المرءُ ما قدَّمتْ يداهُ ويقولُ الكافرُ يا ليتني كنتُ تراباً) وهذا استدلال أبي علي. ويجري مجرى التمني فيما ذكرته الخوف، وقد جاء: (وأخاف أن يأكله الذئب)، وجاء (ولا تخافون أنكم أشركتم بالله)، ومثل تمنيت اشتهيت، قال أبو تمام: مضى طاهر الأثواب لم تبق بقعة ... غداة ثوى إلا اشتهت أنها قبر وجاء صريح التمني في قول الآخر: ما روضةٌ إلا تمنَّتْ أنّها ... لك مضجعٌ ولخطِّ قبرك موضعُ ويجوز أن تكون (ممنى) منصوبة نصب الظروف والجملة التي هي كان واسمها وخبرها نعت لها فتتصل أن بما قبلها كأنه قال: في منى كن لي أن البياض خضاب أي في جملة منى كما قالوا: أحقاً أنك ذاهب، وأكبر ظني انك مقيم، يردون: في حق وفي أكبر ظني. وإذا أردت

معنى الظرفية في (منى) فلك في أن مذهبان: فمذهب سيبويه والأخفش والكوفيين رفع بالظرف يرتفع عند سيبويه بالظرف ارتفاع الفاعل، وقد مثل ذلك بقوله: غداً الرحيل، وأحقاً أنك ذاهب، والحق أنك ذاهب قال: حملوه على: أفي حق أنك ذاهب، قال: وكذلك إن أخبرت فقلت: حقاً أنك ذاهب، والحق أنك ذاهب، وأكبر ظني أنك ذاهب. وإذا كان هذا مذهب سيبويه مع من ذكرناه فالمنية تقارب الظن، فيحسن أن تقول: أكبر مناي أنك ذاهب فتنصب (أكبر) بتقدير (في)، وأنشد سيبويه في ذلك للأسود بن يعفر: أحقاً بني أبناء سلمى بن جندلِ ... تهددكم إيايَ وسطَ المجلسِ وأنشد: أحقاً أن جيرتنا استقلوا ... فنيتنا ونيتهم فريقُ في أبيات أخر، فهذا أحد المذهبين. والمذهب الآخر مذهب الخليل، وذلك أنه يرفع اسم الحدث بالابتداء ويخبر بالظرف المتقدم، حكى ذلك عنه سيبويه في قوله: وزعم الخليل أن (التهدد) ههنا، يعني في بيت الأسود، بمنزلة:

الرحيل بعد غد وأن (أن) بمنزلة وموضعها كموضعه. انتهت حكايته عن الخليل وأقول: إن اعترض معترض وقال: كيف تحكمون على أن المفتوحة بالابتداء والعرب لم تبتدئ بها؟ فالجواب: أنهم لم يبتدئوا بها لئلا يعرضوها لدخول إن المكسورة عليها، وإذا كانوا قد كرهوا دخول المكسورة على لام التوكيد لأنهما بمعنى واحد فكراهيتهم لدخولها على أن مع تقارب لفظيهما واتفاقهما في العمل والمعنى أشد فلما ألزموها التأخير استجازوا رفعها بالابتداء لأن إن المكسورة لا تباشرها إذا دخلت على الجملة كقولك: إن من الصواب أنك تنطلق، ومثل قوله: أحقاً أن جيرتنا استقلوا، (ومنْ آياتهِ أنَّكَ ترى الأرضَ خاشعةً) على المذهبين. قال أبو العلاء المعري في تفسير قوله: منًى كنَّ لي ... البيت: لو إن هذا الكلام في غير الشعر لكان ثبوت الألف واللام في (شباب) أحسن لأنه مضاه لقولهم: المشيب، وكانت العرب في الجاهيلة إذا اتفق لها مثل هذا آثرت دخول لام التعريف وإن قبح في السمع، وأكثر ما يجيء في شعر امرئ القيس فمنه قوله: فان أمسِ مكروباً فيا ربَّ بهمةٍ ... كشفت إذا ما اسودَّ وجهُ الجبانِ فقد أساءت الألف واللام والوزن عند السامع وآثرها قائل البيت على الحذف ولو حذف لكان الحذف أحسن في الغريزة ولكن دخول الألف واللام أثبت في تمكين اللفظ، وكذلك قوله:

فلما أجنّ الشّمسَ عني غؤورها ... نزلت إليه قائماً بالحضيضِ وأقول: إن اللام فيما ذكره أبو العلاء لا تخلو أن تكون لتعريف الجنس أو تكون عوضاً من تعريف الإضافة إلى الضمير فكونها لتعريف الجنس في مثل قوله: وجه الجبان، وكونها عوضاً من تعريف الإضافة في مثل قولك: حسن الوجه، الأصل: حسن وجهه فلما حذفت الهاء من وجهه عرفته باللام، ولو قلت: حسن وجهٍ، جاز على ضعف لأنه قد علم أنك لا تعني من الوجوه إلا وجه المذكور، فحق شباب في بيت المتنبي أن يكون معرفاً باللام عوضاً من تعريف الإضافة إلى الضمير من حيث كان مراده، شبابي فدخول اللام ههنا لو استعمل أقلق الوزن إلا أنه كان يكمل المعنى واللفظ على أن إسقاط اللام منه زحاف، وقد قيل: رب زحاف أطيب في الذوق من الأصل. قال أبو الفتح في تفسير البيت: يقول شيبي هذا منى كن لي قديماً وإنما كنت أتمنى المشيب ليخفي شبابي. والقرون الذوائب واحدها قرن.

مسألة الفرق بين اسم الفاعل والمصدر في العمل

مسألة الفرق بين اسم الفاعل والمصدر في العمل إن اسم الفاعل يضاف إلى المفعول ولا يضاف إلى الفاعل لأن اسم الفاعل عبارة عن الفاعل والشيء لا يضاف إلى نفسه. والمصدر يضاف إلى الفاعل والمفعول. واسم الفاعل يعمل إذا كان للحال أو الاستقبال ولا يعمل إذا كان لما مضى وذلك لأن اسم الفاعل يشبه الفعل المضارع ولا يشبه الماضي من جهة أنه يجري على المضارع في حركاته وسكونه وعدد حروفه فمدحرج جار على يدحرج وليس بجار على دحرج فلما أشبه بجريانه عليه حمل عليه في العمل وحمل الفعل على اسم الفاعل في الإعراب. والمصدر يعمل إن كان للماضي من الزمان أو الحاضر أو المستقبل. ومن الفرق بينهما أن المصدر يعمل معتمداً وغير معتمد واسم الفاعل لا يعمل عند سيبويه إلا معتمداً واعتماده أن يكون وصفاً أو خبراً أو حالاً ويعتمد على الموصوف أو المخبر عنه أو ذي الحال. واسم الفاعل يضمر الفاعل فيه والمصدر يحذف الفاعل منه، وإنما أضمر الفاعل في اسم الفاعل لأنه مشتق من الفعل فاضمروا فيه الفاعل كما أضمروه في الفعل والمصدر بعكس ذلك لأن الفعل مشتق منه. واسم الفاعل يتقدم منصوبه عليه كما يتقدم على الفعل، والمصدر لا يتقدم عليه منصوبه لأن المصدر المعمل عمل الفعل مقدر بأن والفعل وأن حرف موصول والصلة لا تتقدم على المصول لأنهما بمنزلة كلمة فإن شئت قدرته بأن وفعل سمي فاعله وإن شئت بأن وفعل لم يسم فاعله، فالأول كقول الله تعالى: (فمن تابَ منْ بعدِ ظلمهِ) أي: من بعد أن ظلم، والثاني كقوله: (ولمنِ انتصرَ بعدَ ظلمهِ) أي: بعد أن ظلم.

المجلس الثاني والثمانون

المجلس الثاني والثمانون يتضمن ذكر أبيات من شعر أبي الطيب منها قوله يهجو إسحاق بن إبراهيم بن كيغلغ: يمشي بأربعة على أعقابه ... تحت العلوج ومن وراء يلجم ذهب باليدين والرجلين مذهب الأعضاء فذكر على المعنى، كما قال الأعشى: يضم إلى كشيحة كفا مخضبا وكان القياس أن تقول: بأربع ولكنه ألحق الهاء ضرورة، وقد أنثوا المذكر على المعنى فيما رواه الأصمعي قال: قال أبو عمرو بن العلاء: سمعت أعرابياً يمانياً يقول: فلان لغوب جاءته كنابي فاحتقرها، فقلت له: أتقول جاءته كتابي؟ فقال: أليس هو بصحيفة؟

فقلت له: ما اللغوب؟ فقال: الأحمق، وقال الشاعر: أحمال المئين إذا ألمت ... بنا الحدثان والأنف النصور ويروى: الغيور، أنث الحدثان على معنى الحادثة. ومن تأنيث المذكر على المعنى تأنيث الأمثال في قوله عز وجل: (من جاءَ بالحسنةِ فلهُ عشرُ أمثالها) لأن الأمثال في المعنى حسنات فالتقدير: عشر حسنات أمثالها، وإذا كانوا قد أنثوا المذكر على المعنى فتذكير لمؤنث أسهل لأن حمل الفرع على الأصل أسهل من حمل الأصل على الفرع. وقال: على أعقابه، فجمع في موضع التثنية وحقه في الكلام: على عقبيه كما جاء في التنزيل: (نكصَ على عقبيهِ)، ولكنهم جمعوا في موضع الإفراد فقالوا: شابت مفرقه، وبعير ذو عثانين. وقال الشاعر: والزعفران على ترائبها ... شرق به اللبات والنحر فجمع التربية واللبة بما حولهما، وإذا كان هذا قد جاز في موضع الواحد فالجمع التثنية أجوز. فأما أعراب (وراء) مع حذف المضاف إليه فإن الغايات وهي الظروف التي حذفوا منها المضاف إليه وبنوها على الضم كقبل وبعد وفوق وتحت إنما بنوها لأن المضاف إليه

مقدر عندهم حتى أنها متعرفة به محذوفاً، فلما اقتصروا على المضاف فجعلوه نهاية صار كبعض الاسم لا يعرب، فإن نكروا شيئاً من ذلك أعربوه فقالوا: جئت قبلا ومن قبل وبعداً ومن بعد، قال الشاعر: فساغ لي الشراب وكنت قبلا ... أكاد أغص بالماء الحميم وقرأ لبعض القراء: (للهِ الأمرُ من قبلُ ومنْ بعدُ) فأعرب لنية التنكير فقوله: ن وراء، على تقدير التنكير كأنه قال: من جهة تخالف وجهه يلجم، والعلج (يجمع علوجاً وإعلاجاً كجذوع وأجذاع والعلج) الرجل العجمي والحمار الوحشي، وقالوا: رجل علج أي شديد، واشتقاقه من المعالجة كأنه لشدته يعالج الشيء الثقيل، وقالوا لحمار الوحش علج لأنه يعالج أتنه يعاركها، وقالوا: اعتلجت الأمواج، التطمت. يقول: يمشي القهقرى على أربعة كالبهيمة جعل ما يوج في قيه لجاماً. ومنها قوله: وجفونه ما تستقر كأنها ... مطروفة أو فتَّ فيها حصرم

أراد أنه أبداً يحرك جفونه يستدعي بذلك العلوج فإشارته إليهم بجفونه متتابعة حتى كأن بعينه طرفة أو حصرماً فت فيها فهي لا تستقر، وفت معطوف على مطروفة وليس من حق الفعل أن يعطف على الاسم ولا حق للاسم أن يعطف على الفعل ولكن ساغ ذلك في اسم الفاعل واسم المفعول لما بينهما وبين الفعل من التقارب بالاشتقاق والمعنى ولذلك عملاً عمله، فمما عطف فيه الفعل على الاسم قوله تعالى: "أوَ لمْ يرواْ إلى الطَّيرِ فوقهمْ صافَّاتٍ ويقبضنَ) وقوله: (إنَّ المصَّدقينَ والمصَّدقاتِ وأقرضواْ اللهَ قرضاً حسناً). ومما عطف فيه الاسم على الفعل قول الراجز: تبيت لا تأوى ولا نفاشاً قول الآخر: بات يغشيها بعضب باترٍ ... يقصد في أسؤقها وجائر وإنما ساغ ذلك في هذا الضرب من الأسماء لصحة تقدير الاسم بالفعل والفعل بالاسم فالتقدير: صافات وقابضات، وإن الذين تصدقوا وأقرضوا الله، ولا تأوى ولا تنفش، ويقصد في أسؤقها، ويجور، وطرفت وفت فيها حصرم. النفاش الغنم التي تنتشر بالليل فترعى بلا راع وكذلك

الإبل. يقال نفشت تنفش نفشاً مفتوح الثاني، وفي التنزيل: (وداودَ وسليمانَ إذْ يحكمانِ في الحرثِ إذْ نفشتْ فيهِ غنمُ القومِ). ومنها: وإذا أشار محدثاً فكأنه ... قرد يقهقه أو عجوزٌ تلطم إن قيل: كيف قابل القهقهة وهي صوت باللطم وليس بصوت وإنما كان حق الكلام أن يضع في موضع تلطم تولول أو تبكي أو نحو ذلك لأنه إنما شبه حديثه بقهقهة القرد فشبه صوتاً بصوت ولا معنى لتشبيه الحديث باللطم، وعن هذا السؤال جوابان: أحدهما أنه شبه حديثه بقهقهة قرد أو بلطم عجوز خدها في مناحة ولطم النساء في المناحة لا بد أن يصحبه صوت فلما اضطره الوزن والقافية إلى ذكر اللطم الدال على الولولة والنوح اكتفى بذكر الدليل عن المدلول عليه وأوهنا للإباحة فكأنه وتولول فكذلك، والجواب الثاني: إنه شبه شيئين بشيئين، شبه حديثه بقهقهة القرد وشبه إشارته في أثناء حديثه بلطم العجوز، وإنما جعل حديثه كضحك القرد لأنه لعيه غير مفهوم الحديث وجعله مشيراً بيديه لأنه لا يقدر على الإفصاح فهو يستعين بالإشارة إذا حدث كما أشار باقل حين عجز عن الجواب وقد مر بقوم ومعه ظبي اشتراه بأحد

عشر درهماً، وهو متأبطه، فقالوا له: بكم اشتريت الظبي فمد يديه وفرق أصابعه ودلع لسانه، يريد بأصابعه عشرة دراهم وبلسانه درهماً، فشرد الظبي حين مد يديه. وقد ضمن هذا التشبيه معنى آخر وهو أنه أراد قبح وجهه وكثرة تشنجه فهو في القبح كوجه القرد وفي التغضن، وهو التشنج، كوجه العجوز، فأن قيل: كيف يشبه شيئين بشيئين ويعطف بأو وهي لأحد الشيئين وإنما حق ذلك العطف بالواو لأن التقدير: وإذا أشار محدثاً فكأنه في حديثه قرد يقهقه وفي إشارته إلى عجوز تلطم؟ فعن هذا الاعتراض جوابان: أحدهما أن (أو) ههنا للإباحة، وقد قدمت ذكر ذلك، والثاني أن (أو) قد وردت في مواضع من كلام العرب بمعنى الواو واعتمد بعض النحويين على ذلك، وأنشدوا: فقلت البثوا شهرين أو نصف ثالثٍ ... إلى ذاكما ما غيّبتني غيابيتا أراد: ونصف ثالث. قال الأصمعي: الكركرة والقهقهة رفع الصوت بالضحك والاستغراب أشد منهما قوله: يقلى مفارقة الأكف قذاله ... حتى يكاد على يد يتعمم القلى البغض مكسور مقصور، وقد صرفت العرب منه مثالين: قلاه يقليه مثل رماه يرميه وقليه يقلاه مثل رضيه يرضاه وهو من الياء بدلالة

يقلي، ولو كان من الواو كان يقلو وأنشدوا في يقلي: وترمينني بالطرف أي أنت مذنب ... وتقلينني لكن إياك لا أقلي وفي التنزيل: (ما ودَّعكَ ربُّكَ وما قلى). وروى أبو الفتح لغة ثالثة: قلاه يقلوه قلاءً مثل رجاه يرجوه رجاء وأنشد: أن تقل بعد الود أم محلمٍ ... فسيّان عندي ودها وقلاؤها والقذال جماع مؤخر الرأس، ويجوز أن يرتفع قذاله بإسناد يقلي إليه كأنه قال: يبغض قذاله مفرقة الأكف إياه ويجري إسناد البغض إلى القذال مجرى إسناد الاشتهاء إلى السفن في قوله: تجري الرياح بما لا تشتهي السفن. والوجه أن تضمر في قلي فاعلاً وتعمل المفارقة في القذال، فإن نصبته فالأكف فاعلة وإن رفعته فالأكف مفعولة على منهاج: قرع القواقيز أفواه الأباريق.

يقول: يحب أن يقفد حتى أنه ليكاد يتعمم على يد قافده أي صافعه، فقوله: يقلي مفارقة الأكف قذاله، كقولك: يحب مواصلة الأكف قفاه. ومنها قوله: وتراه أصغر ما تراه ناطقاً ... ويكون أكذب ما يكون ويقسم هذا البيت قد تكلمت عليه وأوضحت وجوه إعرابه فيما قدمته من الأمالي، وهو والأبيات الأربعة التي ذكرتها قبله وذكرت ما اقتضته من التفسير مهملة كلها في تفسير أبي زكريا لم يصحب بيتاً منها كلمة فذة، وأبو الفتح ذكر في بيتين منها أحرفاً يسيرة. حذف أبو الطيب أن ورفع الفعل في قوله: يا حاديي عيرها وأحسبني=وأوجد ميتاً قبيل أفقدها وحذفها في هذا النحو للضرورة، ولا يجوز عند البصريين النصب بها مضمرة إلا بعد عوض كإضمارها بعد الفاء في جواب ما ليس بواجب كالنهي في قوله تعالى: (لا تفترواْ على اللهِ كذباً فيسحتكمْ) والكوفيون يرون النصب بها محذوفة وإن لم يكن عوض وينشدون قول طرفة:

ألا أيها الزاجري أحضر الوغى ... وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي بنصب: أحضر، وعلى مذهبهم قال أبو الطيب: بيضاء يمنعها تكلم دلها ... تيهاً ويمنعها الحياء تميساً والمراد بتصغير الظروف تقريب الأوقات والأماكن كقولك: خرجت قبيل الظهر وبعيد المغرب وقعدت دوين الحائط، كما قال ذو القروح يصف ذنب فرسه: بضافٍ فويق الأرض ليس بأعزل الضافي السابغ، والأعزل من الأذناب الذي يميل يمنة أو يسرة، فإن قيل: لم كان حذف أن اضطراراً في قوله: قبيل أفقدها وظاهر أمر قبل وبعد أنهما ظرفا زمان فهلا أضيفا إلى الفعل بغير تقدير أن كسائر أسماء الزمان؟ فالجواب: أن المكان أحق بهما من الزمان وقد أوضح حالهما أبو سعيد السيرافي في شرح الكتاب في قوله: أن قبل وبعد غير متمكنين فلا يرفعان ولا يجوز: سير قبلك، والذي منعهما

من التصرف والرفع أنهما ليسا باسمين لشيء من الأوقات كالليل والنهار والساعة والظهر والعصر، وإنما استعملا في الوقت للدلالة على التقديم والتأخير، يعين أنك إذا قلت: جئت قبل زيد، أردت تقديم زمان مجيئك على زمان مجيئه (وإذا قلت: جئت بعده، أردت تأخير زمان مجيئك عن زمان مجيئه)، ويشهد بأن أصلها المكان ثلاثة أشياء: أحدها امتناعهم من إضافتهما إلى الفعل في حال السعة وإنما يضافان إلى أن والفعل وما والفعل كما جاء في التنزيل: (من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا). والثاني: إخبارك بهما عن الجثة كقولك: الجبل بعد الوادي والوادي قبل الجبل، وظروف الزمان لا تستعمل أخباراً عن الأشخاص. والثالث: أنهما أصل في الغايات ولم نجدهم أدخلوا في حكمهما إلا ظروف المكان كفوق وتحت ووراء وقدام وعل، فهذا قول جلي كما تراه والمتسمون بالنحو قبيل وقتنا هذا ممن شاهدته وسمعت كلامه على خلاف ما قلته وأوضحته فاستمسك بما ذكرته لك فقد أقمت لك برهانه. وهذه المسألة مما ذكرته في الرد على أبي الكرم بن الدباس في كتابه الذي سماه: المعلم من مشكل أبي علي في الإيضاح. قوله في باب الجمع الذي على حد التثنية: لو سميت رجلاً بخالد أو حاتم وكسرته، قلت: خوالد وحواتم كما تقول: كاهل وكواهل، ولو

سميته أحمر لقلت: الأحمرون والأحامر، وإذا كانوا قد قالوا: الأباطح فهذا اجدر، ومن قال: الحرث فقياس قوله أن يقول: حمر، وإن نكره كان قياس قوله أن لا يصرف بلا خلاف. وأقول: إن كل ما كان من الصفات على مثال فاعل كالجالس وضارب فأنهم لك يجمعوه على فواعل وصفاً للرجال لئلا يلتبس بفواعل إذا أريد به النساء كقولك: نسوة جوالس وضواحك كما جاء في التنزيل: (والقواعدُ منَ النِّساءِ)، وشذ من جمع الرجال (فوارس)، وذلك لاختصاص هذا الوصف بالرجال، فإن سموا رجلاً بوصف على هذا المثال كخالد وحاتم وحارث كسروه على فواعل، وإنما استجازوا جمعه علماً على فواعل لخروجه من الوصفية (إلى العلمية، كما أن أحمر لا يجمع وصفاً إلا على فعل فإذا أخرجوه عن الوصفية) بالتسمية جمعوه جمع السلامة لأنه صار كأحمد وأكثم فقالوا: الأحمرون كما قالوا الأحمدون وكسروه على الأفاعل كما قالوا في العلم (الأحامد وفي غير العلم) الأجادل. وقوله: وإذا كانوا قد قالوا الأباطح فهذا أجدر: يعني أن الأبطح ومؤنثه مما أخرجته العرب عن الوصفية فلم يجروه على ما قبله فيقولوا: مكان أبطح ولا بقعة بطحاء، وكذلك الأبرق والبرقاء، فالأبطح والأبرق صفتان غالبتان بمعنى أنهما غلبا على الاسمية فلم يجريا على موصوف وجمع المذكر منهما على الأفاعيل فقيل: الأباطح والأبارق كما جمع الاسم عليه كالأزمل والأزامل، ولم يجمعوا مؤنثهما على

قياس باب حمراء فيقولوا: بطح وبرق لمفارقتهما له من حيث لم يجريا على موصوف بل شبهوهما لتأنيثهما وفتح أولهما بباب جفنة فقالوا: بطحاوات وبرقاوات كصحراوات، كما شبهوا باب الكبرى لتأنيثه وضم أوله بباب غرفة فقالوا: الكبر كما قالوا: الغرف، وكذلك قالوا في تكسيرهما: بطاح وبراق كجفان وقصاع، فإن سميت بأحمر وجمعته على الأحامر عن معناه بنقله إلى العلمية، والأبطح خارج عن معناه الوصفي الذي وضع له، ونقيض هذا قول من جمع الحارث على الحرث، وذلك أنهم ردوه بهذا الجمع إلى الوصفية فجمعوه على فعل كشاهد وشهد وصائم وصوم وغاز وغزى، فقياس هذا أن يجمع أحمر علماً على مثال جمعه وصفاً فيقال: حمر، وإن نكرته على هذا القول قلت: مررت بأحمر وأحمر آخر، فلم تصرفه نكرة لمراعاة الوفية فيه من حيث جمع على حمر. وقوله: بلا خلاف، يعني بلا خلاف بين سيبويه والأخفش لأن سيبويه إذا سمى رجلاً بأحمر ثم نكره لم يصرفه مراعاة للوصف فيه، والأخفش يصرفه لزوال الوصف بالتسمية، وقد أوردت هذه المسألة فيما تقدم، فههنا يوافق الأخفش سيبويه فلا يصرفه منكراً لأن جمعه على فعل مصرح له بالوصفية. الأبطح والبطحاء: كل مكان متسع، والأبرق والبرقاء: مكان ذو حجارة مختلفة الألوان، والكاهل: ما بين الكتفين، والحارث في أصل وضعه: الكاسب، والأزمل: الصوت، والأجدل: الصقر.

وقال أبو علي في باب الأفعال المنصوبة: وتقول: كان سيري أمس حتى أدخلها، أن جعلت بمعنى وقع جاز الرفع والنصب في (أدخلها)، وإن جعلت المفتقرة إلى الخبر وجعلت أمس من صلة السير لم يجز إلا النصب لأنك إن رفعت بقيت كان بلا خبر وإذا نصبت كان لقولك: حتى أدخلها في موضع الخبر، انتهى كلامه. وأقول: إنك إن جعلت كان بمعنى وقع فالكلام يتم إذا قلت: كان سيري، فإن جعلت حتى غاية جاز أن تعلقها بكان وجاز أن تعلقها بالسير، وإن جعلتها للاستئناف فقد أتيت بجملة تامة بعد جملة تامة، فإن جعلت كان الناقصة وجعلت (أمس) خبراً لها علقته بمحذوف وجاز أيضاً في (أدخلها) الرفع والنصب، وإن علقت (أمس) بالسير احتجت إلى خبر لكان، فإن جعلت (حتى) غاية فهي وما بعدها في تأويل إلى ومجرورها لأن التقدير: حتى أن أدخلها أي: حتى دخولها والمعنى: إلى دخولها، فكأنك قلت: كان سيري إلى دخول المدينة (فإلى متعلقة بمحذوف أي منتهياً إلى دخول المدينة، وإذا جعلت حتى للاستئناف فالتقدير: كان سيري حتى أن أدخل المدينة) فالجملة التي هي: حتى أن أدخل المدينة خالية من ضمير يعود على اسم كان ظاهر ومقدر. من روى لأبي الطيب: نرى عظماً بالبين والصد أعظم فالمعنى: إن البين يزيله قطع المسافة والصد لا تقطع مسافته.

ومن روى: نرى عظماً بالصد والبينُ أعظم فالمعنى: إن الحبيب وإن صد فعين المحب تدركه وإذا فارق حال البعد من النظر إليه. وقوله: خوذٌ جنت بيني وبين عواذلي ... حربا وغادرت الفؤاد وطيسا الوطيس في العربية مستعمل على معنيين: أحدهما معركة الحرب والآخر تنور من حديد وقيل قول ثالث: إنها حفرة يختبز فيها. وقيل: أول من قال: الآن حمي الوطيس، النبي صلى الله عليه وسلم، يريد الحرب، سبه اشتعالها باشتعال النار في التنور، قال ذلك يوم حنين. وقال تأبط شراً: إني إذا حميَ الوطيسُ وأوقدتُ ... للحربِ نار منيةٍ لم أنكلِ قال أبو الفتح: حمل الوطيس في البيت على التنور أشبه لأنه يريد حرارة قلبه. والقول الآخر غير ممتنع ههنا لأنهم يقولون: حميت الحرب واحتدمت وتضرمت، وأقول إن الأحسن عندي أن يكون أراد

معركة الحرب لأمرين: أحدهما قوله: جنت حرباً، والآخر أن حرب العواذل إنما يكون باللوم واللوم إنما يلحق القلب دون غيره من الأعضاء فهو معركة حربهن. وقوله في أبي علي هارون بن عبد العزيز الأوارجي الكاتب: لا تكثر الأموات كثرة قلّة ... إلّا إذا شقيت بك الأحياء أراد بقوله: كثرة قلة، كثرة يقل لها الأحياء، قدر أبو الفتح مضافاً محذوفاً من قوله: بك، قال: أراد شقيت بفقدك، وذهب أبو العلاء المعري إلى القلة إما لأن الأحياء يقلون بمن يموت منهم وإما لأن الميت يقل في نفسه. وقال أبو زكريا: قول أبي الفتح شقيت بك يريد بفقدك يحيل معنى البيت لأن الأحياء شقوا به لأنه قتلهم. وأقول: إن الصحيح قول أبي الفتح إنه أراد شقيت بفقدك، وبهذا فسره علي بن عيسى الربعي قال: ذهب إلى أنه نعمة على الأحياء وفقده شقاء لهم. ومما حذفت منه هذه اللفظة التي هي الفقد قول المرقش: ليس على طول الحياة ندم ... ومن وراءِ المرءِ ما يعلم

أراد: ليس على فقد طول الحياة، لا بد من تقدير هذا. وأظهر هذه اللفظة في هذا المعنى بعينه، وهو كون حياته نعمة وكون موته شقاء ونقمة الشاعر في قوله: لعمرك ما الرَّزيّة فقد مالٍ ... ولا شاةٌ تموت ولا بعير ولكنَّ الرزيّة فقد حرٍّ ... يموت لموته خلقٌ كثير وقد صرح بهذا المعنى ما رواه الربعي عن المتنبي أنه قال: قال لي أبو عمر السلمي: عدت أبا علي الأوارجي في علته التي مات فيها بمصر فاستنشدني: لا تكثر الأموات كثرة قلةٍ .... فأنشدته فجعل يستعيده ويبكي حتى مات. فإذا كان المتنبي حكى هذا فهل يجوز أن يكون المعنى إلا على ما قدره أبو الفتح. وقوله: لم تسم يا هارون إلا بعدما أق ... ترعت ونازعت اسمك الأسماء قال فيه أبو الفتح أراد لم تسم بهذا الاسم إلا بعد ما تقارعت عليك الأسماء فكل أراد أن يسمى بع فخراً بك. وقال أبو العلاء: أجود ما يتأول في هذا أن يكون الاسم ههنا في معنى الصيت كما يقال: فلان قد ظهر اسمه أي قد ذهب صيته في الناس فذكره لا يشاركه فيه أحد وماله يشترك فيه الناس، فأما أن يكون عنى باسمه هارون فهذا يحتمله ادعاء

الشعراء وهو مستحيل في الحقيقة لأن العالم لا يخلو أن يكون فيهم جماعة يعرفون بهارون. والذي ذهب إليه أبو الفتح من إرادته اسمه العلم هو الصواب، وقول المعري أن الاسم هنا يريد به الصيت ليس بشيء يعول عليه لأن قول أبي الطيب: لم تسم معناه: لم يجعل لك اسم، وأما دفع المعري أن يكون المراد الاسم العلم بقوله: إن في الناس جماعة يعرفون بهارون، فقول من لم يتأمل لفظ صدر البيت الذي يلي هذا البيت وهو قوله: فغدوتَ واسمك فيك غير مشاركٍ والمعنى: إن اسمك انفرد بك دون غيره من الأسماء فمعارضته بأن في الناس جماعة يعرفون بهارون إنما يلزم أبا الطيب لو قال: فغدوت وأنت غير مشارك في اسمك، فلم يفرق المعري بين أن يقال: اسمك مشارك فيك وأن يقال: أنت غير مشارك في اسمك، وإنما أراد: إن اسمك انفرد بك دون الأسماء ولم يرد: انك انفردت باسمك دون الناس. فاللفظان متضادان كما ترى.

المجلس الثالث والثمانون

المجلس الثالث والثمانون تفسير قول أبي الطيب المتنبي: عزيز أسا من داؤه الحدق النجل ... عياءٌ به ماتَ المحبون من قبل روى بعض الرواة: عزيز أساً بتنوين أساً ونصبه على التمييز كما تقول: عزيز دواء زيد، فرفعوا (من) بالابتداء وعزيز خبرها لأن (من) معرفة بصلتها أو نكرة مخصصة بصفتها فهي أولى بالابتداء في كلا وجهيها، وصفة من تكون على ضربين جملة ومفرد، فالجملة في قول عمرو بن قميئة: يا ربَّ من يبغضُ أذوادنا ... رحنَ على بغضائه واغتدين وفي قول الآخر:

ربّ من انضجتَ غيظاً صدره ... قد تمنى لي موتاً لم يطع والمفرد في قول حسان: فكفى بنا فضلا على من غيرنا=حب النبي محمدٍ إيّانا فمن نكرة البيت الأول والثاني لأن رب لا تليها المعرفة، وفي البيت الثالث لأن المفرد لا يكون صلة فكأنه قال: على ناس غيرنا (أو قومٍ غيرنا)، وإن رفعت (غيرنا) بأنه خبر مبتدأ محذوف تريد: من هو غيرنا، فجعلت (من) موصولة كقراءة من قرأ: (تماماً على الَّذي أحسنَ)، يريد: هو أحسن، جاز، ومثله ما رواه الخليل من قولهم: ما أنا بالذي قائل لك شيئاً. ويجوز في قول من نون أساً أن يرفع (من) بعزيز رفع الفاعل بفعله على ما يراه الأخفش والكوفيون من إعمال اسم الفاعل واسم المفعول والصفة المشبهة باسم الفاعل وإن لم يعتمدن، كقولك: قائم غلاماك ومضروب صاحباك وظريف أخواك، والوجه أعمالهن إذا اعمدن على مخبر عنه أو موصوف أو ذي حال، وأقل ما يعتمدن عليه همزة الاستفهام وما النافية.

تفسير قوله

وروى آخرون إضافة أساً ورفعه بالابتداء لتخصصه بالإضافة وعزيز خبره. وإن شئت رفعت عزيزاً بالابتداء ورفعت أساً على المذهب الأضعف. وأما عياء ففي رفعه ثلاثة أوجه: إن شئت جعلته خبراً بعد خبر كقولهم: هذا حلو حامض أي قد جمع الطعمين. وإن شئت أبدلته من الحدق لأنها هي الداء في المعنى فكأنك قلت: من داؤه عياء. وعزيز هنا يحتمل أن يكون من عز الشيء إذا قل وجوده، ويحتمل أن يراد به: شديد صعب غالب للصبر من قولهم: عزه يعزه إذا غلبه، ومنه: (عزيزٌ عليه ما عنتُّم) أي شديد عليكم عنتكم أي هلاككم. وللأسى وجهان: أحدهما الحزن وفعله أسيَ يأسى والآخر العلاج والإصلاح وفعله: أسا يأسو، يقال: أسوت الجرح، إذا أصلحته وداويته، أسواً وأساً، قال الأعشى: عنده الحزمُ والتُّقى وأسا الصَّر ... عِ وحملٌ لمضلعِ الأثقالِ وحدفة العين: سوادها والجمع حدق وحداق فحدق من باب قصبة وقصب وحداق مثل رقبة ورقاب ورحبة ورحاب. والنجل جمع نجلاء والمصدر النجل وهو السعة في حسن. تفسير قوله

كفى بجسمي نحولاً أنَّني رجلٌ ... لولا مخاطبتي إيّاكَ لم ترني يتوجه في هذا البيت سؤال عن الفرق في الإعراب بين: كفى بجسمي نحولاً (وكفى باللِه وكيلاً). وسؤال ثانٍ وهو أن أنَّ المفتوحة تكون مع خبرها في تأويل مصدر كقولك: بلغني أنك ذاهب أي بلغني ذهابك، فبأي مصدر تتقدر في هذا البت. وسؤال ثالث وهو أن يقال أن الجملة التي هي: لولا مخاطبتي إياك لم ترني، وصف لرجل ورجل اسم غيبة فكيف عاد إليه منها ضمير متكلم، وكان القياس أن يقال: لولا مخاطبته إياك لم تره؟ الجواب: إن كفى مما غلب عليه زيادة الباء تارة مع فاعله وتارة مع مفعوله، ودخولها على مفعوله قليل، فزيادتها مع الفاعل مثل: كفى بالله، المعنى: كفى الله، ويدلك على أنها مزيدة في (بالله) قول سحيم: كفى بالشيب والإسلام للمرءِ ناهياً وأما زيادتها مع المفعول فمنه ما أوردته من قول الأنصاري: فكفى بنا فضلا على من غيرنا ... حبّ النبي محمدٍ إيّانا

ومنه: كفى بك داءً أن ترى الموتَ شافياً التقدير: كفاك داء رؤيتك الموت، ومنه: كفى بجسمي نحولاً أنني رجل لأن فاعل كفى أن وما اتصل بها، وأسبك لك من ذلك فاعلاً بما دل عليه الكلام من النفي بلم وامتناع الشيء لوجود غيره بلولا فالتقدير: كفى بجسمي نحولاً انتفاء رؤيتي لولا وجود مخاطبتي. وانتصاب (نحولا) على التفسير والتفسير في هذا النحو للفاعل دون المفعول، فوكيلا تفسير لاسم الله تعالى، ونحولاً تفسير لانتفاء الرؤية، كما كان (فضلا) في بيت الأنصاري تفسيراً لحب النبي إياهم. فقد بان لك الفرق في الإعراب بين: كفى بجسمي نحولاً و"كفى بالله وكيلاً" من حيث كان (بالله) فاعلاً وبجسمي مفعولاً. وإنما زيدت الباء في نحو: كفى بالله، حملا على معناه إذ كان بمعنى: اكتف بالله، ونظيره قولهم: حسبك بزيد، زادوا الباء في خبر حسبك لما دخله معنى اكتف. وأما رجل من قوله: أنني رجل، فخبر موطئ وإنما الخبر في الحقيقة هو الجملة التي وصف بها رجل والخبر الموطئ هو الذي لا يفيد بانفراده مما بعده كالحال الموطئة في نحو: (إنَّا أنزلناهُ قرآناً عربياً)، ألا ترى أنك لو اقتصرت على رجل هنا لم تحصل به فائدة، وإنما الفائدة مقرونة بصفته فالخبر الموطئ كالزيادة في الكلام، فلذلك عاد الضميران اللذان هما الياءان في مخاطبتي ولم ترني إلى الياء في أنني ولم يعودا على رجل لأن الجملة في الحقيقة خبر عن الياء في أنني وإن كانت بحكم

اللفظ صفة لرجل، ولو قلت إن (رجل) لما كان هو الياء التي في أنني من حيث وقع خبراً عنها عاد الضميران إليه على المعنى كان قولاً، ونظيره عود الياء إلى الذي في قول علي عليه السلام: أنا الذي سمتنِ أمّي حيدره لما كان الذي هو أنا في المعنى، وليس هذا مما يحمل على الضرورة، لأنه قد جاء مثله في القرآن نحو: (بلْ أنتمْ قومٌ تجهلونَ)، فتجهلون فعل خطاب وصف به اسم غيبة كما ترى، ولم يأت بالياء وفاقاً لقوم، ولكنه جاء وفق المبتدأ الذي هو أنتم في الخطاب، ولو قيل: بل أنتم قو لم يحصل بهذا الخبر فائدة، ومما جاء من ذلك في الشعر لغير ضرورة قوله: أأكرمَ من ليلى عليّ فتبتغي ... به الجاه أم كنت امرأ لا أطيعها أعاد من أطيعها ضمير المتكلم، ولم يعد ضمير غائب وفاقاً لامرئ، فهذا دليل إلى دليل التنزيل فاعرف هذا وقس عليه نظائره.

ومما أهمل مفسرو شعر أبي الطيب تعريبه قوله: بئس الليالي سهدت من طربي ... شوقاً إلى من يبيت يرقدها يتوجه في هذا البيت السؤال عن المقصود فيه بالذم، وما موضع (من طربي) من الإعراب؟ وما الذي نصب شوقاً؟ وكم وجهاً في نصبه؟ وبم يتعلق إلى؟ وكم حذفاً في البيت؟. فأما المقصود بالذم فمحذوف وهو نكرة موصوفة بسهدت والعائد إليه من صفته محذوف أيضاً فالتقدير: ليال سهدت فيها، ونظير هذا الحذف في التنزيل في قوله: (ومنْ آياتهِ يريكمْ البرقَ)، التقدير: آية يريكم فيها البرق. وجاء في الشعر حذف النكرة المجرورة الموصوفة بالجملة في قول الراجز: مالك عندي غير سهمٍ وحجر ... وغير كبداءَ شديدةِ الوتر جادت بكفَّي كان من أرمى البشر أراد: بكفي رجل فحذف رجلاً وهو ينويه. وقوله: من طربي، مفعول له ومن بمعنى اللام كما تقول: جئت لأجلك ومن أجلك لمخافته شره ومن مخافة شره، (ولا تقتلواْ أولادكمْ مِّنْ إملاقٍ) أي لإملاق.

وشوقاً يحتمل أيكون مفعولاً من اجله عمل فيه (طربي) فيكون الشوق علة للطرب والطرب علة للسهاد، ولا يعمل سهدت في (شوقاً) لأنه تعدى إلى علة فلا يتعدى إلى أخرى، إلا بعاطف كقولك: أقمت سهداً وخوفاً، وسهدت طرباً وشوقاً. ويحتمل (شوقاً) أن ينتصب انتصاب المصدر كأنه قال: شقت شوقاً أو شاقني التذكر شوقاً، وشقت ما لم يسم فاعله، كقول المملوك: قد بعت، أي باعني مالكي، وكقول الأمة وقد سئلت عن المطر: غثنا ما شئنا، والأصل: غاثنا الله. فأما إلى فالوجه أن تعلقها بالشوق لأنه أقرب المذكورين إليها، وإن شئت علقتها بالطرب، وذلك إذا نصبت شوقاً بطربي، فإن نصبته على المصدر امتنع تعليق إلى بطربي لأنك حينئذ تفصل ب (شوقاً) وهو أجنبي بين الطرب وصلته، وكان الوجه في يرقدها: يرقد فيها كما تقول: يوم السبت خرجت فيه، ولا تقول: خرجته إلا على سبيل التوسع في الظرف، تجعله مفعولاً به على السعة، كقوله: ويوماً شهدناه سليماً وعامراً وكقول الآخر: في ساعةٍ يحبها الطعام المعنى: يحب فيها، وشهدنا فيه.

وفي البيت أربعة حذوف، الأول حذف المقصود بالذم وهو ليال، والثاني حذف (في) من سهدت فيها فصار سهدتها، والثالث حذف والضمير من سهدتها، والرابع حذف (في) من يرقدها. وقد روي سهرتها طرباً وسهرت من طرب، وقد فرق بعض اللغويين بين السهاد والسهر فزعم أن السهاد للعاشق واللديغ، والسهر في كل شيء وأنشد قول النابغة: يسهد في ليلِ التمام سليمها وقول الأعشى: وبتّ كما بات السليم مسهَّدا والطرب خفة تصيب الإنسان لشدة سرور أو حزن، قال ابن قتيبة: يذهب الناس إلى أن الطرب في الفرح دون الجزع وليس كذلك، إنما الطرب خفة تصيب الرجل لشدة السرور أو لشدة الجزع، أنشد: وأراني طرباً في إثرهم ... طربَ الواله أو كالمختبل

ومثله قول الآخر: وقلن بكيت فقلت كلاً ... وهل يبكي من الطربِ الجليد وقوله: أمط عنك تشبيهي بما وكأنّه ... أحدٌ فوقي ولا أحد مثلي يتوجه فيه سؤال عن (ما) من قوله: تشبيهي بما، وليست ما من أدوات التشبيه، وقد قيل في ذلك أقوال: أحدها: ما حكاه أبو الفتح عن المتنبي أنه كان إذا سئل عن ذلك أجاب بأن (ما) سبب للتشبيه لأن القائل إذا قال: ما الذي يشبه هذا؟ قال المجيب: كأنه الأسد أو كأنه الأرقم أو نحو ذلك، فأتى المتنبي بحرف التشبيه الذي هو كأن وبلفظ الحرف الذي كان سؤالاً عن التشبيه فأجيب عنه بكأن فذكر السبب والمسبب جميعاً. قال أبو الفتح: وقد فعل أهل اللغة مثل هذا فقالوا: الألف والهمزة في حمراء علامة التأنيث وإنما العلامة في الحقيقة الهمزة وحدها ولكنها لما صاحبت الألف وكان انقلابها لسكون الألف قبلها قيل هما جميعاً لتأنيث. والثاني: ما حكاه القاضي أبو الحسن علي بن عبد العزيز الجرجاني صاحب الوساطة بين المختصمين في شعر المتنبي عن المتنبي أيضاً قال: سئل عن معنى قوله: بما وكأنه، فقال: أردت لا تقل

ما هو إلا كذا وكأنه كذا لأنه ليس فوقي أحد ولا مثلي فيشبهني به. وقال الراوي مقوياً لهذا الوجه: إذا قلت: ما هو إلا الأسد وإلا كالأسد، فقد أتيت بما لتحقيق التشبيه كما قال لبيد: وما المرء إلا كالشهاب وضوئه فليس ينكر أن ينسب التشبيه إلى (ما) إذا كان لها هذا الأثر. والثالث: ما رواه الربعي عن المتنبي أيضاً قال: سئل عن قوله: بما وكأمه، فقال: أردت ما أشبه فلاناً بفلان وكأنه فلان. فهذه ثلاثة أقوال مختلفة كما ترى ولا يمتنع أن يجيب المسؤول بأجوبة مختلفة في أوقات متغايرة. والرابع: قول أبي علي بن فورجة قال: هذه (ما) التي تصحب كأن إذا قلت: كأنما زيد الأسد. وإليه ذهب أبو زكريا قال: أراد أمط عنك تشبيهي بأن تقول: كأنه الأسد وكأنما هو الليث. وهذا القول أردأ الأقوال وأبعدها من الصواب لأن المتنبي قد فصل (ما) من (كأن)، قدمها عليه واتى في مكانها بالهاء، فاتصال (ما) بكأنه غير ممكن لفظاً ولا تقديراً، وهي مع ذلك لا تفيد معنى إذا اتصلت بكأن، فكيف إذا

انفصلت منه وقدمت عليه؟ وهي في الأقوال الثلاثة المحكية عن المتنبي منفصلة، قائمة بنفسها، تفيد معنى. فهي فيما رواه أبو الفتح استفهامية، وفيما رواه علي بن عبد العزيز الجرجاني نافية، وفيما رواه الربعي تعجبية، والكافة إنما تدخل لتكف عن العمل، لا لمعنى تحدثه، فهي بمنزلة ما الزائدة. ثم أن هذين اللفظين اللذين قد مثل بهما أبو زكريا فقال: كأنه الأسد وكأنما هو الليث، قد أتى فيهما بأداة التشبيه التي هي كأن وحدها لأن معنى كأنه وكأنما هو واحد فلا فرق بينه وبين أن تقول: أمط عنك تشبيهي بكأن وكأن فهو فاسد من كل وحجه. يقال: ماط الله عنك الأذى أماطه أي أزاله وماط الشيء زال، ومطته عنك، وأمطه نحه وأزله، ومط عني تنح وزل، استعملوا ماط لازماً ومتعدياً. وقوله: تشبيهي أراد تشبيهك إياي فحذف الفاعل وهو الكاف وأضاف المصدر إلى المفعول فصار المنفصل متصلاً والمصدر كثيراً ما يحذف فاعله. أنشد بعض أهل الأدب لأخي الحارث بن حلزة: ربما قرت عيونٌ بشجى ... مرمضٍ قد سخنت منه عيون وقال: من هذا البيت أخذ المتنبي قوله: مصائب قومٍ عند قومٍ فوائد

قلت: إن كان الجاهلي أبا عذرة هذا المعنى فلقد أحسن أبو الطيب أخذه حيث أتى به في نصف بيت. قوله: إلام طماعية العاذل ... ولا رأي في الحب للعاقلِ ظاهره أن معنى عجزه غير متعلق بمعنى صدره، وأين قوله في الظاهر: ولا في الحب للعاقل، من قوله: إلام طماعية العاذل. ويحتمل تعلقه به وجوها: أحدها أن يريد: إلام يطمع عاذلي في إصغائي إلى قوله، والعاقل إذا أحب لم يبق له مع الحب رأي يصغى به إلى قول ناصح فعذله غير مجد نفعاً. والثاني أن العاقل لا يرتئي في الحب فيقع فيه اختياراً وإنما يقع اضطراراً فلا معنى لعذله. والثالث أن العاقل ليس من رأيه أن يورط نفسه في الحب وغنما ذلك من فعل الجاهل، وعذل الجاهل أضيع من سراج في الشمس، فكيف يطمع في نزوعه. ومن مشكل أبياته قوله: ولا تجزني بضنى بي بعدها بقرٌ ... تجزي دموعي مسكوباً بمسكوب

كنى بالبقر عن النساء على مذهب العرب في تشبيههم النساء بالبقر الوحشية، يريدون بذلك شدة سواد عيونهن، قال عبد الرحمن بن حسان: صفراء من بقر الجواء كأنَّما ... ترك الحياء بها رداع سقيم الرداع وجع الجسم أجمع، ويروى: أثر الحياء. وقوله: لا تجزني، دعاء بلفظ النهي، فحكمه في الجزم حكم النهي، كما قال: فلا تشلل يدٌ فتكت بعمروٍ ... فإنّك لن تذل ولن تضاما وكذلك استعمال الدعاء بلفظ الأمر كقولك: لقطع الله يده. والضنى الداء المخامر الذي إذا ظن صاحبه أنه قد برأ نكس. وقوله: بعدها، أراد بعد فراقها فحذف المضاف. وقوله: بي، صفة لضنى، فالباء متعلقة بمحذوف تقديره: كائن أو واقع. ويحتمل الناصب للظرف الذي هو (بعدها) وجهين: إن شئت أعملت فيه المصدر الذي هو ضنى، وإن شئت أعملت فيه الباء التي في (بي) لأن الظرف وحرف الخفض إذا تعلقا بمحذوف عملا في الظرف وفي الحال كقولك: زيد في الدار اليوم، وهو عند جعفر غداً، والهاء في (بعدها) عائدة على (بقر) وإن كانت بقر متأخرة، وجاز ذلك لأنها فاعل والفاعل رتبته التقدم فإذا أخرته

جاز تقديم الضمير العائد عليه لأن النية به التقديم، مثله: (فأوجسَ في نفسهِ خيفةً موسى)، وفي الكلام حذف وذلك أنه أراد: لا تجزني بضنى بي ضنى بها أي ضنى يقع بها، فحذف ذلك للعلم به. ومسكوباً لا يجوز أن ينتصب على الحال من دموعي لأن الواحد المذكر لا يكون حالاً من جماعة، لا تقول: طلعت الخيل مترادفاً، ولكن مترادفة. ولو قلت: مترادفات، كان أحسن كما جاء في التنزيل: (أو لم يروا إلى الطير فوقهم صافات). ولو قال: تجزي دموعي مسكوبة، كان حالاً، وإذا بطل انتصاب (مسكوباً) على الحال نصبته على البدل من الدموع، كأنه قال: تجزي دموعي مسكوباً منها بمسكوب من دموعها، فحذف الجارين والمجرورين. وإنما احتيج إلى تقدير (منها) لأن بدل البعض وبدل الاشتمال لا بد أن يتصل بهما ضمير يعود على المبدل منه كقولك: ضربت زيداً رأسه، وأعجبني زيد علمه. ومن بدل الاشتمال المحذوف منه الضمير قو الأعشى: لقد كان في حولٍ ثواء ثويته ... تقضي لبانات ويسأم سائم أراد: ثويته فيه. ومعنى البيت أنه بكى عند الفرقة وبكين فجزين دمعه بدمع، فدعا لهن أن لا يجزينه بضناه ضنى، كما جزينه بالدمع دمعاً.

المجلس الرابع والثمانون

المجلس الرابع والثمانون قول أبي الطيب: أنت الجواد بلا من ولا كدرٍ ... ولا مطال ولا وعد ولا مذلِ سألني سائل عن المذل فقلت: قد قيل فيه قولان أحدهما أن معناه القلق، يقال: مذلت من كلامك أي قلقت، ومذل فلان على فراشه إذا قلق فلم يستقر والقول الآخر البوح بالسر، يقال: فلان مذل بسره وكذلك هو مذل بماله، إذا جاد به. وذكر أبو زكريا في تفسير البيت الوجهين في المذل ثم قال: والذي أراد أبو الطيب بالمذل أنه لا يقلق بما يلقاه من الشدائد كما يقلق غيره، وليس ما قاله بشيء عليه تعويل بل المذل هاهنا البوح بالأمر ونفى ذلك عنه فأاخرته راد أنه إذا جاد كتم فلم يبح به. وقول أبي زكريا أراد أنه لا يقلق بما يلقاه من الشدائد قد زاد بذكر الشدائد ما ذهب إليه بعداً من الصواب، وهل في البيت ما يدل على الشدائد، إنما مبنى البيت على الجود والخال التي مدحه بنفيها عنه متعلقة بمعنى الجود وهي المن والكدر والمطال والوعد والمذل الذي هو البوح بالشيء.

فصل أنبه فيه على فضائل أبي الطيب وأورد فيه غررا من حكمه

فصل أنبّه فيه على فضائل أبي الطيِّب وأورد فيه غرراً من حكمه فمن بدائعه قوله في الحمَّى: وزائرتي كأنّ بها حياءً ... فليس تزور إلا في الظلامِ بذلت لها المطارفَ والحشايا ... فعافتها وباتت في عظامي المطارف جمع مطرف ومطرف وهو الذي في طرفيه علمان، والحشايا حجمع حشية وهو ما حشي مما يفرش. إذا ما فارقتني غسَّلتني ... كأنّا عاكفانِ على رامِ إنما خص الحرام، والإغتسال يكون من الحلال والحرام لأنه جعلها زائرة والزائرة غريبة فليست بزوجة ولا مملوكة. كأن الصبح يطردها فتجري ... مدامعها بأربعةٍ سجامِ إنما قال بأربعة لأنه أراد الغروب والشؤون وواحدهما غرب وشأن

وهما مجاري الدموع. أراقب وقتها من غيرِ شوقٍ ... مراقبة المشوقِ لمستهامِ ويصدق وعدها والصدق شرٌّ ... إذا ألقاك في الكرب العظامِ أبنتَ الدهرِ عندي كلُّ بنتٍ ... فكيف وصلتِ أنتِ من الزِّحامِ جعل الحمى بنتاً للدهر لأنها تحدث فيه فكأنه أب لها. وقوله: عندي كل بنت، يريد: كل شديدة حدثها الدهر. وفيها: ضاقت خطَّةٌ فخلصت منها ... خلاصَ الخمرِ من نسجِ الفدامِ خطة حال صعبة الفدام مصفاة الخمر ويقال: فدام بالتشديد. قال أبو الفتح بعد أن ذكر هذه الأبيات: ما قيل شعر في وصف حال نهكت صاحبها واشتدت به ثم عاد إلى حال السلامة إلا وهذا أحسن منه. وقد ذكر عبد الصمد بن المعذل الحمى في قصيد رائية وليست في طرز هذه وإن كان عبد الصمد حاذقاً مخترعاً غير مدفوع الفضل. وقال أبو الفتح بعد قوله: وكم من عائبٍ قولاً صحيحاً ... وآفته من الفهمِ السقيمِ

ولكن تأخذ الآذان منه ... على قدرِ القرائحِ والعلومِ هذا كلام شريف لا يصدر إلا عن فضل باهر. القريحة خالص الطبع وهي مأخوذة من قريحة البئر وهو أول ما يخرج من مائها، ومن هذا قيل: ماء قراح أي لا يخالطه غيره. قال أبو الفتح عقيب قوله: لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى ... حتى يراق على جوانبه الدم أشهد بالله لو لم يقل المتنبي إلا هذا البيت لوجب أن يتقدم كثيراً من المجيدين. وقال أبو الطيب في أسد قتله بدر بن عمار وفر منه أسد آخر: تلف الذي اتخذ الجراءة خلة ... وعظ الذي اتخذ الفرار خليلا وقال أبو الفتح بعد إيراد هذا البيت: هذا من حكمه التي يرسلها، وله في شعره أشباه لهذا كثيرة، منها قوله: الرأي قبل شجاعة الشجعان ... هو أولٌ وهي المحل الثاني

ومنها: مصائب قومٍ عند قوم فوائد. ومنها: إنّ النفيس فغريب حيث ما كانا ومنها: ومن نكدِ الدنيا على الحر أن يرى ... عدواً له ما من صداقته بد وقال أوب الفتح بعد إيراد قوله: ولقد عرفت وما عرفت حقيقة ... ولقد جهلت وما جهلت خمولا نطقت بسؤددك الحمام تغنياً ... وبما تجشمها الجياد صهيلا أشهد بالله لو خرس بعد هذين البيتين لكان أشعر الناس والسلام. وقال أبو الفتح في قوله: نهبت من الأعمار ما لو حويته ... لهنئت الدنيا بأنّك خالد لو لم يمدحه إلا بهذا البيت وحده لكان قد أبقى له مالاً

يخلقه الزمان، وهذا هو المدح الموجه لأنه بنى البيت على أن مدحه باستباحة الأعمار ثم تلقاه في آخره بذكر سرور الدنيا ببقائه واتصال أيامه. هذا البيت قد ذكرت ما فيه فيما تقدم. وقال أبو العلاء المعري في قوله: إلفُ هذا الهواء أوقع في الأن ... فسِ أنّ الحمامَ مر المذاقِ والأسى قبل فرقة الروح عجزٌ ... والأسى لا يكون بعد الفراق هذان البيتان يفضلان كتاباً من كتب الفلاسفة لأنهما متناهيان في الصدق وحسن النظام، ولو لم يقل شاعرهما سواهما لكان فيهما جمال وشرف. وقال أبو العلاء في مرثية أبي الطيب التي رثى بها أخت سيف الدولة التي أولها: إن يكن صبر ذي الرزية فضلا. لو لم يكن للمتنبي غير هذه القصيدة في سيف الدولة لكان كثيراً. وأين منها قصيدة البحتري التي أولها: إن سير الخليط لما استقلا، انتهى كلامه.

ومن معاني أبي الطيب المستحسنة وإن كان ما سبق إليه قوله: ذو العقل يشقى في النعيم بعقله ... وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم أصل هذا لمعنى قول ارسطاطاليس: العقل سبب رداءة العيش، وأخذه عيد الله بن المعتز في قوله: وحلاوة الدنيا لجاهلها ... ومرارة الدنيا لمن عقلا وكرره أبو الطيب في قوله: أفاضل الناس أغراضٌ لذا الزمن ... يخلوا من الهم أخلاهم من الفطن ومن ابتداءاته الغزلية الفائقة قوله: أريقك أم ماء الغمامة أم خمر ... بفي برود في كبدي جمر ومن أبارع ابتداءات المراثي قوله:

نعد المشرفية والعوالي ... وتقتلنا المنون بلا قتال ونرتبط السوابق مقرباتٍ ... وما ينجين من خبب الليالي وما وصف أحد ما اعتوره من نوائب الدهر بأحسن من قوله: رماني الدهر بالأرزاء حتى ... فؤادي في غشاء من نبالِ فصرت إذا أصابتني هامٌ ... تكسّرت النصال على النصالِ وهل وصف نساء بالجمع بين بكاء الفجيعة وبكاء الدلال بأبرع من قوله: أتتهنَّ المصيبة غافلاتٍ ... فدمع الحزنِ في دمع الدلال وهل أبن شاعر امرأة بأبلغ من قوله: ولو كان النساء كمن فقدنا ... لفضلت النساء على الرجال وما التأنيث لاسم الشمس عيب ... ولا التذكير فخرٌ بالهلالِ ومن هذه القصيدة في المدح قوله: فإن تفق الأنام وأنت منهم ... فإنّ المسكَ بعض دمِ الغزال

ومما جمع فيه بين الصنعة وحسن المعنى وهو من شوارد بدائعه قوله: أزورهم وسواد الليل يشفع لي ... وأنثني وبياض الصبحِ يغري بي قابل أزورهم بأنثني وسواد الليل ببياض الصبح ويشفع لي بيغري بي. وأجمع أهل المعرفة بالشعر على أنه لم يمدح أسود بأحسن من قوله في كافور: فجاءت بنا إنسان عين زمان ... وخلت بياضاً خلفها ومآقيا حتى قال بعضهم: لو مدح بهذا أبيض لكان غاية في المدح فكيف والممدوح به أسود. وما ذم شاعر الدنيا بمثل قوله: فذي الدار أخون من مومسٍ ... وأخدع من كفَّةِ الحابلِ تفانى الرجال على حبِّها ... وما يحصلونَ على طائلِ المومس من النساء الفاجرة.

ومن بديع الإستعتاب بأحسن لفظ وأعذب معنى قوله: إن كان سركم ما قال حاسدنا ... فما لجرح إذا أرضاكم ألم ومن أبلغ الوصف بالجود قوله: أرجو نداكَ ولا أخشى المطال به ... يا من إذا وهب الدنيا فقد بخلا ومن أشد ما هجي به خصي أسود قوله: وذاك أنّ الفحول البيض عاجزةٌ ... عن الجميلِ فكيف الخصية السود ومن درر قلائده وهو مما أقر له فيه أبو نصر بن نباتة بالفضيلة فقال: إننا لنقول وما نحسن أن نقول كقول أبي الطيب: إذا ما سرت في آثارِ قومٍ ... تخاذلت الجماجم والرقاب ومما زاد فيه على من تقدمه قوله في الطير التي تصحب الجيش لتصيب من القتلى: يطمع الطير فيهم طول أكلهم ... حتى تكاد على أحيائهم تقع

أراد طول أكلها إياهم فحذف فاعل المصدر وأضافه إلى المفعول كما جاء في التنزيل: (لقدْ ظلمكَ بسؤالِ نعجتكَ إلى نعاجهِ)، (أي بسؤاله إياك نعجتك) .. ومن أحسن المدح باستلذاذ المسؤول السؤال قوله: إذا غزته أعاديه بمسألةٍ ... فقد غزته بجيشٍ غير مغلوبِ كأنَّ كل سؤال في مسامعه ... قميص يوسف في أجفان يعقوب ومن أرق لفظ في المدح وأظرفه قوله: تأبى خلائقكَ التي شرفت ... أن لا تحن وتذكر العهدا لو كنت عصراً منبتاً زهراً ... كنت الربيع وكانت الوردا ومن غرره الفائقة قوله: وجرمٍ جرّه سفهاء قوم ... فحل بغير جارمه العذاب

وقوله: وما الحسن في وجه الفتى شرفاً له ... إذا لم يكن في فعله والخلائق وقوله: فإن قيل الحب بالعقل صالحٌ ... وإن كثير الحب بالجهل فاسد وقوله: إذا رأيتَ نيوب الليثِ بارزةً ... فلا تظننَّ أنّ الليثَ يبتسم وقوله: خذ ما تراه ودع شيئاً سمعت بهِ ... في طلعة البدر ما يغنيك عن زحلِ وقوله: لعلَّ عتبكَ محمودٌ عواقبه ... فربَّما صحتِ الأجسام بالعلل وقوله: وإذا الشيخ قال أفّ فما م ... لّ حياة وإنَّما الضعف ملَّا

آلة العيش صحةً وشباب ... فإذا وليا عن العيش ولّى أبداً تسترد ما تهب الدن ... يا فياليتَ جودها كان بخلا وقوله: وإذا كانت النفوس كباراً ... تعبت في مرادها الأجسام وقوله: أعيذها نظرات منك صادقة ... أن تحسب الشحمَ فيمن شحمه ورم وما انتفاع أخي الدنيا بناظره ... إذا استوت عنده الأنوار والظلم وقوله: وما الدهر أهلٌ أن تؤملَ عنده ... حياة وأن يشتاق فيه إلى النسلَ وقوله: إذا ما الناس جرَّبهم لبيبٌ ... فإني قد أكلتهم وذاقا

فلم أرَ ودَّهم إلّا خداعاً ... ولم أر دينهم إلا نفاقاً قوله: فما ترجى النفوس من زمنٍ ... أحمد حاليه غير محمودِ وقوله: أبى خلق الدنيا حبيباً تديمه ... فما طلبي منها حبيباً ترده وأسرع مفعولٍ فعلت تغيراً ... تكلف شيء في طباعك ضده وقوله: إذا ساء فعل المرءِ ساءت ظنونه ... وصدق ما يعتاد من توهم وعادى محبيه بقول عداته ... وأصبح في ليلٍ من الشكّ مظلم وما كل هاوٍ للجميل بفاعل ... ولا كل فعالٍ له بمتمِّمِ وقوله: ومثلك من كانَ الوسيط فؤاده ... فكلمه عني ولم أتكلمِ

وقوله: وكل امرئ يولي الجميلَ محببْ ... وكل مكانٍ ينبت العزَّ طيب وقوله: ما كل ما يتمنى المرء يدركه ... تجري الرياح بما لا تشتهي السفن وقوله: ومراد النفوس أصغر من أن ... نتعادى فيه وأن نتفانا غير أنَّ الفتى يلاقي المنايا ... كالحاتٍ ولا يلاقي الهوانا ولو أنّ الحياةَ تبقى لحيِّ ... لعددنا أَلّنا الشجعانا وإذا لم يكن من الموتِ بدٌ ... فمن العجزِ أن تكون جبانا وقوله: لما صارَ ود الناسِ خباً ... جزيت على ابتسامٍ بابتسامِ

ومنها: وصرت أشك فيمن أصطفيه ... لعلمي أنّه بعض الأنام وآنف من أخي لأبي وأمي ... إذا ما لم أجده من الكرامِ ولم أر في عيوب الناس شيئاً ... كنقص القادرين على التمامِ وقوله: إذا أتتِ الإساءة من وضيعٍ ... ولم ألمِ المسيء فمن ألوم وقوله: إذا ما عدمت الأصل والعقل والندى ... فما لحياةٍ في جنابكَ طيب وقوله: لولا المشقة سادَ الناس كلهم ... الجود يفقر والإقدام قتّال إنّا لفي زمنٍ ترك القبيح به ... من أكثر الناس إحسانٌ وإجمال

ذكر الفتى عمره الباقي وحاجته ... ما قاته وفضول العيش أشغال وقوله: إنّي لأجبن من فراقِ أحبَّتي ... وتحسُّ نفسي بالحمامِ فأشجع ويزيدني غضب العادي قسوةً ... ويلم بي عتب الصديق فأجزع تصفو الحياة لجاهلٍ أو غافلٍ ... عمّا مضى فيها وما يتوقَّع ولمن يغالط في الحقائق ِنفسه ... ويسوقها طلب المحالِ فتطمع أين الهرمان من بنيانه ... ما قومه ما يومه ما لمصرع الهرمان بمصر كل رم منها أربع مثلثات مطبق بعضها إلى بعض ارتفاعها أربعمائة ذراع وكذلك كل جانب منها. وقيل إن مسقط حجرها ثلاثمائة ذراع وعشرون ذراعاً. نتخلف الآثار عن أصحابها ... حيناً ويدركها الفناء فتتبع

ومن ذلك قوله: توهَّم القوم أن العجز قرَّبنا ... وفي التقربِ ما يدعو إلى التهمِ ولمَ تزل قلة الإنصاف قاطعةً ... بين الرجال ولو كانوا ذوي رحم ومنها: هوِّن على بصر ماشَّق منظره ... فإنّما يقظات العينِ كالحلمِ ولا تشكَّ إلى خلقٍ فتشمته ... شكوى الجريح إلى الغربان والرَّخمِ وكن على حذرٍ للناس تستره ... ولا يغركَ منهم ثغرُ مبتسمِ غاضَ الوفاء فما تقاه في عدةٍ ... وأعوزَ الصدقُ في الأخبار والقسم غاض ذهب، من قولك: غاض الماء. ومنها: أتى الزمان بنوه في شبيبتهِ ... فسرَّهم وأتيناهُ على الهرمِ ومن ذلك قوله: تريدينَ لقيان المعالي رخيصةً ... ولا بد دونَ الشهدِ من إبرِ النحلِ

وقوله: تمنَّ يلذ المستهام بمثلهِ ... وإن كان لا يغني فتيلا ولا يجدي وغيظ على الأيام كالنارِ في الحشا ... ولكنّه غيظ الأسير على القدِّ وقوله: نحن بنو الموتى فما بالنا ... نعاف مالا بدَّ من شربهِ تبخل أيدينا بأرواحنا ... على زمانٍ هي من كسبهِ فهذه الأرواح من جوهَ ... وهذه الأجسام من تربهَ لو فكَّرَ العاشق في منتهى=حسنِ الذي يسبيهِ لم يسبه يموت راعي الضَّأنِ في جهلهِ ... موتةَ جالينوس في طبِّهِ وقوله: فلا تغرركَ ألسنةٌ موالٍ ... تقبلهنَّ أفئدةٌ أعادي

فإن الجرحَ ينفر بعد حينٍ ... إذا كان البناء على فسادِ وإن الماء يجري من جمادٍ ... وإنّ النار تخرج من زناد وقوله: على ذا مضى الناس اجتماع وفرقة ... وميتٌ ومولودٌ وقالٍ ووامقُ المقة المحبة. تغير حالي والليالي بحلها ... وشبت وما شاب الزمان الغرانق الغرانق من الرجال الشاب الناعم وجمعه غرانق بفتح الغين. ومن ذلك قوله: فؤاد ما تسليه المدام ... وعمر مثل ما تهب اللئام ودهر ناسه ناسٌ صغار ... وإن كانت لهم جثث ضخام وما أنا منهم بالعيش فيهم ... ولكن معدن الذهب الرّغام

الرغام: التراب. خليلك أنت لا من قلت خلي ... وإن كثر التجمل والكلام ولو حيز الحفاظ بغير عقلٍ ... تجنب عنق صيلقه الحسام وشبه الشيء منجذب إليه ... وأشبهنا بدنيانا الطغام الطغام جمع طغامة، وهو الجاهل الذي لا يعرف شيئاً. ولو لم يعل إلا ذو محلٍّ ... تعالى الجيش وانحط القتام وقوله: أنكرت طارقة الحوادث مرةً ... ثم اعترفت بها فصارت ديدنا ومنه: ومكايد السفهاءِ واقعةٌ بهم ... وعداوة الشعراء بئس المقتنى لعنت مقارنة اللئيم فإنّها ... ضيفٌ يجر من الندامةِ ضيفنا

الضيفن ضيف الضيف. ومن بدائعه قوله: واحتمال الأذى ورؤية جاني ... هـ غذاءٌ تضوى به الأجسام ذلَّ من يغبط الذليل بعيشٍ ... رب عيشٍ أخف منه الحمام كل حلمٍ أتى بغير اقتدارٍِ ... حجة لا جيءٌ إليها اللئام من يهن يسهل الهوان عليه ... ما لجرحٍ بميِّت إيلام وقوله: أعرض للرماحِ الصم نحري ... وأنصب حرَّ وجهي للهجيرِ وأسري في ظلام الليل وحدي ... كأني منه في قمرٍ منير فقل في حاجةٍ لم أقض منها ... على تعبي بها شروى نقير

الشروى المثل: يقال: هذا شروى هذا أي مثله. والنقير مما ضربوا بن المثل في الحقارة كالفتيل والقطمير. فالنقير النقرة أي النكتة التي في ظهر النواة، والفتيل الذي في شق النواة، والقطمير القشرة الرقيقة التي عليها. وروي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه وضع طرف إبهامه على باطن سبابته ثم نقرها وقال: هذا لا نقير، وقال: الفتيل ما يخرج من الأصبعين إذا فتلتهما. ونفسٍ لا تجيب إلى خسيسٍ ... وعين لا تدار على نظير وكفٍّ لا تنازع من أتاني ... ينازعني سوى شرفي وخيري الخير الكرم وعطفه عليه لاختلاف لفظيهما كما قال الحطيئة: وهندٌ أتى من دونها النأي والبعد وسوى متعلق بتنازع أي لا تنازع سوى كرمي من أتاني ينازعني. وقلة ناصرٍ جوزيت عني ... بشرٍ منك يا شرَّ الدهورِ

عدوي كل شيء فيك حتى ... لخلت الأكم موغرة الصدور فلو أني خسرت على نفيسٍ ... لجدت به لذا الجدّ العثور الجد هاهنا الحظ. ولكني حسدت على حياتي ... وما خير الحياة بلا سرور ومنها: فلو كنت امرأ يهجى هجونا ... ولكن ضاق فترٌ عن مسير ومن ذلك قوله: أفاضل الناس أغراض لذا الزمن ... يخلو من الهم أخلاهم من الفطن أغراض أهداف. وإنما نحن في جيلٍ سواسيةٍ ... شرٍّ على الحر من سقمٍ على بدن سواسية مستوون في الشر. حولي بكل مكان منهم خلقٌ ... تخطى إذا جئت في استفهامها بمن

أراد باستفهامك عنها فحذف فاعل المصدر والجار. ومنها: فقر لجهول بلا عقلٍ ولا أدبٍ ... فقر الحمارٍ بلا رأسٍ إلى رسن ومنها: لا يعجبنَّ مضيماً حسن بزته ... وهل يروق دفينا جودة الكفنِ راقني الشيء أعجبني. ومن ذلك قوله في مرثية جدته: عرفت الليالي قبل ما صنعت بنا ... فلما دهتني لم تزدني بها علماً ما الجمع بين الماء والنار في يدي ... بأصعب من أن أجمع الجد والفهما وإني لمن قومٍ كأن نفوسهم ... بها أنفٌ أن تسكن اللحم والعظما فلا عبرت بي ساعةٌ لا تعزني ... ولا صحبتني مهجة تقبل الظلما

ومن ذلك قوله أيضاً: وأنا الذي اجتلب المنية طرفه ... فمن المطالب والقتيل القاتل ومنها: ما نال أهل الجاهلية كلهم ... شعري ولا سمعت بسحري بابل فإذا أتتك مذمتي من ناقصٍ ... فهي الشهادة لي بأني كامل ومن ذلك قوله: ولا تحسبن المجد زقاً وقينةً ... فما المجد إلا السيف والفتكة البكر ومن ينفق الساعات في جمع ماله ... مخافة فقرٍ فالذي فعل الفقر ومنها: ومازلت حتى قادني الشوق نحوه ... يسايرني في كل ركبٍ له ذكر واستكبر الأخبار قبل لقائه ... فلما التقينا صغر الخبر الخبر

ومن ذلك قوله: لا استزيدك فيما فيك من كرمٍ ... أنا الذي نامَ إن نبهت يقظانا ومن ذلك قوله: كذا فتنحوا عن عليٍّ وطرقه ... بني اللؤم حتى يعبر الملك الجعد الجعد هاهنا السخي مشبه بالثري الندي، وإذا قالوا: ثرى جعد فإنما يريدون أنه يجتمع في الكف، وكذلك إذا قالوا: شعر جعد. فما في سجاياكم منازعة العلى ... ولا في طباع التربة المسك والند فإن يك سيار بن مكرمٍ انقضى ... فإنك ماء الورد إن ذهب الورد وقوله: من خصَّ بالذم الفراق فإنني ... من لا يرى في الدهر شيئاً يحمد وقوله: يهون على مثلي إذا رام حاجةً ... وقوع العوالي والقواضب

إليك فإني لست ممن إذا اتقى ... عضاض الأفاعي نام فوق العقارب وقوله: يخيل لي أن البلاد مسامعي ... وأني فيها ما يقول العواذل وقوله: إذا غامرت في شرفٍ مرومِ ... فلا تقنع بما دون النجوم فطعم الموت في أمرٍ حقيرٍ ... كطعم الموت في أمر عظيم يرى الجبناء أن العجز عقل ... وتلك خديعة الطبع اللئيم وقوله وقد تقدم ذكره: ذو العقل يشقى في العيم بعقله ... وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم وكذلك قوله: لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى ... حتى يراق على جوانبه الدم

أراد لا يسلم للشريف من أذى الحساد والأعداء حتى يقتل حساده وأعداءه فإذا أراق دماءهم له شرفه، فإنه إنما يصير مهيباً بالغلبة. والظلم من شيم النفوس فان تجد ... ذا عفةٍ فلعلةٍ لا يظلم والذل يظهر في الذليل مودةً ... وأود منه لمن يود الأرقم ومن البلية عذل من لا يرعوي ... عن غيه وخطاب من لا يفهم وقوله: مشيب الذي يبكي الشباب مشيبه ... فكيف توقيه وبانيه هادمه وتكملة العيش الصبا وعقيبه ... وغائب لون العارضين وقادمه وما خطب الناس البياض لأنه ... قبيح ولكن أحسن الشعر فحمه وقوله: يدفن بعضنا بعضاً وتمشي=أواخرنا على هام الأوالي

الأوالي مقلوب من الأوائل فوزنه الأفائع. وكم عينٍ مقبلة النواحي ... كحيلٍ بالجنادلِ والرمال ومغضٍ كان لا يغضي لخطب ... وبالٍ كان يفكر في الهزالِ وقوله: وما الموت إلا سارق دقً شخصه ... يصول بلا كفٍّ ويسعى بلا رجل يرد أبو الشبل الخميس عن ابنه ... ويسلمه عند الولادة للنمل وقوله: أرى كلنا يبغي الحياة بسعيه ... حريصاً عليها مستهاماً بها صبا فحب الجبان النفس أورده التقى ... وحب الشجاع النفس أورده الحربا ويختلف الرزقان والفعل واحد ... إلى أن يرى إحسان هذا لذا ذنبا ومن ذلك قوله:

طوى الجزيرة حتى جاءني خبر ... فزعت فيه بآمالي إلى الكذب حتى إذا لم يدع لي صدقه أملا ... شرقت بالدمع حتى كاد يشرق بي أي صغرت في جنب الدمع فصرت بالإضافة إليه كالشيء يشرق به في القلة. ومن ذلك قوله: كم تكلبون لنا عيباً فيعجزكم ... ويكره الله ما تأتون والكرم ليت الغمام الذي عندي صواعقه ... يزيلهن إلى من عنده الديم وقوله: وإذا ما لبست الدهر مستمعاً به ... تخرقت والملبوس لم يتخرق وإطراق طرف العين ليس بنافعٍ ... إذا كان طرف القلب ليس بمطرق

وما ينصر الفضل المبين على العدا ... إذا لم يكن فضل السعيد الموفق وقوله: رب أمرٍ أتاك لا تحمد الفعَّ ... ال فيه وتحمد الأفعالا وإذا ما خلا الجبان بأرضٍ ... طلب الطعن وحده والنِّزالا من أطاق التماس شيء غلاباً ... واغتصاباً لم يلتمسه سؤالا كل غادٍ لحاجةٍ يتمنى ... أن يكون الغضنفر الرِّئبالا وقوله: الرأي قبل شجاعة الشجعان ... هو أول وهي المحل الثاني فإذا هما اجتمعا لنفسٍ مرَّةٍ ... بلغت من العلياء كلَّ مكان ولربما طعن الفتى أقرانه ... بالرأي قبل تطاعن الأقران لولا العقول لكان أدنى ضغيمٍ ... أدنى إلى شرفٍ من الإنسان

وقوله: كفى بك داءً أن ترى الموت شافياً ... وحسب المنايا أن يكنَّ أمانيا تمنيتها لما تمنيت أن ترى ... صديقاً فأعيا أو عدواً مداجيا إذا كنت ترضى أن تعيش بذلة ... فلا تستعدنَّ الحسام اليمانيا ولا تستطيلن الرماح لغارةٍ ... ولا تستجيدنَّ العتاق المذاكيا فما ينفع الأسد الحياء من الطَّوى ... ولا تتقى حتى تكون ضواريا حبيتك قلبي قبل حبك من نأى ... وقد كان غداراً فكن لي وافيا أقل اشتياقاً أيها القلب ربما ... رأيتك تصفي الود من ليس جازيا خلقت ألوفاً لو رجعت إلى الصبا ... لفارقت شيبي موجع القلب باكيا ومنها: إذا الجود لم يرزق خلاصاً من الأذى ... فلا الحمد مكسوباً ولا المال باقيا

وللنفس أخلاقٌ تدل على الفتى ... أكان سخاءً ما أتى أم تساخيا ومن ذلك قوله: إذا أنت أكرمت الكريم ملكته ... وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا ووضع الندى في موضع السيف بالعلى ... مضر كوضع السيف في موضع الندى ومن ذلك قوله: تخالف الناس حتى لا اتفاق لهم ... إلا على شجبٍ والخلف في الشجب الشجب الهلاك. أراد أن الناس مختلفون في كل شيء ولم يقع الاتفاق منهم إلا على الموت ثم أنهم قد اختلفوا فيه، وبين وجه اختلافهم بقوله: فقيل تخلص نفس المرء سالمة ... وقيل تشرك جسم المرء في العطب قيل إن الملحدين يقولون أن النفس تهلك كما يهلك الجسم، وروي عن أفلاطون وأرسطوطاليس في ذلك خلاف، فقيل إن أحدهما كان يقول: تبقى النفس الخيرة بعد خروجها من الجسد، وأن الآخر كان يقول: تبقى النفس المحمودة والمذمومة، ومن يذهب إلى هذا الوجه يزعم أنها تكون ملتذة بما فعلته من الخير في الدار الفانية. ومن تفكر في الدنيا مهجته ... أقامه الفكر بين العجز والتعب

وقد وردت لأبي الطيب أمثال في إعجاز أبيات

وقد وردت لأبي الطيب أمثال في إعجاز أبيات منها قوله: إن المعارف في أهل النهي ذمم. وقوله: أنا الغريق فما خوفي من البلل وقوله: وقد يؤذي من المقةِ الحبيب وقوله: ولكن ربما خفي الصواب وقوله: وكل اغتياب جهد من لا له جهد وقوله: ليس التكحل في العينين كالكحل وقوله: وتأبى الطباع على الناقل وقوله: وفي الباقي لمن بقي اعتبار وقوله: ومن وجد الإحسان قيداً تقيداً وقوله: ومن لك بالحر الذي يحفظ اليدا

وقوله: والمستغر بما لديه الأحمق وقوله: وفي عنق الحسناء يستحسن العقد وقوله: وليس بمنكرٍ سبق الجواد وقوله: ولكن صدمَ الشرِّ بالشر أحزم وقوله: قد أفسد القول حتى أحمد الصمم وقوله: مصائب قومٍ عند قوم فوائد وقوله: ومخطئٌ من رميُّهُ القمر وقوله: فإنّ في الخمر معنىً ليس في العنب وقوله: ومن قصد البحر استقل السواقيا وقوله: وأين من مشتاق عنقاء مغرب وقوله: ولا يرد عليك الفائت الحزن وقوله: بجبهة العير يفدى حافر الفرس وقوله: الجوع يرضي الأسود بالجيف

وقوله: إذا عنَّ بحرٌ لم يجز لي التيمم وقوله: إنّا لنغفل والأيام في الطلب وقوله: إن النفيس نفيسٌ حيثما كانا وقوله: وبضدها تتبين الأشياء وقوله: غير مدفوعٍ عن السبق العراب وقوله: ما كل دامٍ جبينه عابد وقوله: ومن يسد طريق العارض الهطل وقوله: ويبين عتق الخيل في أصواتها وقوله: والشيب أوقر والشبيبة أنزق وقوله: وفي التجارب بعد الغي ما يزع يزع يكفّ الغاوي عن غيِّه. وجاء بمثل في ثلث بيت وهو قوله: .......... ومن للعورِ بالحولِ

ليس شيء مما ذكرته من هذه الآداب البارعة والأمثال السائرة الرائعة إلا قد فاوضت فيه شيوخ العلم فأبدوا فيه وأعادوا واستحسنوا واستجادوا، وإنما ذكرت لك طرفاً من عيون كلمه وبعضاً من فنون حكمه لأنبهك على جلالة قدره وأعرفك أنه في الشعر نسيج وحده وقريع عصره، ومن صغر شأنه فقد أبان عن نقص في نفسه كثير، وما أحسن قول النابغة: أي الرجال المهذب. والفاضل من عدت سقطاته، والإساءة في البيت الفذِّ مغفورة بإضافتها إلى ألف حسنة، كما قيل: وإذا الحبيب أتى بذنبٍ واحدٍ ... جاءت محاسنه بألف شفيع وبعد هذا من الذي سلم في شعره من الشعراء المتقدمين ولو اقتصصت لك سقطات بشار وأبي نواس وأبي تمام والبحتري وغيرهم من الفحول المبرزين المتقدمين والمتأخرين لاستحسنت من شعر أبي الطيب ما استقبحته واستجدت ما استرذلته على أنه لم يرتكب لفظة مستهجنة إلا وليس له عنها مندوحة، ولست تقدر أن توجدني أمثالاً عدد أمثاله في شعر واحد من نظرائه وأمثاله بل لا تجد ذلك لمجيدين أو ثلاثة مكثرين من المتقدمين والمتأخرين. وما أحسن قوله: فجازوا بترك الذم إن لم يكن حمد وأسخف شعره القصيدة التي أولها:

ما أنصفَ القوم ضبَّه ومنها: إن أوحشتك المعالي ... فإنها دار غربه أو آنستك المخازي ... فإنها بك أشبه وكل من خطأه في معنى أو كلمة لغوية فهو مخطىءٌ في تخطئته فممن خطأه في كلمة لغوية أبو زكريا فقال في قوله: قد كنت تهزأ بالفراق مجانةً الناس يستعملون المجانة في معنى الهزء بالشيء والتهاون به، يقولون: فلان ماجن إذا كان مسرفاً في اللهو والقل لما لم يكن فأما أهل اللغة فيقولون: مجن إذا مرن على الشيء. انتهى كلامه. والذي قاله غير صحيح بدلالة أن المجانة قد وردت في الشعر القديم على ما ذهب إليه المتنبي وذلك في قول يزيد بن مفرغ الحميري يهجو عباد ابن زياد بن أبيه: شجاع في المجانة والمخازي ... جبان عند محتضر المصاع

قال أبو الحسين بن فارس في المجمل: المجون أن لا يبالي الإنسان بما صنع. فهذا دفع لما قاله أبو زكريا من جهة شعر العرب، ومن جهة قول أهل اللغة. وقال المتنبي يصف جيشاً في أرض قطعها ويخاطب الممدوح: جيشٌ كأنك في أرضٍ تطاوله ... والأرض لا أممٌ والجيش لا أمم يقول: بعدت الأرض وطالت فكأنها تطاول جيشك البعيد أطرافه. والأمم بين القريب والبعيد، ثم فسر هذا بقوله: إذا مضى علمٌ منها بدا علمٌ ... وإن مضى علمٌ منه بدا علم أراد بالعلم من الأرض الجبل، وبالعلم من الجيش الراية، ويقول: فلا الجبال تغنى ولا أعلام الجيش. قال أبو زكريا: ول قال وإن مضى عالم منه لكان أحسن في حكم الشعر لأن تكرير العلم في البيت كثر، وقوله وإن مضى عالم، يقلل من تردد العلم ويدل على كثرة الجيش. انتهى كلامه. وأقول: إن المتنبي لو قال ما ذهب إليه أبو زكريا فاستعمل العالم في موضع العلم كان قبيحاً في صناعة الشعر لأنه قد أتى بذكر العلم الذي هو الجبل مرتين فوجب أن يقابله بذكر العلم الذي هو الراية مرتين. وأما قوله: إنه لو قال مضى عالم، دل على كثرة. وكذلك ذكر العلم يدل على كثرة الجيش لأن العلم يكون تحته أمير معه عالم. فأما كراهيته لتكرير العلم، فقول من جهل ما في التكرير من التوكيد والتبيين

إذا تعلق التكرير بعضه بحرف عطف أو بحرف شرط أو بغير ذلك من ذلك المعلقات، كما جاء في التنزيل: (وإنَّ منهمْ لفريقاً يلونَ ألسنتهم بالكتابِ لتحسبوهُ منَ الكتابِ وما هوَ منَ الكتابِ ويقولنَ هوَ منْ عندِ اللهِ)، ومثله: (فاستمتعواْ بخلاقهمْ فاستمتعتم ْ بخلاقكمْ كما استمتعَ الَّذينَ من قبلكم بخلاقهمْ). فالتكرير في هذا النحو حسن مقبول، وإذا جاء هذا في القرآن علمت أن التكرير في بيت أبي الطيب غير معيب، وإنما يعاب التكرير إذا ورد اللفظ في بيتين أو ثلاثة والمعنى واحد. ووهم أبو زكريا في بيت لأبي نواس حمل عليه بيتاً لأبي الطيب، وذلك قول أبي الطيب: يا من لجود يديه في أمواله ... نقمٌ تعود على اليتامى أنعما حتى يقول الناس ماذا عاقلا ... ويقول بيت المال ماذا مسلما قال أبو زكريا: عظم الممدوح تعظيماً وجب معه أن لا يكون خاطبه بقوله: حتى يقول الناس ماذا عاقلا، وإنما تبع في ذلك الحكمي في قوله: جاد بالأموال حتى ... قيل ما هذا صحيح ويجوز أن يكون أبو الطيب ظن أن أبا نواس أراد بقوله: ما هذا

صحيح العقل، ولعله لم يد ذلك، وإنما أراد: هذا الفعل صحيح انتهى كلامه. وأقول: إن أبا نواس لم يرد إلا ما ذهب إليه المتنبي، لأن أبا نواس قد صرح بهذا المعنى في قصيدة أخرى وأتى بلفظة أقبح من قوله: ما هذا صحيح، فقال: جدت بالأموال حتى ... حسبوه الناس حمقا وتبعه في ذلك أبو تمام فقال: مازال يهذي بالمكارم والندى ... حتى ظننا أنه محموم ويروى: يهذر، والأصل في هذا قول أعرابي فيما أورده الجاحظ في كتاب الحيوان: حمراء تامكة السنامِ كأنّها ... جملٌ بهودج أهله مظعون جادت بها عند الوداع يمينه ... كلتا يدي عمر الغداة يمين

ما كان يعطي مثلها في مثله ... إلا كريم الخيم أو مجنون فعلى هذا المنوال نسج أبو الطيب بيته، فأراد: أنه يفرط في الجود حتى ينسبه الناس إلى عدم العقل، ولو كان بيت المال مما يصح منه الكلام لقال ماذا مسلما، لأنه فرق أموال المسلمين، ويجوز أن يكون أراد: حتى يقول خزان بيت المال وحذف المضاف كما حذف في: (وسئلِ القريةَ)، وقول الأعرابي: تامكة السنام أي عاليته. تمك السنام علا، والخيم السجية وهي الخليقة، والهاء في مثله تعود على الوداع أي في مثل وقت الوداع. قد أثبت لك ما ظفرت به بالتتبع من حكم أبي الطيب ولم أثبت إلا مما رأيته في مكاتبة أو سمعته في مفاوضة فقد كفيتك مؤونة تطلبه وبقي عليك تكلف تحفظه. فمن فضائل هذا الشاعر من دون قائلي القريض أنك لا تجد واحداً من الناس إلا وهو يحفظ من شعره قصائد أو قصيدتين أو قصيدة أو مقطوعة أو بيتاً أو صدر بيت أو عجز بيت. فمما أجمع الناس على حفظه أو حفظ عجزه قوله: بذا قضت الأيام ما بين أهلها ... مصائب قومٍ عند قوم فوائد ولقد سمعت من أدوان العوام مراراً غير محصاة أناساً ينشدون قوله:

ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى ... عدواً له ما من صداقته بد وكذلك قوله: والظلم من شيم النفوس فإن تجد ... ذا عفةٍ فلعله لا يظلم إلا أنهم يغلطون فيه يقولون: فإن ترى، يستعملون ترى موضع تجد. وما أوقع قوله فيمن ذمه: وإذا أتتك مذمتي من ناقصٍ ... فهي الشهادة لي بأني كامل وقوله: رماني خساس الناس من صائب إسته ... وآخر قطنٌ من يديه الجنادل ومن جاهلٍ بي وهو يجهل جهله ... ويجهل علمي أنه بي جاهل أما إعراب هذين البيتين فإن دخول (من) في قوله: من صائب استه، كدخولها في قولك: جاء القوم من ضاحك وباك، فهي للتبغيض لأن المعنى: بعضهم ضاحك وبعضهم باك. ويقال أصاب السهم الهدف فهو مصيب، وصابه فهو صائب، لغية، قال بشر بن أبي خازم الأسدي:

تسائل عن أخيها كل ركب ... ولم تعلم بأن السهم صابا وقوله: ويجهل علمي أنه بي جاهل، علمي مفعول يجهل، وقوله: أنه بي جاهل، هو الفاعل أي: يجهل جهله بي علمي. وفسر علي بن عيسى الربعي قوله: من صائب استه، بأنه من ضعفه إذا رمى يصيب استه، فحمله على معنى قوله: وآخر قطن من يديه الجنادل، وليس هذا القول بشيء لأننا لم نجد في الموصوفين بالضعف من يرمي بحجر أو غير حجر مما ترامي به اليد فيصيب استه، وإنما هو مثل ضربه فذكر تفصيل عائبيه فقال: عابني أراذل الناس فمنهم من رماني بعيب هو فيه وهو الأبنة فانقلب قوله عليه فأصاب استه بالعيب الذي رماني به. وآخر لم يؤثر كلامه في عرضي لعيه وحقارته فهو كمن يرمي قرنه بسبائح القطن، أي الذين رموني من هذين الصنفين بهذين الوصفين.

تم الكتاب

تم الكتاب والحمد لله رب العالمين وصلواته على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله الأبرار الطاهرين وحسبنا الله ونعم الوكيل. فرغ من نسخه في غر الأخير من جمادى الآخرة سنة أربع عشرة وستمائة. حامداً لله تعالى ومصلياً على محمد وآله.

§1/1