مائة من عظماء أمة الإسلام غيروا مجرى التاريخ

جهاد التُرباني

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ حقوق الطبع محفوظة الطبعة الأولى 1431 هـ - 2010 م رقم الإيداع: 16711/ 2010 الترقيم الدولى: 0 - 161 - 429 - 977 - 978 دار التقوى للطبع والنشر والتوزيع الإدارة: 44715506 - 0101668067 15 ش 15 مايو - شبرا الخيمة ف/ ت/ 44715506 - م/ 01001592271 5 ش ابن البيطار خلف الجامع الأزهر ت / 25141704 موقعنا على الإنترنت: www.daraltakoa.com E-mail:[email protected] التوزيع اليقين - شبرا الخيمة: 44731824 المدينة المنورة - مدينة نصر: 2755304 مكتبة الشامي - الإسكندرية: 034960620

تقديم

تقديم الحمد للَّه، والصلاة والسلام على رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. وبعد: لقد قام المؤلف الباحث الأستاذ جهاد الترباني بتصنيف هذا المبحث نظرًا لأن أحد أساتذة التاريخ الأمريكان ويدعى البروفيسور مايكل هارت قام بإخراج كتابٍ يذكر فيه 100 شخصية في التاريخ الإنساني، يرى فيها المؤرخ الأمريكي من وجهة نظره أنها أعظم 100 شخصية في التاريخ البشري عبر جميع العصور والأزمنة، حيث وضع على رأس قائمة المائة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- باعتباره أكثر الشخصيات تأثيرًا في تاريخ البشر. إلا أن الباحث التاريخي جهاد الترباني رأى غير ذلك حيث أن المؤلف الأمريكي لم يميز في الشخصيات التي اختارها بين الصالح والطالح ولا بين العظيم والمجرم. وأعظم دليل على ذلك أنه وضع مجرمًا مثل جنكيزخان في قائمة المائة الأكثر تأثيرًا في التاريخ. كما وضع النازي هتلر كأحد أكثر الشخصيات تأثيرًا في التاريخ أيضًا. إضافة إلى بوذا الذي رأى الكاتب الأمريكي أنه كان يستحق أن يتربع على قائمة المائة وأن يتقدم على رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لولا أن أتباعه كانوا قلة على عكس أتباع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- الكُثر. الأمر الذي كان سببًا في أن يحمل الترباني قلمه حتى يهدم ما بناه هذا المؤرخ الأمريكي من مغالطات تاريخية، وليكتب كتابًا بديلًا عن ذلك يذكر فيه تراجم لمائة

عظيم من أبناء الأمة الإسلامية من دون الأنبياء، يستعرض من خلالهم قصة الإسلام على مر العصور. ولقد أبحر الترباني في تاريخ العظماء من أبناء هذه الأمة بأسلوبٍ شيق وعرض مثير. وهذا الذي ميز كتابه عن سائر الكتب التي خرجت في هذا الباب. وأسأل اللَّه عز وجل أن ينفع بالكاتب وبكتابه وأن يجعل عمله خالصًا لوجه اللَّه سبحانه. إنه نعم المولى ونعم النصير. . . وكتبه أبو عمر محمد بن عبد الملك الزغبي 5 - رمضان - 1431 هـ

مدخل

مدخل إن الحمد للَّه، نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده اللَّه فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلّا اللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، ثم أما بعد. . . . ففي عام 1978 م. . . قام أحد أساتذة التاريخ في أمريكا ويُدعى البروفيسور (مايكل هارت) بتأليف كتابٍ أسماه: "المائة الأكثر تأثيرًا في التاريخ" اختار فيه هذا المؤرخ الأمريكي الشهير مائة شخصية في التاريخ البشري على مستوى العالم ليكونوا أبطالًا لكتابه، العجيب في الأمر أن مايكل هارت لم يكتفِ بذكر أسماء مائة شخصية يرى هو من وجهة نظره البحتة -كأستاذٍ للتاريخ الإنساني- إنها أعظم مائة شخصية أثرت في التاريخ، بل قام أيضًا بإعطاء الحق لنفسه بترتيب أسماء أولئك المائة بمنهاجٍ يراعي تفاوتهم في العظمة. . . أو ما يعتقد هو أنها عظمة! وللإنصاف التاريخ أرى أن كتاب هذا العالم الأمريكي (اليهودي) يحتوي على قدرٍ كبيرٍ من المعلومات القيمة التي تدل على سعة اطلاعٍ وحيادية تاريخية كبيرة، ولكن الأمر الذي يدعو للاستغراب يكمن في ردة فعل المسلمين على هذا الكتاب، فلقد احتفى المسلمون وأقاموا الدنيا ولم يقعدوها احتفالًا بتكرُّم السيد هارت عليهم بوضع اسم نبيهم محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- على رأس قائمة المائة، وكأننا اكتشفنا اكتشافًا جديدًا لم نكن نعرفه من قبل!. . . أو كأن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان ينتظر شهادة تقدير من هذا المؤرخ الأمريكي بعد أن شهد له اللَّه -رب البشر- بالعظمة والسُّمو الإنساني!!! وبعد طول دراسة ومتابعة. . . وجدت أن ذلك الاحتفال الإسلامي بهذا الكتاب إنما يكمن في معاناة المسلمين من نقصٍ معرفيٍ مخيف بتاريخهم الإسلامي بشكل خاص، والتاريخ الإنساني بشكل عام! فلو قام أحد أولئك المحتفلين بقراءة ذلك الكتاب الذي يحتفل به، لوجد أن البروفيسور مايكل هارت وضع رجالًا مجرمين مثل (جنكيز خان) و (هتلر) في قائمة المائة التي يترأسها نبينا المصطفى! بل إن هارت يذكر في كتابه بكل صراحة أن (بوذا) -والذي صُنّف كرابع البشر في العظمة- كان يستحق أن يتربع على

عرش العظماء لو أن أتباعه كانوا بكثرة أتباع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-! ولست واثقًا تمامًا إن كان هذا المؤرخ الأمريكي يعلم وهو يكتب مثل هذا الكلام السخيف أن بوذا مات منتحرًا في غياهب كهوف آسيا بعد أن فقد عقله وأصبح مجنونًا! ولكن الشيء الذي أنا واثقٌ منه تمام الثقة. . . هو أننا كمسلمين نصنف محمد بن عبد اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كأعظم المخلوقات التي خلقها اللَّه في التاريخ. لذلك. . . خطر ببالي أن أكتب كتابًا أستعرض فيه تاريخ الإسلام بشكلٍ شاملٍ. . . أضم بين ثناياه جميع الأحداث المهة التي مرت بأمة الإسلام. . . منذ نشأتها. . . وحتى يوم الناس هذا! ولا أقصد بـ"أمةِ الإسلام" المفهوم الضيق المتعارف عليه بين معظم المسلمين والذي يُقصد به أتباع الرسول العربي محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-، وإنما أقصد بـ"الأمة" المفهومَ الأوسع لها، والذي يشمل كلَّ المسلمين الموحدين عبر جميع مراحل التاريخ البشري! في هذا الكتاب. . . أصطحب القارئ الكريم في رحلة تاريخية ممتعة، نسافر فيها عبر جميع حقبات التاريخ الإنساني، ونكسر فيها حاجزي الزمان والمكان، لنتنقل سوية إلى بقاعٍ مختلفة في الكرة الأرضية، من اليابان شرقًا، إلى تشيلي غربًا، ومن السويد شمالًا، إلى جنوب أفريقيا جنوبًا، لنسبر أغوار 100 عظيمٍ في أمة الإسلام غيروا مجرى التاريخ! هؤلاء العظماء المائة -الذين لا أزعم أبدًا أنهم الأعظم- سيكونون على أشكالٍ مختلفة، فالعظيم في هذا الكتاب قد يكون رجلًا، أو امرأة، مجموعة اجتماعية، أو قومية عرقية، قائدًا أو جنديًا، عربيًا كان أو أعجميًا، أو قد يكون ذلك العظيم عالمًا مخترعًا، أو شاعرًا أديبًا، شهيرًا يشار إليه بالبنان، أو مجهولًا ضاع في غياهب النسيان، مرتبًا أسماءهم بمنهاجٍ -أزعم أنه مبتكر- لا يُراعى فيه تفاوتهم في الفضل أو العظمة، فضلًا على أن يُراعى فيه بُعدا الزمان والمكان، ليقصَّ لنا كل عظيمٍ منهم قصة الإسلام في الزمان الذي ظهر فيه، والبلاد التي خرج منها، حتى إذا ما وصلنا إلى العظيم المائة، نكون قد أخذنا صورة شاملة لتاريخ الإسلام. . .

وبالرغم من يقيني الكامل أن هذه الصورة إنما هي صورة مصغرة للتاريخ الإسلامي (الذي اكتشفت بعد انتهائي من كتابة هذا العمل أنه تاريخٌ أوسع بكثيرٍ مما توقعت!)، وبالرغم من إدراكي التام أن عظماء الإسلام لا يمكن حصرهم أبدًا، حاولت مجتهدًا على مدى أكثر من عام من العمل المتواصل أن أختار مائة نموذج إسلامي نستطيع من خلالهم استعراض قصة الإسلام على مرِّ العصور، آخذًا في عين الاعتبار أن يكون عرضي التاريخي لكل عظيم منهم مناسبُا لطبيعة الغرض المصاحب له، فتارة يكون الغرض هو السرد التاريخي البحت، وتارة يكون الغرض هو الدفاع عن صاحب تلك الشخصية، وتارة يكون الغرض منصبًا في الأساس على رد الشبهات الخطيرة التي ألقيت جزافًا على الإسلام، وتارة أخرى يكون غرضي هو الهجوم على أعداء الأمة! في هذا الكتاب. . . سنحاول الإبحار في تاريخ السيرة النبوية، وحكايات الصحابة، وقصة دول الخلافة المتعاقبة، وقصة الدول المستقلة، وقصة الصليبيين، وقصة التتار، وقصة الاستخراب (الاستعمار) الأوروبي في القرنين الأخيرين، وقصة الفتنة، وقصة الردة، وقصة الفتوحات، وسنحاول جاهدين معرفة سر الشيعة، بدايتهم، خصائصهم السبع، عقيدتهم، خطرهم، مخططاتهم المستقبلية، وسنحاول في هذا الكتاب دراسة قصة الحضارة الإسلامية، مميزاتها، منجزاتها، أهم علمائها، سندرس كيفية بناء الإمم، وكيفية انحدارها، وسنأخذ تاريخ الأندلس كمثالٍ حي على ذلك، سنفصل تاريخ الأندلس بشكل مستفيضٍ إلى حدٍ ما، سندرس قصة الفتح الإسلامي في هذا البلد، وسنعرج على قصة الإمارة الإسلامية هناك، ومن ثم على قصة الخلافة الإسلامية في قرطبة، وقصة ممالك الطوائف، ثم نفصل قليلًا في قصة إمبراطورية المرابطين، فالموحدين، ثم ندرس سقوط الأندلس، أسبابه، ارهاصاته، ثم ندرس حال المسلمين الأندلسيين بعد السقوط، وقصة الانتفاضة الشعبية الكبرى هناك، وأخيرًا نتطرَّق إلى قصة محاكم التفتيش المرعبة في الأندلس، نتسلل من خلالها إلى أقبيتها السرية، وآلات التعذيب المخيفة، ثم نبحر في هذا الكتاب مع الأسطول الإسلامي العملاق، لندرس حكاية "معركة بروزة الخالدة" أكبر معركة بحرية في تاريخ الإسلام، ثم نستمر بالإبحار في هذا الأسطول الإسلامي العثماني، حتى نصل سوية إلى شواطئ الأمريكيتن، لندرس هناك قصة الهنود الحمر، ونذكر أسرارًا خطيرة تكشف لأول مرة عن تاريخهم وعن

علاقتهم بالإسلام، سندرس في أمريكا الجنوبية قصة الإرهاب الإسباني البرتغالي البشع، وسندرس في أمريكا الشمالية أبشع قصة عرفتها الإنسانية، قصة الاستعباد، ثم ندرس قصة تحرر الأفارقة السود، وعلاقة الإسلام بحركة التحرر تلك، قبل أن نرجع مرة أخرى إلى العالم القديم لندرس حكاية العثمانيين الأتراك بالتفصيل، لنتطرق إلى الأسباب التي أدت إلى قيامهم، والأسباب التي أدت إلى سقوطهم، بعد أن نكون قد درسنا قصة فتوحاتهم، وأهم معاركهم، لنرفق في نهاية هذا الكتاب رسالة سرية بخط يد الخليفة عبد الحميد الثاني يبين فيها علاقة اليهود بعزله، سندرس في هذا الكتاب قصة "يهود الدَّونمة" وعلاقتهم بالدولة التركية الحديثة، سندرس في هذا الكتاب قصة الصعود الإسلامي الجديد لتركيا، تاريخه، أبطاله، أهدافه المستقبلية القادمة، سنفصل في هذا الكتاب قصة الإسلام في الهند، بعد أن نأخذ لمحة تاريخية عن تاريخ الهند الديني والاجتماعي، سندرس في هذا الكتاب تاريخ الفّرس، منذ بداية نشوء الحضارة الفارسية اللآرية وحتى تكون الدولة الخمينية الحديثة، سنحاول أيضًا فهم سر الحقد الدفين ضد العرب بالتحديد، بعد أن نكون قد أخذنا لمحة تاريخية عن تاريخ العرب كأمة حاضنة للإسلام، نشأتهم، قبائلهم، نظامهم السياسي والاجتماعي قبل الإسلام، تاريخهم الديني والثقافي، سندرس في هذا الكتاب سر اللغة العربية، وسر الهجوم المخيف عليها في السنوات الأخيرة، سنذكر في هذا الكتاب أيضًا قصيدة عجيبة لأعظم شاعرٍ في تاريخ الجنس البشري، سندرس في هذا الكتاب حكاية حركات التحرر العربية ضد الاستخراب الأوروبي في القرنين الأخيرين، وسنتطرق إلى أبطال التحرر في المغرب والجزائر وتونس وليبيا ومصر وفلسطين، وسنفصل في هذا الكتاب مفهوم التوحيد بشكلٍ موسع، بعد أن ندرس قصة ثلاثة أبطالٍ للتوحيد ظهروا في نجد والحجاز وموريتانيا، سندرس في هذا الكتاب تاريخ فلسطين، وتاريخ الصراع الإسلامي الصليبي، والصراع الإسلامي المجوسي، سنحاول في هذا الكتاب دراسة الخصائص العامة التي تجمع عظماء الإسلام، والخصائص العامة التي تجمع علماء المسلمين، سنحاول شرح بنود نظرية تاريخية جديدة تحاول شرح مفهوم الغزو التاريخي، سنحاول في هذا الكتاب قطف زهرة من بستان كل زمن في تاريخ المسلمين، أي أننا في نهاية هذا الكتاب سنكون قد أخذنا لمحة لا بأس بها عن قصة الإسلام. . .

في هذا الكتاب سنحاول الإجاجة عن هذه الأسئلة: ما هي بنود نظرية الغزو التاريخي؟ ومن هم غزاة التاريخ؟ من هو الخالد الأول في أمة الإسلام؟ ومن هو العدو الأول لغزاة التاريخ؟ ما قصة الأخوان بربروسا؟ ومن هم الفرسان الثلاثة؟ ومن هو الرجل الغامض آريوس؟ وما قصة مجمع نيقية؟ ما حكاية القادسية؟ ومن هم أسودها؟ ما حكاية معركة الزلاقة؟ ومن هو قائد معركة الأرك الخالدة؟ من هم المرابطون؟ وكيف أسَّسوا أكبر إمبراطورية في تاريخ أفريقيا؟ من هو الداعية الصعيدي الذي فتح اليابان؟ ومن هو الشيخ البربري الذي فتح 20 دولة أفريقية بمفرده؟ من هو المحارب الثالث عشر؟ وما حكاية مغامرته في القطب الشمالي؟ من هم أصحاب الملابس البيضاء؟ ومن هم أصحاب الملابس السوداء؟ من هو نسر تونس العملاق؟ ومن هو إمام الجزائر العظيم؟ وما حكاية أسطورة المغرب الإسلامي؟ كيف انتشر الإسلام في أدغال أفريقيا وفي أحراش الهند وفي سهول أوروبا؟ من هو العالم الإسباني الذي اكتشف أكبر سر موجودٍ في الكتاب المقدس؟ وما هو ذلك السر الخطير الذي يمكنه أن يغير خارطة العالم؟ ما هي حكاية غزوة بدر؟ وما هي أحداث غزوة تبوك؟ من هم أبطال اليمن السعيد؟ وما هي حكاية أهل الشام؟ وكيف أنقذ المصريون الإسلام من أكبر خطرٍ مرَّ على الأمة الإسلامية؟ ما قصة رسالة رسول اللَّه إلى هرقل؟ وكيف كان هرقل قاب قوسين أو أدنى من أن يسلم؟ ولماذا امتنع في اللحظة الأخيرة عن ذلك؟ ما حكاية محاكم التفتيش المرعبة؟ وما قصة العبيد في أمريكا؟ كيف دمَّر المسلمون الإمبراطورية الفارسية إلى الأبد؟ ولماذا سُمِّي الفرس بهذا الاسم؟ وما قصة رسل الإسلام لرَستم قائد جيوش فارس؟

من هم الصفويون؟ كيف جاءوا؟ وكيف اختفوا؟ وكيف عادوا من جديد؟ ومن هم العثمانيون؟ كيف جاءوا؟ وكيف اختفوا؟ وكيف عادوا من جديد؟ من هو الرئيس الأمريكي الذي كان مسلمًا؟ ولماذا أخفى إسلامه؟ وهل كان الهنود الحمر مسلمين قبل أن تأتيهم سفن كولومبس الصليبية؟ من هم التتار؟ من أين جاءوا؟ وكيف انتهت إمبراطوريتهم؟ ومن هم الصليبيون؟ وما هي الأسباب الخفية للحملات الصليبية على الإسلام؟ من هو أعظم شاعر في تاريخ الإنسانية؟ ومن هو الرجل الذي يُبعث أمة وحده يوم القيامة بين محمد وعيسى؟ من أين جاء الأنصار؟ وكيف كان اليهود سببًا في إسلامهم السريع؟ ماذا كتب هارون الرشيد على ظهر رسالة نقفور؟ وماذا كتب المعتمد ابن عباد على ظهر رسالة ألفونسو؟ من هو الأمير الأفريقي المسلم الذي أصبح عبدًا في أمريكا لمدة أربعين عامًا؟ ومن هو (×)؟ وكيف تغيرت حياته بعد زيارته لمكة؟ من هي أقوى امرأة في تاريخ نساء الأرض؟ ومن هي المرأة التي يعني اسمها بالعبرية "العابدة"؟ وما حكاية ماشطة بنت فرعون؟ من هو قائد قوات الكوماندوز المحمدية؟ ومن هو البطل الإسلامي الذي نزل جيش كامل من الملائكة على نفس هيأته؟ من هو صاحب بشارة رسول اللَّه؟ وكم دولة أوروبية فتح؟ ما حكاية حروب الردة؟ وما قصة حديقة الموت؟ ومن هو الخائن الذي كان أشد خطرًا على المسلمين من مسيلمة الكذاب نفسه؟ لماذا يُهاجم تاريخ الإسلام بكل شراسة في السنوات الأخيرة بالذات؟ للإجابة على كل هذه التساؤلات وغيرها من الأحداث المثيرة والشيقة. . . تابعوا معنا أحداث هذا الكتاب!

1 - العظيم الأول في أمة الإسلام (أبو بكر الصديق)

العظيم الأول في أمة الإسلام (أبو بكر الصديق) " ويأبى اللَّه والمؤمنون إلا أبا بكر" (رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-) لم يكن في نيَّتي أن أرتب أسماء العظماء المائة في أمة الإسلام على حسب فضلهم ومقامهم، فليست هذه هي الغاية من هذا الكتاب على الإطلاق، والواقع أنني قررت أن أسلك مسلكًا في الكتابة لا يراعي فارق الزمان أو فارق المكان فضلًا على أن يراعي فارق العظمة بينهم، فبعد أن استثنيت من هذا الكتاب الأنبياء والرسل الذين هم أعظم الخلق بدون أي منازع، صار الأمر عندي سيّان في ترتيب العظماء بما أراه مناسبًا لإنجاز هذا العمل الأدبي، حتى وإن تأخر ذكر أحد العظماء المائة الذي يفوق من قبله فضلًا ومكانة في الإسلام. إلّا أن القلم يخجل قبل صاحبه أن يكون على رأس أول كتابٍ من نوعه عن عظماء أمة الإسلام مخلوقٌ غير أبي بكر الصديق رضي اللَّه عنه وأرضاه، وكأني برسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في فراشه الأخير وهو يأمر المسلمين أن يكون أبو بكر هو الإمام المقدَّم قائلًا: "ويأبى اللَّه والمؤمنون إلا أبا بكر"، لذلك أصبح لزامًا علي أن أضع استثناءً وحيدًا في ترتيب المائة في هذا الكتاب بحيث يكون أولهم هو أعظمهم في نفس الوقت، بل هو الإنسان الأعظم بعد الأنبياء، فهو أول من سيدخل الجنة من البشر بعد الأنبياء، بعد أن كان أول إنسان حمل شعلة التوحيد التي تركها الأنبياء لينير بها ظلام الدنيا في مشارق الأرض ومغاربها، ليكون هذا الرجل صاحب السبق في تحمل عبء الدعوة التي أوكلت لأول مرة في التاريخ إلى البشر العاديين دون الأنبياء. وأبو بكر الصديق هو صاحب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قبل الإسلام وبعده، والإنسان الوحيد الذي اختاره اللَّه من فوق سبع سماوات ليصحب رسوله في الهجرة، وأبو بكر هو أول

رجلٍ في التاريخ يؤمن برسالة محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-، وهو أول أعظم عشرة رجال وطأت أقدامهم الأرض بعد الأنبياء، وأبو بكر هو الرجل الذي حمل عبء الدعوة على عاتقه منذ أول يومٍ أسلم فيه ليسلم على يديه خمسة من العشرة المبشرين بالجنة، وأبو بكر هو أبو السيدة عائشة رضي اللَّه عنها وأرضاها، وأبو بكر هو أول خليفة لرسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. والحقيقة أن عظمة أبي بكر رضي اللَّه عنه وأرضاه وإن كانت قد برزت بعد إسلامه بشكل لافت، إلا أنها لم تكن وليدة اللحظة، فقد كان أبو بكر من خيرة رجال مكة قبل الإسلام، فهو أحد العشرة الذين قُسِّمت بينهم أمور مكة في جاهليتها، وقد عُهد إليه أمرُ الديات والكفالات في قريش، فكان لزامًا على كل من أراد أن يستدين شيئًا في مكة أن يطلب كفالة أبي بكر الصديق أولًا. ولأن فضل أبي بكر الصديق لا يخفى على أحد من المسلمين، ولأن ذِكرَ جميع مظاهر عظمة هذا الرجل يعتبر من رابع المستحيلات، فقد ارتأيت من باب الإيجاز أن أذكر فضلين اثنين فقط للصِّديق، لو لم يقدم أبو بكر سواهما للإسلام لكفياه لكي يتربع على قمة صرح العظماء إلى يوم يبعثون، ولن أسترسل في ذكر الجانب الديني لهذا الرجل، فقد كتب من هو خير مني عنه وما زالوا يكتبون، ولكني سأحاول أن أذكر سبب عظمة هذا العظيم الإسلامي من جانب إنساني بحت، هو أقرب إلى الحياد التاريخي منه إلى التحيز، وإن كنت لا أزعم أبدًا الحياد التام وأنا اكتب عن صاحب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. الفضل الأول لأبي بكر الصديق عليَّ وعليك وعلى سائر المسلمين بل وعلى سائر البشر هو وقوفه حائلًا منيعًا أمام انحدار العنصر البشري إلى ظلمات الجهل والتخلف بعد انقطاع الوحي السماوي وانتهاء زمن الأنبياء والرسل إلى الأبد، فلقد بعث اللَّه الأنبياء بدعوة التوحيد عبر جميع العصور، فآمن بهم من آمن وكفر بهم من كفر، ولكن أغلب أولئك المؤمنين وذريتهم انحرفوا عن جادة الصواب بعد موت أنبيائهم، فحرَّفوا رسالة اللَّه عن قصد أو غير قصد بعد أن ضاعت الكتابات الأصلية لهذه الرسالات، فأشرك معظم العرب بعد موت إبراهيم باللَّه الواحد واتخذوا لأنفسهم أصنامًا ظنًا بهم أنها تقربهم إلى اللَّه، وعبد النصارى عيسى عليه السلام بعد أن رفعه اللَّه، بل إن بني إسرائيل عبدوا العجل لمجرد غياب موسى عنهم لمدة أربعين يومًا فقط! واتخذ قوم نوح أولياء اللَّه

الصالحين أربابًا من دون اللَّه بقصدٍ أو بدون قصد، ظنًا منهم أنهم يتقربون بذلك إلى اللَّه، فصارت المرأة تدعو الأموات دون اللَّه لكي يرزقها بالذرية، وصار الرجل المهموم يذهب للميت لكي يفرج عنه الغم والكرب، بل وصل الشطط ببعض الناس لكي يطوفوا حول قبور أنبيائهم وأولياء اللَّه الصالحين، فصاروا للكفر يومئذٍ أقرب منهم للإيمان! ولمّا كانت رسالة محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- هي آخر رسالة تبعث للبشر، أصبح ضياع هذه الرسالة أو تحريفها ضياعًا للمستقبل البشري وأسباب كينونته، والحقيقة أن ذلك كاد أن يحدث فعلًا لولا أن سخّر اللَّه لبني الإنسان رجلًا اسمه عبد اللَّه بن عثمان أبي قحافة بن عامر التيمي القرشي، وهو نفسه الرجل الذي عُرِف في التاريخ باسم "أبي بكر الصديق" (لتبكيره في الدخول في الإسلام وتصديقه لحادثة الإسراء والمعراج من أول لحظة!)، فوقف هذا العملاق العظيم بعد موت حبيب روحه ورفيق دربه، ليبين للمسلمين أعظم قاعدة عرفتها البشرية بعد الأنبياء، قاعدة تكتب واللَّه بحروف من ذهب: "من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد اللَّه فإن اللَّه حي لا يموت" الفضل الثاني لأبي بكر يكمن في انتصاره على جيوش الروم والفرس في آن واحد! فقد حاول رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في حياته أن يصل برسالة التوحيد إلى شعوب العالم بأسره، وفعلًا قام باستخدام الوسائل السلمية في دعوة البشر، فأرسل رسله إلى ملوك الأرض برسائلٍ تدعوهم إلى عبادة رب الناس وترك استعبادهم للناس، إلا أن أولئك الملوك رأوا في الإسلام ما يتناقض مع ظلمهم وجبروتهم على شعوبهم المستضعفة، فقاموا بقتل الرسل، وحجب رسالة الإسلام عن شعوبهم المستضعفة، فأعلنوا الحرب على رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فمزق كسرى الفرس المتغطرس (خسرو الثاني) رسالة أعظم إنسان عرفته الأرض، وأوعز إلى عامله في اليمن باعتقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، أما إمبراطور الروم (أغسطس هرقل) فقد حارب الإسلام رغم إيمانه بصدق نبوة محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- (كما سنرى لاحقًا في خضم هذا الكتاب)، لذلك قام أبو بكر الصديق جزاه اللَّه كل خير بعملٍ لم يسبقه إليه أحد في تاريخ الفاتحين، فالمعلوم أن ثمة قاعدة عسكرية ثابتة منذ قديم الزمان ما زالت تدرَّس في الكليات العسكرية الحديثة، ألا وهي "تجنب فتح أكثر من جبهة واحدة في القتال العسكري! "، فلقد انهزم (نابليون بونابرت) عندما فتح جبهة ثانية مع "روسيا القيصرية"،

وتمزق جيش (أدولف هتلر) شر ممزق عندما فكر في فتح جبهة "ستالين غراد" الشرقية، ولكن أبا بكر الصديق كان هو الإنسان الأول في تاريخ الأرض الذي كسر هذه القاعدة العسكرية بقتال جيوش أكبر إمبراطوريتين في الأرض في نفس الوقت، فبعد أن رفض أباطرة الفرس والروم السماح لدعاة الإسلام بنقل رسالة التوحيد للشعوب المستضعفة، قام أبو بكر الصديق بتسيير كتائب النور بفرسانٍ جلهم من أن أصحاب محمد بن عبد اللَّه، فدكَّ الصِّديق حصون كسرى على الجبهة الشرقية بجيشٍ تحت قيادة البطل الأسطوري (خالد بن الوليد)، وزلزل أبو بكر ديار الروم على الجبهة الغربية بجيشٍ تحت قيادة العملاق (أبي عبيدة عامر بن الجراح)، وما هي إلا سنيّاتٍ قليلة من إعلان أبي بكر الحرب على أعظم إمبراطوريتين عرفهما التاريخ في وقتٍ متزامن حتى أصبحت دولة الإسلام الدولة الأولى في العالم بأسره. الجدير بالذكر أن أبا بكر الصدِّيق رضي اللَّه عنه وأرضاه لم يكن آخر من كسر تلك القاعدة العسكرية، فلقد قام قادة آخرون بكسرها بكل نجاح (جميعهم بدون استثناء من أمة الإسلام!) ليقف علماء التاريخ العسكري عاجزين عن حل تلك الأحجية السحرية! فلقد دارت تلك الأحجية السحرية أيضًا حول رجلٌ ظهر في أقصى بلاد المغرب الإسلامي بعد أكثر من 1300 عام من موت أبي بكر الصديق، فلم يكتف ذلك الرجل بقتال إمبراطوريتين فقط، بل قام بقتال أعظم ثلاث إمبراطوريات في العالم آنذاك! فمن يكون ذلك الرجل العظيم الذي أنجبته أمة الإسلام والذي أصبح اسمه رمزًا لثوار العالم في الأرض كلها؟ وكيف استلهم منه ثوار آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية معنى الكفاح المسلح؟ وكيف اعتبره ثوار فيتنام أستاذًا لهم في معركتهم ضد الإمبريالية العالمية؟ وما حكاية معركة (أنوال) الأسطورية التي كانت وبلا شك يومًا من أيام اللَّه الخالدة؟ وما هو لغز تلك البرقية السرية المشفَّرة التي وصلت إلى الأمين العام لجامعة الدول العربية عام 1947 م من ميناء صنعاء اليمني؟ يتبع. . . . .

2 - أسطورة المغرب الإسلامي (الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي)

" أسطورة المغرب الإسلامي" (الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي) " أيها الأمير. . . لقد أتيت إلى القاهرة خصيصًا لكي أتعلم منك" (الثائر الشيوعي تشي جيفارا 1960) "إن هذا الرجل الذي ينادي باسمه أهل آسيا وأفريقيا والهند، ويتغنون باسمه. . . إن هذا الرجل الذي يقاتل باسم الإسلام ويعيد إمارة المؤمنين والخلافة الإسلامية، هو الخطر القادم على البلاد الأوروبية" (السير كورتي عضو مجلس العموم البريطاني 1921) "دخلت على عبد الكريم في خندق أمامي، والطائرات الإسبانية والفرنسية تقذف المنطقة بحمم هائلة فوجدته متبسمًا مرحًا مقبلًا يضرب ببندقيته الطائرات، فتعجبت من هذه الظاهرة البشرية الفريدة! " (الصحافي الأمريكي فانسن شون 1926) لم يصدق (عبد الرحمن عزام باشا) أول أمين لجامعة الدول العربية عينيه، وهو يقرأ تلك البرقية السرية التي وصلته من مجموعة من المجاهدين العرب في اليمن في يوم من أيام عام 1947 م: (عاجل وسري للغاية. . . لقد نزلت بميناء عدن اليوم سفينة فرنسية تحمل على متنها شيخًا أسيرًا مكبلًا بالسلاسل، يشتبه أن يكون هو ذلك البطل الإسلامي الأسطوري الذي اختفى منذ عشرين عامًا. . . والسفينة في طريقها الآن إلى فرنسا وستمر غدًا بميناء بورسعيد المصري، لذا وجب التنبيه!) وما أن فرغ عزام باشا من قراءة هذه البرقية حتى طلب على الفور مقابلة مستعجلة مع (الملك فاروق) لمناقشة أمر هذه البرقية الخطيرة التي وصلته للتو من مضيق باب المندب، فدار نقاش سري بين عزام باشا والملك فاروق في قصر إقامته، وما هي إلّا لحظات حتى صدر قرار إلى الضباط

المصريين في قناة السويس باعتراض طريق تلك السفينة الفرنسية وإحضار ذلك الشيخ الكبير إلى القصر الملكي في القاهرة للتأكد من هويته، وبعدها بأقل من أربع وعشرين ساعة أحضر الضباط المصريون إلى الملك شيخًا بلحية بيضاء كالثلج يمشي بخطوات ثابتة رغم بطئها، تبدو من بين قسمات وجهه الغائرة مظاهرٌ للعظمة والسمو لا تخفى على أحد، يلبس لباسًا أبيض غاية في البساطة، وتظهر على يديه وساقيه الهزيلتين علامات لسلاسل وأعلال وكأنها نُحتت في جلده نحتًا، فلمّا أصبح هذا الشيخ بين يدي الملك فاروق سأله ملك مصر عن هويته، فرفع الشيخ الكبير رأسه ونظر نحو الملك بعينين كعيني الصقر الجارح ثم قال بكل شموخ وثقة: (أنا الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي). . . نُغوِّر قليلًا في التاريخ، ونتحول إلى الغرب من القاهرة وبالتحديد إلى بلدة "أغادير" في الريف المغربي الإسلامي في سنة 1301 هـ/ 1883 م، هناك يُرزق شيخ قبيلة من قبائل الأمازيغ البربر يدعى الشيخ "عبد الكريم الخطابي" مولودًا يسميه تبركًا على اسم رسول اللَّه محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-، ليقرر هذا الشيخ تربية ابنه تربية صالحة منذ نعومة أظافره، وفعلًا قام بتعليمه اللغة العربية وتحفيظه القرآن بنفسه، ثم أرسله إلى جامعة "القرويين" في مدينة "فاس" ليتعلم هناك الحديث والفقه الإسلامي، وما هي إلا سنوات حتى أصبح "محمد ابن عبد الكريم الخطابي" قاضي القضاة في مدينة "مليلية" المغربية وهو ما يزال في عمر الشباب. في هذا الوقت كانت ظروف المغرب الإسلامي أصعب من أن يتخيلها إنسان، فلقد أدركت الدول الاستخرابية (الاستعمارية) أن بلاد المغرب الإسلامي تعتبر بمثابة مصنع للأبطال عبر التاريخ، فمنها خرج مجاهدو دولة "المرابطين" إلى الأندلس، ومنها أبحرت قوات دولة "الموحدين" إلى أوروبا، ومنها انطلقت كتائب النور الإسلامية أول مرة إلى أوروبا تحت قيادة (طارق بن زياد) فقررت تلك الدول إنهاء هذا الخطر الإسلامي، فعقدت دول أوروبا مؤتمر "الجزيرة الخضراء" عام 1906 م بمشاركة 12 دولة أوروبية، ولأول مرة في التاريخ يظهر اسم "أمريكا" لتكسر بذلك الولايات المتحدة الأمريكية "مبدأ مونرو" الذي ينص على: "عدم التدخل الأمريكي في السياسة الدولية"، كل هذه الدول اجتمعت من أجل انهاء هذا الكابوس الإسلامي المستمر إلى الأبد، فكان

القرار النهائي لهذا المؤتمر: تقسيم بلاد المغرب الإسلامي! العجيب أن تلك الدول لم تكتفِ بتقسيم مملكة المغرب الإسلامي فحسب، بل قسمتها بطريقة خبيثة لم تعرفها شعوب الأرض من قبل، بحيث تضمن تفككها بشكل نهائي، فأخذت فرنسا القسم الجنوبي من مملكة المغرب "موريتانيا"، ثم أخذت إسبانيا القسم الذي يليه في الشمال "الصحراء الغربية"، ثم مرة أخرى فرنسا إلى الشمال من الصحراء "وسط المغرب الحالي" ثم إسبانيا إلى الشمال أيضًا في الساحل الشمالي للمغرب "الريف المغربي"، وبين هذا وذاك احتلت ألمانيا وبريطانيا مدنًا هنا وأخرى هناك، وظن الجميع أنهم بذلك أنهوا الوجود الإسلامي في بلاد المغرب الأبد، ولكن الشيخ عبد الكريم الخطابي وابنه محمد جزاهما اللَّه كل خير كان لهما رأي آخر، فبدءا بتجميع القبائل المتناحرة على راية الإسلام الواحدة، ومراسلة الخليفة العثماني في عاصمة الخلافة، عندها قتل الإسبان الشيخ المجاهد عبد الكريم الخطابي رحمه اللَّه، وأسروا ابنه الشيخ محمد، ووضعوه في أحد السجون في قمة جبل من جبال المغرب، وبطريقة أسطورية لا توصف، استطاع البطل بن البطل أن يصنع حبلًا من قماش فراشه، ليحرر به نفسه من نافذة السجن، ولكن الحبل ولسوء الحظ لم يكن بالطول الكافي ليصل بالخطابي من قمة الجبل إلى الأرض، ليقفز بطلنا من ارتفاع شاهق على الصخور الصمّاء، لتكسر بذلك ساقيه ويُغمى عليه من شدة الصدمة، قبل أن تكتشف سلطات السجن أمره وتعيده إلى السجن. وبعد حين من الأسر خرج الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي من السجن ليكوِّن من رجال قبائل الريف المغربي جيشًا من ثلاثة آلاف مقاتل فقط، مبتكرًا بذلك فنًا جديدًا من فنون القتال العسكري كان هو أول من استخدمه في تاريخ الحروب تحت اسم "حرب العصابات"، وقد استخدم كل ثوار العالم بعد ذلك هذا الفن العسكري القائم على فنون المباغتة والكر والفر. ثم ابتكر الأمير محمد نظامًا آخر في المقاومة اعترف الزعيم الفيتنامي (هوشيمنه) أنه اقتبسه من الأمير الخطابي في قتال الفيتناميين للأمريكيين بعد ذلك بسنوات، هذا النظام هو نظام حفر الخنادق الممتدة تحت الأرض حتى ثكنات العدو، وبذلك استطاع هذا البطل الإسلامي تلقين الجيش الإسباني درسًا جديدًا في كل

يومٍ من أيام القتال. ولما تضاعفت خسائر الإسبان في الريف الإسلامي قام ملك إسبانيا (ألفونسو الثالث) عشر بإرسال جيشٍ كاملٍ من مدريد تحت قيادة صديقه الجنرال (سلفستري)، والتقى الجمعان في معركة "أنوال" الخالدة، جيش إسباني منظم مكون من 60 ألف جندي مع طائراتهم ودباباتهم مقابل 3 آلاف مجاهد مسلم يحملون بنادق بدائية فقط، ولكن هذان خصمان اختصموا في ربهم، فئة تقاتل في سبيل اللَّه، وأخرى تقاتل في سبيل الأرض والصليب، فكان حقًا على اللَّه نصر المؤمنين، وفعلًا انتصر الثلاثة آلاف مجاهد تحت قيادة الأسطورة الخطّابية على جيش كامل من 60 ألف مقاتل صليبي، وقتل المسلمون 18 ألف إسباني، وأسروا عشرات الآلاف من الغزاة، ولم يسلم من الهلاك والأسر إلّا 600 جندي إسباني هربوا إلى إسبانيا كالكلاب الفزعة، ليقصّوا أهوال ما رأوا في الريف المغربي على ملكهم، ليأسس الأمير الخطابي بعد ذلك "إمارة الريف الإسلامية" في شمال المغرب الإسلامي، وخلال 5 أعوام من إمارته قام الخطابي بتعليم الناس الدين الإسلامي الصحيح الخالي من الشعوذة والدروشة، ثم قام بإرسال البعثات العلمية لدول العالم، وتوحيد صفوف القبائل المتناحرة تحت راية الإسلام. . . . وكما هو متوقع بعد كل صحوة إسلامية. . . . اجتمعت دول الصليب مرة أخرى (وهي التي لا تجتمع إلّا في قتال المسلمين!)، بعد أن أحست بخطر الدولة الإسلامية الوليدة التي لو بقيت لغيرت مسار التاريخ، فكوَّنوا تحالفًا من نصف مليون جندي أوروبي بدباباتهم وطائراتهم وبوارجهم الحربية، ليحاربوا به 20 ألف مجاهد فقط، فكانت المفاجأة الكبرى! لقد انتصر المجاهدون تحت قيادة الأمير المجاهد محمد ابن عبد الكريم الخطابي في جميع الجولات التي خاضوها، فأوقعوا الخسائر تلو الخسائر في صفوف الغزاة، مما اضطر جيوش أوروبا المتحالفة أن تشتري ذمم بعض شيوخ الطرق الصوفية المبتدعة، فقام هؤلاء الخونة بقتال الأمير الخطابي الذي كان يحارب من قبل البدع الصوفية من الرقص والدروشة وإقامة الموالد التي لم ينزل اللَّه بها من سلطان، فأصدروا فتوى تحرم القتال مع الخطابي، قبل أن تقوم طائرات فرنسا وإسبانيا بإلقاء الأسلحة الكيميائية والغازات السامة على المدنيين، في نفس الوقت الذي حاصر فيه الأسطول الإنجليزي سواحل المغرب، فقاتل الخطابي أمم الأرض مجتمعة من خونة

وصليبيين، ولم يبقَ معه من المجاهدين إلا 200 مقاتل عاهدوا اللَّه على الشهادة تحت قيادته، فقاتل أولئك النفر كالأسود حتى يأس الصليبيون من هزيمتهم، فلجئوا عندها إلى أسلوب قديم حديث ستجدونه يتكرر كثيرًا في طيّات هذا الكتاب في قصص العظماء المائة في أمة الإسلام، لقد لجأ الصليبيون إلى طلب الصلح مع الأمير محمد مع إعطاء المسلمين الضمانات الموثقة على سلامة كل المجاهدين وإتاحة سبل العيش الكريم لأهل المغرب بكل حرية واستقلال. وكعادتهم. . . . نكص الصليبيون بعهودهم، فقاموا بخطف الأمير الأسطورة المجاهد محمد بن عبد الكريم الخطابي ونفيه إلى جزيرة في مجاهل المحيط الهندي، ليس لسنة أو اثنتين، بل لعشرين سنة متصلة قضاها هذا البطل في أسر دعاة حقوق الإنسان، في أسر من خرجوا للعالم بشعار الثورة الفرنسية: (Fraternite, Libere, Egalite) (حرية، مساواة، إخاء)، فأي حرية تدَّعونها أيها المجرمون في حبس شيخ ضعيف مدة عشرين سنة؟! وأي مساواة تتكلمون عنها وأنتم تقتلون نساء المسلمين وأطفالهم بغازاتكم السامة القذرة؟! وأي إخاء تسخرون به من عقول المغفلين بحضارتكم القائمة على دماء الضعفاء من البشر؟! فإن كان قتلكم للضعفاء من بني البشر حضارةً. . . . فسحقًا إذًا لكم ولحضارتكم تلك! وبعد. . . . كانت هذه بعض سطورٍ عن ملحمة إسلامية خالدة، هي غاية في البطولة لقائد إسلاميٍ عظيمٍ ضحى بزهرة شبابه لرفع راية لا إله إلا اللَّه - محمد رسول اللَّه، ومما يحزن النفس ويدمي الفؤاد، أن معظم شبابنا ما سمعوا باسمه قَط، على الرغم من أن كثيرًا منهم متيمون بأبطالٍ لم يحاربوا إلا من أجل مصالح دنيوية ومبادئ شيوعية، فلو علم شبابنا ممن يعلقون صور الثائر الشيوعي (تشي جيفارا) أنه أتى للقاهرة ليتعلم من بطل الإسلام الأسطوري محمد بن عبد الكريم الخطابي، لتغير رأي شبابنا في تاريخهم الذي نسوه أو أنسوه (بضم الألف)، فصاحبنا هذا لم يكن صحابيًا، بل لم يكن عربيًا البتة، وبغض النظر عن مدى عظمة هذا البطل المغوار، فإن ذكره في مقدمة الكتاب يأتي ردًا على أولئك المساكين الذين إذا طلبت منهم الاقتداء ببطولات الصحابة وتضحياتهم تحججوا بحجة واهية، ألا وهي أننا لسنا من جيل الصحابةً، فكان ذكر رجل ظهر في

القرن العشرين الميلادي، لهو خير جوابٍ على أولئك الذين لم يقرءوا شيئًا عن تاريخ أمتهم المشرق. ولكن ما قصة أرض مصر التي احتضنت أبطالًا من كل الأعراق في أمة الإسلام ابتداءً من السلطان الكردي صلاح الدين الأيوبي، إلى الأمير المغربي محمد بن عبد الكريم الخطابي، مرورًا بالملك التركي قطز قاهر التتار؟ ومن هي تلك السيدة المصرية التي كانت أم العرب العدنانيين أجداد نبي الإسلام محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-؟ وما هو الدرس التي علمته هذه السيدة لبني البشر؟ ولماذا أصبحت هذه السيدة العملاقة واحدة من أعظم عظيمات أمة الإسلام؟ يتبع. . . . .

3 - (السيدة هاجر)

{رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} (السيدة هاجر) (آللَّه أمرك بهذا يا إبراهيم؟ فلن يضيعنا اللَّه إذًا) (السيدة هاجر) نصيب نساء الإسلام يفوق النصف بين عظماء هذه الأمة، إمّا بأفعالهن أو أفعال أبنائهن الذين تربوا على أيديهن، فلم أقصد أبدًا بكتاب العظماء المائة ذِكرَ عظيمي الإسلام دون عظيماته، وإنما قصدت الجمع بينهم بصيغة الجمع "العظماء"، وهكذا فعلت العرب عند جمع الذكور والإناث معًا، وهكذا أفعل أنا. . . . فأمة الإسلام أمة ممتدة لا تعرف حدودًا للعنصر البشري، فضلًا من أن تعرف حدودًا لزمان أو مكان، فالعظماء في هذه الأمة تجمعهم ثلاث صفات أساسية شكلت هويتهم الفريدة وميزتهم عن باقي البشر: (الوحدانية في العقيدة - والتنوع في العنصر - والسمو في الهدف) فعلى الرغم من أن السيدة هاجر قد ماتت قبل بعثة محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- بمئات السنين، إلّا أنها تنتمي لنفس العقيدة ونفس الدين، ألا وهو دين الإسلام، الدين الذي دعا إليه آدم ونوح وإبراهيم وإسماعيل وإسحق وإسرائيل ولوط وموسى وعيسى، فالدين عند اللَّه هو الإسلام، أما غير ذلك من أديان فهي أديان ابتكرها البشر لأنفسهم، فسمى البوذيون أنفسهم بهذا الاسم نسبة لفيلسوفهم (غوتاما بوذا)، وأطلق اليهود هذا الاسم على دينهم نسبة إلى (يهوذا بن يعقوب) أحد أسباط بني إسرائيل، والمسيحيون نسبوا أنفسهم إلى الرب الذي يعبدونه (المسيح بن مريم) عليه السلام، أما أتباع محمد بن عبد اللَّه فلم يسموا أنفسهم (المحمديين)، بل لم يكلّفوا أنفسهم عناء البحث عن اسم لهم، فلقد سمّاهم اللَّه من فوق سبع سماوات بـ (المسلمين)، فالمسلم هو كل من يُسلم نفسه للَّه. وعظيمتنا التي نحن بصدد الحديث عنها تنتمي لهذه الأمة العظيمة، أما عنصرها فهو عنصر رائع كان وما زال يخَرِّج العديد من عظماء أمة الإسلام، إنه العنصر المصري أو

القبطي، ولفظة القبط تعني سكان وادي النيل، وفي تعريب للكلمة اليونانية أَيْجيْتيوس التي تعني مصري! وليس كما يظن البعض أن القبطي هو المسيحي أو النصراني المصري، فالغالبية العظمى من الأقباط هم أقباط مسلمون! ومن هذه الأرض بالتحديد وُلدت بطلتنا القبطية التي كانت جارية في مصر إبان عهد الهكسوس، قبل أن يتزوجها إبراهيم عليه السلام لتنجب له إسماعيل عليه السلام ليكون فيما بعد أبًا للعرب العدنانيين (العرب المستعربة) الذين خرج منهم أفضل مخلوق خلقه اللَّه في الكون، محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-، فالمصريون إذا هم أخوال العرب! المهم في القصة أن اللَّه أمر خليله إبراهيم أن يصطحب هاجر ورضيعها إسماعيل من فلسطين إلى وادٍ غير ذي زرع في الحجاز عند جبال فاران، هناك أمر اللَّه نبيه إبراهيم أن يترك امرأته ورضيعها ليقصد هو فلسطين راجعًا، عندها سألت هاجر زوجها وعينيها تملؤها الدهشة من قرار زوجها الغريب، فلم يجب إبراهيم زوجه بشيء، فسألته هاجر: آللَّه أمرك بهذا؟! فهز إبراهيم رأسه بالإيجاب، وهنا يخرج جواب من فيهِ هذه السيدة العظيمة ليكون سببًا في خلودها في ذاكرة الزمان إلى أن يرث اللَّه الأرض ومن عليها فقالت بكل ثقة: فلن يضيعنا اللَّه إذًا! وسر عظمة هذه المرأة يتمثل بتطبيقها لشرطي النصر: الإيمان والعمل! فهاجر وثقت أولًا باللَّه عز وجل، ثم قامت بعد ذلك بكل ما في استطاعتها من سعي بين الصفا والمروة لإنقاذ ابنها الرضيع الذي كان يئن من ألم الجوع والعطش، حينها علم اللَّه أن هذه المرأة قامت بتنفيذ الشرطين اللازمين للنصر: الإيمان والعمل، وعندها -وعندها فقط- أتى الأمر الإلهي اليسير: كن! حينها خرجت من بين أقدام الطفل الذي أوشك على الهلاك عينُ ماءٍ تحمل في كل قطرة من قطراتها حكاية النصر والبقاء، لتجري هذه العين بشكل إعجازي من بين الصخور الصماء في مكة إلى يومنا هذا، وكأن اللَّه يقول لنا إن ينبوع النصر لا ينضب أبدًا! وفي زماننا هذا وجب على كل مسلم أن يتخيل نفسه في مكان هاجر عليها السلام، وأن يتخيل أن الأمة الإسلامية الآن هي ذلك الطفل الذي يبكي ويوشك على الهلاك في تلك الصحراء القاحلة التي لا يبدو فيها أي مظهر من مظاهر الحياة، فإذا قام كل واحدٍ

منا بتنفيذ الشرطين اللازمين للنصر والبقاء "الإيمان والعمل"، فكنا مؤمنين أولًا بأن أمتنا لا بد لها وأن تنهض، ثم قام كل واحدٍ منا بواجبه لإنقاذ وإحياء هذه الأمة التي هي الرضيع الذي يئن من الألم، فلا شك وقتها أن النصر سيكون حليفنا في النهاية، حتى لو كان ما نقوم به يبدو للآخرين شيئًا من العبث، فقد كانت أمنا هاجر تقوم بنفس هذا "العبث" في بحثها عن أسباب الحياة بين الصفا والمرة لسبع مرات! من أجل ذلك استحقت السيدة هاجر أن تكون من أعظم عظيمات أمة الإسلام، لتصبح هذه الجارية المصرية أمًا للعرب والمسلمين، فيصبح لزامًا على المسلمين تحرير بلاد أمهم من رجس الشرك أولًا ثم من ظلم الإمبراطورية الرومانية ثانيًا! فمَن هو ذلك البطل الإسلامي الذي حرَّر أرض أمنا هاجر من الاحتلال الروماني؟ وما هو سر ذلك الهجوم الإعلامي الشرس الذي يتعرض له هذا العظيم الإسلامي بالذات في السنوات الأخيرة؟ يتبع. . . .

4 - أرطبون العرب (عمرو بن العاص)

" أرطبون العرب" (عمرو بن العاص) (أَسْلَمَ النَّاسُ وَآمَنَ عَمْرُو بنُ الْعَاص) (محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-) (لقد رمينا أرطبون الروم بأرطبون العرب) (عمر بن الخطاب) (واللَّه يا مسيلمة إنك تعلم أني أعلم أنك تكذب) (عمرو بن العاص) كنت يومها صبيًا يافعًا في الصف التاسع في إحدى مدارس مدينة رفح الفلسطينية، يومها وقفت أمام أستاذي وقلت له والغيظ يملؤني: لماذا نضيع الوقت بدراسة قصة رجل بهذه الصفات؟! كان قلبي يومها مشبعًا بالغضب وأنا اقرأ قصة ذلك الرجل الذي طفحت كتب المناهج الدراسية بحكايات غدره وخيانته، ففشلت كل محاولات أستاذي لتغيير قناعاتي تلك عن ذلك الرجل، وكَبِرْت، وكبرَ معي طعني بذلك الرجل، غير أنني أحمد اللَّه عز وجل الذي ألهم بصيرتي وأمَّد في عمري حتى جاء اليوم الذي أكفر به عن خطيئتي تلك لأكتب عن رجل من أشرف الناس وأصدق الناس وأعظم الناس: "لقد جاء الوقت يا ابن العاص كي أطلب منك العفو بهذه الكلمات القليلة، سائلًا المولى عز وجل أن لا يخزني يوم القيامة أمامك يا أبا عبد اللَّه، وأن يجمعني بك في حضرة صاحبك، محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-، إنه ولي ذلك والقادر عليه" والحقيقة أن ذلك الظن السوء بعمرو بن العاص رضي اللَّه عنه وأرضاه لم يكن نابعًا من فراغ، فلقد كنت وقتها ضحية من ضحايا ما أحب أن أطلق عليه نظرية "الغزو التاريخي" هذا الغزو ليس غزوًا بالدبابات أو الطائرات أو حتى بالأفكار كالغزو الثقافي،

بل هو أخطر من ذلك بكثير، فالغزو التاريخي لا يحارب الواقع فقط، وإنما يحارب الماضي الذي بُني عليه الحاضر، ونظرية الغزو التاريخي تتلخص بأن يدمر الغزاة أسباب وجودنا أصلًا على ساحة التاريخ، وذلك بالتشكيك والطعن برموز الأمة، فينتج عن ذلك بالضرورة تشكيك بالروايات التي نقلها لنا رموزنا أو التي نقلت عنهم بالأساس، قبل أن يقوم الغزاة بتسليط الضوء على مراحل الضعف التي مرت بها الأمة أو حتى اختلاق قصص وهمية تشوه صورة تاريخنا في أعيننا، ليقوم أولئك الخبثاء بتحويل أبطالنا إلى قتلة قذرين وعلمائنا إلى أشخاصٍ مجانين وفي أحسن الأحوال إلى شطبهم جميعًا من ذاكرة التاريخ نهائيًا! في نفس الوقت يقوم نفس الغزاة بتمجيد أبطال وهميين في تاريخهم أو حتى في تاريخنا، فيتحول (عمرو بن العاص) صاحب رسول اللَّه إلى مجرم حرب بينما يتحول المجرم (نابليون بونابرت) إلى فاتح عظيم تخلده كتبنا الدراسية، ويصبح (عباس بن فرناس) مخترع الطيران عالمًا مجنونًا بينما يُمَّجَد (آينشتاين) صاحب مشروع القنبلة النووية التي قتلت مئات الآلاف من الأبرياء، وفي أفضل الحالات يعمل نفس الغزاة بالعمل على محو اسم بطلٍ حقيقي قلّما رأت الأرض مثله كالبطل (أحمد بن فضلان) -الذي سنأتي على ذكره في هذا الكتاب- ليُشطب اسم هذا البطل من ذاكرة بطولاتنا، ويوضع مكانه اسم بطل خرافي مثل (السندباد) أو (علاء الدين) أو حتى (علي بابا)، فلا يتبقى لنا بذلك في تاريخنا الممتد إلّا قادة مجرمين، أو علماء مجانين، أو أبطالًا وهميين لم يصبحوا أبطالًا إلّا بمصابيح سحرية أو بُسطٍ طائرة! وبهذا لا يبقَ لك إذا كنت مسلمًا وأردت أن تصبح بطلًا إلّا أن تشد الرحال إلى قفار الصحراء القاحلة أو غياهب الكهوف المظلمة علّك تجد مصباح علاء الدين الذي من خلاله -ومن خلاله فقط- يمكن لك أن تصبح بطلًا ومسلمًا في آنٍ واحد! وبعد أن يزرع فيك الغزاة هذا الاعتقاد الخطير، فإن مفهوم القدوة يسقط من عينيك من دون أن تحس أنت بذلك، وعندها وبكل سهولة. . . . نسقط أنا وأنت كالثمار العفنة! وعمرو بن العاص هو أحد الذين شُوِّهت صورتهم بشكل كبير، بل إني أزعم أن هذا الرجل هو ثاني أكثر رجل شُوِّهت صورته من قبل غزاة التاريخ، لم يسبقه بكثرة التشويه إلّا عظيم آخر من عظماء أمة الإسلام سوف أذكره في قلب هذا الكتاب، وسأفرد له

صفحات هي الأكثر على الإطلاق بين قائمة المائة! أمّا عن سبب اختيار عمرو بن العاص رضي اللَّه عنه وأرضاه بالذات لتكال له كل تلك التهم والشبهات، فيكمن في كون عمرو بن العاص هو الفاتح الفعلي للقدس أهم مدينة عند غزاة التاريخ، قبل أن يضيف إليها أرض مصر، هذا البلد المهم الذي يُكوِّن مع أرض الشام المباركة الدعامتين الأساسيتين للإسلام عبر التاريخ كما قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة، هذه الأسباب تبين بشكل لا يدعو للشك هوية المشوهين لتاريخ هذا الرجل، إنهم الصليبيون، وإن كانت الأدوات في الغالب هي بعض المثقفين العرب مدفوعي الأجر، وطبعًا لا ننسى الأداة الرخيصة التي سنراها تتكرر في هذا الكتاب بشكل غريب وعجيب في كل الخيانات القذرة التي تعرضت لها أمة الإسلام من الأندلس إلى الهند. . . الشيعة الروافض! ولعل رواية التحكيم الشهيرة التي تتكرر في مناهجنا المهترئة، هي من أهم أسباب طعني القديم في هذا البطل الإسلامي العظيم، وتزعم هذه الرواية أن علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان قد انتدبا أبا موسى الأشعري وعمرو بن العاص ليتباحثا في شأن الصلح، فاتفق الاثنان على خلع علي ومعاوية، فقال أبو موسى أمام الناس إني أخلع عليًا كما أخلع هذا الخاتم، وعندها قام عمرو بن العاص بخيانة أبي موسى وقال إني أثبت معاوية كما ألبس هذا الخاتم في إصبعي، ثم قام الأول بنعت الثاني بالكلب، فقام الثاني بنعت الأول بالحمار. . . انتهت الرواية! أقول أنا: إن هذه الرواية وإن كانت قد وردت بالفعل في أهم كتاب للتاريخ الإسلامي "تاريخ الطبري" إلّا أن هذه الرواية لا تصح سندًا ولا متنًا، والسند هو التسلسل البشري للرواة من الراوي الأول وحتى الراوي الذي كتب الرواية، أما المتن فهو القصة نفسها، والحقيقة أن الطبري رحمه اللَّه أكد في بداية كتابه أنه لم يدون في كتابه الروايات الصحيحة فقط، بل قام بتدوين كل الروايات، الصحيحة منها والمكذوبة، تاركًا مهمة تصحيحها لفرسان التاريخ من بعده، غير أن الطبري جزاه اللَّه كل خير قام بتدوين سند كل رواية بكل دقة، ورواية التحكيم تلك بها راوٍ يُسمى بأبي مخنف لوط بن يحيى، وأبو مخنف هذا شيعي رافضي كذاب طعن به كل الرواة فقال عنه ابن عساكر: رافضي ليس بثقة، وقال عنه ابن حجر: إخباري تالف لا يوثق به، ووصفه ابن

معين بقوله: ليس بشيء كذاب ساقط! إذًا فالرواية لا تصح أبدًا من ناحية السند، أمّا متن الرواية فقد صيغ بطريقة غبية تبين حماقة واضعها، فمعاوية لم يكن خليفة أصلًا لكي يعزله عمرو! بل إن موضوع الخلافة لم يكن في الحسبان أساسًا في صراع علي ومعاوية -رضي اللَّه عنهما-، وإنما كان الخلاف بينهما على كيفية الثأر لابن عم معاوية عثمان بن عفان رضي اللَّه عنه وأرضاه من المنافقين الذين قتلوه غدرًا، فكان علي يرى أن الوقت لم يكن مناسبًا لقتل أولئك الخونة في الحين واللحظة، بينما كان معاوية يرى أنه يجب القضاء على جيش الخونة في العراق، ثم إن هذه الرواية الحمقاء لا تحتاج لأكثر من إدراك طفل تخرج قريبًا من الحضانة ليعرف أن سبَّ الآخرين ونعتهم بالكلب والحمار لا يصدر إلّا من أطفال قليلي الأدب خرجوا من بيت تنعدم فيه الأخلاق، وأبو موسى الأشعري وعمرو بن العاص صحابيان جليلان خرجا من بيت أعظم مربٍ في التاريخ، خرجا من بيت محمد بن عبد اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. أما الرواية الكاذبة الأخرى فهي رواية: (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا). والتي يرددها كثير منّا مفتخرًا بعدل عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه-! هذه الرواية رواية باطلة، وأكررها بملء فمي، هذه رواية باطلة سندًا ومتنًا، ليس لأن عمر بن الخطاب كان ظالمًا يستعبد الناس، بل لأن هذه الرواية تقصد الإساءة لعمرو بن العاص أكثر من مدح عمر بن الخطاب، فهذه الرواية تزعم أن ابنًا لعمرو ابن العاص ضرب أحد المصريين، فشكاه ذلك المصري للخليفة عمر بن الخطاب، فقام عمر بمعاقبة عمرو بن العاص وابنه معًا ثم قال لعمرو: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟ انتهت هذه الرواية الخبيثة. أقول أنا: هذه القصة منقطعة السند وسندها واهٍ، ويظهر هذا الانقطاع في السند حيث ذكرها ابن عبد الحكم في "فتوح مصر" هـ 290 بقوله: (حُدثَنا) بصيغة المبني للمجهول، وهذا ما ينسف هذه الرواية الكاذبة نسفًا، ثم إن متن هذه الرواية لا يقل غباءً عن الرواية السابقة، فمنذ متى كان عمر يأخذ الحق من والد المخطئ وهو يعلم أنه لا تزر وازرة وزر أخرى؟! إذًا هذه رواية باطلة قصُد منها تشويه صورة عمرو بن العاص وأبنائه بالتحديد، وذلك لأن ابنًا من أبناء عمرو يدعى عبد اللَّه بن عمرو بن العاص كان

أول من كتب أحاديث رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ودوّن سنته، فإذا زرع غزاة التاريخ مثل هذه الروايات عن أبناء عمرو بن العاص، سقطت إذًا السنة وسقط الإسلام بعدها! ولكن ما الذي جعل رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول أسلم الناس وآمن عمرو بن العاص؟ وما سر هذا الإيمان العميق الذي امتلأ به قلب بطلنا العظيم من لحظة إسلامه الأولى؟ ومن هو ذلك الرجل الغامض الذي أسلم على يديه عمرو بن العاص؟ وكيف خرج هذا الرجل من أدغال أفريقيا لينسج خيوط علاقة روحانية أشبه بالخيال بينه وبين رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- على الرغم من أنهما لم يتقابلا أبدًا وجهًا لوجه؟! يتبع. . . . .

5 - (الجندي المجهول في أمة الإسلام) النجاشي (أصحمة بن أبجر)

(الجندي المجهول في أمة الإسلام) النجاشي (أصحمة بن أبجر) " اخرجوا فَصَلّوا على أخٍ لكم مات بغير أرضكم" (رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-) سيلاحظ القارئ الكريم أنني أستخدم فعل المضارع: "يتبع" في نهاية الحديث عن كل عظيم من عظماء أمة الإسلام المائة الوارد ذكرهم في هذا العمل، وقد يفسر البعض ذلك بمحاولة الكاتب إضفاء جوٍ من التشويق والإثارة في طيات هذا العمل الأدبي، وهذا ما لا أنفيه، إلّا أن السبب الرئيسي لوصل كل عظيم منهم بالعظيم الذي يليه بالفعل المضارع "يتبع" هو إثبات حقيقة تاريخية أصيلة في هذه الأمة، ألا وهي أن أمة الإسلام أمة لا تموت أبدًا ما بقيت الأرض، أمة متصِّلة، متحدة، مترابطة بشكل يدعو إلى العجب في كثير من الأحيان، لدرجة لا يمكن أن يفسرها المرء إلّا بشيء واحد فقط: أنها أمة مختارة من اللَّه الحكيم! فتأمل معي هذه القصة العجيبة لتفهم قصدي جيدًا، ملك نصراني من ملوك أفريقيا يتبع الكنيسة الإسكندرية بالتحديد، هذا الملك يسلم ويؤمن بنبي عربي لم يره في حياته البتة، فيأتيه رجل عربي كافر من نفس مدينة ذلك النبي ليزوره، وغرضه من تلك الزيارة هو محاربة ذلك النبي وأصحابه، ليسلم ذلك الرجل ليس على يدي النبي الذي كان يراه ليل نهار في مدينته وإنما على يدي ذلك الملك الأفريقي الذي لم يرَ النبي أصلًا!!! ثم يتحول هذا الرجل العربي إلى بطلٍ من أبطال الإسلام، فيقوم بعد ذلك بإدخال الإسلام إلى مدينة الإسكندرية التي كان يتبع كنيستها ذلك الملك نفسه قبل أن يسلم!!! أمّا ذلك النبي فهو محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-، وأمّا ذلك الرجل العربي فهو عمرو بن العاص رضي اللَّه عنه وأرضاه، وأمّا ذلك الملك الأفريقي المسلم فهو أصحمة بن أبجر نجاشي الحبشة جزاه اللَّه كل خير.

وإذا كنتَ قد استغربت من هذا الترتيب الإلهي العجيب فتأمل معي ترتيبًا آخر أعجب منه بكثير، والذي يستشعر المرء من خلاله يد اللَّه التي هيأت الظروف لنبيه المصطفى حتى قبل ولادته، فهناك بعيدًا عن مكة وصحراء العرب، في أدغال مملكة الحبشة (أثيوبيا وأريتريا وشمال الصومال حاليًا) وفي إحدى الليالي المظلمة، قتل بعض المتآمرين (أبجر) نجاشي الحبشة (النجاشي لقب يُطلق على كل ملك يحكم الحبشة!)، ثم جعل أولئك المتآمرون ملكًا آخر على الحبشة، وباعوا ابن الملك المقتول لأحد تجار الرقيق، وفي ليلة من الليالي الممطرة خرج الملك الجديد خارج قصره، وبشكل عجيب غريب، نزلت صاعقة من السماء وهو بين جنوده فأصابته من دونهم، فوقع قتيلًا في التو واللحظة، فسادت الفوضى بلاد الحبشة، فعلموا أنها لعنة حلت عليهم من اللَّه، فبحثوا عن ابن الملك الأول ليعيدوه للحكم، فعرفوا أنه في متن سفينة مبحرة إلى بلاد العرب حيث سيباع هناك عبدًا، فأدركوا السفينة قبل رحيلها، ليجدوا ابن الملك قبل أن يبحر إلى بلاد العرب لكي يباع هناك عبدًا، فقاموا بتحريره ومن ثم اجلسوه على عرش أبيه الذي اغتصبوه من قبل، هذا الغلام كان يسمى (أصحمة بن أبجر) وهو نفس الملك الذي اشتهر لدى المسلمين باسم النجاشي! وربما يكون هذا الظلم الذي وقع للنجاشي في طفولته هو سبب مقته للظلم، لذلك اشتهر النجاشي بعدله بين الناس، الأمر الذي دعا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لكي يأمر أصحابه بالهجرة إلى الحبشة بعد أن اشتد إيذاء المشركين لهم، عندها بعثت قريش (عمرو ابن العاص) الذي كان صديقًا قديمًا للنجاشي لكي يستردهم، ولكن المفاجأة حدثت عندما قذف اللَّه الإيمان في قلب النجاشي، ليخفي النجاشي إسلامه عن قومه، ليس خوفًا على الكرسي، إنما خوفًا من أن يفتك النصارى باللاجئين المسلمين الذين كانوا يمثلون تقريبًا نصف عدد المسلمين على وجه الكرة الأرضية، فقد بعثهم الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- خصيصًا للحبشة وأبقاهم بها 15 سنة لكي يحملوا رسالة الإسلام للبشر في حالة إذا ما قتل المشركون رسولَ اللَّه وصحابته الكرام، فيكون هناك من يحمل راية الإسلام في الأرض إذا ما أصابهم مكروه. هذا التخطيط الإستراتيجي طويل المدى لرسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أدركه تمام الإدراك

النجاشي أصحمة، فكان من الضروري على النجاشي أن يكتم إسلامه حرصًا على استمرارية الدعوة، فلقد رأى النجاشي من بطارقة النصارى حَنَقَهم بهذا الدين الذي يدعو إلى وحدانية اللَّه وترك عبادة المسيح، فخشي أن يثوروا عليه ويعزلوه (كما فعلوا مع أبيه من قبل!)، فيضيع بذلك حليف قوي لرسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان بإمكانه دعم الدولة الإسلامية الناشئة، بل في أسوأ الأحوال، يمكن له استضافة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إذا ما اقتضت الحاجة، في حالة انهيار دولة المدينة. هذه الأسباب دعتني لإطلاق لقب (الجندي المجهول في أمة الإسلام) على النجاشي (أصحمة ابن أبجر)، الملك الأفريقي الذي لا يعرف أغلبنا أصلًا أنه مسلم، ليبقى النجاشي مرابطًا في الحبشة بعيدًا عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. وبعد سنوات من النصرة السرية للمسلمين مات النجاشي رحمه اللَّه قبل أن يكحل عينيه برؤية الرجل الذي آمن به وصدقه من دون أن يراه، ليعلم رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بخبر موته وهو في المدينة قبل أن يجمع الصحابة ليصلي عليه صلاة الغائب، لتنتهي بذلك قصة أول ملكٍ من ملوك الأرض يؤمن برسالة محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-، قصة أول ناصر لهذا الدين من ملوك الأرض! المفارقة العجيبة في قصة هذا العظيم الإسلامي، أن النجاشي رحمه اللَّه كان التابعي الوحيد الذي أسلم على يديه أحد الصحابة وهو عمرو بن العاص -رضي اللَّه عنه-! فلماذا لم يكن أصحمة بن أبجر رحمه اللَّه صحابيًّا؟ ومن هم الصحابة؟ ولماذا خرج علينا في السنوات الأخيرة رجالٌ لا همَّ لهم في الحياة إلّا الطعن بالصحابة في الغداة والعشي؟ وما هو سر الحملة الشرسة على أصحاب محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-؟ ومن هو المستفيد الأول من تلطيخ سمعة الصحابة وتشويه صورتهم في أذهان عامة المسلمين؟ ولماذا كان الصحابة بالإجماع أفضل البشر بعد الأنبياء؟ يتبع. . . . .

6 - (الصحابة)

{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ} (الصحابة) " يا رسول اللَّه. . . واللَّه لا نقول لك مثل ما قالت بنو إسرائيل لموسى اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون! " (المقداد بن عمرو) ليس غريبًا أن يظهر عظيم من العظماء في أمة من أمم الأرض، فقد ظهر (جنكيز خان) في أمة المغول، وظهر (الإسكندر الأكبر) في الإغريق، و (بسمارك) في الألمان، و (غاريبالدي) في إيطاليا، وظهر غيرهم الكثير من القادة والمفكرين الذين غيروا من حال شعوبهم، فتحولوا إلى عظماء في التاريخ، حتى ولو كانت عظمتهم في عيون شعوبهم فقط! ولكن أن يظهر جيل كامل من العظماء في نفس الأمة، وفي وقت واحد، دفعةً واحدة، لا ليغيروا من حال أمتهم فحسب، بل ليغير اللَّه بهم حال الأرض بمن عليها إلى يوم القيامة، إننا لا نتحدث عن عظيم واحد فقط، إننا نتحدث عن جيل فريد من نوعه، جيل لم ولن تعرف الإنسانية بعظمته ما بقي الدهر، إننا نتحدث عن أصحاب محمد بن عبد اللَّه، إننا نتحدث عن جيل الصحابة! والصحابي: هو كل من لقي الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- مسلمًا ومات على ذلك. هؤلاء العظماء وصفهم اللَّه العظيم بوصف قمة في الروعة، في آية قرآنية عجيبة هي غاية في العجب، وسبب العجب في تلك الآية أنها الآية الوحيدة في كتاب اللَّه الكريم التي تجمع في كلماتها حروف اللغة العربية مجتمعة!! فما من حرف من حروف لغة الضاد إلى وقد ورد في تلك الآية، أما عن سر تنوع الحروف في هذه الآية فسنحاول التعرف عليه بعد ذكر هذه الآية الجميلة التي وردت في سورة الفتح: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ

وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29)} [الفتح: 29]. ولكي يتسنى لك الاستمتاع بمعنى هذه الآية الجميلة في وصف الصحابة الكرام ينبغي عليك أن تتخيل هذا التصوير الرباني الجميل، تخيل أن هناك نبتة صغيرة أخرجت من حولها نباتات مساندة أحاطت بالنبتة الأصلية من كل جانب، فشدت من صلابتها وساندتها وآزرتها، وبمعونة هذه النباتات المساندة أصبحت تلك النبتة الصغيرة قوية متينة فاستوت وارتفعت عاليًا في السماء، لتتحد تلك النبتة الأصلية بتلك النباتات الفرعية، ليتكون بذلك بنيان جديد قوي ثابت، قلبه تلك النبتة الأصلية، وجدرانه تلك النباتات الفرعية التي انبثقت منها، فارتفع ذلك البنيان عاليًا بكل ثقة، لدرجة أن المزارعين إذا مرّوا به أعجبوا به أيما إعجاب، أمّا إذا مرَّ به كافر فإنه ينظر إليه بغيظ من شدة صلابته وقوته وثباته، وواللَّه ليس هناك وصف في أي لغة من لغات الأرض يصف الصحابة رضوان اللَّه عليهم أكثر من هذا الوصف الإلهي الرائع، فمحمد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- هو تلك النبتة الأصلية التي انبثق منها الصحابة الكرام، فأحاطو به من كل جانب ليآزروه ويساندوه، فاستغلظ بهم واستوى على سوقه وهم محيطون به، فتكون هذا البنيان الثابت الذي قلبه هو محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- وجدرانه الصلبة هم صحابته الكرام، أمّا الزراع الذين يريدون الزراعة الحقيقية فعلًا (وهم المؤمنون الحقيقيون)، فإنهم يتأملون في ذلك الزرع الثابت ليتعلموا منه أساس الزراعة الصحيحة (وهذا دليلٌ على وجوب اتباع نهج الصحابة!)، أما الكفار فإنهم يغتاظون من روعته وقوته، فإذا ما علمت أن فلانًا كان صحابيًا من صحابة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وكان في قلبك مثقال ذرة من غيظ على أحد منهم، فاعلم جيدًا أنك في خطر كبير، لأنك ممن ينطبق عليهم قول رب العالمين: (ليغيظ بهم الكفار)! والآن أصبح واضحًا للعيان لماذا تشن الحملات الإعلامية على صحابة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فالصحابة هم الجدار المتين الذي يحيط بالقلب الأصلي -رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فإذا تمكن هؤلاء الغزاة من تدمير الجدار المنيع لهذا البنيان القوي، سيصبح المجال مفتوحًا لمهاجمة القلب، وللتوضيح أكثر ينبغي القول أنه لو تركنا المستشرقين ومن معهم من

المنافقين يهاجمون ويشككون بالصحابة، فإن الهجوم لن يلبث أن يصل إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. فالهدف الأول لهؤلاء الغزاة هو قلب ذلك البنيان، ألا وهو محمد رسول اللَّه! فالطعن بأي صحابي مهما كان اسمه، يعرض الإسلام للخطر، فهؤلاء النفر هم الذين نقلوا القرآن والسنة، أي أن الصحابة هم الذين نقلوا الدين الإسلامي لنا! فإذا شككنا بالناقل، شككنا إذًا بالمنقول! وإذا ما قبلنا بالطعن بهؤلاء العظام فإن ما نقلوه إلينا من قرآن وسنة ليس صحيحًا، إذًا فهذا الإسلام الذي بين أيدينا ليس هو الإسلام الصحيح، فلو قبلنا بالطعن الذي يُوجه للصحابة، ضاع الإسلام، وضعنا نحن معه في نهاية المطاف! وواللَّه لو أن أحدًا سبَّ صاحبًا لك لقفزت من مكانك وصفعته على وجهه، فويحكم ما بالكم بأصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-؟! ألا يستحقون دفاعًا منّا يعادل دفاعهم عن صاحبهم الذي دافعوا عنه بأرواحهم؟ إن الدفاع عن الصحابة هو الدفاع عن الإسلام نفسه، فهؤلاء العمالقة لم يكونوا عظامًا من فراغ، بل كانوا نتاجًا لثلاثة عوامل أساسية كوَّنت شخصية الفرد منهم قبل أن يتحول كل واحدٍ منهم إلى عظيم من عظماء جيل الصحابة: أولًا: الاختيار الرباني: اختار اللَّه رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- من بين كل البشر ليحمل آخر رسالة منه إلى الخلق أجمعين، ولمّا كان هذا الرسول بشرًا له عمر محدد، فقد كان حقًا على اللَّه أن يختار له من يعينوه على إتمام رسالته في حياته، ثم حمل تلك الرسالة بعد مماته إلى باقي شعوب الأرض من دون تبديل أو تحريف، وإلّا فلن تكون للَّه عز وجل على الناس حجة في وصول الرسالة الصحيحة إليهم! ولا يحتاج المتأمل لقصص الصحابة إلى كثير من الذكاء لكي يدرك تمام الإدراك أن اللَّه اختار بذاته العلية الصحابة اسمًا اسمًا لكي يقوموا بدورهم الذي خُلقوا من أجله، فالأوس والخزرج لم يكونوا أصلًا من سكان المدينة، بل هم من قبيلة الأزد التي هاجرت من اليمن بعد انهيار سد مأرب، فمن الذي دفعهم لاختيار يثرب التي سوف يهاجر إليها رسول اللَّه بعد ذلك بسنوات؟! ومن الذي جعل سد مأرب ينهار من الأساس؟ وسلمان الفارسي -رضي اللَّه عنه- انتقل في مغامرة عجيبة من بلاد فارس إلى الشام فالعراق فتركيا بحثًا عن الحقيقة الأزلية دون أي جدوى، وبعد أن عجز سلمان من الوصول إلى الحقيقة بنفسه، قامت مجموعة من قطاع طرق باختطافه ونقله

من دون أي اختيار له إلى يثرب تحديدًا!!! ثانيًا: التربية المحمدية: لعل من أبرز ما تميز به الصحابة عن بقية الخلق في كل العصور أنهم تعلموا مباشرةً من المعلم الأول للإنسانية محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-، فأصبحوا بذلك أعظم تلاميذ في التاريخ لأعظم أستاذ في الدنيا، فوَرد الصحابةُ النبعَ صافيًا من دون أي شائبة، ووردناه نحن مختلطًا بالشوائب، لذلك كان فهمم للكتاب والسنة أصح من فهمنا بالضرورة، ذلك أنهم عاشوا بالفعل مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فأصبح فهمم للكتاب والسنة هو الفهم الصحيح للدين، وأصبح لزامًا علينا أن نفهم الكتاب والسنة بفهمهم هم لا بفهمنا نحن، فإذا فسر الصحابة آية من الآيات على شكل من الأشكال، وفسرها أحد من المسلمين بعدهم على نحو آخر، فإن تفسير جمهور الصحابة هو التفسير الصحيح بدون أدنى شك، فالصحابة هم الذين عايشوا الآيات لحظة نزولها وعرفوا أسباب تنزيلها وحيثيات مضمونها، فتطبيق الصحابة للقرآن والسنة هو التطبيق الصحيح للإسلام. ثالثًا: الجهاد النفسي: بتنا نسمع في الآونة الأخيرة من بعض شباب جيل الصحوة مقولة متكررة: افتحوا لنا باب الجهاد! ولا شك أن أولئك الشباب قد قرأوا قصص البطولات العظيمة التي كان يقوم بها أبطال الصحابة، فأرادوا أن يقتدوا بهم بدعوتهم لفتح باب الجهاد، ولكن الحقيقة التي غابت عن ذهن شبابنا أن الأمر ليس بهذه البساطة على الإطلاق، فالأجدر على كل واحدٍ منا أن يسأل نفسه قبل التفكير بالقتال إن كان يصلي صلاة الفجر في وقتها ناهيك إن كان يصليها في المسجد، إن كان يقوم الليل للَّه سبحانه وتعالى، إن كان يستطيع أن يترك مشاهدة المباراة لفريقه الوطني عندما يؤذن المؤذن للصلاة، إن كان يمارس الرياضة أو كان يستطيع الجري أصلًا، إن كان يستطيع مجرد الإقلاع عن التدخين قبل أن يجاهد؟!! الطريف أن الكثير من الشباب -وعلى الرغم من صدق نواياهم في طلب الجهاد- يظنون أن الأمر لا يتطلب أكثر من حمل السلاح لكي يصبح الواحد منهم بطلًا كأبطال الصحابة في بدر وأحد، والواقع أن درب الجهاد طويل طويل لعل آخره هو حمل السلاح (وليس أوله كما يظن البعض!)، فالصحابة الكرام لم يصلوا إلى ما وصلوا إليه من بطولة وخلود إلّا بعد جهاد قاسٍ هو أعظم من الجهاد الذي يطلبه شبابنا هذه الأيام، إنه الجهاد النفسي، فالحديد الصلب لا

يصبح صلبًا إلا بعد خروجه من بوتقة النار الملتهبة. فقد كان جلد (مصعب بن عمير) يتخشف في مكة بعد إسلامه قبل أن يستطيع حمل راية الإسلام في أحد، فالصحابة لم يحتاجوا لأكثر من سنة واحدة في المدينة لينتصروا في بدر، بينما احتاجوا لـ 13 سنة في مكة لكي يصنعوا من أنفسهم رجالًا أقوياء لا يهابون الموت، ولعلك تستغرب أن قيام الليل كان فرضًا من الفروض في بداية الدعوة الإسلامية، بل إن حمل السلاح للقتال كان ممنوعًا طوال الفترة المكية، ذلك لكي يتسنى لهم مواصلة التدريب النفسي الطويل الأمد. . . جهاد النفس! وإن كان الصحابة هم أعظم البشر بعد الأنبياء، فإن كتيبة بعينها من الصحابة كانت وبحق أعظم كتيبة في تاريخ الإنسانية منذ أبي البشر آدم وإلى يوم القيامة. فمن تكون تلك الكتيبة الرَّبانية التي غيَّرت من وجه التاريخ البشري إلى أبد الآبدين؟ يتبع. . . . .

7 - (البدريون)

{إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} (البدريون) " لعل اللَّه اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم" (رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-) في عام 480 قبل الميلاد قام 300 محارب من مملكة "إسبرطة" اليونانية بصد جيش جرار يتكون من أكثر من 50 ألف مقاتل فارسي خرجوا لاحتلال بلاد اليونان. ورغم أن المعركة انتهت بمقتل جميع المحاربين الثلاثمائة في وادي "ثرومبلاي" على سواحل اليونان، إلا أن الإغريق لا يزالون يحفظون لهؤلاء الأبطال بسالتهم وتضحيتهم، وبات (ليونايدوس) قائد هذه الكتيبة الفدائية بطلًا قوميًا في اليونان إلى يوم الناس هذا. وعلى الرغم من تضخيم اليونان لهذه القصة ومزجها بالأساطير الإغريقية القديمة إلّا أنني أرى أن لهم كل الحق بتعظيم أبطالهم الذين صدّوا غزو جيش جرار من الغزاة الفرس (حتى ولو كان عدد الجيش الفارسي مبالغًا فيه من الناحية التاريخية!). ولكن الشيء الثابت تاريخيًا، أن هناك 314 رجلًا ظهروا بعد تلك الحادثة بألف سنةٍ، لينتصروا في معركة فاصلة في تاريخ البشرية غيرت خارطة العالم إلى الأبد، ليدمروا بانتصارهم هذا الإمبراطورية الفارسية إلى الأبد، ثم تندحر بعدها الإمبراطورية الرومانية العظمى بفضل ذلك الانتصار بالتحديد. 314 رجلًا فقط غيَّروا مسار التاريخ في ملحمة إنسانية خالدة فرَّقت بين الحق والباطل إلى يوم القيامة، سمّاها اللَّه في كتابه الكريم بيوم الفرقان، فكانت هذه المعركة وبحق أعظم معركة عرفتها الإنسانية على مر العصور والأزمنة، وكان هؤلاء الفرسان أعظم فرسان عرفتهم البشرية. . . . إنها معركة بدر الكبرى، التي سُمي أبطالها باسم البدريين. وربما يقول قائل أن هؤلاء الرجال الـ 314 مجاهد إنما قاموا بالانتصار فقط في معركة محدودة في بقعة مجهولة في صحراء العرب لا تكاد ترى على الخارطة، وأن الإمبراطورية الفارسية الساسانية سقطت بعد ذلك بـ 20 عامًا وبالتحديد بعد معركة

"نهاوند" في عهد عثمان بن عفان -رضي اللَّه عنه-، وأن الإمبراطورية البيزنطية سقطت بعدها بأكثر من ثمانية قرون في عهد محمد الفاتح رحمه اللَّه، ولكن تصور معي أن كسرى الفرس وقيصر الروم كانا يعلمان بأمر أولئك الفرسان الـ 314، وما سيمثلونه بعد ذلك من تهديد لإمبراطورياتهم الضاربة الجذور في عمق التاريخ، فهل كانت جيوش الفرس والروم ستتركهم وشأنهم؟ هل كانت دعوة محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- ستصل إليَّ وإليك لو أن هؤلاء الرجال تقاعسوا قيد أنملة عن التضحية والفداء؟ بل هل كانت الإنسانية تستحق الوجود أصلًا إذا ما هُزم هؤلاء الرجال؟ إذا كنت تعتقد أن معركة بدر كانت مجرد معركة وقعت بين 314 رجلًا من المسلمين و 1000 رجلٍ من الكفار، فاستمع إلى قول الصادق الأمين محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- الذي لا ينطق عن الهوى في أَمر تلك الكتيبة البدرية، فقد رفع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يديه عاليًا في السماء وأخذ يناجي ربَّه قائلًا: "اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تُعبد في الأرض" هل عرفت قيمة هؤلاء الـ 314 الآن؟ هل كنت ستعرف شيئًا عن الإسلام من دونهم؟ قال تحفظ أسماء هؤلاء العظماء الذين غيروا مجرى الإنسانية؟ هل تعرف أسماء 100 منهم، 50 منهم، 20 منهم؟ هل تعرف أسماء الـ 14 شهيدًا من هؤلاء الفرسان الذين استشهدوا ليصل هذا الدين إليك وأنت جالسٌ في بيتك؟ هل قرأت أو سمعت في حياتك الطويلة عن رجل اسمه (معوذ بن عفراء)؟ كم اسمًا من أسماء المغنيين تعرف؟! كم اسمًا من أسماء اللاعبين تحفظ؟!! كانت هذه مجرد سطورٍ قليلة عن أعظم جيش عرفته الإنسانية منذ نشأتها، جيش البدريين، فإذا كان الغرب فرَّق التاريخ بكل بساطة باستخدام لفظتي " AD"، و" AC"، فإن ربَّ الغرب والشرق فرَّق التاريخ بمعركة بدر الكبرى، فرَّقها بـ "يوم الفرقان"! أولئك البدريون، علم اللَّه بصدق ما في قلوبهم، فأمدهم بجيش من الملائكة مسوَّمين يقاتلون معهم في المعركة، فأمدهم بخمسين، ألف ملكٍ هم أعظم ملائكةٍ في التاريخ، لا لشيءٍ سوى أنهم شاركوا البدريين في هذه المعركة الخالدة. ولكن هناك شيءٌ غريبٌ في هذه القصة! فجميع الملائكة بدون استثناء، والذين نزلوا عند آبار بدر، تمثلوا على صورة بطلٍ

واحد من الأبطال الـ 314! فمن هو هذا الإنسان الذي نزل جبريل عليه السلام بصورته ليقاتل على الأرض؟ أو قل من هو ذلك الفدائي الأسطوري الذي نزل جيش كامل من الملائكة الكرام على صورته وشكله؟ وما هو سر اختيار اللَّه له بالذات من بين كل البشر ليكون صاحب هذا الشرف؟ فما هي حكايته في "بدر"؟ وما هي حكايته في "أحد"؟ وما هي حكايته في "اليرموك"؟ وما هي حكايته في "مصر"؟ وقبل هذا وذاك. . . . ما هي حكايته العجيبة في شوارع "مكَّة" وهو طفلٌ صغير؟ فهيّا بنا لنسبر أغوار ابن عمة محمد، وابن أخ خديجة، وابن أخت حمزة، وابن عمة علي، وزوج بنت أبي بكر، هيّا بنا لنبحر في بحار العشرة المبشرين بالجنة، هيّا بنا لنكشف الستار عن قصة الحواري! يتبع. . . . . .

8 - (حواري رسول الله) الزبير بن العوام

(حواري رسول اللَّه) الزبير بن العوّام " إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوَارِيًّا، وَحَوَارِيَّ الزُّبَيْرُ" (رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-) أن تكون ابن عمة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فهذا شرف كبير، وأن تكون عمتك أخت أبيك هي خديجة -رضي اللَّه عنها- زوجة رسول اللَّه فيالك من محظوظ، وأن تكون زوجتك بنتًا للصديق وأختًا لعائشة زوجة رسول اللَّه فأكرم بهذا النسب، وأن تكون أحد العشرة المبشرين بالجنة فحَيْهَلا بك وبالتسعة، وأن ينزل جبريل الأمين بهيأتك ومعه خمسين ألف ملك كلهم على نفس صورتك فهذا شرف ما بعده شرف، وأن يكون خالك حمزة وابن خالك علي وابن خالك الأخر عبد اللَّه بن العباس فأنت أشرف الناس نسبًا، وأن تكون حواري سيد الخلق فهذا قمة التشريف والتبجيل، ولكن أن يجتمع هذا الشرف كله في إنسان واحد فاعلم أنك تتحدث عن رجل واحد فقط، إنك تتحدث عن البطل المقدام، والفارس الهُمام، والصائم القوّام، إنك تتحدث عن حواري خير الأنام، إنك تتحدث عن الزبير بن العوّام! والحواري هو ناصر النبي من صفوته الذي بالغ في نصرة نبيه ونقي من كل عيب. وإذا أردت أن تعرف لماذا كان الزبير حواريًا لرسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فارجع معي إلى السنوات الأولى من البعثة النبوية الشريفة، وانتقل بروحك إلى مكة المكرمة. . . . هناك في شوارعها يرى الناس غلامًا صغيرًا يمد الخطى شاهرًا سيفه والشرر يقدح من عينيه كأنه شبل ليث مفترس، فيتعجب الناس من أمر هذا الفتى الصغير المشهر سيفه أمامه كأنه كتيبة كاملة من الأبطال، فيصيح الناس بدهشة بالغة: الغلام معه السيف! الغلام معه السيف! وبينما هذا الغلام يمد خطاه في شوارع مكة وإذ برسول يراه في هذه الهيأة العجيبة، فيسأله بعجب: مالك يا زبير؟! فيرتشف الفتى الصغير من أنفاسه ما ينعش به روحه ويقول:

سمعت يا رسول اللَّه أنك أُخِذت وقتلت! فينظر رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بحنان إلى عينيه الصغيرتين ويقول له: فماذا كنت صانعًا؟! فيقول الزبير بن العوام بكل حزم: جئت لأضرب بسيفي من أخذك! ومن شوارع مكة إلى ضواحي المدينة، هناك عند جبل أحد، هناك تحت شمس الصحراء القاحلة عند بدء المعركة وقبل أن يلتحم الجيشان وقف ما رد ضخم هو أعظم فارس في جيش الكفار اسمه (طلحة بن أبي طلحة العبدري) والذي كان يُطلق عليه لقب "كبش الكتيبة" لشدة بأسه وضراوة قتاله، فتقدم هذا الوحش البشري راكبًا على جمل ضخم حاملًا راية المشركين في يده وهو ينادي في المسلمين طالبًا رجلًا منهم ليبارزه، عندها برز من بين كثبان الصحراء القاحلة وأشعة الشمس الملتهبة، هناك من بين شباب محمد. . . انبثق من بين أسنة السيوف اللامعة ورؤوس الرماح الشامخة شابٌ مفتول العضلات طويل القامة عريض الكتفين يمد الخطى بكل ثقة باتجاه كبش الكتيبة وكأنه البرق الخاطف، إنه هو هو ذلك الغلام الصغير الذي حمل سيفه قبل عدة سنوات ليذود به عن ابن خاله. . . إنه حواري رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. . . . إنه البطل الزبير بن العوام! فلمّا صار هذا البطل أمام الجمل الضخم وفوقه أعظم فرسان العرب، قفز الزبير فوق الجمل كالفهد الجارح وجذب بذراعيه القويتين الجمل وصاحبه نحو الأرض وبرك فوق كبش الكتيبة، وأمسك برأسه المخيف فجزها جزًا ليجعل من صاحبها جسدًا بلا رأس، عندها نظر رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى ابن عمته صفية بكل فخر واعتزاز، فرفع صوته ونادى: اللَّه أكبر! ومن أحد نتجه شمالًا من المدينة المنورة حتى نصل إلى اليرموك في بلاد الشام، هناك يتعجب الروم من فارس ملثم يتقدم وحده بفرسه قبل بدء المعركة كالصقر الكاسر، ليخترق جيش الرومان بفرسه وفي يده اليمنى سيف وفي يده اليسرى سيف آخر يحارب بهما معًا، لتتطاير رؤوس الروم عن اليمين وعن الشمال، لقد كان هذا الفارس الملثم هو الزبير بن العوام! ومن الشام إلى مصر. . . . . هناك في قلب مصر تحصن الروم في حصن "بابليون" المنيع لمدة سبعة أشهر عجز فيها جيش (عمرو بن العاص) من إحداث أي اختراق فيه، عندها قرر الفاروق عمر أن يحل هذه المشكلة، فأرسل إلى عمرو مددًا يحتوي على

رجال المهمات الصعبة في الجيش الإسلامي، من بينهم محمد بن مسلمة والزبير بن العوام، فما إن وصل الزبير حصن بابليون، حتى تفاجأ الروم، بفارسٍ عظيم البنيان، مفتول العضلات، لم يحددوا إن كان إنسيًا أم مخلوقًا من عالم آخر، يتسلق الحصن كأنه ماردٌ يشق الأسوار شقًا بيديه، وما هي إلا ثوانٍ معدودةِ حتى أصبح ذلك العملاق الإسلامي فوق أعلى نقطة في الحصن، وعند هذه اللحظة. . . . رفع هذا المغامر المقدام سيفه في عنان السماء وصاح بصوت زلزل الأرض كهزيم الرعد: اللَّه اكبر! عندها هرع الروم من ثكناتهم من هول ذلك المنظر العجيب، لقد كان هذا العملاق هو نفسه ذلك الرجل الذي نزل جبريل عظيم الملائكة بهيأته، لقد كان هذا البطل هو حواري رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، إنه البطل الإسلامي العملاق الزبير بن العوام -رضي اللَّه عنه-. وبعد. . . كانت هذه السطور غيضًا من فيض أسطورة حقيقية لفارس حقيقي اسمه الزبير بن العوام، هذا الفارس العملاق هو البطل الذي ينبغي لشبابنا أن يقتدوا به ويدرسوا سيرته، فلقد انتهى زمان التبعية، وآن الأوان لشباب هذه الأمة أن يعرفوا أبطالهم حق المعرفة. وإذا ذكر الزبير ذكر معه فارس آخر ارتبط اسمه ارتباطًا كليًا مع الزبير، إلى درجة صار فيها الاثنان جاري رسول اللَّه في الجنة، فمن هو ذلك الصحابي الجليل الذي أصبح شهيدًا وهو ما يزال حيًا يُرزق؟! يتبع. . . . .

9 - (طلحة بن عبيد الله)

{مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} (طلحة بن عبيد اللَّه) " هذا ممن قضى نحبه! " (رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-) هو أحد العشرة المبشرين بالجنة، وأحد الثمانية الذين سبقوا للإسلام، وأحد الستة أهل الشورى الذين توفى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وهو عنهم راضٍ، إنه طلحة الخير كما سماه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يوم أحد، وطلحة الفياض كما سماه في موضع آخر، وطلحة الجود كما سماه في موضع ثالث، إنه طلحة بن عبيد اللَّه رضي اللَّه عنه وأرضاه. طلحة هذا الذي لا يعرفه الكثير منّا والذي لم نقرأ عنه في مناهجنا شيئًا حال دون وقوع أكبر جريمة كانت ستعرفها الإنسانية في التاريخ، ولمعرفة السبب الذي جعل من طلحة شهيدًا يمشي على الأرض، ينبغي عليك أن تتحول بقلبك إلى الجزيرة العربية، لتدع روحك ترافق أبا بكرٍ الصديق -رضي اللَّه عنه- وهو يلهث راكضًا كما لم يركض أحد من قبل متجهًا إلى جبل أحد محاولًا مسابقة الزمن قبل فوات الأوان، قبل أن يفقد صديق عمره وقد أحاط الكفار به من كل جانب، هناك كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في أحرج ساعة في حياته، فلقد كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- محاصرًا من الكفار وقد عزموا على قتله، ليس حوله إلّا تسعة أبطال مسلمين سقط منهم سبعة دفاعًا عنه، ليبقى بجانبه مدافعان اثنان، أحدهما سنكتشفه في نهاية هذا الكتاب، والآخر سيكتشفه أبو بكر لنا الآن! فقد أخذ أبو بكر يسارع الخطى وأنفاسه تكاد تنقطع، ليلمح من بعيد وهو يمد ناظريه قبالة صديقه رجلًا يتحرك كالشبح ويقاتل كالنمر ذودًا عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أمام رهط من فرسان قريش، فتُرمى على رسول اللَّه السهام فيتلقاها، وترمى عليه الرماح فيتصدى لها، فيتمنى أبو بكر أن يكون هذا الأسد هو نفسه ذلك الذي في باله، فإذا كان هو الذي في باله فإن صاحبه لا بد أن يكون في أمان بحراسة ذلك الصنديد المغوار،

عندها قال أبو بكر في نفسه: "كن طلحة فداك أبي وأمي!. . . كن طلحة فداك أبي وأمي! " وصدق ظن الصديق، لقد كان هذا الفدائي هو الشخص الذي يتمناه، إنه طلحة ابن عبيد اللَّه! هناك كان طلحة يقاتل ببسالة ما عرفت كواسر الأرض مثلها يدافع عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بجسده وروحه ووجدانه، فقد كانت السهام تتطاير نحو الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- ليقفز طلحة كالنمر نحو الرسول محيطًا به ليتلقى السهام بنفسه، قبل أن يرجع مرة أخرى لمقاتلة الكفار بسيفه والدماء تتصبب من كل مكان في جسده. وفجأة. . . ينطلق سهم خارق من أعظم رام سهامٍ عرفته العرب نحو رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- مباشرةً، فتلمح عين طلحة السهم وهو يقاتل المشركين، فيسرع كالبرق الخاطف ليسبق هذا السهم قبل أن يصل إلى أعظم إنسان خلقه اللَّه في الكون، وبينما السهم يخترق الفضاء متوجهًا بنجاح نحو صدر الرسول وإذ بيد طلحة تمتد لتحضن السهم احتضانًا في شرايينها، عندها نظر رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى يد طلحة والدماء تسيل من عروقها ليقول له: "لو قلت بسم اللَّه لرفعتك الملائكة والناس ينظرون" وبينما رسول اللَّه ينظر إلى تلميذه بشفقه وحنان، وصل أبو بكر ومعه أبو عبيدة يريدان حمايته، ليقول لهما رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بحنان الوالد وهو ينظر إلى ولده الحبيب: "دونكم أخاكم فقد أوجب" عندها لم يصدق الصدِّيق عينيه! فلقد وجد أبو بكر جسد طلحة ملطخًا بالدماء حتى أخمص قديمه وبه بضع وستون جرحًا ما بين ضربة وطعنة ورمية دفاعًا عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. هل كنت تعلم شيئًا عن عظمة طلحة والزبير؟ أعلمت الآن لماذا قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "طلحة والزبير جاراي في الجنة؟ " إذا لم تكن تعلم شيئًا عنهما من قبل فعليك أن تعلم أن أعداء الأمة يعرفون تاريخنا أكثر منا، بل يعلمون جيدًا من هم أبطالنا ورموزنا الذين غفلنا نحن عنهم، ففي صيف عام 2009 قام رئيس دولة إيران الفارسية (أحمدي نجادي) بسب طلحة والزبير على الهواء مباشرة أثناء حملته الانتخابية! فلماذا يكره نجادي رئيس دولة إيران جاري رسول اللَّه في الجنة؟ ومن هم الصفويون الجدد؟ وما هي مخططاتهم؟ ومن هو ذلك الصقر التركي الذي انطلق من جبال الأناضول ليدكَّ حصون الصفويين المجوس دكًّا على رؤوسهم؟ وما هي حكايته البطولية؟ يتبع. . . . . .

10 - مدمر دولة الصفويين (سليم الأول)

" مدمر دولة الصفويين" (سليم الأول) " وبعد. . . . . فإن علماءنا ورجال القانون قد حكموا عليك بالقصاص يا إسماعيل الصفوي بصفتك مرتدًا عن الإسلام وأوجبوا على كل مسلم أن يدافع عن دينه وأن يحطم الهراطقة في شخصك أنت وأتباعك البلهاء! " سليم الأول نحن على موعدٍ جديدٍ مع فارس من نفس طينة الصحابة، وللأسف فإن أغلبنا لم يسمع عنه البتة، والحق أنّي أجد بعضًا من العذر لهؤلاء (وقد كنت منهم)، نظرًا لإغفال المناهج الدراسية ذكر عظماء أمتنا بسبب جهل من وضعوها بهم، أو لأسباب أخرى، وإن كنت شخصيًا أرجح تلك الأسباب الأخرى! أمّا إذا أردت أن تعلم مدى عظمة هذا الرجل وما قدمه للمسلمين، فاطرح سؤالًا بسيطًا على نفسك لا أشك أبدًا بأن إجابتك ستكون عليه بالإيجاب. . . هل تحب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-؟! إذًا فاعلم أن رسولك هذا الذي تحب كان على وشك أن يُنبش قبره بعد أن تُحتل مدينته، وكان ذلك سيتم فعلًا لولا أن سخر اللَّه للإسلام هذا الصقر الكاسر: السلطان العثماني سليم الأول رحمه اللَّه، بطل معركة "جالديران" الخالدة. وقبل أن نغوص في بحار بطولات سلطاننا العظيم يجب علينا أولًا أن نؤصل للمسألة، فالحكم على الشيء فرعٌ من تصوره، فعلينا أولًا إدراك مدى الخطر الكبير الذي تصدى له هذا السلطان، ألا وهو خطر دولة الصفويين الخبيثة! فمن هم الشيعة الصفويون؟ ولماذا يحملون هذا الحقد الدفين على الإسلام والمسلمين حتى وصل بهم حدَّ السماح بنبش قبر رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-؟ وما سر سبِّ زعماء إيران الحاليين لصحابة رسول اللَّه وزوجاته؟ ولماذا تحتفل إيران إلى يومنا هذا بمقتل

الفاروق عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه-؟ ولماذا رمَّمت إيران عام 2003 م في مدينة "كاشان" الفارسية ضريح أبي لؤلؤة المجوسي قاتل عمر؟ أعترف أن هذا الموضوع شائك بعض الشيء، وقد يثير نوعًا من الضيق لدي بعض المسلمين المتعاطفين مع إيران وزعمائها الذين لا يتركون وسيلة إعلام إلا وأكدّوا فيها نصرتهم لقضايا المسلمين العادلة ومعاداتهم لإسرائيل بل ونيتهم لإزالتها من الوجود، إلّا أنني أقصد وجه اللَّه وحده بهذه السطور كائنًا في ذلك ما هو كائن، ولقد كنت شخصيًّا وحتى سنوات قليلة مضت أدافع عن الجمهورية (الإسلامية) الإيرانية لدرجة جعلتني أتهم فيها كل من يشكك في نوايا هذا النظام (الذي يدافع عن قضية وطني فلسطين) بالخيانة والعمالة، إلّا أنني كنت أتساءل كثيرًا في قرارة نفسي. . . لماذا نسمع كل يوم تهديدًا لإيران ولا نرى حربًا عليها؟ وزاد من حيرتي تلك ما سمعته على لسان وزير خارجيتها (منوشهر متكي) بقيام إيران بمساعدة الغزاة على احتلال أفغانستان والعراق، ومما يثير الدهشة فعلًا هو سماعي لتصريحات (نجادي) اليومية لنصرة الأقصى وفي نفس الوقت نراه يكرِّم العالم الشيعي (جعفر مرتضى العاملي) لتأليفه كتاب "المسجد الأقصى أين؟ " والذي ينص فيه أن مكان المسجد الأقصى الذي أسرى إليه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ليس في القدس، وأنه ليس للقدس أي أهمية دينية، فلا داعي إذًا للدفاع عنها، فالأقصى ليس موجودًا هناك!! أمّا الخبر الذي جعلني أتيقن أن في الأمر شيئًا غامضًا هو ذلك التقرير الذي قرأته باللغة الإنجليزية في صحيفة الديلي التيليغراف البريطانية (The Daily Telegragh) الصادرة بتاريخ 3 - 10 - 2009 م، ذلك التقرير يبين من خلال صورة التقطها أحد المصورين عن قرب لجواز الرئيس الإيراني وهو يحمله خلال إحدى الحملات الانتخابية أن اسم عائلة رئيس إيران ليس (أحمدي نجادي) كما هو معروف، بل هو (سابورجيان) كما هو واضح في صورة الجواز، وسابورجيان يا سادة هو اسم لعائلة يهودية من يهود الفرس!!! كل هذا دفعني لكي أفتش في صفحات خلت من التاريخ علّي أجد تفسيرًا لما يدور من حولنا من ألغاز! البداية كانت في مدينة "تبريز" سنة 907 هـ يوم أن تحول رجل فارسي صوفي اسمه (إسماعيل بن حيدر الصفوي) إلى المذهب الشيعي الرافضي الاثني عشري (وهنا يجدر

التنبيه بأن المتصوفة المبتدعين هم أقرب الناس إلى الانجرار إلى ما هو أخطر من ذلك!)، المهم أن الصفوي قام بمزج المعتقدات المجوسية الفارسية بالمعتقدات الشيعية المنحرفة، ثم قام بعدها بتغيير مذهب أغلب الفرس والعرب الذين احتل مناطقهم من مذهب أهل السنة والجماعة الذي كانوا عليه إلى مذهب الشيعة الروافض، وقد تسنى له ذلك بعد أن قتل أكثر من مليون مسلم في بغداد وغيرها من المناطق التي احتلها (وهذا ما يفسر تشيع كثير من أهل العراق وفارس وأذربيجان ومنطقة الإحساء في الجزيرة العربية إلى يوم الناس هذا!). في نفس الوقت أراد البرتغاليون الصليبيون بقيادة (ألفونسو البوكرك) احتلال المدينة المنورة ونبش قبر الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- ومقايضته بالقدس، وكعادة الشيعة الروافض عبر التاريخ وإلى يومنا هذا، تطوع الصفويّون مجانًا لمساعدة الصلييبيين في تنفيذ تلك الخطة الحقيرة، فتحالفوا مع البوكرك الصليبي لضرب دولة المماليك وجرها إلى الشرق لكي يكون المجال مفتوحًا للبرتغاليين الصليبيين في البحر الأحمر لنبش قبر محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- في المدينة. وعندها ومن بين قمم هضبة الأناضول في آسيا الصغرى، برز صقر عثماني كاسر اسمه (سليم الأول)، فبعد أن أدرك هذا السلطان العثماني خطورة الموقف، قرر أن يدافع عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ميِّتًا كما دافع الصحابة عنه حيًّا، فأسرع هذا الصقر التركي بالهجوم المضاد. فهل تحرك السلطان بجيشه لمحاربة الصليبيين وترك الشيعة الخونة من باب أنه يجب التركيز أولًا على أعداء الأمة الخارجيين وأننا جميعًا مسلمون؟ الحقيقة أن السلطان سليم الأول كان قد تربى تربية قرآنية خالصة، فلم يأخذ وقتا طويلًا لتحديد من هو العدو الحقيقي الذي يجب البوجه نحوه، فالسلطان يذكر ما ورد في الآية الرابعة من سورة المنافقين: {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ}، فأدرك لماذا عرّف اللَّه كلمة العدو بـ "الـ" التعريف في وصفه للمنافقين، فالله لم يقل "هم عدو فاحذرهم" لأن المنافقين هم الخطر الحقيقي الأول للمسلمين في كل زمان وإلى يوم القيامة! وفعلًا. . . . توجه السلطان شرقًا نحو شيعة الفرس الصفويين الذين يدَّعون الإسلام كذبًا وتقية لضربه من الداخل، وفي يوم 2 رجب 920 هـ انتصر السلطان سليم الأول في معركة "جالديران" الخالدة على الشيعة الصفويين، وقام رحمه اللَّه بدك "تبريز"

عاصمتهم الحصينة، فمزق جيوشهم شرّ ممزق، وفرَّ الشيعي الصفوي القذر الذي خطط لنبش قبر أعظم الخلق تاركًا زوجته وعرضه وراءه من شدة انحطاطه الأخلاقي ووضاعة أصله المجوسي، فسباها السلطان وزوَّجها لجندي من عامة جنوده، وخلص المسلمين من شر الصفويين القدامى قبل أن يظهر الصفويون الجدد على يد الخميني الذي كتب كيف يجوز للشيعي قتل المسلمين السنة ونهب أموالهم كما ورد في كتابه تحرير الوسيلة (1/ 352) "بل الظاهر جواز أخذ ماله أينما وجد، وبأي نحو كان"! إذًا فقد اتضح الأمر، وحُلَّ لغز الشيعة الصفويين، واتضحت تصرفات إيران المتناقضة، وهذا كله بفضل دراسة التاريخ، ولذلك ندرسه، فليس الغرض من دراسة التاريخ هو مجرد سرد القصص والاستمتاع بها، بل الهدف الأساسي من دراسة التاريخ هو فهم الواقع، فأحداث التاريخ تفسر لنا طلاسم الحاضر! الجدير بالذكر أن الإسبان الصليبيين قاموا في أيام حكم السلطان البطل سليم الأول بقتل وتعذيب المسلمين الأندلسيين الذين بقوا في بلادهم، فغضب السلطان العثماني الغيور على دماء المسلمين أشدّ الغضب، وقرر أن يخيِّر جميع النصارى واليهود الذين استضافتهم أرض الخلافة العثمانية بين الإسلام والطرد، ولكن (زمبيلي علي مالي أفندي) وهو شيخ الإسلام ومفتي الدولة العثمانية رفض ذلك الأمر وأبلغ السلطان بأنه أمر لا يجوز حتى ولو كان المسلمون يذبَّحون في بلاد الصليبيين، فلا إكراه في الدين الإسلامي أبدًا، فوافق السلطان على رأي العالم الجليل، وترك النصارى واليهود يعيشون بأمان في أرض المسلمين بينما المسلمون يُذبّحون في أرض الصليبيين، فاللَّه اللَّه ما أعظم الإسلام! واللَّه اللَّه ما أعظمها من حضارة تلك التي بناها المسلمون! فواللَّه لو لم يكن في تاريخ المسلمين غير هذا الموقف لسليم الأول رحمه اللَّه لكفانا أن نرفع رؤوسنا في علياء السماء لنجيب بكل قوة على من يحاول اتهام الإسلام بالإرهاب، فهذا هو تاريخنا، فأرونا ماذا يكون تاريخكم! هل عرفت الآن قيمة الخلافة العثمانية التي دُرِّسناها في المدارس باسم الاحتلال التركي؟! إن كنت لم تدرك بعد فضل العثمانين على المسلمين، فانظر ماذا فعل بطلنا سليم الأول لإنقاذ المسلمين الأندلسيين الذين كانوا يعذبون ويقتلون من قبل الصليبيين

الإسبان في الأندلس. لقد قام الخليفة سليم الأول باستدعاء رجل ألباني إلى قصره، ليكلفه بمهة سرية أقل ما يقال عنها أنها مهمة مستحيلة!!! فما هي حكاية تلك المهة المستحيلة؟ ومن هو ذلك الرجل الألباني الغامض الذي تخرج من مدرسة الإسلام بتقدير امتياز مع مرتبة الشرف العثمانية ليصبح أسطورةً حية لا تزال استوديهات هوليود الأمريكية إلى يومنا هذا تنتج أفلامًا عنه فاقت أرباحها مئات الملايين من الدولارات؟! يتبع. . . .

11 - عمالقة البحرية الإسلامية (الأخوان بربروسا)

" عمالقة البحرية الإسلامية" (الأخوان بربروسا) " قد كان بجوارنا الوزير المكرم المجاهد في سبيل اللَّه خير الدين وناصر الدين وسيف الإسلام على الكافرين، علم بأحوالنا وما نجده من عظيم أهوالنا. . . . فاستغثنا به فأغاثنا، وكان سبب خلاص كثير من المسلمين من أيدي الكفرة المتمردين، نقلهم إلى أرض السلام وتحت إيالة طاعة مولانا السلطان" (رسالة بعث بها أهالي "غرناطة" إلى السلطان سليمان القانوني 1541 م) كلما تقدمت "أكثر فأكثر في هذا الكتاب، وقلبت في صفحات التاريخ المنسية، زادت قناعة كانت قد تجسدت لدي بأن تاريخنا الذي نجهله نحن يعرفه تمام المعرفة أعداء هذه الأمة! هؤلاء القوم درسوا تاريخنا جيدًا بينما وقعنا نحن في الفخ الذي نصبوه هم لنا، فنسينا تاريخنا وأبطالنا، حتى سقطنا في براثن الجهل والتخلف. وإن كنت تظن أن هذا الاستنتاج ما هو إلا خيال كاتب مهووسٍ بنظرية المؤامرة، فاسأل أي شخص شاهد فلمًا من أفلام قراصنة البحار التي تنتجها "هوليود" عن اسم أشهر قرصان يظهر في الأفلام والقصص وحتى مسلسلات الأطفال، حينها لن يستغرق ذلك الشخص زمنًا طويلاً بالتفكير حتى يجيبك بأنه القرصان ذو اللحية الحمراء والعين الواحدة واليد المقطوعة والقدم الخشبية (بربروسا)! والحقيقة التي لا يراد لنا أن نعرفها أن بربروسا هذا الذي يصورونه لنا بهذه الصورة المخيفة ما هو إلّا بطل إسلامي قل نظيره في تاريخ الإنسانية جمعاء، رجل كله عزة وكرامة، ومنعة وسؤدد، مجاهد في سبيل اللَّه، لم يكن قرصانًا متعطشًا للدماء كما يصورونه، بل كان بطلاً يعمل لإنقاذ دماء آلاف المسلمين التي كان يسفكها أجدادهم المجرمون! والقصة تبدأ بذلك اللقاء الذي جمع السلطان العثماني (سليم الأول) رحمه اللَّه بقائد بحري فذ اسمه (عروج)، وهو قائدٌ عثماني من أب ألباني وأم أوروبية أندلسية هربت

بدينها من إرهاب محاكم التفتيش الصليبية في أقبية كنائس إسبانيا، شاء اللَّه أن تنجو هذه الأم البطلة من معسكرات التعذيب الصليبية في الأندلس لتقص عليه وعلى إخوته قصص التعذيب البشعة التي تعرض لها أخوالهم في الأندلس، وتروي لهم حكايات المقاومة الشعبية الإسلامية الباسلة لمسلمي الأندلس الذين رفضوا عبادة الصليب على عبادة اللَّه، فزرعت هذه الأم المجاهدة روح الجهاد في نفوس أبنائها منذ نعومة أظافرهم، وهنا يأتي دور الأم المسلمة صانعة الأبطال! المهم أن الخليفة العثماني الشهم سليم الأول استدعى القائد عروج وأطلعه على رسائل الاستغاثة التي بعث بها مسلمو الأندلس من أقبية الكنائس المظلمة، فأوكل إليه سليم الأول مهمة هي في عُرف الدنيا مهمة مستحيلة، وأعطاه التوجيه الإستراتيجي لهذه المهمة: المهمة المستحيلة (1) الإبحار من أقصى شرق البحر المتوسط في تركيا إلى أقصى غرب المتوسط في الأندلس ومحاربة أساطيل الجيوش الصليبية مجتمعة (إسبانية وبرتغالية وإيطالية وسفن القديس يوحنا). (2) التمكن من اختراق كل تلك الحصون البحرية والتي تبني جدارًا بحريًا حول الأندلس والتمكن من الرسو الآمن في إحدى المدن الأندلسية المحتلة من قبل القشتاليين الصليبيين. (3) تدمير الحامية البحرية الإسبانية لتلك المدينة وشل قوة العدو الدفاعية والتحول إلى اليابسة وخوض حرب شوارع ضد القوات البرية الإسبانية في أزقة تلك المدينة وشوارعها. (4) تحرير المدينة الأندلسية من جديد ورفع راية الإسلام العثمانية على قلاعها ومباغتة الكنائس بصورة مفاجئة للحيلولة دون هروب القساوسة الكاثوليك الذين يعرفون أماكن غرف التعذيب السرية. (5) البحث في جميع أقبية الكنائس المظلمة بشكل فوري قبل أن يتم تهريب المُعذبين المسلمين والتمكن من العثور على الغرف السرية التي يُعذّب فيها المسلمون.

(6) بعد العثور على غرف التعذيب السرية يتم تحرير المسلمين مع مراعاة عدم نقلهم من الأقبية حتى غياب الشمس لتجنب إصابة الأسرى بالعمى نتيجة عدم رؤيتهم للشمس منذ سنين. (7) يتم نقل الأسرى حملًا إلى السفن الإسلامية العثمانية، مع مراعاة الحالة البدنية الفظيعة التي وصلوا إليها، مع تجنب تعرض جلودهم الهزيلة للتمزق أثناء الحمل. (8) إخلاء المدينة على وجه السرعة، مع مراعاة أن لا تستمر العملية منذ الرسو في الميناء وحتى الإقلاع أكثر من 6 ساعات لتجنب الاشتباك مع قوات المدد للعدو الآتية من المدن المجاورة. (9) الإبحار تحت جنح الظلام والتمكن من شل حركة العدو البحرية أثناء رحلة الرجوع، مع الأخذ بعين الاعتبار أن العودة هذه المرة لن تكون نحو تركيا، وإنما ستكون نحو الجزائر من طريق آخر لإسعاف الأسرى بأسرع وقت من جهة، ولخداع بحرية العدو من جهة أخرى. انتهت المهة! سليم الأول هل رأيت أو سمعت أو قرأت عن مهمة مستحيلة في تاريخ البشر أصعب من هذه المهمة؟! الغريب أن القائد عروج قام بتنفيذ هذه المهمة بنجاح منقطع النظير! والأعجب من ذلك أنه قام وإخوته بتكرارها مرَّات ومرَّات، فأنقذ أولئك الإخوة الألبان جزاهم اللَّه كل خير عشرات الآلاف من أرواح المسلمين الأندلسيين. فذاع صيت القائد الإسلامي عروج في بحار الدنيا كلها، وتناقلت شوارع أوروبا الكاثوليكية قصصًا متناثرة عن بطولة بحار عثماني يبحر كالشبح المرعب فلا يستطيع أحد صده أبدًا، أما الأندلسيون المسلمون فقد أسمَوْه (بابا أروج) أو (بابا أروتس) أي (الأب عروج) في لغة الأندلسيين الأوروبيين، وذلك من فرط احترامهم وتقديرهم لهذا البطل الذي خلّصهم من ويلات محاكم التفتيش، فحرف الإيطاليون (بابا أروتس) إلى (بَربَروس) وتعني بالإيطالية الرجل صاحب اللحية الحمراء، ولعل هذا هو سر امتلاك القرصان الذي يظهر في

أفلامهم لحيةً حمراء! المهم أن القائد عروش اصطحب معه في جهاده إخوته اسحق وإلياس وخسرف (خير الدين). فاستشهد إلياس رحمه اللَّه في جهاده وقام خير الدين بمحاربة الحكام العملاء مع الصليبيين الإسبان في بلاد الجزائر، بينما سقط عروج في أسر فرسان القديس يوحنا في جزيرة "رودس"، ولكن البطل عروج وبعملية خيالية استطاع أن يحرر نفسه، ثم قام بالتسلل بحرًا إلى إيطاليا، وهناك استولى على سفينة من سفن الجيش الصليبي بعد أن قتل كل من فيها من الجنود الصليبيين، ثم أبحر بها وحده من إيطاليا إلى مصر، فقابل السلطان المملوكي (الغوري) رحمه اللَّه، فأهداه الغوري سفينة بعتادها ومجاهديها، لينطلق بها المجاهد الفذ عروش إلى الجزائر ليلقى أخاه خير الدين، ليواصل الأخوان مسيرة الجهاد في سبيل اللَّه بسفنهم القليلة المتواضعة، وما هي إلا أشهر قليلة حتى أصبح اسم "الأخوان بربروسا" اسمًا يرعب سفن الصليبيين الغزاة في كل بحار الأرض، قبل أن يتمكن أحد الخونة من الحكام الموالين لإسبانيا بفتح أبواب مدينة "تلمسان" للصليبيين، ليطلب الإسبان من القائدِ عروج ومن معه من المجاهدين الاستسلام أو الهرب، فأبى القائد البطل عروج وجنوده الأتراك الهروب أو الاستسلام، وفضلوا أن يلقوا اللَّه شهداءً في سبيله، فقاتل عروج بكل ما تحمله البسالة من معنى بيد واحدة بعد أن كان قد فقد يده الأولى من قبل وهو يجاهد في سبيل اللَّه لإنقاذ نساء المسلمين وأطفالهم، فلمّا علم الإسبان أن القائد عروج هو الذي يقاتل بنفسه، بعثوا بالإمدادات العسكرية من مدريد لتحاصر هذا البطل من كل اتجاه وهو يقاتل بيد واحدة وهو ينظر إليهم وقلبه هناك في الجنة حيث ينتظره الشهداء الذين سبقوه، فأحاط به الصليبيون بسيوفهم في كل موضع قبل أن ينهالوا على جسمه بسيوفهم الغادرة تقطيعًا وتمزيقًا، ليرفع القائد عروج نظره إلى السماء متذكرًا ابتسامات الأطفال الأندلسيين الذين كانوا يبادلونه إياها عندما كان ينقذهم ويعيدهم إلى أحضان أمهاتهم. وبينما الصليبيون يغرسون سيوفهم في قلبه رفع القائد عروج إصبعه عاليًا وحرك شفتيه وهو يقول: أشهد أن لا إله إلا اللَّه. . . . وأشهد أن محمدًا رسول اللَّه وسقط القائد المجاهد عروج الشيء الذي يدعو للاشمئزاز من عباد الصليب هو أن الصليبيين لم يكتفوا بقتله وتمزيقه إربًا إربًا، بل قام أولئك القراصنة بقطع رأسه ليأخذوها

معهم ليطوفوا بها في مدن أوروبا الكاثوليكية التي دُقت بها أجراس الكنائس احتفالًا كلما مر رأس القائد الكابوس الذي كان يذيقهم ألوان الذل والهوان (بربروسا). ولكن ليس المهم في أمة الإسلام من يحمل الراية، بل المهم أن تبقى الراية مرفوعة دائمًا! ففي كل وقت يسقط فيه بطل من أبطال أمة الإسلام، يولد في هذه الأمة الولود بطل جديد! فبعد سقوط القائد عروج برزت على السطح بطولات قائدٍ عظيم في أمة الإسلام، إنه القائد البطل (خير الدين بربروسا) شقيق القائد عروج والذي صمم على الثأر لدم أخيه المجاهد رحمه اللَّه، فجهز سفنه واتجه بها مباشرةً إلى تونس ليدمر السفن الإسبانية هناك، فحرر تونس من الصليبيين وأذنابهم، ثم توجه بجنوده العثمانيين الأتراك فحرر الجزائر، ولم يكتفِ بذلك بل قام باحتلال "جزر البليار" الإسبانية بعد أن دمر الأسطول الإسباني هناك. ولمّا سمع البابا (بولس الثالث) في روما بانتصارات هذا القائد المسلم أعلن من "الفاتيكان" حالة النفير العام في جميع أرجاء أوروبا الكاثوليكية، فتكوّن تحالف صليبي ضخم من 600 سفينة تحمل نحو ستين ألف جندي، تحت قيادة قائد بحري أسطوري هو أعظم قائد بحري عرفته أوروبا في القرون الوسطى وهو (أندريا دوريا) وذلك لإنهاء الإسلام كلية في البحر المتوسط، بينما تألفت القوات العثمانية الإسلامية من 122 سفينة تحمل اثنين وعشرين ألف جندي فقط. 4 من جمادى الأولى 945 هـ 28 من سبتمبر 1538 م التقى الأسطولان في معركة "بروزة"، وبالرغم من تفوق الصليبيين بالعدة والعتاد، إلا أن القائد خير الدين بربروسا قائد بحرية المسلمين انتصر انتصارًا كبيرًا، ودمر خير الدين بربروسا الأسطول الأوروبي المتحالف تدميرًا كليًّا، فهرب أسطورتهم المزيفة "أندريا دوريا" من ميدان المعركة التي لم تستمر أكثر من خمس ساعات، وما ذكرت كتب التاريخ شيئًا عنه بعد تلك الهزيمة المخزية!

معركة بروزة البحرية (أكبر معركة بحرية في تاريخ الإسلام) 1 - فرسان المالطية ... التحالف الصليبي 2 - جيوفانى أندريا دوريا 3 - فيرونى غانزاغ 4 - أندريا دوريا 5 - ماركو جيرمينى، فيكنزو كابيللو 6 - أليساندرو كونادليرو فرانسيسكو دوريا 1 - سيدى على الرئيس 2 - خير الدين بارباروس جعفر الرئيس، سنان الرئيس 3 - صالح الرئيس 4 - طورغوط الرئيس البحرية الإسلامية العثمانية المجاهدة

وبعد هذا الانتصار الإسلامي الضخم، عمَّت حالة من الفزعَ والهلعَ أرجاء الإمارات الصليبية، وأصبحت البحرية الإسلامية العثمانية سيدة البحر المتوسط بلا منازع لثلاثة قرون متَّصلة، ووصل خبر انتصار القائد المجاهد خير الدين بربروسا إلى بلاد المسلمين في كل مكان، فعلت صيحات اللَّه أكبر في مآذن مكة والمدينة والقدس وبومباي ودمشق والقاهرة وسمرقند وجميع ديار المسلمين، وصلى المسلمون هناك صلاة الشكر احتفالًا بنصر اللَّه المؤزر على يد القائد المجاهد خير الدين بربروسا. واستقبل الخليفة العثماني الشهم بن الشهم سليمان القانوني بن السلطان سليم الأول خبر هذا النصر بالسجود شكرًا للَّه بعد أن أتم ما بدأه والده المجاهد سليم الأول رحمه اللَّه من إنقاذ المسلمين في الأندلس، فقام بتعيين خير الدين بربروسا أميرًا عامًا للأساطيل الإسلامية العثمانية المجاهدة في كل بحار الدنيا. ولم يكتفِ بربروسا بما صنعه من مجد للإسلام في تلك المعركة الخالدة، فقام مباشرةً بحملات مكثفة لإنقاذ المسلمين في الأندلس من تعذيب محاكم التفتيش، فأبحر في البحر الأبيض المتوسط جيئةً وذهابًا لنقل اللاجئين المسلمين الأندلسيين، فأنقذ وحده ما يزيد عن 70 ألف مسلم ومسلمة بمن فيهم من أطفال ونساء وشيوخ، حتى كان أهل الأندلس هم من أطلق عليه اسم (خير الدين) بدلًا من اسمه الحقيقي (خسرف) عرفانًا له بالجميل. فرحم اللَّه القائد خير الدين بربروسا، ورحم اللَّه أخاه البطل عروج من قبله، وجميع إخوته المجاهدين، فواللَّه إن الإخوة بربروسا كانوا نِعم الإخوة، لم يتنافسوا على تركة ورثوها عن أبيهم أو لُعَاعَةٍ مِنَ الدُّنْيَا، بل تنافسوا أيهم يسبق لنصرة الإسلام وإنقاذ المسلمين الأبرياء. وإن كان هؤلاء الأبطال قراصنةً فأكرم بهم قراصنة، ولكنهم واللَّه ما قصدوا البحر طمعًا في كنز مدفون في قاع المحيطات، أو سفينة غارقة في غياهب البحار، بل قصدوا البحر طمعًا في ما هو أثمن من كل كنوز الدنيا. . . . الجنة! وبعد. . . كانت هذه سطورًا لأبطالنا المنسيّين، فلقد آن الأوان لنا أن نزيل الغبار عن صفحات تاريخنا لنخرج منها قصص أبطالنا العظماء ونقدمها لشبابنا، فلقد انتهى الزمان الذي كنا نقرأ فيه ما كتبه أعداء الأمة لنا، وجاء زمان نكتب نحن فيه تاريخنا بأنفسنا، وإن

كنتُ الآن أدرك سر رعب الغرب من اسم "بربروسا" في أدبياتهم، إلا أننا نرفض رفض البتة تشويه صور أبطالنا ووصمهم بالقرصنة، أما من كان متشوقًا من الغرب بقصص القراصنة والمجرمين فليبحث عن أصل مؤسس أكبر بنوك أمريكا "بنك مورجان" وليقرأ قصص القرصان "مورجان الأمريكي" وكيف كان يقتل الهنود الحمر ويستولي على أموالهم ليبنى بها هذا البنك القائم إلى يوم الناس هذا! أمّا أبطالنا العظماء. . . فخط أحمر!!! ولكن. . . في خضمِّ هذا الصراع الإسلامي الصليبي في غرب العالم الإسلامي، ما الذي كان يخطط له من بقي من الشيعة الصفويين في الشرق الإسلامي؟ وهل غيَّر الشيعة الصفويون عادتهم القذرة في الخيانة والغد؟ أم تراهم تركوا المسلمين مشغولين في الغرب لينفذوا هم مخططهم الإرهابي الخطير في الشرق؟ وما هي قصة معركة "موهاكس" العظيمة التي تعتبر من دون أي شك يومًا من أيام اللَّه الخالدة؟ ومن هو الخليفة العثماني العظيم الذي فاق ملكه ملك الإسكندر الأكبر؟ للإجابة عن هذه التساؤلات ينبغي علينا أن نبحر لإحدى سفن الأسطول الإسلامي العثماني الضخم إلى عاصمة الإسلام وقتها "إسطانبول"، لنتابع معًا حكاية عظيم جديدٍ من عظماء الإسلام شبَّه كثيرٌ من المؤرخين مُلكه بمُلك نبي اللَّه سُليمان عليه السلام والذي كان بطلنا يحمل نفس اسمه. . . . سُليمان! يتبع. . . .

12 - (سليمان القانوني)

(سليمان القانوني) " إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ" أنا سلطان البحر الأبيض والبحر الأسود والبحر الأحمر والأناضول والروملّي وقرمان الروم وولاية ذي القدرية وديار بكر وكردستان وأذربيجان والعجم والشام ومصر ومكة والمدينة والقدس وجميع ديار العرب والعجم وبلاد المجر والقيصر وبلاد أخرى كثيرة إفتتحتها يد جلالتي بسيف الظفر وللَّه الحمد. . . . واللَّه أكبر أنا السلطان سليمان بن السلطان سليم بن السلطان بايزيد (إلى "فرنسيس" ملك ولاية فرنسا، وبعد. . .) يسميه الغرب في أدبياتهم بـ "سليمان العظيم" " Suleiman the Magnificent" ويعتبره كثير من المؤرخين أعظم ملك عرفته البشرية في تاريخ الأرض ضم إلى ملكه أعظم عواصم القارات الثلاث آسيا وأفريقيا وأوروبا، فضم إلى الخلافة الإسلامية "أثينا" و"بلغراد" و"بودابست" و"بوخارست" و"القاهرة" و"تونس" و"الجزائر" و"مكة" و"المدينة" و"القدس" و"دمشق" و"بيروت" و"اسطانبول" و"تبريز" و"بغداد" و"صوفيا" و"رودس" وغيرها من عواصم الأرض، وقال عنه المؤرخ الألماني الشهير (هالمر): كان هذا السلطان أشد خطرا علينا من صلاح الدين نفسه! السلطان سليمان القانوني هو ابن السلطان سليم الأول الذي سبق وأن ذكرنا بعضًا من مظاهر عظمته، ووافق هذا الشبل ذلك الأسد، فهو مجاهد قل نظيره في تاريخ الإسلام، فتح البلاد وعمرها، ونشر العدل، وسن القوانين العثمانية العليا (سبب تسميته بـ "القانوني")، وقام بترميم القدس على أحسن حال، وأصاح من حال مكة والمدينة، وعمَّر الطرق، وأنشأ المدارس، تقلد منصب الخلافة وهو في السادسة والعشرين من عمره فقط، فظن الأعداء أنه لقمة سائغة، وطمعوا في أرض الخلافة الإسلامية، إلا أنه خيَّب أملهم، فباغتهم بهجوم مضاد، ففتح مدينة "بلغراد" المنيعة التي استعصت على

(محمد الفاتح) من قبل، مما دفع محمد الفاتح لتركها وهو يدعو ربه على أسوارها قائلاً: "اللهم افتح هذه المدينة على يدي رجلٍ من نسلي"، فكان سليمان هو ذلك الرجل الذي فتحت بلغراد على يديه، قبل أن يتجه القانوني بحرًا مع جنده إلى جزيرة "رودس" حيث "فرسان القديس يوحنا" أو "فرسان المعبد" الذي عاثوا فسادًا في البحر المتوسط تخريبًا وقتلاً للمسلمين، بعد أن طردهم صلاح الدين الأيوبي من برّ القدس من قبل، ليدمر سليمان دولة رودس إلى الأبد، فيجعل من رودس خرابًا على أهلها (هرب فرسان القديس يوحنا بعد ذلك إلى جزيرة "مالطا" وما زالوا يحكمون هذه الجزيرة حتى يومنا هذا!). حينها أدرك ملوك أوروبا أنهم أمام صقرٍ تركيٍ جديد من نفس طينة الفاتح، فتسابق ملوك أوروبا إلى دفع الجزية إلى عاصمة الخلافة في إسطانبول، إلّا أن ملكًا واحدًا منهم ويُدعى (لويس الثاني) وهو ملك المجر قام بقتل رسول الخليفة العثماني الذي ذهب لجلب الجزية، مما دفع القانوني للتوجه بنفسه بصحبة مائة ألف من المجاهدين الأبطال من القوات الخاصة العثمانية "فرسان الانكشارية" نحو المجر لتأديب ملكها، عندها أعلنت الكنيسة في روما حالة الطوارئ القصوى في أرجاء أوروبا، فقدم البابا صكوك الغفران لكل من يشارك في قتال المسلمين، فتجمعت جيوش "المجر" و"كرواتيا" و"التشيك" و"إسبانيا" و"ألمانيا" و"صربيا" في جيش واحد عرمرم في وادي "موهاكس" لقتال المسلمين. وفي فجر يوم المعركة صلى الخليفة العثماني سليمان القانوني الفجر بجيشه، ثم نظر إليهم بكل فخر وقال لهم: "وكأني برسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ينظر إليكم الآن! " فانفجر الجند بالبكاء، وتعانقوا مع بعضهم البعض وتعاهدوا على الموت في سبيل اللَّه واللقاء في الجنة، ليلتقي الجيشان في موهاكس فى 20 ذى القعدة عام 932 هـ الموافق 28 أغسطس عام 1526 م، هناك التقى الجمعان، لينتصر المسلمون بقيادة الخليفة سليمان القانوني، وينهزم الجيش الصليبي المتحالف شر هزيمة، ويفر لويس الثاني فزعًا ليغرق في مياه "الدانوب"! العجيب في قصة موهاكس أن المسلمون اكتشفوا صدفة في قلب سهول أوروبا في المجر خيانة شيعية جديدة! وكأن القوم لا يملون من خيانة المسلمين!! فلقد اكتشف

جنود الإنكشارية أن الصفويين الشيعة كانوا يعاونون سرًا (كعادتهم) الصليبيين من وراء خطوط القتال، عندها أمر القانوني جنوده إلى التوجه شرقًا لتأديب الشيعة، ليكتشف المسلمون من جديد أن الشيعة قد نبشوا قبر الإمام "أبو حنيفة النعمان" في بغداد ونادوا في الأسواق أنه على كل من يريد أن يقضي حاجته فليقضها عند قبر إمام أهل السنة والجماعة أبي حنيفة! عندها انقض المسلمون بقيادة البطل التركي سليمان القانوني انقضاض الأسود على كلاب الصفويين، فدكوا حصونهم دكًا عنيفًا حتى طهروا بَغداد من رجس الشيعة الصفويين لمدة تزيد عن خمس قرونٍ. . . . قبل أن يعودوا إليها من جديد في عام 2003 م! بعد هذه الانتصارات العظيمة استمر القانوني في خلافة رسول اللَّه في الأرض طيلة 46 عامًا قضاها في جهاد حتى آخر رمق في حياته، قبل أن يستشهد وهو يجاهد في سبيل اللَّه رغم كبر سنه، فجزاك اللَّه كل خير أيها القانوني لما قدمته للإسلام والمسلمين. الجدير بالذكر أن الخليفة سليمان القانوني كان يستفتح رسائله بالآية الكريمة "إنه من سليمان وإنه بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ" تيمنًا بنبي اللَّه سليمان الذي بُعِث في بلاد الشام. هذه الأرض المباركة. . . . أخرجت للأمة بطلًا جديدًا حمل نفس اسم هذا السلطان العثماني العظيم، ليلقن مرتزقة نابليون بونابرت درسًا في معنى العزة والفداء! فمن يكون ذلك السليمان؟ وما الذي يدفع "متحف الإنسان" في باريس إلى الاحتفاظ بجمجمته إلى يوم الناس هذا؟!! يتبع. . . . . .

13 - (سليمان الحلبي)

{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} (سليمان الحلبي) " ألا إن الإيمان إذا وقعت الفتن بالشام" "ألا إن عقر دار المؤمنين الشام" (رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-) نتحول الآن إلى عظيمٍ من عظماء بلاد الشام المباركة، مع شابٍ عظيمٍ ضحى بزهرة شبابه في سبيل الإسلام، ولكن قبل أن نسرد حكايته البطولية دعونا نرجع إلى عام 1798 م، ولنترك بلاد الشام قليلاً ولنتجه إلى أرض الكنانة مصر، هناك على شواطئ الإسكندرية تتقدم سفن غازية بقيادة القائد الفرنسي الإيطالي الأصل (نابليون بونابرت) في حملة عسكرية درسناها في مناهجنا باسم مزيف ألا وهو "الحملة الفرنسية على مصر" والحقيقة التي أخفاها عنا واضعو تلك المناهج المتعفنة أن اسم هذه الحملة الحقيقي هو "الحملة الصليبية الفرنسية على مصر"! فلقد آن الأوان لهذه الأمة أن تسمي الأمور بمسمياتها الحقيقية من دون أي مجاملة أو مذلة، وإن كان أحد في شك من صليبية هذه الحملة فليتابع معي بداية القصة ولينظر إلى ما صنعه أولئك القتلة بالمصريين، أقصد هنا بالمسلمين فقط من المصريين! في البداية أظهر نابليون أنه لم ياتِ إلّا لنشر الحضارة والرقي في أرجاء مصر، فبعث برسالة إلى شريف مكة (غالب بن مسعود) وإلى مشايخ وأعيان الأزهر يزعم فيها بأنه قد هدم الكنائس في أوروبا، وأنه خَلَعَ بابا روما قبل قدومه إلى مصر، وأنه عاشقٌ للنبي محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-، بل هو -أي نابليون- نصير للدين الإسلامي! إلّا أن هذه الخدعة القديمة لم تنطوِ على الموحدين من أهل المحروسة، فاشتعلت شرارة "ثورة القاهرة الأولى" ضد الفرنسيين، عندها ظهر الفرنسيون على حقيقتهم، واتضح أن دعاة الثقافة والحضارة ما زالوا يحملون في صدورهم إرثًا صليبيًا قبيحًا، فاقتحم الفرنسيون الأزهر بخيولهم، وداسوا على كتاب اللَّه بأقدامهم، ونصبوا المدافع على "جبل المقطم" ودكوا أحياء مصر

القديمة، وحولوا حي "بولاق" إلى أنقاض، وهدموا المساجد على مصليها. عندها هب رجال الأزهر الشرفاء يجاهدون في سبيل اللَّه، فقتل الصليبيون الفرنسيون في يومٍ واحدٍ ألفين من خيرة علماء الأزهر! وعند هذه اللحظة بالتحديد أدرك المسلمون أنهم يواجهون غزوًا صليبيًا لا يختلف عن سابقيه، فالمسمى واحد وإن اختلفت الأسماء، ومما زاد من يقين المسلمين بصليبية هذه الحملة، ما يرويه المؤرخ المصري (الجبرتي) في كتابه "عجائب الآثار في التراجم والأخبار" عن كيفية التعاون الصليبي الخائن (يعقوب حنا) مع المحتلين ضد أبناء بلده مصر، وكيف كوَّن فيالقًا من الخونة الصليبيين من سكان البلد الأصليين من أمثاله لمعاونة الفرنسيين في اقتحاماتهم لبيوت مواطنيهم من المسلمين المصريين! وبعد أن اعتقد نابليون أنه استطاع وأد الانتفاضة المصرية، رجع إلى فرنسا ليكمل سجله الإجرامي في الشعوب الأوروبية، تاركًا القيادة لمجرم حرب آخر اسمه (كليبر)، هذا القائد الفرنسي كان صليبيًا حتى النخاع، فما إن أمسك بزمام الأمور بعد سلفه حتى أظهر الفرنسيون فجورهم بوضوح صارخ، فحولوا مساجد مصر إلى بيوت دعارة لتسلية جنودهم الأوغاد، واغتصبوا الفتيات المسلمات أمام آبائهن، وقتلوا الأطفال الرضع أمام أمهاتهم، وظن الجميع أن الإسلام قد انتهى في مصر. وعندها. . . . هبَ المجاهدون من كل مكان يرفعون راية "لا إله إلا اللَّه، محمد رسول اللَّه" في كل أرجاء مصر، وتحولت مصر إلى كتلة من نار في وجه الغزاة، وانتفض المصريون المجاهدون في صعيد مصر وساحله في وجه الفرنسيين، وأغار فرسان المماليك الأبطال على الصليبيين في كل مكان، وأبحرت وفود من مجاهدي الحجاز من مكة والمدينة إلى الشاطئ المصري لنصرة إخوانهم المسلمين، وتسلل آلاف المقاتلين الأتراك سرًا إلى القاهرة للمشاركة في الجهاد الذي أعلنه خليفة رسول اللَّه العثماني (سليم الثالث)، وتحولت مساكن الطلاب المغاربة في الأزهر إلى ثكنات للمقاومة الشعبية، أمّا رواق الشوام في الأزهر، فحدث عنه ولا حرج، فلقد تطوع أبناء الشام الإسلامي في صفوف المقاومة الشعبية المصرية، وكان من بينهم الأبطال شابٌ كردي من مدينة "حلب" قتل

الصليبيون الفرنسيون أستاذه الشيخ المصري المجاهد (الشرقاوي)، ودنسّوا الجامع الأزهر بخيولهم أمام ناظريه، فامتلأ صدر هذا الشاب الذي لم يتجاوز الثانية والعشرين من عمره غلًا على أولئك القتلة المجرمين، فقرر أن ينفذ عملية فدائية نوعية، تتطلب منه أن يضحي بروحه لإنجاحها! كان اسم هذا الشاب (سليمان الحلبي)، هذا الشاب الكردي البطل قرر اقتحام القصر العسكري والهجوم على مركز قيادة الجيش الفرنسي بمفرده في عملية معقدة يقتل في نهايتها القائد العام للقوات الغازية الصليبية، وفعلًا نفذ سليمان الحلبي هذه العملية الفدائية بكل نجاح، وخلص المسلمين والإنسانية من شر مجرم حرب اسمه (جين بابتسه كليبر). ولكن انظر ما الذي صنعه دعاة الحرية والتقدم بسليمان الحلبي بعد ذلك! لقد أحرقوا يده حتى ظهر عظم يده منها، ثم أحرقوا ثلاثة من الفلسطينيين من أبناء "غزة" أمامه وهم أحياء بعد أن ثبت تعاون أولئك الغزيين الأبطال معه في الإعداد لقتل كليبر، أما هو رحمه اللَّه فقد قتله دعاة الرقي والحضارة بأن وضعوا أداة حادة تدخل من مؤخرته لتمزق أحشاءه تمزيقًا من الداخل وهو حي ليتركوه على هذا الحال مصلوبًا عدة أيام تنهشه الطيور الجوارح، الغريب أن أولئك المجرمين لم يكتفوا بما فعلوه ببطلنا حيًا، فأخذوا جمجمته ميتًا ليحتفظوا بها في متحف الإنسان في باريس " Musee de IHomme"، كاتبين تحتها بفرنسية " Criminel" أي "مجرم"!!! والحقيقة أن الشيء الذي يدعو للاشمئزاز بالفعل ليس إجرام الفرنسيين القدماء، بل في ما يفعله الفرنسيون "الجدد" الذين ما زالوا يحتفظون بجمجمة هذا المجاهد في متحفهم إلى يومنا هذا! وواللَّه ولو كنت مسئولًا عربيًا ما تركت أحدًا من دعاة الديمقراطية الفرنسية يناقشني في أمرٍ من أمور الحرية وحقوق الإنسان في بلداننا إلّا وناقشته عن أمر تلك الجمجمة التي يحتفظون بها في متحفهم! سليمان البطل لم يكن مجرمًا كما يصوره الفرنسيون، بل كان شابًا من خيرة شباب الإسلام، كل ذنبه أنه أراد أن يتعلم في جامعته الأزهر، فراعه قتل الفرنسيين لأستاذه المسن، واشمأز من تمزيق دعاة العلم لكتاب اللَّه المقدس، فانتقم من ظلم نابليون وملئه

انتقامًا يليق بظلمهم وجبروتهم. أما المجرمون الحقيقيون، فهم قادتكم أيها الفرنسيون الذين قتلوا المدنيين الأبرياء، فإن أردتم فعلًا أن تعرفوا من هو المجرم حقًا، ففتشوا عنه بين أسماء أجدادكم القتلة! المضحك في هذه القصة، بل الشيء الذي يدعو للسخرية فعلًا. . . . هو أنني وجدت من خلاله إعدادي لهذه المادة التاريخية، أن المصادر الأجنبية -الإنجليزية منها والفرنسية على حد سواء- تزعم أن سليمان الحلبي ما قتل كليبر إلّا ليخلص والده من ضرائب فرضها عليه الأتراك! فيالكم من حمقى تستغفلون شعوبكم وتخفون عنهم جرائم جيوشكم، حتى باتت شعوبكم تتساءل عن السر الذي يدفع الغير إلى كرهكم! وبعد. . . . كان هذا فصلًا واحد من فصول قصة الإرهاب الفرنسي في بلاد الإسلام، هذا الإرهاب تصدى له مجاهد كردي شامي ضحى بزهرة شبابه في سبيل اللَّه ضد أولئك الإرهابيين الذين يتسلون الآن برؤية جمجمته في الغداة والعشي، فأي حقد لا يزال أولئك المتحضرون يحملونه في قلوبهم؟ وأي متعةٍ يجدونها بالنظر إلى جمجمة إنسانٍ حتى ولو كان مجرمًا في نظرهم؟! إنها ولا شك همجية صليبية قذرة! وإذا ما أردت أن تعرف المزيد من جرائم أولئك القتلة ولكن هذه المرة في بلاد أخرى من بلاد المسلمين، وإذا ما أردت أن تعرف قصة ملحمة بطولية جديدة لعظيم جديدٍ في أمة الإسلام لم يرضَ على نفسه ولا على شعبه ولا على دينه الدنية. . . . . فتابع معي! يتبع. . . . .

14 - عملاق الجزائر (الأمير عبد القادر الجزائري)

" عملاق الجزائر" (الأمير عبد القادر الجزائري) " وإن دوي الرصاص وصهيل الخيول لآذاننا خير من صوت الرخيم" (عبد القادر الجزائري) في البداية يجب أن أعترف أن تاريخ الجزائر القديم والحديث كان شيئًا غامضًا بالنسبة لي شخصيًا، بل إن تاريخ المغرب الأقصى بما يتصل به من تاريخ الأندلس، وتاريخ تونس بما تحمله جامعة الزيتونة من قصص وأخبار، كانا أوضح إلي من تاريخ الجزائر نفسه، بل لعل الجهل أوصلني في وقت من الأوقات للشك في عروبة هذا القطر وانتمائه للإسلام، والحقيقة أنّني عندما قلبت صفحات التاريخ عن قصة هذا البلد الضخم وجدت أن للجزائر تاريخًا أقل ما يقال عنه أن تاريخ يكتب بماء من الذهب! ولأن الحديث عن تاريخ الجزائر في نصرة دين اللَّه أمرٌ يطول شرحه، فإني سأركز في السطور القليلة الآتية على قصة بطلٍ من أبطال الجزائر حمل في وجدانه كل معاني الشهامة والبطولة والمروءة. يرجع بعض المؤرخين بدء الحملة الفرنسية على الجزائر لعام 1927 م، إلّا أنني أرى أن الحرب الفعلية على الجزائر بدأت مبكرًا جدًا، وبالتحديد في عام 1538 م، إنه تاريخ معركة "بروزة" الخالدة التي تحدثنا عنها سابقًا عندما ذكرنا انتصار العثمانيين بقيادة القائد البطل (خير الدين بربروسا) على أساطيل القوى الصليبية المتحالفة. بعد هذا الانتصار الضخم قام القائد بربروسا رحمه اللَّه ببناء أسطول إسلامي ضخم مقره الجزائر، وتحولت الجزائر إلى أقوى قوة بحرية في العالم كله تقود الإسطول العثماني الإسلامي الضخم، وصارت الجزائر تعرف باسم جديد هو: "دار الإسلام ودار الجهاد". ومنذ ذلك التاريخ تحولت اهتمامات الصليبيين إلى الجزائر بالتحديد، ويكفينا لكي ندرك مدى القوة التي وصلت إليها الجزائر تحت ظل الخلافة الإسلامية العثمانية أن

نذكر أن (جورج واشنطون) أول رئيس للولايات المتحدة الأمريكية دفع جزية للمسلمين تقدر بـ 642 ألف دولار ذهبي و 1200 ليرة عثمانية دُفِعت للأسطول العثماني في نهاية القرن الثامن عشر، وذلك لكي يرضى العثمانيون بتوقيع معاهدة عدم الاعتداء على أمريكا! يُذكر أن هذه الاتفاقية هي الوحيدة في أرشيف الولايات المتحدة الأمريكية التي لم تكتب باللغة الإنجليزية وإنما بلغة عثمانية بحروف عربية بناءً على رغبة الخليفة العثماني شخصيًا، أما بريطانيا فكانت تدفع سنويا 600 جنيه للخزانة الجزائرية، وكانت الدانمارك تقدم للمسلمين في الجزائر مهمات حربية وآلات قيمتها 4 آلاف ريال شنكو كل عام مصحوبة بالهدايا النفيسة، أما هولندا فكانت تدفع لأسطول الخلافة العثمانية في الجزائر 600 جنيه، ومملكة صقلية 4 آلاف ريال، ومملكة سردينيا 6 آلاف جنيه، والولايات المتحدة الأمريكية تقدم آلات ومهمات حربية قيمتها 4 آلاف ريال و 10 آلاف ريال أخرى نقدا مصحوبة بهدايا قيمة، وتبعث فرنسا بهدايا ثمينة عند تغيير قناصلها، وتقدم البرتغال هدايا من أحسن الأصناف، وتورد السويد والنرويج كل سنة آلات وذخائر بحرية بمبالغ كبيرة، وتدفع مدينتا هانوفر وبرن بألمانيا 600 جنيه إنجليزي، وتقدم إسبانيا أنفس الهدايا سنويا. وعلى مدار ثلاثة قرون من سيطرة الأسطول الجزائري العثماني على البحر الأبيض انتظر الصليبيون الفرصة السانحة للانتقام من المسلمين، مما أدى بالدول الأوروبية إلى عرض القضية الجزائرية في مؤتمراتها، فبعد أن تم الإشارة إليها في مؤتمر "فيينا" تم عرضها في مؤتمر "إكس لاشابيل" عام 1818 م، وأصبح السؤال الذي يدور هنالك متى تحين هذه الفرصة للانقضاض على الجزائر؟ والحقيقة أن هذه الفرصة أتت في عام 1927 م وهو العام الذي دُمِّر فيه الأسطول الجزائري العثماني في "معركة نافرين" البحرية، الغريب أن الفرنسيين لم ينتظروا طويلًا، فتقدموا لاحتلال الجزائر في نفس ذلك العام! هذا هو سبب اختيار الجزائر بالذات، أمّا سبب اختيار فرنسا بالتحديد لكي تنوب عن بقية قوى الغزو الصليبي فيرجع لأسباب كثيرة سيأتي ذكرها في طيات هذا الكتاب عند الحديث على الحروب الصليبية ودور فرنسا فيها منذ أن بدأ البابا (أوربان الثاني) الدعوة لتلك لحروب الصليبية في مدينة "كليرمون" الفرنسية، ولمن كان يظن أن فرنسا ما

دخلت الجزائر إلّا للقضاء على الجهل والفقر، فعليه أن يعلم أن نسبة المتعلمين في الجزائر في تلك الفترة كانت أكبر منها في فرنسا، بشهادة الرحالة الألماني (فيلهلم شيمبرا) الذي كتب حين زار الجزائر في شهر ديسمبر 1831 م: "لقد بحثتُ قصدًا عن عربي واحد في الجزائر يجهل القراءة والكتابة، غير أني لم أعثر عليه، في حين أني وجدت ذلك في بلدان جنوب أوروبا، فقلما يصادف المرء هناك من يستطيع القراءة من بين أفراد تلك الشعوب الأوروبية". الأغرب من ذلك أن فرنسا كانت عاجزة عن سداد ديونها الكبيرة لدى الجزائر وقتها! أما من كان يعتقد أن فرنسا أصبحت علمانية الهوى بعد الثورة الفرنسية وأنها قد تخلت عن أحقادها الصليبية، فهو واهم أشد الوهم في اعتقاده هذا، ولعل ما جاء على لسان الفرنسيين أنفسهم ما يؤكد هذا القول، ففرنسا شعرت بعد ثورتها بأنها حامية الكاثوليكية وأن تحقيق الانتصار على حساب الجزائر إنما هو بمثابة انتصار للمسيحية على الدين الإسلامي، وهذا ما استخلصناه من قول القائد الفرنسي (كليرمون دي طونير) عندما فرض حصارا على السواحل الجزائرية عندما قال: "ربما يساعدنا الحظ بهذه المناسبة لننشر المدنية بين السكان الأصليين فندخلهم بذلك في النصرانية". وأيضا الوصف الذي قدمه قائد الحملة الفرنسية (دوبرمون) في الاحتفال الذي أقيم في "فناء القصبة" بمناسبة الانتصار حيث جاء فيه: "مولاي، لقد فتحت بهذا العمل الغزو بابًا للمسيحية على شاطئ أفريقيا". أما اليهود الذين استضافهم المسلمون الجزائريون بعد طردهم من الأندلس من قبل الكاثوليك، فقد ردّوا هذا الجميل للمسلمين بأن فتحوا بوابات العاصمة الجزائر للفرنسيين! حينئدٍ أظهرت فرنسا حقدها الصليبي على الإسلام بشكل صارخ، فلك أن تعلم أنه من أصل 112 مسجدًا في العاصمة الجزائر لوحدها لم يُبق الفرنسيون إلّا على 5 مساجد فقط والباقي قاموا بهدمه أو تحويله إلى مخازن أو إسطبلات، ثم منع الفرنسيون الحج تمامًا، وقام الجنود الفرنسيون بالنهب والسلب في بيوت المسلمين، حتى أنهم كانوا يأتون بالأساور في المعاصم بعد أن يقطعوا أيادي نساء المسلمين من دون أن يتركوا لهن وقتًا لنزع أساورهن! بل إن بعضًا من الفرنسيين كانوا يأتون بأقراط النساء بأذانهن بعد أن يقطعوها بالسكين!! أما لمن كان مغرمًا بـ "الإتيكيت الفرنسي" فعليه أن يقرأ هذه القصة الصغيرة التي تبين مدى الرقي الفرنسي، فعندما التجأ

800 مسلم جزائري إلى أحد كهوف الجزائر مصطحبين معهم ماشيتهم هربًا من بطش الجنود وخوفًا على الفتيات الجزائريات من الاغتصاب، قام دعاة الحضارة "الإيتيكتيون" بإشعال النيران في الكهف على من فيه، ليذهب شباب القرية في الصباح ليتفقدوا أوضاع أهاليهم، ليجدوا العجب! فلقد وجدوا جثث الأطفال المتفحمة بين بقايا الدواب المحترقة، فنار الفرنسيين لم تفرق بين الإنسان والحيوان في القتل، ثم وجدوا شيئًا جعل الكثير منهم يسقط مغمًا عليه من فظاعته ووحشيته، وجدوا جثة محترقة لرجل تتعلق يداه بقرني ثور متفحم يبدو أنه هاج من شدة الدخان، فاتجه نحو ذلك الرجل الذي صده بيديه، ولمّا أزاح الشباب جثة ذلك الرجل وجدوا من خلفها جثة لطفلة في حضن أمها وقد تفحمتا، لقد كان هذا الرجل زوجها الذي أراد أن يحمي طفلته وزوجته من ذلك الثور الهائج، فأمسك بقرنيه ليحميهم قبل أن تحترق العائلة والثور معًا بنار فرنسا! هذه المآسي لا أذكرها من باب نكء الجراح على فرنسا، ولكن أذكرها لسببين، الأول هو رفض فرنسا الاعتذار للجزائر عن جرائمها التي ارتكبتها في حق المسلمين في الجزائر، وبذلك تكون امكانية تكرارها على المسلمين واردة (وهذا بالفعل ما حدث بالبوسنة منذ أعوام قليلة عندما فكّت فرنسا الحصار على الكاثوليك الكروات وأمدتهم بالسلاح لقتل المسلمين في البوسنة!). أما السبب الثاني فإن ذكر هذا البطش والجبروت يساعدنا على تقدير عظمة بطلنا الأمير عبد القادر الجزائري الذي قاد الجهاد ضد المحتل الصليبي الفرنسي في هذه الظروف القاتمة، فلقد وحَّد الجزائري صفوف القبائل تحت إمرته وشرع بالنضال لطرد الغزاة، فأذاق الفرنسيين الويلات وكبدهم الخسائر الفادحة في معركة "المقطع" سنة 1835 م، واستمر الأمير عبد القادر في تكبيد الفرنسيين ألوان الهزائم قبل أن يأسره الفرنسيون، ليلقوا به في سجون باريس، قبل أن ينفوه إلى "إسطانبول"، ليستقبله خليفة المسلمين هناك ويكرمه، فينتقل الأمير بعدها إلى "دمشق"، وهناك في حاضرة الأمويين يبرز لنا لماذا أصبح الأمير عبد القادر الجزائري عظيمًا من عظماء الإنسانية، ففي عام 1860 م اندلعت فتنة دامية بين المسلمين والنصارى في دمشق، ويا للعجب. . .! لقد قام الأمير الجزائري بحماية النصارى وإيوائهم في بيته، على

الرغم مما فعله النصارى الفرنسيون بالمسلمين في أرضه! وفي 26 مايو 1983 م انتقل إلى رحمة اللَّه تعالى الأمير البطل عبد القادر الجزائري في منفاه في دمشق، لكي تستغل فرنسا فرصة غيابه وتحول الجزائر إلى مقاطعة فرنسية، بعد أن منعت فيها المحاكم الإسلامية، وقامت بطمس اللغة العربية واستبدالها باللغة الفرنسية. وفي ظل هذا الوضع القاتم وهذه الظروف السيئة التي تدعو إلى اليأس، وعندما اطمأنت فرنسا أنها أنهت الإسلام في الجزائر، وأنست الناس لغة محمد بن عبد اللَّه، ظهر من بين حطام الدمار، ورماد اليأس عظيمٌ إسلامي جديد، رفض القبول بالواقع المرير، فحمل راية الإسلام في علياء الجزائر، فحول أرض الجزائر إلى كتلة من لهب! يتبع. . . . .

15 - الإمام (عبد الحميد بن باديس)

" الإمام" (عبد الحميد بن باديس) شَعْبُ الجزائرِ مُسْلِمٌ ... وَإلىَ العُروبةِ يَنتَسِبْ مَنْ قَالَ حَادَ عَنْ أصلِهِ ... أَوْ قَالَ مَاتَ فَقَدْ كَذبْ (الإمام عبد الحميد بن باديس) يخطئ البعض بتسمية الجزائر (بلد المليون شهيد)، ويخطئ أكثر من يسميها (بلد المليون ونصف شهيد)! والحقيقة التاريخية أن الجزائر قدمت مليونًا ونصف مليون شهيدًا في سبع سنوات ونصف فقط للثورة الجزائرية الأخيرة ما بين عام 1954 م وعام 1962 م، أمّا مجمل ما قدمه المسلمون في الجزائر في فترة القرن وثلث القرن من الاحتلال الفرنسي الهمجي فقد جاوز الستة ملايين شهيد!!! (نحسبهم كذلك ولا نزكي على اللَّه أحدًا من عباده). أما الخطيئة الكبرى، فهي تسمية الاستخراب الفرنسي "استعمارًا"، فالاستعمار اسم مصدر مشتق من الفعل العربي "استعمر" ويعني عمارة الشيء، وفرنسا وغيرها من الدول "الاستخرابية" ما جاءوا ليعمِّروا، بل جاءوا ليخرِّبوا البلاد ويقتلوا العباد، ويكفيك أن تعلم أن دعاة الحضارة والتقدم من الفرنسيين حرقوا كل كتب مكتبة "قسطنطينة" الجزائرية والتي احتوت على مخطوطات نادرة من التر اث الإسلامي الأندلسي. الغرض من ذكر هذه التفاصيل ليس هدفه السرد التاريخي فقط -الذي أعتقد أنه مهمٌ أيضًا- وإنما الهدف الحقيقي من ذكر هذه الأحداث التاريخية هو استخراج العبرة والاستفادة من الدروس لكي نعيد بناء هذه الأمة ونخرجها من حالة الهزيمة إلى حالة النصر كما حدث في الجزائر، فإذا كان البعض متشائمًا الآن من حالة الأمة الإسلامية والوضع الراهن في فلسطين بعد ستين عامًا من الاستخراب الصهيوني فيها، فإن الوضع في الجزائر كان أسوأ ألف مرة من الوضع القائم في وطني الحبيب فلسطين، ولقد استقلت الجزائر بعد كل هذا الظلم والاضطهاد، وسينال الفلسطينيون

استقلالهم إذا ما سلكوا نفس المنهاج الذي سلكه إخوتهم الجزائريون، فسنة اللَّه ثابتة في خلقه، ولن تجد لسنة اللَّه تبديلًا. وبطلنا العظيم هذا لم يكن مقاتلًا يحمل السلاح، لكنه كان مجاهدًا أحيى اللَّه به الشعب الجزائري بأكمله، فكان الإمام عبد الحميد بن باديس أمةً وحده! والإمام عبد الحميد بن باديس هو سليل عائلة مجاهدة في أرض الجزائر، فجده الأكبر هو البطل الإسلامي الكبير (المعز بن باديس)، وهو المجاهد الإسلامي الفذ الذي طهَّر الجزائر من شرِّ الشيعة الروافض من العبيديين "الفاطميين". أمّا الإمام عبد الحميد بن باديس فقد ظهر في زمن يدعو لليأس والكآبة، زمنٌ انطفأت فيه شظوة المقاومة ودبَّ فيه اليأس في قلوب الناس، ولكن هذا الزمن هو أيضًا زمن ظهور الرجال الحقيقيين وبريق المعادن الأصيلة. والقصة تبدأ من التنشئة الصالحة عندما يرزق اللَّه الإنسان أبوين صالحين يعلمانه كتاب اللَّه وسنة نبيه وحب الوطن والجهاد في سبيل اللَّه، لينشأ ابن باديس حافظًا للقرآن ذاكرًا لسنة محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- فابعتثه أبوه إلى جامعة "الزيتونة" لينهل من علمائها العلم، ومن هناك توجه إلى الحجاز لأداء فريضة الحج، وفي المدينة المنورة قابل رجلًا هنديًا أصبح له فضلٌ على كل جزائري إلى يوم الدين، قابل الشيخ (حسين الهندي) جزاه اللَّه كل خير، فنصحه الشيخ الهندي بالعودة إلى الجزائر والتركيز على إعادة الناس فيها إلى دين اللَّه أولًا قبل التفكير في أي شيء آخر، وللَّه در هذه الأمة التي يتباحث فيها الهندي والجزائري في نصرة الإسلام! وفعلًا أخذ الإمام بنصيحة الشيخ حسين الهندي وذهب إلى الجزائر يعلم فيها الناس العربية والإسلام، فأنشأ الصحف والمدارس لتوعية النشء الصاعد، وهنا يأتي دور العظماء في بناء الأمم، فالبناء يجب أن يكون صحيحًا منذ البداية لكي يضمن الاستمرارية والبقاء، لا أن يأتي فجأة فيختفي فجأة كما هو الحال في كثير من الحركات الإسلامية في هذا الزمان، فالإمام عبد الحميد زرع النبتة وسقاها وصبر عليها حتى أثمرت. ففي عام 1931 م أسس الشيخ ابن باديس "جمعية العلماء المسلمين"، فاختاره علماء الجزائر رئيسًا لها، فحارب البدع التي كانت منتشرة في الجزائر تحت رعاية الفرنسيين، وقام بمحاربة الفرق الصوفية الضالة التي كانت غارقة في الرقص والغناء في الموالد والاستغاثة بالأموات من دون اللَّه، وقام بنشر الدين الإسلامي

الصحيح كما كان عليه الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- وصحابته الكرام. وعندما بلغ الشيخ الحادية والخمسين من عمره مات رحمه اللَّه دون أن يرى الاستقلال بعينيه، ولكن الجيل الذي رباه الإمام عبد الحميد بن باديس هو نفسه الجيل الذي أشعل ثورة الاستقلال، ليتقدم المجاهد تلو المجاهد لمقاومة الفرنسيين، وفي عام 1962 م وبعد أكثر من مائة وثلاثين عامًا من الإستخراب الفرنسي، نالت الجزائر استقلالها، ومحق اللَّه كيد الصليبيين الذين مكثوا كل تلك الفترة لتنصير الجزائريين، فالجزائر اليوم تتجاوز فيها نسبة المسلمين 99 %، فالحمد للَّه له الفضل والمنة. فرحم اللَّه مجاهدي الجزائر الأبطال، وشهداء الجزائر الأبرار، ورحم اللَّه الإمام ابن باديس الذي أنشد قبل أن يسلم الروح للَّه: فَإذَ اهَلكْتُ فَصَيْحتي ... تَحيَا الجَزائرُ وَالْعرَبْ الجميل في الأمر أن الإمام ابن باديس الذي يهتف للعرب لم يكن عربيًّا! فلأي شعب من الشعوب الإسلامية كان ينتمي؟ ومن يكون هؤلاء القوم الجبابرة الذين اعتنقوا الإسلام منذ فجر الفتوحات الإسلامية ليتحولوا إلى مجاهدين وعلماء عظام في أمة الإسلام؟ يتبع. . . . .

16 - (البربر الأمازيغ)

{يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (البربر الأمازيغ) " من أعجب الأمور في التاريخ أن البربر الذين حاربوا المسلمين لخمس وعشرين سنة متصلة هم أنفسهم الذين حملوا راية الإسلام إلى الأندلس" (المارشال "برنارد مونتغمري" في كتابه الحرب عبر التاريخ) حديثنا الآن عن شعب عظيم من شعوب أمة الإسلام، هذا الشعب قدَّم للإسلام الشيء الكثير، إنه العنصر الإسلامي البطل الذي سكن شمال أفريقيا، إنه شعب البربر "الأمازيغ". والحقيقة أني تعمدت ذكر الاسمين الشهيرين لهذا الشعب البطل وذلك لغاية أقصدها، فقد اختلطت التصورات لدى البعض بقصد أو بغير قصد في أمر هذا العنصر الإسلامي الفريد، وتاريخيًّا فإن الرومان هم الذين أطلقوا اسم البربر على هذه القبائل الأمازيغية، بل إنهم أسموا كل من لم يكن من الرومان بربريًّا! فلفظة بربري ليست عيبًا أبدًا، بل هي شرف ما بعده شرف، فلو علم المسلمون ما قدمه هؤلاء البربر للإسلام والمسلمين لتمنى كل مسلم منا أن يكون بربريًا، وقد يخفى على البعض بأن خيرة علماء ومجاهدي هذه الأمة هم من البربر، و (ابن خلدون) مؤسس علم الاجتماع، و (عباس بن فرناس) مكتشف الطيران، و (يوسف بن تاشفين) مؤسس دولة المرابطين في الأندلس، والرحالة (ابن بطوطة) أعظم مكتشفي الإسلام، و (ابن البيطار)، والبطل (عبد الكريم الخطابي)، و (المعز بن باديس)، وغيرهم الكثير الكثير، هم جميعهم من البربر ويفتخرون بذلك، ونفتخر نحن بهم، بل هم تيجان رؤوسنا وأبطالنا الذين نرفع رؤوسنا بهم في علياء السماء، ولعل مباراةً لكرة القدم بين منتخبي الجزائر ومصر في تصفيات كأس العالم 2010 م فضحت قصورًا معرفيًا كبيرًا لدى العامة من الناس، ويجب أن نعترف هنا أن مشعلي هذه الفتنة من الطرفين قد نجحوا فعلًا بضرب الإسلام في العمق

بتفريقهم بين شعبين من أهم شعوب أمة الإسلام عبر التاريخ، وإني لا أشك قيد أنملة بأن من وصف البربر الأمازيغ بأقبح الأوصاف يعلم جيدًا من يكون هذا العنصر الإسلامي البطل، وأذكر من حكم طبيعة عملي الإعلامي ذلك المذيع الأحمق الذي قام بسب البربر علانية على الهواء، بل إني لا أنسى ذلك الرجل المسكين الذي حاول أن يحذرني شخصيًا من أولئك "الأمازين" بالنون وليس بالغين وكيف أنهم يحقدون على المسلمين! ومن خلال مراقبتي لشبكة الانترنت في تلك الفترة لاحظت بشكل واضح أصابع الاستخراب الفرنسي في أحد الجانبين وأصابعًا للصليبيين في الجانب الآخر لإشعال فتنة بين المسلمين، بل إن المضحك في الأمر أن الشيعة الرافضة -كعادتهم- حاولوا أن يذكوا نار تلك الفتنة! وإني أعتقد اعتقاد المتيقن أن من أراد الطعن بالبربر إنما أراد أن يطعن الإسلام في كبده، فقد فشلت فرنسا في التفريق بين العرب والبربر إبان فترة استخرابها للجزائر بتذكير البربر بأصولهم اللاتينية الأقرب للفرنسيين من العرب، إلّا أنهم فشلوا فشلًا ذريعًا، وما قصيدة ابن باديس البربري الأصل بأن شعب الجزائر مسلم وإلى العروبة ينتسب إلّا دليل على عظمة هذا الشعب الأصيل الذي رضي بلغة القرآن من دون أن ينسى أصله الشريف، وعلى الرغم من كل المحاولات المتكررة لتنصير هذا الشعب الإسلامي العملاق، نجد أن إخوتنا من البربر الأمازيغ ما زالوا متمسكين بالإسلام بشكلٍ دفع تلك الحركات التنصيرية إلى اليأس، لتدخل إيران في السنوات الأخيرة في سباق مع المنصرين تريد ردة الموحدين هناك ونشر التشيع بين صفوف الأمازيغ، مما حدا بالمملكة المغربية إلى قطع العلاقات الدبلوماسية مع إيران في عام 2009 م، وذلك بعد اكتشاف خلايا صفوية تعمل على نشر التشيع بين صفوف فقراء البربر بواسطة الأموال والطرق القذرة، إلّا أن هذا الشعب البطل والحمد للَّه ورغم كل هذا ما زال يتجه يومًا بعد يوم نحو الإسلام الصحيح، وفشلت كل محاولات إبعاد البربر عن الدين الذي نشره أجدادهم الأولون في أدغال أفريقيا السوداء، وسهول أوروبا الخضراء. فما أعظم هذا الدين، وما أروعه! دين يأسر القلوب ويغزو الأرواح، فيحول من كان في البارحة خصمًا وعدوًا إلى أخ

وصديق حميم، وواللَّه إني لا أعجب من أولئك الذين يحاولون تشويه هذا الدين، بل إن العجب كل العجب أن لا يقوم هؤلاء أنفسهم بتشويهه، فالإسلام دين عجيب يمزج في خلطة سرية بين بساطة المعتقد وكمال التشريعات كلَّ ما يضمن السعادة للإنسان، ولو ترك أولئك المشوهون الناسَ يعرفون حقيقة الإسلام وكنهه، لدخلوا في هذا الدين أفواجًا متتابعة، فكان التشويه للإسلام ضروريًا لكي لا يصل نقيًا إلى شعوبهم المستضعفة، فتضيع بذلك سيطرتهم على تلك الشعوب، فهذا الدين العجيب جعل من شعبٍ صلبٍ بالفطرة كالشعب الأمازيغي يتحول بشكلٍ كاملٍ إلى الإسلام، ليس ذلك فحسب، بل قام هذا الشعب بنشر هذا الدين في أوروبا! فمن هو ذلك البطل الأمازيغي العظيم الذي فتح الأندلس؟ وما حقيقة ذلك القول الذي نسب إليه وتعلمناه في مدارسنا: (البحر من خلفكم، والعدو من أمامكم)؟! ولماذا انتشرت هذه المقولة بيننا حتى أصبحت مثلًا بين المسلمين؟ وما قصة معركة "وادي برباط" الخالدة والتي أرَّخت لصفحة جديدة في كتاب ما زالت صفحاته تُكتب إلى يومنا هذا؟ يتبع. . . .

17 - (طارق بن زياد)

جَادَكَ الغيثُ إِذا الغيثُ هَمَى (طارق بن زياد) " أدركنا يا لوذريق. . . . فإنه قد نزل علينا قومٌ لا ندري أهم من أهل الأرض أم من أهل السماء! " (قائد القوات القوطية) للَّه درُّ بلاد الجزائر كم أخرجت من عظيم لهذه الأمة، فعظيمنا الآن هو فاتح إسلامي خرج من صحراء هذه الأرض العظيمة التي دأبت على تخريج الأبطال وكأنها مدرسة للثوار، فبطلنا هو طارق بن زياد فاتح الأندلس العظيم. والحقيقة أن الحديث عن الأندلس لهو حديث طويل في سرده، غزير في أحداثه، شجيٌ في ذكرياته، يمتد إلى ما يزيد عن 800 سنة في تاريخ أمة محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-، أي أكثر من نصفها، لذلك سوف أتطرق إلى قصة الأندلس تباعًا في هذا الكتاب إن شاء اللَّه، لا من أجل البكاء على اللبن المسكوب، فليس ذلك أبدًا ما أرمي إليه، ولكنني أحسب أن تاريخ الأندلس كقصة صعودٍ وهبوطٍ متكررةٍ خلال ثمانية قرونٍ أو يزيد من حكم المسلمين يجسد خير مثالٍ يمكن أن يوضح لشباب هذه الأمة أسباب الصعود وأسباب الانحدار، فمن حكمة اللَّه سبحانه وتعالى أن جعل سنته في الأرض ثابتة لا تتغير، فإذا ما درسنا أسباب صعود المسلمين وانتصاراتهم في فترة من الفترات ثم عملنا بها، فإننا حتمًا سنصعد وننتصر، وإذا ما درسنا أسباب الهزيمة والانحدار تجنبناها. . . وهكذا. ثم إن قصة الحضارة الإسلامية في الأندلس لهي قصة فريدة من نوعها، لم تعرف البشرية مثلها من رقي وعلم وازدهار وتسامح بين الشعوب والأديان، حتى من وجهة النظر الغربية. وقبل أن ندرس حكاية هذا البطل العظيم أو نحكي حكاية الأندلس هناك نقطة وجب طرحها: لماذا قطع العرب المسلمون آلاف الأميال من صحراء جزيرتهم للوصول إلى أرأضي شعوب أخرى كالبربر والفرس والروم؟ أليس ذلك نوعٌ من الاحتلال لأراضي الغير؟

الحقيقة أن هذا السؤال قد يثير الريبة لدى البعض، وقد يذهب البعض إلى مقارنة الفتوحات الإسلامية بالاستخراب الأوروبي في القرنين التاسع عشر والعشرين، والواقع أنه ليس هناك وجه للمقارنة في ذلك، فالمُطلِعُ على تاريخ الحروب منذ أيام الإسكندر المقدوني مرورًا بغزوات الرومان والمغول وحتى الحروب الحديثة من نابليون إلى هتلر يجد أن هدف الجيوش على مر التاريخ لا يخرج عن ثلاثة، فإما الامتداد الجغرافي والاقتصادي كحال الإمبراطورية الرومانية (إمبراطورية اكتسحت ثلاث قارات)، أو السيطرة والهيمنة الفكرية كحالة أمريكا مثلًا (نشر المثل الأمريكية في العالم)، أو حتى اللا هدف أو العبثية كحالة التتار المغول (لم يكن للتتار أي هدف في حروبهم!). أما في حالة المسلمين فقد كان الوضع مختلفا بالكلية، فكانت الحروب الإسلامية استثناء لهذه القاعدة الثلاثية الأبعاد، فقد كان للمسلمين هدفٌ واحدٌ فقط: تبليغ رسالة محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- لكل البشر في كل أصقاع الأرض. وهنا يعلق البعض: لماذا حارب المسلمون ودمرّوا الإمبراطوريات المختلفة ولم يكتفوا بالتبليغ فقط من دون حروب؟ والإجابة هي أن هذا بالفعل ما فعله المسلمون في البداية، فلقد أرسل المسلمون الرسل تلو الرسل إلى حكام الأرض فقتلوهم قبل أن تصل رسالة الإسلام إلى شعوبهم، فرسالة الإسلام بما تحمله من أفكار تساوي بين البشر تتعارض بالضرورة مع شريعة الملوك الطبقية التي تستعبد الشعوب وتضطهد الفقراء، فمن الطبيعي أن يمنع هؤلاء شعوبهم من أن يعرفوا شيئًا عن الإسلام بما يحمله من خطورة على عروشهم، فواللَّه ما أخرجنا الجيوش إلّا بعد قتل الرسل والدعاة، أما في حالة إتاحة الحرية للرسل والدعاة ليبلغوا دعوة محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- للإنسانية فإنه لم يُرفع سيف واحد هناك، ولعل أندونيسيا أكبر دولة إسلامية أكبر مثالٍ على ذلك. ولكن إن كان الهدف من الفتوحات هو نشر الإسلام فلماذا لا نجد وجودًا للمسلمين في الأندلس أي من سكان إسبانيا والبرتغال الآن؟ والإجابة على ذلك أن أغلبية المسلمين في الأندلس (إسبانيا والبرتغال) كانوا أصلًا من السكان الأصليين الذين اعتنقوا الإسلام وليس كما يظن البعض أنهم من المهاجرين العرب والبربر، ولكن هؤلاء المسلمين إمّ رُحِّلوا من ديارهم أو قتلوا في محاكم التفتيش (كما سنرى في طيات هذا العمل لاحقًا!). أما السر الخفي في فتح المسلمين للأندلس والذي قد يعجب منه

الكثيرون، أن الأندلس كانت بالفعل أرضًا إسلامية لعشرات السنين حتى قبل أن يولد طارق بن زياد نفسه! بل إن الأندلس كانت دولة إسلامية مستقلة حتى 20 عامًا قبل بعثة رسول اللَّه!! ومن أراد معرفة ذلك السر الدفين، فعليه أن ينتظر قليلًا في هذا الكتاب، حتى يأتي ذكر عظيمٍ آخرَ من عظماء أمة الإسلام المائة يقال له. . . . (آريوس)! وقصة الأندلس تبدأ عندما استوطن القوط الغربيون هذه البلاد، والقوط الغربيون ليسوا من هذه البلاد أصلًا، بل هم من بلاد أخرى، وبالتحديد من شمال أوروبا، والأندلس اسم كان يطلق على شبه القارة الإيبيرية، والتي تكوِّن الآن دولتي إسبانيا والبرتغال، وكان يحكم القوط الغربيين في هذا الوقت ملك اسمه (غيطشة)، غيطشة هذا قتله أمير ماجن اسمه (لوذريق) والذي قام بالاستيلاء على العرش وفرض الضرائب الباهظة، فكرهه الشعب الأندلسي، وساد القهر والظلم في أرجاء الأندلس. أمّا في الجهة الأخرى من اليابسة وبالتحديد في مدينة طنجة فكان يحكمها رجل أشقر الشعر، أزرق العينين، طويل القامة، مفتول العضلات ينتمي إلى شعب البربر الذي تعود جذوره إلى أوروبا وبالتحديد من العنصر اللاتيني هناك، هذا الرجل كان وثنيًا يعبد الأصنام من دون اللَّه، فجاءه العرب بالإسلام، فأعجبته تعاليمه الرائعة وفكرته البسيطة في الوحدانية، فآمن بهذا الدين وأصبح شغله الشاغل هو تعريف بقية البشر بهذا الدين، فبعد أن كان هو وقومه عبيدًا للرومان الذين كانوا يحكمونهم بالسيف، جعله الفاتحون العرب حاكمًا لطنجة ليحكم المسلمين عربًا وبربرًا على حد سواء، هذا الرجل هو طارق بن زياد البطل الإسلامي العظيم والي الأمويين في طنجة. فبعد أن تسلم طارق رسالة من "القيروان" من القائد العام لإفريقيا يخبره فيها بإذن الخليفة الأموي (الوليد بن عبد الملك) رحمه اللَّه بنشر الإسلام في الأندلس، عبر طارق البحر بسبعة آلاف مقاتل غالبيتهم العظمى من البربر الذين دخلوا الإسلام جديدًا، ليقاتل المسلمون الحامية القوطية في الجنوب قبل أن يمحقوها محقًا، عندها هرب قائد الحامية، ليرجع سرًا بالليل إلى أولئك الفاتحين المجهولين يراقبهم لكي يعرف سر قوتهم، عندها رأى ذلك الرجل العجب! لقد رأى ذلك القائد القوطي أولئك المقاتلين الأشداء الذين كانوا يقاتلون كالأسود المفترسة في الصباح وهم يصلون لربهم ويقيمون الليل ركّعًا سجّدًا، رآهم يقرؤون كتابًا

تسيل دموعهم وهم يتلونه، فلم يصدق هذا القائد ما رآه، فأسرع برسالة إلى الملك لوذريق في "طليطلة" العاصمة بكتاب من جملة واحدة: "أدركنا يا لوذريق فإنه قد نزل علينا قوم لا ندري أهم من أهل الأرض أم من أهل السماء! ". وفعلًا تقدم الملك لوذريق بجيش قوامه 100 ألف فارس مجهزين بأحدث الأسلحة، وقد أمرهم لوذريق أن يجلبوا معهم حبالًا كثيرة لربط المسلمين بها بعد أن يهزمهم، فأرسل طارق بن زياد إلى القائد العام للمسلمين في أفريقيا يطلب منه المدد، فوصل مدد إسلامي لطارق قوامه 5 آلاف مقاتل فقط ليصبح مجموع جيش المسلمين 12 ألف جلهم من المشاة مقابل 100 ألف فارس من النصارى القوط. والتقى الجيشان في معركة "وادي برباط" الخالدة في 28 رمضان من عام 92 هـ، هذه المعركة التي لا نعرف عنها شيئًا لا تقل عظمة عن معركتي "اليرموك" و"القادسية". وبدأت المعركة. . . . واندفعت أمواج النصارى نحو المسلمين كالموج الهادر، ولكن شتان ما بين جيشين اختصموا في اللَّه، فئة تقاتل ومعها الحبال وفئة تقاتل ومعها اللَّه! وبعد 8 أيام من القتال فيها عيد الفطر، وبعد استشهاد 3 آلاف مسلم، انتصر المسلمون، وقتل المسلمون الملكَ المغرور لوذريق صاحب الحبال، فانطلق طارق يفتح المدن الأندلسية واحدة تلو الأخرى دون قتال، بعد ما سمعه الشعب الأندلسي عن شراسة هذا الجيش المرعب وسماحة الحكم الإسلامي، لتنتشر كتائب النور الإسلامية في رحاب الأندلس تنشر الإسلام في ربوعها لتنير شعلة التوحيد في هذه البلاد من جديد! هناك مسألة خطيرة وجب التنبيه إليها ونحن نذكر قصة هذا القائد العظيم. . . . ألا وهي تلك المقولة التي ورثناها أبًّا عن جد ودرسناها في مدارسنا وأصبحت وكأنها حقيقة كونية، ألا وهي المقولة التي نسبت للقائد الإسلامي طارق بن زياد "البحر من خلفكم والعدو من أمامكم". والحقيقة أن هذه الرواية ما هي إلا رواية كاذبة ومزورة وضعها المستشرقون ليبرِّروا هزيمة 100 ألف من النصارى أمام 12 ألف من المسلمين، أولئك المستشرقون أرادوا إيهامنا أن المسلمين إنما قاتلوا الصليبيين مكرهين لعدم وجود سفن للهروب! ولعل أولئك المستشرقين لم يفهموا بعد أن المسلمين يبحثون عن الشهادة بحثًا، وكأن المسلمين انتصروا يومًا بكثرة العدد؟! ثم إن هذه الرواية لم ترد أبدًا في

أمهات كتب التاريخ الإسلامية بل وردت في المصادر الأوروبية فقط، ولم يرد في أي كتاب من الكتب الإسلامية تعقيب على هذه الفعلة المزعومة إن كانت حرامًا أو حلالًا، ثم إن قائدًا محنكًا مثل طارق كان يعرف بالتأكيد إمكانية هزيمته (وهذا شيء وارد)، فكان لزامًا عليه أن ينسحب بالجند إلى البر الآخر حيث المسلمين، وهذا أمر جائز في الشريعة وليس عيبًا، والأهم من ذلك كله وهو الذي يفند هذه الرواية الخبيثة تفنيدًا تامًا أن تلك السفن لم تكن ملكًا للمسلمين أساسًا حتى يسمح المسلمون لأنفسهم بحرقها! فلمن كانت ملكية تلك السفن؟ وما العرض العجيب الذي تلقاه طارق بن زياد رحمه اللَّه وهو في طنجة؟ ومن هو ذلك البطل العظيم الذي يرجع الفضل إليه قبل طارق وبعد اللَّه في فتح الأندلس؟ ولماذا تجاهلته كتب التاريخ الحديثة؟ وكم كان عمره عندما قاد جيوش الفتح الإسلامي في أوروبا؟ وما هي الخطة العجيبة التي أراد فيها هذا القائد الإسلامي العظيم احتلال أوروبا بأسرها؟! يتبع. . . .

18 - القائد العابد (موسى بن نصير)

" القائد العابد" (موسى بن نصير) " واللَّه لو انقادوا إليَّ لقدتهم إلى رومية (روما) ولفتحها اللَّه على يدي إن شاء اللَّه" (موسى بن نصير) لكي أكون منصفًا. . . . لا بد أن أذكر أنني قرأت عن هذا القائد المجهول في كتب التاريخ المدرسية، ولكني أذكر أيضًا أنني لاحظت لمز الكتاب بأن موسى بن نصير هذا الذي كان واليًا للشمال الأفريقي إنما كان يغار من مولاه طارق بن زياد بعد فتحه للأندلس مما دفع القائد موسى للإسراع إلى الأندلس حتى يُنسب المجد إليه لا لطارق! وهنا أسأل نفس السؤال الذي سألته من قبل والذي سوف أسأله مِرارًا في صفحات هذا الكتاب: لمصلحة من يُشوَّه تاريخنا ويُصوَّر أبطالنا كأنهم أناس انتهازيون إن لم يكونوا مجرد مجرمين في بعض الحالات؟! ليس عندي من الشك أدناه أن من يشيع مثل هذه الروايات الكاذبة لا يقصد هؤلاء الأبطال بقدر ما يقصدك أنت بالتحديد!!! فهو يعلم أنه بذلك يجعل الفرد منا يمقت هذا التاريخ الذي يبدو أسودًا بفضلهم، والحقيقة أن تاريخنا إذا ما أزيح الغبار عنه -وهذا ما نحاول فعله في هذا الكتاب- فإننا سنجد تاريخًا مشرقًا ناصع البياض لم تعرف أمم الأرض تاريخًا مثله، عندها سيكون لشبابنا القدوة تلو القدوة، وعندها فقط ستأخذ الأمة بأسباب النصر التي أخذ بها أجدادنا لننتصر بعد ضعف، كما انتصروا هم بعد ضعف! والحقيقة التي أخفاها أولئك المزورون أن القارئ لترجمة موسى بن نصير من مصادرها الأصلية ككتاب "البداية والنهاية" لـ (ابن كثير) يجد أمامه بطلًا عجيبًا غير من مسار التاريخ، فقد تولى موسى بن نصير ولاية الشمال الأفريقي بأكملها وهي تعج بالفوضى والثورات، فلاحظ أن قبائل البربر ترتد عن الإسلام ثم تعود للإسلام مرةً أخرى وهكذا دواليك، فأدرك رحمه اللَّه أن السبب الرئيسي لارتداد البربر هو عدم

فهمهم لتعاليم الشريعة الإسلامية التي أتت باللغة العربية التي لا يفهمونها أصلًا، فقام القائد موسى باستحضار التابعين من بلاد الشام واليمن ليعلموا الإسلام للأمازيغ ممن يعرفون العربية، ثم يقوم هؤلاء بدورهم بتعليم أبناء جلدتهم بلغتهم، وهكذا حتى يفهم الناس الإسلام بدون عجلة، فلمّا استتب الأمر في شمال أفريقيا كله جاء الدور لنشر الإسلام في أوروبا وتحرير أوروبا من حكم الرومان الذي كانوا يستعبدون كل شعوب أوروبا، ولكن كانت هناك مشكلة كبيرة، فلقد كان المسلمون يفتقدون للأسطول البحري، عندها قام القائد موسى ببناء ميناء "القيروان" لصناعة السفن، وبينما كان المسلمون يأخذون بأسباب النصر حدث شيء غريب! فلقد وصلت رسالة سرية إلى أمير طنجة طارق بن زياد مصدرها مدينة "سبتة" المغربية التي كانت تحت حكم ملك نصراني يسمى (يوليان)، فقد كان لهذا الملك بنت فائقة الجمال اسمها الأميرة (فلوريندا)، ابتعثها أبوها إلى قصور إسبانيا لكي تتعلم هناك، فهاجمها الملك (لوذريق) واغتصبها، فأرسلت برسالة إلى أبيها تشكو له ما جرى لها، فعرض هذا الملك النصراني على طارق بن زياد أن يسلمه مدينة سبتة وأن يعيره السفن اللازمة للفتح الإسلامي للأندلس وأن يرشده على الطرق المجهولة في جبال الأندلس مقابل القضاء على لوذريق، على أن يعطيه المسلمون ضيعًا كان يملكها الملك غيطشة إذا ما فتحوا تلك البلاد. إذًا فالسفن التي أبحر بها طارق إلى الأندلس لم تكن مُلكًا للمسلمين بل كانت مُلكًا ليوليان وجب على طارق إرجاعها له بعد الفتح، وهذا ما يفند رواية الحرق! وبعد أن انتصر طارق بن زياد في معركة "وادي مرباط" التي سبق وأن ذكرناها في معرض حديثنا عن طارق، أسرع القائد موسى بن نصير إلى الأندلس وهو شيخ قارب على الثمانين من عمره ليجاهد في سبيل اللَّه، بل إن القائد موسى أراد أن يذهب إلى أبعد من ذلك بكثير، فرغم سنه المتقدمة أراد هذا العظيم الإسلامي أن ينفذ خطة يراها المؤرخون معجزة عسكرية! هذه الخطة كانت قد راودت الخليفة الراشد (عثمان ابن عفان) رضي اللَّه عنه وأرضاه من قبل، ألا وهي فتح "القسطنطينية" عاصمة الروم من الغرب بدلًا من الشرق! فبعد أن فتح هذا الشيخ الثمانيني "إسبانيا" و"البرتغال"، استأذن موسى بن نصير الخليفة الأموي (الوليد بن عبد الملك) بأن يفتح كل من "فرنسا"

و"إيطاليا" و"سلوفينيا" و"كرواتيا" و"النمسا" و"صربيا" و"بلغاريا" ثم "اليونان" قبل أن يفتح "القسطنطينية"!!! المهم أن الخليفة الأموي جزاه اللَّه خيرًا رأى أن تلك المهمة قد تعرض حياة المسلمين للخطر، فرفض تلك الخطة، أما "القسطنطينية" فقد فتحها المسلمون بعد ذلك كما سنرى في هذا الكتاب، وأما القائد موسى فقد قال: "واللَّه ما هزمت لي راية قط، ولا بدد لي جمع، ولا نكب المسلمون معي منذ اقتحمت الأربعين إلى أن بلغت الثمانين" الطريف في الأمر أنه كما أن عمل طارق بن زياد كان في ميزان حسنات موسى ابن نصير، فإن حسنات الاثنين معًا كانت في ميزان صحابي جليل فتح بلاد فارس وفتح بلاد الشام وأبى اللَّه إلّا أن يجعله من المشاركين في فتح شمال أفريقيا والأندلس حتى بعد وفاته. . . فكيف ذلك؟ فما هو أصل موسى بن نصير؟ ومن يكون ذلك الصحابي الجليل الذي أراد في يوم من الأيام قتل رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ليتحول بعد إسلامه إلى القائد الأعلى للقوات الإسلامية المقاتلة؟ ولماذا أصبحت خطط هذا القائد الإسلامي العظيم تدرَّس في جامعات الغرب العسكرية إلى يومنا هذا؟ يتبع. . . .

19 - القائد الأعلى للقوات الإسلامية المقاتلة (خالد بن الوليد)

" القائد الأعلى للقوات الإسلامية المقاتلة" (خالد بن الوليد) " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ" من خالد بن الوليد إلى مرازبة فارس سلام على من اتبع الهدى، أما بعد، فالحمد للَّه الذي فض خدمتكم وفرق كلمتكم ووهن بأسكم وسلب ملككم، فإذا جاءكم كتابي هذا فابعثوا إلي بالرهن، واعتقدوا مني الذمة، وأجيبوا إلي الجزية فإن لم تفعلوا. . . . فواللَّه الذي لا إله إلا هو. . . لأسيرن إليكم بقوم يحبون الموت كحبكم الحياة! (خالد بن الوليد) أستاذ العسكرية الإسلامية، والقائد الأعلى لقوات المسلمين المقاتلة ضد إمبراطورية فارس على الجناح الشرقي، والقائد الأعلى للقوات المجاهدة ضد إمبراطورية الروم على الجناح الغربي، والقائد الأعلى للجيوش الإسلامية الموحدة في حروب الردة، إنه قائد معركة "اليرموك" الخالدة، وقائد معركة "اليمامة" الباسلة، وقائد معركة "ذات السلاسل" التاريخية، وقاهر صحراء "الأنبار" القاحلة، وقائد معركة "مؤتة" المجيدة التي انتصر فيها بثلاثة آلاف مجاهد فقط ضد خُمس المليون من الروم وحلفائهم، إنه سيف اللَّه المسلول، إنه صاحب الذكر الحميد، والنصر المجيد، إنه البطل الإسلامي الصنديد. . . . خالد بن الوليد. قبل أن نخوض في بحار بطولات هذا البطل العظيم، أرى أنه من الأهمية بمكان أن نذكر شيئًا عن تاريخه قبل الإسلام، لنرى كيف يغير الإسلام الإنسان تغييرًا جذريًا، فيحوله من أكبر حاقد على الإسلام إلى سيف من سيوف اللَّه ينشر راية التوحيد في سائر الأرض. وخالد هو ابن (الوليد ابن المغيرة) أعظم رجل في قريش، والوليد هذا هو أحد

الرجلين العظيمين الذين تمنى المشركون أن لو كان هو النبي في قوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31)}. ورغم أن الوليد كان من أغنى أغنياء العرب، إلّا أن ابنه خالد لم يركن لثراء أبيه، فكان يذهب إلى الصحراء القاحلة يدرب نفسه على القتال والصلابة، فقد كانت عشيرة "بني مخزوم" التي ينتمي إليها خالد هي المسئولة عن الأمور العسكرية في مكة، هذا ما دعا خالدَ ليقود جيش المشركين إلى الانتصار في أحد، بل إن خالد أراد قتل الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- شخصيًا عند "الحديبية"، إلا أن اللَّه عصم رسوله من سيف خالد يوم أن شرع صلاة الخوف. وبعد إسلامه شارك هذا البطل العربي كجندي بسيط في معركة "مؤتة" تحت قيادة ثلاثة أبطالٍ أسطوريين، ليتسلم خالد بن الوليد القيادة بعد استشهاد "الفرسان الثلاثة" (وسيرد ذكر شأن أولئك العظماء الثلاثة بالتفصيل تباعًا في هذا الكتاب)، فقام خالد بوضع خطة حربية اعتبرت معجزة من المعجزات العسكرية، هذه الخطة ما زالت تدرَّس في الكليات العسكرية في كل أنحاء العالم، فلقد انتصر خالد بثلاثة آلاف مجاهد أمام مائتي ألف مقاتل نصراني من الروم وحلفائهم من نصارى الشام! ولكي تدرك مدى براعة تلك الخطة وسبب اختيارها لتدرَّس في المعاهد العسكرية، ينبغي عليك أن تذهب معي بخيالك إلى جنوب الأردن، وبالتحديد إلى مؤتة على بعد 130 كم إلى الجنوب من العاصمة الأردنية "عمان"، هناك يتواجد مائتا ألف مقاتل من الروم ونصارى الشام المتحالفين معهم، وفي وسط هذه المعمعة توجد مجموعة محاصرة من العرب لا تكاد ترى من كثرة الروم من حولهم والذين يقدرون بـ 66 ضعفًا، ليقاتل المسلمون الروم حتى جاءت عتمة الليل، عندها جاءت ساعة الصفر للتنفيذ. . . . الخطة الخالدية أولا: جعل خالد بن الوليد الخيلَ تجري في أرض المعركة طوال الليل لتثيرَ الغبار الكثيف، لكي يتسنى له خداع الرومان بأن هناك مددًا قد جاء للمسلمين من المدينة! ثانيًا: غَيَّر خالد من ترتيب الجيش، فجعل الميمنة ميسرة والميسرة ميمنة، وجعل المقدمة مؤخرة والمؤخرة مقدمة، وحين رأى الرومان هذه الأمور في الصباح، ورأوا

الرايات والوجوه والهيئة قد تغيَّرت، أيقنوا أن هناك مددًا قد جاء للمسلمين، فهبطت معنوياتهم تمامًا! ثالثًا: جعل خالد في خلف الجيش وعلى مسافة بعيدة منه مجموعةً من الجنود المسلمين فوق أحد التلال، منتشرين على مساحة عريضة، ليس لهم من شغل إلا إثارة الغبار والتكبير بصوت عالٍ لإيهام الرومان بالمدد المستمر الذي يأتي للمسلمين من المدينة! رابعًا: بدأ خالد بن الوليد في اليوم التالي للمعركة بالتراجع التدريجي بجيشه إلى عمق الصحراء، الأمر الذي شعر معه الرومان بأن خالدًا يستدرجهم إلى كمين في الصحراء، فترددوا في متابعته، وقد وقفوا على أرض مؤتة يشاهدون انسحاب خالد، دون أن يجرءوا على مهاجمته أو متابعته!! هناك قذف اللَّه الرعب في قلوب القوات النصرانية المتحالفة من روم ونصارى العرب، فقد كانوا يحاربون ثلاثة آلاف بالأمس من دون أن يتغلبوا عليهم، فكيف إذا جاءت قوات إضافية إليهم من المدينة؟! عندها انتصر المسلمون على الروم، وفتح اللَّه على خالد وجنده هذا الفتح العظيم، وغنم المسلمون مغانم كثيرة من هذا الفتح، والغريب في الأمر أن عدد شهداء المسلمين في هذه المعركة هو 12 شهيدًا فقط من بينهم القادة الثلاث رحمهم اللَّه جميعًا، بينما يكفى لكي تقدر ضخامة عدد ضحايا الروم أن تعلم أن تسعة أسياف قد انكسرت في يدي البطل خالد بن الوليد -رضي اللَّه عنه- وحده من كثرة الجماجم التي دقها بسيوفه حتى انكسر السيف بعد السيف في زنديه، آخذا في عين الاعتبار أن خالد بن الوليد كان يقاتل بسيفين في يديه تمامًا مثل الزبير بن العوام (ولم يعرف ذلك عن أحد غيرهما من المسلمين)، فهل لك أن تتخيل عدد الروم الصرعى تحت سيوف خالد التسعة قبل أن يقاتل بصفيحة (خنجر) يماني بقي معه؟ هذا بغض النظر عن العدد الذي قتله بقية الجيش المجاهد! ومن الأردن إلى نجد، وبالتحديد إلى اليمامة، هناك حيث ادَّعى (مسيلمة الكذاب) النبوة، أصبح مستقبل الإسلام في خطر لولا أن سخر اللَّه للإنسانية (أبا بكر الصديق) -رضي اللَّه عنه-، حيث طلب أبو بكر من الجيوش الإسلامية أن تتحد في اليمامة تحت قيادة خالد

ابن الوليد، لينتصر المسلمون في موقعة اليمامة بقيادة هذا البطل العظيم. (وسترد قصة هذه المعركة الباسلة وقصة حديقة الموت بالتفصيل في ثنايا هذا الكتاب إن شاء اللَّه عند الحديث عن أحد العظماء المائة في أمة الإسلام). ومن نجد إلى العراق حيث الإمبراطورية الفارسية، يشتبك خالد بن الوليد مع الفرس في 15 معركة كانت كلها انتصارات للمسلمين بقيادته، كان من أعظمها معركة "ذات السلاسل" التي ربط فيها الفرس المجوس جنودهم بالسلاسل لكي لا يهربوا خوفًا من مجاهدي العرب، وهناك بالعراق يأسر خالد صبيًا نصرانيًا قبل أن يحرره المسلمون، هذا الصبي أسلم لما رأى سماحة الإسلام وعدله، فتحول من طالب صغير في أحد الكنائس النائية إلى قائد عظيم من قادة الإسلام المجاهدين، المفاجأة الكبرى تكمن في اسم هذا الغلام الذي أسلم بفضل خالد! لقد كان اسمه (نصير)، نصير هذا أنجب ولدًا أصبح فيما بعد واحدًا من أعظم قادة المسلمين عبر التاريخ. . . . موسى ابن نصير! وبعد "فارس" جاء الدور على "بيزنطة" ليلقنها ابن الوليد درسًا في فنون القتال الإسلامي، فلقد قرر أبو بكر رضي اللَّه عنه وأرضاه أن يرعب الروم النصارى بعد أن أرعب الفرس المجوس بخالد، عندها صرح الصدِّيق التصريح الخطير الذي كان بداية ملحمة عسكرية خالدة: (واللَّه لأنسين الروم وساوسَ الشيطان بخالد بن الوليد!)، ليصل هذا الأمر البكري إلى القائد خالد وهو في العراق، وهناك من بلاد الرافدين يقطع خالد بجيشه صحراء الأنبار القاحلة في عملية عبور خيالية، لتبدأ العمليات القتالية في الجبهة الغربية للقوات الإسلامية المجاهدة. والحقيقة أن الحديث عن خالد وبطولاته لهو أطول من أن يكتب في عدة صفحات خصصتها لكل عظيم من العظماء المائة، إلا أن قصص خالد بن الوليد رضي اللَّه عنه وأرضاه في مفاوضاته مع (باهان) قائد الروم وبطولاته في "اليرموك" لهي قصص جديرة بالقراءة، أنصح أن يُرجع إليها من موقع قصة الإسلام " www.islamstory.com" التابع للأستاذ الدكتور راغب السرجاني جزاه اللَّه خيرًا والذي كانت أبحاثه التاريخية هي أساس مادة هذه الحروف، بل أساس مادة هذا الكتاب بأسره!

ولكنني أجد أنه في ظل هذا الزمن الذي يُحارَب فيه الإسلام من كل حدب وصوب أصبح لزامًا علي أن أعقب على نقطة خطيرة للغاية ألا وهي: إن رحى معارك سيف اللَّه المسلول خالد بن الوليد ما زالت تدور حتى بعد موته بمئات السنين! فخالد بن الوليد يُحارَب الآن بعد موته وتشوه صورته في كثير من الكتب والأعمال الأدبية والفنية، فصارت الشبه تلقى جزافًا من قبل المستشرقين في حق هذا البطل، لتشويه تاريخ هذه الأمة قبل تشويه تاريخه بالذات، أما الفرس فلم يغفروا لخالد بن الوليد ما فعله بهم في سنة واحدة فقط، فبحثوا عن حادثة يمكن من خلالها إلقاء الشبه عليه، فوقفوا مكتوفي الأيدي أمام التاريخ المشرق لهذا البطل، فلقد مات خالد قبل الفتنة التي يستخدمها علماء الفرس الشيعة في خلق الخرافات للعن زوجات رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابه، عندها قام الصفويون الجدد في السنوات الأخيرة بالتحديد باختراع قصة غبية تزعم أن عمر ابن الخطاب وخالد بن الوليد وسعد بن أبي وقاص رضي اللَّه عنهم وأرضاهم أجمعين قاموا باقتحام منزل علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه وأرضاه ليضربوا بنت الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- السيدة فاطمة رضي اللَّه عنها وأرضاها، ليسقطوا جنينها وليكسروا ضلعها، الطريف في هذه الرواية المكذوبة التي تسمى عند الشيعة بـ (مظلومية الزهراء) أن بها أمرين يستحقان شيئًا من التأمل: أولًا: أن علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه وأرضاه وكما ورد في كتب الشيعة كان في البيت مختبئًا عندما كانت امرأته تُضرَب من ثلاثة رجال غرباء، وحاشاه -رضي اللَّه عنه- أن يكون كذلك، فعلي بطل من أبطال المسلمين لا يقبل أن تُضرَب امرأته أمامه وهو ساكت يتفرج، ناهيك أن العرب وحتى قبل الإسلام وإلى يومنا هذا لا يتركون نساءهم لكي يفتحن الأبواب لرجال غرباء، مما يدل على أن راوي هذه الرواية المكذوبة ليس عربيًا أصلًا وأنه يظن أن نساء العرب كنسائهم (الفاتحات أبوابهن!)، ناهيك أن تلك السيدة الطاهرة التي يتحدث عنها أولئك الكذابون هي بنت أعز العرب ونبي الإسلام محمد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وزوجة علي بن أبي طالب الفارس العربي الهاشمي القرشي الشهم. ثانيًا: أن الثلاثة - عمر بن الخطاب - خالد بن الوليد - سعد بن أبي وقاص رضي اللَّه عنهم وأرضاهم هم نفس الثلاثة الذين أزالوا الإمبراطورية الفارسية الساسانية

المجوسية من على وجه الأرض بتوفيق من اللَّه، فلا يحتاج العاقل لكثيرٍ من التفكير ليحدد هوية واضع خرافة "مظلومية الزهراء". . . . إنهم الفرس المجوس وأحفادهم من الصفويين الذين دلسّوا بها على الشيعة العرب، ولو علم أولئك العرب أن كلمة "المظلومية" من الأساس لا مكان لها في "لسان العرب" لـ (ابن منظور)، لغيروا رأيهم في تلك القصة التي وضعها الفرس ليثيروا بها الضغينة بين العرب شيعةً وسنة. والحق أقول أنني لا أستغرب أبدًا ذلك الحقد الصفوي على أبطال المسلمين، فلقد حكم الفرس المجوس شعوبًا وبلدانًا لآلاف السنين، قبل أن يدمرهم خالد بن الوليد ومن معه، ولكنني أعجب من الذين يبتلعون هذه الافتراءات ويصدقونها من المسلمين الموحدين، فبدلًا من أن يكون خالد بن الوليد بطلا من الأبطال يجاهد لنشر دين اللَّه في الأرض، يتحول بفعل كتابات الساقطين والعملاء المستشرقين إلى رجل ليس له دافع في القتال إلّا الجنس، فينكسر بذلك تاريخنا، ونتحول بذلك إلى أمة فاقدة للقدوة، فنكون أمةً سهلة الكسر قبل أن نُسحق تمامًا. . . . . وإلى الأبد! وقبل أن نعرج على قصة العظيم القادم في أمة الإسلام العظيمة لا بد من ذكر أهم انتصار في سجل هذا القائد العظيم، ألا وهو انتصاره على نفسه يوم أن عزله عمر ابن الخطاب -رضي اللَّه عنه-، فقد خاف الفاروق أن يفتتن المسلمون بخالد لكثرة انتصاراته فيعتقد المسلمون بذلك أن النصر من عند خالد وليس من عند الرب الخالد! ليتقبل خالد ابن الوليد ذلك القرار العمري بكل رحابة صدر، فيتحول بذلك إلى جندي بسيط في جيش الإسلام، بعد أن أدرك خالدٌ أن المهم أن تظل الراية مرفوعة دائمًا بغض النظر عمَّن يرفعها! ولكن من ذلك الرجل الذي أصبح قائدًا عامًا للقوات الإسلامية في جيش يضم رجلًا عظيمًا مثل خالد بن الوليد ومائة رجل من البدريين؟ وما هي حكايته العجيبة التي خلدها اللَّه بالقرآن من فوق سبع سماوات؟ ولماذا أصبح هذا الرجل أمين هذه الأمة؟ يتبع. . . .

20 - أمين هذه الأمة (أبو عبيدة بن الجراح)

أمين هذه الأمة (أبو عبيدة بن الجراح) " إن لكل أمة أمينًا، وأمين هذه الأمة" (رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-) لا أعرف ما الذي انتابني وأنا أهُّم بالكتابة عن هذا العظيم الإسلامي بالتحديد، شعورٌ غريب بالرهبة ممزوجٌ بالحب الخالص تجاه هذا الرجل، فعندما كنت صغيرًا كان مجرد سماعي لاسم (أبي عبيدة عامر بن الجراح) يُدخل في قلبي إحساسًا بالفخر والمجد، حتى قبل أن أعرف شيئًا عن بطولات هذا الإنسان الرائع، وها أنا أتجرأ الآن وأكتب عن تلك القامة العالية التي لطالما أبهرتني طفلًا، وليت شعري ما الذي أفعله؟ فمازال ذلك السؤال الذي راودني منذ أول نقش في سطور هذا الكتاب يطاردني: هل باستطاعتي فعلًا وصف تلك الهامات الشامخة التي ناطحت السحاب بسموها وعظمتها؟ أعترف هنا، وبالذات عند هذا الرجل، أنني كنت مبالغًا جدًا في ثقتي بقلمي هذا عندما وُلدت في ذهني فكرة إنتاج كتاب تدور أحداثه حول مائة عظيم وعظيمة في أمة الإسلام، ولكنّي أحمد اللَّه عر وجل أنني لم أكتشف ضآلة حجم ذلك القلم وحامله إلّا بعد أن أبحرت في بحار قصصهم العظيمة، ومغامراتهم الشيقة، فكان مستحيلًا علي ترك عالمهم المليء بعجائب القصص التي كنت مولعًا بها منذ الصغر، فكان الحل الوحيد للتخلص من هذا المأزق هو أن أبحر بسفينة التاريخ الإسلامي عبر بحار أولئك العظماء المائة، مخترقًا بها حاجزي الزمان والمكان، حتى أصل بها إلى ميناء العظيم المائة، محاولًا قدر استطاعتي قطف زهرة واحدة من بستان كل عظيم منهم، أمّا من أراد جمع كل جوانب العظمة التي تحيط بهم، فليفتش على كتاب كتبه أي مؤرخ في أي عصر من عصور التاريخ، يضم في صفحاته جميع أوجه عظمة هؤلاء العظماء المائة أو حتى عظمة فرد واحد منهم فقط، ومن استطاع إيجاد ذلك الكتاب المستحيل. . . . فليدلَّني عليه!

والحقيقة أن صعوبة المرحلة التي مر بها أبو عبيدة بن الجراح كانت أشد من أن يتصورها خيال أو يدركها عقل، ففي يوم بدر رأى أبو عبيدة رجلًا من المشركين في جيش قريش يحاول مبارزته، فحاول أبو عبيدة جاهدًا أن يتجنب قتال ذلك الرجل بالذات، إلّا أن ذلك المشرك أخذ يتتبع أبا عبيدة في كل مكان يريد قتاله، وفي لحظة من اللحظات النادرة في تاريخ النفس البشرية كان الاثنان في مواجهة بعضهما البعض. فمن هو هذا الرجل الذي أراد مبارزة أبي عبيدة؟ قبل أن نتعرف على هوية هذا الرجل المشرك لا بد أن نرى التصوير الرباني لهذه اللقطة العظيمة من عمر الأرض، فلقد بلغ من سمو هذه اللحظة أن خلدها اللَّه من فوق سبع سماوات في قرآن يتلى إلى يوم القيامة، فأنزل اللَّه هذه الآية في حق أبي عبيدة عامر ابن الجراح: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)}. لقد كان ذلك المشرك هو الجراح أبو أبي عبيدة نفسه! فقتل أبو عبيدة أباه، أو قل قتل أبو عبيدة الكفرَ في أبيه، فلقد أدرك أبو عبيدة أنه بين خيارين اثنين لا ثالث لهما: الأهل أو الإسلام! فلم يكن صعبًا عليه أبدًا أن يختار، فلقد اختار أبو عبيدة الإسلام العظيم. ومن بدر إلى أحد. . . . . هل ما زلنا نتذكر كيف كان طلحة يدافع عن الرسول حينما كان خطر القتل يتهدده من كل جانب؟ حينها جاء من بعيد أبو بكر يجري بأقصى سرعته لينجد رفيق دربه محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-، والحقيقة أن أبا بكر لم يكن يجري لوحده وإنما لحق به من جهة المشرق رجل طويل القامة، نحيف الجسم، وصفه أبو بكر بوصف عجيب في حديث عائشة بقوله: "إنسان قد أقبل من قِبل المشرق يطير طيرانًا، فقلت: اللهم اجعله طاعة حتى توافينا إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فإذا أبو عبيدة بن الجراح! "، هناك رأى الاثنان أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قد أصيب في وجهه حتى دخلت في وجنتيه حلقتان من المِغفر (خوذة المحاربين)، فأراد أبو بكر نزعهما من وجه حبيبه الطاهر، إلا أن إبا عبيدة قال له: "أسألك باللَّه يا أبا بكر إلَّا تركتني" فعض أبو عبيدة الحلقة الحديدية التي في وجنة

رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وأخذ يشدها بأسنانه حتى نزعها فسقطت إحدى أسنان أبي عبيدة، ثم عض بأسنانه الحلقة الحديدية الثانية والدماء تجري من فمه حتى نزع الحلقة الحديدية الثانية وسقطت معها سن أخرى، فكان أبو عبيدة من الناس أثرمًا لفقدانه ثنيته في تلك الحادثة التي أنقذ فيها رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. وفي اليرموك كان أبو عبيدة القائدَ الأعلى للقوات الإسلامية المقاتلة، فانتصر المسلمون تحت إمرته على نصف مليون من الروم، قبل أن ينتشر "طاعون عمواس" في أراضي الشام انتشار النار في الهشيم، عندها أراد الخليفة عمر بن الخطاب أن ينقذ أبا عبيدة من الموت المحقق بأي وسيلة ممكنة، فحاول أن يستقدمه إلى المدينة بأي حجة كانت ليبعده عن خطر الوباء، فبعث إليه: "إنه قد عرضت لي حاجة، ولا غني بي عنك فيها، فعجِّل إلي"، فلما قرأ أبو عبيدة رسالة الخليفة ابتسم وعرف أن الفاروق يريد إنقاذه من الموت فكتب إلى عمر يقول له: "من أبي عبيدة بن الجراح إلى عمر بن الخطاب أمير المؤمنين، السلام عليكم ورحمة اللَّه وبركاته، وبعد. . . . إني قد عرفت حاجتك، فحللني من عزيمتك، فإني في جند من أجناد المسلمين، لا أرغب بنفسي عنهم" فلما قرأ عمر الكتاب أجهش بالبكاء فقيل له: مات أبو عبيدة؟! قال: لا، وكان قد (أي: وكأنه مات)، فبكى أهل المدينة على هذا البطل. وفعلًا ما هي إلّا أيام حتى انتشر الطاعون في جسد الأمين، في جسد رجل من أشرف الرجال، وأعظم الرجال، وأروع الرجال، فاستشهد أبو عبيدة بعد أن حمل راية لا إله إلا اللَّه، محمدٌ رسول اللَّه، إلى مدن الشام وقراها، فلا يسبح اللَّه شيخٌ في دمشق، ولا يُولد عالمٌ في حماة، ولا تصلي عجوزٌ في عمّان، ولا يُذكر اللَّهُ في صيدا، ولا يُرفع الأذان من فوق مآذن الأقصى، ولا يجاهد بطل في غزة، ولا يستشهد بطل في رام اللَّه، إلّا وكان لأبي عبيدة عامر بن الجراح مثل أجرهم لا ينقص من أجرهم شيء، فليرحمك اللَّه يا أمين هذه الأمة. ولكن ما قصة معركة اليرموك؟ ولماذا كان يوم اليرموك يومًا من أيام اللَّه الخالدة؟ ومن يكون ذلك العظيم الإسلامي الذي سأل أبا عبيدة سؤالًا عجيبًا قبل أن يذهب إلى الموت بقدميه؟ ولماذا بكى أبو عبيدة عند سماعه لذلك السؤال؟ من هو هذا البطل العظيم؟ وما سر اعتباره عظيمًا استثنائيًا في قائمة المائة؟ يتبع. . . . .

21 - (الغلام المجهول)

(الغلام المجهول) " ما ضرهم ألا يعلمهم عمر؟! يكفيهم أن اللَّه يعلمهم! " (عمر بن الخطاب) واندلعت شرارة اليرموك. . . . . لا شك أن جميعنا قد سمع باسم أبي بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وخديجة بنت خويلد، وعائشة، وصلاح الدين الأيوبي، وقطز، والبخاري، والشافعي، وأبي حنيفة، وابن بطوطة، وهارون الرشيد، وعمر المختار، وغيرهم الكثير من عظماء هذه الأمة، ولكن الحقيقة الغائبة عنّا أن هذه الأمة لم تقم على سواعد هؤلاء العظام فقط، فهناك طائفة منسية من العظماء الذين كان لهم نصيب الأسد في نهوض أمة الإسلام عبر جميع مراحلها، أعتقد اعتقاد الجازم أنها لا تقل أهمية عن طائفة المشاهير في أمة الإسلام، لذلك ارتأيت وأنا أكتب كتابًا تجرأت فيه على أن أتحمل عبء ذِكر عظماء أمة الإسلام المائة، أن أقف قليلًا أمام هؤلاء العظماء الذين لم يأخذوا حقهم من التأريخ في كتب التاريخ، فلقد جاء الوقت لكي نقف جميعًا وقفة وفاءٍ أمام هؤلاء المجهولين، والذين كانوا وبلا شك أساس نهضة هذه الأمة، إننا نتحدث عن الطائفة المنسية، إننا نتحدث عن العظماء المجهولين! وبافتراض أن قادة وعلماء هذه الأمة هم بناة هذه الحضارة الإسلامية العظيمة، فلا شك أن مجهولي هذه الأمة هم اللبنات الأساسية لهذا الصرح العظيم، فمن منّا يعرف أسماء الألف ومائتي شهيد من جيش خالد ابن الوليد الذين قُتلوا في اليمامة لكي يصل هذا الدين إلينا؟ ومن منّا يعرف أسماء الثلاثة آلاف شهيد من جيش طارق بن زياد الذين حملوا الإسلام إلى الأندلس لأكثر من 800 عام؟ وما هي أسماء التلاميذ الذين كتبوا ما قاله فقهاء المذاهب الأربعة ثم نشروه في أصقاع الأرض في الوقت الذي ضاعت فيه مذاهب علماء آخرين؟ وما هي أسماء الجنود المصريين الذين حاربوا التتار مع قطز؟ وما اسم التجار الحضارمة الذين حملوا الإسلام إلى اندونيسيا أكبر دولة إسلامية؟ وما

اسم أم صلاح الدين الأيوبي التي زرعت فيه روح البطولة؟ وما اسم زوجة الشيخ أحمد ديدات التي كانت تسهر على علاجه لتسع سنوات قضاها مشلولًا في فراشه؟ وما اسم أبطال الإسلام الذين ضحوا بأرواحهم ليدمروا إمبراطورية فارس إلى الأبد؟ إنهم المجهولون العظماء في أمة الإسلام. لذلك أضع في هذه السطور قصة عظيمٍ واحدٍ منهم عرفانًا لكل هؤلاء بالجميل لما قدَّموه لأمة الإسلام في كل العصور. كل ما نعرفه عن بطلنا هذا أنه غلام دون العشرين من عمره، وأنه ينتمي إلى قبيلة الأزد القحطانية التي خرَّجت الكثير من عظماء هذه الأمة، وقصة بطولته في اليرموك تبدأ عندما خرج فارس ضخم من جيش الروم يطلب المبارزة قبل أن تبدأ المعركة كعادة الجيوش قديمًا، عندها ومن بين جيش المسلمين الذي يكفي أن نقول أنه كان يضم بين صفوفه 100 من البدريين، خرج غلامٌ من الأزد لا يعرفه أحد وهو دون العشرين، فجرى ناحية أبي عبيدة بن الجراح وقال له: يا أبا عبيدة إني أردت أن أشفي قلبي، وأجاهد عدوي وعدو الإسلام، وأبذل نفسي في سبيل اللَّه تعالى لعلي أرزق بالشهادة فهل تأذن لي؟ فهزت هذه الكلمات قلب أبا عبيدة بن الجراح، فأذن له، فمشى هذا الغلام الأزدي ليقابل مصيره ولكنه توقف فجأة. . . . فأدار وجهه تجاه أبي عبيدة وعيونه تشرق نورًا في لقطة أشك أن باستطاعة أي مخرج في العالم تصويرها، فنظر في عيني أبي عبيدة عامر ابن الجراح وقال له كلمات لا تنبع إلا من شباب أمة الإسلام: يا أبا عبيدة، إني عازمٌ على الشهادة، فهل تُوصيني بشيء أوصله إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-؟ وما أن سمع أمين هذه الأمة هذه الكلمات أجهش أبو عبيدة في البكاء فقال له والدموع تبلل لحيته: "أَقْرِأ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- مني ومن المسلمين السلام وقل له يا رسول اللَّه. . . جزاك اللَّه عنّا خيرًا، وإنَّا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا" فانطلق ذلك الغلام الأزدي كلأسد الجارح نحو العملاق الرومي وقاتله حتى قتله، فأخذ فرسه وسلاحه وسلمهما إلى المسلمين، فعلت صيحات اللَّه أكبر في جيش الموحدين، ثم عاد الغلام من جديد إلى جيش الروم وصاح بهم صيحة هزت كيانهم: هل من مبارز؟ فخرج له فارس ثاني لا يقل ضخامة عن سابقه، فبارزه بطلنا فقتله، فتقدم رومى ثالث فقتله، ثم رابع فقتله، فتعجب الروم من أمر ذلك الغلام الذي يقبل على

الموت بنفسه، ومع الفارس الروماني الخامس، تحققت أمنية ذلك الفتى المجهول في الشهادة، فقطع ذلك العلج الرومي رقبته، فطارت رقبة الغلام على الأرض، فاستشهد ذلك البطل المجهول ليوصل رسالة أبي عبيدة عامر بن الجراح إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولتبدأ فصول ملحمة إنسانية خالدة ما عرفت أرض الشام مثلها من قبل. . . . لقد بدأت معركة اليرموك! لقد بدأت هذه المعركة الباسلة، فاندفع جيش يقترب من نصف مليون مقاتل كأنهم سيل جارف نحو 32 ألف مسلم فقط، فأصبحت جحافلهم تندفع نحو المسلمين كأنها أسراب جراد تنتشر من كل اتجاه، فقاتل المسلمون بشراسة، إلّا أن أعداد جيش الإمبراطورية الرومانية كانت أكثر من أن تحصى، فلا يقتل المسلمون واحدًا منهم حتى يظهر عشرة مكانه! فمالت كفة الروم في المعركة، وحاصر الرومان جيش المسلمين من كل جانب، وأصبح المسلمون قاب قوسين أو أدنى من هزيمة ساحقة، وعند تلك اللحظة فقط يظهر دور العظماء، وعند تلك اللحظة فقط جاء دور عظيم جديد من عظماء أمة الإسلام المائة، هذا العظيم اتخذ أصعب قرار يمكن أن يتخذه الإنسان في حياته، فمن قلب معمعة المعركة قرر هذا العملاق الإسلامي إنشاء أول كتيبة من نوعها في تاريخ الإنسانية جمعاء، هذه الكتيبة عرفت في كتب التاريخ باسم "كتيبة الموت"! فما هي قصة هذه الكتيبة الفدائية؟ وكيف حوَلَّت مجرى المعركة بشكل عجيب؟ ومن هو ذلك البطل الإسلامي العظيم الذي كتب اسمه بحروف من نور في سجل الشرف الإسلامي؟ وما قصة شربة الماء التي مات ثلاثة من أبطال المسلمين قبل أن يشربوها؟ يتبع. . . .

22 - القائد الميداني لوحدة الموت الإسلامية (عكرمة بن أبي جهل)

" القائد الميداني لوحدة الموت الإسلامية" (عكرمة بن أبي جهل) " سيأتيكم عكرمة بن أبي جهل مؤمنًا مهاجرًا" (رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-) واشتعل لهيب اليرموك. . . . . إن هذا الرجل العظيم الذي نحن بصدد الحديث عنه يكفيه أن يخلَّد التاريخ عظمته من خلال اسمه فقط، ولا أدري إن كنت في حاجة للكتابة أصلًا عن ما قدمه هذا البطل الإسلامي للإسلام لكي أبرر أسباب ورود اسمه في قائمة المائة، فلولا أنني رأيت في قصة هذا البطل ملحمة للفداء لا تتكرر في تاريخ البشر كثيرًا، لاكتفيت بكتابة اسمه فقط وذِكر ملحوظةٍ صغيرةٍ بجانب اسمه تشير بأنه مسلم! فمجرد إسلام هذا الرجل يكفيه لكي يكون أحد العظماء المائة في أمة الإسلام، فهو ابن فرعون هذه الأمة (أبي جهل)! وحكاية هذا العملاق الإسلامي تبدأ من على متن سفينة في منتصف بحر هائج قبالة سواحل اليمن، فلقد هرب عكرمة بن أبي جهل من مكة هائمًا على وجه لا يعرف إلى أين يتجه بعد أن دانت مكة بأسرها لعدوه وعدو أبيه من قبل محمد بن عبد اللَّه، فأصبح عكرمة طريدًا في صحاري العرب، وضاقت به الأرض بما رحبت، فقرر أن يتجه إلى اليمن ويبحر بسفينة تأخذه إلى أي مكان يبعده عن أولئك المسلمين الذين لا يطيق حتى رؤيتهم، وبينما عكرمة بن أبي جهل على ظهر السفينة يتأمل البحر اللامتناهي الآفاق، جاءت مرحلة الاختيار الرباني له لكي ينضم إلى قافلة الصحابة العظماء، وأبى اللَّه إلّا أن يعيد ذلك الهارب من اللَّه إلى اللَّه! وبشكل غريب تحولت أمواج البحر الصافية تلك إلى أمواج عاتية تعصف بالسفينة، وعندما أدرك الربان أنهم غارقون لا محالة توجه نحو ركاب السفينة وبينهم عكرمة وقال لهم: اتركوا دعاء أصنامكم الآن واخلصوا الدعاء للَّه وحده، فإن آلهتكم لا تغني عنكم هاهنا شيئًا. فتعجب عكرمة من قول ذلك الرجل

وقذف اللَّه في قلبه الإيمان وقال لنفسه: إذا كان الذي ينجيني في البحر هو اللَّه وحده، فلا بد إذًا أنه هو وحده الذي ينجيني في البر! اللهم إن لك علي عهدًا إن عافيتني مما أنا فيه أن آتي محمدًا حتى أضع يدي في يده، وعندها هدأت الريح وسكن البحر، فرجع عكرمة إلى مكة، فلما رأى نبي الرحمة ابن أبي جهل ألدِّ أعدائه قادمًا نحوه وثب من غير رداء فرحًا به وقال: مرحبًا بالراكب المهاجر. فتحول قلب عكرمة بن أبي جهل من قلب رجلٍ مبغض حقود للإسلام والمسلمين إلى قلب رجلٍ لا يحب في الدنيا أكثر من هذا الدين الذي لطالما حاربه، فقرر عكرمة أن يتحول إلى جندي ينشر هذا الدين الذي لطالما حاربه، فلم يترك عكرمة بن أبي جهل بعد إسلامه غزوة مع رسول اللَّه إلا وشارك فيها، وفي عهد أبي بكر أصبح عكرمة قائدًا لجيش من جيوش الإسلام العظيمة التي حاربت الردة، قبل أن يتحول إلى قائد عظيم من قادة المسلمين في بلاد الشام. ثم جاءت المعركة التي خلدت اسمه في حروف من نور، هناك في وادي اليرموك عندما أوشك نصف مليون من الروم على تدمير جيش المسلمين بعد أن قاموا بمحاصرتهم من كل جانب، تناول هذا البطل الإسلامي الفذ سيفه وكسر غمده واتخذ القرار الأصعب على الإطلاق في حياة أي إنسان، لقد اتخذ عكرمة قرار الموت، فنادى بالمسلمين بصوت يشبه هزيم الرعد: أيها المسلمون من يبايع على الموت؟ فتقدم إليه 400 فدائي من فدائي الإسلام، ليكوَّنوا ما عرف في التاريخ باسم "كتيبة الموت الإسلامية"، عندها اتجه خالد بن الوليد نحو عكرمة وحاول منعه من التضحية بنفسه، فنظر إليه عكرمة والنور يشرق من جبينه وقال: إليك عني يا خالد فلقد كان لك مع رسول اللَّه سابقة أما أنا وأبي فقد كنا من أشد الناس على رسول اللَّه فدعني أكَفّر عما سلف مني، ولقد قاتلت رسول اللَّه في مواطن كثيرة وأفر من الروم اليوم؟!! إن هذا لن يكون أبدًا! فانطلقت كتيبة الموت الإسلامية، وتفاجأ الروم بأسود جارحة تنقض عليهم لتدكدك جماجمهم، وتقدم الفدائي تلو الفدائي من وحدة الموت العكرمية نحو مئات الآلاف من جيش الإمبراطورية الرومانية، وتقدم عكرمة بن أبي جهل بنفسه إلى قلب الجيش الروماني ليكسر الحصار عن جيش المسلمين، واستطاع فعلًا إحداث ثغرة في جيش العدو بعد أن انقض على صفوفهم انقضاض طالب الموت، فأمر قائد الروم أن تصوب كل السهام نحو

هذا الفدائي، فسقط فرس عكرمة من كثرة السهام التي انغرست فيه، فوثب قائد كتيبة الموت الإسلامية الفدائي البطل عكرمة بن أبي جهل من على ظهر فرسه وتقدم وحده نحو عشرات الآلاف من الروم يقاتلهم بسيفه، عندها صوب الروم سهامهم إلى قلبه، فلمّا رأى المسلمون ذلك المنظر الإنساني البطولي، اختلطت المشاعر في صدورهم، فاندفع فدائيو كتيبة الموت العكرمية نحو قائدهم لكي يموتوا في سبيل اللَّه كما بايعوه، فلم يصدق الروم أعينهم وهم يرون أولئك المجاهدين الأربعمائة يتقدمون للموت المحقق بأرجلهم، فألقى اللَّه في قلوب الذين كفروا الرعب، فرجع الروم القهقرة، ولاذوا بالفرار وصيحات اللَّه أكبر تطاردهم من أفواه فدائيي عكرمة، فاستطاعت تلك الوحدة الاستشهادية كسر الحصار عن جيش المسلمين، ففتش خالد بن الوليد على ابن عمه عكرمة ليجده وهو ملقى بين اثنين من جنود كتيبته الفدائية: (الحارث ابن هشام) و (عياش بن أبي ربيعة) والدماء تسيل منهم جميعًا، فطلب الحارث ابن هشام بعض الماء ليشربه، وقبل أن يشرب قطرة منه نظر إلى عكرمة بن أبي جهل وقال لحامل الماء: اجعل عكرمة يشرب أولًا فهو أكثر عطشًا مني، فلما اقترب الماء من عكرمة أراد أن يشرب لكنه رأى عياش بجانبه فقال لحامل الماء: احمله إلى عياش أولًا، فلما وصل الماء إلى عياش قال: لا أشرب حتى يشرب أخي الذي طلب الماء أولًا، فالتفت الناس نحو الحارث بن هشام فوجدوه قد فارق الحياة، فنظروا إلى عكرمة فوجدوه قد استشهد، فرجعوا إلى عياش ليسقوه شربة ماء فوجدوه ساكن الأنفاس! وفجأة، رأى المسلمون شيخًا أعمى يمشي بثقة المبصر بين صفوف المسلمين والدماء تسيل من عينه التي فقأها الروم يحمس الجنود على الجهاد، كان هذا الشيخ الأعمى يصيح بثقة غريبة وكأنه يرى ببصيرته ما لا يراه المبصرون بأبصارهم فيصيح والدماء تغطي وجهه: يا نصر اللَّه اقترب. . . . يا نصر اللَّه اقترب. . . . يا نصر اللَّه اقترب عند تلك اللحظة تغيرت موازين معركة اليرموك بشكل مثير! فمن يكون ذلك الشيخ الأعمى الذي لم يكن ابن أحد قادة المشركين في مكة فحسب، بل كان هو نفسه القائد العام لجيوش الكفر قبل إسلامه؟! يتبع. . . . .

23 - الصحابي الجليل أبو سفيان بن حرب (رضي الله عنه وأرضاه)

" الصحابي الجليل" أبو سفيان بن حرب (رضي اللَّه عنه وأرضاه) " من دخل دار أبي سفيان فهو آمن" (رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-) واقترب نصر اليرموك. . . . . . نصيب الصحابة في هذا الكتاب هو نصيب الأسد، ليس ذلك منة مني عليهم، بل عرفانًا لهم منّا بالجميل لما قدموه هم لصاحبهم محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-، وتذكيرًا لنا بفضلهم على أمة الإسلام قاطبةً، وبغض النظر عن الأمور الدينية، ومن وجهة نظر علمية بحتة ونظرة تحايلية مستفيضة أقرَّ بها علماء الغرب قبل الشرق، استطاع هذا الجيل العظيم وفي سنين معدودة نشر دين اللَّه في مشارق الأرض ومغاربها، وفي ظاهرة لا تزال تحير المؤرخين إلى يومنا هذا، استطاع ذلك الجيل العظيم من البشر تدمير قلاع الإمبراطوريتين الفارسية والرومانية في وقت متزامن، فأصبح جيل الصحابة ومن دون أي مبالغة أعظمَ جيل كامل خلقه اللَّه على الأرض، وعندما أقول جيل كامل لا أقصد شخصًا أو شخصين منهم، بل أقصد كل الصحابة من دون أي استثناء، أي ما يزيد عن المائة ألف من صحابة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فكل الصحابة ومن دون أي استثناء عدولٌ عند اللَّه عز وجل، فهو الذي اختارهم فردًا فردًا ليكونوا أصحابًا لنبيه المصطفى، فاحذر الطعن في أي صحابي أو ذكره بسوء على الإطلاق، ليس خوفًا عليه منك أو من لسانك، فهم عند اللَّه الذي أعد لهم جنات تجري من تحتها الأنهار، بل خوفًا عليك أنت من أن تصل إلى مرحلة الكفر التي قد تخلدك في النار إلى الأبد، فإذا استيقظت يوفا من نومك وكان في قلبك مثقال ذرة من الغيظ لأحد أصحاب محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-، فاعلم أنك ممن ينطبق عليهم قول اللَّه عز وجل: "ليغيظ بهم الكفار"، وهذا لا يعني أبدًا أن الصحابة معصومون من الخطأ، ولكن الصحابة كانوا بشرًا كباقي البشر، يخطئون ويصيبون، غير أنهم كانوا أقرب البشر بعد الأنبياء إلى مرحلة الكمال الإنساني!

وبطلنا الآن هو صحابي جليل من صحابة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولقد تعمدت أن أكتب "الصحابي الجليل" في أعلى الصفحة قبل اسم هذا الصحابي بالتحديد من بين الصحابة الذين ورد ذكرهم في هذا الكتاب، وذلك لتذكير من كان قد نسي أنَّنا عندما نتحدث عن أبي سفيان بن حرب بعد إسلامه فإننا نتحدث عن صحابي من صحابة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ونتحدث عن الرجل الذي تزوج رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ابنته أم المؤمنين السيدة (أم حبيبة بنت أبي سفيان) -رضي اللَّه عنها-. وربما كان سبب إغفال كتب التاريخ لفضل أبي سفيان هو عداؤه الشديد لرسول اللَّه قبل الإسلام، وهذا شيءٌ لا يستقيم أبدًا، فالإسلام يجب ما قبله، بل إنني أصرح أن سرَّ اختياري لأبي سفيان ليكون ضمن قائمة المائة هو سنوات كفره تلك التي كان فيها العدو الأول للإسلام، فمجرد إسلام هذا الرجل يعتبر سببًا كافيًا ليكون بين عظماء أمة الإسلام في التاريخ، ولو أن أبا سفيان لم يحارب المسلمين في أيام كفره لما اخترته ضمن قائمة المائة، فهذا الرجل حارب الإسلام لما يزيد عن عشرين عامًا قضاها في الكفر، إلّا أنه بعد كل هذه السنين أسلم وجهه للَّه سبحانه وتعالى، ولكي تفهم ما أقصده، فعليك أن تتخيل أن رئيس أكبر دولة تحارب الإسلام حاليًا يعلن إسلامه، وأبو سفيان كان في جاهليته زعيم أكبر قوة في الأرض تحارب المسلمين، ولكنه بعد إسلامه جاهد في سبيل اللَّه حقّ جهاده، وقدم شيئًا غاليًا للإسلام أشك أن المشككين به يستطيعون أن يقدموا عشره، لقد قدم هذا الرجل عينيه الاثنتين في سبيل اللَّه، الأولى في "حُنين" عندما كان يدافع عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، والعين الثانية في "اليرموك" عندما أوكل إليه خالد بن الوليد رضي اللَّه عنه وأرضاه مهمة نشر روح الجهاد بين الجنود، فكان أبو سفيان رضي اللَّه عنه وأرضاه يمشي هو وامرأته الصحابية الجليلة (هند بنت عتبة) -رضي اللَّه عنها- يحمسان الجنود، فضاق الروم ذرعًا بهذا الشيخ الذي يحمس شباب المسلمين بكلماته التي تخرج من قلبه لتحولهم إلى سهامٍ مشتعلة تحرق جحافلهم، فصوَّبوا نبالهم نحوه ليصيبوا عينه الثانية بسهم فقأها، فسالت الدماء شلّالا من عين أبي سفيان رضي اللَّه عنه وأرضاه، فأصبح أعمى البصر بشكلٍ كلي، إلا أن هذا الشيخ البطل استجمع قواه وربط عينيه بلفافة بيضاء قبل أن تصبح حمراء من لون الدماء التي سالت من عينه، ليمشي هذا العملاق الإسلامي بين كتائب المسلمين يذكرهم بالجنة ويدعوهم إلى الثبات، عندها

انطلقت كتائب التوحيد الإسلامية لتقتحم صفوف الأعداء وتزلزل حصونهم، وفي معمعة المعركة سمع المسلمون أبا سفيان رضي اللَّه عنه وأرضاه ينادي بصوت هز أرجاء وادي اليرموك وكأن هذا الشيخ الأعمى يرى ببصيرته شيئًا لا يراه المبصرون بأعينهم وهو يردد بصوت ملؤه الإيمان باللَّه: يا نصر اللَّه اقترب، يا نصر اللَّه اقترب، يا نصر اللَّه اقترب وفعلًا جاء نصر اللَّه. . . . فقد استطاع رجل من المسلمين اقتحام قلب الجيش الروماني الضخم، وبضربة سيف واحدة من يمينه قطع رأس (باهان) وزير حربية الإمبراطورية الرومانية، ثم نادى بصوت عالي: اللَّه أكبر، فتعالت صيحات المسلمين بالتكبير، فألقى اللَّه الرعب في قلوب الرومان وصيحات اللَّه أكبر تطاردهم، فرجعوا القهقرة أمام تقدم كتائب التوحيد الإسلامية، فألقوا بأنفسهم من وادٍ سحيق يسمى بـ (الواقوصة)، فقتل في يومٍ واحد 120 ألف رومي، وانتصر المسلمون في معركة اليرموك الخالدة على قوات بيزنطة المتحالفة التي قدمت من مختلف أصقاع تلك الإمبراطورية الكبيرة، وبانتصار المسلمين في اليرموك انهارت القوة الرومانية فعليًا، وأصبحت الشام دارًا للإسلام، وتحققت نبوؤة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فبكى أبو سفيان بن حرب رضي اللَّه عنه وأرضاه بنصر اللَّه، واختلطت دموع عينيه بدمائها، فجزاك اللَّه خيرًا يا أبا سفيان لما قدمته للإسلام والمسلمين يا صاحب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. ولعل من حكمة اللَّه سبحانه وتعالى أن إسلام أبي سفيان جاء متأخرًا، وذلك لكي يتسنى له نقل حكاية عجيبة حدثت أيام جاهليته عند إمبراطور الروم (هرقل). فما هي تلك القصة العجيبة التي رواها البخاري في صحيحة عن أبي سفيان بن حرب رضي اللَّه عنه وأرضاه؟ وكيف كان إمبراطور الروم قاب قوسين من أن يسلم؟ وما الذي منعه؟ ومن هو ذلك البطل الإسلامي العظيم الذي استشهد قبل أن يصلي للَّه ركعة؟ يتبع. . . . . .

24 - كبير أساقفة الإمبراطووية الرومانية صغاطر

" كبير أساقفة الإمبراطووية الرومانية" صغاطر " يا معشر الروم. . . . إنه قد جاءنا كتاب من أحمد يدعونا فيه إلى اللَّه عز وجل وإني أشهد أن لا إله إلا اللَّه وأن أحمد عبده ورسوله" (الأسقف صغاطر) لعل اللَّه سبحانه وتعالى أخّر إسلام الصحابي الجليل أبي سفيان بن حرب رضي اللَّه عنه وأرضاه لينقل للإنسانية قصة عجيبة لبطل عجيب من عظماء أمة الإسلام العظماء، هذا البطل كان أقوى إنسان على وجه الأرض في تلك الفترة، فقد كانت قوته التي استمدها من منصبه الديني الرفيع تؤهله لكي يكون أعظم من (هرقل) إمبراطور الإمبراطورية الرومانية الشرقية، هذا العظيم الإسلامي لم يُولد مثلي ومثلك مسلمًا، ولم يصلِّ للَّه ركعة، بل إن تاريخه في الإسلام لم يتجاوز أكثر من لحظات معدودة في عمر الزمن، وهو مع ذلك رجلٌ سطّر اسمه في سجل العظماء بحروف كُتبت بمدادٍ من ماء العيون، إننا نتحدث عن صاحب الموقف الرجولي الباهر، صاحب القلب الشريف الطاهر، صاحب العقل المضيئ العامر، إننا نتحدث عن الأسقف صغاطر. وصغاطر هذا يا سادة -والذي لا يعرفه معظمنا- كان مجرد رجلٍ طاعنٍ في السن، لم يصم رمضان ولم يقم الليل البتة ولم يرَ الكعبة في حياته، ولكنه قدم للَّه ما هو أعظم من ذلك، لقد قدم روحه للَّه عز وجل، فلقد قال هذا الرجل -جنسًا وصفة- قولة حقٍ لم يخشَ فيها إلا اللَّه عز وجل، مجرد كلمة خلدته في سجل الشهداء قبل أن تخلده في سجل المائة، ورب كلمة يقولها المرء ترفعه في عليّين، ورب كلمة يقولها المرء تهوي به إلى أسفل سافلين، فهذا الرجل وإن كان لم ينتصر في معركة عسكرية، إلا أنه انتصر في أشرس معركة يخوضها الإنسان منّا، لقد انتصر عظيمنا على العدو رقم واحد للإنسان: النفس البشرية!

والسؤال المطروح ليس هو: من منّا لم يحارب نفسه الأمّارة بالسوء؟ بل السؤال هو: من منّا انتصر عليها؟ فحرب الإنسان مع نفسه حرب أزلية، لا تنتهي جولاتها إلا مع الرمق الأخير للإنسان، هذه الحرب تشتد وطأتها كلما زادت الفتن التي يتعرض لها الإنسان، وصغاطر لم يكن متعرضًا لفتنة عظيمة فحسب، بل كانت مكانته الدينية العظمى هي الفتنة بذاتها! ولكي تدرك مدى التضحية العظيمة التي قام بها صغاطر في سبيل اللَّه، فما عليك إلا أن تسأل نفسك سؤالًا بسيطًا: هل أنت على استعداد للتخلي عن وظيفتك إذا ما علمت أن فيها أمرًا يغضب اللَّه سبحانه وتعالى من قريبٍ أو بعيدٍ؟ أترك الإجابة عن هذا السؤال لكل واحدٍ فينا كي يجيب بنفسه على نفسه بكل صدق، أما صاحبنا فلم يستغرق الكثير من الوقت ليقدم استقالته من أعلى وظيفة في سلم الوظائف الرومانية، بل لم يستغرق الكثير من الوقت لكي يقدم روحه الطاهرة للَّه سبحانه وتعالى، فهيا بنا لنسبر أغوار هذا البطل الإسلامي العظيم صغاطر، من خلال حديث عجيبٍ غاية في العجب، رواه الصحابي الجليل أبو سفيان، ليحفظه لنا محمود الذكر والسيرة الإمام البخاري جزاه اللَّه عن المسلمين كل خير. ولكن قبلها ينبغي علينا أن نأخذ لمحة بسيطة عن خلفية هذه القصة، فبعد أن استطاع رسول اللَّه انتزاع صلح الحديبية من بين أنياب مشركي قريش، جاء الوقت لتنفيذ أهم مهمة ملقاة على عاتق المسلمين في كل زمان ومكان، ألا وهي مهمة التبليغ! فما أن عقد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- صلحَ الحديبية حتى بعث برُسله إلى مختلف أنحاء الأرض، وكان أحد هؤلاء الرسل هو الصحابي الجليل الجميل صاحب الوجه المشرق والذي كان أكثر البشر شبهًا بجبريل عليه السلام (دحية بن خليفة الكلبي) رضي اللَّه عنه وأرضاه، حاملًا رسالة من رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، إلى أعظم إمبراطور على وجه الأرض: (هرقل)! وكان هرقل هو إمبراطور الإمبراطورية الرومانية الشرقية "البيزنطية" التي تقاسم الفرس السيطرة على العالم القديم، وهرقل هو الاسم المختصر لاسمه الكامل (فلافيوس أغسطس هرقل) الذي حكم الإمبراطورية الرومانية منذ 610 م. وقد كان هرقل في بادئ الأمر رجل دينٍ نصراني من أصولٍ أرمينية يساعد أباه الذي كان واليًا للرومان على "تونس"، فعندما غُلبت الروم من الفرس في القصة المشهورة التي خلدها القرآن، قام أبوه البطريرق (هرقل) بتجهيز ابنه (هرقل بن هرقل) لينقذ الدولة

قبل انهيارها، فقام هرقل بمهاجمة "القسطنطينية" عاصمة الروم ليزيح الإمبراطور (فوكاس) من العرش، كمحاولة أخيرة لإنقاذ الدولة الرومانية من الاجتياح الفارسي ومن الفوضى التي تعصف داخل الدولة بعد مقتل القيصر (موريس)، فأبحر هرقل من تونس صوب القسطنطينية واستولى على الحكم، ونصب نفسه قيصرًا منقذًا للدولة، ليحارب بعدها الفرس ويختصر عليهم في معركة "نينوى" سنة 627 م، ليصبح هرقل بذلك بطلًا قوميًّا ودينيًّا عند النصارى. لذلك حج هرقل إلى القدس ماشيًا على قدميه لكي يشكر ربه على الانتصار، فصادف وجوده في القدس مجيء رسول رسول اللَّه الصحابي دحية بن خليفة الكلبي، فسلمه رسالة رسول اللَّه: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ من محمد بن عبد اللَّه إلى هرقل عظيم الروم: سلام على من اتبع الهدى، أما بعد، فإني أدعوك بدعوة الإسلام أسلم تسلم يؤتك اللَّه أجرك مرتين، فإن توليت فعليك إثم جميع الآريسيِّين. {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} فوقف هرقل يتأمل هذه الرسالة العجيبة التي تأتي إلى قيصر أكبر إمبراطورية على الأرض من رجل لا يعرف عنه شيئًا في صحراء العرب، فأراد هرقل أن يتأكد من صحة ما جاء فيها، وقد كان هرقل رجلًا متدينًا يعرف من بقايا الإنجيل أن نبيًا سوف يخرج في هذا الزمان، فبعث بقادته ليجلبوا له بعض العرب ليسألهم عن هذا الرجل الذي يزعم أنه رسول اللَّه، فشاء اللَّه أن يتواجد في مدينة "غزة" الفلسطينية في هذا الوقت أبو سفيان ابن حرب ونفر من قريش للتجارة بعد أن وضعت الحرب أوزارها مع المسلمين، وفرغوا لتجارتهم في الشام، فجيئ بهم إلى بلاط القيصر ليستفسر منهم حقيقة البعثة النبوية، فأحضر هرقل الترجمان ليترجم له، فسأل هرقل التجار العرب: أيكم أقرب نسبا لهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ فقال أبو سفيان: أنا أقر بهم نسبا إليه (فالأمويين هم أبناء عمومة الهاشميين) فقال هرقل: أدنوه مني، وقربوا أصحابه، فاجعلوهم عند ظهره (أي اجعلوا أبا سفيان واقفا ووراءه مجموعة من أصحابه)، ثم قال لترجمانه: قل لهم إني

سائل -يعني أبا سفيان- فإن كذبني فكذبوه! واتضح بصورة لا شك فيها أن هرقل يريد أن يعرف بجدية كل شيء عن هذا النبي، لذلك سأل أقرب الناس إليه نسبًا، ليكون على معرفة تامة به، وفي نفس الوقت جعل وراء أبي سفيان مجموعة التجار الآخرين كحكام على صدقه، وعند ذلك سيخاف أبو سفيان أن يكذب، ومن وراءه سوف يخافون أن يكذبوا، ولكن عامل الكذب هذا لم يكن واردًا في خاطر أبي سفيان على الإطلاق، فالعرب حتى في أيام الجاهلية كانت تستنكر صفة الكذب هذه، وتعتبرها نوعًا من الضعف غير المقبول، وأبو سفيان في هذه اللحظة التي لم يسلم فيها بعد، مع أنه يكره الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- كراهية شديدة، ومتأكد من أن أصحابه لن يكذبوه أمام القيصر مهما قال، إلا أنه لا يستطيع أن يكذب على رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولا يحب أن يشوه صورته بالكذب لدرجة أنه في رواية كان يقول: "ولكني كنت امرأ أتكرم على الكذب، لا أكذب". وبدأ استجواب هرقل لأبي سفيان أمام الجميع من العرب والرومان وفي حضور علية القوم من الأمراء والوزراء والعلماء من الرومان من أجل أن يتيقن من أمر هذه النبوة التي ظهرت في بلاد العرب، هل هي نبوة حقيقية أم كذب، ودار حوار عجيب بين (هرقل إمبراطور الروم) و (أبي سفيان سيد مكة) حول (محمد رسول اللَّه)، وقد بدأ هرقل بالسؤال: كيف نسبه فيكم؟ قال أبو سفيان: هو فينا ذو نسب. قال هرقل: فهل قال هذا القول من قبلكم أحد قط قبله؟ (أي هل ادعى أحد من العرب النبوة من قبله؟) قال أبو سفيان: لا لم يدع أحد في تاريخ العرب النبوة. فقال هرقل: هل كان من آبائه من ملك؟ فقال أبو سفيان: لا. قال هرقل: فأشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ قال أبو سفيان: بل ضعفاؤهم. قال هرقل: أيزيدون أم ينقصون؟ قال أبو سفيان: بل يزيدون. قال هرقل: فهل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ قال أبو سفيان: لا، لا يرتد منهم أحد. قال هرقل: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال أبو سفيان: لا. (وقد كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يدعى بالصادق الأمين قبل الإسلام) قال هرقل: فهل يغدر؟ قال أبو سفيان: لا. ثم قال: ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها. ثم قال هرقل: فهل قاتلتموه؟ قال أبو سفيان: نعم. فقال هرقل فكيف كان قتالكم إياه؟ قال أبو سفيان: الحرب بيننا وبينه سجال. أي ينال منا وننال منه (يقصد معركتي بدر وأحد). قال هرقل:

بماذا يأمركم؟ قال أبو سفيان: يقول اعبدوا اللَّه وحده ولا تشركوا به شيئًا، واتركوا ما يقول آباؤكم ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة. عند ذلك انتهى الاستجواب الطويل من هرقل، وبدأ هرقل يحلل كل كلمة سمعها وكل معلومة حصل عليها حتى يخرج باستنتاج، وأعلن ذلك الاستنتاج ترجمان هرقل، قال هرقل: سألتك عن نسبه، فذكرت أنه فيكم ذو نسب، وكذلك الرسل تبعث في نسب من قومها. ثم قال: سألتك إن قال أحد منكم هذا القول قبله؟ فذكرت أن لا، قلت: لو كان قال أحد هذا القول قبله لقلت رجل يتأسى بقول قيل قبله. وسألتك هل كان من آبائه من ملك؟ فذكرت أن لا، فقلت: لو كان من آبائه من ملك، قلت: رجل يطلب ملك أبيه. وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فذكرت أن لا، فقد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على اللَّه. وسألتك أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ فذكرت أن ضعفاءهم اتبعوه. وهم أتباع الرسل. وسألتك أيزيدون أم ينقصون؟ فذكرت أنهم يزيدون. وكذلك أمر الإيمان حتى يتم. وسألتك أيضا أيرتد أحد منهم سخطا لدينه بعد أن يدخل فيه؟ فذكرت أن لا. وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب. وسألتك هل يغدر؟ فذكرت أن لا. وكذلك الرسل لا تغدر. وسألتك بماذا يأمر؟ فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا اللَّه ولا تشركوا به شيئًا، وينهاكم عن عبادة الأوثان، ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف. وبعد هذا التحليل العميق من هرقل قال لأبي سفيان بمنتهى الصراحة: فإن كان ما تقوله حق فسيملك موضع قدمي هاتين -أي الشام- وقد كنت أعلم أنه خارج، ولم أكن أظن أنه منكم - (فهو يستكثر أن يكون من العرب!) - فلو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه. ثم قال هرقل لدحية بن خليفة: ويحك! واللَّه إني لأعلم أن صاحبك نبيٌ مرسل، وأنه الذي كنا ننتظره ونجده في كتابنا، ولكني أخاف الروم على نفسي؛ ولولا ذلك لأتبعته؛ فاذهب إلى صغاطر الأسقف فاذكر لهم أمر صاحبكم، فهو واللَّه أعظم في الروم مني، وأجوز قولا عندهم مني؛ فانظر ما يقول لك. فذهب دحية إلى صغاطر كبير الأساقفة، فأخبره بما جاء به من رسول اللَّه إلى هرقل، وبما يدعوه إليه، فقال صغاطر: صاحبك واللَّه نبي مرسل، نعرفه بصفته، ونجده في كتبنا باسمه. فدخل البطل صغاطر فألقى ثيابًا كانت عليه سودًا، ولبس ثيابا بيضاء، ثم أخذ

عصاه، يتوكأ بها وهالة من النور تحيط بوجهه المشرق بالإيمان، فخرج على الروم وهم في الكنيسة، فقال بصوتٍ عالٍ: يا معشر الروم! إنه قد جاءنا كتابٌ من أحمد، يدعونا فيه إلى اللَّه عز وجل، وإني أشهد أن لا إله إلا اللَّه وأن أحمد عبده ورسوله. فما إن فرغ البطل صغاطر من قولته تلك حتى وثب عليه من كانوا يسجدون له من قبل وثبة رجل واحد، فضربوه حتى تحولت ثيابه البيضاء إلى حمراء من كثرة الدماء التي تدفقت كشلالٍ متفجرٍ من جبينه وهو ينادي بصوتٍ أنهكه الضرب: أشهد أن لا إله إلا اللَّه، وأشهد أن أحمدًا رسول اللَّه وظل هذا البطل الإسلامي العظيم يرددها حتى فاضت روحه إلى بارئها، فرحم اللَّه البطل صغاطر، وأسكنه اللَّه فسيح جناته، وحشره مع حبيبه أحمد الذي آمن به من دون أن يراه. ولكن. . . . لماذا قال صغاطر "أحمد" ولم يقل "محمد"؟! وكيف كان صغاطر ومن قبله هرقل يعلمون بالفعل أن نبيًا سيبعث بهذا الاسم؟ وبأي صيغة ورد اسم رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في الإنجيل؟ وهل بقي اسمه موجودًا إلى يوم الناس هذا للإجابة على هذه التساؤلات وغيرها ينبغي علينا أن نسافر إلى القارة الأوروبية، وبالتحديد إلى إسبانيا، لنقابل عظيما إسبانيا من عظماء أمة الإسلام المائة، هذا العظيم الأوروبي اكتشف سرًا خطيرًا في الكتاب المقدس، هذا السر الخفي من شأنه أن يغير خارطة العالم الحديث رأسًا على عقب! يتبع. . . . . . .

25 - أنسليم تورميدا (عبد الله المايوركي)

" أنسليم تورميدا" (عبد اللَّه المايوركي) ولكني أقول الحق إنه خير لكم أن أنطلق لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم الفارقليط. . . {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}. . . المعزي! (يوحنا 16: 7) هناك طريقة مستهلكة لإخفاء الحقائق التاريخية، كان الفراعنة القدماء أول من استخدمها، هذه الطريقة استخدمها مؤرخو الدولة الفرعونية الحديثة الممتدة في الفترة ما بين القرن السادس عشر قبل الميلاد والقرن الحادي عشر قبل الميلاد، هؤلاء المؤرخون الخبثاء قاموا بفعلة غريبة، لا أعلم أحدًا من البشر صنعها قبلهم، فقد كان من عادة الفراعنة أن يدوِّنوا تاريخ ملوكهم وقصص انتصاراتهم وهزائمهم على جدران المعابد، إلا أن علماء الآثار الأوروبيون لاحظوا حديثًا أن هناك نقوشًا قد أزيلت من جدران بعض المعابد الفرعونية بشكل يبدو عليه أنه متعمد، الغريب في الأمر أن علماء الآثار لاحظوا أيضا أن الفراعنة حاولوا إخفاء تلك التشويهات على جدران معابدهم بإضافة نقوشٍ جديدة، فلم يحتج هؤلاء العلماء حتى لاستخدام "الكربون المشع" لاكتشاف زيف هذه التحريف، فلقد كانت النقوش الجديدة التي حلت محل النقوش القديمة بارزة بشكل فاضح للعيان، فلا سياق التاريخ ولا نوعية اللغة ولا مادة البناء كانت متناسقة مع بقية الهيكل البنائي، فلما راقب علماء الآثار سياق النقوش، استنتجوا أن هذه النقوش المحرفة استخدمها الفراعنة القدماء لإزالة نقش محدد لاسم معناه بالهيروغلوفية القديمة "ابن الماء"، فكلمة "ماء" بالهيروغليفي تعني "مووء"، وكلمة ابن تعني عندهم

"سي"، فكان اسم ابن الماء هو الاسم الذي أطلِق على طفلٍ التقطه الفراعنة من ماء النيل، هذا الطفل هو نفسه ابن الماء "موسى"! ليس الغرض من هذه المقدمة التاريخية هو الاستطراد في قصة موسى عليه السلام، فسوف نستعرض بشكل مفصل قصة نبي اللَّه موسى مع عدو اللَّه فرعون لاحقًا في معرض ترجمتنا لثلاثٍ سيداتٍ عظيماتٍ انضممن لقافلة المائة في هذا الكتاب، ولكن ما قصدته من هذه المقدمة، هو توضيح بعض أساليب التحريف التي يستخدمها كل من أراد تزييف الحقائق التاريخية لإخفائها عن عامة الناس، فالفراعنة أمروا بإزالة كل نقش كان قد نُقش عن (موسى بن فرعون)، قبل أن يتحول إلى (موسى عدو فرعون)، المضحك في الموضوع أن المزيفين في كل الأزمان يستخدمون هذه الطريقة الفرعونية المستهلكة، فالمعلوم لدينا نحن معشر المسلمين أن الإنجيل والتوراة قد حُرِّفا، وليس هذا افتراءً مني، بل هذا هو ما يقوله الرب الذي نعبده من خلال كلامه المحفوظ بين الدفتين إلى يوم الدين، فقد قال اللَّه عز وجل في الآية التاسعة والسبعين من سورة البقرة: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79)}. فالتحريف في التوراة والإنجيل ليس حقيقة قرآنية فحسب، بل هو حقيقة تاريخية أقرها علماء التاريخ، فالمعروف أن (العبرانيين) قاموا بتدوين "العهد القديم" أو ما يسمى بـ "التوراة" لأول مرة بعد مرور أكثر من 900 سنة على موت موسى عليه السلام، فلك أن تتخيل كمية التحريف المتعمد والغير متعمد الناتج عن بعد "زمن التنزيل" عن "زمن التدوين"، أما "الإنجيل" الذي أنزل على عيسى فقد اختفى، فالمعلوم أن عيسى من بني إسرائيل، ولغة بني إسرائيل هي العبرانية، فالمفروض أن يكون الإنجيل بلغة القوم المنزل عليهم كالعبرانية أو حتى الآرامية التي كانت لغة أهل فلسطين في ذلك الزمان، فعلى سبيل المثال لا الحصر، ما هو المعنى من أن يكتب كاتبٌ مصري كتابًا باللغة السنكرستية لينشره في صعيد مصر؟!! فالمعروف تاريخيًا أن أقدم نسخة للعهد الجديد مكتوبة بالإغريقية القديمة، والتي لم يكن السيد المسيح يتكلم بها أصلًا، بل إن هذه النسخة ظهرت بعد عشرات السنوات من رفع اللَّه للمسيح! لذلك لا توجد أصلا نسخة

أصلية للإنجيل يمكن لنا من خلالها أن نكتشف التحريف الواقع في الطبعات، ولكن يمكن القول مجازًا أن النسخة الإغريقية هي النسخة الأقرب (تاريخيًا) للأصل المفقود، في هذه النسخة بالتحديد، بحثت عن اسم رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، والذي أخبرنا اللَّه بوجوده في الإنجيل باسم "أحمد" على سيبل الخصوص، فوجدت في إنجيل يوحنا الإصحاح السادس عشر الفقرة السابعة ما يلي: "لكني أقول لكم إنه من الخير لكم أن أنطلق لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزي" وكلمة "المعزي" العربية هي تفسير ظهر جديدًا لكلمة "الفارقليط" الواردة في النسخة اليونانية الأصلية (المُترجم منها!) وهي "باراكلي طوس" المحرفة أصلًا عن الكلمة "بيركلوطوس" التي تعني أفضل التفضيل "أحمد". فالتحريف حصل من خلال تحويل يسير جدًا من اللفظة الأصلية " periklutos" ومعناها: أشهَر، أحمَد، أعرَف، أمجَد، أنبَل، إلى هذه الصيغة " periklutos"، ومعناها: المعزي! ولشرح هذه المعلومة الخطيرة، ينبغي علينا أن نسافر إلى جزيرة "مايوركا" الإسبانية، لا لكي نتابع مباراة لكرة القدم بين فريقي "مايوركا" و"برشلونة" الإسبانيين، بل لنتابع مغامرة قام بها أحد عظماء أمة الإسلام المائة، ألا وهو (عبد اللَّه المايوركي) أو (عبد اللَّه المايورقي) الشهير بالـ "الترجمان"، والذي كان يُدعى في بلده إسبانيا قبل إسلامه باسم (أنسيلم تورميدا) (Anselm Turmeda)، أنسيلم تورميدا كان قسيسًا عظيم الشأن في إسبانيا، وكان من أكبر علماء النصارى في القرن الثامن الهجري. ففي الوقت الذي كان فيه الصليبيون القشتاليون يكرسون جهودهم في نشر النصرانية المحرفة في ربوع بلاد الأندلس بعد احتلالهم لبلاد المسلمين الأندلسيين هناك، شرح اللَّه سبحانه وتعالى صدر رجل من أكبر علماء النصرانية في ذلك الزمان إلى الإسلام، فأسلم وجهه للَّه، وجاهد بيده ولسانه وقلمه في سبيل اللَّه، والآن لنبقى مع القصة العجيبة لهذا البطل الإسلامي الأوروبي، يرويها لنا بنفسه في تحفته الأدبية الرائعة "تحفة الأريب في الرد على أهل الصليب"، يقول المايوركي رحمه اللَّه: "اعلموا -رحمكم اللَّه- أن أصلي من مدينة "ميورقا" وهي جزيرة في البحر الأبيض المتوسط جنوب شرق إسبانيا اليوم، فتحها المسلمون سنة تسعين ومائتين للهجرة، إلى

أن تغلب عليها العدو البرشلوني وخربها سنة (508) للهجرة. واعلموا -رحمكم اللَّه- أن أصلي من مدينة ميورقا أعادها اللَّه للإسلام، وهي مدينة كبيرة تقع على البحر بين جبلين، يشقها واد صغير، وهي مدينة لها مرساتان عجيبتان ترسو بهما السفن الكبيرة للمتاجر الجليلة، والمدينة في جزيرة تسمى باسم المدينة ميورقا، وأكثر غاباتها زيتون وتين، وكان والدي محسوبًا من أهل حاضرة ميورقا، ولم يكن له ولد غيري، ولما بلغت ست سنين من عمري أسلمني إلى معلم من القسيسين قرأت عليه الإنجيل حتى حفظت أكثر من شطره في مدة سنتين، ثم أخذت في تعلم لغة الإنجيل وعلم المنطق في ست سنين، ثم ارتحلت من بلدي ميورقا إلى مدينة لاردا من أرض القصطلان (وهذه المدينة تسمى الآن كستلون) ومدينة القصطلان هي مدينة العلم عند النصارى في ذلك القطر، وفي هذه المدينة يجتمع طلبة العلم من النصارى، وينتهون إلى ألف وخمسمائة، ولا يحكم فيهم إلا القسيس الذي يقرءون عليه، فقرأت فيها علم الطبيعيات والفلك مدة تسع سنين، ثم تصدرت فيها أقرأ الإنجيل ولغته ملازمًا لذلك مدة أربع سنين، ثم ارتحلت إلى مدينة جلونيا من أرض الأندلس، وهي مدينة كبيرة جدًا، وهي مدينة علم عند جميع أهل ذلك القطر، ويجتمع بها كل عام من الآفاق أكثر من ألفي رجل يطلبون العلوم، فسكنت في كنيسة لقسيس كبير السن عندهم، وكبير القدر اسمه (نقلاو مرتيل) وكانت منزلته فيهم بالعلم والدين والزهد رفيعة جدًا، انفرد بها في زمنه عن جميع أهل دين النصرانية، فكانت الأسئلة في دينهم ترد عليه من الآفاق من جهة الملوك وغيرهم، ويصحب الأسئلة من الهدايا الضخمة ما هو الغاية -يعني النهاية- في بابه، ويرغبون في التبرك به وفي قبوله لهداياهم، ويتشرفون بذلك، فقرأت على هذا القسيس علم أصول النصرانية وأحكامه. ولم أزل أتقرب إليه بخدمته والقيام بكثير من وظائفه حتى صيرني من أخص خواصه، وانتهيت في خدمتي له وتقربي إليه إلى أن دفع إلي مفاتيح مسكنه وخزائن ملكه ومأكله ومشربه، وصير جميع ذلك كله على يدي، ولم يستثن من ذلك سوى مفتاح بيت صغير بداخل مسكنه كان يخلو فيه بنفسه، والظاهر أنه بيت خزانة أمواله التي كانت تهدى إليه، واللَّه أعلم! فلازمته على ما ذكرت من القراءة عليه، والخدمة له عشر سنين، ثم أصابه مرض يومًا من الدهر، فتخلف عن حضور مجلس

طلابه، وانتظره أهل المجلس وهم يتذاكرون مسائل من العلوم، إلى أن أفضى بهم الكلام إلى قول اللَّه عز وجل على لسان نبيه عيسى عليه السلام في الإنجيل: إنه يأتي من بعده نبي اسمه (الفارقليط). فناقشوا هذه المسألة فيما ناقشوه لما تخلف كبيرهم القسيس، فبحثوا في تعيين هذا النبي من هو من الأنبياء، وقال كل واحد منهم بحسب علمه وفهمه، فعظم بينهم في ذلك مقالهم، وكثر جدالهم، ثم انصرفوا من غير تحصيل فائدة ومن غير الاتفاق على معنى معين لهذه الكلمة، ثم رجعت إلى القسيس نيقلا والذي كان مريضًا فقال لي: ما الذي كان عندكم اليوم من البحث في غيبتي عنكم، فأخبرته باختلاف القوم في اسم (الفارقليط) وأن فلانًا قد أجاب بكذا، وأجاب فلان بكذا، وسردت له أجوبتهم، فقال لي: وبماذا أجبت أنت؟! فقلت: بجواب القاضي فلان في تفسيره للإنجيل. فقال: قصرت وقربت! وفلان أخطأ، وكاد فلان أن يقارب، ولكن الحق خلاف هذا كله؛ لأن تفسير هذا الاسم الشريف لا يعلمه إلا العلماء الراسخون في العلم، وأنتم لم يحصل لكم من العلم إلا القليل. فبادرت إلى قدميه أقبلهما، وقلت له: يا سيدي! قد علمت أني ارتحلت إليك من بلد بعيد، ولي في خدمتك عشر سنين، حصلت عنك فيها من العلوم جملة لا أحصيها، فلعل من جميل إحسانكم أن تمنو علي بمعرفة هذا الاسم، فبكى الشيخ وقال لي: يا ولدي! واللَّه لأنت تعز علي كثيرًا من أجل خدمتك لي وانقطاعك إلي، وفي معرفة هذا الاسم الشريف فائدة عظيمة، لكني أخاف أن يظهر ذلك عليك، فتقتلك عامة النصارى في الحين واللحظة، فقلت له: يا سيدي! واللَّه العظيم وحق الإنجيل ومن جاء به لا أتكلم بشيء مما تسره إلي إلا عن أمرك، فقال لي: يا ولدي! إني سألتك في أول قدومك علي عن بلدك، وهل هو قريب من المسلمين، وهل يغزونكم أو تغزونهم، لأختبر ما عندك من المنافرة للإسلام (يعني: حتى أكتشف حساسيتك وعداءك ولْفورك الشديد من دين الإسلام) فاعلم يا ولدي أن (الفارقليط) هو اسم من أسماء نبيهم محمد، وعليه نزل الكتاب الرابع المذكور على لسان دانيال عليه السلام، وأخبر أنه سينزل هذا الكتاب عليه، وأن دينه هو دين الحق، وملته هي الملة البيضاء المذكورة في الإنجيل، قلت له: يا سيدي! وما تقول في دين هؤلاء النصارى؟! فقال لي: يا ولدي! لو أن النصارى أقاموا على دين عيسى الأول لكانوا على دين اللَّه؛ لأن عيسى وجميع الأنبياء

دينهم دين اللَّه عز وجل، ولكنهم بدلوا وكفروا، فقلت له: يا سيدي! وكيف الخلاص من هذا الأمر؟! فقال: يا ولدي! بالدخول في دين الإسلام، فقلت له: وهل ينجو الداخل فيه؟ قال لي: نعم ينجو في الدنيا والآخرة، فقلت: يا سيدي! إن العاقل لا يختار لنفسه إلا أفضل ما يعلم، فإذا علمت فضل دين الإسلام فما يمنعك منه؟! فقال لي: يا ولدي! إن اللَّه تعالى لم يطلعني على حقيقة ما أخبرتك به من فضل الإسلام وشرف نبي أهل الإسلام إلا بعد كبر سني، ووهن جسمي، ولا عذر لنا فيه بل هو حجة اللَّه علينا قائمة، ولو هداني اللَّه لذلك وأنا في سنك لتركت كل شيء ودخلت في دين الحق، وحب الدنيا رأس كل خطيئة، وأنت ترى ما أنا فيه عند النصارى من رفعة الجاه والعز، والترف، وكثرة عرض الدنيا، ولو أني ظهر علي شيء من الميل إلى دين الإسلام لقتلتني العامة في أسرع وقت، وهب أني نجوت منهم وخلصت إلى المسلمين فأقول لهم: إني جئتكم مسلمًا فيقولون: قد نفعت نفسك بنفسك بالدخول في دين الحق فلا تمن علينا بدخولك في دين خلصت به نفسك من عذاب اللَّه، فأبقى بينهم شيخًا كبيرًا فقيرًا ابن تسعين سنة لا أفقه لسانهم، ولا يعرفون حقي، فأموت بينهم جوعًا (هذا خيال فاسد من القسيس الذي تعود على الأموال والترف) وأنا والحمد للَّه على دين عيسى، وعلى ما جاء به يعلم اللَّه ذلك مني (وهذه خداعٌ خدع به القسيس نفسه ليبقى بجانب غرفته المليئة بالهدايا!) فقلت له: يا سيدي! أفتدلني على أن أمشي إلى بلاد المسلمين وأدخل في دينهم؟ فقال لي؛ إن كنت عاقلًا طالبًا للنجاة فبادر إلى ذلك تحصل لك الدنيا والآخرة، ولكن يا ولدي هذا أمر لم يحضره أحد معنا الآن، فاكتمه بغاية جهدك، وإن ظهر عليك شيء منه قتلتك العامة لحينك، ولا أقدر على نفعك إذا قتلوك أو حاولوا أن يؤذوك، وإذا قلت لهم حينئذ إن الذي دلني على هذا هو القسيس فلان فإنك لن ينفعك أن تنقل ذلك عني، فإني سوف أجحده إذا ذكرت ذلك عني وقولي مصدق عليك، وقولك غير مصدق علي. فقلت: يا سيدي! أعوذ باللَّه من سريان الوهم لهذا. وعاهدته بما يرضيه. ثم أخذت في أسباب الرحلة وودعته، فدعا لي عند الوداع بخير، وزودني خمسين دينارًا ذهبًا، وركبت البحر منصرفًا إلى بلدي مدينة ميورقا، فأقمت بها مع والدي ستة أشهر، ثم سافرت منها إلى جزيرة صقلية، وأقمت بها خمسة أشهر وأنا أنتظر مركبًا يتوجه لأرض المسلمين،

فحضر مركب يسافر إلى تونس، فسافرت فيه من صقلية، وأقلعنا عنها قرب مغيب الشفق، فوردنا مرسى تونس قرب الزوال، فلما نزلت بجوار تونس، وسمع بي الذين بها من أحبار النصارى في تونس -يعني: سمعوا بمقدمه، وأنه حاضر عندهم، وقد كان هو أكبر علماء النصارى في ذلك الوقت- أتوا بمركب وحملوني عليه معهم إلى ديارهم، وصحبت بعض التجار الساكنين -أيضًا- بتونس، فأقمت عندهم في ضيافتهم على أرغد عيش مدة أربعة أشهر. ثم بعد ذلك سألتهم: هل بدار السلطان أحد يحفظ لسان النصارى؟ وكان السلطان آنذاك مولانا (أبو العباس أحمد) رحمه اللَّه، فذكر لي النصارى أن بدار السلطان المذكور رجلًا فاضلًا من أكبر خدامه اسمه (يوسف)، وكان طبيبه ومن خواصه، ففرحت بذلك فرحًا شديدًا، وسألت عن مسكن هذا الرجل الطبيب، فدخلت عليه واجتمعت به، وذكرت له شرح حالي وسبب قدومي للدخول في الإسلام، فسر الرجل بذلك سرورًا عظيمًا بأن يكون تمام هذا الخير على يديه. ثم ركب فرسه وحملني معه إلى دار السلطان، ودخل عليه فأخبره بحديثي واستأذنه لي، فأذن له، فمثلت بين يديه، فأول ما سألني السلطان عن عمري، فقلت له: خمسة وثلاثون عامًا. ثم سألني عما قرأت من العلوم فأخبرته، فقال لي: قدمت قدوم خير، فأسلم على بركة اللَّه. فقلت للترجمان -وهو الطبيب المذكور-: قل لمولانا السلطان: إنه لا يخرج أحد من دينه إلا ويكثر أهله الطعن فيه (يعني: أهل الدين الذي كان عليه سيطعنون فيه ويشنعون عليه انتقامًا منه) فأرغب من إحسانكم أن تبعثوا إلى الذين بحضرتكم من تجار النصارى وأحبارهم وتسألوهم عني، وتسمعوا ما يقولون في جنابي، وحينئذ أسلم إن شاء اللَّه تعالى. فقال لي بواسطة الترجمان: أنت طلبت ما طلب عبد اللَّه بن سلام من النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- حين أسلم (كان الصحابي الجليل عبد اللَّه بن سلام سيد اليهود وزعيمهم، فلما علم بقدوم رسول اللَّه أسلم وجهه للَّه، إلا أنه طلب من الرسول سؤال اليهود عنه، فقالوا له إنه سيدنا، فلما علموا بإسلامه قالوا إنه شرّنا وسفيهنا!). يضيف عبد اللَّه الترجمان: "فأرسل السلطان إلى أحبار النصارى وبعض تجارهم، وأدخلني في بيت قريب من مجلسه، فلما دخل النصارى عليه، قال لهم: ما تقولون في هذا القسيس الجديد الذي قدم في هذا المركب؟ قالوا له: يا مولانا! هذا عالم كبير في

ديننا، وقالت شيوخنا: إنهم ما رأوا أعلى من درجته في العلم والدين في ديننا. فقال لهم: وما تقولون فيه إذا أسلم؟! قالوا: نعوذ باللَّه من ذلك! ما يفعل ذلك أبدًا. فلما سمع ما عند النصارى بعث إلي فحضرت بين يديه وشهدت شهادة الحق بمحضر النصارى، فصلبوا على وجوههم، وقالوا: ما حمله على هذا إلا حب التزويج؛ فإن القسيس عندنا لا يتزوج. وخرجوا مكروبين محزونين. فرتب لي السلطان -رحمه اللَّه- ربع دينار في كل يوم في دار مختص، وزوجني ابنة الحاج (محمد الصفار)، فلما عزمت على البناء بها أعطاني مائة دينار ذهبًا، وكسوة جيدة كاملة، فبنيت بها وولد لي منها ولد سميته (محمدًا) على وجه التبرك باسم نبينا -صلى اللَّه عليه وسلم-". وبعد ذلك تعلم بطلنا لغة محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-، ليؤلف بالعربية هذا الكتاب العظيم الذي يعد الأول من نوعه في إثبات نبوة رسول اللَّه من الكتاب المقدس نفسه، ثم إثبات تحريف الإنجيل من خلال الأدلة والبراهين، ليظل هذا الكتاب التحفة "تحفة الأريب في الرد على أهل الصليب" المرجع الأول والأساسي لكل طلبة مقارنة الأديان عبر جميع العصور، فجزاك اللَّه كل خير يا أبا محمد عبد اللَّه بن عبد اللَّه المايوركي، لما قدمته للإسلام، فلقد فهمت كلمة السر التي لم يفهمها هرقل من قبلك: "أسلم تسلم"! الغريب في الأمر أن قصة عبد اللَّه الترجمان تشبه إلى حدٍ بعيد قصة عظيمٍ آخر من عظماء أمة الإسلام، فمن جزيرة مايوركا الإسبانية إلى مدينة أصفهان الإيرانية، ينتقل بنا قطار العظماء المائة، لكي نسافر عبر الزمان والمكان، لنرافق رجلًا عظيمًا من الفرس، هو بحق أعظم من أنجبت أمة فارس عبر تاريخها القديم والحديث، إننا لا نتحدث عن كسرى من الأكاسر، ولا فيلسوفًا من فلاسفة الفرس، إننا نتحدث عن رجل فارسي كان صاحبًا للرسول العربي! يتبع. . . . . . .

26 - الباحث عن السعادة (سلمان الفارسي)

" الباحث عن السعادة" (سلمان الفارسي) " أي بني، واللَّه ما أعلمه بقي أحدٌ على مثل ما كنا عليه آمرك أن تأتيه ولكن. . . . قد أظلك زمان نبي! " (صاحب عمورية) لن أبدأ سرد حكاية هذا البطل الإسلامي من ضِياع أرض فارس حيث وُلد، بل سأبدأ سرد حكايته من لحظة ميلاده الحقيقية، هناك في صحراء العرب، حيث الشمس المحرقة، ومن على قمة إحدى أشجار النخيل في يثرب، وبينما كان سلمان الفارسي يعمل عبدًا عند يهودي من يهود تلك المدينة الواقعة في أراضي الحجاز، سمع بطلنا رجلًا يتحدث مع سيده عن مهاجرٍ غريب قدم للتو من بلدة يقال لها مكة يقول أنه رسول من عند اللَّه، عندها سرت في جسم سلمان رعشة قوية هزت كل خليةٍ من خلايا جسمه، لم يستطع معها أن ينتظر حتى ينتهي من عمله ليتأكد من صحة الخبر، فأسرع ينزل من أعلى النخلة بلهفةٍ كاد يسقط من خلالها على من تحته، وما أن لامست قدماه الثرى حتى بادر بالسؤال عن ذلك الرجل الغريب، ليتفاجأ بلكمة شديدة تسقط عليه من سيده وهو يقول له: مالك ولهذا؟! أقبل على عملك! عندها استدار سلمان نحو سيده وقال له وعيناه تلمعان فرحًا: لا شيء. . . . إنما سمعت خبرا فأحببت أن أعلمه! وقبل أن نكمل بقية هذه الحكاية الممتعة ونعرف ماذا فعل سلمان بعد ذلك، أستأذن القارئ الكريم لكي نسافر معًا إلى الوراء عبر الزمن، لنغوص أكثر في بحار التاريخ، نلتقط جواهرها المتلألئة، فقد ذكرت في بداية هذا الكتاب ثلاث خصائصٍ تميز بها جيل الصحابة عن باقي البشر، كان أولها هو "الاختيار الإلهي" لجيل الصحابة فردًا فردًا، ولعل قصة سلمان الفارسي خير مثالٍ على هذه الميزة، فقبل عشرين سنة من إسلام سلمان، خرج هذا الشاب الذي عاش حياته يبحث عن سر السعادة البشرية من قريته

لكي يتفقد ضيعةً من ضياع أبيه، وسبحان اللَّه! فقد كانت تلك هي أول مرةٍ يخرج بها سلمان من قريته تلك، فلقد كان أبوه -وهو دهقان القرية- لا يتركه يخرج من البيت لحرصه الشديد عليه، إلّا أن اللَّه أبى إلا أن ينضم سلمان الفارسي إلى ركب إخوته من الصحابة العرب حتى ولو كان في أعماق بلاد فارس وعلى بعد آلاف الأميال من مكة، ففي طريقه إلى الضيعة سمع سلمان ترانيمًا تخرج من كوخ صغير، فاقتاده فضوله لمعرفة مصدر تلك الترانيم، فوجد في الكوخ قسّيسين من نصارى فارس، وبعد محادثة طويلة معهم اعتنق سلمان النصرانية، وترك المجوسية التي كان يعمل فيها بنفسه على إشعال النار المقدسة لدى المجوس، وبعد أن عاد أخبر أباه بأنه أصبح نصرانيًا، فحبسه أبوه في البيت بالأغلال حتى يرجع لدين آبائه، إلّا أن سلمان استطاع الهرب ليرحل إلى أرض الشام، ليطلب من أعظم أسقف في الشام أن يعلمه أمور الدين مقابل خدمته له، وفعلًا أقبل سلمان على خدمته والتعلم منه، إلا أنه اكتشف أن ذلك الأسقف النصراني يجمع الصدقات من الناس ويكنزها لنفسه، فكرهه سلمان أشد الكره، ولكن فقره وغربته أجبراه على أن يستمر في خدمته، وبعد أن مات ذلك الأسقف اللص، حزن عليه الناس أشد الحزن، وأخذوا يتباكون عليه، فأخبرهم سلمان بأمره، ودلهم على المكان السري الذي كان يخبئ فيه الأموال، فوجدوا جرارًا مملوءةً بالذهب والفضة، فصلبوا جثة ذلك الأسقف ومثّلوا بها، وعينوّا أسقفًا جديدًا مكانه، كان على عكس سابقه في الخير والتقوى، فأصبح سلمان تلميذا له، فلمّا حضرته الوفاة سأله سلمان: إلى من توصي بي؟ وما تأمرني؟ فقال له الأسقف: أي بني، واللَّه ما أعلم أحدًا اليوم على ما كنت عليه، لقد هلك الناس وبدَّلوا وتركوا أكثر ما كانوا عليه إلًا رجلًا بالموصل وهو على ما كنت عليه، فالحق به. ثم مات الأسقف الطيب، فرحل سلمان لى أرض الموصل (شمال العراق) كما أوصاه سيده قبل وفاته، فرحب به الكاهن الموصلي، فصحبه سلمان إلى أن حضرته الوفاة، فسأله بماذا يوصيه قبل وفاته، فقال له القسيس الموصلي: أي بني، واللَّه ما أعلم رجلا على مثل ما كنا عليه إلا رجلا بنصيبين وهو فلان فالحق به. ثم مات صاحب الموصل، فرحل سلمان من جديد يقصد مدينة نصيبين (جنوب شرق تركيا الآن)، فوجد صاحب نصيبين، فأخبره بحكايته، فرحب به، فأقام عنده سلمان يتعلم منه حتى أتته

المنية، فسأله سلمان عن وصيته فقال له: أي بني، واللَّه ما أعلم أحدًا بقي على أمرنا آمرك أن تأتيه إلا رجلًا بعمورية فإنه على مثل ما نحن عليه فاذهب إليه فإنه على مثل أمرنا. وبعد أن مات سيده، أعد سلمان راحلته وهم بمتابعة مغامرته في البحث عن السعادة، فلحق بصاحب عمورية، فقص عليه مغامرته في البحث عن سر السعادة الإنسانية، فقال له صاحب عمورية: أقم عندي، فأقام سلمان معه يتعلم منه، حتى أزفت ساعة به، فلما حضر قال له سلمان: يا فلان إني كنت مع فلان فأوصى بي فلان إلى فلان وأوصى بي فلان إلى فلان ثم أوصى بي فلان إليك فإلى من توصي بي وما تأمرني؟ فقال له صاحب عمورية: أي بني واللَّه ما أعلمه أصبح على ما كنا عليه أحد من الناس آمرك أن تأتيه ولكنه قد أظلك زمان نبي هو مبعوث بدين إبراهيم يخرج بأرض العرب مهاجرًا إلى أرض بين حرتين (مجموعتين من الجبال) بينهما نخل به علامات لا تخفى يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة بين كتفيه خاتم النبوة فإن استطعت أن تلحق بتلك البلاد فافعل. فمات صاحب عمورية الطيب، فمكث سلمان "بعمورية ما شاء اللَّه له أن يمكث، حتى مر به تجارٌ من قبيلة عربية، فعرض عليهم سلمان أن يأخذوا كل ما يملكه مقابل إيصاله إلى أرض العرب، فقبل التجار عرضه وهم يتساءلون كيف لرجلٍ أن يترك أرضًا جميلة مثل عمورية ليرحل إلى صحراء العرب القاحلة مُضحيًا بكل ما يملك من مال من أجل ذلك؟! فلمّا وصل سلمان إلى أرض العرب قام أولئك التجار الخونة ببيعه إلى رجل يهودي، فأصبح سلمان بذلك كالظمآن في الصحراء المقفرة، الذي يرى بعينيه واحة خضراء تطل عليه بمياهها الصافية، فلمّا اقترب منها فقد ساقيه، فلا هو بالذي هلك قبل أن يراها، ولا هو بالذي وصل إليها وارتوى بمياهها العذبة! وعندما علم اللَّه أن سلمان قد استنفذ كل ما في استطاعته، جاء وقت الأمر الإلهي البسيط: "كن"! فشاء اللَّه بحكمة لا يقدر عليها غيره أن يقوم سيد سلمان اليهودي ببيعه لابن عمٍ له، ليحمله سيده الجديد إلى مدينة جديدة، ما إن وصل سلمان إليها حتى عرفها، فقد كانت هذه المدينة مدينة بين حرتين بها نخل كثير، لقد كانت هذه المدينة هي "يثرب"، والتي سوف يكون اسمها بعد سنواتٍ معدودةٍ. . . . "المدينة المنورة"! وهنا لنا وقفة تأمل صغيرة. . . . فلماذا لم يأتِ ذلك الأمر الإلهي "كن" منذ البداية؟

أما كان ذلك سيكون اختصارًا للوقت والجهد؟ ألم يكن بمقدور اللَّه عز وجل أن ينقل سلمان من أصفهان إلى يثرب من دون أن يخوض تلك الرحلة الشاقة في كل تلك البلدان البعيدة؟ الحقيقة أن للَّه سننًا في الأرض لا تتغير، ومن أعظم سننه تلك أن نصر اللَّه لا يأتي إلا بعد أن يستنفد المسلم كل طاقته حتى ولو كانت ضئيلة، عند ذلك يأتي نصر اللَّه من باب لم يكن يتوقعه أحد، فمن كان يظن أن سيد سلمان اليهودي هو الذي سوف يوصله للمدينة بعد أن فقد هو حريته في التنقل؟ ومن كان يظن أن البحر سوف ينفلق لموسى ويغرق فرعون بعد سنوات من تعذيب فرعون لبني إسرائيل؟ ألم يكن اللَّه قادرًا على أن يهلك فرعون وملئه منذ البداية؟! المهم أن سلمان بقي يعمل عند سيده حتى جاء ذلك اليوم الذي سمع فيه وهو في أعلى النخلة بأن رجلًا يزعم أنه نبي جاء من مكة إلى يثرب مهاجرًا، فأراد سلمان أن يتأكد من تلك العلامات الثلاث التي وصفها له صاحب عمورية الطيب "يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة، بين كتفيه خاتم النبوة"، فأخذ شيئًا من الثمر وقدَّمه للرسول على أنه صدقة، فلم يأكل الرسول منه شيئًا، فقال سلمان: هذه واحدة! ثم أتاه ببعض الثمر على أنه هدية، فأكل منه، فقال سلمان: هذه ثانية! ثم جاء سلمان ليتأكد من العلامة الأخيرة، فوجد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بين أصحابه فحياه ثم استدار لينظر إلى ظهره ليرى خاتم النبوة الذي وصفه له صاحب عمورية، فلاحظ الرسول أن سلمان يريد أن يتثبت من شيئ وُصِف له، فألقى الرداء عن ظهره، فنظر سلمان الفارسي بين كتفي رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فوجد خاتم النبوة! (خاتم النبوة عبارة عن علامة في جسد الرسول تقع بين كتفيه، وهي تشبه الشامة بحجم بيضة الحمامة). عندها أخذ سلمان يبكي ويعانق رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ويقبله، فطلب منه الرسول الكريم أن يُهدِّأ من روعه وأن يقص عليه حكايته، فأخذ سلمان يقص على رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- مغامرته منذ البداية في بلاد فارس وحتى تلك اللحظة، فأعجب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بما سمع من سلمان، وسأله أن يقص حكايته على أصحابه، فقصَّ سلمان حكايته العجيبة تلك على الصحابة رضوان اللَّه عليهم، وقصصتها أنا عليكم طبقًا لما قصه سلمان نفسه لعبد اللَّه ابن عباس رضي اللَّه عنهم أجمعين.

ولكن. . . . . . هناك شيءٌ غريبٌ في هذه القصة! ما هو ذلك الأمر الغامض الذي كان يقصده صاحب نصيبين بقوله لسلمان: "فإنه على مثل أمرنا"؟ ولماذا اختار هؤلاء القساوسة العيش متفرقين في أماكن مجهولة وبعيدة؟ وما قصة تلك المجموعة السرية التي كان ينتمي إليها هؤلاء؟ وما هو ذلك السر الخفي لهذه المجموعة الغامضة؟ ومن يكون ذلك العملاق الإسلامي الذي يُعتبر ومن دون أي مبالغة من أعظم رجال التاريخ البشري؟ وكيف أسلمت شعوب ألمانيا وفرنسا وانجلترا وهولندا وبلجيكا وإسبانيا والبرتغال والنمسا وسويسرا وإيطاليا بفضله؟ وكيف تحولت مدينة الفاتيكان نفسها إلى مدينة إسلامية بفضله؟ من تراه يكون ذلك البطل الليبي الغامض الذي جاء الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- شخصيًّا على ذكر أتباعه في رسالته لقيصر الروم هرقل؟! يتبع. . . . . .

27 - (آريوس)

"فإن توليت فعليكم إثم الآريسيّين" (آريوس) " العالم كله صرخ وتعجب ليجد نفسه آريوسيًا! " (القديس جيروم: أول مترجم للكتاب المقدس) "وبقي قسيسٌ واحدٌ على الحق! " (عروة بن الزبير) كنت قد وعدت القارئ الكريم سابقًا أنني سوف آتي لاحقًا على ذكر أعظم شخصية أمازيغية على الإطلاق، وها قد جاء وقت الوفاء بهذا الوعد، وجاء معه أيضًا وقت الإجابة على تساؤلات محيرة تركتها معلقة إلى هذه الساعة، فما هو سر إسلام أقباط مصر بسرعة غريبة بعد أن طرد عمرو بن العاص الرومان منها؟ ولماذا لم يستغرق (عقبة بن نافع) وقتًا يذكر في فتح جل الشمال الأفريقي؟ وما السبب الأساسي لفتح المسلمين للأندلس؟ ومن قصة أولئك "الأريسيّين" الذين ذكرهم رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في رسالته الشهيرة لهرقل؟ هل هم فعلًا فلّاحو الروم كما ورد في بعض كتب التاريخ؟ الحقيقة أن هذا ليس صحيحًا على الإطلاق، فالآرسيون طائفة مجهولة تعمدت كتب التاريخ إغفالها لسبب سوف يتضح لاحقًا، ففهم تاريخ الآريسيين يفسر لنا حديثًا جميلًا رواه الإمام مسلم في صحيحه، أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال يصف حال الأرض قبل بعثته: "إن اللَّه نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب"!! وليتسنى لنا معرفة هوية هؤلاء "البقايا" يجب علينا أولًا أن نلقي نظرة سريعة على حال الكرة الأرضية في نهاية القرن السادس الميلادي وبداية القرن السابع الميلادي، لنرى كيف كان وضع شعوب الأرض مباشرة قبل بزوغ شمس الدعوة المحمدية: الرومان: كان الرومان يحكمون بلدانًا شاسعة في أوروبا وآسيا وأفريقيا، يحكمونها بالنار والحديد، ويفرضون عليها الضرائب الباهظة، ولعل كثيرًا من الذين يفتخرون

بالمدرجات الرومانية (الحضارية!) في بلدانهم لا يعلمون أن هذه المدرجات والمسارح قد بنيت من قبل الرومان لكي تكون مكانًا يتسلى به الرومان الهمجيون وهم يرون الأسود وهي تنهش لحوم العبيد الذين يأتون بهم من مستعمراتهم. الفرس: أما الفرس فحدث عنهم ولا حرج! فقد كان جل الفرس من عبّاد النار الذين انتشر فيهم الانحلال الأخلاقي بشكل ما عرفته شعوب الأرض قبلهم أو بعدهم، فقد كانت (المتعة) بالجنس شكلًا يميز الفرس عن باقي شعوب الأرض، فسقط الفرش في أقذر أنواع الرذيلة الحيوانية، وشاع فيهم زنى المحارم، فكان كسرى (يزدجرد الثاني) يزني بابنته، وكان كسرى (بهرام جوبين) يزني بأمه وأخته!!! ولم تستحل أمة من الأمم القديمة هذه الرذيلة إلا أمة فارس، بل كان الإغريق والرومان يعايرونهم بذلك، وقد قسم الفرس البشر إلى سبع طبقات، فعامة الشعب في المرتبة الدنيا حيث كانوا يربطونهم كالكلاب بالسلاسل في المعارك، بينما كان كسرى في قمة الهرم الاجتماعي حيث كان يعتبر نفسه (سيدًا) صاحبَ دماءٍ مقدسة! الهنود: عبد الهنود كل ما خطر وما لم يخطر على بال البشر! فقد عبدوا كل شيئ من الكواكب إلى الأنهار مرورًا بالحيوانات والأشجار، بل إن بعضهم عبد أعضاء التناسل!! وسوف نتطرق لتاريخ الهند الديني والإجتماعي بالتفصيل في نهاية هذا الكتاب في معرض حديثنا عن عظيم إسلامي من أمة الهنود. الصين: برزت في الصين ثلاث ديانات رئيسية هي: 1 - ديانة لاتسو: وتدعو إلى البعد الكامل عن النساء. 2 - ديانة كلونفوشيوس: وهي مادية بحتة. 3 - ديانة بوذا: وتدعو إلى الانعزال والزهد في الحياة. العرب: كان جل العرب يعبد الأصنام التي أشركوها في عبادتهم للَّه، فكان لكل قبيلة صنمًا أو أكثر. ومن بين كل هذه النماذج القاتمة التي غرق فيها بنو البشر، كانت هناك بقايا من الإنسانية مزروعة في وجدان طائفة من بقايا أهل الكتاب يقال لهم "الآريسيين"، أفراد هذه المجموعة كانوا يشهدون أنه لا إله إلا اللَّه، وأن عيسى نبي اللَّه، أي أنهم كانوا على

دين الإسلام، أما عن سبب تسميتهم بالآريسيين فيرجع إلى القرن الرابع الميلادي، وبالتحديد إلى عام 325 م، فقد كان المسيحيون منذ بعثة عيسى وحتى ذلك العام يؤمنون بوحدانية اللَّه عز وجل، وبنبوة عيسى عليه السلام، إلى أن ظهر رجلٌ مصري يدعى (أثناسيوس)، هذا الرجل قام بتغيير الدين الذي جاء به المسيح عليه السلام، فأدخل فيه كثيرًا من العقائد الوثنية، وسبب ذلك أن أثناسيوس لم يكن مسيحيًا في بادئ الأمر، بل كان وثنيًا على دين الفراعنة القدماء، فقام بمزج المسيحية بالديانات الوثنية التي كان يعتقد بها قبل تنصره، فأدخل لأول مرة مبدأ (الثالوث المقدس) " The Trinity" على الدين المسيحي التوحيدي، وينص هذه المبدأ على أن اللَّه ذو طبيعة ثلاثية الأبعاد، كل بعد فيه يساويه، وكل بعد فيه لا يساوي الآخر! وإن كنت لم تفهم شيئًا من هذه الأحجية، فلا تقلق كثيرًا، لأن زملائي الأوروبيين "المسيحيين" أخبروني أنهم أيضًا لا يفهمونها!! وربما كان هذا هو السبب الذي دفع الكنائس مؤخرًا لمحاولة شرح هذا المبدأ الصعب وذلك بتوزيع رسومات هندسية (مثل هذا الشكل) لتحاول عبثًا شرح فكرة الثالوث المقدس. ومع أن مادة الرياضيات كانت مادةً مفضلة لدي عندما كنت طالبًا في المدرسة، إلا أنني أعترف أن ما قرأته عن "نظرية فيثاغورس" و"مسلمة إقليدس" و"مسألة أبولونيوس" و"منحنى ديوكلوس" لا يمكنه تفسير ذلك المبدأ! فالموضوع معقد بعض الشيء! فلو كان لك ولدٌ لم يبلغ من العمر إلّا سنياتٍ معدودةٍ، فجلبت له ثلاث تفاحات وقلت له أن كل تفاحة من التفاحات الثلاث تساوي نفس الشيء، ولكن نفس هذه التفاحات الثلاث لا تساوي الشيء نفسه! فلا أشك حينها بأن ذلك الطفل سيأخذ إحدى تلك التفاحات الثلاث من يدك، ليقضم منها قضمة صغيرة، ليقذف رأسك بعدها بنفس تلك التفاحة المقضومة، قبل أن يذهب إلى أمه ليخبرها بان أباه قد فقد عقله! والحقيقة أن أثناسيوس لم يأتِ بهذا المبدأ من فراغ، فلقد كانت فكرة الثالوث المقدس مغروسة في كيانه قبل أن يعتنق النصرانية، فلقد كان أثناسيوس يؤمن بالثالوث

المقدس للفراعنة قبل أن يعتنق المسيحية (أوزريس الأب، حورس الإبن، إزيس الأم)، بل إن فكرة الثالوث تلك كانت سائدة في أغلب الديانات الوثنية، فقد كان للهنود ثالوثهم البرهمي المقدس (برهما: الإله، فشنو: المُخلص، سيفا: الروح العظيم)، وعند الفرس الثالوث الزردشتي المقدس: (الروح الصالحة، الكلمة الصالحة، العمل الصالح)، لذلك أراد أثناسيوس نشر ذلك المبدأ الجديد في المسيحية. عند تلك اللحظة ظهر العملاق العظيم (آريوس) الذي كان قسًا أمازيغيًا يعيش في الإسكندرية بعد أن قدم إليها من مسقط رأسه ليبيا، فوقف آريوس بالمرصاد في وجه أثناسيوس، وأدحض افتراءات المثلثين بعلمه وفصاحته، فأنكر ما جاء به أثناسيوس بحجة في غاية البساطة، ملخصها أنه لم يرد في الإنجيل كلمة واحدة تنص بأن المسيح إله، ولم يرد في الانجيل أبدًا أنه قالَ للناس اعبدوني، فنشب خلاف كبير بين (أثناسيوس) وسيده بابا الإسكندرية آنذاك (ألكساندريوس الأول) من جهة، وبين (أريوس) ومن معه من المسلمين الموحدين من جهة أخرى، فأمر الإمبراطور الروماني الذي كان يحكم مصر (قسطنطين الأول) بعقد مؤتمر يجتمع فيه كل علماء النصارى لبحث أمر هذه البدعة التي جاء جها أثناسيوس، فاجتمع العلماء في "مجمع نيقية المسكوني" في مايو 325 م، وقامت المناظرات بين آريوس وأثناسيوس، فانتصر آريوس بالضربة القاضية بعقيدة التوحيد، إلا أن الإمبراطور قسطنطين الذي كان وقتها وثنيًا رفض رأي آريوس، فقد كان قسطنطين نفسه يؤمن بالثالوث الروماني المقدس (اللَّه، الكلمة، الروح)، فأمر الإمبراطور قسطنطين القساوسة الموحدين وعلى رأسهم آريوس بالتوقيع على عريضة تنص على ألوهية المسيح، فرفض بطلنا الإسلامي العظيم آريوس التوقيع على وثيقة تنص على الشرك باللَّه، المضحك بالأمر أن الإمبراطور قسطنطين والذي كان وثنيًا في وقتها اعتمد "وثيقة الإيمان المسيحي" التى يؤمن بها النصارى إلى يومنا هذا! أما آريوس ومن معه من المسلمبن الموحدين فقد تم نفيهم إلى "البلقان"، قبل أن يأمر الإمبراطور بحرق جميع كتب آريوس وإعدام من يحتفظ بأي نسخة منها، عندها قامت الثورات الشعبية في أنحاء الإمبراطورية تطالب باطلاق سراح القس البطل آريوس، ليستجيب الإمبراطور لهذه الضغوطات، ليعود آريوس من منفاه إلى العاصمة القسطنطينية (إسطانبول) منتصرًا، قبل أن يقوم المثلثون

بتسميمه، ليستشهد بطلنا في القسطنطينية بعد حياة طويلة قضاها في الجهاد في سبيل اللَّه، دافعًا حياته ثمنًا لرفعه لراية التوحيد. وبعد أن موت آريوس قام الموحدون بنشر الإسلام في أنحاء أوروبا، فدخلت القبائل الجرمانية في الإسلام بتعاليم آريوس، وأصبحت كل شعوب أوروبا الغربية تقريبًا آريسية مسلمة تؤمن برسالة التوحيد، وساد الإسلام أغلب دول العالم، بل إن بعض العرب كان من النصارى الآريسيين! لعل (ورقة بن نوفل) كان أشهرهم، وهذا يظهر جليًا من سرعة اتباعه لرسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- الذي كان يقرأ عنه في الإنجيل، ويظهر أيضًا من شعر ورقة الذي يقول فيه: لَا تَعْبُدُنّ إلَهًا غَيْرَ خَالِقِكُمْ ... فَإِنْ دَعَوْكمْ فَقُولُوا بَيْنَنَا جَدَدُ أما القارة الأوروبية فقد كانت قارة مسلمة على مذهب البطل الإسلامي آريوس، بل إن الإسلام الآريوسي أو الآريسي كان دين القارة الأوروبية والشام والشمال الأفريقي لسنين عديدة، إلا أن المضحك المبكي في هذه القصة حدث عندما جاء إمبراطور وثني اسمه (يوليانوس)، هذا الإمبراطور الروماني لم يكن مسيحيًا أصلًا حتى موته، فقام بدعم المثلثين من الأرثذوكس وغيرهم على حساب المسيحيين الموحدين، فانتشرت المسيحية المحرفة بحد السيف وآلات التعذيب، بعد أن قام المثلثون بقتل ما يزيد عن 12 مليون من الآريسيين الموحدين، فأخفى من بقي من الآريسيين إسلامهم (سر تخفي قسّيسي عمورية والموصل وحرّان في قصة سلمان!)، وكان معظم أقباط مصر مسلمين آريسيين، ما يفسر اعتناق الأقباط السريع للإسلام بعد أن جاءهم الصحابي الجليل عمرو ابن العاص ليحررهم من اضطهاد المثلثين لهم، فكان عمرو بن العاص -رضي اللَّه عنه- بمثابة المحرر للمسيحيين من التعذيب والقتل والإرهاب. أما البربر فقد كانوا موحدين مسلمين من أتباع آريوس البربري، فلما جاءت دعوة محمد الخاتمة أعلنوا اتباعهم لها بسرعة البرق لتوافقها مع عقيدة التوحيد التي يؤمنون بها أصلًا، وهذا ما يفسر السرعة الخرافية التي فتح فيها عقبة بن نافع الشمال الأفريقي، ورغم أن حاجز اللغة كان عائقًا أمام معرفتهم بقواعد الشريعة المحمدية لبعض الوقت، إلّا أنهم ما أن تعلموا

العربية لغة القرآن حتى أصبحو قادة للإسلام! فإذا كنت أمازيغيًا وجاءك أحد المنصرين الأوروبيين يُذكرك بأصولك الأوروبية المسيحية فلا تكذبه، ولكن قل له أن أجدادك من البربر كانوا مسيحيين آريسيين يؤمنون بوحدانية اللَّه، وقم بعد ذلك بتذكير ذلك المنصر بأصوله المسيحية الأريسية التي دافع عنها بطل البربر آريوس، ثم ادعه أنت بدورك للإسلام! أما الأندلس، فقد كانت آخر معقلٍ من معاقل الآريسية في أوروبا، وكان أهل الأندلس مسلمين آريسيين حتى قبل أن يُولد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، إلا أنه في عام 586 م قام الملك الإسباني (ريكاردو) باعتناق المذهب الكاثوليكي، ليأمر بعدها بفرضه على الشعب المسلم بحد السيف، بعد أن قتل أغلب المسلمين الآريسيين من الإسبان والبرتغاليين، ليضطر من بقي منهم لإخفاء إسلامه في انتظار فرج اللَّه، وفعلًا جاء فرج اللَّه بعدها بسنوات قليلة، والعجيب في الأمر أن المدقق لهذا التاريخ 586 م -وهو تاريخ سقوط آخر معقل من معاقل الإسلام على الكرة الأرضية- يجد أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يبلغ من العمر حينها 20 عامًا تقريبًا! فما هي إلّا سنيات قليلة حتى يشرق نور التوحيد من جديد على يديه، فيضيئ به دياجين ظلمات الشرك الحالكة، ليحمل طارق بن زياد البربري تلك الشعلة التي دافع عنها جده آريوس ليضيء بها ديار الأندلسَ من جديد، فيحرر إخوانه المسلمين الأوروبيين الآريسيين من براثن الظلم والاضطهاد التثليلثي. ليبيا. . . . تلك الأرض التي أخرجت آريوس من قبل، أبت إلّا أن تُخرجَ من صحرائها القاحلة عملاقًا آخر من عمالقة الإسلام، ولكنه هذه المرة ليس من العنصر الأمازيغي البطل، بل من العنصر العربي القرشي، فمن تراه يكون ذلك الشيخ الليبي البطل الذي حمل السلاح وهو في السبعين من عمره، ليدوّخ به جيوش إيطاليا الفاشية في صحاري ليبيا، بعد أن دوّخ من قبل جيوش فرنسا العنصرية في أدغال أفريقيا السمراء؟ من هو ذلك الأسد الليبي الكبير الذي جعل من إيطاليا أضحوكة في أفواه الأوروبيين بعد أن عجزت جيوشها البرية والبحرية والجوية من إيجاد حل للغز هذا الشيخ العظيم؟! يتبع. . . . . . .

28 - أسد الصحراء (عمر المختار)

" أسد الصحراء" (عمر المختار) " عندما نظرت إلى عمر وجدته وقد علته هالة من النور يراها القاصي منه والداني، فأخذت شفتاي ترتعشان، ولا أعلم سبب هذا الخوف الذي ملأ قلبي؟! فقلت لنفسي: هذا قديس! " (الجنرال جرتسياني: قائد القوات الإيطالية) الحكاية تبدأ في خيمة لإحدى القبائل البدوية التي يرجع نسبها إلى قبيلة قريش العدنانية، هناك قرر رجلٌ يدعى (المختار بن عمر) أن يصطحب زوجته (عائشة بنت محارب) لكي يحجّا معًا بيت اللَّه الحرام، ليتوفى المختار في طريقه إلى مكة تاركًا وراءه طفلًا يتيمًا اسمه عمر، ليتربى هذا الطفل في البيئة الصحراوية البدوية التي خرَّجت فرسان الصحابة من قبل، ليصبح عمر المختار فارسًا لا يشق له غبار. وفي نهايات القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين انتقل عمر المختار إلى قلب أفريقيا ليجاهد مع إخوانه من مسلمي "تشاد" ضد الغزاة الفرنسيين، ليلقن فيها المختار جنرالات فرنسا دروسًا في فنون القتال العربي الأصيل، قبل أن يلقنهم ما تعلمه من دروس الكفاح المسلح الإسلامي ضد الغزاة! عندها ذاع صيت المختار في أرجاء إفريقيا، فانتقل بين القبائل الإفريقية ينشر الإسلام فيها، قبل أن يفرغ نفسه لكي يصبح معلمًا! وفي يوم 29 سبتمبر من عام 1911 م أرسلت إيطاليا بارجاتها البحرية لاحتلال ليبيا، ليعود المختار من جديد إلى الجهاد المسلح، ولكن هذه المرة ضد الغزاة الطليان، فقام عمر المختار بتنظيم صفوف المجاهدين، وشن الغارات تلو الغارات ضد صفوف الغزاة، عندها تساءل عندها الطليان عن هوية ذلك الشبح المرعب الذي يباغت جنودهم من حينٍ إلى آخر، وبدأ اسم المختار يُتداول في صحف روما، فتغيرت أربع حكومات في إيطاليا نتيجة لهزائم الجيوش الإيطالية المتعاقبة على يد المختار ومن معه من

المجاهدين الليبيين، فتحول عمر المختار إلى كابوسٍ يقض مضاجع الإيطاليين، حتى أخذ (موسوليني) على عاتقه مهمة إنهاء أسطورة المختار التي باتت انتصاراته المتتابعة تسبب الإحراج لسمعة إيطاليا في أوروبا،، فقرر زعيم الفاشية أن يلقي بورقته الأخيرة، فأرسل إلى ليبيا مجرم حربٍ يدعى (غرتسياني)، فقام هذا المجرم بتنفيذ خطة إفناء وإبادة لم يسبق لها مثيل في التاريخ، فكان أول شيءٍ قام به هذا الفاشي المجرم هو بناء أطول جدار سلكي شائك في العالم على الحدود الليبية المصرية، لتنقطع بذلك الإمدادات المصرية إلى المجاهدين في ليبيا، ثم قام مجرم الحرب هذا بإنشاء أكبر معسكر اعتقال في التاريخ، فسجن فيه ما يقرب من نصف عدد الشعب الليبي المسلم، فوضع ثمانين ألف ليبي وليبية في هذا المعسكر الذي كان يتسع أصلًا لعشرة آلاف نسمة فقط، ولم يكتفِ غرتسياني بذلك فحسب، بل وضع مواشيهم وإبلهم في ذلك المعسكر الضيق، فأصبح الناس وكأنهم في يوم الحشر، فمات الليبيون موتًا بطيئًا في محرقة حقيقية يأن لها التاريخ ويندى لها الجبين، ولم يبق من الـ 80 ألف ليبي إلّا 15 ألفًا في حالة يرثى لها من المرض والضعف، قبل أن يقوم غرتسياني بإلقاء نصف طن من القنابل على المسلمين المدنيين في مدينة "الكفرة" الليبية والتي قام فيها دعاة الحرية باغتصاب الفتيات المسلمات بالتناوب بينهم، أما كبار السن من الشيوخ والنساء المدنيين فقد كانوا يُقتادون على متن الطائرات مغلولي الأيدي والأرجل، قبل أن يقوم الطليان بإسقاطهم تباعًا من فوق الطائرات وهم يضحكون قائلين: لا تنسوا أن تطلبوا من نبيكم البدوي محمد أن يبعث لكم بالنجدة! ليتم رمي المسلمين من ارتفاع 400 متر على الصخور الصماء لتتفجر رؤوسهم أمام أعين أطفالهم، لكي يزرع الفاشيون فيهم الرعب والخوف، قبل أن يخطف دعاة حقوق الإنسان الأطفال من بين أحضان أمهاتهم، لإرسالهم إلى الفاتيكان لكي يعمِّدونهم هناك، ليصبح أولئك الأطفال الأبرياء نصاري، قبل أن يرسلهم الصليبيون مرة أخرى إلى ليبيا ليقتلوا آباءهم بأيديهم! ونبقى الآن مع أحد الجنود الإيطاليين الشرفاء يذكر لنا في مذكراته صورًا للإرهاب الإيطالي الذي كان يراه بأم عينه: "وفي يومٍ من الأيام قام بعض الجنود بحرق حيٍ كاملٍ قرب بنك روما في مدينة طرابلس، فذهبت هناك لأجد أمامي الجثث الليبية المحترقة،

هناك وجدت شيخا ليبيًا ما زال على قيد الحياة بالرغم من أن النيران قد نالت من جسمه ما نالت، فلما رآني ذلك الشيخ، مد يده باتجاهي يطلب المساعدة مني، فوجدت راهبًا مسيحيًا يعمل في المستشفى العسكري الإيطالي، فطلبت منه المساعدة لحمل ذلك الليبي إلى المستشفى، فنظر إلى الراهب الكاثوليكي بابتسامة ساخرة وهو يقول لي: لا تقلق كثيرًا على هذا البدوي، سوف أهتم أنا بأمره، اذهب أنت إلى المركز وأبلغ القيادة بأن المهمة تمت بنجاح! فانطلقت إلى المركز لكي أوصل رسالة الكاهن الكاثوليكي وعيناي تراقبان ذلك الليبي الجريح وهو ما يزال رافعًا يده باتجاهي أنا بالذات طالبًا المساعدة، إلا أنني تركته لتنفيذ ذلك الأمر العسكري الذي تلقيته للتو، بعد أن تأكدت أن ذلك الكاهن المسيحي الطيب سوف يقوم بما يلزم لعلاجه. وفعلًا قمت بتنفيذ الأمر العسكري، ثم ذهبت لكي أبيت تلك الليلة في المعسكر الرئيسي للقوات الإيطالية في طرابلس، ولكنني لم أستطع النوم مطلقًا! فلقد كانت صورة ذلك الشيخ الليبي تطاردني كلما أغمضت عيني للنوم، فمنظر يده المرفوعة باتجاهي طالبًا النجدة كان يلاحقني في كل مكان، فقررت حينها أن أذهب بنفسي إلى الحي المحترق في منتصف الليل لأطمئنَّ على ذلك الشيخ، وعندما وصلت هناك كدت أن أفقد عقلي! فلقد وجدت جثة ذلك العربي وقد تفحمت، ويده المتفحمة ما زالت مرفوعةُ كما تركتها، فأجهشت في البكاء بشكل هستيري، وقررت أن أرجع إلى المعسكر لأطلق النار على ذلك الكاهن الكاثوليكي المجرم، ثم أطلق النار على رأسي لأرتاح من عذاب ما أراه من فظائع يومية، إلَا أنني حين أمسكت بالمسدس بيدي تذكرت يد ذلك الليبي المسكين، فقررت أن أنقل جرائم الجيش الفاشي للعالم بأسره، فهربت من الجيش لأفضح أولئك المجرمين في الصحافة! ". الحقيقة أن المرء يشعر بحالةٍ من الغثيان وهو يقرأ مثل هذه القصص المرعبة، ولقد كان لدي فيما وجدته من مراجع ومعلومات الكثير من صور الإرهاب البشع، إلّا أنني آثرت أن أتوقف عن ذكر المزيد منها، لكي لا يصاب القارئ بحالة من الغثيان كتلك التي انتابتني وأنا أكتب هذه الأسطر، ولكي أترك للقارئ قليلًا من الدموع التي قد تلزمه في نهاية هذا الكتاب عندما نأتي على ذكر فظائع محاكم التفتيش الرهيبة!

أما عمر المختار. . . . فقد كان في هذه الأثناء يتنقل مع بقية المجاهدين في صحراء ليبيا الحارقة ينصب فيها الكمائن للجنود الإيطاليين، ليحول ليبيا إلى كتلة من نار تحرق معسكرات إيطاليا الفاشية، موزعًا وقته بين الجهاد وقيام الليل، فكان المختار يختم القرآن مرةً كل أسبوع في نفس أيام القتال، وينام ساعتين أو ثلاث ساعاتٍ على الأكثر، حتى جاء ذلك اليوم الذي باغته فيه كمين إيطالي، ليصاب فيه فرسه، فيسقط عمر المختار على رمال الصحراء، عندها أخذ هذا الشيخ الكبير يزحف على بطنه فوق رمال الصحراء الملتهبة، ليعتقله مرتزقة الطليان، ليسرع غرتسياني ليقابل أسد الصحراء المرعب، الذي لطالما سمع عنه الأساطير، وأترككم هذه المرة مع غرتسياني نفسه يصف تلك المقابلة في كتابه "برقة المهدأة": "وعندما حضر المختار أمام مكتبي كانت يداه مكبلتين بالسلاسل، وبالإجمال يخيل لي أن الذي يقف أمامي رجل ليس كالرجال العاديين، له منظره وهيبته، رغم أنه كان يشعر بمرارة الأسر، ها هو واقف أمام مكتبي أسأله ويجيب بصوت هادئ وواضح: فسألته قائلًا: لماذا حاربت بشدة متواصلة الحكومة الفاشستية؟ (فأجاب الشيخ): من أجل ديني ووطني! فقلت: ما الذي كان في اعتقادك الوصول إليه؟ فأجاب الشيخ: لا شيء إلا طردكم، لأنكم مغتصبون، أما الخرب فهي فرض علينا وما النصر إلا من عند اللَّه. فسألته: لما لك من نفوذ وجاه، في كم يوم يمكنك إن تأمر الثوار البدو بأن يسلموا أسلحتهم؟ يضيف غرتسياني: ما أن سألت المختار هذا السؤال حتى نظر إلي بنظرة أرعبتني وقال لي بثقة غريمة: "إننا لا نستسلم أبدًا. . . . نموت أو ننتصر" ويستطرد غرتسياني حديثه "وعندما وقف ليتهيأ للانصراف كان جبينه وضاءً كأن هالة من نور تحيط به فارتعش قلبي من جلالة الموقف! أنا الجنرال الذي خاض معارك الحروب العالمية والصحراوية ولقبت بأسد الصحراء! ورغم هذا فقد كانت شفتاي ترتعشان ولم أستطع أن أنطق بحرف واحد أمام هذا الرجل! فانهيت المقابلة وأمرت بإرجاعه إلى السجن لتقديمه إلى المحاكمة في المساء".

وتمت محاكمة المختار فعلًا بمحكمةٍ قررت مسبقًا إعدامه، وفي عام 1931 م تم إعدام هذا الشيخ الذي جاوز الخامسة والسبعين من عمره، واستشهد عمر المختار رحمه اللَّه أمام أنظار شعبه، ولكنه كان قد زرع روح الجهاد في قلوب الليبيين قبل رحيله كما زرعها ابن باديس في قلوب الجزائريين قبل رحيله أيضًا، على الرغم من أن أيًا منهما لم يرَ استقلال بلاده الذي جاء نتيجة لجهاده، فرحمك اللَّه يا أسد الصحراء، يا شيخ المجاهدين، يا سيدي عمر المختار! عمر. . . . اسمٌ ارتبط ذكراه في وجدان كل مسلم باسم ثاني أعظم رجل في أمة محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-، هذا الاسم يعشقه المسلمون عشقًا. . . . فهو الاسم الذي ألهم الشعراء وأنصف الفقراء! إيه يا ابن الخطاب!. . . . . . . ها قد وصلنا إلى ذكرك أيها الفاروق! يتبع. . . . . . . .

29 - كاسر ضلع كسرى (عمر بن الخطاب)

" كاسر ضلع كسرى" (عمر بن الخطاب) {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} (اللَّه) فكرت مَليًا وأنا أتأمل هذا الاسم العملاق، ماذا عساني اكتب عن هذا المارد الإسلامي؟! فتذكرت صنيع عمر بن الخطاب نفسه في أول يومٍ أسلم فيه. . . . حينها قام عمر بعملٍ عجيب يرويه هو لنا بنفسه قائلًا: "لمّا أسلمتُ تلك الليلة تذكرت أي أهل مكة أشد لرسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عداوة حتى آتيه فأخبره أني قد أسلمت، قلت: أبو جهل! فأقبلت حين أصبحت، حتى ضربت عليه بابه، فخرج إلي أبو جهل فقال: مرحبا وأهلا يا ابن أختي، ما جاء بك؟ فقلت: جئت لأخبرك أني قد آمنت باللَّه وبرسوله محمد وصدقت بما جاء به! فضرب الباب في وجهي". فكان القرار: لن أكتب شيئًا عن حياة عمر بن الخطاب في هذا الكتاب!!! بل سيكون عمر بن الخطاب هو الوحيد من بين العظماء المائة الذي سوف أفرد له صفحة واحدة فقط! سأكتفي فيها فقط بذكر اسمه! فذكر اسم عمر بن الخطاب يكفي لكي نزلزل به كيان كل كافرٍ ومنافق! فسل أكاسرة فارس من دمر إمبراطوريتكم؟ وسل حكام إيران الحاليين لماذا تحتفلون بيوم مقتله؟ ولماذا تعتبرونه عيدًا رسميًا لدولتكم؟ سلهم لماذا يبنون ضريحًا لقاتله أبي لؤلؤة؟ سلهم من الذي جعل (يزدجرد) طريدًا كالكلب التائه في فيافي آسيا؟ لا أعتقد وقتها أنك ستسمع إجابة منهم، ولكن الشيء الذي أنا متأكد منه، أنك سترى وجوهًا وقد اسودَّت من الغيظ، حينها تذكر قول اللَّه عز وجل: {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ}! وإذا كان أصغر طفلٍ مسلمٍ في أقاصي جزر الفلبين يعرف قصص الفاروق الرائعة في الزهد والبطولة، فمن منّا يعرف قصة عمِّ الفاروق الذي سيبعث يوم القيامة كأمة وحده بين محمد وعيسى؟ يتبع. . . . . .

30 - عملاق التوحيد (زيد بن عمرو)

" عملاق التوحيد" (زيد بن عمرو) " ولقد رأيته في الجنة يسحب ذيولًا" (رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-) قصة بطلنا الحالي تعود إلى العصر الجاهلي، وقتها كانت العرب تتخذ من الأصنام شركاءً للَّه، فصنع بعض العرب آلهتهم من الحجر، وصنعها آخرون من الخشب، ووصل الأمر ببعضهم إلى عبادة آلهةٍ مصنوعةٍ من التمر كانوا يأكلونها في وقت الجوع! ومن بين ركام هذا الوضع الكئيب خرج رجلٌ من قبيلة قريش يقال له (زيد بن عمرو بن نفيل)، هذا الرجل نظر في حال العرب وما يعبدون من أوثان، فلم تستسغ فطرته السليمة هذا الأمر، فتوصل هذا العربي البدوي إلى نظريةٍ علميةٍ لم يتمكن فلاسفة الفرس أو علماء الإغريق من التوصل إليها، هذه النظرية العلمية التي وضعها هذا العبقري العربي من فوق رمال صحراء الجزيرة تسمى بـ "نظرية الشاة لإثبات توحيد اللَّه" وتتلخص هذه النظرية في كلمات بسيطة وجَّهها زيد بن عمرو إلى قومه قائلًا: "الشاة خلقها اللَّه، وأنزل لها من السماء الماء، وأنبت لها من الأرض الكلأ، ثم تذبحونها على غير اسم اللَّه؟! " بالرغم من بساطة هذه النظرية التي توصل إليها هذا العربي من خلال استخدام عقله فقط لتحليل عنصرٍ بسيطٍ من عناصر بيئته البدوية البسيطة، أرى أن هذه النظرية تفوق في أهميتها العلمية التجريبية كل ما كان (أفلاطون) و (أرسطو) و (سقراط) قد توصلوا إليه من نظريات تفسر سر "الوجود الإنساني"، ونحن هنا لا نتحدث عن نبي يوحى إليه بحقيقة الوحدانية، بل نتحدث عن رجلٍ عادي استخدم أهم نعمةٍ للإنسان -العقل- لاستنباط حقيقة الوجود التي شغلت البشر في كل العصور، وما زالت! ولكي نفهم معنى التوحيد الذي توصل إليه بطلنا يجب علينا أن نطلب من بساط التاريخ أن يسافر بنا إلى أعماق الماضي في صحراء العرب، في ذلك الزمان أتى رجلٌ من

"بلاد الرافدين"، وبالتحديد من مدينة "أوردا السومرية يقال له (إبراهيم بن آزر)، فدعى إبراهيم الناس إلى توحيد اللَّه، ليصبح العرب بعد ذلك موحدين، فسُمّي من كانوا على دين إبراهيم بـ "الحنيفيين"، ولكن مع مرور السنين ذهب رجلٌ من قبيلة خزاعة اسمه (عمرو بن لحي الخزاعي) في تجارة للشام، فرأى هناك أناسًا يسجدون للأصنام، فلما أنكر عليهم عبادتهم للأصنام من دون اللَّه قالوا له: إننا لا نعبد الأصنام كحجارةٍ وإنما نتقرب إلى اللَّه بأرواح الأولياء والصالحين التي تسكن بداخل هذه الأصنام، فراق لعمرو هذا التفسير، وطلب منهم أن يعطوه صنمًا، فأعطوه صنمًا يسمونه (هُبل)، فأخذه لقومه ونشر عبادة الأصنام بين العرب. ولنا وقفة بسيطة هنا. . . . كما نرى من هذه القصة أن العرب كانوا يعرفون أن اللَّه هو الخالق، ولكن مشكلتهم كانت تتمثل في كونهم كانوا يتقربون إلى اللَّه بتلك الأصنام! وإذا كنت تستهجن على العرب القدامى عبادتهم للأصنام، فاسأل نفسك أسئلة تعرف أنت وحدك إجابتها: هل تتقرب إلى اللَّه بقبور الأولياء الصالحين كما تقرب العرب إلى اللَّه بالأوثان؟ هل تدعو (السيد البدوي) لكي يزوج لك ابنتك؟ هل تستغيث بـ (المرسي) لكي يفرج عنك الكرب؟ هل تطلب المدد من رسول اللَّه؟ هل تقول (واللَّه) أم تقول (والنبي) عند حلفانك؟! المهم أن زيد بن عمرو أنكر على العرب عبادتهم للأصنام، وأنكر عليهم أيضًا عادة وأد البنات، فكان رحمه اللَّه يذهب إلى الرجل الذي يريد وأد ابنته فيقول له: لا تقتلها واتركها تعيش وأنا أكفيك مؤونتها! ثم بعد ذلك قرر زيد بن عمرو الرحيل إلى الشام لكي يفتش عن دين التوحيد الذي توصل إليه بعقله، وفي الشام لم يقتنع بدين اليهود، ولم يقتنع بدين النصارى أيضًا، ولكن عالمًا من اليهود وآخر من النصارى أخبراه أن دين التوحيد الذي ينشده هو دين إبراهيم الحنيف الذي لم يكن يعبد إلا اللَّه، عندها رفع زيد يديه إلى السماء وقال مناجيًا ربه: اللهم إني أشهدك أني على دين إبراهيم. ثم رجع زيد إلى مكة، فأسند ظهره إلى الكعبة وصاح في الناس: "يا معشر قريش! واللَّه ما منكم على دين إبراهيم غيري" ثم وقف هذا العملاق الإسلامي حائرًا لا يعرف كيف يصلي للَّه، فأخذ يبكي من الحيرة وهو يقول: "اللهم إني لو أعلم أحب الوجوه إليك عبدتك به

ولكني لا أعلم" فيخر ساجدًا أمام الكعبة! وفي يومٍ من الأيام وبينما زيد بن عمرو في بلاد الشام المباركة، جاءه راهب نصراني علم بقصته، فأخبره أن نبيًا سوف يبعث قريبًا من بلاد العرب من ولد (إسماعيل ابن إبراهيم)، فرجع زيد إلى مكة يريد ذلك النبي، العجيب أن زيدًا كان يقابل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قبل البعثة ويخبره بأمره وما هو عليه من دين إبراهيم، ويروي العالم الفلسطيني الجليل الحافظ (ابن حجر العسقلاني) في كتابه الرائع "فتح الباري في شرح صحيح البخاري" روايةً عجيبةً يرويها (عامر بن ربيعة) يقول فيها: "قال لي زيد بن عمرو: إني خالفت قومي، واتبعت ملة إبراهيم وإسماعيل وما كانا يعبدان، وكانا يصليان إلى هذه القبلة، وأنا أنتظر نبيا من بني إسماعيل يبعث، ولا أراني أدركه، وأنا أومن به وأصدقه وأشهد أنه نبي، وإن طالت بك حياة فأقره مني السلام! قال عامر: فلما أسلمت أعلمت النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بخبره قال: فرد عليه السلام وترَّحم عليه، وقال عليه الصلاة والسلام: ولقد رأيته في الجنة يسحب ذيولا". ثم خرج زيد بن عمرو إلى الشام مرة أخرى، فوجده أحد الرهبان النصارى وأخبره بأن نبي آخر الزمان الذي ينتظره قد ظهر بالفعل، فلم يصدق زيد ابن عمرو نفسه من شدة الفرح، فأسرع نحو مكة يريد ذلك النبي الذي عاش طيلة حياته يتمنى رؤيته وهو لا يعلم أنه هو نفسه محمد بن عبد اللَّه، ذلك الشاب الذي كان يقابله في شوارع مكة! وبينما زيد في طريقه إلى مكة فرحًا مسرورًا، حدثت المأساة! فقد هجم عليه مجموعة من قطاع الطرق فقتلوه، فسالت الدماء منه كالشلال المتدفق، فلمّا أدرك أنه أصيب في مقتل، نظر عملاق التوحيد زيد بن عمرو بن نفيل إلى السماء وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة، فدعى ربه دعاءً عجيبًا ما سمعت الأرض مثله من قبل، هذا الدعاء كان له أكبر الأثر في ميلاد عظيمٍ من أهم عشرة عظماء في تاريخ أمة محمد بن عبد اللَّه! فما هو سر ذلك الدعاء العجيب؟ ومن هم أولئك العشرة الذين يُعتبرون أعظم عشرة رجال في تاريخ الإنسانية جمعاء بعد الأنبياء؟ وما هي حكاية ذلك الصحابي البطل الذي كان قائد فرسان المسلمين في معركة "أجنادين" المجيدة؟ يتبع. . . . . .

31 - قائد سلاح الفرسان الإسلامي (سعيد بن يزيد)

" قائد سلاح الفرسان الإسلامي" (سعيد بن يزيد) " أبو بكر في الجنة وعمرُ في الجنة وعثمانُ في الجنة وعليٌ في الجنة وطلحةُ بن عبيدِ اللَّه في الجنة والزبيرُ بنُ العوامِ في الجنة وأبو عبيدةُ عامرُ بنُ الجراحِ في الجنة وسعدُ ابن أبي وقاصٍ في الجنة وسعيد بن زَيدٍ في الجنة وعبد الرحمنِ بنُ عوفٍ في الجنة" (رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-) ما عرفت إنسانًا عاديًا في تاريخ الدنيا نفع ابنًا له بدعاءٍ بمثل ما نفع به زيد بن عمرو ابنه سعيدًا! فأن يدعو لك أبوك ربَّه في أمر من أمور الدنيا أو الآخرة فهذا شيءٌ جميل، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: إن كان ذلك الأب يمتلك في رصيده الإيماني ما يؤهله لكي يكون مستجابَ الدعوة كزيد بن عمرو! عندها يُطرح سؤالٌ آخر: ما هو الشيء الذي تعتقد أنه سيشغل تفكيرك وأنت على فراش الموت لكي توصي به أولادك وتدعو به ربك؟ لا شك أن الشيء الذي سيدور في ذهنك وأنت تموت هو نفس الشيء الذي كان يدور في ذهنك وأنت تعيش! فإن كنت قد عشت حياتك في جمع المال وكنزه، فلا شك أنك ستفكر بتلك الدراهم التي جمعتها طيلة حياتك، وكيف أن أولادك سينفقونها في ملذاتهم بعد دفنك أنت تحت التراب! وإن كنت مغرمًا في حياتك بالفن السابع ومشاهدة المسلسلات على الشاشة الصغيرة، فإنك حتمًا ستتذكر وقتَ موتك بطلة مسلسلك الجميلة وهي تودع حبيبها في الحلقة الأخيرة! أما في حالة زيد بن عمرو بن نفيل رحمه اللَّه فقد كان الوضع مختلفًا تمامًا! فقد كان ما يشغل كيان هذا الرجل في حياته هو البحث عن توحيد اللَّه، لذلك رفع زيد يده إلى السماء والدماء تسيل منه داعيًا ربه: "اللهم إن كُنتَ حرمتَني من هذا الخير فلا تحرم منه ابني سعيدًا" وفعلًا، استجاب اللَّه لدعائه، فلم يُسلم سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل فحسب، بل كان سعيدٌ سعيدًا بأن جعله اللَّه أحد أسعدِ عشرة سعداءٍ في تاريخ أمة محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-! ولك أن

تعلم أن أولئك العشرة هم أفضل بني البشر بعد الأنبياء مباشرة! هل علمت الآن ما صنعه دعاء زيدٍ الأب لسعيدٍ الابن؟ ولكن سعيدًا لم يكتفِ بكونه ابن عملاق التوحيد في الجاهلية زيد بن عمرو ابن نفيل، ولم يكتفِ بكونه من بين عشرة رجالٍ فيهم أبو بكر وابن عمه الخطاب وذو النورين عثمان بن عفان والبطل علي بن أبي طالب وطلحة الخير وابن عمة رسول اللَّه الزبير بن العوام وأمين هذه الأمة أبو عبيدة عامر بن الجراح وخال رسول اللَّه سعد بن وقاص والبطل الإسلامي عبد الرحمن بن عوف، بل اختار رضي اللَّه عنه وأرضاه أن يكون أحد أبطال هذه الأمة الذين فتح اللَّه عز وجل عليهم ممالك الأرض وخزائنها، فكان سعيد بن زيد قائد سلاح الفرسان في معركة "أجنادين" الباسلة، أمّا في "اليرموك" فقد كان هذا البطل من بين البدريين المائة الذين فتح اللَّه عليهم بلاد الشام، ولنبقى قليلًا مع سعيد بن زيد رضي اللَّه عنه وأرضاه ليصف لنا يوم اليرموك والجيش الرومي بنفسه: "سار الروم أمامهم الأساقفة والبطاركة والقسيسون يحملون الصلبان وهم يجهرون بالصلوات فيرددها الجيش من ورائهم وله هزيم كهزيم الرعد، فلما رآهم المسلمون على حالهم هذه هالتهم كثرتهم وخالط قلوبهم شيء من خوفهم، عندها قام أبو عبيدة بن الجراح يصيح بأعلى صوته بالمسلمين: يا عباد اللَّه. . . . إن تنصروا اللَّه ينصركم ويثبت أقدامكم، اصبروا عباد اللَّه، فإن الصبر منجاة من الكفر، ولا تتكلموا إلا بذكر اللَّه عز وجل، وارفعوا الرماح، وتترسوا بالدروع، حتى آمركم إن شاء اللَّه تعالى، عند ذلك خرج جندي من صفوف المسلمين وقال لأبي عبيدة: يا أبا عبيدة. . . . يا أبا عبيدة. . . . . إني قد أزمعت على الشهادة، فهل لك من رسالة تبعث بها إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-؟ فبكى أبو عبيدة عند سماعه ذلك وقال له والدموع تبلل لحيته: نعم. إذا لقيت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فأقرئه مني ومن المسلمين السلام، وقل له: يا رسول اللَّه. . . . . جزاك اللَّه عنا كل خير، إنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقًّا يقول سعيد بن زيد: فما إن سمعت كلامه ورأيته يمتشق حسامه ويمضي إلى لقاء أعداء اللَّه حتى قفزت من على فرسي، واقتحمت إلى الأرض، وجثوت على ركبتي،

وأشرعت رمحي، وطعنت أول فارس أقبل علينا فقتلته، ثم وثبت على العدو وقد انتزع اللَّه كل ما في قلبي من الخوف، فثار الناس في وجوه الروم، وما زالوا يقاتلونهم حتى كتب اللَّه للمؤمنين النصر". واللَّه إن الإنسان لتأخذه الرعدة وهو يستمع لمثل هذه الحكايات عن أولئك الأبطال الذين ما عرف تاريخ البشر زجالًا مثلهم أبدأ، فلقد انتصرت كتائب النور الإسلامية بفضل رجالٍ من أمثال سعيد بن زيد بن عمرو رضي اللَّه عنه وعن أبيه على إمبراطورية الروم الجبارة في كل المعارك التي خاضوها ضدهم، فجزى اللَّه سعيدًا كل خير عن المسلمين عامة وعن أهل "دمشق" خاصةُ، هذه المدينة الإسلامية العظيمة التي كان هو أول أمير إسلامي لها في تاريخها، قبل أن يعتذر هذا المجاهد العظيم لأبي عبيدة عن الإمارة، بعد أن اشتاق للجهاد مرة أخرى، ليترك هذا البطل بن البطل كرسي الإمارة ليتحول إلى جنديٍ بسيط في جيش المجاهدين العرب المسلمين، ليعلن للدنيا بان كتائب النور الإسلامية جاءت لتحرير بني الإنسان! وإن كنا قد تحدثنا عن عمِّ وابن عمِّ عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنهم أجمعين، فقد جاء الوقت لكي نذكر أخًا للفاروق ذا حظٍ عظيم بين عظماء أمة الإسلام المائة، فمن يا ترى يكون ابن الخطاب الذي لم يكن عمرًا؟ وما هي حكاية عمليته الفدائية في "حديقة الموت" يوم "اليمامة"؟ ولماذا كان المارد العملاق عمر ابن الخطاب يجهش في البكاء كالطفل كلما تذكره؟ وكيف قتل هذا العملاقُ الإسلامي العظيم خائنًا كان أشد خطرًا على الإسلام من (مسيلمة الكذاب) نفسه؟ وما هي حكاية حروب الردة؟ وهل ارتدت العرب فقط من أجل رفضهم دفع الأموال كما تعلمنا في مدارسنا؟! يتبع. . . . . .

32 - صقر اليمامة (زيد بن الخطاب)

" صقر اليمامة" (زيد بن الخطاب) " ما هبّت الصبا، إلا وجدت منها ريح زيد" (عمر بن الخطاب) ما أروعها من كلمات هذه التي تخترق الصدر لتسكن سؤدد القلب! كلمات خرجت من وجدان عملاقٍ اسمه عمر بن الخطاب، لتحوله إلى طفل صغير يجهش في البكاء طلبًا لحنان أخيه الكبير! كلمات يتذكر المرء فيها لأول مرة أن هذا المارد الضخم الذي دكَّ حصون كسرى وقيصر كان طفلًا في يومٍ من الأيام! نعم. . . . حتى عمر بن الخطاب كان طفلًا يومًا ما!! ولعل ذلك الطفل بقي حيًا أسيرًا بين ضلوعه لا يجد مكانًا له في حياة هذا العملاق، إلّا في هذه اللحظة الذي يتذكر فيها أخاه الكبير! عندها يخرج هذا الطفل من بين ضلوعه وينادي بأعلى صوته بكلمات اختلطت فيها دموع عينه بحشرجات صدره: "أين أنت يا زيد؟ أين أنت يا أخي؟ ". وواللَّه إن المرء ليستشعر من بين أحرف تلك الكلمات البليغة أيامَ الصبا التي تحدث عنها عمر، وياللعجب! فما كنت أتخيل يومًا أنني عندما أرسم صورة في مخيلتي للمارد عمر بن الخطاب فإنني سأراه فيها طفلًا صغيرًا! ولعمري إني لأرى عمرًا وهو طفلٌ صغيرٌ يسابق أخاه زيدًا الخطى في مراعي مكة وشمس الأصيل تتهادى عليهما في الأفق، حينها كان الأخ الكبير زيدٌ يبطئ من سرعته لكي يتسنى لأخيه الصغير عمر أن يسبقه، ولعلك كنت تعلم وقتها يا عمر بحيلة أخيك تلك، كنت تعلم يا عمر في قرارة نفسك أنه كان يسبقك دائمًا، ولكنك لم تكن تعلم حينها بأنه سيسبقك إلى الإسلام، وسيسبقك إلى الشهادة! أعلم أن المفترض لهذا الكتاب التاريخي أن يبتعد عن العاطفة في سرده للوقائع التاريخية، وأنه يتوجب على كاتبه أن يعتمد في كتابته على الحقائق التاريخية المجردة من

أي شكلٍ من أشكال العواطف الإنسانية، إلا أن عظيمنا الإسلامي الذي نحن في صدد الحديث عنه ليس رجلًا كباقي الرجال، بل هو نوعٌ خاصٌ من البشر الذين لا يمكن لك أن تفصل ذكر العاطفة عنهم أبدًا، كيف لا وعمر بن الخطاب نفسه تمنى أن لو كان بمقدوره نظم الشعر لكي يرثيه به! والحق أقول أنني كنت استغرب في البداية عن سر ضعف الفاروق كلمّا جاء ذكر أخيه زيد، وربما اعتقدت حينها أنها مجرد عاطفةٍ أخ لأخيه، وهذا جزء من الحقيقة لا أنكره، ولكنني عندما قرأت ترجمة هذا الإنسان العظيم فهمت سر ضعف الفاروق، فنحن في صدد ذكر بطل نادرٍ من أبطال أمة الإسلام. . . . . إنه الفدائي البطل زيد بن الخطاب رضي اللَّه عنه وأرضاه. البداية كانت في بيت الخطاب بن نفيل بن عمرو، في هذا البيت نشأ زيد مع أخيه عمر تنشأة عربية صلبة، ليشاء اللَّه أن يسلم زيد قبل أخيه عمر، وفي معركة أحُد رأى عمر أن درع أخيه الكبير زيد قد سقطت منه وهو يقتحم صفوف المشركين اقتحام الأسود، فخاف عليه من أسنة الرماح، فخلع درعه من على صدره وصاح بأخيه: # يا زيد. . . . يا أخي. . . . خذ درعي فقاتل بها" فنظر إليه أخوه الكبير وهو يبتسم وقال له: "اني أريد من الشهادة مثل ما تريد يا عمر" عندها رمى عمر الدرع على الأرض وصار الاثنان يقاتلان الأعداء من دون أي دروع تحمي صدورهم! وبعد أن مات رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ارتدت كثيرٌ من القبائل العربية التي لم تكن متعودةً على الوحدة، واعتبرت أن مشروع الوحدة قد انتهى بانتهاء حياة الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-، فمنهم من ادعى النبوة، ومنهم من أراد تقليل عدد الصلوات، ومنهم من رفض دفع الزكاة، فقام الصدِّيق بإرسال الجيوش تلو الجيوش إلى أصقاع الجزيرة العربية لمحاربة جيوش المرتدين. وهنا لنا وقفة قصيرة مع حروب الردة. . . . . فهل كانت هذه الحروب من أجل أموال الزكاة أو كما يصورها بعض المستشرقين وأتباعهم من المنافقين من أجل الضريبة المالية؟ الحقيقة أن الإسلام أصبح بعد وفاة النبي على مفترق طرق، فإما أن يرضى المسلمون بإسقاط ركن من أركان الإسلام، فيكون مقدمة للمساومة التي ستسقط فيما

بعد أركان الصلاة والحج والصوم بل وحتى الشهادتين، وإمّا مقاتلة أولئك المرتدين، أما العامل الاقتصادي فلم يكن أبدًا في الحسبان، بل لقد مات أغلب الصحابة وهم فقراء، وإنما ركز المستشرقون على السبب الاقتصادي بالتحديد لكي يشوِّهوا صورة الإسلام ويصورونه على أنه دينٌ مادي بحت! وإذا جاء ذكر المرتدين جاء ذكر عدو اللَّه (مسيلمة الكذاب)، فلقد ظهر جنون هذا الرجل مبكرًا حتى قبل وفاة الرسول محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقد بعث هذا الأبله الكذاب رسالة إلى رسول اللَّه يقول فيها: "من مسيلمة رسول اللَّه إلى محمد رسول اللَّه، إني قد أُشركت في الأمر معك، فلنا نصف الأرض، ولكم نصف الأرض، أو تجعل لي الأمر من بعدك، ولكني أعلم أن قريشًا قوم لا يعدلون". فرد عليه أفصح إنسانٍ عرفته البشرية برسالةٍ قصيرةٍ يقول فيها: "مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ إِلَى مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ، السَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى، إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ" فادعى مسيلمة الكذاب النبوة وتبعه نفر من قومه، ولكن الغالبية من أهل اليمامة لم تصدقه، حتى حدث أمر خطير غيَّر من موازين القوى، فلقد ظهرت شخصية خطيرة، هي شخصية المجرم (الرجَّال بن عنفوة)! والحكاية تبدأ عندما ذهب الرجَّال ذات يوم الى الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- مبايعًا ومسلمًا، فلما تلقّى منه الاسلام عاد الى قومه، ولم يرجع الى المدينة الا إثر وفاة الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- واختيار الصدّيق خليفة على المسملين، فنقل إلى أبي بكر أخبار أهل اليمامة والتفافهم حول مسيلمة، واقترح على الصديق أن يكون مبعوثه اليهم ليثبّتهم على الإسلام، فأذن له الخليفة، فتوجّه الرّجّال الى أهل اليمامة بتفويضٍ شخصي من الخليفة الإسلامي، فحدّثته نفسه الغادرة أن يحتجز له مكانا في دولة الكذّاب التي ظنّها مقبلة، وانتظر أهل اليمامة ما ستسفر عنه المفاوضات بين الرجّال رسول أبي بكر من جهة ومسيلمة الكذاب من جهة أخرى، فخرج الرجّال على أهل اليمامة وجمع الناس له ثم سار بين الناس يقول لهم إنه سمع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: أنه أشرك مسيلمة بن حبيب في الأمر! وما دام الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- قد مات، فأحق الناس بحمل راية النبوّة والوحي بعده، هو مسيلمة! فارتد جُل أهل اليمامة بسبب هذا المجرم، وتم قتل من بقي من المسلمين على

دينه، فكان خطر الرّجّال على الاسلام أشدّ من خطر مسيلمة ذاته، ذلك لأنه استغلّ إسلامه السابق، والفترة التي عاشها بالمدينة أيام الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-، وحفظه لآيات من القرآن، وسفارته لأبي بكر خليفة المسلمين، فزادت بذلك أعين الملتفين حول مسيلمة زيادة طافحة بسبب أكاذيب الرّجّال هذا. وكانت أنباء هذا الأفّاق المجرم تبلغ المدينة، فيتحرّق المسلمون غيظا من هذا المرتدّ الذي أضلَّ الناس ضلالًا بعيدًا، وكان أكثر المسلمين تغيّظا وتحرّقا للقاء الرّجّال بطل قصتنا الصحابي الجليل زيد بن الخطّاب رضي اللَّه عنه وأرضاه، فكلفه أبو بكر الصديق إمارة الجيش المتوجه إلى اليمامة، فاعتذر زيد رضي اللَّه عنه وأرضاه عن قبول الإمارة، وقال لأبي بكر أن الأمير لا ينبغي له أن يُقتل، وهذا شيءٌ لا يريده، فهو يريد الشهادة! وفعلًا توجه البطل زيد بن الخطاب رضي اللَّه عنه وأرضاه نحو اليمامة، وصورة ذلك المجرم الرجَّال لا تفارقه، حتى وصلت كتائب النور المحمدية إلى أعتاب اليمامة، فاتحد جيش (عكرمة بن أبي جهل) وجيش (شرحبيل بن حسنة) مع الجيش الإسلامي الموحد تحت إمرة القائد العام للقوات الإسلامية المجاهدة (خالد بن الوليد)،، فاختار المسلمون المارد الإسلامي العظيم زيد ابن الخطاب لتكون له مهمة حمل راية المسلمين. وبدأت معركة اليمامة الأسطورية. . . . . . وتجمع 100 ألفٍ من المرتدين أمام 21 ألف من المسلمين، واشتبك الطرفان، وقاتل المرتدون بشراسة، فكان أول من أصيب في المعركة الصحابي الجليل (أبو عقيلٍ الأنصاري) -رضي اللَّه عنه- بسهمٍ في كتفه شلَّ حركته، فوقف هذا الأنصاري البطل على قدميه ليسحب السهم من كتفه، فسالت دماؤه كشلال متفجر، فحمله (عبد اللَّه بن عمر) -رضي اللَّه عنهما- إلى خيمة العلاج مغشيًا عليه، وفي هذه الأثناء دارت رحى المعركة لصالح المرتدين، فارتفع نداءٌ من بين قعقعة السيوف: يا أنصار رسول اللَّه. . . . يا معاشر الأنصار. . . . اللَّه اللَّه. . . . والكرة على عدوكم. عندها فتح أبو عقيل عينيه وكأن زلزالًا أصابه، فتحامل على ساقيه يريد الوقوف والوصول إلى سيفه، فقال له الصحابي الجليل عبد اللَّه بن عمر: ماذا تريد يا أبا عقيل؟! فقال له أبو عقيل: ألم تسمع المنادي ينادي باسمي؟!! فقال عبد اللَّه: إنما يقول يا أهل الانصار ولا يعني الجرحى، فقال أبو عقيل: أنا من الانصار وأنا أجيبه

واللَّه ولو حبْوًا! فتحزم أبو عقيل وأخذ السيف بيده اليمنى وخرج وهو ينادي بصوت كالرعد: يا أهل الانصار كرة كيوم حُنين وجعل يصيح بهم ويضرب من رأي من الكفار بسيفه، فقطعت يده المجروحة واستشهد رحمه اللَّه. وأصبح المسلمون قاب قوسين أو أدنى من الهزيمة، عندها صاح حامل راية الإسلام زيد بن الخطاب رضي اللَّه عنه وأرضاه بالمسلمين بأعلى صوته: "أيها الناس. . . . عضوا على أضراسكم، واضربوا في عدوّكم، وامضوا قدما. . وواللَّه لا أتكلم حتى يهزمهم اللَّه، أو ألقاه سبحانه فأكلمه بحجتي" وفعلًا لم يفتح زيد فمه طيلة المعركة، بل أخذ يتلفت كالصقر يمينًا وشمالًا، باحثا عن الخائن الأعظم الرجّال بن عنفوة حتى أبصره، وهناك راح يأتيه من يمين، ومن شمال، وكلما ابتلع طوفان المعركة غريمه وأخفاه، غاص زيد وراءه حتى يدفعه الموج الى السطح من جديد، فأقدم زيدٌ عليه يسرع الخطى، فتقدم حُراسه المرتدون يحاولون صدَّ هجومه، ولم يعلم أولئك المساكين أنهم أمام ابن من أبناء الخطاب، فقام هذا المارد الخطابي بدك جماجمهم دكًا، حتى وصل إلى المطلوب الأول لدولة الخلافة الإسلامية الخائن القذر الرجّال بن عنفوة، ليضربه ضربةً بحسامه شقت رأسه إلى نصفين، فأراد زيد أن يكبر، إلا أنه عاهد اللَّه على ألّا يتكلم حتى ينتصر أو يستشهد، فكبر في قلبه، وكبر المسلمون في عنان السماء بعد رؤيتهم لعدو اللَّه وقد انفلق رأسه بضربة هذا المارد الإسلامي العظيم، ثم أخذ زيد يقاتل أعداء اللَّه، وقد دارت رحى المعركة بفضله لصالح المسلمين، هنالك وقد رأي زيد رياح النصر مقبلة، تمنّى لو يرزقه اللَّه الشهادة في يومه هذا، فهبّت رياح الجنة، فملأت نفسه شوقا، ومآقيه دموعا، فراح يضرب ضرب الباحث عن الشهادة، حتى انقضت عليه كتيبة كاملة من المرتدين بسيوفها ورماحها تمزق جسده تمزيقًا وهو لا يتأوه أو يفتح فمه بارًا بقسمه، ليسقط هذا البطل شهيدًا، فنادي خالدُ بن الوليد في الموحدين بأعلى صوته: وامُحَمدّاه. . . وامُحَمدّاه. . . وامُحَمدّاه. . . وامُحَمدّاه عندها ألقى اللَّه الرعب في قلب مسيلمة الكذاب، فهرب إلى حصن له سمي فيما بعد بـ "حديقة الموت"، فتبعته فلول المرتدين القهقرة، وأغلقوا على أنفسهم ذلك الحصن، فقام الصحابي الفدائي (البراء بن مالك) رضي اللَّه عنه وأرضاه، فقال للمسلمين

المتحصنين خارج الحديقة: "يا معشر المسلمين، احملوني وألقوني عليهم في الحديقة"، وفعلًا تسلق هذا الفدائي السور وألقى بنفسه في الحديقة، فانقض عليه عشرات المرتدين يطعنونه بسيوفهم وهو يزحف والدماء تسيل منه نحو البوابة حتى فتحها، فاندفع المسلمون في حديقة الموت كالسيل الجارف يقتلون أعداء اللَّه قتلًا، ومن على بعد مسافة كبيرة، لاحظ الصحابي الجليل (وحشي بن حرب) رضي اللَّه عنه وأرضاه مسيلمة الكذاب يختبئ بين جنوده، فأراد وحشي أن يكفر عن ذنبه أيام جاهليته حينما قتل سيد الشهداء (حمزة بن عبد المطلب)، فقرر قتل أكذب كذابي الأرض مسيلمة الكذاب، فعالجه بضربة رمح ثاقبة، فثقب بها صدر مسيلمة، ليذهب ذلك الكذاب إلى مزبلة التاريخ على يد وحشي جزاه اللَّه خيرًا، لينتصر فدائيو الإسلام في هذه المعركة المجيدة. وفي المدينة استقبلت كتائب النصر بالتكبير والتهليل، إلا أن عمر بن الخطاب كان يترقب الجنود العائدين يحاول أن يلمح ماردًا طويل القامة بين صفوفهم، ولكن دون جدوى، عندها اغرورقت عينا الفاروق بالدموع وهو يقول: "رحم اللَّه زيدًا، سبقني إلى الحسنيين، أسلم قبلي، واستشهد قبلي! ليظل زيد حيًا في قلب أخيه الصغير، وحتى بعد أن انتصر على الفرس في القادسية وعلى الروم في اليرموك فإن خيال حبيبه زيد لم يفارق فؤاده أبدًا فكان يقول دائمًا: "ما هبّت الصبا. . . . إلا وجدت منها ريح زيد! ". الغريب في الأمر أن الناس في منطقة في "نجد" انبهروا جدًا ببطولة زيد بن الخطاب، فصاروا يأتون إلى قبره طلبًا لزيارته والترحم عليه في أول الأمر، ثم تطور الأمر بعد ذلك إلى التبرك بالقبر، وسنة بعد سنة أصبح الوضع خطيرًا للغاية، لدرجةٍ أن الناسَ باتوا يطوفون حول القبر ويذبحون عنده النذور ويطلبون من صاحب القبر أمور دنياهم وآخرتهم! واستمر الوضع كذلك حتى خرج من بين كثبان صحراء نجد عظيمٌ جديدٌ من عظماء هذه الأمة، ليجدد لها دينها بدعوته إلى التوحيد، ليصبح اسمه اسمًا مرعبًا لكل صاحب بدعةٍ إلى يوم الناس هذا! يتبع. . . . . .

33 - آريوس أمة محمد (محمد بن عبد الوهاب)

" آريوس أمة محمد" (محمد بن عبد الوهّاب) " إن الذي أدعو إليه هو دين اللَّه، فلا يُدعى إلا اللَّه، ولا يُنذر إلا للَّه، ولا يُذبح القربان إلا للَّه" (محمد بن عبد الوهّاب) "ولم تذهب صيحة ابن عبد الوهاب عبثا في الجزيرة العربية ولا في أرجاء العالم الإسلامي من مشرقة إلى مغربه، وسرت تعاليمه إلى الهند والعراق والسودان وغيرها من الأقطار النائية، وأدرك المسلمين أن علة الهزائم التى تعاقبت عليهم إنما هي في ترك الدين لا في الدين نفسه. وأنهم خلفاء أن يستردوا ما فاتهم من القوة والمنعة باجتناب الباع، والعودة إلى دين السلف الصالح في جوهره ولبابه" (العقاد) الوهّابية! الوهّابي!! الوهّابيون!!! مصطلحاتٌ باتت تتكرر كثيرًا في السنوات الأخيرة، ما بين مهاجم ومدافع، ما بين محلل ومحذر، فأفردت الصحف الكبرى صفحاتها لمناقشة هذه الظاهرة، ظاهرة "المد الوهّابي"! وحفز الكتّاب أقلامهم يحللون هذه الظاهرة التي باتت تنتشر انتشارًا واسعًا بين الشباب، والغريب في الأمر أن بعض المحسوبين على علماء الدين أصبح لا هم لهم في الدنيا إلا المشاركة في البرامج الحوارية، لا لتفسير آيات اللَّه، بل لتحذير الناس من خطر هذا (الفكر المستورد) والذي يمثل (خطرًا) على الإسلام يفوق خطر جحافل التتار التي دمرت الأخضر واليابس! ولكن الشيء الذي يدعو للسخرية أن أَيًّا من هؤلاء لم يشرح لنا ما هي الوهابية، بل إن الأمر الهزلي الأكثر مدعاة للسخرية هو أن الوهابية التي تشغل عليهم حياتهم ما هي إلّا شيءٌ وهمي لا وجود له على الإطلاق!!! ولأن الحديث ذو شجون، أتذكر زميلًا لي من أرض العراق اسمه عمر (عرفت فيما

بعد أن اسمه الحقيقي هو حيّاوي!)، هذا الزميل الشيعي لم يكن له همٌ في الحياة إلا تحذيري من خطر الوهابية، بل إنه تطوع لكي يحذر بعض الرفاق الأوروبيين بلغته الإنجليزية الركيكة من خطر (الوهّابزم) (Wahhabism) حتى صار يكرر ذلك التحذير عليهم لدرجةٍ جعلتني أناديه باسم (عمر وهّابزم)! وصدق الشاعر إذ قال: وإذا أراد اللَّه نشر فضيلة ... طُويت أتاح لها لسان حسود لولا اشتعال النار فيما جاورت ... ما كان يُعرف طيبُ عَرف العود فلقد دفعني عمر وهّابزم أو حيّاوي وهّابزم أيًا كان اسمه إلى أن أفتش في صفحات خلت من التاريخ، علّي أجد شرحًا وافيًا لهذه الظاهرة التي شغلت بال الناس في السنوات الأخيرة، ولأن الحكم على الشيء فرعٌ عن تصوره، فإننا لا نستطيع أن نحكم على إنسانٍ إلّا من خلال أعماله أو أقواله، لا من خلال ما يقال عنه من أعدائه أو حتى من أصدقائه، فالوهابية تنسب أساسًا إلى رجلٍ من صحراء نجد السمه الشيخ محمد ابن عبد الوهاب التميمي، والذي وُلد سنة 1703 م وتوفي سنة 1792 م، هذا الرجل حفظ كتاب اللَّه صغيرًا وتعلم على أيدي علماء مكة والمدينة، قبل أن يرحل إلى البصرة لينهل من علمائها أحاديث رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وبعد تنقلاته العديدة بين صحاري نجد والحجاز والعراق، وفي سن التاسعة عشرة قرر هذا الشاب أن يجهر بدعوةٍ عجيبة، لقد قرر محمد ابن عبد الوهاب أن يجهر بدعوة التوحيد! وقد يعجب المرء من أمر هذا الشاب الصغير الذي يدعو إلى توحيد اللَّه تعالى بعد أكثر من اثني أحد عشر قرنًا من وفاة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وأين؟! في مهبط الوحي في الجزيرة العربية نفسها!!! فإذا كنت تعتقد أن التوحيد هو مجرد نطقك لشهادة أن لا إله إلا اللَّه فأنت واهمٌ! ولكي نفهم ذلك أكثر فإنه يجب علينا أن نبحر بها من جديد عبر بوّابة الزمن لكي نرى حال الأمة الإسلامية في أواخر القرن الثاني عشر الهجري، الموافق الثامن عشر الميلادي: الخلافة العثمانية والتي كانت تحكم أغلب ديار الإسلام كانت قد دخلت في طورٍ من

الضعف بعد سليمان القانوني رحمه اللَّه، فانشغل العثمانيون في الدفاع عن أراضي المسلمين في أوروبا في ظل هجمات متكررة من روسيا القيصرية في الشرق وفرنسا من الغرب. في نجد مسقط رأس محمد بن عبد الوهاب كان الناس يحجّون إلى قبر زيد ابن الخطاب رضي اللَّه عنه وأرضاه ويدعونه لتفريج الكرب، وكشف النوب، وقضاء الحاجات، وكانت هناك شجرةً اسمها "شجرة الذئب" يتبرك بها الناس، فيطوفون حولها، ويأمها النساء ليعلقن عليها الخرق البالية لكي يسلم أولادهن من الموت والحسد، والرجل الفقير يذهب إلى تلك الشجرة لكي ينال الرزق، والمريض يذهب إليها لتشفيه! في الحجاز كان المسلمون يصلون في مسجد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أربع مراتٍ عند وقت كل صلاة، فأتباع المذهب الحنبلي لا يصلون خلف إمامٍ شافعي، وأتباع المالكية لا يصلون خلف إمامٍ يتبع مذهب أبي حنيفة وهكذا، أما في مكة مسقط الوحي فقد كان الناس يطوفون حول قبور الصحابة! في مصر انتشرت الطرق الصوفية المختلفة، وتدافعت القوافل من مختلف أصقاع أرض الكنانة إلى مدينة "طنطا" لتحج إلى قبر السيد البدوي كل عام، داعين البدوي لتفريج الهم، وزيادة الرزق! وأصبحت القبور مكانًا يتكسب منه الدجالون، فانهالت عليهم أموال النذر، وأصبحت الموالد مكانًا خصبًا لطالبي الزنى ومتعاطي المخدرات، وشاع السحر والشعوذة أرجاء مصر! في العراق عُبد الحسين من دون اللَّه! وأصبحت النجف مكانًا لعبّاد القبور والأضرحة، وأصبحت المناسبات الدينية موسمًا لطالبي المتعة الجنسية، فاندفع شباب الشيعة في طرقات الأضرحة الضيقة كل منهم يريد نصيبه من الرذيلة والفاحشة، أما أهل السنة فصاروا يتبركون بقبر أبي حنيفة النعمان في بغداد! في المغرب لم يكن الوضع في المغرب أفضل بكثيرٍ من المشرق، فقد كان الناس يدعون السيد عبد القادر الجيلاني من دون اللَّه، وانتشرت الموالد والبدع، وقدم الناس النذور لشيوخ الطرق الصوفية! الخلاصة أن العالم الإسلامي كان في صورة لا يحسد عليها، صورها المؤرخ الأمريكي (لوتروب ستودارد) بقوله: "في القرن الثامن عشر كان العالم الإسلامي قد بلغ

من الانحطاط أعظم مبلغ، فقد ألبست الوحدانية التي علمها صاحب الرسالة الناس ثوبًا من الخرافات وقشور الصوفية، وخرج الناس من مكان إلى مكان يحملون في أعناقهم التمائم والتعاويذ والسبحات، وانتشر الحج إلى قبور الأولياء، فلو عاد صاحب الرسالة إلى الأرض في ذلك العصر ورأى ما كان يُدعى الإسلام لغضب! " وفي ظل هذا الجو القاتم ظهر من صحراء نجد الشيخ محمد بن عبد الوهاب، فدعا الناس إلى ترك هذه الخزعبلات والرجوع إلى الإسلام الصحيح -إلى التوحيد- وأوضح لهم أنه لا يكفي المسلم أن يقول عن نفسه موحدًا للَّه من دون أن يُعكس ذلك على أفعاله وأقواله! وقد علم الشيخ ابن عبد الوهاب أن أغلب زوّار القبور والأضرحة وحتى الذين يدعون الأموات يدركون أن اللَّه واحدٌ، وهم إنما يذهبون إلى قبور الأولياء الصالحين طلبًا للبركة التي تقربهم إلى اللَّه! فقام الشيخ محمد بن عبد الوهاب بتوضيح معنى التوحيد لهؤلاء المساكين بأن اللَّه لا يحتاج إلى واسطة في دعائه! فلقد طلب اللَّه من رسوله الكريم أن يبين للناس ما قد سألوه من أمور مختلفة بقوله (قل) أي قل يا محمد، فقال اللَّه عز وجل في كتابه الكريم: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى} [البقرة: 222]. {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ} [البقرة: 220]. {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189]. ولم يستثنِ اللَّه من ذلك إلا حالة واحدة، هي حالة الدعاء! فقد قال اللَّه في الآية السادسة والثمانين بعد المائة من سورة البقرة: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}. وأوضح الشيخ لهم أن اللَّه لم يقل "فقل إني قريب"! فليس هناك واسطةٍ بين دعاء العبد وربه حتى ولو كان صاحب هذه الواسطة هو رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ثم بين لهم الشيخ ابن عبدالوهاب أنه لا يجوز أبدًا دعاء الأموات، وذكر لهم ما قاله اللَّه في سورة فاطر من أمر دعاء الأموات والأولياء الصالحين: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)}. وبين الشيخ محمد بن عبدالوهاب أن اللَّه قد قال أولًا (دعاءكم) ثم قال (شرككم) أي أن دعاء غير اللَّه يُدخل الإنسان في حالة الشرك الأكبر!

عند ذلك حورب الشيخ محمد بن عبد الوهاب ممن كانوا يتكسبون من القبور والأضرحة وأموال النذور، فسافر الشيخ من مكانٍ إلى مكان يدعو الناس إلى التوحيد، ودعوته تلقى الصد من أمراء نجد وشيوخها، فقد تعود الناس هناك على البدع والطواف حول القبور، إلى أن وصل الشيخ إلى بلدة في نجد يقال لها "الدرعية" فعرض دعوته في التوحيد على أميرها الشيخ (محمد بن سعود)، فاقتنع الأمير بها، وبايعه على النصرة والمنعة مقابل أن يقيم الشيخ ابن عبد الوهاب دائمًا معهم في الدرعية ليعلم شباب القبيلة الدين الصحيح، فوافق الشيخ ابن عبد الوهاب على ذلك. فأقام الشيخ بالدرعية مُؤيدًا من حاكمها ابن سعود، فكان أول شيء قام به هناك هو تعليم الناس أهم شيء في دينهم -التوحيد- فرتب الدروس في العقائد، وفي القرآن الكريم، وفي التفسير، وفي الفقه، والحديث، والعلوم العربية، والتاريخ، وغير ذلك من العلوم النافعة، فأقبل الناس على العلم، وذاع صيت ذلك الشيخ الذي يعلم الناس أمور التوحيد، فتوافد شباب القبائل المجاورة على الدرعية من كل مكان، وأصبحت الدرعية بؤرة للنور في بحرٍ من الظلمات، وازداد عدد أتباع الشيخ ابن عبد الوهاب، وأصبحت الدرعية قوة ضاربة في صحراء نجد، وبعد سنين قليلة من دعوة ابن عبد الوهاب للتوحيد، وبعد أن تعلم الشباب أصول دينهم الصحيح على يديه، أعطى الشيخ ابن عبد الوهاب إشارة الإذن بالجهاد لنشر أصول التوحيد بين عُبّاد القبور، فذهب الشيخ محمد ابن عبد الوهاب إلى القبة التي بنيت على قبر الصحابي البطل زيد بن الخطاب رضي اللَّه وأرضاه والتي كان الناس يتعبدون بها ويطوفون حولها، فهدمها بنفسه، ثم نشر الشباب الموحد بين القبائل العربية لكي يعيدوا إحياء مفهوم التوحيد المنسي، وأرسل المرشدين والدعاة في الصحراء والبوادي ليبينوا للناس مفهوم التوحيد الصحيح، كما أرسل المعلمين والقضاة إلى القرى النائية، فبدأت الناس تعمر المساجد الخاوية من جديد، وعاد الناس لصيام رمضان، فترك الناس العادات البدعية التي ورثوها من آبائهم. وبعد وفاة الشيخ ابن عبد الوهاب رحمه اللَّه، استطاع أتباعه نشر دعوته في مكة والمدينة، فقام هؤلاء بنشر مفهوم التوحيد بين الحجاج من مختلف البلدان الإسلامية، فانتشرت دعوة الشيخ ابن عبد الوهاب من البنغال شرقًا إلى المغرب غربًا، فاستغل

الشباب المسلم من أتباع الشيخ البطل محمد بن عبد الوهاب توافد الحجيج على مكة والمدينة من مختلف أرجاء العالم الإسلامي، فأخذ أولئك الشباب يعلمون الحجيج مبادئ التوحيد والإسلام الصحيح، فتعلم كثيرٌ من حجاج بيت اللَّه الحرام من مختلف أرجاء العالم من أولئك الموحدين، ثم قام أولئك الحجاج بنشر هذه المبادئ التوحيدية في بلدانهم، وهكذا جدد الإمام محمد بن عبد الوهاب دين الأمة الإسلامية بأسرها، وما زال يجددها بعد مماته بفضل كتابه العظيم، كتاب "التوحيد"! بقي أن أنوه إلى أمرٍ أخير، فلقد اجتهدت في إطلاق لقبٍ على الشيخ محمد بن عبد الوهاب في هذا الكتاب ألا وهو "آريوس أمة محمد"! وذلك بعد أن رأيت تطابقًا عجيبًا بين قصة هذا الإمام وقصة آريوس التي سبق أن ذكرناها سابقًا في هذا الكتاب، فكلاهما رفض تغيير مبدأ التوحيد، وكلاهما لم يكن له مذهب أصلًا لكي يتبعه الناس، وكلاهما حورب في حياته وبعد مماته، وكلاهما دعا إلى الرجوع إلى فهم سلف الأمة للإسلام وترك التقليد الأعمى للمذاهب، هذا إلى رجال القرون الثلاثة الأولى من أمة محمد، وهذا إلى رجال القرون الأولى من أمة عيسى! والشيء اللافت للنظر أن النصارى الموحدين من أتباع أريوس والذين رفضوا البدع سُمّوا من دون أن يعلموا بـ "الآريسيين"، بينما سُمّي المسلمون الموحدون الذين رفضوا البدع وأنكروا على الناس دعاءهم لغير اللَّه أيضًا بدون علمهم أيضًا باسم "الوهابيين". . . . أو "الوهابزم" كما يحب أن يسميهم حيّاوي الكذاب! الغريب في الأمر أن دعوة التوحيد هذه لم تكن مسألة مسلمّا بها في كل حِقب تاريخ أمة محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-، بل إن التوحيد لطالما كان في مهب الريح بين الحين والآخر في تاريخ هذه الأمة! فما هي قصة التوحيد في بلاد المغرب الإسلامي؟ وما هي الأوضاع المزرية التي وصل لها المسلمون في المغرب الإسلامي في القرن الخامس الهجري؟ وكيف كان المسلمون هناك يحرمون أكل لحم الخنزير ويحللون أكل لحم الخنزيرة؟! وما هي قصة المرابطين؟ ولماذا سُمّوا بهذا الاسم؟ ومن يكون ذلك البطل الإسلامي العملاق الذي ظهر على ضفة نهر السنغال في أقصى الغرب الأفريقي ليسجل اسمه بحروفٍ من نورٍ في قائمة العظماء المائة في أمة التوحيد؟ يتبع. . . . . .

34 - مؤسس جماعة المرابطين (عبد الله بن ياسين)

" مؤسس جماعة المرابطين" (عبد اللَّه بن ياسين) " إن اللَّه يبعث على رأس كل مائة عام من يصلح لهذه الأمة أمر دينها" (رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-) كلما غوَّرت أكثر في هذا الكتاب اكتشفت العجب! كنت أعلم منذ البداية أن عظماء هذه الأمة لديهم من الخصائص ما يجمعهم ويوحدهم تحت سقف واحد، ولكن ما كنت أجهله فعلًا هو ذلك الشبه العجيب الذي يتكرر تباعًا بين عظماء أمة الإسلام المائة، وكأنهم وُلدوا إخوانًا! أو كأنهم خُلقوا جميعًا من نفس الجينات البشرية! فالقصص تتكرر بشكلٍ عجيب أذهلني شخصيًا، فعندما بدأت كتابة هذا الكتاب وقررت أن أصل بين كل عظيم والعظيم الذي يليه، ساورني بعض الشك في إمكانية ربط أناسٍ من بلدان مختلفة وأعراق مختلفة وأزمانٍ مختلفة، ولكنني أعترف أنه إلى حد الآن -وبعد أن أنجزت ما يقرب من ثلث هذا الكتاب- لم أجد صعوبة تذكر في ربطٍ أي منهم بالآخر! بل إن الشيء الأعجب في الأمر، والذي لا يعرفه القارئ الكريم، أنني لا أمتلك أي خطة عمل في ترتيب العظماء المائة! فكاتب هذا الكتاب مثل قارئه لا يعرف من سيأتي بعد ذلك! فعلى سبيل المثال لا الحصر لم يكن ضمن حساباتي مثلًا أن أكتب عن هذا العظيم الإسلامي في هذا الموضع، وإنما جاءت فكرة الكتابة عنه قبل عدة ساعات وفي نفس هذا اليوم الذي انتهيت فيه من الكتابة عن الإمام محمد بن عبد الوهاب! فالقصة بينهما ليست متشابهة فحسب، بل إنها تكاد تكون متطابقة تمامًا، ولكن مع تغييرٍ في مسرح الأحداث من صحراء نجدٍ في جزيرة العرب إلى صحراء موريتانيا في الغرب الأفريقي، وتغييرٍ في الزمان من القرن الثاني عشر الهجري إلى الخامس الهجري. هناك في أقصى الجنوب الموريتاني كانت أحوال المسلمين مزريةً للغاية، فبالرغم

من دخول قبائل "صنهاجة" البربرية في الإسلام منذ فجر الفتوحات على يد الفاتح الإسلامي الأموي (عقبة بن نافع)، إلا أن الإسلام الصحيح ضاع بين البربر هناك مع مرور الزمن وبُعد المكان عن مهبط الوحي وانعزاله خلف كثبان الصحراء الكبرى، فتبرك المسلمون هناك بالقبور، ودعا الناس الأولياء الصالحين من دون اللَّه، وأدمنوا شرب الخمور، وانتشر الزنى بينهم بشكلٍ رهيب، حتى أن الرجل كان يجامع خليلة جاره من دون أن يعترض زوجها على ذلك! وامتنع الناس عن أكل لحم الخنزير، ولكنهم أكلوا لحم الخنزيرة!!! وكان لقبيلة "جُدالة" وهي فرعٌ من فروع "صِنهاجة" شيخ بفطرةٍ طيبة اسمه الشيخ (يحيى بن إبراهيم الجدالي)، فأراد هذا الشيخ أن يصلح من حال قبيلته، ولكنه لم يكن يعلم من أمور الدين الكثير، فذهب إلى الحج، وفي طريق عودته مرَّ على "القيروان" في تونس، وقصَّ على علمائها أمر قومه وما هم عليه من الضلال والبعد عن شرع اللَّه، فبعثوا معه رجلًا من البربر اسمه الشيخ (عبد اللَّه بن ياسين) لكي يُرجع أهل جدالة إلى التوحيد الذي جاء به محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-، فأخذ الشيخ عبد اللَّه ابن ياسين يدعوهم إلى عبادة اللَّه وحده وترك الدعاء عند القبور، فطلب الناس منه أن يتركهم وشأنهم وأن يعود من حيث أتى، لكن الشيخ رفض ترك الدعوة، فحرق الناس بيته، وطردوه خارج القبيلة وهددوا الشيخ يحيى بن إبراهيم بنفس المصير إن هو ساعده، فأصبح الشيخ عبد اللَّه بن ياسين طريدًا في صحراء موريتنيا، وأصبح بين خيارين، إما العودة أو الاستمرار، فاختار الشيخ ابن ياسين خيار الأنبياء، وهو الطريق الأصعب بطبيعة الحال، ولو أنه اختار الطريق السهل، لمات مجهولًا في حدائق القيروان، ولما كُتبت هذه الحروف عنه بعد ما يقارب الألف عام من وفاته، فبدلًا من أن يتجه الشيخ عبد اللَّه ابن ياسين إلى الشمال حيث تلال تونس الخضراء، غوَّر جنوبًا في أدغال أفريقيا ليعبر نهر السنغال، وهناك في غابة من غاباتها، أقام خيمةً ورابط فيها، فكانت خيمة الرباط الأولى، ثم بعث رسالة إلى أهل جدالة يخبرهم فيها أنه من أراد تعلم دين اللَّه فليأته في رباطه في أرض السنغال، فخرج خمسة شباب من جدالة خفية واتجهوا نحو السنغال، ورابطوا مع الشيخ ابن ياسين في خيمته، فأخذ الشيخ يعلمهم معنى التوحيد، فاقتنع الشباب الخمسة بدعوة الشيخ، فذهبوا إلى جدالة وأحضروا عائلاتهم، وبنى كل منهم خيمة يرابط بها بعد

أن روى لهم الشيخ حديث رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- "رباط يومٍ وليلةٍ خير من صيام شهرٍ وقيامه"، ثم جاء خمسة شباب آخرين؛ فصار المرابطون عشرة، ثم صاروا عشرين، فمائة، فوضع الشيخ لجماعة المرابطين برنامجًا قاسيًا في التربية، فكان عليهم قيام الليل، وصيام النهار، وحفظ القرآن، وصيد طعامهم من غابات السنغال بأيديهم، فصار الشيخ يعلمهم فنون القتال بنفسه، وما هي إلا أربعة أعوامٍ حتى صار بين يدي الشيخ عبد اللَّه بن ياسين ألف رجل من المرابطين الأشداء السليمي العقيدة، وفي هدية من هدايا اللَّه سبحانه وتعالى، يؤمن زعيم قبيلة "لنتونة" وهي فرعٌ آخر من فروع "صنهاجة"، كان هذا الرجل اسمه (يحيى بن عمر اللنتوني)، ليدخل هذا الشيخ جزاه اللَّه كل خير بين يومٍ وليلة جميع رجال قبيلته المقدر عددهم بسبعة آلاف رجل في جماعة المرابطين، في الوقت الذي احتاج فيه الشيخ المجاهد عبد اللَّه بن ياسين إلى أربع سنواتٍ ليجمع فيها ألف مرابط فقط! وبعدها بأيام يموت الشيخ يحيى بن عمر اللنتوني رحمه اللَّه بعد أن أدخل قبيلةً كاملة إلى دين التوحيد، ويالها من خواتيم! وبعد ذلك دخلت "جدالة" كلها مع المرابطين، ليصبح عدد المرابطين اثني عشر ألفا، لينشر ابن ياسين المرابطين بين القبائل البربرية يدعوهم إلى دين اللَّه الصحيح من جديد، وفي إحدى طلعاته، أغارت قبيلة من القبائل المبتدعة على الشيخ ومن معه من المرابطين، فطلب المرابطون منه أن يبقى في خيمته ليقوموا هم بحمايته، إلّا أن الشيخ المجاهد عبد اللَّه بن ياسين تناول سيفه ولبس عدة القتال وقال للمرابطين من حوله: "إني لأرجوا أن يرزقني اللَّه الشهادة، فإذا قتلت فادفنوني في نفس المكان الذي أسقط فيه" وفعلًا استشهد الشيخ البطل عبد اللَّه بن ياسين في ميدان الجهاد، ودُفن رحمه اللَّه في مكان استشهاده كما أوصى. فما الذي حصل لجماعة المرابطين بعد مقتل زعيمها؟ وكيف تطورت جماعة المرابطين التي بدأت بخيمة على نهر السنغال لكي تصبح أكبر إمبراطورية عرفتها أفريقيا وأوروبا؟ ومن يكون ذلك الرجل العظيم الذي أدخل بمفرده خمسة عشر دولة أفريقية في دين اللَّه؟ يتبع. . . . . . .

35 - فاتح قارة أفريقيا (أبو بكر بن عمر اللنتوني)

" فاتح قارة أفريقيا" (أبو بكر بن عمر اللّنتوني) {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ} (اللَّه) البداية كانت من قبيلة "لنتونة" البربرية التي انضمت إلى جماعة الشيخ (عبد اللَّه ابن ياسين) بفضل (يحيى بن عمر اللنتوني) والذي أدخل قبيلته إلى مجموعة المرابطين قبل أن يتوفى بأيام قليلة، عندها تولى أخوه (أبو بكر بن عمر اللنتوني) زعامة القبيلة، قبل أن يتولى زعامة جماعة "المرابطين" بعد موت الشيخ عبد اللَّه بن ياسين رحمه اللَّه، فأصبح أبو بكر اللنتوني زعيمًا لجماعة المرابطين في أقصى جنوب موريتانيا وأقصى شمال السنغال، فأخذ اللَّنتوني يجاهد في سبيل اللَّه في جميع أرجاء موريتانيا والسنغال، ليعيد القبائل البربرية إلى جادة الإسلام الصحيح، فدخل الناس هناك في جماعة المرابطين، وازداد عددهم بشكلٍ كبير، وأصبحت جماعة المرابطين المجاهدة رقمًا صعبًا في معادلة الغرب الأفريقي بأسره! وبعد سنتين فقط من حكم الشيخ أبي بكر بن عمر اللنتوني وبالتحديد في سنة 453 هـ، سمع الشيخ بأن طائفتين من المسلمين على وشك الاقتتال في جنوب السنغال، فأخذ نصف فرسان المرابطين البالغ عددهم 14 ألف مرابط ليصلح بين المسلمين هناك، وأوكل قيادة دويلة المرابطين الناشئة إلى ابن عمٍ له، فأدرك الشيخ المسلمين في السنغال قبل أن يقتتلوا، ولكنه تفاجأ هناك أن في جنوب السنغال من لا يزال على عبادة الأشجار والأوثان، فقام الشيخ بدعوتهم للإسلام، وشرح لهم ما يدعو إليه الإسلام من عدلٍ ومساواةٍ بين البشر، فأعجب الأفارقة بهذا الدين العجيب الذي يغزو العقول والقلوب معًا، وبعد ذلك أراد الشيخ أن يرجع إلى دولته الناشئة، ولكن حبه للدعوة كان يفوق حبه للكرسي، فاستمر الشيخ أبو بكر بن عمر اللنتوني في التوغل في أدغال أفريقيا،

يحارب بـ 7 آلاف جندي من المرابطين الحكام الوثنيين الذين يمنعون دعاة المسلمين من دعوة الشعوب المستضعفة، فدخل الأفارقة في دين أفواجًا، فاستمر الشيخ المجاهد يدعو الأفارقة إلى الإسلام بشكلٍ أنساه كرسي الحكم الذي تركه لابن عمه، وظل الشيخ ينشر دين اللَّه هنا وهناك في أدغال أفريقيا وغاباتها ليدخل في الإسلام دولًا بأسرها! فقد أدخل الشيخ اللنتوني في الإسلام كل من: السنغال، الكاميرون، نيجيريا، غانا، بنين، سيراليون، ليبيريا، الجابون، غامبيا، النيجر، تشاد، مالي، غينيا، غينيا بينساو، غينيا الاستوائية، بوركينا فاسو، أفريقيا الوسطى، توجو، ساحل العاج، الكونغو. وبعد خمسة عشر عامًا قضاها الشيخ أبو بكر بن عمر اللنتوني في الدعوة إلى اللَّه رجع الشيخ عام 468 هـ بنصف مليون من الجنود الأفارقة الأشداء الذين أدخلهم في الإسلام، فلمّا وصل الشيخ أبو بكر إلى "مراكش" التي بناها ابن عمه واتخذها عاصمة له، تفاجأ أن ابن عمه الذي تركه مع 7 آلاف جندي في صحراء موريتانيا قد أدخل القبائل البربرية بأسرها إلى دولة المرابطين، ولم يكتفِ بذلك فحسب، بل انتهز فرصة غياب ابن عمه ليقوم بدوره بدعوة الناس في الشمال الأفريقي إلى دين اللَّه الصحيح، فضم إلى دولة المرابطين كلًا من: موريتانيا، والمغرب، والجزائر، وتونس! فأصبحت دولة المرابطين التي أسسها الشيخ المجاهد عبد اللَّه بن ياسين من خيمة مرابطة واحدة في غابة نائية من غابات السنغال الشمالية تمتد الآن من تونس شرقًا إلى غينيا بيساو غربًا، ومن الجزائر شمالًا إلى الجابون جنوبًا. وهناك في مراكش، تقابل ابنا العم المجاهدان، وتعانقا بعد طول فراق، وتذكرا كيف كان حالهم قبل مجيئ الشيخ عبد اللَّه ابن ياسين إليهم بدعوة التوحيد، وكيف كان شيخهم يعلم الناس التوحيد في رباطه من خيمته البالية، وكيف تحمل أذى الناس في دعوته حتى بعد أن أحرقوا له بيته، وكيف ضربوه وطردوه في الصحراء، وكيف لم ييأس في دعوته، تذكرا ذلك كله، ونظرا إلى ما هما عليه الآن من ملك لأكبر إمبراطورية عرفتها أفريقيا، عندها أجهش الرجلان في البكاء، قبل أن يعيد ابن عم الشيخ أبي بكر بن عمر اللنتوني زعامة الإمبراطورية له، عندها حدث أمرٌ عجيب! لقد قام الشيخ المجاهد أبو بكر بن عمر اللَّنتوني بعملٍ لا يتكرر في التاريخ الإنساني

إلا في حالة أمة الإسلام فقط، فلقد رفض الشيخ أبو بكر تسلم مقاليد الإمبراطورية! وفضَّل على ذلك أن يترك الحكم لابن عمه، ليستمرَّ هو في الدعوة إلى اللَّه، ليس ذلك فحسب. . . . بل ذهب الشيخ أبو بكر إلى زوجته وأخبرها أنه وهب نفسه للَّه سبحانه وتعالى، وأنه عازمٌ على الشهادة في سبيل اللَّه، وأخبرها بأنه قد نوى على تطليقها لكي لا يظلمها معه في رحلته الدعوية الطويلة، بعد ذلك ودع الشيخ أبو بكر ابن عمه الذي أجهش بالبكاء في وداعه، وتعانق البطلان عناقًا أخيرًا، لينتقل بطلنا مرة أخرى إلى عمق القارة السمراء، يدعو الناس إلى عبادة اللَّه الواحد، ويجاهد في سبيله ملوك الكفر والظلم، حتى جاء ذلك اليوم الذي كان فيه الشيخ أبو بكر بن عمر اللنتوني في رحلةٍ دعوية جديدة في إحدى غابات أفريقيا الاستوائية، هناك انطلق سهم غادرٌ من قوس أحد الملوك الوثنيين، ليستقر في قلب هذا البطل الإنساني العظيم، ليسقط فاتح أفريقيا شهيدًا بإذن اللَّه، وليسجل التاريخ الإسلامي اسم القائد الشيخ المجاهد البطل أبو بكر بن عمر اللنتوني بحروف من نور في قائمة العظماء، فلا يصلي شيخ في "أبيدجان"، ولا يُرفع الأذان في "دكار"، ولا يسجد طفل في "وجادوجو"، ولا يزكي مسلم في "أكرا"، إلا وكان للشيخ المجاهد البطل أبو بكر بن العمر اللنتوني مثل أجرهم. . . . لا ينقص من أجرهم شيء. وقبل أن نعرف بقية قصة المرابطين، ونعرف اسم ابن عم الشيخ أبي بكر اللنتوني، وما الذي فعله في الأندلس بعد ذلك، ينبغي علينا أولًا أن نسافر بجملٍ من جمال المرابطين الأبطال، لينقلنا من عاصمتهم "مراكش" إلى ميناء "طنجة" المغربي، لنستقل سفينة من هناك نعبر بها مضيق "جبل طارق"، لتنقلنا إلى الأندلس من جديد، لنرى معًا ما الذي كان يدور على أرضها في نفس ذلك الوقت الذي تأسست فيه دولة المرابطين في الغرب الأفريقي! فما هي قصة ملوك الطوائف؟ ولماذا ركّز المستشرقون على تلك الفترة بالذات من تاريخ الأندلس؟ ومن هو ذلك الرجل العظيم الذي استحق أن يضاف اسمه لقائمة المائة على الرغم من كونه ملكًا من ملوك الطوائف؟! يتبع. . . . . . .

36 - العزيز في زمن الذلة (المتوكل بن الأفطس)

" العزيز في زمن الذلة" (المتوكل بن الأفطس) " ليس بيننا وبينك يا ألفونسو إلا السيوف، تشهد بحدها رقاب قومك" (المتوكل بن الأفطس) لو لم أكن أعرف نسبي جيدًا حتى أصل به إلى (سبأ بن يشجب بن يعرب ابن قحطان)، لشككت حينها أنني امرءٌ من البربر! فلقد ذكرت أبطال البربر كثيرًا لدرجة بتّ أخشى فيها أن يتَّهمني البعض بمحاباتي للبربر على حساب غيرهم في هذا الكتاب! والحقيقة أنني نفسي متفاجئ من تاريخ قبائل الأمازيغ الذي لا نعرف عنه شيئًا، فلقد قدّم أولئك القوم الكثير لأمة محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولو لم يكن فيهم إلّا رجلًا واحدًا هو الشيخ (عبد اللَّه بن ياسين) أو الشيخ (أبو بكر بن عمر اللنتوني) لكفاهم، إلا أنني لا أستطيع أن اغفل ذكر بطلٍ إسلامي عظيم ظهر في زمن ضعف وهوان، فأن تكون عظيمًا في زمن العظماء فهذا شيءٌ عادي، أما أن تكون عظيمًا في زمن ندرت فيه العظمة، فأنت وقتها عظيم بالفعل! وعظيمنا هو البطل الإسلامي البربري (المتوكل بن الأفطس)، وهو ملك ظهر في زمن ملوك الطوائف، وهي فترة من فترات الضعف والتفرق في الأندلس استمرت من سنة 422 هـ إلى سنة 479 هـ، أي أنها فترة استمرت 57 سنة من حكم المسلمين الذي امتد لأكثر من 800 سنة في الأندلس! ومع ذلك لا يذكر إعلامنا الأندلس إلا وسلط الأضواء على عهد ملوك الطوائف، وكأن تاريخ الأندلس كان كله تاريخ ملوك الطوائف! وليس عندي أدنى شك أن ذلك تطبيق عملي لـ "نظرية الغزو التاريخي" التي سبق وأن تطرقنا إليها مرارًا في هذا الكتاب، فمن أهم بنود هذه النظرية بندٌ يقوم فيه الغزاة بتسليط الضوء على مراحل الضعف التي مرت بها الأمة، وذلك لكي يشعر شباب الإسلام بأن تاريخهم أسود بالمجمل، فينغرس في عقلهم الباطن بأن أمتنا ما هي إلى نبتة برية سُقيت بأوساخ التاريخ، فينعدم كيان شبابنا، وتسود فيهم روح الانكسار، ولا يبقى لهم في النهاية

إلّا أن يكونوا أتباعًا لأولئك الغزاة! فكلما بحثتُ اكثر عن تاريخنا، اقتنعت أكثر بحقيقة كانت قد تجسدت لدي، ألا وهي أن معركتنا القادمة إنما هي معركة إعادة كتابة تاريخ هذه الأمة، ورفع الغبار عن صفحات كتابها المجيد، لا لكي نشعر بالفخر والاعتزاز بتاريخ أبطالنا فقط (وهذا شيءٌ مطلوبٌ أيضًا!)، بل من أجل أخذ العبر واستلهام الدروس من تجاربهم التي خاضوها، فحال قبائل البربر قبل بدء دعوة ابن ياسين لا يختلف كثيرًا عن حال الأمة الآن، فدراسة قصة الأندلس منذ بدايتها وحتى نهايتها تبين لشباب هذه الأمة كيفية الصعود الحضاري، وهذه هي فائدة دراسة التاريخ، وهذا ما نرمي إليه من خلال هذا الكتاب إن شاء اللَّه. وقبل أن نتحدث عن بطلنا العظيم ينبغي علينا أن نعرف حال الأندلس في زمانه، ومن خلال ذلك يمكن لنا أن نقيس مدى عظمة المتوكل بن الأفطس، فلقد انقسمت دولة الأندلس الإسلامية إلى 22 دولة، يحكمها ملوك من العرب والبربر والمولدين (الإسبان المسلمين)، فساد التضعضع أرجاء الممالك، وأغار كل واحد منهم على أخيه، فكانت المملكة الواحدة تتفكك إلى مملكتين أو أكثر بعد موت ملكها، وهكذا ظلت الأندلس تتشظى حتى أصبحت لقمة سائغة لمملكة قشتالة الصليبية في الشمال، والتي كانت إلى وقت قريب تدفع الجزية إلى الخلفاء الأمويين، ولكن الوقت قد تغير بالكلية في عهد ملوك الطوائف، فلقد أصبح ملوك تلك الممالك المتشرذمة هم من يدفعون الجزية لملك قشتالة (ألفونسو السادس)، فكان هذا الملك الصليبي يجهز جيشه بأموال الجزية التي يأخذها من المسلمين ليقوم بعد ذلك باحتلال مدنهم الواحدة تلو الأخرى! فسقطت بذلك "طليطلة" أعظم مدن الأندلس والتي فتحها الفاتح الإسلامي (طارق ابن زياد) منذ فجر الفتوح الأندلسية، المضحك المبكي في قصة سقوط تلك المدينة العظيمة يكمن في أنها سقطت بعد أن استضاف ملكها (ابن ذي النون) الملك (ألفونسو السادس) في قصورها وذلك بعد أن طرده إخوته الإسبان، فقام ذلك الملك الصليبي الخائن باستكشاف منافذ المدينة من كل جانب ليسهل عليه فتحها بعد ذلك بجيشه. أما ملك "سرقسطة"، وهو أحد ملوك الطوائف، فقد قام بالاستعانة بالصليبيين في مملكة "أراجون" ضد أخيه، فدفع الأموال لملك "برشلونة" الصليبي لكي يعيد له مدينة

"بربشتة" التي أخذها أخوه منه، فقام الصليبيون بقتل 100 ألف من المسلمين في يوم واحد في بربشتة، ثم قام الصليبيون باغتصاب الفتيات المسلمات في طرقات تلك المدينة، قبل أن يرسلوا 7 ألاف فتاة بكر من أجمل بنات المسلمين كهدية إلى ملك "القسطنطينية" الصليبي في المشرق. أمّا ملوك الطوائف، فقد زاد عددهم يومًا بعد يوم، وتلقبوا بألقابٍ كبيرة، فكان منهم المعتصم والمعتضد والمعتمد والناصر، وكان كل منهم أميرًا للمؤمنين، فكان المرء يمشي مسيرة يوم واحد ليقابل ثلاثة من أمراء المؤمنين في دويلات الأندلس المتشظية، مما دفع شاعر الأندلس في ذلك الوقت (أبا بكر بن عمار) لكي يصف ذلك الوضع المزري في الأندلس بقوله: مما يُزهِّدُني في أرْضِ أندلسٍ ... ألقابُ مُعتمدٍ فيها وَمُعْتَضِدِ ألقْابُ ممَلكَة في غَيْرِ مَوْضِعِها ... كَالهِرِ يَحْكي انْتِفاخًا صَوْلة الأسَدِ وفي الوقت الذي دفع فيه جميع ملوك الطوائف الجزية للصليبيين مقابل البقاء على كراسيهم، أبى منهم ملكٌ واحدٌ فقط أن يعطي الدنية في دينه، وهو ملك مملكة "بطليوس" في "البرتغال"، ألا وهو الملك البربري (المتوكل باللَّه بن الأفطس)، والحقيقة أن هذا الموقف يكفيه لكي ينضم إلى قافلة المائة العظماء في هذه الأمة، فأن يحاول المرء مجرد الوقوف في وجه التيار في مثل هذه الظروف، يجعل منه بطلًا بالضرورة، فلم يكتفِ ابن الأفطس بعدم دفع الجزية فحسب، بل بعث برسالة قوية يرد فيها على (ألفونسو) الذي توعده بالحرب إن لم يقتدِ بإخوانه من ملوك الطوائف ويدفع الجزية، فكان رد المتوكل عليه: "وصل إلينا من عظيم الروم كتاب مدعٍ في المقادير وأحكام العزيز القدير، يرعد ويبرق، ويجمع تارة ثم يفرق، ويهدد بجنوده المتوافرة وأحواله المتظاهرة، ولو علم أن للَّه جنودا أعز بهم الإسلام وأظهر بهم دين نبيه محمد عليه الصلاة والسلام أعزّة على الكافرين، يجاهدون في سبيل اللَّه لا يخافون، بالتقوى يُعرفون وبالتوبة يتضرعون، ولإن لمعت من خلف الروم بارقة فبإذن اللَّه وليعلم المؤمنين، وليميز اللَّه الخبيث من الطيب ويعلم المنافقين. أما تعييرك للمسلمين فيما وهى من أحوالهم فبالذنوب المركومة، ولو

اتفقت كلمتنا مع سائرنا من الأملاك لعلمت أي مصاب أذقناك كما كانت آباؤك تتجرعه، وبالأمس كانت قطيعة المنصور على سلفك لما أجبر أجدادك على دفع الجزية حتى أهدى بناته إليه. أما نحن فإن قلّت أعدادنا وعُدم من المخلوقين استمدادنا، فما بيننا وبينك بحر نخوضه ولا صعب نروضه، ليس بيننا وبينك إلا السيوف، تشهد بحدها رقاب قومك، وجلاد تبصره في نهارك وليلك، وباللَّه تعالى وملائكته المسوّمين نتقوى عليك ونستعين، ليس لنا سوى اللَّه مطلب، ولا لنا إلى غيره مهرب، وما تتربصون بنا إلا إحدى الحسنيين، نصر عليكم فيا لها من نعمة ومنة، أو شهادة في سبيل اللَّه فيا لها من جنة، وفي اللَّه العوض مما به هددت، وفرج يفرج بما نددت ويقطع بما أعددت". فما أن قرأ ألفونسو السادس رده حتى عرف أن هذا الرجل ليس من نفس معدن ملوك الطوائف، فرجع بجيوشه إلى "قشتالة"، ليظل المتوكل بن الأفطس الوحيد بين ملوك الطوائف الذي لم يدفع الجزية البتة! وظلت الأندلس على هذه الحالة القاتمة حتى حدث شيء عجيب غير من مسار التاريخ هناك، فلقد بعث ألفونسو السادس بوزيره اليهودي (ابن شاليب) إلى (المعتمد بن عبّاد) ملك "إشبيلية" و"قرطبة" يطلب منه أمرًا عجيبًا يوضح مدى الذلة التي وصل إليها ملوك الطوائف، فلقد طلب ألفونسو السادس من المعتمد ابن عباد أن يفتح له أبواب جامع قرطبة (أكبر جامع على وجه الأرض في وقتها!)، وذلك لكي تقوم زوجته ملكة إسبانيا بالولادة عند منبر المسجد!! فتعجب ابن عباد من هذا الطلب المقزز، وعرض أن يضاعف أموال الجزية بدلًا من ذلك، لكن الوزير اليهودي ابن شاليب رفض ذلك وأساء أدبه مع الملك في حضرة الوزراء والشيوخ، عند ذلك بلغ السيل الزبى لدى ابن عباد، فقد وصل الأمر إلى حد الاستخفاف ببيت اللَّه، عندها استل المعتمد بن عباد سيفه وقطع به رأس ذلك الوزير، وأرسل به إلى ألفونسو مرفقًا برسالة أن لا جزية لك بعد اليوم، فاقض ما أنت قاض! فاستشاط ألفونسو السادس غضبًا، وتقدم بجنوده لأشبيلية، فحاصرها، فطال أمد الحصار هناك، عند ذلك بعث ألفونسو السادس برسالة يستخف بها من ابن عباد، فكتب له يقول: "إن الذباب قد آذاني حول مدينتك، فإن أردت أن ترسل لي مروحة أروح بها عن نفسي فافعل" فتناول المعتمد بن عباد تلك الرسالة

وكتب على ظهرها ردًا من جملة واحدة، ثم لف الرسالة وبعثها مرة أخرى إلى ألفونسو السادس، فما إن قرأ ألفونسو السادس ذلك الرد القصير، حتى ارتعدت مفاصله، وارتجفت شفتاه، وأعطى الإشارة لجنوده بالانسحاب الفوري من أسوار اشبيلية، والعودة السريعة إلى حصون قشتالة! فما هي تلك الجملة القصيرة التي أدخلت الرعب في قلب ألفونسو السادس؟ ولماذا رجع ألفونسو القهقرة بمجرد قراءتها؟ وماذا حصل بعد ذلك؟ وما هي حكاية معركة "الزلاقة" الخالدة والتي تقاس بمعركة "اليرموك" في عظمتها؟ ولماذا سميت بهذا الاسم؟ وكيف كانت نهاية المجرم الصليبي ألفونسو السادس؟ يتبع. . . . .

37 - زعيم إمبراطورية المرابطين (يوسف بن تاشفين)

" زعيم إمبراطورية المرابطين" (يوسف بن تاشفين) " واللَّه لئن لم ترجع لأروحنّ لك بمروحة من المرابطين" (المعتمد بن عبّاد) كنت أتمشى في شوارع مدينة "إشبيلية" الساحرة في ليلةٍ من ليالي صيف عام 2009 م، وقتها كنت أستحضر في مخيلتي حصار (ألفونسو السادس) لهذه المدينة الحصينة، والحقيقة أنني كنت فيما سبق أتساءل كيف وصل المسلمون في عهد ملوك الطوائف إلى تلك الحالة المزرية التي وصلوا إليها، وأستهجن ما كان يفعله أمراء الطوائف، ولكنني حينما رأيت أشجار البرتقال الممتدة على شوارع إشبيلية، ورأيت بعدها حدائق قرطبة الغّناء، ومشيت في طرقات غرناطة الموصلة لقصر الحمراء، طرحت علي نفسي سؤالًا صريحًا: ماذا لو كنت أنا أميرًا على مدينة من مدن الأندلس في عهد ملوك الطوائف، هل كنت سأقبل التنازل عن كرسي الحكم؟ ولو كنت مكان (المعتمد بن عبّاد) هل كنت سأجازف بقتال (ألفونسو السادس)؟ أم كنت سأدفع له الجزية مقابل أن أبقى بجانب (اعتماد الرميكية) وهي تنشد لي الألحان الشجية تحت أشجار البرتقال تلك؟! الحقيقة أنني وإن كنت لا أجد عذرًا لتلك الحالة المهينة التي وصل إليها ملوك الطوائف، إلّا أنني أدركت بالفعل عظم تلك الفتنة التي تعرضوا لها في تلك البلاد الساحرة، ومما زاد من إدراكي هذا هو ملاحظة مهمة لاحظتها خلال زيارتي لإسبانيا. . . فلقد رأيت هناك أن لكل مدينة حدودًا طبيعية تحيط بها من جميع الاتجاهات ما بين جبالٍ وأنهارٍ وبحار، مما يدفع كل مدينة أندلسية لتشكل دويلة مستقلة في حد ذاتها، ولا شك أن هذا يزيد من رغبة الفرد بالاستقلال، ولعل ما تشهده إسبانيا الآن من تفرق بين مدنها ما بين حكم ذاتي في "كاتالونيا" ومطالبةٍ بالاستقلال من إقليم "الباسك" لهو خير

دليل على حال تلك البلاد! بعد هذه المقدمة التي أحسب أنها من الأهمية بمكان، نعود إلى إشبيلة مرةً أخرى، فبعد أن بعث ألفونسو السادس تلك الرسالة التي يهزأ بها من ابن عباد ويطلب منه أن يبعث له بمروحة يروح بها عن نفسه لكي يطيل أمد الحصار، قلب ابن عباد الرسالة وكتب على ظهرها: "واللَّه لئن لم ترجع لأروحنّ لك بمروحة من المرابطين! "، فما إن قرأها ألفونسو حتى ولى الأدبار ورجع إلى دياره مخافة أن يستنجد المسلمون بالمرابطين الذين ذاع صيتهم في مختلف أرجاء العالم في ذلك الوقت، وبعد أن رأى ابن عباد ردة فعل ألفونسو السادس لمجرد سماعه باسم المرابطين، أرسل إلى ملوك الطوائف لكي يتم اجتماع القمة الأول لـ 22 دويلة من دويلات الطوائف، وفعلًا تم عقد اجتماع القمة الطارئ لملوك الطوائف! فروى ابن عباد حكايته مع ألفونسو، وما فعله عند سماعه باسم المرابطين، ثم أخبرهم أن ألفونسو لن يستسلم بهذه البساطة، وأنه حتمًا سيكرر فعلته مع جميع الدويلات حتى ينهي الوجود الإسلامي كما وعد أباه وهو على فراش الموت، فاقترح ابن عباد أن يبعث برسالة إلى المرابطين يطلب منهم أن يأتوا لإنقاذ المسلمين في الأندلس! عند ذلك عمَّ الهرج قاعة الاجتماع رفضًا لهذا الاقتراح من ابن عباد، فصاح أحدهم بابن عباد: "هل تريد أن تجلب لنا هؤلاء البدو من رعاة الإبل لكي يحاربوا ألفونسو، ثم إذا ما انتصروا عليه مكثوا في ديارنا الخضراء وسلبونا الحكم وجعلونا رعاةً لإبلهم؟! عند ذلك وقف المعتمد ابن عباد ملك إشبيلية بين الحضور وقال قولة حفظتها كتب التاريخ لنا: واللَّه لأن أرعى الإبل في صحراء المغرب ... خيرٌ لي من أن أرعى الخنازير في أوروبا! عندها وقف عظيمنا السابق ملك "بطليوس" (المتوكل بن الأفطس) وأعلن تأييده لذلك الاقتراح، ثم قام (عبد اللَّه بن بلقين) ملك "غرناطة" ووافق أيضًا، فبعث ابن عباد برسالة الاستغاثة العاجلة إلى المغرب! فما أن وصلت رسالة الاستغاثة من المسلمين في الأندلس، حتى قرأها زعيم المرابطين القائد المجاهد (يوسف بن تاشفين اللنتوني) ابن عم الشيخ المجاهد (أبي بكر ابن عمر اللنتوني)، فركب سفينةً هو وبعض جنده متجهًا إلى ضفة المتوسط الشمالية في

الأندلس، وعندما بلغ ابن تاشفين منتصف مضيق جبل طارق، هبت عاصفة قوية كادت أن تغرق المركب، لولا أن القائد الرباني يوسف بن تاشفين والذي تربّى على يدي الشيخ (عبد اللَّه بن ياسين) رفع يديه إلى السماء في منتصف البحر وقال: "اللهم إن كنت تعلم في عبورنا هذا البحر خيرًا لنا وللمسلمين فسهّل علينا عبوره، وإن كنت تعلم غير ذلك فصعبه علينا حتى لا نعبره" وما إن فرغ من دعائه حتى سكنت الريح، فما إن وصل الشيخ ابن تاشفين إلى سواحل الأندلس حتى قامت شعوب الأندلس تستقبله فرحة بقدوم هذا البطل الأسطورة والذي لطالما سمعوا عن قصص بطولاته مع بقية جموع المرابطين المجاهدين، واستقبله ابن عباد بالترحاب، فتقدم جيش المسلمين المتكون من 30 ألف مقاتل إلى الشمال لمكان يقال له "الزلاقة"، فسمع (ألفونسو السادس) بالخبر، فأعلن "الفاتيكان" حالة الطوارئ القصوى في أوروبا بأسرها، فأرسل بابا الفاتيكان رسالة إلى الكاثوليك في مختلف أرجاء أوروبا يضمن فيها الغفران لكل من يشارك في هذه المعركة، ووعد كل من يحارب بمفتاحٍ يحصل على من البابا شخصيًا، هذا المفتاح هو مفتاح قصره في الجنة! عند ذلك تجمع الفرسان من فرنسا وإيطاليا وألمانيا وإنجلترا (وقد كانت كاثوليكية آنذاك)، فتجمع لألفونسو السادس ضعف عدد المسلمين، مدججين بآخر ما توصلت إليه مصانع أوروبا الحربية، هدفهم جميعًا تدمير الوجود الإسلامي في الأندلس إلى الأبد في تلك الموقعة الفاصلة، موقعة "الزلاقة"، فوقف ألفونسو السادس متبجحًا بهذا الجيش الجرار وقال: "بهذا الجيش أقاتل الجن والأنس، وأقاتل ملائكة السماء، وأقاتل محمدًا وصحبه". فعسكر الفريقان قبالة الزلاقة في يوم الخميس، وفي ذلك الوقت صنع الأمير البطل يوسف بن تاشفين شيئًا عجيبًا كان ملوك الطوائف قد نسوه منذ زمن بعيد، فلقد أرسل ابن تاشفين رسالةً إلى ألفونسو يدعوه فيها للإسلام أو دفع الجزية! ويقول فيها: "من أمير المسلمين يوسف ابن تاشفين إلى ملك الروم ألفونسو السادس، سلام على اتبع الهدى وبعد، بلغنا أنك دعوت أن يكون لك سفنًا تعبر بها إلينا، فقد عبرنا إليك، وستعلم عاقبة دعائك، وما دعاء الكافرين إلا في ضلال، وإني أعرض عليك الإسلام، أو الجزية عن يد وأنت صاغر، أو الحرب، ولا أؤجلك إلا لثلاث". عند ذلك استشاط ألفونسو السادس غضبًا من هذا القائد

المسلم الذي يمتلئ عزة وكرامة، بعد أن كان هو من يأمر ملوك الطوائف بدفع الجزية، عندها أراد ألفونسو أن يخدع المسلمين فكتب ليوسف بن تاشفين: "غدًا هو الجمعة، وهو عيد للمسلمين ونحن لا نقاتل في أعياد المسلمين، وأن السبت عيد اليهود، وفي جيشنا كثير منهم، وأما الأحد فهو عيدنا، فلنؤجل القتال حتى يوم الإثنين" ولكن يوسف ابن تاشفين كان يعلم أن الصليبيين قومٌ لا يوفون بعهودهم أبدًا، فطلب من جنوده أن يظلوا على استعداد ويقظة. أما ألفونسو السادس فقد رأى في نومه حلمًا غريبًا، فقد رأى وكأنه راكب على فيل يضرب نقيرة طبلٍ، فهالته رؤياه وسأل عنها القساوسة فلم يجبه أحد، فدس يهوديًا عن من يعلم تأويلها من المسلمين، فذهب ذلك اليهودي إلى شيخ من شيوخ المسلمين على دراية بتأويل الأحلام، فقصها عليه ونسبها إلى نفسه، فقال له الشيخ المسلم: كذبت أيها اليهودي! ما هذه الرؤيا لك، ولا بد أن تخبرني عن صاحبها وإلا فاغرب عن وجهي، فقال له اليهودي: اكتم ذلك، هذه الرؤيا للملك ألفونسو السادس، فقال الشيخ المسلم: قد علمت أنها رؤياه، ولا ينبغي أن تكون لغيره وهي تدل على بلاء عظيم ومصيبة فادحة تؤذن بصلبه عما قريب، أما الفيل فقد قال اللَّه تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} وأما ضرب النقيرة فقد قال اللَّه تعالى: {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ}، فانصرف اليهودي إلى ألفونسو السادس ولم يفسرها له طلبًا في الحرب! وفي منتصف تلك الليلة، استيقظ عالمٌ جليلٌ من المسلمين اسمه الشيخ (ابن رميلة)، فنهض راكضًا إلى خيمة الأمير يوسف بن تاشفين يوقظه ليقول له فرحًا: "أيها الأمير لقد رأيت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في ليلتي هذه، وقد قال لي: يا ابن رمُيْلَة، إنكم منصورون، وإنك ملاقينا"، فكبر ابن تاشفين تكبيرة أيقظت الجند، وأمر الجند أن يقرءوا سورة الأنفال، وأن يصلي الجند قيام الليل، فتعانق الجند فرحًا من تلك الرؤيا، وأجهش الجنود بالبكاء شوقًا للشهادة، وبعد صلاة الفجر من يوم الجمعة، غدر الصليبي القذر ألفونسو كما توقع ابن تاشفين، وزحف بجنده على جيش المسلمين ليباغتهم فجرًا، ولكنه وجد المسلمين في انتظاره بعد رؤية رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- تلك، فدارت معركة "الزّلاقة" الباسلة، وانتصر المسلمون لأول مرة منذ عشرات السنوات تحت قيادة الأمير يوسف بن تاشفين، ولم يبقَ من بين 60000 صليبي إلا 100 مقاتل فقط من بينهم أنفونسو السادس بساقٍ

واحدة، هرب بها إلى قشتالة ليموت بعدها بسنة كمدًا وغمًّا، وغنم المسلمون غنائم هائلة، لم يأخذ ابن تاشفين والمرابطون شيئًا منها، فعاد إلى المغرب بعد أن أنقذ المسلمين، وعاد أيضًا ملوك الطوائف للصراع من جديد، فبعث أهل الأندلس إلى الأمير يوسف بن تاشفين في مراكش يرجونه أن يأتي ليحررهم من ملوك الطوائف، فلم يرضَ ابن تاشفين أن يحاربهم خوفًا من معصية اللَّه في قتاله للمسلمين، فانهالت الفتاوى عليه من بلاد المسلمين تحثه على إنقاذ الأندلس، وكانت من بينها رسالة بعث بها (أبو حامد الغزالي) من بغداد يجيز له ضم الأندلس، فقام ابن تاشفين بضمِّ الأندلس للمرابطين، فأنهى بذلك مهزلة ملوك الطوائف إلى الأبد! وبعد. . . . كانت هذه صفحةً مجيدةً في تاريخ هذه الأمة، صفحة المرابطين الأبطال، صفحة البطل عبد اللَّه بن ياسين والبطل يحيى بن إبراهيم الجدالي والبطل يحيى بن عمر اللنتوني والبطل أبي بكر اللنتوني، والبطل يوسف بن تاشفين، أولئك النفر لم يكونوا سوى رعاة إبل في جنوب موريتانيا، فتمسكوا بدين اللَّه، فأعزهم اللَّه نتيجة تمسكهم بدينه، ليغدوا أصحاب أعظم إمبراطورية عرفتها أفريقيا! ولكن كيف كان وضع الأندلس قبل عهد ملوك الطوائف؟ ومن هو ذلك الملك الإسلامي الذي اعتبره مؤرخو الغرب أعظم ملوك أوروبا في القرون الوسطى؟ ولماذا كان (جورج الثاني) ملك إنجلترا يعتبر نفسه خادمًا له؟ وكيف كان وضع الأندلس قبله؟ وكيف أصبح وضع الأندلس بعده؟ وكيف كان عصره هو العصر الذهبي للأندلس عبر جميع عصورها الممتدة لأكثر من ثمانية قرون مستمرة؟ يتبع. . . . . .

38 - عبد الرحمن الناصر

"يَا زَمَانَ الوَصْلِ بِالأَنْدَلْسِ" عبد الرحمن الناصر من جورج الثانى. . . إلى الخليفة المسلم ملك إنجلترا وفرنسا. . . ملك المسلمين فى مملكة الأندلس والسويد والنرويج. . . صاحب العظمة والمقام الجليل وبعد التعظيم والتوقير فقد سمعنا عن الرقى العظيم الذى تتمتع بفيضه الصافي معاهد العلم والصناعات فى بلادكم العامرة فأردنا لأبنائنا اقتباس نماذج هذه الفضائل لتكون بداية حسنة فى اقتفاء أثركم لنشر أنوار العلم فى بلادنا التى يسودها الجهل من أربعة أركان. . ولقد وضعنا ابنة شقيقنا الأميرة (دوبانت) على رأس بعثة من بنات أشراف الإنجليز تتشرف بلثم أهداب العرش والتماس العطف لتكون مع زميلاتها موضع عناية عظمتكم. . وحماية الحاشية الكريمة ولقد أرفقت مع الأميرة الصغيرة هدية متواضعة لمقامكم الجليل أرجو التكرم بقبولها مع التعظيم والحب من خادمكم المطيع جورج ملك إنجلترا بطلنا الآن هو عبد الرحمن الناصر باللَّه، أعظم ملك عرفته أوروبا في القرون الوسطى، وهو أقوى من حكم الأندلس في تاريخها منذ بداية الفتح الإسلامي وحتى سقوطها، وفترة حكمه التي سبقت فترة حكم ملوك الطوائف بسنوات كانت أزهى فترة للمسلمين في الأندلس، فلقد اهتم هذا العظيم الإسلامي بنشر العلم في الأندلس، لتصبح نسبة الأمية بين صفوف المسلمين في الأندلس تساوي صفرًا في المائة! هذا الملك قام بتوسعة جامع قرطبة ليصبح أكبر جامعٍ في العالم في وقتها، جاعلًا من قرطبة قبلة لطلاب العلم والعدل في العالم بأسره، فقد نشر الناصر باللَّه العدل في أرجاء الخلافة الأموية في

الأندلس، فتوافد اليهود والنصارى المضطهدون للعيش عند المسلمين في قرطبة بكل أمان وحرية، وتقاطر العلماء المسلمون من أرجاء البلدان الإسلامية إليها، فأصبحت قرطبة ثاني أكبر مدينة في العالم من حيث عدد السكان (بعد بغداد حاضرة العباسيين)، وبُني في قرطبة ثلاثة آلاف مسجد، وازدهر العلم، وتطورت فنون البناء، وصُممت الحدائق بأشكال هندسية عجيبة، ولأول مرةً في تاريخ الإنسانية أصبحت قرطبة حاضرة المنصور أول مدينة في العالم تنار كل شوارعها ليلًا، فكانت قرطبة الإسلامية كالجوهرة المضيئة في ظلمات أوروبا الغارقة في الجهل والظلام، فأرسل الأوروبيون البعثات العلمية لبلاد المسلمين، ولأول مرة في أوروبا ظهرت المستشفيات والمكتبات العامة في أرجاء الدولة الإسلامية، وبنى الخليفة عبد الرحمن مدينة "الزهراء"، والتي اعتُبرت أجمل مدينة في العالم، فلقد بناها علماء المسلمون بطريقة عجيبة، وهي مدينة فوق مدينة، سطح الثلث الأعلى على الحد الأوسط، وسطح الثلث الأوسط على الثلث الأسفل، وكل ثلث منها له سور، فكان الحد الأعلى منها قصورًا يعجز الواصفون عن وصفها، والحد الأوسط بساتين وروضات، والحد الأسفل فيه الديار والجامع، وبنيت بمدينة قرطبة القنطرة العجيبة التي فاقت قناطر الدنيا حسنًا وإتقانًا، فكثرت الأموال واتسع نطاق الخدمات، والعلاج المجاني، وانتشر التعليم المجاني، بل إن طالبي العلم كان يُخصص لهم راتب شهري، ولأول مرة في تاريخ الانسانية أدخل المسلمون نظام الرعاية للمسنين، فبنيت دورٌ للعجزة، ووُظّف فيها من يقوم بخدمتهم، وبنيت دورٌ لرعاية الحيوانات، وأقيمت المصانع العسكرية، والموانئ البحرية، وازدهرت الصناعات الحديثة في أرجاء الخلافة في عهد الناصر، وامتلك المسلمون أقوى جيشٍ عرفته أوروبا في القرون الوسطى، فجاءت وفود ملوك أوروبا من كل حدب وصوب بالهدايا الثمينة وبأموال الجزية إلى الخليفة الناصر في قرطبة. العجيب أن هذا كان وضع الأندلس قبل عهد ملوك الطوائف بسنوات قليلة، وإذا كنت تتساءل كيف تحول حال المسلمين في الأندلس إلى تلك الحالة المزرية بعد ذلك حتى صاروا يدفعون الجزية لألفونسو، فاعلم أن العجب كل العجب يكمن في حال المسلمين قبل ظهور هذا البطل الإسلامي على الساحة الأندلسية، فلقد وصلت

الأندلس إلى حالة من التمزق والتشرذم الرهيب في تلك الفترة التي سبقت تولي عبد الرحمن الناصر مقاليد الحكم في الأندلس، ويكفي لكي نبيِّن مدى الضعف الذي وصلت إليه الأندلس أن نذكر أن عبدالرحمن الناصر لم يكن مرشحًا للإمارة أصلًا، وإنما تقلَّد ذلك المنصب بعد أن رفضه جميع أعمامه وأبناء أعمامه، لا زهدًا في الحكم، بل هربًا من الوضع المزري الذي وصلت إليه الأندلس في تلك الفترة، فلم يرد أي منهم أن يكون ذلك الملك الذي سيكون في عهده سقوط الأندلس المتوقع، فلقد بلغت الأندلس من الضعف والتفكك مبلغًا جعل من سقوطها أمرًا حتميًا، بل جعل منه مسألة وقتٍ لا أكثر، فتولى عبد الرحمن الناصر باللَّه الإمارة وهو شابٌ صغير لم يتجاوز الواحدة والعشرين من عمره، ليقوم هذا الشاب الصغير بتغيير مجرى التاريخ الإنساني ليس في الأندلس فحسب، بل في كل أرجاء القارة الأوروبية! ولكن كيف لهذا الشاب أن يحوِّل حال بلادٍ كاملةٍ مثل الأندلس تحويلًا كاملًا لتصبح أعظم مملكةٍ عرفتها القرون الوسطى على الإطلاق؟ الحقيقة أن الإجابة على هذا السؤال تكمن في سر اختيارنا لهذه الشخصية الإسلامية بالذات لكي تكون ضمن قائمة المائة، فسر عظمة عبد الرحمن الناصر لا يكمن في القوة التي سادت عصره، بل يكمن في الضعف الذي كان سائدًا في بلاده قبل مجيئه! فلو أن الناصر نشأ في بيئة كلها انتصارات، لما اخترناه من ضمن عظماء هذه الأمة، فالعظماء في كل الأمم -وليس فقط في أمة الإسلام- هم الذين يغيرون من وضع شعوبهم من حالة الضعف والهوان إلى حالة القوة والتمكين، فالمعادن الصلبة لا تخرج إلّا من بوتقة اللهب المستعر! ولكي نتعلم نحن كيفية صناعة العظماء في فترات الضعف التي نعيش بها حاليًا والتي لا تختلف كثيرًا عن الفترة التي نشأ بها بطلنا، يجب علينا دراسة حياة هذا القائد الإسلامي جيدًا كي يتسنى لنا استنباط الدروس التي من خلالها فقط يمكن لنا أن نصنع عبدًا للرحمن ينصر اللَّه به حال عباد الرحمن في هذا الزمان! فمن خلال دراستي لحياة هدا الرجل وجدت أن هناك ثلاثة عوامل جعلت منه قائدًا عظيمًا، أعترها شخصيًا العوامل الأساسية التي يمكن لنا من خلالها صناعة أي بطلٍ قادم للأمة:

(أولًا) غرس روح البطولة في الإنسان: وذلك من خلال استحضار بطولات العظماء في تاريخ هذه الأمة، فلقد كان (عبد اللَّه بن محمد) وهو جد الناصر باللَّه يقصّ على حفيده منذ نعومة أظافره قصص بطولات جده الأكبر (عبد الرحمن الداخل) "صقر قريش"، فصنع بذلك بيئةً مليئةً بالبطولة في مخيلة حفيده عبد الرحمن تختلف عن تلك بيئة الهزيمة القاتمة المحيطة به في الخارج! (ثانيًا) معرفة الأعداء الحقيقيين: حارب الناصر خونة الشيعة العبيديين، فكعادة الشيعة الروافض التي لا يمكن لهم تغييرها منذ فجر الإسلام وحتى سقوط بغداد عام 2003 م، قامت الدولة الشيعية العبيدية (الفاطمية) التي احتلت المغرب بإمداد الصليبيين في الأندلس بالسلاح عبر الصليبي (صامويل بن حفصون)، (وسنرى لاحقًا في طيّات هذا الكتاب مظاهرًا متنوعة للخيانات المتكررة لأولئك القوم الخونة عبر جميع مراحل تاريخ هذه الأمة وفي مختلف أرجاء ديار الإسلام!) (ثالثًا) الالتزام الديني: وهو الأهم. . . . فلقد كان الخليفة عبد الرحمن الناصر رحمه اللَّه ورعًا تقيًا زاهدًا في الحياة، فعلى الرغم من الغنى الفاحش الذي عم الأندلس في عهده، وجد الناس في خزانته ورقة كان قد كتبها بخط يده، عدّ فيها الأيام التي صفت له دون كدر فقال: في يوم كذا من شهر كذا في سنة كذا صفا لي ذلك اليوم. فعدّها الناس بعد موته، فوجدوها أربعة عشر يومًا فقط! ولكن. . . . . إلى أي عائلةٍ ينتمي عبد الرحمن الناصر، ومن قبله عبد الرحمن الداخل؟ وماذا قدمت تلك العائلة العظيمة للإسلام؟ ولماذا شُوِّه تاريخُ هذه العائلة بالذات بشكلٍ رهيب؟ فمن تكون تلك العائلة التي كانت أعظم عائلةٍ على الإطلاق تحكم الإسلام في تاريخه الممتد لأكثر من أربعة عشر قرنًا؟ يتبع. . . . . .

39 - أصحاب الملابس البيضاء (بنو أمية)

" أصحاب الملابس البيضاء" (بنو أمية) " كانت سوق الجهاد قائمة في بني أمية، ليس لهم شغل إلا ذلك، وقد أذلّوا الكفر وأهله، وامتلأت قلوب المشركين من المسلمين رعبًا. لا يتوجه المسلمون إلى قُطْرٍ من الأقطار إلا أخذوه" (الحافظ ابن كثير) [خريطة الدولة الأموية] لا أعرف عائلة في تاريخ هذه الأمة كان لها فضلٌ على الإسلام والمسلمين أكثر من عائلة بني أمية البطلة، بل إنني لا أبالغ إذا قلت أنني لا أعرف عائلةً حاكمة كان لها فضلٌ على بني الإنسان مثل عائلة بني أمية! والدارس لتاريخ هذه العائلة القرشية بإنصاف يجد أن لبني أمية أيادٍ بيضاء على أمة الإسلام منذ فجر الدعوة وحتى يوم القيامة، فعثمان ابن عفان الأموي هو الذي جمع القرآن لنا، وأم المؤمنين الأموية أم حبيبية بنت أبي سفيان عليها السلام ضحت بكل شيء في سبيل الإسلام، ومعاوية بن أبي سفيان الأموي هو الذي كتب الوحي من صدر رسول اللَّه، وعمرو بن العاص الأموي هو الذي فتح

فلسطين ومصر وليبيا وعُمان للمسلمين، وعبد اللَّه بن عمرو بن العاص الأموي كان أول إنسانٍ كتب حديث رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ليحفظه لنا، وعبد اللَّه بن سعيد بن العاص بن أمية كان أحد شهداء بدر الثلاثة عشر، والصحابي الجليل أبو سفيان بن حرب الأموي رضي اللَّه عنه وأرضاه قدّم عينيه الاثنتين في سبيل اللَّه ورسوله، ويزيد بن أبي سفيان الأموي هو فاتح لبنان وقائد جيوش الشام، ويزيد بن معاوية الأموي هو الذي دأب على إكرام أبناء عمومته محمد بن علي بن أبي طالب، وعلي بن الحسين وعبد اللَّه ابن جعفر بعد أن غدر الشيعة الخونة بآبائهم، وبنو أمية فيهم خالد بن يزيد الأموي مكتشف علم الكيمياء، وبنو أمية فيهم فاتح الشمال الأفريقي عقبة بن نافع الأموي رحمه اللَّه، وبنو أمية فيهم عمر بن عبد العزيز الأموي، وبنو أمية هم من أنهوا الإمبراطورية الفارسية إلى الأبد في معركة "نهاوند" فقضوا على كسرى بعد أن شرّده عمر بن الخطاب قبل ذلك في جبال آسيا، والقدس فتحت بعد حصار عمرو بن العاص الأموي لها، والوثيقة العمرية كتبت بخط يد معاوية الأموي، وقبة الصخرة بناها عبد الملك بن مروان الأموي، والأندلس فتحها الأمويون، وأرمينيا وأذربيجان وجورجيا فتحت على أيدٍ أموية، والقسطنطينية حاصرها لأول مرة يزيد بن معاوية الأموي، وتركيا فتحها الأمويون، وأفغانستان وباكستان والهند وأوزباكستان وتركمانستان وكازخستان كلها دخلت الإسلام من على ظهور خيولٍ أموية، وحمل بنو أمية الإسلام إلى أوروبا، فالأندلس فتحها الأمويون، وجنوب فرنسا أصبح أرضًا إسلامية فقط في زمن مجاهدي بني أمية، ووصلت الجيوش الأموية إلى القرب من باريس، وأنقذ عبد الرحمن الداخل الأموي الأندلس من الدمار، وكان عبد الرحمن الناصر الأموي أعظم ملوك الأرض، ونشر بنو أمية رسلهم في أصقاع الأرض يدعون الناس إلى دين اللَّه، فوصلت رسل الأمويين إلى الصينيين الذين أسموهم بـ "أصحاب الملابس البيضاء"، وفي عهد بني أمية انتشر العلم وساد العدل أرجاء الخلافة، ودخل الإسلام للسودان والحبشة على أيدٍ أموية، وقاد محمد بن أمية الأموي انتفاضة المورسكيين الأندلسيين بعد سقوط الأندلس، وبدأ جمع الحديث النبوي في حكم بني أمية، وبنو أمية هم الذين عرَّبوا الدواوين، وبنو أمية هم الذين صكوا العملة الإسلامية، وبنو أمية هم بناة أول أسطول إسلامي في التاريخ، ونقَّط عبد الملك بن

مروان الأموي القرآن، ووصلت الخلافة الإسلامية في عهد الوليد بن عبد الملك الأموي إلى أكبر اتساع لها في تاريخ الإسلام، فكان الأذان في عهد بني أمية يُرفع في جبال الهملايا في الصين، وفي أدغال أفريقيا السوداء، وفي أحراش الهند، وعند حصون القسطنطينية، وعند أبواب باريس، وفي مرتفعات البرتغال، وعلى شواطئ بحر الظلمات، وعند سهول جورجيا، وعند سواحل قبرص، ترفرف على قلاع تلك البلدان راياتٌ بيضاء مكتوب عليها لا إله إلّا اللَّه، محمدٌ رسول اللَّه، هي رايات بني أمية، فجزاكم اللَّه كل خير يا آل أمية بن حرب لما قدمتموه للإسلام. ولا أحسب أنني الآن في حاجة لكي أوضح سبب التشويه الضخم الذي يتعرض له تاريخ هذه العائلة البطلة بعد كل ما قدموه للإسلام، فعهد بني أمية هو العهد الذي ظهرت به الدولة الإسلامية بكل ملامحها، وهو العهد الذي جمعت فيه أحاديث الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-، فإذا شكك غزاة التاريخ في ذمة هذه العائلة المجاهدة، فعندها تكون أحاديث محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- التي بين أيدينا كلها باطلة، ويكون هذا الإسلام الذي بين أيدينا إسلامًا مزيفًا، وعندها نكون أنا وأنت بلا قيمة، وعندها نكون أنا وأنت بلا كيان! وإذا جاء ذكر بني أمية، دمعت العين لذكرى بطلٍ أموي ما عرفت الأرض مثله، دمعت العين لثالث أعظم مخلوقٍ بعد الأنبياء، دمعت العين لإنسان قدّم أعظم أسطورةً حيةً للتضحية والفداء. يتبع. . . . . . .

40 - الهدف رقم واحد لغزاة التاريخ (عثمان بن عفان)

{أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} " الهدف رقم واحد لغزاة التاريخ" (عثمان بن عفان) " غفر اللَّه لك يا عثمان ما أسررت وما أعلنت، وما أخفيت وما هو كائن إلى أن تقوم الساعة" "ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم. . ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم" "لكل نبي رفيق ورفيقي (يعني في الجنة) عثمان" "ألا أستحي من رجلٍ تستحي منه الملائكة؟ " (رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-) "هذا عثمان بن علي سميته بعثمان بن عفان" (علي بن أبي طالب) "قتلتموه وإنه ليحيي الليل كله بالقرآن؟!! " (أم المؤمنين عائشة) "رأيت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- من أول الليل إلى أن طلع الفجر رافعا يديه يدعو لعثمان اللهم عثمان رضيت عنه فأرض عنه" (أبو سعيد الخدري) "رأيت عثمان نائما في المسجد ورداؤه تحت رأسه فيجيئ الرجل فيجلس إليه ثم يجيئ الرجل فيجلس إليه كأنه أحدهم" (الحسن بن علي) "كان عثمان يطعم الناس طعام الإمارة ويدخل بيته فيأكل الخل والزيت! " (شرحبيل بن مسلم) كنت قد ذكرت في بداية هذا الكتاب أن الصحابي الجليل (عمرو بن العاص) رضي اللَّه عنه وأرضاه هو ثاني أكثر شخصية إسلامية تعرضت للتشويه في تاريخ المسلمين، وأن هناك رجلًا آخر في تاريخ المسلمين تعرض تاريخه إلى أكبر عملية تشويه، وذكرت حينها

أنني سأفرد له أكثر عددٍ من الصفحات من بين كل عظماء أمة الإسلام المائة، ذلك لأن هذا الرجل إنما هو رجل استثنائي، فهو ثالث أعظم مخلوقٍ خلقه اللَّه بعد الأنبياء، وهو ثالث العشرة المبشرين بالجنة، وهو الإنسان الوحيد في تاريخ البشرية الذي تزوج من ابنتي نبيٍ مرسل، وهو ثالث الخلفاء الراشدين، وهو الرجل الذي تستحي منه الملائكة، وهو رفيق رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في الجنة، وهو الإنسان الذي جمع القرآن الذي نقرأه إلى يومنا هذا، وهو مجهز جيش العسرة، وهو الذي اشترى بئر رومة وجعلها ملكًا للمسلمين، وهو الرجل الذي تمَّت بسببه بيعة الرضوان. . . أعظم بيعة في تاريخ الأرض، إننا في صدد الحديث عن رجلٍ من نوعية خاصة قلّما ظهرت في التاريخ، إننا في صدد الحديث عن صهر رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ذي النورين، صاحب الهجرتين، المصلي إلى القبلتين، إنه التوّاب الأوّاب، العابد الخاشع، المحسن الخاضع، إنه المسلم التقي، المؤمن النقي، الكريم الحيي، السهل السخي، السمح السري، إنه الجواد الكريم، صاحب السخاء العظيم، رجل البر والجود والإحسان، جامع القرآن. . . . . عثمان بن عفان. ولا أخفي القارئ الكريم سرًا أنني كنت قد عزمت في البداية أن يكون عثمان بن عفان هو أول شخصية افتتح بها هذا الكتاب، لا لأنه يفوق أبا بكر الصديق في الفضل، بل لإنه أكثر شخصية إسلامية تعرضت للتشويه في تاريخ الأمة، بل إنني لا أعتبر نفسي مبالغًا إذا ما زعمت أنّ عثمان بن عفّان هو أكثر شخصيةٍ تعرضت للتشويه والتزييف في تاريخ العنصر البشري على الإطلاق! لذلك رأيت أنّ من واجبي أن أدافع بقلمي عن هذا الرجل الذي لطالما دافع عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، في هذا الوقت الذي تتطاول فيه الأقزام على عمالقة الإنسانية، ويتدافع فيه المنافقون من كل حدبٍ وصوبٍ لتدمير تاريخ عظمائنا، لتدمير هذه الأمة من الداخل، بعدما أن علم الغزاة أن حروبهم التي شنّوها على هذه الأمة لم تستطع أن تنهيَ وجودها، بل بالعكس، فقد قامت هذه الأمة ونفضت عن غبارها بعد كل حرب لتعود من جديد أقوى بألف مرة من سابق عهدها، فاختار هؤلاء الأشرار في القرنين الأخيرين طريقة جديدة لتدمير الإسلام، لا من خلال الغزو العسكري، بل من خلال الغزو التاريخي، فعملوا على ضرب رموزنا، وتشويه صورتهم، والتشكيك في منجزاتهم الحضارية، وللأسف. . . . . . فقد نجحوا في مبتغاهم هذه المرة! فانتصر غزاة

التاريخ في حربهم الشعواء التي خاضوها ضد رموز هذه الأمة، فأصبحت ثوابت هذه الأمة في مهب الريح لسنواتٍ عدة، تملّكت فيها روح اليأس والهزيمة قلوبَنا، فأصبحنا أجسادًا بالية تسكنها أرواحٌ مهزومة في داخلها، فهُنّا على الناس، بعد أن هُنّا على أنفسنا! ولكن كدَيْدَن هذه الأمة العجيبة، وعندما ظن الجميع أنها على وشك النهاية المحققة، وبعد أن سمع الجميع حشرجات الموت تخرج من جسدها المهترئ، حدث شيء عجيب! فقد خرج من بين تلك الضلوع المشلولة مولودٌ جديدٌ تبدو عليه قسمات العظمة، يشبه في ملامحه ملامحَ عظماء الأمة السابقين، إلا أنه لم يجد من يستعين به لقيامه، فأخذ يترنح ويتخبط في كل الاتجاهات لا يعرف إلى أين يتجه، فتارةً يتجه إلى الشرق، وتارةً يتجه إلى الغرب، وتارة يأخذه اليأس والغضب، فيدمر ما حوله نتيجة لذلك، ليظل على ذلك الأمر من التخبط حتى سخر اللَّه له في السنوات الأخيرة رجالًا هبّوا وقاموا قومة رجلٍ واحد ليرشدوا ذلك المولود الجديد، فقاموا بإزاحة التراب عن كتب التاريخ، ليحدِّدوا البَوْصلة التي تُرشد ذلك الطفل الوليد إلى الاتجاه الصحيح، فقاموا بحمل راية الجرح والتعديل، ولكن هذه المرة لروايات التاريخ المطوية منذ مئات السنين، عندها بدأت ملامح شخصية ذلك الطفل تنمو شيئًا فشيئًا، كل ذلك بفضل اللَّه، ثم بفضل من أحب أن أطلق عليهم اسم "المؤرخين الجدد"، فهؤلاء كانوا أصحاب السبق في إعادة إحياء هذه الأمة الميتة، وهؤلاء هم من استعنت بأعمالهم في إيجاد مادة هذا الكتاب، وهؤلاء هم الذين استعنت بهم لمعرفة حقيقة هذا الرجل المظلوم تاريخيًا. . . . . . وعثمان بن عفان تعرض تاريخه لأقذر عملية تشويه وتزييف في تاريخ البشر، حتى بات عثمان في أعين المسلمين أنفسهم ذلك الرجل الانتهازي الفاحش الثراء الذي بنى القصور له ولأهله، وانتشرت في عهده المحسوبية، فجعل أبناء عمومته أمراءً على الولايات الإسلامية على حساب بقية المسلمين من العامة، وشحَّ في عهده العدل، وانتشر الظلم، وتعطل شرع اللَّه، فعمّت الفوضى أرجاء الخلافة الإسلامية في عهده، مما أدّى في نهاية الأمر إلى مقتله على أيدي من سمّاهم المستشرقون باسم "الثوار"! فكان ذلك -على حد زعمهم- نتيجةً لظلمه وطغيانه، وحبّه للمال، بينما رأى كثيرٌ من

المحبين لعثمان ابن عفان أنه وإن كان رجلًا صالحًا فإنه ذو شخصية ضعيفة لا تصلح للسياسة، فهو بضعف شخصيته تلك أد إلى نشوب أول فتنة في تاريخ المسلمين، لا تزال تداعياتها مستمرةً حتى يوم الناس هذا، فأصبح عثمان بن عفان هو السبب الرئيسي لدمار الحلم الإسلامي الكبير الذي بدأه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وثبت أركانه أبو بكر الصديق، ليجعله عمر بن الخطاب حقيقة علمية يراها الناس بأعينهم، قبل أن يأتي ابن عفان ليدمر ذلك البناء الجميل بظلمه وضعف شخصيته. . . . على حد زعمهم أيضًا! [آية من القرآن بخط الصحابي الجليل عثمان بن عفان -رضي اللَّه عنه-] لذلك. . . . لن أتبع في هذه الصفحات الطريقة الاعتيادية التي يستخدمها أساتذتنا في معرض ترجمتهم لعثمان بن عفان -رضي اللَّه عنه- وأرضاه، فلقد أصبح معلومًا للجميع سخاء عثمان وكرمه وتجهيزه لجيش العسرة وكيف اشترى بئر رومة وكيف تصدق به للمسلمين، وبات معلومًا أيضًا سر تسميته بذي النورين وكيف أن الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- تمنى أن لو كان له بنتًا ثالثة ليزوجها لعثمان بعد أن ماتت ابنته، ولن أتطرق إلى تلك الأزمات الإقتصادية التي لم تجد إلّا عثمانها المعطاء لحلها! بل سيكون المنهاج الذي سأسير عليه خلال الصفحات القادمة هو عرض جميع التهم والشبه التي ألقيت جزافًا على عثمان، وأنا حينما أقول (جميع التهم) فأنا أقصد ما أقوله بالحرف الواحد، فلا يوجد في تاريخ هذه الأمة منذ نشأتها ما يدعونا للخزي منه، وما كان صمت علمائنا جزاهم اللَّه كل خير عن التطرق إلى موضوع الفتنة التي عصفت بالمسلمين إلّا محاولة التركيز على جوهر الإسلام بدلًا من إثارة روح الثأر! فقد حان الوقت لعلماء هذه الأمة أن يتخلو عن صمتهم، فالخطر كبيرٌ كبيرٌ، والإسلام مهددٌ الآن أكثر من أي يومٍ مضى، وأحاديث محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- باتت عرضةً للتشكيك، وصحيح البخاري أصبح محلًا للنقاش على شاشات الفضائيات وأعمدة الصحف، كل ذلك لأننا أهملنا الجانب التاريخي في حياة هذه الأمة،

وركزنا على الجوانب العقائدية، ونسينا أن العقيدة نفسها قد نقلت إلينا من خلال صحابة محمد! فإذا استمر سكوتنا عن الطعن في أولئك الرجال وتاريخهم، أصبحت تلك الأحاديث النبوية التي نقلوها هم إلينا عرضة للشك، بل أصبح كتاب اللَّه نفسه كتابًا باطلًا، فعثمان هو الرجل الذي جمع القرآن لنا، فإذا قبلنا الشك في ذمته. . . . بات لزامًا علينا أن نقبل الشك في القرآن! والسائل يسأله هنا: لماذا عثمان بالذات؟ لماذا ليس الصدّيق أو عمر؟ بل لماذا ليس محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- هو من تناله سهام المشككين ورماح غزاة التاريخ؟ والواقع أن جميع هؤلاء قد نالوا نصيبهم من جراح الحرب التاريخية، إلّا أن الهدف من تلك الحرب الشعواء أخطر من الطعن في الشخصيات نفسها بكثير، وأكبر من شخص أبي بكر وعمر وباقي الصحابة، بل إن الهدف أكبر من شخص رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- نفسه! إن الهدف الرئيسي لغزاة التاريخ هو دين اللَّه، الهدف هو الإسلام نفسه! هذا الدين الذي لا نعرف نحن قيمته تقام له المؤتمرات السرية لدراسة سُبل إنهائه من على وجه الأرض، ولا شكّ أن الخبراء الإستراتيجيين من غزاة التاريخ قد أدركوا أن سر قيام المسلمين بعد كل سقوطٍ لهم يكمن في الدرجة الأولى في ذلك الكتاب العجيب الذي يسميه المسلمون "القرآن الكريم"، ولا شك أنهم عرفوا أيضًا أن رجلًا من بني أمية يقال له (عثمان بن عفان) هو الذي جمع هذا الكتاب، لذلك أصبح هذا الرجل هو العدو الأول لغزاة التاريخ، بل أصبح (بنو أمية) أنفسهم هدفًا لسهامهم المسمومة، لذلك فإن الحرب على عثمان بن عفان رضي اللَّه عنه وأرضاه إنما هي حربٌ على كتاب اللَّه! والآن لنستعرض تلك الشبهات التي ذكرها غزاة التاريخ من المستشرقين وعملائهم من الشيعة الروافض والمنافقين من المثقفين، لنجيب نحن عليها بشكلٍ علمي وهادئ، بعيدًا عن التعصب الأعمى: أولًا: الشبهة المالية: لو اختار هؤلاء الطاعنون الأغبياء أي تهمةٍ أخرى غير هذه التهمة في حق عثمان لكان خيرًا لهم، فعثمان بن عفان رضي اللَّه عنه وأرضاه (وبشهادة هؤلاء الطاعنين أنفسهم) كان أغنى العرب على الإطلاق حتى قبل توليه منصب الخلافة، وعثمان هو الرجل الذي كان يعالج الأزمات الإقتصادية التي مر بها المسلمون

في حضرة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وأنا هنا أرد بما ردّ به هو نفسه على المنافقين عندما اتهموه بذمته المالية بقوله: "إن العرب جميعًا تعلم أني اكثر العرب بعيرًا وشاةً وقد أنفقت ذلك كله في سبيل اللَّه ولا أملك الآن إلّا بعيرين اثنين للحج! ". ثانيًا: محاباة عثمان لأقاربه! دعوني أعترف أنني أستغرب فعلًا في عدد الولاة من بني أمية الذين عينهم ابن عمهم عثمان بن عفان، ولكن لا لكثرتهم، بل لقلتهم!! فلقد كان عدد الولاة من بني أمية في زمن عثمان بن عفان الأموي اثنين فقط، هما الصحابيين الجليلين (معاوية بن أبي سفيان) و (عبد اللَّه ابن السائب بن قريظ) -رضي اللَّه عنهما-، ونحن نتحدث عن واليين فقط في دولة ممتدة من "أذربيجان" إلى "تونس"، بل إن معاوية بن أبي سفيان -رضي اللَّه عنه وعن أبيه- كان واليًا على الشام منذ عهد الفاروق عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه-، وعمر هو من هو في اختيار ولاته! والحقيقة أنني أستغرب في عدم تولية عثمان لأقاربه من بني أمية والذين يعتبرون أفضل العرب في شئون الحكم والسياسة على الإطلاق، بل إن عجبي ذلك قد زاد عندما أحصيت الولاة من بني أمية الذين استأمنهم أعظم مخلوق في تاريخ الأرض رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بنفسه على الولايات الإسلامية لأجد هذه النتيجة العجيبة: • أبو سفيان بن حرب بن أمية: أسلم قبل فتح مكة، ولاه النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- على "نجران". • معاوية بن أبي سفيان بن حرب بن أمية: أمَّنه الرسول صلى اللَّه على كتابة الوحي المنزل من السماء، وجعله أميرًا على لواءٍ من ألوية الجيوش النبوية. • عبد اللَّه بن سعيد بن العاص بن أمية: من أوائل من أسلموا، وأحد شهداء بدر الثلاثة عشر، أمره النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بتعليم القرآن بالمدينة ثم ولاه بعض قرى العرب. • عمرو بن سعيد بن العاص بن أمية: قديم الإسلام شهد بدرًا وهاجر الهجرتين، ولاه النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- على "وادي القرى". • خالد بن سعيد بن العاص بن أمية: قديم الإسلام جدًا، أسلم في أيام الإسلام الأولى، من مهاجرة الحبشة، ولاه النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- على "صنعاء". • أبان بن سعيد بن العاص بن أمية: أسلم أثناء غزوة خيبر عام 7 هـ، ولاه النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- على "الخطّ" (حاليًا القطيف).

• عتاب بن أسيد بن أبي العيص بن أمية: أسلم يوم فتح مكة، ولاه النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- على "مكة"، ليكون هذا الأمير الأموي أول حاكم إسلامي لمكة! ومن ذلك نرى أن الطعن في ذمة بني أمية هو طعن في ذمة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- الذي كان هو أول من ولاهم، ومن ثم الطعن في اللَّه نفسه الذي لم يحذر رسوله من خطر بني أمية المزعوم!!! ثالثًا: حرق عثمان للمصاحف: وهذا حقٌ أراد به الشيعة باطلًا، فلقد جمع عثمان بن عفان القرآن كله في مصحفٍ واحدٍ، ثم حرق بقية المصاحف الأخرى ليبقى القرآن محفوظًا بالمصحف العثماني الذي لا نزال نتعبد به اللَّه، وأرفق هنا صورة للمصحف العثماني الأصلي الموجود إلى يوم الناس هذا في "متحف إسطانبول" بتركيا بخط يد الصحابي الجليل (زيد بن ثابت) رضي اللَّه عنه وأرضاه. رابعًا: أحقية عثمان بالخلافة: عثمان بن عفان هو ثالث أعظم رجلٍ في هذه الأمة بشهادة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، بعد أبي بكرٍ وعمر -رضي اللَّه عنه-، وعثمان هو الذي استأمنه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- على ابنته رقية بنت محمد عليها السلام، ثم بعد موتها على أختها أم كلثوم بنت محمد عليها وعلى أبيها السلام، ثم إن عثمان انتخِب انتخابًا من الناس بعد أن قام الصحابي الجليل (عبد الرحمن ابن عوف) باستفتاء أهل المدينة الذين كانوا يحبونه ويوقرونه، ثم إن الصحابة جميعهم بلا استثناء بايعوا عثمان وكان أولهم الصحابي البطل علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه وأرضاه. خامسًا: تغييره لسنة الرسول: وذلك أنه وسّع المسجد النبوي وزاد من درجات منبره، المضحك أن أغلب أولئك الطاعنين هم من الشيعة الذين لا يؤمنون بسنة رسول اللَّه أصلًا! وتناسى الشيعة وغيرهم أن عدد المسلمين قد زاد في عهد عثمان لدرجة أن المسجد لم يعد يستوعب أعداد المصلين، وأن كثرة عدد المصلين أوجبت على عثمان أن يزيد من ارتفاع المنبر لكي يسمعه المصلون ويروه من على بعد! سادسًا: انتشار الفقر والظلم في عهده: لو كنت من أولئك المنافقين -والعياذ باللَّه-

لبحثت عن كذبة أخرى يمكن للمرء أن يصدقها، فعهد الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي اللَّه عنه وأرضاه كان أكثر زمن انتشر فيه الرخاء الاقتصادي في تاريخ أمة الإسلام على الإطلاق، أما في مسألة العدل فنحن أمام ثلاث احتمالات، فإمّا أن نؤمن بأن عثمان كان عادلًا بين الناس فنصدق بذلك رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- الذي بشره بالجنة، وإما أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يكذب علينا عندما أخبرنا بعدل صحابته الكرام، وإما أن يكون اللَّه مقصرًا في بين رسوله الكريم باختياره لأولئك الرجال ليكونوا أصحابًا لرسوله الذي اصطفاه من بين العالمين. وحاشى اللَّه ورسوله وصحابته! سابعًا: نفيه لأبي ذر الغفاري: وهذه الشبهة منتشرة للأسف بين صفوف إخواننا من المتصوفة الطرقيين، والحقيقة أن عثمان لم ينفِ أبا ذرٍ البتة، بل إن أبا ذرٍ الغفاري رضي اللَّه عنه وأرضاه قد اختار لنفسه العيش في الصحراء بعد أن انتشر التمدن والغنى -كما أسلفنا- في عهد عثمان بن عفان، وذلك لأن طبيعة أبي ذر هي طبيعة زاهدة في الحياة ولا يمكن لها أن تتقبل هذا الثراء الذي انتشر في أرجاء الخلافة الإسلامية بعد أن امتلك المسلمون كنوز كسرى وقيصر، وهذا شيءٌ لا يضير أبا ذر، كما أنه لا يضير أخاه عثمان بن عفان. ثامنًا: ضعف شخصية عثمان: يا لحماقة أولئك القوم! فكيف يكون الرجل ظالمًا متجبرًا ويكون ضعيف الشخصية في آنٍ واحد؟!! ولكن هذا هو ديدن المنافقين. . . . الغباء! فكيف لرجلٍ يُتهم بضعف الشخصية أن يبيد الإمبراطورية الفارسية ويمسحها من خارطة التاريخ؟ وكيف له أن يقضي على الفتن والقلاقل في أرمينية وأذربيجان؟ وكيف له أن يفتح إفريقية؟ وكيف له أن يفتح جمهوريات الاتحاد السوفييتي المسلمة؟ وكيف له أن يرسل رسالة مكتوب عليها "من عثمان بن عفان خليفة رسول اللَّه إلى إمبراطور الصين. . . أسلم تسلم! "؟ بل كيف يرضى الصحابة وعلى رأسهم الصحابي البطل علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه وأرضاه بأن يكون الرجل الذي يحكمهم ضعيف الشخصية؟!!! أمّا إذا كان غزاة التاريخ يقصدون حِلم الخليفة عثمان بن عفان وعفوه على المنافقين وعدم قتاله لأولئك المجرمين الذين جاءوا ليقتلوه، فهذا حقٌ آخر يُراد به باطل، فعثمان بن عفّان كان حليمًا بالفعل معهم، ليس لأنه ضعيف، بل لأنه رجلٌ حليمٌ إلى درجةٍ جعلت الملائكة تستحي منه، ولمعرفة مقدار الحلم الذي كان يتمتع به هذا

الرجل الاستثنائي يجب علينا أن نستمع إلى حديث أم المؤمنين الطاهرة المطهرة عائشة -رضي اللَّه عنها- وهي تقص علينا هذه القصة العجيبة التي أوردها الإمام مسلم في صحيحه: "كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- مضطجعا في بيتي، كاشفا عن فخذيه أو ساقيه فاستأذن أبو بكر فأذن له، وهو على تلك الحال، فتحدث، ثم استأذن عمر فأذن له، وهو كذلك، فتحدث، ثم استاذن عثمان، فجلس رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. وسوى ثيابه -قال محمد: ولا أقول ذلك في يوم واحد- فدخل فتحدث، فلمّا خرج قالت عائشة: دخل أبو بكر فلم تهتش له، ولم تباله، ثم دخل عمر فلم تهتش له ولم تباله. ثم دخل عثمان فجلست وسويت ثيابك؟! فقال: "ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة". إذا فالرجل كان يتمتع بدرجة عجيبة من الحياء ميزته عن بقية البشر، لدرجة أن الملائكة كانت تستحي منه، وواللَّه إن المرء ليقف متعجبًا من أمر هذا الرجل الحيي، فعثمان لم يسكت عن أولئك المجرمين نتيجةً لضعفه، بل سكت لأنه كان قد سمع شيئًا خطيرًا من رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولنستمع هذه المرة للصحابي الجليل أبي موسى الأشعري ليروي لنا هذه القصة الخطيرة التي عاش أحداثها بنفسه: "توضأت في بيتي ثم خرجت فقلت لألزمن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ولأكونن معه يومي هذا فجئت المسجد فسألت عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فقالوا خرج ووجه هاهنا فخرجت على إثره أسأل عنه حتى دخل بئر أريس فجلست عند الباب وبابها من جريد حتى قضى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- حاجته فتوضأ فقمت إليه فإذا هو جالس على بئر أريس وتوسط قفها وكشف عن ساقيه ودلاهما في البئر فسلمت عليه ثم انصرفت فجلست عند الباب فقلت لأكونن بواب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- اليوم فجاء أبو بكر فدفع الباب فقلت من هذا فقال أبو بكر فقلت على رسلك ثم ذهبت فقلت يا رسول اللَّه هذا أبو بكر يستأذن فقال ائذن له وبشره بالجنة فأقبلت حتى قلت لأبي بكر ادخل ورسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يبشرك بالجنة فدخل أبو بكر فجلس عن يمين رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- معه في القف ودلى رجليه في البئر كما صنع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وكشف عن ساقيه ثم رجعت فجلست وقد تركت أخي يتوضأ ويلحقني فقلت إن يرد اللَّه بفلان خيرا (يريد أخاه) يأت به (لكي يبشره الرسول بالجنة أيضًا!) فإذا إنسان يحرك الباب فقلت من هذا فقال عمر بن الخطاب فقلت على رسلك ثم جئت إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-

فسلمت عليه فقلت هذا عمر بن الخطاب يستأذن فقال ائذن له وبشره بالجنة فجئت فقلت ادخل وبشرك رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بالجنة فدخل فجلس مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في القف عن يساره ودلى رجليه في البئر ثم رجعت فجلست فقلت إن يرد اللَّه بفلان (أخيه) خيرًا يأت به فجاء إنسان يحرك الباب فقلت من هذا فقال عثمان بن عفان فقلت على رسلك فجئت إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فأخبرته فقال ائذن له وبشره بالجنة على بلوى تصيبه فجئته فقلت له ادخل وبشرك رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بالجنة على بلوى تصيبك، عندها نظر عثمان في عيني أبي موسى وهو يتأمل هذه الكلمات فقال له: نصبر إن شاء اللَّه! ". إذًا فقد كان عثمان يعلم علم اليقين أنه سيتعرض لبلوى عظيمة، بل إن الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- أخبره صراحة بأنه سيستشهد حين قال له: "يا عثمان! إذا ألبسك اللَّه قميصًا (يقصد الخلافة) وأرادك المنافقون على خلعه فلا تخلعه"! بل إن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال في موضعٍ آخرٍ شيئًا عجيبًا! فبينما رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يمشي مع الثلاثي الأعظم -أبي بكر وعمر وعثمان- اهتز جبل أحد بهم، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اثبت أحد، فإنما عليك نبي وصديق، وشهيدان" إذًا فقد كانت المسألة مجرد مسألة وقت ينتظر فيها عثمان وعد اللَّه ورسوله بالشهادة! والحقيقة أن عملية اغتيال عثمان كان مخططًا لها حتى قبل توليه الخلافة، وبالتحديد من أول عملية إرهابية تتعرض لها أمة الإسلام، ولنبقى هذه المرة مع الصحابي الجليل (عبد الرحمن بن أبي بكر) -رضي اللَّه عنهما- ليروي لنا هذه القصة الخطيرة عن ذلك المؤتمر الخطير الذي اجتمعت فيه لأول مرة "القوى الفارسية المجوسية" و"القوى الصليبية الحاقدة" متمثلة في شخص (أبي لؤلؤة المجوسي) وشخص الملك الفارسي (الهرمزان) من الناحية الفارسية، وشخص (جفينة النصراني) من الناحية الصليبية. . . . . فقد كان عبد الرحمن يتمشى في ليلة من ليالي المدينة الهادئة، ليتفاجأ عن طريق الصدفة باجتماع كل من أبي لؤلوة المجوسي وجفينة النصراني والهرمزان في إحدى طرق المدينة الخفية، فلما اقترب ابن الصِّديق منهم ارتبكوا ارتباكًا شديدًا، فسقط منهم خنجر ذو حرفين، وبعدها بقليل قتل ذلك الإرهابي الفارسي أبو لؤلؤة الفاروقَ عمرَ بن الخطاب -رضي اللَّه عنه-، فوجد المسلمون ذلك الخنجر المسموم الذي كان يستعمله ذلك المجرم، لقد كان هو هو ذلك الخنجر ذا الحرفين الذي رآه عبد الرحمن بن أبي بكر!

إذا فقد كان هناك تحالفٌ فارسي صليبي ضد الفاروق!! أما في حالة ذي النورين عثمان ابن عفان، فقد انضم طرف آخر لذلك التحال! لتكتمل خيوط مثلث العداء الإسلامي الذي سيستمر إلى يومنا هذا (الفرس المجوس - الصليبيون - اليهود)، فقد برزت شخصية خطيرة سيكون لها الدور الكبير في تغيير حركة الإرهاب العالمية عبر التاريخ، لقد ظهر رجلٌ في اليمن اسمه (عبد اللَّه بن سبأ)! عبد اللَّه بن سبأ: هو يهودي من يهود اليمن، وُلد في صنعاء لأبٍ يهودي وأم حبشية، ادعى اعتناقه للإسلام (تقية) في زمن الخليفة عثمان بن عفان رضي اللَّه عنه وأرضاه، وانتظر الفرصة السانحة لتدمير الإسلام من الداخل، وفعلًا قام بوضع نظرية اقتبسها من اليهودية وهي نظرية "الوصية والرجعة"! وملخص هذه النظرية أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- سيرجع كما رجع موسى -عليه السلام- بعد غيابه أربعين يومًا عن بني إسرائيل، وأن (علي بن أبي طالب) هو وصي رسول اللَّه كما كان (يوشع بن نون) هو وصي موسى! (وربما يفسر هذا مدى الترابط الكبير بين العقيدة الشيعية والعقيدة اليهودية!) المهم أن ابن سبأ قام بنشر دعوته في الشام، فطرده أهل الشام الأبطال، ثم حاول أن ينشر دعوته في مصر ففشل، فذهب إلى العراق، فوجد هناك البيئة المناسبة لأفكاره الانحرافية من قبل بقايا المجوس الذين دمر الإسلام إمبراطوريتهم وأطفأ نارهم، فقام ابن سبأ بوضع خطةٍ محكمة لتدمير الدولة الإسلامية من الداخل، فقام بإرسال خطابات وهمية موقعة باسم أم المؤمنين عائشة وأسماء كبار الصحابة يدَّعي فيها أنهم يطلبون النجدة من المسلمين في الولايات المختلفة ليخلصونهم من ظلم عثمان الذي يعذبهم في المدينة المنورة، وفعلاّ انتشرت هذه الإشاعات انتشار النار في الهشيم، وبدأ المنافقون يتجهون نحو المدينة لقتل خليفة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وقاموا بمحاصرة بيت عثمان بن عفان رضي اللَّه عنه وأرضاه، فتوجه كبار الصحابة وشباب الإسلام يحملون سيوفهم للدفاع عن صهر رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فتوجه عثمان بن عفان للمدافعين عنده في الدار من المهاجرين والأنصار وكانوا قريبا من سبعمائة: فتعمم البطل الإسلامي الكبير (علي بن أبي طالب) بعِمامة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وامتشق سيفه متجهًا إلى دار عثمان يقود جمعًا كبيرًا من أسود الصحابة للدفاع عن خليفتهم، فكان من بين من حملوا سيوفهم مع القائد علي البطل بن البطل (عبد اللَّه بن

عمر بن الخطاب)، والبطل ابن البطل (عبد اللَّه بن الزبير)، والبطلان ابنا البطل (الحسن والحسين)، و (مروان)، و (أبو هريرة)، و (أبو سعيد الخدري) وخلق من مواليه، فخرج لهم عثمان قبل أن يقاتلوا المنافقين وقال لكتيبة المدافعين التي يقودها البطل علي بن أبي طالب: "أقسم على من لي عليه حق أن يكف يده وأن ينطلق إلى منزله! " فاستجاب الصحابة مكرهين لأمر خليفتهم ودموعهم تملؤ أعينهم، ثم توجه ذو النورين نحو رقيقه الذين حملوا السلاح ليذوذوا عن سيدهم وقال لهم: "من أغمد سيفه فهو حر"! ليصرف عثمان جميع المدافعين عنه، وليبقى بذلك وحده محاصرًا من قبل أولئك المنافقين، فقام أولئك الإرهابيون من شذّاذ الأرض بمنع الماء عن خليفة المسلمين عثمان بن عفان لكي يموت عطشًا، وهو الذي سقى رسول اللَّه من بئر رومة! وبينما عثمان نائم والمجرمون محيطون ببيته، استيقظ البطل عثمان بن عفان وهو يضحك، فلما سُئل عن سر سعادته قال: "رأيت في منامى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وأبا بكر وعمر يقولون لى: "اصبر، فستفطر عندنا غدًا يا عثمان! " فأصبح عثمان بن عفان رضي اللَّه عنه وأرضاه صائمًا، وفتح الباب منتظرًا الشهادة، وتناول القرآن الذي كان هو من جمعه للمسلمين، وأخذ يقرأ القرآن بصوته العذب، فانقض عليه الإرهابي المجرم (الغافقي)، فطعنه بحديدة في رأسه، فسالت الدماء شلالًا من صهر رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ثم ضرب هذا المجرم المصحف بقدمه، فدار المصحف دورةً كاملةً ليستقر مرةً أخرى في حضن عثمان، وكأن كتاب اللَّه يأبى إلا أن تخالط حروفه دماء عثمان، فاستقرت نقطةٍ من دماء عثمان فوق موضعٍ في كتاب اللَّه مكتوب فيه (فسيكفيكهم اللَّه)، ثم أقبل المجرمون بخناجرهم يطعنون هذا الرجل الذي تستحي منه الملائكة، فتقدمت امرأته المخلصة الصحابية الجليلة (نائلة بنت الفرافصة) رضي اللَّه عنها وأرضاها تدافع عن زوجها بكل بسالة وهم يطعنون به من كل جنب، فهجم عليه أحدهم وهوى عليه بسيفه، فتلقت الزوجة الوفية نائلة السيف بيدها لتحمي زوجها، فقطعت أناملها، وبينما كانت تهرع لإمساك سيف رجل ثانٍ قطع ذلك المجرم أصابع يدها الأخرى وهو يدخل السيف فى بطن عثمان ليقتله، وحين هموا بقطع رأسه عثمان ألقت عليه بنفسها إلا أنهم لم يرحموا ضعفها، ولم يعرفوا لعثمان قدره، فحزوا رأسه، ومثَّلوا به، فصاحت تلك المرأة المجاهدة والدم يسيل من

أطرافها: "إن أمير المؤمنين قد قُتل! إن أمير المؤمنين قد قُتِل! " فدخل أحد الإرهابيين إلى الدار عقب مقتل خليفة رسول اللَّه عثمان بن عفان، فإذا به يرى رأسه فى حجر زوجته الوفية وهي تبكي عليه غير آبهة بالدماء التي تسيل من أطرافها المقطوعة، فهجم عليها ذلك المجرم السافل ولطم وجه عثمان، فدعت عليه قائلة: "يبَّس اللَّه يدك، وأعمى بصرك". فلم يخرج ذلك المجرم من باب الدار إلا وقد يبست يداه، وعمى بصره ليهجم أولئك السفلة المنحطين من أهل العراق وغيرهم نحو السيدة الطاهرة نائلة بنت الفرافصة، ليجرِّدوها من مِلائة كانت على جسدها الطاهر وهم يضحكون، ويركلون كتاب اللَّه بأرجلهم، بعدها قام أولئك المنافقون اللصوص بسرقة كل محتويات البيت وهم يركضون حاملين كل شيء على أكتافهم (في منظرٍ مخزٍ تكرر عام 2003 م بنفس الصورة!) لتخرج روح أعظم ثالث رجلٍ في تاريخ الإنسانية بعد الأنبياء، وتستقر عند بارئها، وليستشهد الصحابي الجليل عثمان بن عفان الأموي القرشي صائمًا وهو يقرأ كتاب اللَّه، ولتنتهي بذلك حياة إنسان ما عرفت الأرض مثله في التاريخ، إنسانٌ تستحي منه الملائكة! فرحمك اللَّه يا عثمان. . . . رحمك اللَّه يا صهر رسول اللَّه. . . . وعذرًا ذا النورين إن كنت قد أسأت الظن بك في يومٍ من الأيام، أو قصّرت في إنصافك في هذا الصفحات القليلة من هذا الكتاب! وسلامًا أيها الإنسان النقي، أيها الكريم الحيي، أيها السهل السخي، أيها السمح السري، أيها الجواد الكريم، يا صاحب السخاء العظيم، يا رجل البر والجود والإحسان، يا جامع القرآن، يا عثمان بن عفان! ولكن. . . . كيف جاءت ساعة الانتقام من تلك الوحوش البشرية؟ ومن هو الصقر الأموي الذي حمل على عاتقه الثأر لذي النورين؟ وما الشيء الذي فعلته الزوجة المخلصة نائلة بنت الفرافصة بعد ذلك؟ وما الذي كان يحتويه ذلك الصندوق السري الذي بعثت به إلى الشام؟ ومن هو ذلك الصحابي الجليل الذي تسلم رسالتها؟ ولماذا كان رسول اللَّه يستأمنه على الوحي المنزل؟ وما الشيء الذي قاله جبريل -عليه السلام- في حق ذلك العظيم الإسلامي؟ وكيف أصبح بعدها أعظم إنسان حكم المسلمين عبر تاريخ الإسلام بعد رسول اللَّه مباشرة؟ ولماذا يعتبره أتباع ابن سبأ عدوَّهم الرئيسيَّ الأول؟ يتبع. . . .

41 - خال المؤمنين (معاوية بن أبي سفيان)

{قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ} " خال المؤمنين" (معاوية بن أبي سفيان) " يا محمد! إن اللَّه يأمرك أن تستأجر معاوية، إن خير من استكتبت القوي الأمين" (جبريل -عليه السلام-) "اللهم علمه الكتاب والحساب وقه العذاب" "اللهم اجعلهُ هادِيًا مَهديًّا واهده واهدِ به" (محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-) "معاوية سترٌ لأصحاب محمد، فإذا كشف الرجلُ الستر اجترأ على ما وراءه" (البداية والنهاية) "ما رأيت أحدا قط بعد رسول اللَّه كان أسود (أكثر سيادة) من معاوية" (عبد اللَّه بن عمر) "ما رأيت رجلا كان أخلق للملك من معاوية" (عبد اللَّه بن عباس) "ما رأيت أشبه صلاة برسول اللَّه من معاوية" (أبو الدرداء) "ما رأيت أحدًا بعد عثمان أقضى بحق من معاوية" (سعد بن أبي وقاص) "رأيت معاوية مردفًا عبده على بغلة في سوق دمشق عليه قميصٌ مرقَّع الجيب! " (يونس بن حلبس) "ما رأيت أحدًا أعظم حلمًا ولا أكثر سؤددًا ولا أشبه سريرة بعلانية مثل معاوية" (قبيصة بن جابر) "معاوية عندنا مِحْنة، فمن رأيناه ينظر إليه شزَرًا اتهمناه على الصحابة! " (عبد اللَّه بن المبارك)

لو جاءني أحدٌ وسألني عن معاوية بن أبي سفيان قبل سنيّات معدودة لسمع مني مختلف ألوان السَّب والطعن في هذا الرجل! بل لسمع مني تشكيكًا في إسلامه وإسلام أبيه من قبله!!! هذه حقيقة أشهد اللَّه عليها، فلقد كنت للتشيع يومئذٍ أقرب مني لمذهب أهل السنة والجماعة، وربما يعجب البعض من ذلك بعد أن لاحظ تركيزي على خيانات الشيعة عبر التاريخ في هذا الكتاب، والحقيقة أني لم أذكر شيئًا بعد عن خيانات أولئك القوم بعد، فالقادم في صفحات هذا الكتاب أكثر بكثير! ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا: من الذي كان سيتحمل المسؤولية أمام اللَّه لو أنني ارتددت إلى دين الشيعة؟ ومن الذي كان سيشفع لي أمام رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عندما ألاقيه يوم القيامة وقد سببت أصحابه واتهمت زوجاته بالزنى وآمنت بتحريف القرآن كما يفعل الشيعة اليوم؟ لا شك وقتها أنني سأكون المسؤول الأول عن ارتدادي أمام اللَّه، ولكن هناك نفر مسؤولون أيضًا سيقفون بلا شك بين يدي اللَّه ليتحملوا جزءً كبيرًا عن كل شابٍ تشيع من أهل السنة والجماعة ليسبّ عرض النبي وأصحابه الكرام، هؤلاء النفر هم علماء أهل السنة والجماعة الذين لم يبينّوا للناس الحقيقة الكاملة لقصة الفتنة الكبرى، فلقد حاولت جهدي أن أجد أجوبةً لأسئلتي الكثيرة المتعلقة بموضوع الفتنة التي حدثت بين علي ومعاوية رضي اللَّه عنهما وأرضاهما، فذهبت إلى العلماء أستفسر منهم حقيقة ما جرى بعد أن عجزت عن إيجاد الأجوبة المقنعة من خلال مناهج التاريخ المدرسية البالية، فكنت أجد جوابًا يتكرر كثيرًا على مسامعي، ذلك الجواب هو مقولة الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز رحمه اللَّه عندما سُئل عن الفتنة حيث قال: "تلك فتنة عصم اللَّه منها سيوفنا فلنعصم منها ألسنتنا! "، لذلك لم أجد جوابًا يذكر للسؤال الذي كان يحيرني دومًا: من الذي كان ظالمًا. . . . ومن الذي كان مظلومًا؟؟؟ حتى جاء ذلك اليوم الذي استمعت فيه عن طريق الصدفة في إحدى الإذاعات الشيعية إلى عالمٍ شيعي كان يروي قصة الفتنة، أذكر حينها جيدًا أن دموعي سألت بغزارة وأنا أستمع إليه وهو يقص باكيًا كيف تعرض أمير المؤمنين علي بن أبي طالب إلى الغدر والخيانة من قبل عائشة وأصحاب رسول اللَّه، ولكن الشيء الذي لم أكن أعلمه وقتها أن

كل ما كان يرويه ذلك الشيخ الباكي إنما هو مجرد أكاذيبٍ وخرافاتٍ! والحق أقول أنني تأثرت بهذه القصة الحزينة، وقلت وقتها لنفسي: لا بد أن الشيعة على حق! وربما يكون هذا هو السبب الذي يدفع علماء السنة إلى عدم الخوض في موضوع الفتنة! ثم مرت الأيام. . . . وازداد فيها يقيني بصدق الطرح الشيعي، وببطلان القصة التي يرويها أهل السنة والجماعة، وكم كنت أغضب حينما كنت أجد أحدًا من أصدقائي يتعرض للشيعة بكلمةٍ تمسّهم بسوء، وكنت أردد دائمًا: لماذا هذه النعرة الطائفية؟ ألا يتوجب علينا بدلًا من ذلك التركيز على العدو الخارجي؟ ثم جاء غزو العراق. . . ورأيت خيانة الشيعة هناك، ثم رأيت مذابحهم بأهل السنة والجماعة في شوارع بغداد، ثم رأيت ما فعله "حزب اللَّه" الشيعي في بيروت عام 2008 م، وكيف أنهم أغلقوا مساجد السنة ومنعوا المسلمين من الصلاة في مساجد بيروت، ثم أخذت أتابع الفضائيات الشيعية التي تدعو إلى تحريف القرآن، عند ذلك لجأت إلى كتب التاريخ الأصلية علّي أجد تفسيرًا لما يدور من حولي من ألغاز، فوجدت جميع الأجوبة التي أبحث عنها، والتي سأنقلها في الصفحات القليلة القادمة إن شاء اللَّه! أزعم أن لدي من الجرأة ما يدفعني لكي أقول أن زمن تلك المقولة لـ (عمر بن عبدالعزيز) رحمه اللَّه قد انتهى، فزمن الأمويين الذي كان يعيش فيه عمر بن عبد العزيز كان زمن سلامٍ وفتوحات إسلامية لا مجال فيه لنكء الجروح، أمّا الآن فنحن نواجه حربًا ضروسًا يجب أن نتسلح لها جيدًا بالعلم، فمقدساتنا تُنتهك، وأصحاب النبي يُسبّون ليل نهار، وزوجات محمد يُتّهمن بشرفهن، والمدّ الإيراني الصفوي يتمدد كالأخطبوط، وشبابنا يضيعون أمام أعيننا، وكتاب اللَّه أصبح عرضةً للتحريف، وإسلامنا أصبح في مهب الريح، دين اللَّه أصبح في خطر، دين محمد وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي ومعاوية أصبح في خطر!!! ولعل مقولة للإمام المجاهد الشيخ (عبد اللَّه بن المبارك) هي المقولة التي تناسب زماننا، حين سُئل الإمام أيهما أفضل: معاوية بن أبي سفيان، أم عمر بن عبد العزيز؟ قال: "واللَّه إن الغبار الذي دخل فى أنف معاوية مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أفضل من عمر بألف مرة، صلى معاوية خلف رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقال: سمع اللَّه لمن حمده، فقال معاوية: ربنا ولك الحمد. فما بعد هذا؟! ".

وأعجبتني مقولة نقلها الحافظ (ابن كثير) في كتابه "البداية والنهاية" نقلًا عن إمامٍ من أئمة السلف قوله: "معاوية سترٌ لأصحاب محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-، فإذا كشف الرجلُ الستر اجترأ على ما وراءه! " ولكي نعرف مدى خطورة الطعن في ذمة هذا الصحابي الجليل الذي يطعن به أئمة الشيعة ليلا نهارًا، علينا أن نعلم جيدًا أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- الذي لا ينطق عن الهوى قد أمَّنه على أخطر مهمةٍ على وجه الأرض، مهمة كتابة كلام اللَّه عز وجل! ولمن لم يدرك بعد معنى هذا الكلام الخطير أكرر له أن معاوية بن أبي سفيان رضي اللَّه عنهما وأرضاهما هو الذي حول الكلمات التي قالها الرب الذي خلق السماوات والأرض إلى كلماتٍ مكتوبةٍ يقرؤها بنو الإنسان، ولمن لم يستوعب بعد، فعليه أن يعلم أن آية الكرسي التي نتعبد بها اللَّه نزلت على الشكل التالي: من اللَّه عز وجل إلى جبريل -عليه السلام- إلى محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى معاوية بن أبي سفيان رضي اللَّه عنهما وأرضاهما إلى البشر أجمعين! فهل أدركت الآن مدى عظمة هذا الإنسان؟ هل تعلم الآن مدى خطورة الطعن في معاوية بالذات؟ إن الطعن في ذمة معاوية ليس طعنًا في رسول اللَّه فحسب بل هو طعن في اللَّه! فهو الذي اختار معاوية لكي يكتب لنا كلامه المنزّل على البشر، فإذا كان معاوية بن أبي سفيان رجلًا منحرفًا كما يروَج له علماء الشيعة، يصبح هذا القرآن الذي بين أيدينا قرآنًا محرفًا، ويصبح هذا الدين الذي ملأ الأرض شرقًا وغربًا دينًا باطلًا، ونصيح أنا وأنت في النهاية مجرد أشباحٍ بلا وجودٍ أو كيانٍ! ومعاوية بن أبي سفيان جمع صفات الجمال كلها، فكان أبيض الوجه ناصع البياض، طويل القامة، جميل الهيأة، ومع ذلك كان جميل الأخلاق والطباع بدرجة جعلته يمتلك قلوب الناس بسرعة البرق. ولقد توسَّم أعرابي ملامح العظمة في قسمات وجه معاوية منذ صغره فقال لأمه (هند بنت عتبة) إنه سيملك قومه يومًا ما، فابتسمت أمه بكل ثقة وقالت: ليعدمني إن لم يملك سوى قومه فقط! ومعاوية هو أعظمٍ ملكٍ في تاريخ الحضارة الإسلامية بأسرها، إلّا أنه كان مصباحًا من مصابيح الإسلام، سطع إلى جانب أربع شموس ملأت الدنيا بأنوارها، فغلبت أنوارها على نوره، فهو كما يصفه الصحابي الجليل (عبد اللَّه ابن عمر بن الخطاب) رضي اللَّه عنهما وأرضاهما أنه أفضل من حكم المسلمين بعد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولما سُئل إن كان معاوية أفضل في الحكم من أبيه ومن أبي بكر أجاب الفصيح بن

الفصيح عبد اللَّه بن عمر بقوله: هما يفوقانه بالفضل ولكنه أفضل منهما في الحكم! ولا عجب، فهذا سليل "بني أمية" أفضل عائلة ساسَت العرب قبل الإسلام وبعده، فهم أهل السياسة في في الجاهلية والإسلام، وهذا فضل اللَّه يؤتيه من يشاء، وقد كان خلفاء بني أمية أعظم من ملكوا الأرض من المسلمين، وحتى بعد انتهاء دولتهم، أقام بنو أمية على يد (عبد الرحمن الداخل) "صقر قريش" دولةً مهيبة للإسلام في أوروبا، وكان (عبد الرحمن الناصر) من بعده أعظم ملكٍ في تاريخ أوروبا في العصور الوسطى، والحق أقول أنني تعجبت من مما قرأته عن بني أمية وأنا أجمع مادة هذا الكتاب التاريخية من أمهات كتب التاريخ الإسلامي، فلقد شوه المستشرقون ومن معهم من المنافقين تاريخ هذه العائلة العظيمة التي قدَمت الكثير للإسلام، والحق أقول أنني تعجبت أكثر للمعلومات التي حصلت عليها البارحة فقط وأنا أهُمٌّ بالكتابة عن معاوية بن أبي سفيان رضي اللَّه عنهما وأرضاهما، فالرجل ليس مثلما صُوِّرَ لنا في مدارسنا بأنه ذلك الملك المتجبر المتغطرس المترف، بل كان رجلًا زاهدًا ومتواضعًا إلى حدٍ أذهلني بالفعل، والذين لا يعرفون سيرة معاوية يستغربون إذا سمعوا بأنه كان من الزاهدين والصفوة الصالحين، فقد روى الإمام أحمد بسنده إلى علي بن أبي حملة عن أبيه قال: "رأيت معاوية على المنبر بدمشق يخطب الناس وعليه ثوبٌ مرقوع! " وقد كان رحمه اللَّه يركب بغلته ويدور على أهل الشام بنفسه يذكرهم بالصلاة، والشيء الملفت في تاريخ معاوية أنه كان ملكًا عادلًا حليمًا إلى أبعد الحدود! وواللَّه إن المرء ليعجب وهو يقرأ سيرة هذا الخليفة الإسلامي المظلوم، ففي عزّ مجد الانتصارات الإسلامية التي جعلت من معاوية بن أبي سفيان رضي اللَّه عنهما وأرضاهما خليفة يملكها من الصين شرقًا إلى المحيط الأطلسي غربًا، ومن جبال القوقاز شمالًا إلى أدغال أفريقيا جنوبًا، وصلته رسالة شديدة اللهجة من (عبد اللَّه بن الزبير) -رضي اللَّه عنهما- فيها تجاوز كبير في حق أعظم ملكٍ على وجه الأرض وقتها، يهدد فيها الخليفة من أجل اختلاف بسيطٍ حول قطعة أرض صغيرة، فيقول في رسالته: "أما بعد فيا معاوية (معاوية باسمه فقط، من دون لقب، لا أمير المؤمنين، ولا خليفة المسلمين، ولا شيء من هذا القبيل) أما بعد فيا معاوية، إن رجالك قد دخلوا أرضي فانهَهُم عن ذلك، وإلا كان لي معك شأن، والسلام" فدفع معاوية بكتابه إلى ابنه يزيد، فقال له: "يا

يزيد ماذا نصنع؟ " فلما قرأ يزيد الكتاب غلا الدم في عروقه القرشية الأصيلة وقال: "أرى أن ترسل له جيشًا أوله عنده، وآخره عندك، يأتونك برأسه" فابتسم معاوية في وجه ابنه وأراد أن يعلمه درسًا في الحلم، فقال له: "يا بني غيرُ ذلك أفضلُ؛ أملى على الكاتب، اكتبْ: أما بعد؛ فقد وقفتُ على كتابِ ولد حواري رسول اللَّه، ولقد ساءني ما ساءه، والدنيا كلها هينة جنب رضاه، وهذه أرضي كلها ومن عليها هدية لك! " فلمّا وصل الجواب إلى ابن الزبير خجل من أدب خليفة المسلمين وحلمه، فردّ عليه بكتاب رقيق جاء فيه: "أما بعد؛ فيا أمير المؤمنين، أطال اللَّه بقاءك ولا أعدمك الرأي الذي أحلك من قومك هذا المحل" فاستدعى معاوية ابنه يزيد، وقال له وهو عيناه تبتسمان من السعادة: "يا بني من عفا سماد، ومَن حلم عظُم، ومَن تجاوز استمال إليه القلوب" ثم قال له قولة هي أساس التعامل الإسلامي بين الإخوة في أوقات الاختلاف، هذه المقولة نحتاج جميعنا أن نكتبها على ورقة ونعلقها في بيوتنا لكي تصبح منهاجًا لحياتنا، فقد قال معاوية لابنه يزيد: يا بني. . . . . . "تطأطأ لها تمر! " أما بالنسبة إلى مناقشة موضوع الفتنة. . . . . . . فالأمر أبسط مما يتخيله المرء! فلقد بعثت السيدة (نائلة بنت الفرافصة) -رضي اللَّه عنها- زوجة (عثمان بن عفان) -رضي اللَّه عنه- بصندوقٍ به القميص الذي قُتل فيه عثمان -رضي اللَّه عنه- وعليه دماؤه، مرفقًا بأصابعها، وكفها التي قُطعت، وهي تدافع عن زوجها أمام أولئك الإرهابيين، فبعثت بهذا الصندوق إلى معاوية بن أبي سفيان عنهما في الشام بصفته كبير عائلة بني أمية التي ينتمي إليها عثمان بن عفان، وبما أن معاوية كان وليَّ دم عثمان، فقد طلبت السيدة نائلة منه أن يأخذ هو بالقصاص العادل من أولئك المجرمين، فلما وصلت هذه الأشياء إلى معاوية -رضي اللَّه عنه-، علّقها على المنبر في المسجد، وبكى بكاءً شديدًا، وأقسم أن ينتقم لخليفة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وأن يثأر له، فنشر القميص الملطخ بالدماء في المسجد، وجمع أهل الشام الشرفاء، ودعا إلى الطلب بدم ابن عمه وخليفة المسلمين، فقام أهل الشام الأبطال ووقفوا وقفة رجل واحد وقالوا: كلنا معك هو ابن عمك وأنت وليه ونحن الطالبون معك، ووافقه أهل الشام جميعًا على ذلك، فوافقه الكثير من الصحابة، كالصحابي الورع (أبي الدرداء)، والصحابي البطل (عبادة بن الصامت) وغيرهم الكثير من الصحابة رضوان اللَّه عليهم جميعًا، وكان أبو الدرداء قاضي الشام، رمن أعلم أهلها، فأفتى -رضي اللَّه عنه- بوجوب أخذ الثأر من قتلة عثمان -رضي اللَّه عنه-، فجلس سبعون ألف رجل

من رجال الشام الأشداء يبكون تحت قميص عثمان بن عفان ويقسمون على الأخذ بثأره (وسنجد الفرق الكبير بعد ذلك بين موقف أهل الشام الأبطال مع معاوية، وموقف أهل العراق الخونة مع علي!). وانضمت أمّنا عائشة -رضي اللَّه عنها- للرأي المطالب بالأخذ بالثأر من المجرمين، وانضم لهذا الرأي أيضًا جارا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في الجنة: (طلحة بن عبيد اللَّه) و (الزبير بن العوام) رضي اللَّه عنهما وأرضاهما، أمّا (علي بن أبي طالب) رضي اللَّه عنه وأرضاه فقد كان يرى وجوب القصاص من أولئك المجرمين، إلّا أنه كان يرى أن الوقت لم يكن مناسبًا في ذلك الوقت المتوتر، وأنه يجب التريث قليلًا حتى تهدأ الأمور، ثم بعد ذلك يتم قتال المنافقين، والحقيقة أن وجهة نظر علي -رضي اللَّه عنه- كانت الأقرب إلى الحق من وجهة نظر معاوية وعائشة والزبير وطلحة وأبي الدرداء رضي اللَّه عنهم أجمعين، فكان الخلاف فقط في موضوع الوقت الذي يجب فيه محاربة المرتدين من أتباع (ابن سبأ)، أمّا موضوع الخلافة فلم يكن محل نقاشٍ أبدًا على عكس ما درسناه في مناهجنا، بل إنني وجدت مقولة لمعاوية بن أبي سفيان -رضي اللَّه عنهما- يبين فيها موقفه بكل صراحة، يقول فيها في حق علي: "واللَّه إني لأعلم أنه أفضل مني وأحق بالأمر مني ولكن ألستم تعلمون أن عثمان قتل مظلوما وأنا ابن عمه والطالب بدمه؟! فائتوه فقولوا له فليدفع إلي قتلة عثمان وأسلم له، فأتوا عليًا فكلموه" فرفض معاوية وعلي الاتفاق على الجدول الزمني لقتال خونة العراق، فكان ذلك هو سبب الفتنة الرئيسي، أما ما أشيع عن التنافس بين علي ومعاوية حول الخلافة، فهو باطل بالكلية، وهذا أمر لا يليق برجالٍ تربوا على يد محمد رسول اللَّه! ولكن. . . . . كيف تطورت الأحداث بعد ذلك؟ وكيف وقعت أحداث الفتنة الكبرى؟ ومن هي الفئة الثالثة التي كانت الفئة الوحيدة المحقة بالكلية في موضوع الفتنة؟ وما هي قصة استشهاد جاري رسول اللَّه في الجنة: طلحة والزبير؟ وما هي حكاية الشيعة؟ وكيف غدروا بعلي بن أبي طالب -رضي اللَّه عنه-؟ ومن تكون تلك الطائفة الخطيرة من الإرهابيين التي انبثقت من جيش الشيعة؟ ولماذا أطلق عليهم رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قبل موته لقب "كلاب أهل النار"؟ للإجابة عن كل تلك التساؤلات وغيرها ينبغي علينا أن نتابع معًا حكاية القائد الأول لكتيبة شباب محمد الثلاثة. . . .! يتبع. . . . .

42 - البطل (علي بن أبي طالب)

" البطل" (علي بن أبي طالب) " لأُعْطِيَنَّ هَذِهِ الرَّايَةَ رَجُلًا يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَيُحِبَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ" (رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-) إنه ابن عم محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-، وزوج ابنته فاطمة، وأخو جعفر بن أبي طالب، وابن خال الزبير ابن العوام، وابن أخ حمزة سيد الشهداء، وابن أخ العباس، وابن عم عبد اللَّه ابن العباس، وأحد العشرة المبشرين بالجنة، وأبو الحسن والحسين، ورابع الخلفاء الراشدين، وأول من أسلم من الصبيان، وبطل غزوة خيبر، وفدائي رسول اللَّه ليلة الهجرة، وأحد البدريين الـ 313، وأحد الصحابة الى 1400 الذين بايعوا بيعة الرضوان تحت الشجرة، وأحد الستة أصحاب الشورى الذين رشحهم الفاروق للخلافة، إنه وزير أبي بكر الصديق، ووزير عمر بن الخطاب، ووزير عثمان ابن عفان، وأحد أفراد قبيلة قريش العربية أشرف قبائل العرب، وأحد أبطال الصحابة الذين دمّر اللَّه على أيديهم دول الظلم والطغيان، إنه أحد أعظم أبطال التاريخ الإنساني عبر مختلف عصور الأرض، إنه تلميذ بيت النبوة، وخريج مدرسة محمد بن عبد اللَّه، إنه الإمام الفقيه، والأديب المفوه البليغ، إنه فدائي الإسلام العظيم، والبطل القوي الرحيم، العربي الشهم الكريم، إنه أسد اللَّه الغالب. . . . علي بن أبي طالب. لن أبدأ الحديث عن أبي الحسن رضي اللَّه عنه وأرضاه من البداية التي يعرفها الجميع، فلقد بات أصغر طفلٍ من أطفال المسلمين يعرف قصة هذا الفدائي البطل الذي نام في فراش رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ليلة الهجرة، ولكنني سأبدأ الترجمة له من العام السابع للهجرة، وبالتحديد بعد صلح الحديبية مباشرةً، فلقد أراد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أن يؤدّب يهود "خيبر" الذين كانوا السبب الرئيسي لمعركة الأحزاب، فبعد معركة أحد طاف وفدٌ من قادة خيبر بالقبائل العربية لكي يحرضونهم على قتال المسلمين واستئصال شأفتهم إلى

الأبد، فأصبح لزامًا على رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أن يؤدبهم على خيانتهم تلك، فخرج بالصحابة الـ 1400 أصحاب "بيعة الرضوان" الشهيرة نحو خيبر، وهناك قال للمسلمين: "لأُعْطِيَنَّ هَذِهِ الرَّايَةَ رَجُلًا يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَيُحِبَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ" فصار كل صحابي من الصحابة الكرام يتمنى أن يكون هو صاحب ذلك الشرف الكبير، وبات الصحابة يدوكون ليلتهم أيهم يُعطاها، فلما أصبح الناس غدوا على رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كلهم يرجون أن ينالوا ذلك الشرف، فقال رسول اللَّه: أَيْنَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ؟ فقالوا: هو يا رسول اللَّه يشتكي عينيه. فقال لهم: فَأَرْسِلُوا إِلَيْهِ، فأتي به، فبصق رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في عينيه، ودعا له فبرئ، حتى كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية، فكان علي بن أبي طالبٍ رضي اللَّه عنه وأرضاه هو ذلك الرجل الذي يحب اللَّه ورسوله، ويحبه اللَّه ورسوله، وهو الذي فتح اللَّه به. وفي "تبوك" أمّنه رسول اللَّه على أمهات المؤمنين وقال له: "أَلاَ تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى؟ إِلَّا أَنَّهُ لَيْسَ نَبِيُّ بَعْدِي". ثم قبض رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فكان علي بن أبي طالب خير وزيرٍ لأبي بكرٍ الصديق -رضي اللَّه عنه-، ثم أصبح عليٌ وزيرًا لأخيه الفاروق من بعده، بل إن عليًا هو الذي منع عمر بن الخطاب من قيادة جيش "القادسية" بنفسه خوفًا على أخيه عمر بن الخطاب من أن يقتله الفرس المجوس غدرًا، ثم أصبح هذا الفدائي البطل وزير عثمان بن عفان رضي اللَّه عنه وأرضاه، وعندما قدم الإرهابيين لقتل خليفة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، قام هذا الفدائي كعادته، وربط عمامة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- على رأسه، وحمل سيفه وانطلق نحو بيت عثمان بن عفان لكي يفديه بروحه بعد أن اصطحب ولديه الحسن والحسين و 700 من الصحابة ليذوذوا عن ذي النورين، إلّا أن عثمان وقف أمامهم وقال لهم: "أقسم على من لي عليه حق أن يكف يده وأن ينطلق إلى منزله"، فما كان من علي وبقية أصحاب محمد إلّا أن استجابوا لأمر أمير المؤمنين، فقتل أولئك السفلة خليفة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ثم توجّهوا بعد ذلك إلى علي بن أبي طالب -رضي اللَّه عنه- يقولون له: نبايعك على الإمارة، فسبّهم علي -رضي اللَّه عنه- ورفض ذلك، وطردهم، فذهب هؤلاء القتلة من أهل الكوفة إلى الزبير بن العوام -رضي اللَّه عنه-، وطلبوا منه أن يكون أميرًا، ففعل معهم مثل ما فعل علي بن أبي طالب -رضي اللَّه عنه-، فذهب القتلة من أهل البصرة إلى طلحة بن عبيد اللَّه رضي اللَّه عنه وأرضاه وطلبوا أن يكون أميرًا، فرفض ذلك وردهم، فذهبوا إلى سعد بن أبي

وقاص -رضي اللَّه عنه- ليكون الخليفة، فرفض هذا الأمر تمامًا، ودعا عليهم، وكان مستجاب الدعاء (فما مات أحدهم ميتةً طبيعة بعد ذلك)، فذهبوا إلى عبد اللَّه بن عمر -رضي اللَّه عنهما-، فرفض أيضًا، فولىّ أهل الفتنة أحد قتلة عثمان الإرهابي (الغافقي بن حرب) أميرًا على المدينة، واستمر الحال على هذا الأمر خمسة أيام، فخاف الصحابة أن يولي المنافقون القتلة أحدَهم لمنصب الخلافة، فيضيع بذلك الإسلام، فسارع الصحابةُ إلى علي -رضي اللَّه عنه- ونبّهوه لخطورة الموقف، وأن الإسلام مهدد، وأنه وحده من يمكنه إنقاذ الإسلام من أولئك السفلة، ووقالوا له: "إن لم تكن أميرًا، فسوف يجعلون الأمير منهم. أنت أحق الناس بهذا الأمر فامدد يدك نبايعك" وبعد شدٍ وجذبٍ أدرك علي -رضي اللَّه عنه- خطورة الموقف، فقبل الإمارة على مضض. وبالرغم من أن عليًا قد أصبح خليفة للمسلمين، إلا أن الأمر لا زال بيد المتمردين الذين يحملون السلاح حتى هذه اللحظة، وهم أكثر عددًا، وعدّة من أهل المدينة. وفي هذا الوقت يذهب طلحة والزبير -رضي اللَّه عنهما- إلى علي -رضي اللَّه عنهما- بوصفه خليفة المسلمين ويقولان له: دم عثمان! فهما -رضي اللَّه عنهما- يريدان منه -رضي اللَّه عنه- أن يقتل من قتل عثمان -رضي اللَّه عنه-. فقال لهما: إن هؤلاء لهم مددٌ وعونٌ وأخشى إن فعلنا ذلك بهم الآن أن تنقلب علينا الدنيا. وكان تفكير علي بن أبي طالب -رضي اللَّه عنه- أن ينتظر حتى تهدأ الأمور ويتملك زمامها جيدًا، وبعدها يقتل قتلة عثمان بعد محاكمتهم بشكل عادل، فلما سمع طلحة والزبير -رضي اللَّه عنهما- ذلك من علي -رضي اللَّه عنه-، قالا له: ائذن لنا بالعمرة، فأذن لهما، فتركا المدينة، وتوجها إلى مكة ومكثا فيها وقتًا. وفي هذا الوقت وصلت رسالة الصحابية نائلة بنت الفرافصة -رضي اللَّه عنها- إلى معاوية -رضي اللَّه عنهما- في الشام كما أسلفنا، فعلم بخبر قتل ابن عمه عثمان -رضي اللَّه عنه-، ووصله القميص، وأصابع وكف السيدة نائلة، وقالت له السيدة نائلة -رضي اللَّه عنها- في الرسالة التي بعثت بها إليه: إنك ولي عثمان بصفته ابن عمه، لذلك عرض معاوية على علي ابن أبي طالب أن يبايعه، واشترط عليه أن يأخذ بثأر عثمان -رضي اللَّه عنه-، وأن يقتص من قاتليه، وإن من لم يفعل ذلك، فقد عطّل كتاب اللَّه، ولا تجوز ولايته حينها! فكالت هذا اجتهاده -رضي اللَّه عنه-، ووافقه على هذا الاجتهاد مجموعة من كبار الصحابة، منهم قاضي قضاة الشام أبو الدرداء -رضي اللَّه عنه-، وعبادة بن الصامت -رضي اللَّه عنه- وغيرهما، والحقيقة أن هذا الأمر، وإن كان اجتهادًا، إلا أنهم قد أخطأوا في

هذا الاجتهاد، وكان الصواب أن يبايعوا عليًا -رضي اللَّه عنه-، ثم بعد ذلك يطالبوا بالثأر لعثمان -رضي اللَّه عنه- بعد أن تهدأ الأمور، ويستطيع المسلمون السيطرة على الموقف، لكن معاوية -رضي اللَّه عنه- كان على إصرار شديد على أن يأخذ الثأر أولًا قبل البيعة، حتى وإن أخذ علي -رضي اللَّه عنه-. الثأر بنفسه من القتلة فلا بأس، المهم أن يقتل القتلة، وقال معاوية -رضي اللَّه عنه-: إن قتلهم علي بايعناه! فأرسل علي بن أبي طالب -رضي اللَّه عنه- إلى معاوية بن أبي سفيان -رضي اللَّه عنه-. يحثّه على مبايعته لئلا يكون خارجًا عليه، لكن معاوية -رضي اللَّه عنه- يرى باجتهاده أن عدم الأخذ بثأر عثمان -رضي اللَّه عنه- مخالفة لكتاب اللَّه، وأن من خالف كتاب اللَّه لا تجوز مبايعته، ولم يكن في تفكير معاوية -رضي اللَّه عنه- خلافة، ولا إمارة كما يُشاع في كتب الشيعة، بل وفي كتب بعض أهل السنة الذين ينقلون دون تمحيص أو توثيق، فأرسل علي -رضي اللَّه عنه- ثلاث رسائل إلى معاوية -رضي اللَّه عنه- دون أن يرد معاوية، إلا أنه أرسل لعلي -رضي اللَّه عنه- رسالة فارغة، حتى إذا فتحها أهل الفتنة في الطريق لا يقتلون حاملها، ودخل حامل الرسالة على علي -رضي اللَّه عنه- مشيرًا بيده أنه رافض للبيعة، فقال لعلي -رضي اللَّه عنه-: أعندك أمان؟ فأمّنه عليّ -رضي اللَّه عنه-. فقال له: إن معاوية يقول لك: إنه لن يبايع إلا بعد أخذ الثأر من قتلة عثمان، تأخذه أنت، وإن لم تستطع أخذناه نحن. فرفض ذلك علي -رضي اللَّه عنه-، وقال: إن معاوية خارجٌ عن الولاية، ومن خرج يُقاتَل بمن أطاع. فقرر -رضي اللَّه عنه- أن يجمع الجيوش، ويتوجه بها إلى الشام، وإن لم يبايع معاوية -رضي اللَّه عنه- يُقاتَل، وخالفه في ذلك ابنه الحسن -رضي اللَّه عنه- وعبد اللَّه بن عباس -رضي اللَّه عنه-، فقد قال الحسن -رضي اللَّه عنه-: "يا أبتِ، دع هذا فإن فيه سفك دماء المسلمين ووقوع الاختلاف بينهم" لكن عليًا -رضي اللَّه عنه- أصرّ على القتال واستعد للخروج إلى الشام. في هذا الوقت كانت السيدة عائشة أم المؤمنين -رضي اللَّه عنها- بمكة، معها جميع زوجات رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عدا السيدة أم حبيبة، فقد كانت بالمدينة، فاجتمعت بطلحة بن عبيد اللَّه، والزبير ابن العوام، والمغيرة بن شعبة رضي اللَّه عنهم جميعًا، واجتمع كل هؤلاء الصحابة، وبدءوا في مدارسة الأمر وكان رأيهم جميعًا -وكانوا قد بايعوا عليًا -رضي اللَّه عنه- أن هناك أولوية لأخذ الثأر لعثمان، وأنه لا يصح أن يؤجل هذا الأمر بأي حال من الأحوال، وقد تزعّم هذا الأمر الصحابيان طلحة بن عبيد اللَّه، والزبير بن العوّام -رضي اللَّه عنه-. ورأى الجميع أن بيعة علي لا تتم إلّا بعد أن ينفذ علي بن أبي طالب ما أمر اللَّه به في كتابه

بالأخذ بالقصاص من القتلة، فخرجت أم المؤمنين عائشة وطلحة والزبير -رضي اللَّه عنهم- إلى البصرة لقتل الخونة من أهل العراق وإنهاء القضية من جذورها قبل أن تتطور، وتوجه علي إلى العراق ليتباحث مع أمه عائشة وإخوانه من الصحابة في سُبل الإصلاح. فاجتمع الفريقان (عائشة وطلحة والزبير من جهة، وعلي من جهة) في العراق ليتباحثا في سُبِل الأخذ بدم عثمان، وأوشك الطرفان فعلا على إيجاد حل لهذه المسألة، ووافق عليٌ على إبعاد كل مجرمٍ ممن شارك في قتل عثمان من جيشه، فأصبح القتلة معزولون وحدهم، واتفق المسلمون على عقد الصلح في اليوم التالي، فعقد أولئك المجرمون اجتماعًا سريًا بعد أن أدركوا أن عليًا سيصالح أمه عائشة ومعها طلحة والزبير، فتشاوروا في الأمر، فقال بعضهم: قد عرفنا رأي طلحة والزبير فينا، وأما رأي علي فلم نعرفه إلى اليوم، فإن كان قد اصطلح معهم، فإنما اصطلحوا على دمائنا، فإن كان الأمر هكذا ألحقنا عليا بعثمان! عند هذه الأثناء يظهر ذلك الشيطان الذي تحدثنا عنه سابقًا، لقد ظهر (عبد اللَّه بن سبأ) من بين القتلة وقال لهم: لو قتلتموه لاجتمعوا عليكم فقتلوكم. فقال أحدهم: دعوهم وارجعوا بنا كلٌ إلى قبيلته، فيحتمي بها، فوقف اليهودي عبد اللَّه بن سبأ مرة أخرى ليقول لهم: لو تمكّن علي بن أبي طالب من الأمر لجمعكم بعد ذلك من كل الأمصار وقتلكم! ثم وقف عبد اللَّه بن سبأ أمامهم وكأنه إبليس أبو الشياطين فقال لهم وهم يبتسم ابتسامة خبيثة: "ليس هناك حلٌ إلّا أن أن تشعلوا نار الفتنة من جديد بين جيش علي وجيش عائشة قبل أن يعقدوا الصلح غدًا كما هو متفق، فلتذهب مجموعة منكم في عتمة الليل ولتتوجه إلى جيش علي، وفئة أخرى إلى جيش عائشة، وتبدأ كل فئة في القتل في الناس، وهم نيام، ثم يصيح من ذهبوا إلى جيش علي ويقولون هجم علينا جيش عائشة، ويصيح من ذهب إلى جيش عائشة ويقولون: هجم علينا جيش علي"! وفعلًا نجحت خطة ذلك اليهودي ابن السوداء في إحداث الفوضى، وقتل حواري رسول اللَّه الزبير ابن العوام، ثم قتل طلحة بن عبيد اللَّه وهو يقاتل بيدٍ واحدة بعد أن شلت يده الأخرى وهو يدافع بها عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في أحد، ونظر علي لدماء المسلمين وهي تسيل فصرخ علي بن أبي طالب -رضي اللَّه عنه- في الناس أن كُفّوا، فلم يستمع أحدٌ إليه في معمعة المعركة، ثم أخذ يبكي وهو يقول: يا ليتني مت قبل هذا بعشرين سنة. فعاود النداء

بصوت عالٍ: كفوا عباد اللَّه، كفوا عباد اللَّه. ولكن أحدًا لم يكن يستمع! فاحتضن عليٌ ابنه الحسن وهو يبكي ويقول: ليت أباك مات منذ عشرين سنة. فقال له الحسن: يا أبي قد كنت أنهاك عن هذا. فقال علي: يا بني إني لم أرَ أن الأمر يبلغ هذا! وبذلك انتهت أحداث "موقعة الجمل" (نسبة للجمل التي كانت تركبه أم المؤمنين عائشة)، وقام علي بتكريم أمه عائشة وإرجاعها إلى المدينة. وبعد ذلك جاء الصحابي الجليل معاوية بن أبي سفيان -رضي اللَّه عنهما- بجيش الشام نحو العراق ليقتل الخونة من أهل العراق، ففعل أتباع ابن سبأ ما فعلوه من قبل في إشعال نار الفتنة بين الطرفين، فوقعت أحداث "موقعة صفين"، ولكن عليًا الهاشمي وابن عمه معاوية الأموي أدركا أن هناك أصابعًا خارجية لا تريد للفتوحات الإِسلامية أن تستمر، فاتفقا على وقف القتال وقبول التحكيم، فرجع معاوية إلى الشام، ورجع علي إلى الكوفة، لتبدأ بذلك أصعب مرحلة في حياة علي بن أبي طالب -رضي اللَّه عنه- على الإطلاق، وهي مرحلة إقامته بأرض العراق، هذه المرحلة التي رأى فيها عليٌ -رضي اللَّه عنه- مختلف ألوان الخيانات القذرة من شيعته، حتى تمنى لو أنه لم يرَهم في حياته، أولئك القوم الخونة من أتباع ابن سبأ هم الذين قتلوه فيما بعد وقتلوا ابنه الحسين وطعنوا ابنه الحسن، فكان أهل العراق من الشيعة على العكس تمامًا من أهل الشام الذين كانوا يسمعون ويطيعون لمعاوية من دون أي جدالٍ، وصدق الصادق المأمون محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- حين دعا للشام وأعرض عن العراق في الحديث الصحيح الذي أورده الشيخ الألباني من حديث عبد اللَّه بن عمر أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "اللهم بارك لنا في مكتنا اللهم بارك لنا في مدينتنا اللهم بارك لنا في شامنا وبارك لنا في صاعنا وبارك لنا في مدنا. فقال رجل: يا رسول اللَّه! وفي عراقنا؟. فأعرض عنه فرددها ثلاثًا كل ذلك يقول الرجل: وفي عراقنا؟ فيعرض عنه فقال: بها الزلازل والفتن وفيها يطلع قرن الشيطان". ولندع علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه وأرضاه يصف لنا بنفسه الحالة النفسية السيئة التي وصل إليها من الشيعة في العراق وكيف أنه كان يتمنى أن يستبدل كل عشرة منهم بواحدٍ من أهل الشام الأبطال من جند معاوية وذلك من خلال كلامٍ له ورد في كتاب نهج البلاغة (وهو كتاب شيعي أصلًا):

يا أشباه الرجال ولا رجال! لوددت أني لم أركم ولم أعرفكم معرفة واللَّه جرت ندمًا وأعقبت سدمًا قاتلكم اللَّه!. . لقد ملأتم قلبي قيحًا، وشحنتم صدري غيظًا وجرعتموني نُغب التَّهام أنفاسًا، وأفسدتم على رأيي بالعصيان والخذلان لوددت لو أني أقدر أن أصرفكم صرف الدينار بالدراهم عشرة منكم برجل من أهل الشام أفٍ لكم!! لقد سئمت عتابكم. . . .، ما أنتم إلا كإبل ضل رعاتها فكلما جمعت من جانب انتشرت من آخر!!! وفعلًا. . . . . انبثق من الشيعة مجموعة مجرمة تمرَّدت على علي رضي اللَّه عنه وأرضاه قامت بمحاربته واستباحة دماء المسلمين، فشغلوه بمعاركٍ انصرافيةٍ جانبيةٍ، فقام علي بن أبي طالب بقتالهم، هذه المجموعة سُمّيت بـ "الخوارج" وقد تنبأ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بخروجهم، وسمّاهم "كلاب أهل النار"، وهذه المجموعة قررت في النهاية قتل علي ومعاوية وعمرو بن العاص -رضي اللَّه عنهم- في نفس اليوم، فبعثوا ثلاثة رجال ليطعنوهم وقت الصلاة، فقتلوا علي بن أبي طالب، وطعنوا معاوية وقت الصلاة بطعنة كادت أن تقتله، وأنجى اللَّه عمرو بن العاص من الطعنة الثالثة، لتنتهي بذلك حياة أعظم فدائي في أمة الإِسلام بعد أن تجرع الألم والمرارة من خذلان شيعته الخونة! وقبل أن نتحول بقطار التاريخ إلى حكاية عظيمٍ آخر من عظماء أمة الإِسلام المائة يجب علينا أن نطرح سؤالًا حيّرني كثيرًا فيما مضى ولا شك أنه مازال يحير الكثيرين وهو: من الذي كان معه الحق في هذه الأحداث المؤلمة التي قامت؟ علي أم معاوية؟ الحقيقة التي قد يندهش منها البعض أن الحق لم يكن تمامًا مع أيٍ منهما! فلا شك أن معاوية بن أبي سفيان -رضي اللَّه عنهما- كان مخطئًا في اجتهاده، وأنه كان الأجدر به الأخذ بوجهة نظر الإِمام علي بن أبي طالب -رضي اللَّه عنه- في التريث بالأخذ بدم عثمان من أولئك القتلة من أهل العراق، إلّا أن عليًا على الجهة الأخرى لم يكن ينبغي عليه أن

يجعل الأمور تتطور إلى هذا الحد الذي أدى إلى قتل عشرات الآلاف من المسلمين من بينهم ثلاثة من العشرة المبشرين بالجنة كان هو أحدهم، فالصبر على قتلة عثمان كان مصلحةً للمسلمين كان فيها عليٌ بن أبي طالب -رضي اللَّه عنه- محقّا ولا شك، ولكنها كانت مصلحة ترتب عليه مفسدة هي أربى منها، فخسارة شعرةٍ واحدة من رأس علي أو طلحة أو الزبير كانت تعادل ألف ألف رأسٍ من رؤوس المنافقين من أتباع الشيطان ابن سبأ، ومما يؤكد صحة هذا التحليل هو حديث رسول اللَّه صلى عليه وسلم الذي رواه الإِمام أحمد عن أبي سعيد "أن رسول اللَّه-صلى اللَّه عليه وسلم-، ذكر قوما يكونون في أمته يخرجون في فرقة من الناس، سيماهم التحليق، هم شر الخلق -أو من شر الخلق- يقتلهم أدنى الطائفتين من الحق" فرسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يشير إلى فئة علي التي قاتلت الخوارج، وفيها يبين رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أن فئة علي كانت الأقرب إلى الحق، ولم تكن الفرقة المحقة تمامًا، فكلتا الطائفتين قد اجتهدت للوصول إلى الحق، ولكن عليًا كان هو الأقرب إليه بلا شك. ولكن. . . . كانت هناك فئة ثالثة من الصحابة كانت هي المحقة بالكلية في هذه الأحداث المؤلمة! فمن تكون تلك الفئة الثالثة؟ وعلى أي أساسٍ كانت محقة؟ وماذا حصل بعد استشهاد علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه وأرضاه؟ وهل استقام الشيعة بعد موته أم استمروا (كالعادة!) في خياناتهم المعهودة؟ ومن هو السيد العظيم الذي حقن دماء المسلمين ليخلد اسمه ضمن قائمة المائة؟ ولماذا طمس الشيعة تاريخه على الرغم من أنه من آل البيت؟ ولماذا أرادوا قتله؟ من هو خامس الخلفاء الراشدين؟ يتبع. . . . .

43 - خامس الخلفاء الراشدين (الحسن بن علي)

" خامس الخلفاء الراشدين" (الحسن بن علي) " ابني هذا سيد، ولعل اللَّه أن يصلح به بين فئتين من المسلمين" (رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-) "أرى واللَّه أن معاوية خير لي من هؤلاء! يزعمون أنهم لي شيعة؟! ابتغوا قتلي!!! " (الحسن بن علي) أعلم جيدًا أننا تعلمنا في مدارسنا أن الخليفة الأموي (عمر بن عبد العزيز) رحمه اللَّه هو خامس الخلفاء الراشدين، وأعلم أيضًا أن هذا الأمر أصبح بالنسبة لنا مُسلمة من المسلمات التي آمنا بها إيمانًا كما آمنّا من قبلها بالمقولة المزعومة لطارق بن زياد "البحر من أمامكم"! وأعلم تمامًا أنني سأواجه بحرًا عرمرمًا من المنافقين وأتباعهم بما ساكتبه الآن، وليس عندي أدنى شك بأنني إذا ما وقعت بأيدي علماء الشيعة فإنهم سيقطعونني حينها إربًا إربًا ليلقوا بلحمي في شوارع "طهران" وأزقة "قم" وضواحي "مشهد"، فلا شك أنني أصبحت مُستباح الدم لديهم بما فضحت به تاريخ خياناتهم القذرة سابقًا، وبما سأفضحهم به الآن، وبما سأفضحهم به لاحقًا في طيات هذا الكتاب إن شاء اللَّه، ولا يخالجني شكٌ بأن ما سأكتبه الآن لن يكون محل ترحاب من كثيرٍ من الطرقيين من المنتفعين بقبور الأولياء والذين أعتبرهم الصف الخامس للشيعة في بلداننا الإِسلامية، وأعلم أنني ساواجه نقدًا عنيفًا من بعض علماء أهل السنة والجماعة الذين فضلّوا الصمت في هذه اللحظة الحرجة في تاريخ أمة الإِسلام، ورغم علمي بهذا وذاك. . . فإنني قد عزمت في هذا الكتاب على كتابة ما يرضي اللَّه وحده، آخذا بعين الاعتبار الأمانة التاريخية المجردة من العواطف، وضاربًا بعرض الحائط كل ما يتنافى مع ذلك من أقوال العلماء السابقين واللاحقين، قاصدًا بذلك وجه اللَّه تعالى وحده، ومفوضًا أمري إليه. بدايةً ينبغي علينا أن نضع لقب "خامس الخلفاء الراشدين، تحت المجهر، رغم أن

البعض قد يظن أن مناقشة هذا اللقب مجرد أمر سطحي، وأنه الأجدى ترك مناقشة الألقاب للتركيز على جوهرَ الموضوع، والحقيقة أن هذا اللقب هو أصلًا جوهرُ الموضوع! فإطلاق لقب خامس الخلفاء الراشدين على عمر بن عبد العزيز رحمه اللَّه ما هو إلَّا مجرد حقٍ يراد به باطل، فلا شك أن هذا الخليفة الذي اختلطت فيه دماء عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- ودماء بني أمية العظماء كان مثالًا رائعًا للحكام المسلمين عبر جميع العصور لاشتهاره بخصلتي العدل والزهد، وقد فضله كثير من الناس على جميع حكام بني أمية، إلا أن الواقع أن أفضل ملوك بني أمية هو صاحب رسول اللَّه وكاتب وحي السماء معاوية بن أبي سفيان -رضي اللَّه عنهما-، وقد ذكرت فيما سبق قول الإِمام المجاهد الشيخ عبد اللَّه بن المبارك حين سُئل أيهما أفضل: معاوية بن أبي سفيان، أم عمر بن عبد العزيز؟ فقال: "واللَّه إن الغبار الذي دخل في أنف معاوية مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أفضل من عمر بألف مرة، صلى معاوية خلف رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقال: سمع اللَّه لمن حمده، فقال معاوية: ربنا ولك الحمد. فما بعد هذا؟ "، ثم إن الحقيقة التي أراد غزاة التاريخ لنا أن نتجاهلها هي أن عمر بن العزيز ليس إلا خليفة من خلفاء دولة بني أمية العظيمة التي نشرت الإِسلام في ربوع الأرض وأحيت فيها سنة محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-، ومما يؤكد على خطورة ما أرمي إليه تلك الأساطير الوهمية التي أشاعها هؤلاء المزيفون من أن عمر بن عبد العزيز قد منع سبَّ علي بن أبي طالب -رضي اللَّه عنه- على منابر المساجد بعد أن أشاع الخلفاء الأمويون ذلك في ربوع أرض الإِسلام، وهذا واللَّه إفكٍ وظلم لهذه الدولة الشريفة التي لها أيادٍ بيضاء على المسلمين في كل العصور، بل إن هذا طعن في جيل الصحابة والتابعين الذين يُفترض أنهم كانوا يسمعون سبَّ أحد العشرة المبشرين بالجنة في مساجدهم دون أن يحركوا لذلك ساكنًا، لقد آن الأوان لنا أن نحرك عقولنا قليلا وأن نغربل الروايات التاريخية في تاريخ هذه الأمة لكي نفصل عنها الغث من السمين، فالأمة الآن على المحك، والشيعة يستخدمون مثل هذه الروايات المكذوبة لتشييع شباب السنة، بل لقد كنت أنا شخصيًا على وشك التشيع بسبب هذه الروايات التي تطعن بالأمويين، ولا أعرف وقتها إن كان هذا القلم الذي أكتب به هذه الكلمات سيكون مسخرًا لكتابة كتابٍ عن "العظماء المائة في أمة الإسلام" أم سيكون مسخرًا لكتابة كتاب عن "الملعونين

المائة في أمة الإِسلام"؟! والشيء الأهم من ذلك كله، أن إطلاق لقب "خامس الخلفاء الراشدين" على عمر بن عبد العزيز رحمه اللَّه فيه معصية كبيرة لرسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فلقد قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "الخلافة بعدي ثلاثون سنة" ولقد كان آخر تلك الثلاثين السنة يوم أن تنازل الحسن بن علي -رضي اللَّه عنهما- عن الخلافة بعد ستة شهوو كان فيها خليفة المسلمين. فأمير المؤمنين الحسن بن علي كان هو خامس الخلفاء الراشدين بشهادة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وإذا ما أردنا إطلاق لقب سادس الخلفاء الراشدين على أحدٍ من بني أمية فالأولى بذلك هو معاوية وليس عمر بن عبد العزيز، هذا مع العلم أنني من العاشقين لسيرة أشج بني أمية الخليفة عمر ابن عبد العزيز رحمه اللَّه، ومن قبله عاشق لسيرة جده عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه-، إلا أن الحق لا يبنغي له أن يكون مطية للأهواء والعواطف. والآن لنعقد مقارنة صغيرة بين الحسن والحسين رضي اللَّه عنهما وعن أبيهما، نطرح فيها تساؤلًا مهمًا: من هو الأعظم مكانة وفضلًا بين سبطي رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-؟ والحقيقة أنه ليس هناك شك بأن الحسن يفوق أخاه الصغير الحسين بالفضل والمكانة، والدليل على ذلك حديث رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- الذي اختص به الحسن دون الحسين حين قال: "ابني هذا سيد، ولعل اللَّه أن يصلح به بين فئتين من المسلمين"، والشاهد على هذا الحديث إضافة لتعظيم رسول اللَّه للحسن هو أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يبين أن فئة معاوية هي فئة مسلمة كما أن فئة علي هي فئة مسلمة، وإن كانت فئة علي هي الأقرب إلى الحق كما أسلفنا سابقا، أضف إلى ذلك حديث رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- الذي أوردناه بأن الخلافة بعده ستكون ثلاثين سنة، فيكون بذلك الحسن بن علي -رضي اللَّه عنهما- هو الخليفة الراشد الخامس، وهذا شرفٌ لم ينله أخوه الحسين -رضي اللَّه عنهما-، ونحن هنا لا نقلل من قدر الحسين والعياذ باللَّه، بل نحن ننزل الصحابة منازلهم التي أنزلهم إياها رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فالحسين يشترك أيضًا مع أخيه بأنهما سيدا شباب أهل الجنة وريحانتا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- من الدنيا, ولكن ليس هناك أدنى شك بأن الحسن هو الأفضل، بل لو كان الشيعة يحركون عقولهم قليلًا لعلموا أن علي بن أبي طالب (وهو المعصوم كما يدّعون) استخلف الأفضل بين أبنائه وهو الحسن، وإلا لما تركه يدير أمر المسلمين وهو يعلم أن الحسين أفضل منه!!! هذا من الناحية الشرعية، أمّا من الناحية التاريخية البحتة، ومن وجهة نظر حيادية،

فإن الحسن كان بطلًا من أبطال التاريخ الإنساني ناهيك عن التاريخ الإِسلامي، فهذا الرجل تنازل عن إمبراطورية عظيمة تمتد من أذربيجان شمالًا إلى الحبشة جنوبًا، ومن الصين شرقًا إلى المغرب غربًا، وهذا لم يتكرر في تاريخ الإنسانية إلا مراتٍ نادرة كانت جميعها من دون استثناء من قِبل ملوكٍ مسلمين، أما الحسين -رضي اللَّه عنه- فقد انخدع بالشيعة الذين خانوه وقتلوه كما سنرى لاحقًا. وهنا يتساءل المرء مجددًا: لماذا يمجد الشيعة الحسين -رضي اللَّه عنه- دون أخيه الكبير الحسن -رضي اللَّه عنه-؟ ولماذا يتباكى الشيعة على مقتل الحسين ولا يتباكون أصلًا على مقتل أبيه علي بن أبي طالب؟ ولماذا يبني الشيعة "الحسينيات" ويقيمون المآتم الحسينية والشعائر الحسينية ولا يقيمون الحسنات أو "العليات" على سبيل المثال؟ ولماذا حدَّد الشيعة بقية الأئمة الاثني عشر من نسل الحسين وتجاهلوا نسل الحسن على الرغم من كونهما شقيقين من نفس الأب والأم؟ ولماذا لم تجاهل الشيعة أبناء الحسن المشمول بـ "حديث الكساء" (الذي لا يحفظ الشيعة)؟! الإجابة عن كل هذه الأسئلة تتلخص في نقطتين: أولًا: زوجة الحسين الفارسية: بما أن دين الشيعة هو دين فارسي بامتياز فقد حدّد علماء الشيعة بقية الأئمة الاثني عشر من نسل الحسين دون نسل أخيه، بل حددوا نسل الحسين أيضًا من زوجته الفارسية دون زوجاته العربيات، وبالمناسبة فإن زوجة الحسين الفارسية هي (شاه زنان) بنت كسرى (يزدجرد) التي سباها المسلمون في معركة "نهاوند" الخالدة، وبذلك يكون الأئمة من بعد الحسين فقط من نسل بنت ملك المجوس (يزدجرد) الذي يعتقد المجوس بأن له دماءً مقدسة! بل إن (حسين الطبرسي) وهو من أعظم علماء الشيعة أوضح في كتابه "النجم الثاقب في أحوال الإمام الحجة الغائب" أن من أسماء المهدي المنتظر هو (خسرو مجوس) ويعني بالعربية (مخلّص المجوس)، وقد أورد كبير علماء الشيعة (المجلسي) في كتابه "بحار الأنوار ج 53 ص 163 - 164" أن (يزدجرد بن شهريار) وقف أمام إيوانه بعد أن بلغه هزيمة الفرس في "القادسية" وقال مودعًا إيوانه: "السلام عليك أيها الإيوان! ها أنا منصرف عنك وراجع إليك أنا أو رجل من ولدي لم يدن زمانه ولا آن أوانه". ولا يخفي الشيعة أن أول شيءٍ سيفعله (المهدي)

عند خروجه من السرداب وهو قتل جميع العرب (العرب بالذات!)، ثم نبش قبر قاهر المجوس (عمر بن الخطاب) ونبش قبر زوجة رسول اللَّه (السيدة عائشة) -رضي اللَّه عنها-!!! ثانيًا: الحسن كان رجل السلام: وهذا ما يرفضه مشعلو الفتن من أحفاد الشيطان (ابن سبأ) الذين يرودون لنار الفتنة أن تظل مشتعلة لكي يبرروا قتل المسلمين بدعوى الثأر للحسين -رضي اللَّه عنه- (الذي كانوا هم من قتلوه كما سنرى لاحقًا!). والحسن عند الشيعة إمامٌ معصوم، والمعلوم تاريخيًا عند الشيعة والسنة على حدٍ سواء أن الحسن قد بايع معاوية في عام سُمِّي بـ "عام الجماعة"، فإما أن يكون حسن قد بايع معاوية لأنه أفضل من يدير أمور المسلمين، فيترتب على الشيعة بالضرورة أن يعتقدوا اعتقاد إمامهم المعصوم فتنتهي بذلك الفتنة إلى الأبد، وإما أن يكون الحسن قد بايع رجلًا كافرًا فتضيع بذلك عصمته، ويسقط بذلك المذهب! وقد ذكرنا فيما مضى أن الحسن بن علي -رضي اللَّه عنهما- كان معارضًا للحرب منذ البداية، وأنه قد نصح أباه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي اللَّه عنه- بعدم القتال، فلقد كان الحسن يرى أن الفئة التي اعتزلت الفتنة كانت هي الفئة المصيبة، هذه الفئة كان على رأسها سعد بن أبي وقاص، وعبد اللَّه ابن عمر بن الخطاب، ومحمد بن مسلمة رضي اللَّه عنهم أجمعين، والحقيقة أن هذه الفئة التي عصمت نفسها من دماء المسلمين كانت هي الفئة المحقة في أمر الفتنة، بدليل حديث رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى محمَّد بن مسلمة -رضي اللَّه عنه- حين طلب منه أن يكسر سيفه عندما يرى المسلمين يتقاتلون. وزاد من سعي الحسن للسلام ما رآه من خيانة الشيعة له وتمردهم عليه بعد أن استشهد أبوه بين ظهرانيهم، فلم يكن الحسن يؤمن بجدوى حرب معاوية وخصوصًا أن شيعته خذلوا أباه من قبل، وفي نفس الوقت لم يكن معاوية يريد لشلال الدم أن يستمر، فبعث برسالة سرية إلى الحسن يطلب منه الصلح حرصًا على دماء المسلمين، فوافق ذلك ما كان في نفس الحسن، ولكنه -رضي اللَّه عنه- لم يشأ أن يواجه أهل العراق من البداية بميله إلى مصالحة معاوية وتسليم الأمر له حقنًا لدماء المسلمين؛ لأنه يعرف خيانة أهل العراق وتهورهم، فأراد أن يقيم من مسلكهم الدليل على صدق نظرته فيهم، وعلى سلامة ما اتجه إليه، عندها عاد الشيعة من أهل العراق إلى طبيعتهم في الخيانة، فاعتدوا على سرادق الحسن ونهبوا كل متاعه، حتى أنه

أولئك الخونة نازعوه بساطًا كان تحته! وطعنوه وجرحوه، وفي نفس الوقت فكر أحد شيعة العراق وهو المختار بن أبي عبيد في أمر خطير وهو أن يُوثق الحسن بن علي بالجنازير ويحتجزه رهينة ويسلمه طمعًا في بعض المال (المضحك في الأمر أن هذا الرجل هو نفسه المختار بين أبي عبيد الذي خرج على الدولة الأموية الراشدة وجعل يطالب بدم الحسين!!!)، عندها أدرك الحسن -رضي اللَّه عنه- أنه بين مجموعة قذرة من الخونة والمجرمين من شيعة العراق! ويذكر إمام الشيعة (الطبرسي) في كتابه "الاحتجاج" بأن الحسن قال حينها: "أرى معاوية خيرًا لي من هؤلاء يزعمون أنهم لي شيعة؟ ابتغوا قتلي!! وأخذوا مالي! واللَّه لأن آخذ من معاوية ما أحقن به دمي في أهلي وآمن به في أهلي خير من أن يقتلوني؛ فيضيع أهل بيتي وأهلي، واللَّه لو قاتلت معاوية لأخذوا بعنقي حتى يدفعوا بي إليه سِلما. . . . . يا أهل الكوفة. . . . . . . لو لم تذهل نفسي عليكم إلا لثلاث لذهلت: لقتلكم أبي. . . وطعنكم في فخذي. . . . وانتهابكم ثقلي" عند إذٍ. . . أدرك الحسن بن علي أنه بين مجموعة قذرة من الخونة والمجرمين، فأسرع إلى معاوية يعقد معه الصلح ليحقن بذلك أرواح المسلمين، وليتنازل هذا البطل ابن البطل عن إمبراطورية ممتدة من الصين شرقًا إلى المغرب غربًا، ومن أذربيجان شمالُا إلى أدغال أفريقيا جنوبا، ليستحق بذلك أن يكتب اسمه بماء العيون في سجل العظماء المائة في أمة الإِسلام، وليتفرغ. معاوية بن أبي سفيان لنشر دين اللَّه في مشارق الأرض ومغاربها بعد أن عطل أتباع ابن سبأ الفتوحات الإِسلامية مدة خمسة أعوام. ولكن، هل غير الشيعة طبعهم القذر بالخيانة؟ أم أنهم. . . . . . كالعادة؟!! يتبع. . . .

44 - الغازي الأول للقسطنطينية (يزيد بن معاوية)

" الغازي الأول للقسطنطينية" (يزيد بن معاوية) " أول جيش يغزو مدينة قيصر مغفور له" (محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-) "وقد حضرت يزيد بن معاوية وأقمت عنده فرأيته مواظبًا على الصلاة، متحريًا للخير، يسأل عن الفقه، ملازمًا للسنة" (محمَّد بن علي بن أبي طالب) "بأبى أنت وأمى يا يزيد، واللَّه لا أجمع أبوىَّ لأحدٍ بعدك" (عبد اللَّه بن جعفر بن أبي طالب) " (بعد ما رأيته من يزيد) علمت أنه إذا ذهب بنو أمية ذهب علماء الناس" (عبد اللَّه بن عباس بن عبد المطلب) هناك رواياتٌ تاريخية كاذبة رضعناها رضاعة منذ الصغر، هذه الروايات أصبحت مع مرور الوقت حقائق تاريخية، ثم تطورت بعد ذلك لتصبح مُسلماتٍ تاريخيةٍ لا يجوز الطعن بها، إلى أن وصلت في النهاية إلى مرحلة خطيرة يُجَرَّم من أجلها كلُّ من يحاول التشكيك بها أو حتى مناقشتها من قريب أو بعيدٍ، والأخطر من ذلك كله أن تكون هذه الروايات جزءً لا يتجزء من تاريخ أمةٍ بأسرها، بل جزءً لا يتجزء من تاريخ دينٍ كامل، والشيء المحير في الموضوع ليس شيوع مثل هذه الروايات بين عامة الناس فتحسب، بل إن الشيء الذي يدعو للتساؤل فعلًا هو وقوف العلماء والمؤرخين مكتوفي الأيدي أمام انتشار مثل هذه الروايات التي تمس وجدان وكيان هذه الأمة، إمّا من باب عدم إدراكهم خطورة الموقف في هذه اللحظة الزمنية الحرجة من تاريخ هذه الأمة، أو من باب السكوت على ما سكت عليه الآباء والأجداد، أو حتى بسبب جهل البعض لها، الأخطر من هذا وذاك، والمضحك المبكي في هذا كله، أن يتحول العلماء والمؤرخين إلى

"ببغاوات" تردد تلك الروايات الكاذبة التي يستخدمها أعداء هذه الأمة لزحزحة عقيدة شبابها وضرب مقدساتها وتشويه صورة رموزها التاريخية. أما في هذا الكتاب. . . . . فقد اخترت أن أسير عكس هذا التيار، وأن أدحض تلك الروايات الكاذبة، وأن أتمرد على الموروث الأعمى، وأن أضرب بعرض الحائط كل روايةٍ تخالف الحقائق التاريخية الثابتة، كائنًا في ذلك ما هو كائن، حتى ولو كان راوي تلك الرواية رجلًا من كبار العلماء، فلقد انتهى زمان التقليد الأعمى، ولقد انتهى زمان الرواية التي يرددها كثير من علماء المسلمين بأننا أهل السنة والجماعة لا نحب يزيد ولا نكرهه، فأنا أشهد اللَّه بأنني من أهل السنة والجماعة، وأنا أشهد اللَّه عَزَّ وَجَلَّ بأنني أحب يزيدًا، وأنا أشهد اللَّه بأني أحب أباه معاوية، وأنا أشهد اللَّه بأني أحب جدّه أبا سفيان، وأنا أشهد اللَّه بحبي للحسين، وأنا أشهد اللَّه بحبي لأبيه علي، وأنا أشهد اللَّه بحبي لجده محمَّد -صلى اللَّه عليه وسلم-، وإذا كان حبي ليزيد سيكون سببًا في دخولي لنار جهنم، فعندها سيكون لي عذرٌ عند اللَّه عَزَّ وَجَلَّ، عندها سأقول له: يا رب. . . . . ألست أنت الذي بعثت نبيك محمَّد -صلى اللَّه عليه وسلم- بالحق ودين الهدى؟ أوليس نبيك هو الذي قال في حديثٍ له "أول جيش يغزو مدينة قيصر مغفور له"؟ أوليس أنت يا رب أعلم مني بأن يزيد بن معاوية كان هو قائد أول جيش يغزو "القسطنطينية"؟ فكيف تعذبني يا رب لحبي لرجل دعا له رسولك بالخير؛ ثم أليس رسولك يا رب هو من قال في الصحيح الحديث: "إن هذا الأمر لا ينقضي حتى يمضي فيهم اثنا عشر خليفة"؟ وقد علمت يا رب أن يزيد بن معاوية كان الخليفة السابع بعد بيعة صحيحة بايعه فيها الصحابة الذين شهدت لهم بالخير، فهل تعذبني يا رب لحبي لخليفة المسلمين الذي بايعه رجالٌ مثل عبد اللَّه بن عمر وعبد اللَّه بن العباس؟ والحقيقة أنني وإن كنت أحب القائد الإِسلامي العظيم يزيد بن معاوية لشخصه، فإن دفاعي عنه في هذه الكلمات ليس بدافعٍ شخصيٍ أبدًا, ولكنني أدافع عن هذا الرجل لكي أدافع عن تاريخ هذه الأمة الذي زيفه الأعداء بصورة كبيرة، ولكي أدافع عن الصحابة الذين بايعوه، ولكي أدافع عن أبيه الذي رباه هذه التربية، ولكي أدافع عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- الذي اختار أباه لكتابة الوحي، ولكي أدافع عن اللَّه عَزَّ وَجَلَّ الذي أمر نبيه أن يختار أباه

لكتابة وحيه، ولكي أدافع عن كتاب اللَّه الذي يطعن فيه من يطعن بكتبته، ولكي أدافع عن محمَّد بن علي بن أبي طالب الذي شهد له بالخير، ولكي أدافع عن عبد اللَّه بن جعفر الطيار الذي ذكره بكل خير، ولكي أضع حدًا لأولئك المجرمين الذين يقتلون السنة في العراق وإيران لزعمهم أنهم بذلك يأخذون بثأر الحسين من أهل السنة والجماعة، ولكي أضع حدًا لأولئك السفلة الذين يطعنون بشرف أم المؤمنين عائشة -رضي اللَّه عنها-، ولكي أدافع عن عرض رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- الذي يطعن به علماء الشيعة ليل نهار، ولكي أدافع عن عثمان وعن عمر وعن أبي بكرٍ -رضي اللَّه عنهم- في وجه من يلعنونهم في حسينياتهم، فواللَّه ما من رجل يتجرأ ويطعن في يزيد إلا تجرأ على أبيه معاوية بعد ذلك، وما هي إلا مسألة وقتٍ حتى يتجرأ على غيره من الصحابة رضوان اللَّه عليهم. والقارئ لتاريخ إسماعيل الصفوي مؤسس الفكر الشيعي الحديث يرى أنه كان صوفيًا في البداية يتباكى على الحسين ويطعن بيزيد، ثم بعد ذلك طعن في معاوية -رضي اللَّه عنه-، ثم تجرأ على عثمان -رضي اللَّه عنه-، ثم تكلم في أبي بكر وعمر -رضي اللَّه عنه- حتى صرح بكفرهما، ثم أخذ يطعن في شرف عائشة -رضي اللَّه عنها-، ثم دعا بتحريف كتاب رب الأرباب، والسبب في ذلك أن الطعن في يزيد بن معاوية يؤدي بالضرورة إلى الطعن بأبيه معاوية الذي ربّاه، وبعد ذلك يكون ذلك الطاعن قد أزال هيبة الصحابة من قلبه، فيقع فيهم واحدًا تلو واحدٍ بعد ذلك؛ لأنه لا يعلل كلامه في يزيد بشيء إلا ويلزمه مثل هذا في غيره! ثم في النهاية تستباح دماؤنا كما استبيحت بالعراق من قبل الميليشيات الشيعية الإرهابية، ولمن لم يفهم بعد لماذا يسمي الشيعة الحسين ابن علي -رضي اللَّه عنه- بـ "ثأر اللَّه" فعليه أن يتساءل: ممن يريد الشيعة أن يثأروا بعد أكثر من ألفٍ وثلاثمائة سنة على مقتل الحسين -رضي اللَّه عنه-، إن الثأر سيكون على حساب دمك أنت بلا شك، أو دم أبنائك من بعدك على أبعد الظن! والحقيقة أن مقتل الحسين كان أمرًا فظيعًا بالفعل، ولكنه لم يكن أفظع من مقتل أبيه علي -رضي اللَّه عنه- الذي يفوقه بالمكانة (إلا أن زوجة علي كانت فاطمة بنت محمَّد ولم تكن شاه زنان بنت يزدجرد!)، ومقتل الحسين لم يكن أعظم من مقتل عثمان صهر رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، أو عمر الفاروق، بل إن مقتل الحسين لم يكن أعظم من مقتل نبي اللَّه زكريا عليه السلام، ولكن يبدو أن الشيعة لا يبكون إلا على من كانت له زوجةً فارسية! وقصة الحسين تبدأ

عندما بايع كل الصحابة يزيد بن معاوية على الخلافة بعد أبيه، ولم يرفض البيعة إلا الحسين بن علي وعبد اللَّه بن الزبير -رضي اللَّه عنهما-، فوصلت للحسين آلاف الرسائل من الشيعة في العراق يبايعونه فيها سرًا على الخلافة، فانخدع الحسين بالشيعة، ونسي خياناتهم المتكررة لأبيه وأخيه الحسن، فنصحه عبد اللَّه بن عمر وعبد اللَّه بن العباس بعدم تصديق أهل العراق الخونة، وقال له عبد اللَّه بن عباس: "إن أهل العراق أهل غدر! " ولكن الحسين رحمه اللَّه ظن أن الشيعة قد غيروا طبعهم القذر في الخيانة، ومع ذلك أراد أن يتأكد من صدقهم بعد كل تلك الرسائل التي وصلته منهم، فبعث الحسين بابن عمه مسلم بن عقيل إلى العراق ليتأكد من صدقهم ونصرتهم له، فذهب مسلم بن عقيل للكوفة فاجتمع له في صلاة الفجر ثمانية عشر ألفًا من شيعة العراق، فبعث مسلم برسالة مستعجلة إلى الحسين يقول فيها: "أما بعد فإن الرائد لا يكذب أهله! وقد بايعني من أهل الكوفة ثمانية عشر ألفا فعجل الإقبال حين يأتيك كتابي فإن الناس كلهم معك ليس لهم في آل معاوية رأى ولا هوى والسلام"، وما إن بعث مسلم برسالته حتى جاء والي العراق ببعض المال إلى أولئك المرتزقة، فأخذ الشيعة ينصرفون من مسلم بن عقيل واحدًا واحدًا، فما أذن المؤذن لصلاة المغرب حتى أصبح ابن عم الحسين وحيدًا بعد أن خانه الثمانية عشر ألفًا الذين اجتمعوا له في فجر ذلك اليوم!!!! ثم وجد مسلم نفسه وحيدًا في جنح الظلام يتردد في طرقات الكوفة لا يدري أين يذهب، يتجول بين البيوت المقفلة طالبًا شربة ماءٍ من الشيعة الذين رفضوا إيواءه، فرأته عجوزٌ شيعية بهذا المنظر المزري، فسألته عن حاله فقال لها: "أنا مسلم بن عقيل كَذَبَني هؤلاء القوم، وغَرُّوني" فأدخلته في بيتها لكي تسقيه بعض الماء بعد أن كاد يموت عطشًا، وسبحان اللَّه، فحتى تلك العجوز الشيعية الشمطاء أبت أن تغير طبع الشيعة القذر في الغدر والخيانة، فخرجت خفيةً من البيت وأحضرت معها رجالًا بسلاسل حديدية لكي يشدوا وثاق ابن عم الحسين بالسلاسل ويسلموه للوالي مقابل دراهم معدودات، وقبل أن يقتل الوالي مسلم بن عقيل سأله إن كان له طلب أخير، فقال مسلم وخنجر الغدر الشيعي مزروعٌ بخاصرته: كل ما أطلبه هو أن ترسْلوا للحسين برسالة تحذروه من أن يأتي للعراق، وقولوا له أن شيعة أبيه ليسوا أكثر من مجرد خونة، وأنهم قد غدروا به! وقتل مسلم بن

عقيل، ولكن رسالته وصلت متأخرًا للحسين، ومع ذلك أراد الحسين أن يرجع، إلا أن من معه من أبناء مسلم بن عقيل رفضوا إلا أن يأخذوا بالثأر لأبيهم، فتبعهم عمهم الحسين، فتفاجأ الحسين أن 30 ألفًا من الشيعة العراقيين قد انضموا لجيش الوالي لمقاتلة الحسين، فطلب الحسين أن يرجع من حيث أتى أو أن يتركوه لكي يذهب إلى ابن عمه يزيد (على حد وصف الحسين نفسه ليزيد!) أو أن يتركوه لكي يجاهد المشركين على الثغور الإِسلامية، فرفض جيش الشيعة ذلك، فقتلوه ومثلوا بجثته رحمه اللَّه وأسكنه فسيح جنته. انتهت القصة! أما الآن فلنستمع إلى أقوال علماء الشيعة أنفسهم من أمهات كتب الشيعة المعتبرة: الكتاب: أعيان الشيعة للسيد محسن الأمين/ الجزء: الأول/ الصفحة 32: "ثم بايع الحسين من أهل العراق عشرون ألفا غدروا به وخرجوا عليه وبيعته في أعناقهم فقتلوه". الكتاب: مقتل الحسين/ المؤلف: عبد الرزاق المقرم/ الصفحة 316/ 317: "أيها الناس من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب. . . . أيها الناس ناشدتكم اللَّه هل تعلمون أنكم كتبتم إلى أبي وخدعتموه وأعطيتموه من أنفسكم العهود والميثاق والبيعة وقاتلتموه، فتبا لكم لما قدمتم لأنفسكم، وسوأة لرأيكم، بأية عين تنظرون إلى رسول اللَّه إذ يقول لكم: قتلتم عترتي، وانتهكتم حرمتي، فلستم من أمتي". الكتاب: مقتل الحسين/ المؤلف: عبد الرزاق المقرم/ الصفحة 312: قالت زينب عليها السلام: "ويلكم يا أهل الكوفة أتدرون أي كبد لرسول اللَّه فريتم؟ وأي كريمة له أبرزتم؟ وأي دم له سفكتم؟ ". الكتاب: الإرشاد للمفيد 2/ 110، إعلام الورى للطبوسي 949، كشف الغمة 2/ 18 و 38: دعا الحسين على شيعته عندما غدروا به ونقضوا بيعته، ولما رأى عليه السلام عزمهم على قتله دعا عليهم قائلًا: "اللهم إن مَتَّعْتَهم إلى حين فَفَرِّقهم فِرَقًا، واجعلهم طرائق قدَدًا، ولا تُرْضِ الوُلاةَ عنهم أبدًا، فإنهم دَعَوْنا لِينصرونا، ثم عَدَوا علينا فقتلونا". الكتاب: تاريخ اليعقوبي 1: 235: "لما دخل علي بن الحسين الكوفة رأى نساءها

يبكين ويصرخن فقال: "هؤلاء يبكين علينا!! فمن قتلنا!؟ ". الكتاب: بحار الأنوار للمجلسي مجدلى: عمر 137 سطر 17: "قال يزيد: قد كنت أرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين، أما لو كنت صاحبه لعفوت عنه". والآن بعد أن تبين لنا من الذي قتل الحسين -رضي اللَّه عنه- من خلال أقوال علماء الشيعة أنفسهم، هل ما زال الشيعة يفكرون بالأخذ بثأر الحسين؟ أما علماء أهل السنة والجماعة -هدانا وهداهم اللَّه- ممن يطعنون بالتابعي الإِسلامي العظيم والقائد البطل يزيد بن معاوية، فأهدي إليهم بعض أقوال علماء السلف في يزيد بن معاوية رحمه اللَّه: الإِمام أحمد بن حنبل (كتاب الزهد): أدخل عن خطبة يزيد بن معاوية قوله: "إذا مرض أحدكم مرضًا فأشقى ثم تماثل، فلينظر إلى أفضل عمل عنده فليلزمه ولينظر إلى أسوأ عمل عنده فليدعه". محمَّد بن علي بن أبي طالب "تاريخ الطبري": "وقد حضرته وأقمت عنده فرأيتهُ مواظبا على الصلاة، مُتَحَرِيًا الخير، يسأل عن الفقه، مُلازما للسنة". ابن خلدون: المقدمة (ص 210 - 211): "والذي دعا معاوية لإيثار ابنه يزيد بالعهد دون سواه، إنما هو مراعاة المصلحة في اجتماع الناس، واتفاق أهوائهم باتفاق أهل الحل والعقد عليه -وحينئذ من بني أمية- وإن كان لا يظن بمعاوية غير هذا، فعدالته وصحبته مانعة من سوى ذلك، وحضور أكابر الصحابة لذلك، وسكوتهم عنه، دليل على انتفاء الريب منه، فليسوا ممن تأخذهم بها الحق هوادة، وليس معاوية ممن تأخذه العزة في قبول الحق، فإنهم -كلهم- أجلّ من ذلك، وعدالتهم مانعة منه. أبو حامد الغزالي (قيد الشريد من أخبار يزيد ص 57 - 59): "وقد صح إسلام يزيد بن معاوية، وما صح قتله الحسين ولا أمر به ولا رضيه ولا كان حاضرًا حين قتل، ولا يصح ذلك منه ولا يجوز أن يُظن ذلك به، فإن إساءة الظن بالمسلم حرام". الحافظ ابن كثير (البداية والنهاية 8/ 226): ". . . وقد أورد ابن عساكر أحاديث في ذم يزيد بن معاوية كلها موضوعة لا يصح شيء منها. وأجود ما ورد ما ذكرناه على ضعف أسانيده وانقطاع بعضه واللَّه أعلم".

والآن وبعد أن ذكرنا كل هذه الأحاديث عن هذا التابعي العظيم، يتساءل المرء. . . . لماذا هذا الهجوم العنيف على يزيد بن معاوية رحمه اللَّه؟ الحقيقة أن تشويه صورة يزيد رحمه اللَّه هو تشويه للتاريخ الإِسلامي بأكمله، فلقد استمر يزيد على سياسة أبيه في الجهاد، والذي لا يعرفه معظمنا أن يزيد هذا الذي نتحدث عنه هو الذي فتح التبت عند جبال الهملايا!!! وفتح بلاد التركستان والتي سيخرج منها بعد بضع مئات من السنين رجالٌ أشداء يسمّون بالعثمانيين (كما سنرى لاحقا في هذا الكتاب)، فتكون بذلك كل فتوحات الأتراك الأبطال في ميزان حسنات يزيد بن معاوية، فرحمك اللَّه يا يزيد وجزاك عن الإِسلام والمسلمين كل خير. ولكن. . . . ما قصة ذلك الجيش الذي كان يزيد قائده والذي دعا له رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-؟ ولماذا كان المسلمون مصممون على فتح "القسطنطينية" بالذات؟ وما قصة ذلك الصحابي الجليل استضاف رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في بيته في المدينة وهو شابٌ في ريعان شبابه، ليجاهد بعد ذلك في سبيل اللَّه حتى استشهد على أسوار القسطنطينية وهو شيخ ثمانيني؟ ولماذا كان السلاطين العثمانيون يبدأون مراسم تقلدهم للخلافة في المسجد الذي حمل اسمه في مدينة الإِسلام "إسلامبول"؟ يتبع. . . .

45 - أسد القسطنطينية (أبو أيوب الأنصاري)

" أسد القسطنطينية" (أبو أيوب الأنصاري) " يا يزيد. . . . أقرأ عني السلام على جنود المسلمين، وقل لهم: يوصيكم أبو أيوب أن توغلوا في أرض العدو إلى أبعد غاية، وأن تحملوه معكم، وأن تدفنوه تحت أقدامكم عند أسوار القسطنطينية" (أبو أيوب) كانت دموع القائد الأعلى لجيش القسطنطينية (يزيد بن معاوية) تختلط مع دموع أخيه (الحسين بن علي) وهما ينظران إلى هذا الشيخ الثمانيني وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة، فتذكر كلٌ منهما قصة هذا البطل الأسطوري الذي كان الإنسان الوحيد على وجه الأرض الذي نال شرف استضافة أعظم مخلوقٍ خلقه اللَّه في التاريخ, يومها كان هذا الشيخ ومن معه من المسلمين مهددين من قبيلة في مجاهد صحراء العرب لا يبلغ عدد أفراد جيشها الألف، أما الآن فإن هذا الشيخ الطاعن في السن يهدد بنفسه عاصمة أكبر إمبراطورية عرفتها أوروبا في تاريخها، يهدد القسطنطينية أحصن مدينة على وجه الأرض، لقد كان هذا الشيخ العظيم هو خالد بن زيد بن كليب بن مالك بن النجار، والذي عُرف بأبي أيوب الأنصاري. وقصة هذا الصحابي تصلح لكي تدرَّس في مقاهي البلاد الإِسلامية المكتظة بعشرات المسنين ممن يضيّعون أوقاتهم في المقاهي بلعب الطاولة بانتظار مجيئ الساعة القاضية التي ينتهي فيها "سن اليأس"! إننا لا نتحدث عن شابٍ عشريني أو كهلٍ ثلاثيني أو حتى شيخٍ ستيني، إننا نتحدث عن هرمٍ جاوز الثمانين من عمره ورغم ذلك يخرج مجاهدًا في سبيل اللَّه، ليدك حصون أعظم مدينة على وجه الأرض! نرجع إلى الوراء 53 سنة عبر التاريخ لكي نعرف قصة أبي أيوب من بدايتها، وبالتحديد من اليوم الذي وصل فيه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى المدينة مهاجرًا إليها من مكة،

هناك تمنى كل إنسانٍ أن يكون هو صاحب الشرف العظيم في استضافة رسول اللَّه أعظم ضيفٍ في التاريخ, ورسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يجيبهم وعلى شفتيه ابتسامة مشرقة قائلًا: "خَلّوا سَبيلَها فَإِنَّها مَأمُورة". فقد ترك الرسول قرار اختيار مضيفه إلى اللَّه، فاختار اللَّه من فوق سبع سماوات أبا أيوب من دون كل البشر! فقد وقفت الناقة أمام بيت أبي أيوب، فوثب أبو أيوب على الناقة من دون أن يتكلم شيئًا وحمل متاع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- مسرعًا به قبل أن ينافسه رجلٌ آخر على ذلك الشرف! كان بيت أبي أيوب الأنصاري مكونًا من طابقين، لذلك عرض أبو أيوب على رسول اللَّه أن يسكن في الطابق العلوي لأنه يستحي أن يسكن فوق رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فأخبره رسول الرحمة بكل تواضع أنه يفضل الطابق الأرضي نظرًا لكثرة ضيوفه، لكن أبا أيوب لم يكن يهنأ في نومه خشية أن يزعج رسول اللَّه من تحته، ولنستمع إلى هذه القصة التي يرويها لنا بطلنا الإِسلامي العظيم بنفسه: "في ليلة من الليالي انكسرت جرة فيها ماء ونحن نبيت في الأعلى من رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فسال الماء، فخشينا أن يتقاطر على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وهو نائم في الأسفل، فأخذنا أنا وأم أيوب لحافنا، وواللَّه ما كان عندنا غيره، فأخذنا ننشف به الماء طيلة الليل حتى لا تصيب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قطرة من الماء وهو نائم في الأسفل، فتؤذيه فيستفيق من نومه". وفي عهد أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان -رضي اللَّه عنهما-، انتشرت سوق الجهاد بشكل كبير كما أخبر (ابن كثير) في "البداية والنهاية"، فلقد ابتكر معاوية نظام الصوائف والشواتي في الجهاد، فكانت الجيوش في عصر الدولة الأموية تتبع هذا النظام الذي أسسه "خال المؤمنين" لنشر الإِسلام على الأرض صيفًا وشتاء، وفي سنة 53 هـ خرج القائد الإسلامي يزيد بن معاوية على رأس جيشٍ يضم بين أفراده الحسين بن علي، والعبادلة الأربعة عبد اللَّه بن عمر وعبد اللَّه بن عمرو ابن العاص وعبد اللَّه بن الزبير وعبد اللَّه بن العباس ليدكوا عاصمة الإمبراطورية الرومانية بكتائب التوحيد، فأبى أبو أيوب الأنصاري (وقد بلغ الثمانين) إلا أن يشارك في الجهاد! فما إن وصلت كتائب النور الإِسلامية بقيادة القائد يزيد إلى أسوار القسطنطينية، حتى رأى الجنود من كلي الطرفين رجلًا ملثمٍ يطير طيرانًا بفرسه البيضاء نحو حصون الروم، فيحمل ذلك الرجل الملثم

على كتائب الروم حتى يشتتها، والروم مذهولين من قوله ما يرون، فأمعن المسلمون النظر بهذا الرجل الذي يقبل على الموت إقبالًا لكي يتعرفوا على هويته، فإذا هو ذلك الرجل الثمانيني أبو أيوب الأنصاري. . . . وكأنه قد حلّ في إهابه شباب التاريخ! فأخذ أبو أيوب يزلزل جحافل الروم بسيفه حتى أحسُّ بدنوِّ أجله، فطلب من القائد الإسلامي يزيد ابن معاوية أن يُبلغ سلامه للمسلمين وأن يدفنوه على أقرب نقطة من أسوار القسطنطينية، لتطوى بذلك صفحة باسلة، ليس في تاريخ البطولة الإِسلامية فحسب، بل في في تاريخ الإنسانية جمعاء. فعليك السلام ورحمة اللَّه وبركاته يا أبا أيوب، يا صاحب رسول، وجزاك اللَّه كل خير أيها البطل الشهم جزاءً وفاقًا لحسن ضيافتك لرسول اللَّه. ولكن. . . . لماذا أوصى أبو أيوب أن يدفن تحت أسوار القسطنطينية رغم أنها لم تكن أرض إسلام حينها؟ وما هي الرسالة التي أراد أبو أيوب إيصالها للمسلمين من بعده بتلك الوصية العجيبة؟ وماذا فعل الروم بقبره بعد مرور ثمانية قرون على ذلك الحدث؟ وما هي البشارة العظيمة التي كان أبو أيوب يعلمها من رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- والتي دفعته للجهاد على أسوار القسطنطينية بالذات؟ ومن هو ذلك الأمير الإِسلامي العظيم الذي بشر به رسول اللَّه على أصحابَه ليظهر بعد ذلك بمئات السنين؟ يتبع. . . .

46 - صاحب بشارة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (محمد الفاتح)

" صاحب بشارة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-" (محمد الفاتح) " لتفتحن القسطنطينية. . . . فلنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش ذلك الجيش" (رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-) كاد السلطان (محمَّد الفاتح) أن يغمى عليه من هول الصدمة، فلقد أخذه أستاذه الشامي (شمس الدين آق) بعد صلاة الفجر إلى مكانٍ مجهولٍ خلف أسوار القسطنطينية، هناك طلب منه أستاذه أن يحفر بين الصخور المتراكمة وأن يزيل بمعوله النباتات التي تشابكت أغصانها حول تلك التلة خلف تلك الأسوار العالية، في نفس الوقت أخذ الشيخ شمس الدين يتلفت يمينا وشمالا ليتثبت من هذا الموقع الذي رآه في منامه في تلك الليلة، عندها اصطدم معول الفاتح بلوحةٍ حجرية مكتوبة باللغة اللاتينية التي كانت إحدى اللغات السبع التي يجيدها السلطان الشاب محمَّد، فما إن فرغ الفاتح من قراءة تلك اللوحة حتى انهمرت دموعه بغزارة وكاد أن يسقط على الأرض وهو ينادي بأعلى صوته: أيها الأستاذ. . . . لقد وجدته! لقد وجدت قبر الرجل الأسطورة، لقد وجدت قبر صاحب رسول اللَّه! لقد وجدت قبر أبي أيوب الأنصاري! لقد كان ذلك بالفعل هو قبر صاحب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أبي أيوب الأنصاري، فلقد لاحظ الروم أن يزيد بن معاوية رحمه اللَّه قام بدفن أبي أيوب على أسوار القسطنطينية بناءً على وصيته، فعندها سأل الروم المسلمين عن أمر ذلك الرجل، ليخبرهم المسلمون بأنه رجل من خيرة أصحاب نبيهم، وأنهم سيدمرون أخضر الروم إذا ما فكروا يومًا ما في نبش القبر بعد رحيل المسلمين عنه، فلما رحل يزيد بالحسين ومن معه من الصحابة والتابعين، ذهب الروم إلى ذلك القبر وأخذوا يتبركون به ظنًا منهم أن صاحب القبر بإمكانه منحهم البركة لأنه من الأولياء الصالحين، ولم يعلم أولئك المشركون أن من في القبر لا يسمعهم، ولو سمعهم ما استجاب لدعائهم! فظل الروم الجهلاء يتبركون بالقبر

بعد أن بنوه بالرخام وكتبوا عليه قصة صاحبه باللاتينية، إلى أن اختفى القبر بعد مئات السنين نتيجة لعوامل الطقس والبيئة، حتى جاء العثمانيون الأبطال وفتحوا القسطنطينية، فجاءت تلك الليلة التي رأى بها العالم الدمشقي شمس الدين آق كبير كبير علماء المسلمين مكانَ القبر في منامه، ليبنى المسلمون جامعًا بجانبه اسمه جامع أبي أيوب الأنصاري (موجود إلى الآن في إسطانبول) وليكون ذلك الجامع هو المكان الذي يتولى فيه سلاطين بني عثمان الخلافة عند بداية عهد كل خليفة عثماني مسلم! والآن. . . . . لنرجع إلى قصة هذا السلطان العثماني البطل: محمَّد الفاتح، أو محمَّد الثاني كما تحب كتب المناهج العربية أن تطلق عليه، وكأن من وضعوا هذه المناهج الدراسية لا يريدون لنا أن نسمع كلمةً بها رائحة النصر أو الفتوحات من قريب أو بعيد، وكأنه كُتب علينا أن نظل أسرى لقصص الهزائم والنكبات والنكسات، وواللَّه إننى ما عدت الآن ألوم أولئك الشباب اليائس المحطم الذين أقابلهم بين العين والآخر لأسمع منهم كلمات الهزيمة الداخلية ولأرى في أعينهم علامات الانكسار النفسي والهوان، فبعد أن تعمقت في تاريخ الأمة، وأدركت عِظم قدر التزييف الذي يتعرض له تاريخنا بأسره، أيقنت أن هؤلاء الشباب ما هم إلا ضحية من ضحايا الغزو التاريخي الرهيب الذي وضع لهم مناهجهم التي تعلموها في مدارسهم، ولا شك أن تلك الهزيمة النفسية التي زرعت في شبابنا زرعًا هي التي تدفعهم لكي يلقوا بأنفسهم إلى بحار الظلمات، ليصبحوا وجبة شهية لأسماك البحار المفترسة، وما هذا العمل الذي أقوم به في هذا الكتاب، إلّا محاولة لزرع روح الأمل في شباب الأمة من جديد، من خلال تسليط الأضواء على المواقف المشرقة أصلًا في تاريخ هذه الأمة. وبطلنا الآن هو شابٌ أيضًا لم يكن قد تجاوز الثالثة والعشرين من عمره عندما فتح القسطنطينية، إننا نتحدث عن رجل لم يفتح مدينة عادية من مدن العالم، إننا نتحدث عن رجلٍ فتح القسطنطينية! تلك المدينة التي كتب عنها (نابليون بونابرت) في مذكراته من منفاه في جزيرة "سانت هيلينا" "أنها عاصمة العالم بأسره إذا ما كان العالم دولةً واحدة"، بل إن هذه المدينة حظيت باهتمامٍ شخصي من رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- على عظمته وقدره، ليس من أجل جمال طبيعتها الخلابة وموقعها الاستراتيجي الخطير بين أوروبا وآسيا، بل لأن

القسطنطينية كانت هي عاصمة الكفر في العالم آنذاك، ولتقريب الصورة أكثر فإن القسطنطينية كانت بمثابة "الفاتيكان" قبل فتح المسلمين لها، بل إن اسم القسطنطينية مشتق من اسم الإمبراطور الروماني (قسطنطين) واضع أسس الديانة المسيحية الحديثة التي تعتقد بألوهية المسيح عليه السلام (وقد تحدثنا عن ذلك مفصّلا في معرض حديثنا عن آريوس)، أضف إلى ذلك أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قد مدح فاتح القسطنطينية بنفسه عندما قال: "لتفتحن القسطنطينية، فلنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش ذلك الجيش"، لذلك أراد كل قائدٍ عظيم من عظماء المسلمين أن ينال هو شرف فتحها ليكون صاحب بشارة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فحاصرها المسلمون إحدى عشرة مرة، فكان أول بطل منهم هو القائد الأموي يزيد بن معاوية رحمه اللَّه، ثم حاول القائد الأموي البطل مسلمة ابن عبد الملك بن مروان رحمه اللَّه الكرة مرتين على القسطنطينية، الأولى في عهد الخليفة الأموي سليمان بن عبد الملك، والثانية في عهد الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز (انظر إلى همة الأمويين!). وعلى الرغم من أن فتح القسطنطينية وحده يؤهل السلطان محمَّد الفاتح لكي ينضم إلى قافلة العظماء المائة في تاريخ الإِسلام، إلّا أن الفاتح لم يكتفِ بذلك، فعظمة السلطان محمَّد الفاتح لا تكمن فقط في كونه هو الرجل الذي فتح القسطنطينية فحسب، بل تكمن بما فعله بعد فتحه لتلك المدينة العظيمة: فقد قام الفاتح رحمه اللَّه بتحويل اسم "القسطنطينية" إلى "إسلامبول" أي "مدينة الإِسلام"، ثم حُرِّفت بعد ذلك إلى "إسطانبول"، وأمر هذا الخليفة المسلم بالعفو عن جميع النصارى في القسطنطينية، وأمَّنهم على أرواحهم وممتلكاتهم، وأمر بترك نصف عدد الكنائس للنصارى وتحويل النصف الآخر إلى مساجد يذكر فيها اسم اللَّه، على الرغم من أن قانون الحرب في ذلك الزمان يتيح للفاتح أن يفعل ما يراه في البلد المفتوح، وقارن ذلك بما فعله الصليبيون الكاثوليك من مجازر في حق إخوانهم من الأرثذوكس في القسطنطينية إبان زمن الحروب الصليبية، وقارن ذلك بما فعله الإسبان من مجازر في حق المسلمين ومن تحويل كل مساجد الأندلس إلى كنائس وحرق كل مكاتبها (سيأتي ذكر ذلك تباعًا في هذا الكتاب إن شاء اللَّه)، ثم دعا الفاتح السكان الهاربين -من أرثوذكس وكاثوليك ويهود- إلى العودة إلى بيوتهم بالمدينة وأمنّهم على حياتهم،

كذلك أطلق السلطان محمَّد الفاتح سراح السجناء من جنود وسياسيين، ليسكنوا المدينة ويرفعوا من عدد سكانها، وأرسل إلى حكّام المقاطعات في الروملي والأناضول يطلب منهم أن يرسلوا أربعة آلاف أسرة لتستقر في العاصمة، سواء كانوا مسلمين أو مسيحيين أو يهود، وذلك حتى يجعل من جتمعها مجتمعًا متعدد الثقافات. وأمر ببناء المعاهد والقصور والمستشفيات والخانات والحمامات والأسواق الكبيرة والحدائق العامة، ولم يكتفِ هذا الأمير الإِسلامي العظيم بفتح القسطنطينية التي تكفل له الخلود في صفحات التاريخ الإنساني، بل قام أيضًا بفتح بلاد الأفلاق (رومانيا) وبلاد البوشناق (البوسنة والهرسك) وبلاد البغدان (مولدافيا) وبلاد القرم (أوكرانيا) وبلاد القرمان (جنوب تركيا) وفتح الفاتح بلاد الفلاخ الرومانية بعد أن هزم ملكها السفاح (دراكولا)، (ودراكولا هذا هو نفسه دراكولا مصاص الدماء الشهير، وما لا يعلمه شبابنا من محبي أفلام الرعب أن البطل المسلم محمَّد الفاتح هو من قتل دراكولا الذي كان يعيث فسادًا في الأرض) وفتح الفاتح (بلغاريا) و (ألبانيا) و (المجر) و (ألبانيا) و (مقدونيا) و (الجبل الأسود - مونتينيغرو) و (كرواتيا) و (صربيا) و (سلوفينيا) و (سلوفاكيا) وفتح الفاتح بلاد الإغريق (اليونان) وحافظ على تراثها القديم (على عكس ما سيفعله اللاتين الصليبيين بالتراث الإغريقي بعد ذلك بمائتي عام)، وفتح الفاتح (المجر) وأجزاء من (روسيا) وحاصر (رودس) وفتح الفاتح جنوب (إيطاليا) لكي ينال شرف فتح القسطنطينية وروما في آن واحد، وفعلا تقدم نحو روما، إلا أن اللَّه سبحانه وتعالى أراده إلى جواره بعمر 53 سنة فقط قضاها في نشر دين اللَّه في أصقاع أوروبا, ولكي تنتهي بذلك قصة عظيم إسلامي عظيم احتفل بابا روما شخصيًا ثلاثة أيام بموته وقال عنه المؤرخ الفرنسي الشهير (جي ييه): "ينبغي على جميع النصارى في العالم أن يدعو الرب ألا يظهر مرة أخرى رجلٌ في صفوف المسلمين مثل السلطان محمَّد الثاني". والذي لا يعرفه الكثيرون عن سيرة هذا الأمير الإِسلامي العظيم، أنه لم يكن بطلًا عسكريًا فحسب، بل كان شاعرًا من أعظم شعراء المسلمين على مر التاريخ, له ديوان في غاية الروعة لا يتسع المجال هنا لذكر ما يحتويه من رقائق وروائع، وكان هذا العملاق التركي حافظًا لكتاب اللَّه، عاملًا بسنة رسوله، معظمًا للعلماء، وكان يتقن العربية والعثمانية والفارسية والسلافية واللاتينية

والاغريقية واللاتينية، وكان أعوانه يشاهدونه يبكي في ظلمات الليل وهو يصلي للَّه ويتضرع له. فصدق الصادق المصدوق محمَّد -صلى اللَّه عليه وسلم-، فنعم الأمير أنت أيها السلطان محمَّد، فرحمك اللَّه أيها الفاتح. . . . . يا صاحب بشارة رسول اللَّه! ولكن الشيء الآخر الذي لا يعلمه الكثير من المسلمين، أن هذا البطل المتنوع المواهب ما كان في صغره إلا صبيًا متسكعًا مهملًا يتوقع له الجميع الفشل في الحياة! فمن الذي صنع منه هذا البطل الأسطوري وحوله إلى عظيمٍ من عظماء أمة الإِسلام ليصبح صاحب بشارة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-؟ يتبع. . . .

47 - (مراد الثاني)

{وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} (مراد الثاني) " أرجوك يا أبي أن ترجع لكي تستعيد كرسي السلطنة الذي تركته لي، فأنا ما زلت صغيرًا على تقلد هذا المنصب الكبير، فإذا كنتَ أنت السلطان فتعال وادر أمور دولتك، وإذا كنتُ أنا السلطان، فإني آمرك أن ترجع لتدير أمور السلطنة! " (محمَّد الفاتح) كان الألم يعتصر قلبي عندما استوقفني شابٌ عربي لكي يسألني إن كان اسم "مراد" اسمًا عربيًا أم لا!! وكان سبب شعوري بالألم يكمن في ثلاثة أسباب: سببٌ منها خاص بي شخصيًا، والسببان الآخران يخصان حال الأمة بأسرها، أما السبب الخاص فهو أن اسم "مراد" بالتحديد هو اسمٌ عزيزٌ على قلبي، فهذا الاسم هو الاسم الذي يحمله الأخ الوحيد الذي يصغرني سنًا من بين تسعة إخوة! أما السبب الثاني لشعوري بالأسى هو إدراكي بمدى ضعف شباب هذه الأمة باللغة العربية، لغة القرآن، لغة محمَّد -صلى اللَّه عليه وسلم-، فمراد هو اسم المفعول من أراد يريد، وهو المطلب والمبتغى، ومراد هو أبو قبيلة من العرب الأقحاف، وهو مراد بن مالك بن زيد بن كَهْلان بن سَبَأ بن يشجب بن يعرب أبي العرب العاربة أصل العرب!! أما السبب الثالث لشعوري بالأسى فهو إدراكي لمدى الجهل الذي يعانيه شباب هذه الأمة بتاريخهم، فمراد هو اسم لبطل إسلامي عظيم أنجبته أمة محمَّد -صلى اللَّه عليه وسلم-، وهو السلطان مراد الثاني بن السلطان محمَّد الأول بن السلطان بايزيد (الصاعقة) رحمهم اللَّه أجمعين. وسبب اختيار لهذا الرجل ليكون ضمن قائمة المائة هو أن هذا الرجل يعتبر قدوة لكل الآباء في هذه الأمة التي آن لها أن تستفيق من سباتها، فكم رأيت خلال إقامتي في أوروبا شبابًا في عمر الزهور قضى عليهم آباؤهم بإهمالهم لهم وانشغالهم بجمع الدولارات، ولا أنسى دمعة ذلك الشاب العربي المسكين الذي قال لي والأسى يعتصر قلبه أنه كان يتمنى لو أن أباه قد علّمه شيئًا من كتاب اللَّه، فقد تركه والداه بدون أن يعلِّماه شيئًا من العربية، بل إن ذلك الشاب كان يتمنى أن لو علمه والداه

نطق الشهادتين! وبطلنا السلطان مراد الثاني لم يصنع من ولده طبيبًا لكي يُكتب اسم أبيه بجانب اسمه في العيادة، ولم يعلم ولده التجارة لكي يدير له المصنع بعد مماته، ولم يقضِ حياته يدرب ابنه على الخلطة السرية لأحد أطباق الطعام لكي يطمئن على مطعمه الشهير بعد مماته، بل قام السلطان العظيم مراد الثاني بصناعة رجل! فصناعة الرجال هي التي تخلد الإنسان! فكم سنا يعرف اسم جدِّه السادس؟ أو جدِّ جدِّه؟ أو حتى اسم جدِّ أبيه؟ فالذي يخلد سيرة الإنسان في الدنيا إنما هي أعماله، وإن لم تكن أعماله فهي أعمال أبنائه الذين كان هو من صنعهم! فمن كان يعتقد أن العظماء يُولدون عظماء فهو واهم غارقٌ في وهمه، فالعظمة ما هي إلا نتاج تربية الأهل ورعاية المجتمع وتحصيل الشخص نفسه وفوق ذلك كله توفيق اللَّه، والذي لا يعرفه الكثير عن محمَّد الفاتح الذي فتح الآفاق ونشر الإِسلام في ربوع الأرض وأجاد الشعر واللغات والأدب والهندسة، لم يكن في طفولته إلا طفلًا مهملًا يستحق أن يوضع في مدارس الأحداث لو كان في زماننا هذا، فهل تركه والده السلطان مراد على حالته تلك؟ وهل أخذ يلوم زوجته على سوء تربيتها لولده؟! لقد جلب السلطان مراد المعلمين من جميع أرجاء السلطنة لولده الصغير, ولكن الأمير المشاكس محمَّد الثاني استمر في استهتاره، وأخذ يهرب من الدروس لكي يلهو ويلعب، فذهب السلطان مراد الثاني إلى شيخٍ كبير اسمه الملا الكوراني (وهو لا يمت بأي صلة للكوراني، العالم الشيعي المعاصر صاحب نظرية تحريف القرآن!) وأعطى السلطان مراد الثاني الملا الكوراني قضيبًا ليضرب به ابنه إذا شاغب، وفعلًا نجحت التربية المرادية، فتربى محمَّد الثاني خير تربية على يد الشيخ الكوراني، فحفظ القرآن، ونظم الشعر، وأتقن اللغات، وتعلم فنون القيادة من أبيه الذي كان يأخذه معه إلى المعارك ليتدرب فيها إدارة الأزمات، وفي الوقت الذي لا يستأمن فيه معظم آبائنا أولادَهم حتى على أمور المنزل، نرى أن السلطان مراد الثاني استأمن ابنه محمَّد على الإمبراطورية بأسرها وهو صبي صغير، بل وتنازل السلطان مراد الثاني لولده عن السلطنة في حياته ليدربه على الحكم، وليتفرغ هو للعبادة، ليصنع منه ذلك الفارس البطل، ولتكون جميع فتوحات محمَّد الفاتح في ميزان أبيه البطل صانع الانتصار الحقيقي

السلطان العثماني البطل مراد الثاني رحمه اللَّه، وليكون مراد بذلك هو الفاتح الحقيقي لمدينة هرقل. وبعد. . . . كان هذا أنموذجًا رائعًا عن دور الآباء في صناعة نهضة الأمم، ولكن ماذا عن دور الأمهات؟ ماذا عن دور الزوجات الصالحات؟ ولماذا يعتبر دورهن أهم بألف مرة من دور الآباء والأزواج في صناعة الرجال؟ أعتقد أن الوقت قد أزف لكي نبحر قليلًا في بحار عظيمات أمة الإِسلام اللائي خلّدهن تاريخ هذه الأمة بصفحاتٍ ذهبية كتِبت سطورها بمدادٍ من ماء العيون! يتبع. . . . . . .

48 - سيدة نساء أهل الجنة (فاطمة بنت محمد)

" سيدة نساء أهل الجنة" (فاطمة بنت محمد) " ما رأيت أفضل من فاطمة غير أبيها" (أم المؤمنين عائشة) كاد فؤاد الصحابي الجليل (عبد اللَّه بن مسعود) يتفطر ألمًا وهو يرى بعينيه ما يحدث أمامه في باحة الحرم المكي، زاد من ألمه تلك القهقهات التي انطلقت من المجرم (أبي جهل) ورفاقه من سفهاء مكة، فلقد رأى المشركون رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يصلي عند بيت اللَّه الحرام، وذلك بعد موت عمه أبي طالب الذي كان يحميه من بطش الكفار، فنظر عدو اللَّه أبو جهل إلى رفاقه وسألهم: "أيكم يقوم إلى سلا جزور بني فلان فيأخذه، فيضعه في كتفي محمَّد إذا سجد؟ " وسلا الجزور هو أمعاء الشاه بما تحمله من أوساخ، فانبعث المجرم (عقبة بن أبي معيط) فأخذه. فلما سجد النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وضعه بين كتفيه. عندها ارتفعت ضحكات أولئك المجرمين على رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وهو ساجدٌ لربه لا يحرك ساكنًا، فأصبح عبد اللَّه بن مسعود في حيرة من أمره، فالرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- لم أمر المسلمين بالصبر على أذى المشركين ونهاهم عن القتال في تلك المرحلة المبكرة من الدعوة الإِسلامية، وفي نفس الوقت عبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه عنه وأرضاه من المستضعفين في مكة الذين ليس لهم منعة، فلو قام ابن مسعود إلى الرسول ليحميه لنشب قتال بينه وبينهم بلا شك، ولدخل المسلمون في دوامة هم في غنى عنها في تلك المرحلة المبكرة، عند هذه اللحظة، رأى ابن مسعود طفلة صغيرة دون العاشرة من عمرها، تجرى كالبرق من بعيد بين شوارع مكة متجهةً إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فلما اقترَبَت منه أزاحت الأوساخ عنه بيديها الصغيرتين، ثم اتجهت نحو أبي جهل ومن معه من السفهاء فشتمتهم بصوتها الطفولي وكأنها ملكة من ملوك الأرض، فصُعق أبو جهلٍ ومن معه من شجاعة هذه الطفلة الجريئة، وتساءل المشركون عن هويتها، فجاءهم الجواب: إن الجويرية البطلة

فاطمة بنت محمد بن عبد اللَّه! تذكرت وأنا أستمع لقصة هذه الطفلة البطلة قصة الطفل البطل الزبير ابن العوام وهو رافعٌ سيفه -الذي يكاد يفوقه طولًا- في أزقة مكة، وذلك لكي يدافع به عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. الجميل في الأمر أن هذه البطلة هي بنت عمة ذلك البطل! فخديجة بنت خويلد أم فاطمة هي أخت العوام بن خويلد أبي الزبير، فسبحان الذي خلق الزبير! وسبحان الذي خلق فاطمة! وفاطمة بنت محمَّد رضي اللَّه عنها وأرضاها لم تكن بطلة فحسب، بل كانت ابنة بطل وابنة بطلة وابنة عمة بطل وزوجة بطل وأم بطلين عظيمين، وكأن البطولة تجسّدت وأرادت أن تختار لها اسمًا فلم تجد إلى اسم فاطمة! وكيف لا وهي تلميذة بيت النبوة التي تربت في أحضان أشجع مخلوقٍ خلقة اللَّه في العالمين، في أحضان والدها الذي كان يحبها حبًا ما أحبه أبٌ لابنته في تاريخ الدنيا بأسرها، وواللَّه لكأني برسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وهو على فراش الموت وفاطمة تدخل عليه حجرته، ولا أعلم هل كانت وطأة الموت أشد على رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أم إحساسه بالضعف لعدم قدرته على القيام لابنته الحبيبة لتقبيلها بين جبينها؟ فقد كان رسول الرحمة يقوم من مجلسه دائمًا إذا ما أقبلت عليه ابنته ليقبلها بين عينيها ثم يجلسها مكانه، ولقد كانت هذه المرة الوحيدة التي يعجز فيها رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن القيام لحبيبة قلبه، وكانت هذه المرة الوحيدة التي يعجز فيها أعظم إنسانٍ عرفته البشرية عن تقبيل جبين بنيته! وحكايات فاطمة رضي اللَّه عنها وأرضاها في البطولة والشرف لهي أكثر من أن تحصى وأعظم من أن تتسع لها صفحات معدودة في كتاب من الكتب، فالمواقف البطولية التي تصف عظمة فاطمة بنت محمَّد بن عبد اللَّه أكثر من أن تحصى في ألف ألف كتاب! فنحن لا نتكلم عن السيدة الأولى في بلد من البلدان العربية، ولا نتحدث عن سيدة مجتمع من الطبقات الأرستقراطية، بل نتحدث -وانتبه معي- عن سيدة نساء أهل الجنة!!! شرفٌ جعل من قلمي عاجزًا أن يكتب أكثر من ذلك، فماذا عساني أن أكتب عن سيدة هي سيدة نساء أهل الجنة؟! والحقيقة التي لا تعرفها أغلب بناتنا -ممن يطلبن لبن العصفور من خطابهن- أن

هذه السيدة بنت السيد كان مهرها درعًا حُطَمِية كانت بحوزة الفارس علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه وأرضاه، والذي لا تعرفه كثيرٌ من بناتنا -اللائي يعتقدن أنهن ملكات الدنيا- أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يجد ما يهدي به بنته يوم زواجها سوى كوبٍ للشرب وجرتين للماء وخميلة ووسادة حشوها من الليف ورحاءين (مثنى رحى وهي حجر الطحن)، فكانت هذه السيدة العظيمة تجرُّ بالرحاء حتى أثَّرت في يدها، وتستقي بالقربة حتى انحنى ظهرها، وكانت تنظف بيت زوجها حتى تغير ثيابها، وتوقد تحت القدر بنفسها حتى تحترق ثيابها. وكانت السيدة فاطمة -رضي اللَّه عنها- تشارك زوجها الفقر والتعب نتيجة للعمل الشاق الذي أثَّر في جسدها، فأنّى لكن أن تكنَّ مثل فاطمة وهي أعظم منكنَّ، وأبوها أعظم من آبائكنَّ؟! والحقيقة أن السيدة العظيمة فاطمة لم تأتي بهذه العظمة من فراغ، فهي وإن كانت بنت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فهي أيضًا بنت سيدةٍ عظيمةٍ من عظيمات أمة الإِسلام، لقد كانت فاطمة بنت أعظم زوجةٍ عرفتها الإنسانية عبر جميع عصورها، زوجة يتمنى كلُّ رجل في الدنيا أن يُرزق بامرأةٍ لها جزءٌ واحدٌ من مائة جزءٍ من الأجزاء المكونة لعظمتها، إن كان في صبرها أو حبها أو مساندتها لزوجها! فمن هي تلك السيدة العظيمة التي كانت أولَّ من آمن برسالة محمَّد -صلى اللَّه عليه وسلم-؟ وما هي تلك الرسالة التي جاء بها الملك جبريل عليه السلام من اللَّه مباشرة لكي يوصلها لهذه السيدة العملاقة عن طريق زوجها؟ يتبع. . . . . .

49 - رمز الزوجة الصالحة (خديجة بنت خويلد)

" رمز الزوجة الصالحة" (خديجة بنت خويلد) " يا خديجة هذا جبريل يقرئك السلام من ربك" (رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-) اغرورقت عينا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بالدموع وهو يقلب بيديه تلك القلادة التي جاء بها رجل من قريش ليفتدي بها أخاه الذي أسره المسلمون في معركة بدرٍ "الكبرى" فلقد أيقظت تلك القلادة في فؤاد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ذكريات تلك الإنسانة التي ملكت عليه قلبه ووجدانه قبل أن ترحل من الدنيا، لقد كانت هذه القلادة هي قلادة أعز مخلوقة على قلبه، لقد كانت هذه القلادة قلادة الإنسانة التي أحبته وواسته وسهرت على راحته، لقد كانت قلادة الإنسانة التي كانت تصعد جبال مكة الشاهقة لتضع الطعام والشراب له في غار حراء ثم تتركه هانئًا بخلوته، لقد كانت قلادة الإنسانة التي واسته بمالها وصحتها وروحها، تذكر رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- تلك المرأة التي زمَّلته بالرداء لتهدأ من روعه بعد أن جاءه جبريل بالوحي لأول مرة، تذكر رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وهو يقلب تلك القلادة تلك الإنسانة التي كانت تواسيه بحنانها بعد كل مرة يستهزئ به كفار مكة في طرقاتها, ليجد في عيون تلك الإنسانة كل معاني الحنان والطمأنينة، تذكر رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- تلك الإنسانة التي صدقته يوم أن كذّبه الناس، وواسته يوم أن هجره الناس، وساندته يوم أن تخل عنه الناس، تذكر رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- تلك الإنسانة الرقيقة التي ما سمع لها صوتًا مرتفعًا طيلة ربع قرنٍ من الحياة الزوجية الهانئة، تذكر رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- تلك الإنسانة التي عانت معه من الجوع والعطش بعد حصار الكفار للمسلمين في شعب مكة، تذكر رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وهو يقلب القلادة بين يديه ذلك اليوم الذي خلعت به تلك الإنسانة هذه القلادة من عنقها لكي تلبسها لابنتها زينب يوم زواجها وابتسامتها الرقيقة ترتسم على محياها لتملأ البيت إشراقًا وبهجة، لتنعكس تلك الابتسامة في عيني رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فتحيي في قلبه اليتيم تلك

السعادة التي حُرمها منذ طفولته، لقد تذكر رسَول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- هذه الإنسانة التي عوّضته عن سنين اليتم والحرمان التي عاشها طفلًا صغيرًا، فسالت دموعه -صلى اللَّه عليه وسلم- بحرارة على وجنتيه الطاهرتين، فلقد كانت هذه القلادة هي قلادة زوجته الحبيبة المحبة الوفية النقية الطاهرة الصادقة المخلصة البطلة خديجة بنت خويلد عليها السلام. كنت أظن أن الكتابة عن عظيمات الإِسلام ستريحني قليلًا من العناء الذي تكبدته في البحث والتحقيق خلال أشهرٍ من الكتابة المتواصلة عن أولئك العظماء الذين كتبت عنهم إلى حد الآن، وإذ بي أتفاجأ بأن الكتابة عن عظيمات هذه الأمة أصعب بألف مرة من الكتابة عن عظيميها! فنحن أمام شخصياتٍ من النساء العظيمات اللائي يعجز القلم قبل صاحبه عن وصفهن، وأتذكر هنا مقولة نسمعها كثيرًا "بأن وراء كل رجلٍ عظيم امرأة"، إلا أنني أؤكد بعد دراستي لسير عظيمات الإِسلام أن تلك المقولة ما هي إلا مقولة خاطئة، بل إن هذه المقولة التي ورثناها من الغرب الذي يتشدق بالفضيلة وحقوق المرأة ما هي إلّا مقولة مهينة للمرأة، فالمرأة ليست جارية للرجل يستعبدها لتصنع منه عظيمًا في الوقت الذي تذهب هي فيه إلى عتمات التاريخ المظلم، فالمقولة التي أراها صحيحة من الناحية التاريخية هي "وراء كل أمة عظيمة امرأة! "، وأنا هنا لا أجامل النساء على حساب الرجال، وإنما أؤكد على استنتاجٍ توصلت إليه من خلال دراسةٍ لا بأس بها لأحداث التاريخ, فلولا وجود امرأة عظيمة مثل خديجة لما قامت أمة الإِسلام! فالمرأة في الإِسلام هي كل المجتمع وليس نصفه كما يزعم البعض، ومكانة المرأة في الإِسلام تفوق بكثير مكانة مثيلاتها في دول العالم المتقدم، وقد عرفت شخصيًا مدى النعمة التي تنعم بها المرأة المسلمة بعد أن رأيت بأم عيني ما تعانيه المرأة الأوروبية من ظلمٍ واستعباد! فالمرأة في بعض الدول الأوروبية تضطر لنزع ملابسها قطعة قطعة لكي تحصل على بعض "اليورووات" لطعامها مقابل أن تظهر في إعلانٍ تبدو فيه شبه عارية بجانب سيارةٍ يشتريها الرجال! هناك تضطر الفتاة لخلع ملابسها لكي تظهر عارية في مجلة يستمتع بها الرجال لكي تأخذ هي من صاحب المجلة ما تدفع به إيجار شقتها وما تسد به رمقها! وكم أحسست بالاشمئزاز عندما رأيت نساءً يعرضن أنفسهن شبه عرايا من وراء زجاج المحلات في إحدى المدن الأوروبية "الكبرى" وكأننا ما زلنا نعيش في

سوق نخاسة من أسواق القرون الوسطى! فإذا كنت طفلةً مسلمة، وإذا كنت فتاة مسلمة، وإذا كنت سيدة مسلمة، فارفعي رأسك عاليًا وناطحي بها شمس الأصيل وأفق السماء، فأنت ابنة خديجة التي أرسل اللَّه لها السلام من فوق سبع سماوات برسالة أوصلها إليها كبير الملائكة جبريل عليه السلام! واعلمي أن دورك في هذه الأمة يفوق دور الرجال فيها، فأنت البطلة وأم البطل وزوجة البطل وأخت البطل ومعلمة البطل، واعلمي أن زوجك من دونك لا يساوي شيئًا حتى وإن كان لا يظهر لك ذلك! واعلمي أن أولادك سيضيعون من دونك، واعلمي أن دورك قد حان لكي تصنعي بيديك قائدًا يحمل على عاتقه همّ قيام هذه الأمة من جديد، وكوني بطلة يذكرها التاريخ بعد موتها كما كانت أمك خديجة من قبل، فاللَّه اللَّه يا نساء الإِسلام، إن هذا الدين يستصرخكن في هذه اللحظة الحرجة في تاريخ أمة محمَّد، فواللَّه إن هذه الأمة لن تقوم على أيدي نساءٍ تافهات مشغولاتٍ بالطبائخ والمعجنات، وواللَّه إن هذه الأمة لن تقوم إلا على أيدي نساء يحملن هذا الدين في قلوبهن كما حملته خديجة في كل ذرة من كيانها، واعلمن أن صلاح الدين لن يخرج من رحم امرأة تافهة تقضي وقتها بمشاهدة المسلسلات، ومعاوية بن أبي سفيان أعظم ملك في تاريخ المسلمين لم يكن ليفتح شبرًا من الأرض للمسلمين لو أن أمه هند بنت عتبة لم تزرع فيه روح العظمة منذ نعومة أظافره، ومحمدٌ بن عبد اللَّه ما كان ليستطيع إكمال دربه لولا أن سخر اللَّه له امرأة مثل خديجة عليها السلام، ولتكن خديجة بنت خويلد قدوتكن القادمة، لا لكي تتعلمن منها فن الطبخ، بل لتتعلمن منها فن بناء الأمم! ومن أم المؤمنين خديجة، إلى أم أخرى للمؤمنين. . . . إلى أمك التي تُشن عليها الآن أقذر عملية طعن وتشويه تتعرض لها إنسانة في التاريخ فما الذي سوف تصنعه إذا ما علمت أن هناك من يتهم أمك بأنها زانية؟! يتبع. . . . . .

50 - أمي. . . . وأمك (عائشة أم المؤمنين)

" أمي. . . . وأمك" (عائشة أم المؤمنين) {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ} (اللَّه) لن نتحدث كثيرًا عن فضل هذه الإنسانة العظيمة في أمة الإِسلام، فيكفينا أن نورد حديثًا أخرجه الإِمام البخاري في موضعين من صحيحه للصحابي الجليل عمرو بن العاص أنه أقبل يومًا إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وجلس إليه ثم قال يا رسول اللَّه، أي الناس أحب إليك؟ فقال عليه الصلاة والسلام عائشة. فقال عمرو: ومن الرجال يا رسول اللَّه؟ فقال عليه الصلاة والسلام أبوها"! ففضل السيدة عائشة لا يختلف عليه مسلمان أبدًا، فهي زوج رسول اللَّه التي اختارها اللَّه له، فعائشة هي زوجة نبي الإِسلام، وهي من بين الخمسة الأوائل من رواة السنة النبوية التي تعتبر المصدر الثاني للتشريع الإِسلامي بعد كتاب اللَّه، فإذا قبلنا الطعن بعائشة، فيجب علينا إذًا أن نقبل الطعن بزوجها من باب أولى! ويجب علينا أن نرد 2210 حديثا روتهم تلك الصحابية العالمة عنه! فأي دين سيتبقى لنا بعد ذلك؟! وأي إسلام نتحدث عنه حينها؟ وأي أمة هذه التي تنتمي إليها؟!! لذلك سيكون معرض كلامي في الصفحات القليلة القادمة مُنصبًا بالأساس أولًا وأخيرًا على الدفاع عن عائشة وذلك لخمسة أسباب أحسب أنها أسبابٌ مهمة: (أولها) هو الدفاع عن اللَّه عَزَّ وَجَلَّ الذي اختار عائشة زوجًا لنبيه من فوق سبع سماوات والذي طهرها في كتابه، و (ثانيها) هو الدفاع عن شرف زوجها وعرضه، و (ثالثها) هو الدفاع عن جيل الصحابة بكامله الذي يتمثل بشخص عائشة، و (رابعها) هو الدفاع عن تاريخ هذه الأمة نفسه والذي يتعرض لحملة بشعة من غزاة التاريخ وعملائهم من الشيعة، أما (السبب الخامس) فهو سبب شخصي بحت. . . فأنا بدفاعي عن عائشة. . . أدافع عن أمي! فالإنسان بفطرته غيورٌ على أمه، وهذه هي فطرة الإنسان التي خلقه اللَّه عليها والتي

لا يُستثنى منها إلا عديمو النخوة والمروؤة، وهذه السطور أقصد من خلالها في الدرجة الأولى إيقاظ من كان نائمًا! وليسأل كل واحدٍ منّا نفسه: ماذا ستفعل لو أن أحدًا جاء وسبّ أمّك أمامك؟ ما الذي ستفعله إذا جاءك رجل لا تعرفه فيسبّ أمك ورفع صوته أمام كل الناس وقال لك إن أمّك ما هي إلا امرأة زانية؟ إذا كنت ستدعه وشأنه لتقول: "إن المسامح كريم" فمعنى هذا أنك تعاني فعلًا من نقصٍ في المروؤة إن لم يكن نقص الإنسانية! أما أنا فقد استعنت باللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وعزمت على الدفاع عن أمي "عائشة" بكل استماتة، فعائشة هي أمي كما هي أمك بدليل قول اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ}، أما إذا كنت تعتبر نفسك غير مؤمن، فأنت لست في حاجة حينها للدفاع عنها، فهي أم المؤمنين فقط الذين نسأل اللَّه أن نكون منهم. فلقد آن الأوان لأولئك الذين هبّوا لنصرة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أن يهبوا مرة أخرى لنصرة عرضه وشرفه، فأمنا عائشة -رضي اللَّه عنها- تتعرض في السنوات الأخيرة لحملة شيعية شرسة تطعن في شرفها، فلقد تحولت القنوات الشيعية ومجالس حسينياتهم إلى منابر تنال من عرض النبي العظيم محمَّد -صلى اللَّه عليه وسلم- وهم الذين يزعمون حب النبي وأهل بيته! فإن لم تكن زوجة الرجل من أهل بيته فمن هم أهل بيت الرجل إذًا؟! أما نحن العرب فنعتبر نساءنا من أهالي بيوتنا، وأما إذا كان الفرس المجوس يعتبرون نساءهم خارج نطاق التغطية. . . . . فذاك أمرٌ آخر! والآن لنستمع إلى ما يقوله علماء الشيعة عن أمك عائشة -رضي اللَّه عنها- في أمهات كتبهم: (الخميني: الطهارة ج 3 ص 337): "عائشة والزبير وطلحة ومعاوية أخبث من الكلاب والخنازير". (تفسير القمي لعلي إبراهيم القمي ج 2 ص 377): "وليقيمن الحد على عائشة فيما أتت بالطريق -يقصد الزنا- ولذا فقد ورد أن إمامنا المهدي المفدّى (صلوات اللَّه علي) عندما يظهر فإنه سيُخرج عائشة من قبرها ويُحْييها ليقيم عليها الحد، فالظاهر عندي أن عائشة كانت تعيش عقدة نفسية جنسية". (ابن رجب البرسي: مشارف أنوار اليقين 86): "إن عائشة جمعت أربعين دينارًا من خيانة". (المجلسي: حياة القلوب للمجلسي ج 2/ 700): "إن العياشي روى بسند معتبر عن

الصادق: أن عائشة وحفصة لعنة اللَّه عليهما وعلى أبويهما قتلتا رسول اللَّه بالسم". (شيخ الطائفة الشيعية الطوسي: كتاب الاقتصاد فيما يتعلق بالاعتقاد): "اللهم العين الشريرة الملعونة المفسدة الطاغية الباغية الكافرة الخارجة الكاذبة". (الطبرسي: كتاب الاحتجاج ص 82): "زيَّنت عائشة يومًا جارية كانت لها، وقالت: لعلنا نصطاد شابا من شباب قريش! ". أما العلماء الشيعة الحاليون فلهم تسجيلات بالصوت والصورة تقشعر لها الأبدان منتشرة على شبكة الانترنت يترفع القلم قبل صاحبه من ذكرها، فكلها عبارات جنسية قذرة في حق زوجة أطهر إنسان خلقه اللَّه في الأرض، في حق أمك عائشة زوجة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- والآن فلنستمع إلى أقوال علماء المسلمين في حكم علماء الشيعة السفلة الذين يطعنون في عائشة: (الإِمام النووي): "براءة عائشة -رضي اللَّه عنها- من الإفك هي براءة قطعية بنص القرآن العزيز، فلو تشكك فيها إنسان والعياذ باللَّه صار كافرًا مرتدًا بإجماع المسلمين". (الإِمام مالك): "أولئك اقوامٌ ارادوا الطعن برسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فما استطاعوا فطعنوا بأصحابه ليقولوا رجل سوء كان له أصحاب سوء، فمن طعن بأم المؤمنين عائشة فقد خالف القرآن، ومن خالف القرآن ارتد". (ابن حزم الأندلسي): "قول مالك هنا صحيح وهي ردة تامة وتكذيب للَّه تعالى في قطعه ببراءتها". (الحافظ ابن كثير): "أجمع العلماء رحمهم اللَّه قاطبة على أنَّ من سبَّها بعد هذا ورماها بما رماها به بعد هذا الذي ذكر في هذه الآية، فإنَّه كافر؛ لأنَّه معاند للقرآن". (الإِمام السيوطي): "قذف عائشة كفر لأن اللَّه سبَّح نفسه عند ذكره فقال سبحانك هذا بهتان عظيم". والآن. . . وبعد أن علمت أن هناك من يسبون أّمّك ويتهمونها بأنها زانية، ويلعنونها ليل نهار في قنواتهم، هل ستقف مكتوف الأيدي حيال ما تتعرض له من هجوم شرس، أم أنك ستدافع عن أمك؟ أما أنا فقد اخترت إعلان الحرب بقلمي هذا على أولئك السفلة،

الخصائص السبعة للشيعة

كائنًا في ذلك ما هو كائن، فوالذي خلق عائشة وزوَّجها لرسوله وطهرها من فوق سبع سماوات إن شرف أمي عائشة أعظم عندي من شرف أمي التي أنجبتني! لذلك اخترت أسلوب الهجوم الساحق على أولئك الأوغاد السفلة الذين يقدحون بزوج محمَّد -صلى اللَّه عليه وسلم- أشرف خلق اللَّه في الكون! ولمّا كان اجتثاث الورم الخبيث يتطلب أولًا تحديده، صارت دراسة خصائص الشيعة شيئًا مهمًا لفهم تصرفات الشيعة، لذلك قمت بتوفيقٍ من اللَّه أولًا ثم بمعونة من أبحاث كثيرٍ من علماء هذه الأمة، بعمل دراسةٍ اجتماعية أحاول من خلالها تحديد الخصائص الاجتماعية التي تحدد هوية أولئك القوم الذين يطعنون بعرض الرسول وصحابته: " الخصائص السبعة للشيعة" ملاحظة: يُستثنى من هذه الدراسة العلمية كل أخ شيعي شريف لا يؤمن بتحريف القرآن، ولا يسب أصحاب الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولا يطعن بشرف زوجته الطاهرة عائشة، حتى ولو كان هذا الأخ الشيعي ممن يفضل الإِمام علي -رضي اللَّه عنه- عن أبي بكر وعمر، وأما من كان غير ذلك، فهو يعلم أكثر من غيره أن هذه الخصائص تصفه بشكلٍ دقيق! الخاصية الأولى: الخيانة! وهي أهم خاصية من خصائص الشيعة الروافض على الإطلاق، فالخيانة مزروعة في كيان الشيعة زرعًا حتى أصبحت شيئًا مقدسًا لا يمكن للشيعة تركه أبدًا ولو حتى حاولوا ذلك، فلقد خان الشيعة الإِمام علي كما قرأنا من كتاب "نهج البلاغة" أهم مصدر من مصادر الشيعة، ثم خان الشيعة إمامهم الثاني الحسن بن علي وسرقوه حتى بساطه الذي تحت قدميه، ثم خان الشيعة إمامهم الثالث الحسين قبل أن يقتلوه كما رأينا من شهادة ابنه العلي بن الحسين، وخان الشيعة الخلافة الأموية، وخان الشيعة الخلافة العباسية، وحتى عندما حاول الخليفة العباسي هارون الرشيد أن يمنحهم بعض الاحترام بتعيين أحد الشيعة وزيرًا له، فقام ذلك الوزير الشيعي ويدعى (علي بن يقطين) بخيانة المسلمين كعادة قومه. وكان أول شيء فعله الخليفة العباسي الناصر لدين اللَّه عند اعتناقه للمذهب الشيعي هو أن راسل التتار لكي يطمعهم ببلاد المسلمين كما أوضح

الخاصية الثانية: الانحراف الجنسي الرهيب!

ذلك المؤرخ ابن كثير، ثم قام الخائن الأعظم مؤيد الدين بن العلقمي وزير الخليفة العباسي المستعصم بفتح أبواب بغداد للتتار بعد أن رتب مع هولاكو بمعاونة شيخ الطائفة الشيعية نصير الدين الطوسي قتل الخليفة المسلم واحتلال بغداد، على أمل ان يسلمه هولاكو امارة المدينة لكي ينبش قبور عائشة وأبي بكرٍ وعمر، وخانت الدولة الشيعية العبيدية (الفاطمية) المسلمين بشكلٍ قذرٍ للغاية، فتعاونوا مع الصليبيين ضد صلاح الدين، وتعانوا في الأندلس مع الصليبي صامويل بن حفصون ضد الخليفة عبد الرحمن الناصر باللَّه، وقتل الفاطميون ثلث الشعب المصري السني، وسرق الشيعة القرامطة الحجر الأسود من الكعبة وأخذوه لبلادهم وفي سنة 294 هـ قتلوا الحجيج على أسوار الكعبة ونهبوهم، ثم قام الملك الشيعي إسماعيل الصفوي بالتعاون مع القائد الصليبي البرتغالي ألفونسو البوكرك لنبش قبر رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وكاد أن يحدث ذلك فعلًا لولا أن بعث اللَّه للمسلمين صقرًا من صقور الأناضول يدعى سليم الثاني، ثم تحالف الصفويون مع المجر ضد المسلمين العثمانيين، ثم أتى الخميني ليعلن أن أمريكا هي الشيطان الأكبر لإيران، لتتفجر سنة 1985 م عن طريق الصدفة فضيحة إيران كونترا (Iran-contra affair) التي اتضح من خلالها أن أمريكا تزود إيران بصواريخ متطورة عن طريق إسرائيل وذلك لكي تضرب بها المسلمين بالعراق، ثم في نهايات الثمانينات من القرن الماضي قتلت حركة أمل الشيعية اللبنانية أهل السنة والجماعة من الفلسطينيين في مجازر صبرا وشاتيلا بعد حصار دام أكثر من 3 سنوات، ثم قام الشيعة سنة 2003 م باستحضار الغزاة للعراق لتقوم هناك المجازر البشعة ضد المسلمين، وفي عام 2007 م اكتشف العالم سجونًا تحت الأرض يقوم فيها الشيعة بتعذيب المسلمين بثقب رؤوسهم بالمثاقيب الكهربائية. وغير ذلك الكثير من الخيانات القذرة لأولئك القوم الخونة. الخاصية الثانية: الانحراف الجنسي الرهيب! الحقيقة أنني كنت سأصنف هذه الخاصية في المرتبة الأولى، غير أني رأيت من خيانات الشيعة ما يفوق انحرافهم الجنسي بقليل، إلا أنه لا شك أن الانحراف الجنسي للشيعة يعتبر ميزة مهمة يتميز رجال الشيعة ونسائهم على حدٍ سواء، ولعل اللَّه أراد أن

الخاصية الثالثة: الحقد الدفين على العرب!

ينتقم لنبيه بعد موته من أولئك القوم الذين يسبون شرف زوجته عائشة أحب الخلق إليه، فلقد شاعت المتعة عند الشيعة بشكلٍ مخيف، حتى أن إمامهم المفيد أورد في كتابه (خلاصة الإيجاز للمفيد صفحة 56) أنه ليس على الرجل حرج إذا تمتع بامرأة عاهرة أو بامرأة متزوجة طالما أنها ذكرت له أنها عزباء! ولقد أخبرني صديقٌ كردي زار إيران مؤخرًا أن حدائق أصفهان أصبحت بيوت دعارة علنية، ولعل طعن الشيعة بشرف حبيب اللَّه محمَّد -صلى اللَّه عليه وسلم- سلط عليهم شر أعمالهم، فالجزاء من نوع العمل! لذلك انتشرت الخيانة الزوجية بين صفوف الشيعة بشكلٍ فاضح، وشاعت أنواع قذرة من الجنس الحيواني بين صفوفهم تشبه إلى حد بعيد تلك الانحرافات الجنسية التي سادت بين الفرس المجوس أيام كسرى أنوشووان. الخاصية الثالثة: الحقد الدفين على العرب! بما أن محمدًا -صلى اللَّه عليه وسلم- الذي أطفأ نار المجوس كان رجلًا عربيًا، وبما أن عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- الذي أزال الإمبراطورية الفارسية من الوجود كان رجلًا عربيًا، وبما أن القبائل العربية الأصيلة طاردت كسرى يزدجرد وجعلته طريدًا كالكلب التائه في جبال آسيا وقفارها المجهولة، لذلك كله تحول العرب إلى العدو رقم واحد للشيعة عبر التاريخ, ويظهر ذلك بوضوح من خلال الدعاء الذي يردده الشيعة في حسينياتهم: "لعن اللَّه أمة قتلتك! " فالعرب كأمة كاملة -بدون استثناء- مستهدفون من الشيعة، ولا يخفي علماء الشيعة سرًا بأن أول شيء سيفعله المهدي المزعوم عند خروجه من السرداب هو أنه سيسفك دماء 100 قبيلة عربية! وحقد الشيعة على العرب يظهر جليًا من خلال تقديسهم لأبناء الحسين من زوجته الفارسية (شاه زنان بنت يزدجرد) مستثنين بذلك أبناءه من زوجاته العربيات، ناهيك عن أبناء أخيه الأكبر الحسن، ولقد لاحظت من خلال احتكاكي بشباب الشيعة أنهم يسمون العرب بالأعراب والبدو ورعاة الإبل ورعاة البعير والعربان، ونسي أولئك المجوس أن العرب البدو هم الذين دمرّا إمبراطورية فارس وأزالوها من خارطة الوجود، ومؤخرًا رفضت إيران تسمية الخليج العربي وأصرت على تسميته بالفارسي، ورفضت اقتراحًا بتسميته بالخليج الإِسلامي!

الخاصية الرابعة: غلبة العاطفة على العقل!

الخاصية الرابعة: غلبة العاطفة على العقل! يستخدم علماء الشيعة عنصر العاطفة بشكل خبيث للغاية يمنع على أتباعهم المساكين تحريك العقل مستخدمين بذلك خدعة قديمة استخدمها إخوة يوسف عندما "جاءوا أباهُم عِشاءً يَبْكون" فالكاذب عادة يستخدم الدموع لإثبات حجته، وللشيعة أكثر من ثلاثين مناسبة في السنة ينوحون في بعضها ويرقصون في بعضها الآخر، وبذلك يضمن علماء الشيعة أن عامة الشيعة لن يحركوا عقولهم أبدًا، فلو حرك. هؤلاء عقولهم لدقائق معدودات فقط لاكتشف عامة الشيعة أن علماءهم يخدعونهم من أجل الخمس! الخاصية الخامسة: التقية! التقية هي كلمة مرادفة للكذب عند الشيعة، وللشيعة مقولة مشهورة منسوبة إلى أبي عبد اللَّه أنه قال: (إن تسعة أعشار الدين في التقية، ولا دين لمن لا تقية له) فالكذب من أهم صفات الشيعة، ولذلك تجد أغلب الشيعة يتكلمون عن الأخوَّة الإِسلامية ونبذ الطائفية، مع العلم أنهم هم أساس الفتن والخيانات في التاريخ. الخاصية السادسة: انتشار الأساطير والخرافات! وللإنصاف فإن هذه خاصية لا تخص الشيعة فقط، بل تخص جميع الأديان والمعتقدات المنحرفة (بما فيها بعض الجماعات من المنتسبين للسنة!)، إلا أن الشيعة يتميزون عن باقي أديان الأرض أن دينهم بأسره قائم على الخرافة، فأهم اعتقاد لدى الشيعة هو اعتقادهم بالمهدي المنتظر (عج)، فالشيعة يؤمنون بأن هناك طفلًا من أئمتهم من أم نصرانية اسمها (نرجس) كان قد اختبأ عام 260 هـ في السرداب بعد أن علم أن شرطيًا من شرطة العباسيين يريد اعتقاله، وأطلق الشيعة على ذلك الطفل الذي يُدعى محمَّد العسكري اسم المهدي، والغريب أن ذلك المهدي ظل مختبئًا في السرداب حتى بعد أكثر من ألف سنة من موت الخليفة العباسي! ويؤمن الشيعة أن العصفور كان طائرًا بحجم النعامة اسمه فور تحول إلى عصفور بعد أن رفض الإمامة، ليتحول اسمه إلى (عصى فور) أو (عصفور) لمعصيته للأئمة! ويؤمن الشيعة أن البطيخة الحمراء موالية لأهل البيت والبطيخة الغير حمراء رافضة لولاية أبناء الحسين من شاه زنان بنت كسرى، والكثير الكثير من الخرافات السخيفة التي لا يتسع المقام لذكرها في هذا الكتاب.

الخاصية السابعة: التعطش المخيف للدماء

الخاصية السابعة: التعطش المخيف للدماء: يعتقد البعض أن جلد الشيعة لظهورهم بالجنازير وضرب رؤوسهم بالسيوف وإسالة الدماء من جباه أطفالهم هو مجرد شعائر دينية تعبر عن ندم الشيعة لخيانتهم للحسين، والحقيقة أن الموضوع أخطر من ذلك بكثير، فعلماء النفس يقولون أن الإنسان الذي يسيل الدماء من جسده تهون عليه إسالة دماء الآخرين بعد ذلك من دون أن يكترث لذلك، ثم إن الكلب الذي يتعود على رائحة الدماء يتحول إلى كلب مسعور ينهش بمن حوله، وربما يفسر هذا مدى الإجرام الفظيع الذي رأيناه بالعراق في السنوات الأخيرة، ولقد وصف هذه الظاهرة الخطيرة الشاعر الأعظم زهير بن أبي سلمى فأحسن وصف تلك الأجيال التي تتعود على الدماء فقال: فتنتج لكم غلمان أشأم كلهم * * كأحمر عادٍ ثم ترضع فتفطم. ولكن. . . . من أين جاء الشيعة بعقيدة الطعن بشرف الأنبياء؟ ومن هي المرأة الطاهرة التي طُعن بشرفها في أرض فلسطين قبل عائشة بمئات السنين؟ وما هي أوجه الشبه التي تربط بينها وبين عائشة؟ ولماذا اعتبرها رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- من بين أعظم نساء الأرض في التاريخ؟ فمن هي تلك العظيمة الإِسلامية التي ورد اسمها في القرآن الكريم في أربعةٍ وثلاثين موضعًا؟ يتبع. . . . .

51 - (مريم)

{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ} (مريم) {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ} (اللَّه) الإِسلام دين يحمل في جنباته كل مقومات العظمة والسؤدد، لا يلتزم به أحد من البشر إلا وشعر بقوةٍ عجيبة تجري في دمائه كجريان النهر في وديان الصحراء، لتجعل منه إنسانًا عظيمًا تظهر عظمته في بريق عينيه المتلألئة! فليس هناك في الإِسلام ما يدعو للخجل أبدًا، فالإِسلام دين السلام، وتحيتنا هي السلام، ودارنا في الآخرة هي دار السلام، وصلاتنا تنتهي بالسلام، ونبينا هو نبي السلام، وهو الذي كرّم موسى عليه السلام الذي ينتسب إليه اليهود، وهو الذي كرَّم عيسى عليه السلام الذي ينتسب إليه النصارى، وهو الذي كرَّم علي بن أبي طالب -رضي اللَّه عنه- الذي ينتسب إليه من يطعنون بشرف ابن عمه في الغداة والعشي، وهو الذي كرّم بني الإنسان وعظم إنسانيتهم بغض النظر عن ألوانهم وأعراقهم، وواللَّه إننا لو أحسنا الدعوة لهذا الدين لملكنا به قلوب الناس جميعًا حتى ولو لم يعتنق هؤلاء الإِسلام! ومريم ابنة عمران هي الإنسانة التي لم يخلق اللَّه إنسانة مثلها من لدن حواء إلى قيام الساعة! نحن نتحدث عن العذراء البتول، وعن الطاهرة المطهرة، وعن التقية النقية، وعن العابدة القانتة، نحن نتحدث عن الإنسانة التي كرّمها الإِسلام، فجعلها المرأة الوحيدة التي توجد سورة كاملة باسمها، والتي ورد اسمها في القرآن بأكثر من ثمانية أضعاف ما ورد فيه اسم نبي الإِسلام نفسه! ولن نبدأ الحديث عن مريم من مولد المسيح المعجز، ولن نبدأ من جذع النخلة التي هزته هذا المرأة البطلة، فكما اعتدنا في هذا الكتاب. . . نحن هنا لا نبحث عن الأبطال، بل نبحث عن سر صناعة الأبطال، وذلك لكي نصنع من أنفسنا وأبنائنا وبناتنا أبطالًا يعيدون إحياء هذه الأمة. . . . وصناعة البطلة مريم بدأت مع عصفورة صغيرة على شجرة من أشجار أرض

فلسطين المباركة، هناك على غصون تلك الزيتونة كانت تلك العصفورة تطعم فرخًا صغيرًا لها، فصادف ذلك وجود سيدة كريمة من بني إسرائيل اسمها (حِنّة بنت فاقود) كانت زوجة لعالم جليل من بني إسرائيل اسمه (عمران) وهو رجلٌ من ذرية داود وسليمان عليهما السلام، المهم أن حِنة هذه لم يكن لها ولد، فلمّا رأت تلك العصفورة تطعم فرخها الصغير اشتهت الولد، فاستيقظت في داخلها عاطفة الأمومة، فدعت اللَّه أن يرزقها بالولد، فاستجاب اللَّه لدعائها، فلمّا أحست بالجنين يتحرك في داخلها أرادت أن تشكر اللَّه عَزَّ وَجَلَّ، فنذرت ما في بطنها لخدمة بيت المقدس، فلما جاء المولود أنثى أسماها الزوجان باسم (مريم) وهو اسمٌ يعني (العابدة) باللغة العبرية، ولكن عمران وزوجته احتارا في أمر مريم، فلقد كان الذكور فقط هم من يُسمح لهم بالخدمة في القدس، ولكنهما على الرغم من ذلك ذهبا بها إلى القدس لكي يربياها تربية تصنع منها عظيمة من عظيمات التاريخ, وهنا يأتي دور الوالدين المهم والأساسي في صناعة العظماء، فما إن وصلا للقدس حتى تدافع علماء بني إسرائيل نحو تلك الرضيعة كلهم يريد أن ينال شرف تربية ابنة عالمهم الشهير عمران، فاختلفوا فيما بينهم أيهم يكفلها، فاتفقوا على أن يقترعوا فيما بينهم بقرعة عجيبة، وذلك بأن يرمي كل عالم منهم بقلمه في نهر الأردن، فيكون صاحب القلم الذي يسبح عكس التيار هو صاحب شرف تربية مريم، فجرف التيار كل الأقلام إلا قلمًا واحدًا وجدوه يجري عكس التيار، فلما أحضروا ذلك القلم وجدوه قلم رجلٍ صالحٍ يعني اسمه بالعبرية (مذكور اللَّه) وهو نبي اللَّه (زكريا)! فرباها زكريا عليه السلام خير تربية، فنشأت مريم الطاهرة كوردة بيضاء في بستان طاهر، حتى أصبحت تلك العذراء العظيمة التي يعتبرها المسلمون سيدة من نساء أهل الجنة، بينما يعتبرها اليهود امرأة زانية زنت مع رجل اسمه (يوسف النجار) لتحمل بعيسى الذي لا يعترفون بنبوته (وربما كانت الأصول اليهودية لمؤسس المذهب الشيعي عبد اللَّه بن سبأ سببًا في طعن الشيعة بزوجات الرسول وزوجة إمامهم الحسن بن علي. . . . العربية!)، وبسبب هذه التربية الصالحة أصبحت السيدة مريم العذراء مثالًا للعفة والطهارة لكل نساء العالمين، وليختارها اللَّه بعد ذلك لكي تحمل كلمته التي ألقاها عليها جبريل، لتكون بذلك صاحبة أطهر بطن، وأصفى حمل، وأسعد ميلاد. ولم يكتف اليهود بالطعن

في شرف هذه السيدة الطاهرة، بل قاموا أيضًا باضطهادها وتعذيبها، حتى خرجت بوليدها الصغير هربًا إلى أرض مصر، قبل أن تعود إلى فلسطين بعد ذلك بسنوات! وفي مصر بالتحديد. . . . وُلدت سيدة أخرى من بني إسرائيل قبل ميلاد مريم بأكثر من 1230 عام ليغير اللَّه بهذه السيدة البطلة حال أمة بأسرها؟ يتبع. . . . .

52 - (أم موسى)

{وَأَوْحَيْنَا إِلَى} (أم موسى) {لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا} (اللَّه) كنت أتعجب فيما مضى عن سر تفصيل القرآن لقصة سيدنا موسى بالذات، فلقد ورد ذكر اسم موسى في القرآن 136 مرة في 34 سورة، ذكر اللَّه فيها جميع مراحل حياته، ابتداء من قصة ميلاده، وحتى انتصاره على عدو اللَّه فرعون وحكاياته المريرة مع معاندي بني إسرائيل. فدار في خاطري وأنا أقرأ دعاء موسى في سورة طه: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27)}، أن اللَّه ربما اختار موسى ليتكلم عنه بهذه الكثرة، بل وليكلمه بذاته العلية، ليثبت للبشر حقيقة إلهية خالدة، ألا وهي أن العظمة الإنسانية تكمن في أفعال الإنسان وليس كما يظنها البعض بفصاحة اللسان وحلاوة الكلام ووضوح المنطق! فموسى كان صعب اللسان، قليل الفصاحة، فكلمه رب الفصاحة بعظمة جلاله! فربما كان هذا سببًا من أسباب ذلك التفصيل لقصة موسى! ولكن الشيء الذي أنا متأكدٌ منه هو أن قصة موسى بالذات هي قصة بناء الأمم بامتياز، فأراد اللَّه تفصيلها للمسلمين لكي ينهلوا منها سُبل النهوض بأمتهم في أي وقت أرادوه، حتى ولو طال زمان الانحدار بهم، فقصة موسى وفرعون هي قصة نصر اللَّه لعباده المستضعفين في كل الأزمنة، وهي سنة اللَّه التي جرت في الخلق منذ الأزل، والتي تتلخص بأن اللَّه تعالى سوف يأخذ بيد المستضعفين ليرفعهم على المستكبرين ويورثهم أرضهم وديارهم ولو طال زمن الظلم والعدوان، لذلك أمر اللَّه رسول اللَّه في بداية روايتها بأن يقصها على المؤمنين لكي يتعظوا منها فقال تعالى: {نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3)} ولنستمع الآن إلى 7 آيات من سورة القصص أعتبرها ملخص قصة القيام الإِسلامي بعد سنوات الهزيمة والانحدار، يقول اللَّه: {طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ

طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5)}. وبدأ التنفيذ. . . . يقول اللَّه مباشرة بعد أن تلك الآيات: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى. . .}. فلقد كانت أم موسى هي أساس قيام الأمة بعد سنوات الهزيمة والانحدار، ولقد كان بناء أمة بأسرها يبدأ بامرأة واحدة، بل كانت هزيمة أكبر قوة إجرامية على على مر التاريخ الإنساني تبدأ بتلك المرأة، هزيمة أعظم جبارٍ عرفه الإنسان بدأت بامرأة فقيرة تسكن في بيت صغيرِ على ضفاف النيل، وهنا يأتي دور المرأة المسلمة في صناعة النصر، فالمرأة هي التي أراد اللَّه من خلالها أن يمن على الذين استضعفوا في الأرض ويجعلهم أئمة، فواللَّه لن تقوم أمة من هزيمتها وهي تحتقر نساءها! فزوجتك التي عودتها على الذل والهوان لن تنجب لك إلا ذليلًا! وأختك التي تضربها في الغداة والعشي لن تربّي إلا إمعة! وأمك التي لا تحترمها لن تدعو لك إلا بالهزيمة والخذلان! وابنتك التي تمنعها من العلم لن تكون إلا تافهة تضاف إلى التافهات في هذه الأمة! فاللَّه اللَّه في النساء، فهن أساس البناء الصحيح، وهن أساس القيام! وقصة أم موسى بدأت قبل ذلك بكثير، وبالتحديد قبل 300 عام أو يزيد، في ذلك الوقت بيع طفل بثمن بخس في أرض مصر بعد أن وجدته سيّارة في بئرٍ من آبار فلسطين، هذا الطفل كان يُقال له (يوسف)! ليصبح يوسف بذلك عبدًا عند ملك من ملوك (الهكسوس) الذين كانوا يحتلون مصر في حينها، ثم أصبح بعدها وزيرًا مقربا للملك، ليأتي بأهله جميعًا إلى مصر ليعيشوا في رعاية الملك في سلامٍ وأمان. ولكن المشكلة تبدأ بعد ذلك بسنوات عندما جاء الفرعون (أحمس الأول) ليُنهي دولة الهكسوس، وليعتبر أحفاد يوسف وإخوته خونة تعاونوا مع الاحتلال الهكسوسي لمصر، فكان ذلك هو سبب استعباد الفراعنة لبني إسرائيل، فلقد كان يوسف هذا هو يوسف بن يعقوب أو يوسف بن إسرائيل عليه وعلى أبيه وعلى جده وعلى أبي جده السلام، وكان ذرية يوسف وإخوته الأحد عشر هم أسباط بني إسرائيل الاثنى عشر!

المهم أن بني إسرائيل رضوا بحياة الذل والإهانة في مصر لمدة 300 عام، وهذه الأعوام الـ 300 هي التي كونت الشخصية المميزة لأولئك القوم، فقد تعوّدوا خلالها على حياة الذل والاستعباد، حتى جاء فرعون من الفراعنة يسمى (رمسيس الثاني)، هذا الفرعون كان سفاحًا مجرمًا، فلقد رأى ذلك الفرعون في منامه أنه سيولد في بني إسرائيل مولودٌ سيدمر حكمه ويزيل سلطانه، فقام هذا المجرم بقتل كل مواليد بني إسرائيل من الذكور، وبعد أن نقص عدد العبيد في قصره نتيجة لتقلص أعداد الإسرائيليين أمر فرعون بقتل الأولاد في سنة وإبقائهم في سنة، فوُلد لامرأة من بني إسرائيل (يقال لها في كتب التاريخ اليهودية اسم يُكابد) مولودٌ ذكر اسمه (هارون) في السنة التي ليس لها قتل، ثم وُلد لها في سنة القتل مولودٌ ذكر، فخافت عليه خوفًا شديدًا، فأوحى اللَّه إليها عن طريق الإلهام أمرًا عجيبًا، فقد أوحى اللَّه إليها أن تضعه في تابوت، فتقُذفه في نهر النيل، فما كان من هذه السيدة العظيمة إلا أن استجابت لأمر اللَّه من دون أي تردد، ولكنها بعثت بابنتها لتترقب ذلك الصندوق المبحر في مياه النيل! فما الذي رأته أخت موسى؟ وماذا حصل بعد ذلك في هذه القصة العجيبة؟ ومن هي تلك المرأة المسلمة التي اعتبرها رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- من أعظم نساء العالمين؟ من هي تلك البطلة العملاقة التي أعتبرها شخصيًا أقوى امرأةٍ في تاريخ الإنسانية؟! يتبع. . . . .

53 - (آسية بنت مزاحم)

{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ} (آسية بنت مزاحم) " كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون ومريم بنت عمران وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام" (رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-) واللَّه إن القلب ليرتجف وأنا أهم بالكتابة عن هذه الملكة العظيمة، فنحن الآن على موعدٍ مع الصديقة الولية، والراضية المرضية، والمؤمنة التقية، الراسخة الثابتة الأبية، الزاهدة الصفية، الشهيدة الهنية، نحن الآن على موعدٍ مع البطلة التي انتصرت بإيمانها على أقوى جبّارٍ عرفته الأرض في التاريخ من لدن آدم إلى أن يرث اللَّه الأرض ومن عليها، نحن الآن على موعد مع أقوى إنسانة خلقها اللَّه في الدنيا، نحن الآن على موعد مع إنسانة عجزت كلمات الشعراء على تخليد سيرتها، فخلدها رب الشعراء في كتابه بكلماته، نحن الآن على موعد مع زينة الملكات، وسيدة السيدات، ورمز الأبيات، نحن الآن مع موعدٍ مع الأم الرحيمة والبطلة العظيمة آسية بنت مزاحم امرأة عدو اللَّه فرعون! وآسية رحمها اللَّه لم تكن مجرد زوجة عادية لرجلٍ عادي، بل كانت ملكة متوجة لديها من الذهب والمجوهرات ما لا يحصى ولا يعد، نحن نتحدث عن ملكة من ملكات مصر القديمة التي كانت جنة اللَّه في أرضه، آسية بنت مزاحم رحمها اللَّه تركت كل ذلك في سبيل اللَّه، والحقيقة أن سر اختياري لهذه السيدة الطاهرة لأطلق عليها لقب أقوى إنسانة في التاريخ لا ينبع من كونها انتصرت على فرعون الجبّار فحسب، بل إنني أعتقد أن سر عظمة وقوة آسية ينبع من من انتصارها على نفسها! فلقد تركت هذه البطلة الذهب والمجوهرات وقصور فرعون، مضحية بذلك بأعظم كنوز الحضارة الفرعونية في سبيل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ، لتنتصر هذه البطلة العملاقة على نفسها، ثم تنتصر بعد ذلك على فرعون! لقد انتصرت على الرجل الذي قال للناس أنا ربكم الأعلى! فباعت آسية بذلك دنياها من أجل آخرتها، تركت قصرها، أو لنقل قصورها، من أجل أن تسكن في بيتٍ بجوار اللَّه،

لتكون جارة للَّه! وآسية هي آسية بنت مزاحم بن عبيد الديان بن الوليد، وهي ترجع لأصول عربية من جزيرة العرب! وكان أبوها يحكم مملكة من الممالك التي خضعت للحكم المصري في عصر الدولة الفرعونية الحديثة، وكان من عادة الملوك أن يصاهروا بعضهم البعض، فتزوجها فرعون ليجعلها أثيرة إلى قلبه دون زوجاته الأخريات على الرغم من كونها امرأة عقيم! لذلك ما إن رأت آسية التابوت الذي ألقت به أم موسى في النيل حتى تعلق قلبها به، ولنتحول الآن إلى نهر النيل، ولنتخيل أخت موسى وهي تمد الخطى لتراقب ذلك التابوت الذي قذفت به أمها في مياه النيل: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8) وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (9) وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10) وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (11) وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (12) فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (13)} [القصص]. وكأني بقول اللَّه تعالى: {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50)}، فكما أن موسى خرج من بيت فرعون، فما يدرينا. . . لعل اللَّه يخرج لنا من بيت أشد أعداء الإِسلام في هذا الزمان من يعيد إحياء هذا الدين كما خرج موسى الذي كان يسمى موسى بن فرعون ليعيد إحياء أمته بعده 300 عامٍ من الذل والهوان! ولكن السؤال الذي يجب أن نطرحه على أنفسنا: هل هناك من نسائنا من هي مثل أم موسى التي تخلت عن رضيعها من أجل طاعة اللَّه؟ وهل هناك من نسائنا امراة صابرة مثل آسية بنت مزاحم؟ أتعلمون على ماذا صبرت الملكة آسية التي تعودت على الفرش الحريرية والوسائد الذهبية؟ لقد خيرهّا عدو اللَّه فرعون ما بين الكفر أو العذاب فاختارت هذه البطلة بكل

ثقة وبكل إيمان العذاب على الكفر، وأبت أن تعطي الدنية في دينها, لذلك أشرف فرعون شخصيًا على تعذيبها حيث عَزَّ عليه أن تخرج زوجته على عقيدته، لتتبع عدوه موسى، فأمر بإنزال أشد أنواع العذاب عليها، حتى تعود إلى ما كانت عليه، لكنها بقيت مؤمنة محتسبة صابرة، فأمر فرعون جنوده أن يطرحوها على الأرض، ويربطوها بين أربعة أوتاد، لتنهال السياط على جسدها، وهي صابرة محتسبة على ما تجد من أليم العذاب، ثم أمر المجرم فرعون بوضع رحًى على صدرها، وأن تُلقى عليها صخرة عظيمة، وقبل أن يتم تنفيذ ذلك جاءها فرعون ليعرض عليها العفو مقابل أن تكفر باللَّه، فنظرت إليه نظرة استحقار، ثم نظرت في السماء وهي معلقة بين الأوتاد الأربعة فدعت اللَّه بأعجب دعاءٍ دعته امرأة في التاريخ فقالت: {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11)}. فاختارت هذه البطلة الجوار قبل الدار، اختارت أن تكون جارة للَّه! فقالت: {عِنْدَكَ} قبل {بَيْتًا}، فكان لها ذلك! فارتفعت روحها إلى بارئها، تظلِّلُها الملائكة بأجنحتها, لتسكن في الجنة، لتستحق هذه البطلة العظيمة أن تكون من أعظم نساء التاريخ على الإطلاق لتكون بذلك سيدة من سيدات أهل الجنة! ولكن هل انتهت قصة ذلك المجرم فرعون عند ذلك الحد؟ وهل انتهى ظلمه وعذابه للناس بعد أن قتل زوجته بيديه؟ أم أن هناك مزيدًا من الضحايا لهذا المجرم؟ فما هي قصة تلك الأم البطلة التي عذبها فرعون مع أبنائها؟ وما هو سر تلك الرائحة الطيبة التي اشتمها رسول اللَّه في ليلة الإسراء والمعراج؟ يتبع. . . .

54 - (ماشطة بنت فرعون)

{أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} (ماشطة بنت فرعون) " مَا هَذِهِ الرَّائِحَةُ الطَّيِّبةُ يَا جِبْرِيلُ؟! " (رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-) كثيرٌ منا من يعتقد أنه قد أصبح مسلمًا مؤمنًا لمجرد التزامه بفروض اللَّه! فهناك من الناس من يتصدق بثلاثة دنانير ليرفع يديه عاليًا إلى السماء وهو يقول: "اللهم لا تضيعها عندك"! وهناك من يدفع زكاة ماله -المفروضة عليه- ليشترط على اللَّه القصر الأبيض في جنات الفردوس! ومنّا من يقوم للَّه ليلة يتيمة ليعتقد بعدها أن اللَّه سيبني له منزلًا في الجنة بجوار رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-! ومن الناس من يذهب للدعوة إلى سبيل اللَّه فإذا قوبل بالرفض من أول مرة رفع يديه إلى السماء ليقول "اللهم هل بلغت، اللهم فاشهد"! وهناك من الدعاة من إذا سُبَّ أو استهزئ به لمرة واحدة فقط رجع حزينًا وهو يقول "اللهم إني أشكو لك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس"! فيظن هؤلاء بذلك أنهم قد وصلوا إلى مرتبة الصدّيقين والشهداء!!! ولكن الإيمان الحقيقي لهو أعظم من ذلك بكثير. . . . والحقيقة هي أنك إذا لم تتعرض لابتلاء، فأعلم أنك لم تصل إلى مرحلة الإيمان! {الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (4) مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6)} [العنكبوت]. وبطلتنا الآن هي إنسانة دخلت في قوله تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}، فهذه الإنسانة لم يبتليها اللَّه فحسب، بل ابتلاها اللَّه بأحقر وأسفل خلقه في التاريخ: فرعون! إننا نتحدث عن هي ماشطة بنت فرعون، والتي لم تكن أكثر من مجرد امرأة صالحة كانت تعيش هي وزوجها في ظل مُلك فرعون، فقد كان زوجها مقربًا من فرعون، بينما

كانت هي ماشطة لبنات فرعون، فمن اللَّه عليهما بالايمان، فلم يلبث أن علم فرعون بإسلام زوجها، فقتله على التو واللحظة، فأخفت زوجته إسلامها، واستمرت في العمل في قصر فرعون تمشط بناته، وتنفق على أولادها الخمسة. وفي يومٍ من الأيام وبينما هي تمشط ابنة فرعون، وإذ بالمشط يقع من يدها على الأرض، فتناولته هذه المرأة المؤمنة من الأرض وهي تقول: "بسم اللَّه"، فقالت ابنة فرعون: "اللَّه أبي! " فصاحت الماشطة بابنه فرعون: "كلا! بل اللَّه ربي، وربك، ورب أبيك" فذهبت تلك المجرمة ابنة المجرم إلى أبيها لتخبره بأمر ماشطتها، فثارت قيامة فرعون بوجود من يعبد اللَّه بقصره، فأحضرها، وقال لها: "من ربك؟ " فقالت: "ربي وربك اللَّه" فأمرها فرعون بالرجوع عن دينها، وإلا حبسها وعذبها، فأبت تلك البطلة أن ترتد عن الإسلام، فأمر فرعون بقدر من نحاس فملئت بالزيت، ثم أحمي حتى غلا، فأوقفها أمام القدر، فلما رأت العذاب، أقبلت على القدر تريد الشهادة، فعلم فرعون أن أحب الناس إليها هم أولادها الخمسة، الذين كانت تربيهم بعد أن قتل أباهم، فأراد ذلك المجرم أن يزيد في عذابها، فأحضر الأطفال الخمسة إلى غرفة التعذيب الفرعونية، فلما رأوا أمهم تعلقوا بها يبكون، فانكبت عليهم تقبلهم وتضمهم إلى حضنها باكية، فأخذت أصغرهم وضمته التي صدرها وأرضعته، فأمر فرعون بأكبرهم، فجره الجنود ودفعوه التي الزيت المغلي والغلام يصيح بأمه ويستغيث ويسترحم الجنود ويتوسل الى فرعون ويحاول الفكاك والهرب، ولكن الجنود كانوا يصفعونه ويدفعونه إلى الزيت المغلي دفعًا، كل هذا وأمه تنظر اليه وتودعه بدموعها بعد أن عجز لسانها عن الحركة، وما هي إلا لحظات، حتى ألقي الصغير في الزيت، والأم تبكي وتنظر إلى طفلها وهو يحترق، بينما فرعون يقهقه، وإخوته يغطون أعينهم بأيديهم الصغيرة من هول المنظر، حتى إذا ذاب لحمه على جسمه النحيل، وطفت عظامه البيضاء فوق الزيت، نظر إليها فرعون مرة أخرى وأمرها بالكفر لكي يعفو عن البقية، فأبت هذه الفدائية، فزاد غضب فرعون، فأمر بولدها الثاني، فسُحب من عند أمه وهو يبكي ويستغيث، فما هي إلا لحظات حتى ألقي في الزيت، والأم تنظر إليه وتبكي، حتى طفت عظامه البيضاء واختلطت بعظام أخيه، فما زاد ذلك المنظر الأم إلا ثباتًا على الإسلام، ثم أمر فرعون بالثالث ففعل به نفس الشيء، ثم أمر السفاح فرعون أن

يطرح الرابع في الزيت، وما هي إلا ثوانٍ حتى غاب الجسد وانقطع الصوت، فجاهدت الأم نفسها أن تتجلد وأن تتماسك، فالتفتوا إليها وتدافعوا، وانتزعوا الخامس الرضيع من بين يديها، فلما انتزع منها صرخ الصغير فانهارت الأم ودموع الرضيع تغطي يديها، فكادت أن تتقاعس من أجل رضيعها المظلوم، عندها حصل شيء لم يتكرر في تاريخ الأرض إلا أربع مرات! فلقد تكلم ذلك الرضيع، وقال لها: "يا أماه اصبري فإنك على حق" ثم انقطع صوته عنها بعد أن ألقوه في الزيت المغلي، لتختلط عظامه بعظام إخوته الأربعة، فها هي عظامهم يلوح بها القدر، ولحمهم يفور به الزيت، لتنظر المسكينة الى هذه العظام الصغيرة وهي تتذكر أطفالها الصغار يمرحون بين يديها، ثم اندفع أولئك المجرمون نحوها وأقبلوا عليها كالكلاب الضارية، وقبل أن يلقوها في الزيت المغلي، التفتت إلى فرعون وقالت: "لي إليك حاجة" فصاح المجرم فرعون: "ماحاجتك؟ " فقالت: "أن تجمع عظامي وعظام أولادي فتدفنها في قبر واحد" فقال فرعون وهو يقهقه: "لك ذلك" فألقى الجند بها في الزيت المغلي، لتستشهد في سبيل اللَّه، وتختلط عظامها بعظام أطفالها الصغار. . . . . . وبعد ذلك بما يزيد عن 1500 سنة وبينما رسول اللَّه مع جبريل في ليلة الإسراء والمعراج، وإذ به يشتم رائحة طيبة، فيسأل جبريل عنها قائلأ: "مَا هَذِهِ الرَّائِحَةُ الطَّيِّبَةُ يَا جِبْرِيلُ؟ " فيجيبه جبريل: "هَذِهِ رَائِحَةُ مَاشِطَةِ بِنْتِ فِرْعَوْنَ، وَأَوْلادِهَا"! ولكن وبعد هذا الإجرام الذي ارتكبه فرعون، أكبر مجرمٍ عرفته البشرية، ما الذي حدث له؟ وما هي العقوبة الربانية الفريدة من نوعها التي التي لم ينزلها اللَّه إلا عليه؟ وكيف اختفى هذا الفرعون ليظهر عام 1881 م مجددًا؟ وكيف كان ظهوره سببًا لبزوغ نجم عظيم جديدٍ من عظماء أمة الإسلام المائة؟ يتبع. . . . .

55 - العالم الفرنسي (موريس بوكاي)

" العالم الفرنسي" (موريس بوكاي) {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ} (اللَّه) في مساء يومٍ من أيام عام 1871 م، جلس الأخوان محمد وأحمد عبد الرسول ليشربا الشاي بالقرب من قطيع الماشية الذي كان يرعي أمامهما، ولكن أحد الأخوين لاحظ أن خروفا من بين القطيع قد توارى بين التلال ليختفى أثره بعد ذلك! فصُعق الأخوان الفقيران من غياب ذلك الخروف الذي كان يمثل لهما ثروة ضخمة، فهلعا يتتبعان أثر الخروف الضائع، حتى وجدا بئرًا مهجورة بين الصخور، فاقتربا من تلك البئر لينزل أحدهما فيه ليسأله أخوه إن قد وجد الخروف، ليجيبه أخوه وهو يصيح ضاحكًا: "أي خروفٍ تتحدث عنه؟! لقد وجدت كنزًا يا أخي! ". بعد ذلك بعشرة سنوات وفي عام 1881 م لاحظ أحد مهربي الآثار المصريين أن هناك رجلان ثريان في إحدى القرى النائية يقال لهما الأخوان عبد الرسول قد أشيعت حولهما الأساطير، فقام بمراقبتهما وتتبع مكان البئر، ليخبر بعدها مدير الآثار المصرية الفرنسي (جاستون ماسبيرو) بأمر ذلك البئر المهجور، لينزل هذا العالم إلى ذلك البئر ليعلن بعدها للعالم أنه قد عثر على مجموعة من المومياءات، كان من بينها مومياء عجيبة لم تتغير كثيرًا على الرغم من بقائها لأكثر من 3500 عام، فلقد كانت هذه الجثة لأحد ملوك الدولة الحديثة وهو الملك (رمسيس الثاني)، هذا الملك هو نفسه فرعون موسى! وفي عام 1981 م تسلم الرئيس الفرنسي الراحل (فرانسوا ميتران) زمام الحكم في فرنسا عام ليطلب من الحكومة المصرية في نهاية الثمانينات استضافة مومياء الفرعون لإجراء اختبارات وفحوصات أثرية عليه، وفعلًا تم نقل جثمان أشهر طاغوت عرفته الأرض فرعون إلى باريس، فحُملت على إثرها مومياء الطاغوت بموكب لا يقل حفاوة

عن استقباله، وليتم نقله بعدها إلى جناح خاص في مركز الآثار الفرنسي ليستدعى لها أكبر عالمٍ في فرنسا، ألا وهو البروفيسور (موريس بوكاي)، وذلك لدراسة تلك المومياء واكتشاف أسرارها، وبينما كان المعالجون مهتمين بترميم المومياء، كان اهتمام موريس منصبًا على محاولة اكتشاف كيفية موت هذا الفرعون، فجثة رمسيس الثاني لم تكن كباقي جثث الفراعين التي تم تحنيطها من قبل، فوضعية الموت عنده غريبة جدا، فلقد فوجيء المكتشفون عندما قاموا بفك أربطة التحنيط بيده اليسرى تقفز فجأة للأمام! أي أن من قاموا بتحنيطه أجبروا يديه على الانضمام لصدره كباقي الفراعين الذين ماتوا من قبل!! فأخذ البروفوسور بوكاي يحلل الجثة لعله يجد حلًا لذلك اللغز، وفي ساعة متأخرة من الليل ظهرت النتائج النهائية للبروفيسور موريس: لقد كانت هناك بقايا للملح معلقةً في جسد الفرعون، وتبين أيضا مع صورة بأشعة إكس أن عظام فرعون قد انكسرت من دون أن يتمزق الجلد المحيط بها! فاستنتج البروفسور الفرنسي من ذلك أن الفرعون قد مات غرقًا، وأن سبب انكسار عظامه دون تمزق اللحم كان بسبب الضغط الرهيب الذي سببته المياه في أعماق البحر الساحقة، ولكن الغريب أن جثة فرعون رغم سقوطها في قاع البحر العميق يبدو عليها أنها طفت بشكل غريب على سطح البحر بسرعة ليتم تحنيطها فورًا قبل تحلل الجثة! واستطاع بوكاي أيضًا تفسير الوضعية الغريبة ليد رمسيس اليسرى، فلقد وضح بوكاي أن فرعون كان يمسك لجام فرسه أو السيف بيده اليمنى، ودرعه باليد اليسرى، وأنه في وقت الغرق رأى شيئًا غريبًا أدى لتجنش أعصابه بشكل فظيع ساعة الموت، ونتيجة لشدة المفاجأة وبلوغ حالاته العصبية لذروتها ودفعه الماء بدرعه فقد تشنجت يده اليسرى وتيبست على هذا الوضع، فاستحالت عودتها بعد ذلك لمكانها! وهذه الحالة تشبه تمامًا حالة تيبس يد الضحية وإمساكها بشيء من القاتل كملابسه مثلًا، ولكن سؤالًا أخيرًا بقي يحير البروفسور موريس بوكاي، وهو: كيف بقيت هذه الجثة أكثر سلامة من غيرها رغم أنها استُخرجت من البحر الذي من المفروض أن يعمل أكثر على سرعة تحلل الجثة؟!! فأعد البروفيسور الفرنسي موريس بوكاي تقريرًا نهائيا لكي يعلن للعالم. عن اكتشافه الجديد، أو لنقل ما كان يعتقد أنه اكتشاف جديد، فقرر أن يعقد مؤتمرًا

صحفيًا لكي يعلن ذلك، قبل أن يهمس أحد معاونيه في أذنه: "لا تتعجل يا مسيو بوكاي، فإن المسلمين يعرفون هذا الشيء بالفعل! " فتعجب البروفيسور من هذا الكلام، واستنكر بشدة هذا الخبر واستغربه، فمثل هذا الإكتشاف لا يمكن معرفته إلا من خلال أجهزة حاسوبية حديثة بالغة الدقة، ثم (وهو الأهم) أن مومياء رمسيس تم اكتشافها أصلا عام 1898! فازداد البروفيسور ذهولا وأخذ يتساءل: كيف يستقيم في العقل هذا الكلام؟ والبشرية جمعاء وليس العرب فقط لم يكونوا يعلمون شيئا عن قيام قدماء المصريين بتحنيط جثث الفراعنة أصلا إلا قبل عقود قليلة! فجلس موريس بوكاي ليلته بالمختبر محدقا بجثمان فرعون، وهو يسترجع في ذهنه ما قاله له زميله أن قرآن المسلمين يتحدث عن نجاة هذه الجثة بعد الغرق! في الوقت الذي لا يوجد أي ذكر في الكتاب المقدس عندهم لمصير الجثة بعد غرقها، وانهالت التساؤلات على ذهن موريس، ثم قرر أن يطلب نسخة من الكتاب المقدس، فأخذ يقرأ: "فرجع الماء وغطى مركبات وفرسان جميع جيش فرعون الذي دخل وراءهم في البحر، ولم يبق منهم أحد! ". وبقي موريس بوكاي حائرًا، فحتى الكتاب المقدس الذي يزعم علماء النصارى أن محمدًا قد سرق منه قصص الأنبياء السابقين لم يتحدث عن قريب أو بعيد عن نجاة هذه الجثة وبقائها سليمة! فمن أين أتى هذا البدوي بهذه الحقيقة العلمية وهو في أعماق الصحراء؟! عند ذلك الوقت حزم البروفسور الفرنسي مورشى بوكاي أمتعته واتجه إلى بلاد المسلمين يريد مقابلة عدد من علماء التشريح المسلمين، وهناك كان أول حديث تحدثه معهم فيه عما اكتشفه من نجاة جثة فرعون، فابتسم له عالم مسلم وأعطاه كتاب الترجمة الانجليزية للقرآن وقال له اقرأ هذا يا بروفسور: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92)} [يونس: 92] فما إن قرأ بوكاي هذه الكلمات القليلة حتى كاد أن يسقط من على قدميه، فصرخ بالحاضرين: "لقد آمنت برب هذا الكتاب، لقد آمنت بالرسول الذي جاء به! لقد دخلت الإسلام وآمنت بهذا القرآن" ثم رجع موريس بوكاي إلى فرنسا بغير الوجه الذي ذهب به، وهناك مكث عشر سنوات

ليس لديه شغل يشغله سوى دراسة مدى تطابق الحقائق العلمية والمكتشفة حديثا مع القرآن الكريم، فكانت ثمرة هذه السنوات التي قضاها الأخ الفرنسي المسلم موريس: أن خرج بتأليف كتاب من أعظم كتب القرن العشرين، هذه الكتاب وقع كالزلزال في أوساط الكنيسة في روما، فلقد كان عنوان الكتاب (القرآن والكتاب المقدس والعلم) ومن أول طبعة له نفد من جميع المكتبات في أوروبا! ثم أعيدت طباعته بمئات الآلاف بعد أن ترجم من لغته الأصلية (الفرنسية) إلى العربية والإنكليزية والإندونيسية والتركية والألمانية، لينتشر بعدها في كل مكتبات الشرق والغرب، وليدخل من خلاله آلاف الناس في الإسلام، فكما أن فرعون المجرم ربى موسى بيديه ليصبح له حزنًا في حياته، فها هو الآن بعد مماته يصبح سببًا في إسلام الآلاف، لتبقى جثته دليلًا على هزيمة كل من يحارب الإسلام والمسلمين في جميع العصور والأزمنة! ومن نفس الأرض التي خرج منها فرعون، خرج عظيم إسلامي من صعيد مصر، لا ليقول للناس أنا ربكم الأعلى، بل ليسافر إلى أقصى بقعة في مشارق الأرض ليقول للناس هناك: اللَّه هو ربكم الأعلى! فمن هو إذًا ذلك الصعيدي البطل الذي فتح إمبراطورية اليابان بمفرده؟ يتبع. . . . . .

56 - الصعيدي فاتح إمبراطورية اليابان (علي الجرجاوي)

" الصعيدي فاتح إمبراطورية اليابان" (علي الجرجاوي) " وبهذه الطريقة أفهمنا اليابانيين الإسلام وبدأوا يدخلون فيه بكثرة مادحين تعاليمه. وكلما زدناهم معرفة بالإسلام زاد عدد الداخلين حتى انتشر صيت جمعيتنا بالمدينة إنتشارًا عجيبًا. وكنا نسمع الثناء على الإسلام من الذين اعتنقوه لأنه دلهم على الإله الحق وأخرجهم من الظلمة الى النور" (من كتاب الرحلة اليابانية للجرجاوي) كنت أستغرب فيما مضى عن سر اختيار "الصعايدة" بالذات ليُستهزأ بهم من قبل السفلة من الممثلين والساقطات من الممثلات، وكنت أستغرب أكثر عن تلك الصورة النمطية التي ينقلها الإعلام العربي عن أولئك القوم بالتحديد، والحقيقة أن ذلك الاستغراب قد زال عني بعد أن قرأت التاريخ المشرف للمصريين المنحدرين من صعيد مصر، فأولئك القوم ليسوا أناسًا عاديين، بل هم رجالٌ أشداء نصروا الإسلام بأرواحهم عبر جميع مراحل تاريخ الإسلام العظيم، فالذي لا يعرفه الكثير من المسلمين أن صعيد مصر أخرج للإسلام أعظم العلماء وأصدق الرجال وأشجع الأبطال، ولا يساورني أدنى الشك بأن غزاة التاريخ وعملاءهم هم الذين نشروا تلك النكات الساذجة عن أولئك المسلمين الأبطال، ولعل الشموخ والإباء الذي أظهره "الصعايدة" في وجه نابليون وحملته الصليبية على مصر كان من أهم الأسباب لهذه الحملة الإعلامية البشعة على أولئك الرجال الشرفاء، فهناك قاعدة يجب علينا جميعًا أن نحفظها جيدًا ألا وهي: أن أبطال هذه الأمة هم الهدف الرئيسي للحملات الإعلامية الشرسة، فإذا ما وجدت تشويهًا لشخصية تاريخة أو لشريحة بشرية معينة من أمة فاعلم أن في الأمر أصابعًا قذرة لغزاة التاريخ! وقطار التاريخ لعظماء أمة الإسلام يأبى إلا أن يمر بعجلاته على صعيد مصر في سنة 1906 م، لتكون محطته هذه المرة قرية "أم القرعان" في مركز "جرجا" بصعيد مصر،

هناك يشتري شيخٌ أزهري اسمه (علي الجرجاوي) الصحيفة ليقرأ بها خبرًا انتفضت له جوارحه، فلقد قرأ الشيخ أن رئيس وزراء اليابان الكونت (كاتسورا) أرسل خطابات رسمية إلى دول العالم ليرسلوا إليهم العلماء والفلاسفة والمشرعين وكل أصحاب الديانات لكي يجتمعوا في مدينة "طوكيو" في مؤتمر عالمي ضخم يتحدث فيه أهل كل دين عن قواعد دينهم وفلسفته، ومن ثم يختار اليابانيون بعد ذلك ما يناسبهم من هذه الأديان ليكون دينًا رسميًا للإمبراطورية اليابانية بأسرها، وسبب ذلك أن اليابانيين بعد انتصارهم المدو على الروس في معركة "تسوشيما" عام 1905 م، رأوا أن معتقداتهم الأصلية لا تتفق مع تطورهم الحضاري وعقلهم الباهر ورقيهم المادي والأدبي الذي وصلوا إليه، فأرادوا أن يختاروا دينًا جديدًا للإمبراطورية الصاعدة يكون ملائمًا لهذه المرحلة المتطورة من تاريخهم. عندها أسرع هذا الصعيدي البطل إلى شيوخ الأزهر يستحثهم بالتحرك السريع لانتهاز هذه الفرصة الذهبية لنقل دين محمد إلى أقصى بقاع الأرض، في مهمة لو قدّر لها النجاح لتغير وجه الكون، فلم يستمع الشيخ الجرجاوي إلا لعبارات "إن شاء اللَّه"، "ربنا يسهل"! فكتب الشيخ علي الجرجاوي في صحيفته الخاصة "الإرشاد" نداء عامًا لعلماء الأزهر لكي يسرعوا بالتحرك قبل أن يفوتهم موعد المؤتمر، ولكن لا حياة لمن تنادي! فهل فوَّض الشيخ علي أمره للَّه وقال اللهم إني قد بلّغت؟ هل استسلم هذا الشيخ لأولئك المثبطين وواسى نفسه بأنه قد عمل ما عليه؟ لقد قام هذا الصعيدي البطل فحمل همّ أمة كاملة على كتفيه، وانطلق إلى قريته الصغيرة ليبيع خمس أفدنة من الأرض كانت جل ثروته، لينفق على حسابه الخاص تكاليف تلك المغامرة العجيبة التي انتقل فيها على متن باخرة من الإسكندرية إلى إيطاليا ومنها إلى عدن، ومنها إلى بومباي في الهند، ومنها إلى كولمبو في جزيرة سيلان (سيريلانكا الآن!)، ومن هناك استقل باخرة لشركة إنجليزية متجهة لسانغفورة، ثم التي هونج كونج، فسايغون في الصين، ليصل أخيرًا إلى ميناء "يوكوهاما" الياباني بعد مغامرةٍ بحرية لاقى فيها هذا الصعيدي البطل ما لاقاه من الأهوال والمصاعب. وهناك في اليابان كان العجب! وانظروا الآن إلى عظمة هذه الأمة -أمة محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- فلقد تفاجأ هذا الشيخ الصعيدي على الميناء بوجود شيخٍ هنديٍ من مشايخ مدينة "كلكتا"، وشيخٍ بربريٍ من مشايخ

"القيروان" في تونس، وشيخٍ صينيٍ من "التركستان الشرقية"، وشيخٍ قوقازي من مسلمي "روسيا"، كل هؤلاء جاءوا مثله على نفقتهم الخاصة، ليجدوا أن الخليفة العثماني البطل (عبد الحميد الثاني) جزاه اللَّه خيرًا كان قد أرسل وفدًا كبيرًا من العلماء الأتراك، ليجتمع أولئك الدعاة جميعًا ويكونوا وفدًا إسلاميًا ضخمًا مكونًا من مسلمين من أقطارٍ مختلفة، يحمل كل واحدٍ منهم رسالة محمد بن عبد اللَّه في وجدانه، ليوصلها إلى إمبراطور اليابان شخصيًا، فأكرم بهذه أمة! وهناك في طوكيو أسلم الآلاف على أيدي تلك المجموعة الربانية، وكاد إمبراطور اليابان "ألماكيدو" نفسه أن يسلم على يد ذلك الصعيدي البطل بعد أن أبدى إعجابه بالإسلام، إلا أنه خاف على كرسي الإمبراطورية بعد أن احتج الشعب على ذلك المؤتمر، فأخبر ألماكيدو الشيخ الجرجاوي أنه إذا وافق الوزراء على تغيير دين الآباء فإنه سيختار الإسلام بلا أدنى شك، فخرج الجرجاوي رحمه اللَّه إلى شوارع طوكيو برفقة الترجمان، ليُسلم على يديه آلاف اليابانيين، وليعود بعدها إلى مصر ليصف تلك الرحلة العجيبة إلى بلاد الشرق في كتاب من أجمل كتب أدب الرحلات في القرن العشرين أسماه "الرحلة اليابانية" وضع فيه نفائس القصص الممتعة وغرائب الحكايات الشيقة التي عايشها في رحلته الدعوية إلى اليابان. والاَن وبعد أن قرأت حكاية هذا الرجل الأمة، هل ستقهقه عندما يأتيك أحد السفهاء ليحكي لك نكتة يستهزئ بها من أحد الصعيديين؟ أم أنك ستقول له اخرس فإن أولئك القوم هم رجال الإسلام؟ والحقيقة أنه ليس أهل الصعيد هم وحدهم الأبطال، بل إن جل الموحدين في مصر كان لهم فضلٌ كبير على الإسلام بأسره! فما هو أعظم فضلٍ قدمه المصريون للمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها؟ وكيف أنقذ المصريون الإسلام بل والبشرية بأسرها من أعظم خطرٍ مرّ على البشر عبر كل العصور؟ يتبع. . . . .

57 - قاهر التتار (سيف الدين قطز)

" قاهر التتار" (سيف الدين قطز) " واإسلاماه. . . واإسلاماه. . . واإسلاماه" (قطز) هناك من المصريين من لا يفتخر بكونه مسلمًا بقدر ما يفتخر بكونه من الفراعنة الذين كان منهم فرعون المجرم الذي رأينا بعض أشكال إجرامه مع زوجته وماشطة ابنته، ونسي هؤلاء الذين يفتخرون بالأهرامات بأن تلك الأهرامات لم تكن سوى قبور الفراعنة التي سخروا من أجلها شعبهم بأسره لعشرات السنين لينعم الفرعون بقبرٍ يليق به! وصدق اللَّه عز وجل حين وصف قوم فرعون فأحسن وصفهم بقوله: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54)}، وأما القسم الآخر من مسلمي مصر فيعتقد أن سرَّ عظمة المصريين يكمن في أرض مصر نفسها وليس في الإسلام الذي جعل منهم أناسًا عظماءً، فذكروا أن سر عظمة المصريين ينبع من كون أن كلمة "مصر" وردت في القرآن خمس مرّات! ولم يعلم هؤلاء أن أن اللَّه ذكر ثمود وعاد ومدين أكثر من ذكر مصر، وأن ذكر أرض مصر جاء في القرآن على سبيل القصص في معرض قصتي نبيي اللَّه موسى ويوسف عليهما السلام، وأن من بين تلك المرات الخمس قول موسى لبني إسرائيل: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ}. وعزى قسمٌ ثالث من المصريين سرّ عظمتهم إلى "ماء النيل"، وأعجبتهم كثيرًا مقولة المؤرخ الإغريقي (هيرودوت) الذي زعم أن مصر هبة النيل. ولكن الشيء المهم الذي نسيه كل هؤلاء هو الإنسان المصري المسلم نفسه! فالإنسان المصري المسلم لم ينقذ الإسلام فحسب من خطر التتار، بل أنقذ البشرية بأسرها من شرهم! فالجيش المصري البطل هو صانع انتصار معركة "عين جالوت المجيدة"، والتي قضت على أسطورة الجيش المغولي الذي لا يُقهر، هذه المعركة

الخالدة خاضها أبناء الكنانة تحت قيادة عظيم إسلامي سطر اسمه في سجل الخلود الإسلامي بكل جدارة واستحقاق، إننا تنكلم عن الملك المظفر سيف الدين قطز. وقبل الحديث عن هذا البطل العظيم ما قدمه للإسلام، ينبغي علينا أولًا أن نتكلم قليلًا عن قصة التتار، وذلك لما في هذه القصة من تشابه عجيب بين أحداثها وبين الأحداث التي نعيشها الآن، فحال المسلمين وقت التتار يشبه إلى حدٍ بعيد حال المسلمين الآن، والخونة الذين فتحوا أبواب بغداد للتتار سنة 1258 م هم نفسهم الخونة الشيعة الذين فتحوا أبواب بغداد للغزاة سنة 2003 م، والتحالف الدولي على المسلمين من التتار والصليبيين يشبه ما نراه الآن على الساحة الدولية، كما أن معرفة مقدار القوة التي وصل إليها التتار قبل عين جالوت يوضح لنا مدى عظمة هذا القائد الرباني العظيم الذي أنقذ هو وجنوده العنصر البشري بشكلٍ عام من وحشية التتار. وقصة التتار تبدأ سنة 603 هـ من على قمم "جبال خنتي" في أرض "منغوليا" الواقعة شرق آسيا، هناك ظهر رجلٌ مغولي اسمه (تيموجين)، وهو نفس الرجل الذي أطلق التتار عليه فيما بعد اسم (جنكيزخان) وهي كلمة تعني: (قاهر العالم) باللغة المنغولية. وكان هذا الرجل سفاحًا مجرمًا، لا هم له في الحياة إلا القتل والتخريب، فالعجيب في قصة التتار أن الجيش التتري لم يكن يأخذ الغنائم أبدًا، بل كان هدف التتار من حروبهم تلك هو القتل لمجرد القتل! فكان التتار يقتلون كل كائنٍ حيٍ يجدونه أمامهم، لا يفرقون في ذلك بين رجل وامرأة، ولا بين رضيع وشاب، ولا بين صغير وشيخ، مدني أو محارب، وكأنهم حيوانات متوحشة تعشق رائحة الدماء وحسب! ولقد وصفهم المؤرخ الإسلامي (الموفق عبد اللطيف) في "خبر التتار" بقوله: "وكأن قصدهم إفناء النوع، وإبادة العالم، لا قصد الملك والمال! ". والمضحك في الأمر أن (مايكل هارت) صاحب كتاب "العظماء المائة" صنف المجرم (جنكيز خان) ضمن عظمائه المائة! وما هي إلا سنيّات قليلة حتى استطاع التتار بوحشيتهم أن يبنوا إمبراطورية كبيرة ممتدة من "كوريا" شرقًا إلى "بولندا" غربًا ومن "سيبيريا" شمالًا إلى "كمبوديا" جنوبًا، قبل أن تتحرك غريزة الخيانة المغروسة في كيان الشيعة لكي يراسلوا (هولاكو خان) قائد المغول والمعروف اختصارًا (هولاكو) ليطلبوا منه القدوم "لتحريرهم من نير

الديكتاتورية الإسلامية! "، فما إن تشيع الخليفة العباسي (الناصر لدين اللَّه)، حتى كان أول شيء صنعه هو اتباع الخاصية اللأولى للشيعة: الخيانة!! فلقد ذكر المؤرخ العظيم (الحافظ ابن كثير) في كتابه الرائع "البداية والنهاية" أن هذا الملك المتشيع قام بمراسلة التتار لكي يطمعهم ببلاد المسلمين، إلا أن هولاكو لم رفض العرض الشيعي بدخول عاصمة الخلافة الإسلامية بغداد خوفًا من أن تحل عليه لعنة من السماء (كما نصحه بذلك حكماء المغول)، فما كان من شيخ الطائفة الشيعة الأكبر عبر التاريخ (نصير الدين الطوسي) إلا أن تطوع لطمأنة هولاكو بدخول بغداد، وإخباره بأن شيئًا من الأذى لن يصيبه إذا ما قتل الخليفة العباسي، وفي نفس الوقت قام الخائن الأعظم في تاريخ الشيعة الاثني عشرية الوزير الشيعي (مؤيد الدين بن العلقمي) بفتح أبواب بغداد للمغول مقابل عرضٍ يجعله فيه هولاكو واليه في المدينة المنورة لكي ينبش قبر أم المؤمنين عائشة وقبر أبي بكر وعمر (وربما قبر رسول اللَّه أيضًا!)، وطلب الخائن ابن العلقمي من خونة الشيعة في العراق رفع رايات مميزة فوق بيوتهم عند ساعة الصفر لكي يقتل التتار المسلمين السنة فقط، وفي يوم 4 صفر من سنة 656 هـ الموافق لـ 20 فبراير من سنة 1258 م دخل التتار بغداد أكبر مدينة في العالم آنذاك، فقتل التتار 1000000 مسلم خلال أربعين فقط بفضل خيانة الشيعة، وكأن التاريخ يعيد نفسه! بل وكأن الأرقام تعيد نفسها! وتعفنت الجثث في شوارع بغداد، وحرق التتار الهمجيون "مكتبة بغداد" أكبر مكتبة في العالم، وأصبح الطريق مفتوحًا أمام المغول لتدمير "الكعبة" بعد أن احتلوا الشام، وصار مصير الإسلام -وليس المسلمين فقط- لأول مرة في التاريخ مهددًا بالفناء، قبل أن يحدث شيءٌ عجيب! فلقد بعث اللَّه للأمة رجلًا اسمه (محمود بن ممدود الخوارزمي)، هذا الرجل عُرف في التاريخ باسم آخر هو: (سيف الدين قطز)! وقصة قطز تمثل ترجمة فعلية لقول رب العالمين: {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50)}، فكما أن فرعون هو الذي ربى موسى في بيته لكي يدمره بعد ذلك، فإن التتار هم الذين صنعوا قطز، بل هم الذين أطلقوا عليه اسم (قطز) ويعني "الحيوان المتوحش"، وذلك بعد أن لاحظوا أنه طفل متمرد، وقطز هو ابن أخت (جلال الدين بن خوارزم شاه) ملك "المملكة الخوارزمية

الإسلامية" في آسيا الوسطى، والتي كانت أول ضحايا التتار، فقد قام التتار بقتل جميع أهل قطز وإبقائه حيًا لكي يبيعوه بعد ذلك في سوق النخاسة، والمضحك في القصة أن التتار أنفسهم هم الذين نقلوه من مجاهل آسيا الوسطى إلى أرض الشام بالتحديد والتي سوف ستشهد تدمير إمبراطوريتهم على يدي نفس ذلك الطفل الذي نقلوه هم بأيديهم إلى هذه الأرض!!! فقد قام الملك الأيوبي المجاهد (نجم الدين أيوب) رحمه اللَّه بشراء قطز وغيره من العبيد ليربيهم تربية دينية وعسكرية صارمة، ليكون كتيبة ربانية مجاهدة من أعظم الكتائب التي عرفتها أمة محمد، هذه الكتيبة الخاصة عُرفت فيما بعد باسم "المماليك". والحقيقة أن سر اختياري لقطز ليكون ضمن قائمة المائة لا ينبع لمجرد انتصاره في معركة "عين جالوت" الخالدة التي أنهت الزحف المغولي إلى الأبد، بل إن السر الحقيقي لعظمة هذا العملاق الإسلامي يتمثل في إمكانية هذا الرجل بمفرده من تغيير حال أمة بأسرها من قمة الهزيمة إلى قمة النصر، كل هذا في أحد عشر شهرًا وثلاثة عشر يومًا هي كل مدة حكم سيف الدين قطز! وهذا الذي نحاول دراسته في هذا الكتاب "كيفية بناء الأمة بعد انكسارها"، فقطز كان رجلًا واحدًا، ولكنه كان رجلًا بأمة، وعين جالوت ما هي إلا نتيجة، ولكن الأهم منها هو العمل الذي أدى لعين جالوت! ولنستمع الآن إلى رسالة الإنذار التي بعثها هولاكو لقطز قبل عين جالوت والتي حملها له أربعون سَفيرًا من وحوش التتار: "من ملك الملوك شرقًا وغربًا القائد الأعظم: باسمك اللهم، باسط الأرض، ورافع السماء، يعلم الملك المظفر قطز الذي هو من جنس المماليك الذين هربوا من سيوفنا إلى هذا الإقليم، يتنعمون بأنعامه، ويقتلون من كان بسلطانه بعد ذلك، يعلم الملك المظفر قطز وسائر أمراء دولته وأهل مملكته بالديار المصرية وما حولها من الأعمال، إنا نحن جند اللَّه في أرضه، خلقنا من سخطه، وسلطنا على مَن حَلَّ به غضبه، فلكم بجميع البلاد معتبر، وعن عزمنا مزدجر، فاتعظوا بغيركم وأسلموا لنا أمركم. قبل أن ينكشف الغطاء، فتندموا ويعود عليكم الخطأ، فنحن ما نرحم من بكى، ولا نرقّ لمن شكر، وقد سمعتم أننا قد فتحنا البلاد، وطهرنا الأرض من الفساد، وقتلنا معظم العباد، فعليكم

بالهرب، وعلينا الطلب، فأي أرض تؤويكم، وأي طريق تنجيكم، وأي بلاد تحميكم؟! فما لكم من سيوفنا خلاص، ولا من مهابتنا مناص، فخيولنا سوابق، وسهامنا خوارق، وسيوفنا صواعق، وقلوبنا كالجبال، وعددنا كالرمال، فالحصون عندنا لا تمنع، والعساكر لقتالنا لا تنفع، ودعاؤكم علينا لا يُسمع، فإنكم أكلتم الحرام، ولا تعفُّون عند كلام، وخنتم العهود والأيمان، وفشا فيكم العقوق والعصيان، فأبشروا بالمذلة والهوان، فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون، فمن طلب حربنا ندم، ومن قصد أماننا سلم، فإن أنتم لشرطنا وأمرنا أطعتم، فلكم ما لنا وعليكم ما علينا، وإن خالفتم هلكتم، فلا تهلكوا نفوسكم بأيديكم، فقد حذّر من أنذر. وقد ثبت عندكم أنا نحن الكفرة، وقد ثبت عندنا أنكم الفجرة، وقد سَلَّطَنا عليكم من له الأمور المقدّرة، والأحكام المدبرة، فكبيركم عندنا قليل، وعزيزكم عندنا ذليل، فلا تطيلوا الخطاب، وأسرعوا برد الجواب، قبل أن تضرم الحرب نارها، وترمي نحوكم شرارها، فلا تجدون منا جاهًا ولا عزًا، ولا كافيًا ولا حرزًا، وتدهون منا بأعظم داهية، وتصبح بلادكم منكم خالية، فقد أنصفناكم إذ راسلناكم، وأيقظناكم إذ حذرناكم، فما بقي لنا مقصد سواكم، والسلام علينا وعليكم، وعلى من أطاع الهدى، وخشي عواقب الردى، وأطاع الملك الأعلى. وما إن قرأ قطز رسالة التهديد التترية حتى قتل جميع السفراء المغول ثم علق رؤوسهم في شوارع القاهرة لكي يرفع الروح المعنوية في أوساط الشعب المصري الذي كانت تأتيه أخبار التتار المخيفة، وفي يوم الجمعة الخامس والعشرين من شهر رمضان سنة 658 هـ، وبشروق الشمس، أضاءت الدنيا على فجر جديد انبثق من سهل عين جالوت، فالتقى المسلمون والتتار هناك، ليقاتل قطز بنفسه بين صفوف الشعب، ليتفاجأ المسلمون بأعداد الجيش التتري الهائلة والمخيفة، وفعلًا كاد التتار أن ينتصروا بالفعل، عندها أدرك الفارس الإسلامي البطل قطز أن الإسلام هذه المرة مهددٌ كدين على وجه الأرض، فإذا سقطت مصر، سقطت آخر قلاع المسلمين في الكرة الأرضية، لتصبح بعدها مكة والمدينة تحت رحمة المغول وعملائهم من الشيعة، عند هذه اللحظة. . .

توقفت ساعة الزمن عن الدوران في وجدان وكيان هذا المجاهد الإسلامي، فنزل سيف الدين قطز من على ظهر فرسه وأخذ يصيح في السماء بصوتٍ زلزل الأرض: واإسلاماه. . . . واإسلاماه واإسلاماه ثم خلع الملك المظفر قطز خوذته ومرَّغ رأسه على التراب وهو يتضرع للَّه قائلًا: "يا اللَّه. . . انصر عبدك قطز على التتار! فما إن انتهى قطز من دعائه، حتى دارت رحى الحرب في صالح المسلمين، فانتصر الجيش المصري، تحت قيادة القائد التركي، على أرض فلسطين المباركة، لتعلو بذلك راية الإسلام العالمي إلى الأبد! ولكن. . . . ما هي الخطوات المنهجية التي قام بها قطز رحمه اللَّه ليحول حال الأمة من حالة الهزيمة إلى حالة النصر؟ ومن هو ذلك الشيخ المغربي الذي كان هو الصانع الحقيقي لهذا النصر؟ وكيف كان قطز لا يتخذ أيَّ قرارٍ بدون الرجوع إليه؟ ولماذا أطلق عليه المؤرخون لقب "سلطان العلماء"؟ يتبع. . . . .

58 - سلطان العلماء (العز بن عبد السلام)

" سلطان العلماء" (العز بن عبد السلام) " يا بني. . . . إني استحضرت هيبة اللَّه عز وجل فرأيت السلطان أمامي كالقط! " (العز بن عبد السلام) الإسلام دين يبعث بالعزة والسؤدد في قلب كل إنسانٍ يتمسك به، فلا يعود الإنسان بعدها يأبه بأي شخصٍ أمامه حتى ولو كان ملكًا من الملوك! ولقد رأينا كيف وصف الجنرال الإيطالي (غراتسياني) المجاهدَ الليبي (عمرَ المختار) بأن له هالة من نور تحيط به، والحقيقة أن ذلك الجنرال الإيطالي كان صادقا في وصفه لتلك الهالة النورانية، ولكن المسكين لم يستطع إدراك كنهها! إنها هالة العزة التي تحيط بالمسلم الذي يتمسك بالكتاب والسنة، فتجعل منه إمبراطورًا أمام ملوك الأرض جميعًا. وعظيمنا الحالي يعتبر خيرَ مثالٍ لتلك العزة الإسلامية، فكان اسمًا على مسمى، فنحن نتحدث عن سلطان العلماء، وبائع الأمراء، إنه المجاهد الهمام، الفصيح الكلام، رمز العزة ورمز السلام: الشيخ عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام. وسبق وأن ذكرنا أن لعظماء أمة الإسلام خصائصًا ثلاث لا يقاسمهم فيها أحدٌ من البشر، ألا وهي: (تنوع العنصر، ووحدانية العقيدة، وسمو الهدف)، والعز بن عبد السلام يجمع في شخصه تلك الخصائص الثلاث، فهو مغربي الأصل، شامي المولد، مصري الممات، فعائلة الشيخ هاجرت من المغرب إلى أرض الشام، ليولد الشيخ في بيتٍ من بيوت دمشق حاضرة الأمويين، حيث نشأ نشأة عادية للغاية بين أقرانه، والمفارقة العجيبة أن هذا الشيخ العظيم لم يطلب العلم إلا متأخرًا! ولعل سيرته تمثل خير مثالي لأولئك الشباب الذين يتحججون بأن قطار العلم قد فاتهم، فبالرغم من بدايته المتأخرة جدًا، ظل الشيخ يثني الركب في مجالس العلماء حتى بلغ من العلم مبلغًا عظيمًا، فأصبح إمام الجامع

الأموي في دمشق، وكان هذا أعلى منصب يمكن للعالم أن يناله في بلاد الشام. في ذلك الوقت أقدم أمير دمشق (الصالح إسماعيل) إلى موالات الصليبين، فأعطاهم حصن "الصفد" و"الثقيف" وسمح لهم بدخول دمشق لشراء السلاح والتزوّد بالطعام. فاستنكر العزّ بن عبد السلام ذلك وصعد المنبر الأموي وخطب في الناس خطبة عصماء، أفتى فيها بحُرمة بيع السلاح للفرنجة، وبحُرمة الصلح معهم، وقال في آخر خطبته "اللهم أبرم أمرَ رشدٍ لهذه الأمة، يعزّ فيه أهل طاعتك، ويذلّ فيه أهل معصيتك"، ثم نزل من على المنبر دون الدّعاء للحاكم الصالح إسماعيل، فاعتبِر الملك ذلك عصيانا لولي الأمر وشقًا لعصا طاعته، فغضب على العزّ وسجنه بخيمة بجانب خيمته، وبينما هو في سهرةٍ مع حلفائه الفرنجة، سمع الصليبيون صوت الشيخ وهو يقرأ القرآن في منتصف الليل، فقال الصالح إسماعيل للصليبيين وهو يبتسم ابتسامة الذليل ليقول لهم: إنه سجن هذا الرجل من أجلهم! فنظر الصليبيون إلى حليفهم السلطان إسماعيل بكل احتقارٍ وقالوا له: "إن هذا الرجل لو كان قسيسًا لدينا لغسلنا قدميه بأيدينا وشربنا الماء الذي يقطر من قدميه"! وبعد ذلك هاجر الشيخ ابن عبد السلام بدينه إلى مصر ليكرمه السلطان (نجم الدين أيوب) ويجعله إمام جامع (عمرو بن العاص) في القاهرة، ولكن الشيخ رغم ذلك أبي على نفسه أن يكون عالمًا للسلطان، بل اختار الشيخ العز بن عبد السلام أن يكون سلطانًا للعلماء! فرغم المناصب الهامة التي تولاها الشيخ في مصر، التزم العز بن عبد السلام بقول كلمة الحق ومجاهرة الحكام بها في القاهرة، فلم يكن العز يكتمها إذا رأى أنها تحول دون الصدع بالحق وإزالة المنكرات. ففي أحد الأيام تيقن الشيخ ابن عبد السلام من وجود حانة تبيع الخمور في القاهرة، فخرج إلى السلطان نجم الدين أيوب في يوم عيد إلى القلعة، فشاهد العساكر مصطفين بين يديه، ورأى ما فيه السلطان من الأبهة في يوم العيد، وقد خرج على قومه في أبهى زينته، فأخذت الأمراء تقبل الأرض بين يدي السلطان، فالتفت الشيخ إلى السطان وناداه بصوتٍ مرتفع: "يا أيوب! ما حجتك عند اللَّه إذا قال لك: ألم أبوِّئ لك ملك مصر ثم تبيح الخمور؟ " فقال السلطان: هل جرى هذا؟ فقال الشيخ: نعم، فقال السلطان للشيخ: يا سيدي، هذا ما عملته أنا، هذا من زمن أبي! فقال الشيخ: أأنت من الذين يقولون إنا وجدنا آباءنا على أمة؟ عندها رسم السلطان

بإبطال تلك الحانة. وعندما عاد الشيخ إلى تلاميذه سأله أحد التلاميذ: يا سيدي كيف استطعت أن تقف أمام السلطان العظيم وتصرخ به أمام أمرائه وتناديه باسمه مجردًا؟ فقال الشيخ: يا بني. . . رأيته في تلك العظمة فأردتُ أن أهينه لئلا تكبر نفسُه فتؤذيه! فقال التلميذ: يا سيدي، أما خفتَه؟ فابتسم الشيخ ابن عبد السلام في وجه تلميذه وقال: "واللَّه يا بني إني كلما استحضرتُ هيبة اللَّه تعالى، صار السلطان أمامي كالقط! ". وعندما تولى السلطان قطز مقاليد الحكم في مصر، أراد أن يجمع المال من الشعب لتجهيز الجيش، فطلب الفتوى من الشيخ العز بن عبد السلام، فرفض الشيخ أن يحابي السلطان في دين اللَّه، وقال له إنه يجب عليه أولًا أن يجمع الذهب والمجوهرات الموجودة عند أمراء المماليك لكي لا يبقى معهم إلا أسلحتهم وخيولهم التي سيحاربون بها، وعندها يصبح الأمراء في نفس مستوى عامة الشعب، وقتها فقط يمكن له أن يأخذ تلك الفتوى! وفعلًا نفذ السلطان المظفر سيف الدين قطز ما قاله شيخه، وتم تجهيز كل الجيش بالأموال التي حصل عليها من بيع مجوهرات الأمراء، بل إن المال زاد عن الحاجة، عندها وقف الشيخ البطل العز بن عبد السلام في جوامع مصر المحروسة يحرض الناس على الجهاد ويذكرهم بقصص الصحابة والسلف الصالح، فاستطاع الشيخ ابن عبد السلام زرع روح النصر من جديد في نفوس المصريين، وخرج الشيخ بنفسه إلى ساحة الجهاد لينال شرف دحر التتار عن أمة الإسلام، لينتصر المسلمون في معركة "عين جالوت" الخالدة بفضل رجالٍ من أمثاله، ليظل الشيخ يجاهد في سبيل اللَّه ويدعو للَّه حتى بلغ الثالثة والثمانين من عمره، ليتوفى رحمه اللَّه سنة 660 هـ، ليصلي عليه جميع أهل مصر وهم يبكون على خسارة أعظم علمائهم، وظن الناس أن زمن العلماء انتهى بموت هذا العالم العظيم، ليحدث شيءٌ عجيب!!! فبعد سنة واحدة فقط من وفاة الشيخ العز بن عبد السلام في مصر، وُلد في الشام طفلٌ اسمه أحمد ابن عبد الحليم، هذا الطفل حمل اسم جدته من أبيه، ليجعلها أشهر جدة في تاريخ الأرض! فهذا الطفل سيكون فيما بعد شيخا لا على مصر أو على الشام فقط. . . بل سيكون شيخ الإسلام بأسره! فمن هو ذلك الشيخ الشامي الذي لا يسمع باسمه صاحب بدعة في أي عصر من العصور إلا وتصيبه حالة من الرعب؟ يتبع. . . .

59 - شيخ الإسلام (أحمد بن تيمية)

" شيخ الإسلام" (أحمد بن تيمية) " واللَّه ما يبغض ابن تيمية إلا جاهل أو صاحب هوى، فالجاهل لا يدري ما يقول، وصاحب الهوى يصده هواه عن الحق بعد معرفته به! " (أبو البقاء السبكي) أمة الإسلام أمة لا تموت أبدًا! فالشيخ العز بن عبد السلام توفي في سنة 660 هـ، والشيخ أحمد ابن تيمية ولد سنة 661 هـ، وكأن اللَّه سبحانه وتعالى يرسل إشارات للبشرية بأن أمة الإسلام لن تموت أبدًا، فما الذي يجعل ابن تيمية يُولد بعد سنة واحدة فقط من موت الشيخ ابن عبد السلام؟ بل إن هناك سؤال يطرح نفسه بقوة، ألا وهو: لماذا لم تنتهِ هذه الأمة إلى اليوم رغم كل المصائب والحروب التي مرَّت بها؟ فأين الفراعنة؟ لماذا لم تبقَ إلا قبورهم؟ أين لغة الفراعنة؟ أين ذهب التتار الذين حكموا الأرض؟ أين هم الآن؟ أين الإغريق القدماء؟ لماذا لم تبق إلا معابدهم المدمرة في أثينا؟ أين الهكسوس؟ أين اختفى الفينيقيون؟ لماذا اختفت هذه الأمم كلها ولم تبقَ إلا أمة الإسلام؟ لماذا استمرت هذه الأمة في البقاء رغم حملات الصليبيين، ومجازر التتار، وويلات الاستخراب الأوروبي؟ بل لماذا تصنف الأمم المتحدة الإسلام كأسرع ديانة تنتشر على وجه الكرة الأرضية رغم الفقر والأمراض التي تفتك بشعوب هذه الأمة؟! ما الذي يدفع آلاف الأوروبيين والأمريكان إلى دخول الإسلام رغم كل حملات التشويه الإعلامي التي تهاجم الإسلام كدين؟ الإجابة بسيطة. . . . . إن هذه الأمة أمة محميَّة من اللَّه سبحانه وتعالى، فلا سبيل لإزالتها أبدًا! وربما كان ذلك هو السبب الذي دعى أعداء الأمة إلى نشر البدع والخرافات بين المسلمين عن طريق أناس يدعون العلم الشرعي، والحقيقة أن كشف

هؤلاء العلماء المزيفين سهلٌ للغاية، فلا يحتاج المرء إلا أن يذكر اسم (ابن تيمية) على مسامعهم، فإذا رأيت الشخص لم يهتز البتة، فاعلم أنه على خير إن شاء اللَّه، أما إذا رأيته ترتعش أوصاله ويسودّ وجهه من ذكر اسم الشيخ (أحمد ابن تيمية) فاعلم أنك أمام رجلٍ مبتدع! والشيء الذي يدعو حقًا للسخرية أن الشيعة يعتبرون ابن تيمية هو المؤسسَ للوهابية، وهذا ضرب من ضروب المستحيل لسببين اثنين: أولهما أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه اللَّه وُلد بعد وفاة ابن تيمية بمئات السنين، وثانيهما وهو الأهم أنه ليس هناك في الدنيا شيءٌ اسمه (الوهابية)! ولكنهم كباقي أصحاب البدع، لا يطيقون سماع اسم هذا الشيخ المجاهد الذي حارب عبَّاد القبور بكتاباته العظيمة التي أصبحت تلقى رواجًا بين جيل الصحوة الإسلامية، والحقيقة أن اسم ابن تيمية بات يتردد كثيرًا في الآونة الأخيرة عبر وسائل الإعلام التي تشن عليه حملة شرسة لا تستهدفه كشخصية تاريخية فحسب، بل تستهدف فكره المبني على الكتاب والسنة بفهم سلف هذه الأمة، فأصحاب البدع لا تروق لهم فتاوى ابن تيمية التي تحارب عبادة القبور والتبرك فيها، فكثير من هؤلاء يتكسبون من الحمقى الذين يأتون بالأموال ليضعوها عند قبر الميت لكي تحل عليهم البركة المزعومة، والحقيقة أن البركة تحل فقط على أولئك الشيوخ المنافقين الذين يأخذون الأموال في عتمة الليل من عند القبور لكي ينفقوها على ملذاتهم الدنيئة. أما الشيعة فقد اعتدنا منهم أن يحاربوا رموزنا التاريخية بشكل عام، والحقيقة أنني أشفق على الشيعة أحيانا، فتاريخهم لا يزخر بأبطالٍ على الإطلاق، فرموز الشيعة ليسوا إلا خونة كالطوسي وابن سبأ وابن العلقمي، فهم يعلمون قبل غيرهم أنه ليس هناك بطل شيعي على الإطلاق في كل تاريخهم الأسود، فهم يلعنون صلاح الدين الأيوبي، ويلعنون خالدًا، وسعدًا، وعكرمة، وابن الخطاب، وأبا حنيفة والشافعي وابن حنبل ومالك وابن عبد الوهاب، ويلعنون الأمويين والعباسيين والعثمانيين وأهل السنة بالمجمل! فلا عجب أنهم لا يحبون الشيخ ابن تيمية، فأبطالنا أعداءٌ لهم، وأبطالهم -أو لِنقل خونتهم- أعداءٌ لنا! فابن تيمية كتب مؤلفاتٍ عظيمة يفضح فيها حقيقة الرافضة وخياتاهم، فلقد جاهد ابن تيمية ضد التتار وضد أصحاب البدع على حد سواء. والشيء الطريف في سيرة شيخ الإسلام أحمد ابن تيميّة، أن أعظم مصنفاته كتبها وهو نزيلٌ في

المعتقلات المتنوعة في كل من مصر والشام، فلقد أثنى أكابر العلماء على كتب الشيخ أحمد بن تيمية ومصنّفاته، حتى أطلق عليه علماء المسلمين من بعده لقب "شيخ الإسلام"! وأذكر هنا ما وصفه به العلامة (كمال الدين بن الزملكاني) بقوله: "كان إذا سُئل عن فن من العلم ظن الرائي والسامع أنه لا يعرف غير ذلك الفن، وحكم أن أحدًا لا يعرفه مثله، وكان الفقهاء من سائر الطوائف إذا جلسوا معه استفادوا في مذاهبهم منه ما لم يكونوا عرفوه قبل ذلك، ولا يعرف أنه ناظر أحدًا فانقطع معه ولا تكلم في علم من العلوم، سواء أكان من علوم الشرع أم غيرها إلا فاق فيه أهله! " ومن الطرائف أيضًا أن (تيميَّة) وهي جدة الشيخ أحمد من أبيه، كانت واعظة عظيمة، فنسبه الناس إليها، أما اسم الشيخ أحمد بن تيمية الكامل فهو: أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد اللَّه، تقي الدين أبو العباس النميري العامري الحرّاني، وحرّان هي المدينة التي وُلد فيها الشيخ أحمد بن تيمية، وحرّان هذه شهدت قبل ميلاده بأكثر من 400 سنة ميلادَ عالمٍ عظيمٍ من علماء الإسلام، أو لنقل علماء الإنسانية! فمن هو ذلك العالم الإسلامي الكبير الذي ولد في "حرّان" والذي كان أول إنسان في العالم يحدد عدد أيام السنة الشمسية بدقة بالغة حيرت علماء وكالة الفضاء الأمريكية "ناسا"؟ ولماذا اعتبره مؤرخو الغرب المؤسس الحقيقي لعلم "التفاضل والتكامل"، والمؤسس الحقيقيي لعلم "طب العيون"، والمؤسس الحقيقي لعلم "الهندسة التحليلية"، والمؤسس الحقيقي لعلم "الجبر" وأول إنسانٍ نقل للبشرية مؤلفات (إقليدس) و (أرشميدس) و (بطليموس) و (أبولونيوس) و (أوتوسيوس) و (فيثاغورس)؟ فمن تراه يكون ذلك العالم الإسلامي العظيم الذي كان وبحق موسوعة علمية تمشي على قدمين؟! يتبع. . . . .

60 - إقليدس العرب (ثابت بن قرة)

" إقليدس العرب" (ثابت بن قرة) " إن العالم الإسلامي ثابت بن قرة هو العالم الذي أفاد علماء الغرب فيما بعد في تطبيقاتهم وأبحاثهم الرياضية في القرن السادس عشر والتي كانت أساسًا لظهور الحضارة الغربية المعاصرة! " (المؤرخ الأوروبي يورانت وول) لا شك أن تحامل وإجحاف كثير من المؤرخين الغربيين على التراث العربي الإسلامي كان سببًا مهمًا لضياع تاريخ علماء أمة الإسلام، إلا أنني أعتقد جازمًا أن إهمال المسلمين أنفسهم لتراثهم وتاريخهم كان السبب الرئيسي الأول لذلك الضياع! فقبل أن نتطرق لسيرة هذا العبقري الفذ ينبغي على كل واحدٍ فينا أن يسأل نفسه سؤالًا بسيطا: هل سمعت في حياتك ولو لمرة واحدة عن العالم الإسلامي ثابت بن قرة؟ الحقيقة التي لا يعلمها الكثير منا أن هذه الأمة لن تعيد أمجاد تاريخها وفيها أناسٌ لا يعرفون تاريخهم أصلًّا! فلن يرضع أطفالنا إلا حليب الذل والهوان طالما بقي تاريخ عظمائنا في طي النسيان. ففي الوقت الذي يحلم به الطفل المسلم أن يصبح فيه مثل البطل المزيف (سوبر مان)، نجد أن ذلك الطفل لا يعرف شيئًا بالأساس عن بطل أسطوري حقيقي اسمه (القعقاع بن عمرو)! وفي الوقت الذي نجد فيه شبابنا متيمين بقصة بطلين مزيَّفيْن اسمهما (الأخوان رايت) نجد أن أحدًا من شبابنا لم يسمع البتة عن بطليْن حقيقيَّن اسمهما (الأخوان بربروسا)!! وفي الوقت الذي تعظم فيه مناهجنا الدراسية المتعفِّنة سيرَ (أديسون) و (آنشتاين)، نجد أن نفسى تلك المناهج لا تذكر شيئًا عن عالمٍ إسلامي مثل (ثابت بن قرة)! هذا مع الوضع في الحسبان أن العلوم التي برع فيها هذا العالم الإسلامي العظيم في مرحلة مراهقته فقط تفوق كل العلوم التي قضى أولئك العلماء الغربيّون سنين عمرهم كلها في تحصيل بعضٍ منها!!!

لذلك. . . . سنحاول جاهدين من خلال الصفحات القليلة القادمة أن نختار نماذج مشرقة من علماء هذه الأمة العظيمة لنسبر أغوارها، ونقدّمها بشكلٍ ممتعٍ لشباب الصحوة الإسلامية، لتكون هذه الصفحات مجرد حافزٍ لأولئك الشباب الذين يريدون إعادة مجد أمّتهم من جديد. أما إذا سألني أحد الفشلة المثبِّطين: لماذا تبكي على الماضي وتذكر تاريخ علماء سابقين أكل الزمان عليهم وشرب، في الوقت الذي نتذيل نحن فيه قاع السلم الحضاري محاطين بالتخلف والأمراض من جميع الاتجاهات؟! وقتها سأقول لهذا المثبّط الفاشل أن التخلف لم ينتشر في أوصال أمتنا إلا بسبب أمثاله من الإنهزاميين المكسورين داخليًا! أما أنا فسأحاول في هذا الكتاب أن أشعل شمعة، وليبقى هو وأمثاله ليلعنوا الظلام ألف مرة! الغريب أنني لاحظت من خلال دراستي التاريخية لعلماء الإسلام أن جميع العلماء المسلمين يشتركون في ثلاث خصائص اجتماعية ميَّزتهم عن باقي علماء الأرض عبر التاريخ، هذه الخصائص الثلاث هي: (الخلفية الدينية): لا تجد عالمًا من علماء المسلمين في مجالات الفلك أو الرياضيات أو الأدب أو حتى الطب، إلا وتجده حافظًا لكتاب اللَّه، وعالمًا بأصول الحديث، وذا حظٍ كبير في علوم الفقه والشرع! ولعل هذا من أهم أسباب تخلف الأمة في الوقت الحالي، فكثيرًا ما تجد طبيبًا أو مهندسًا لا يعرف قراءة آيتين من آي الكتاب الحكيم، فاللَّه سبحانه وتعالى لا يوفق إلا من كان مخلص العمل له وحده، والذي لا يعرفه الكثيرون أن كبير علماء آل عثمان الدينيين الشيخ الشامي (شمس الدين آق) والذي كان هو من غرس في وجدان (محمد الفاتح) روح البطولة وحثه على فتح "القسطنطينية"، كان في نفس الوقت مخترعًا عظيمًا من مخترعي أمة الإسلام، فلقد كان كان هذا الشيخ الجليل هو أول إنسان يكتشف "الميكروب"! (التنوع المعرفي): من الأشياء التي كنت أسمعها سابقًا في أيام الدراسة عند سؤالي لأحد الزملاء عن عاصمة إحدى الدول، أنه كان يقول لي: "لا أعرف، فأنا أدرس في القسم العلمي وليس

في الأدبي! " والحال نفسه مع طلاب القسم الأدبي إذا سُئلوا عن درجة غليان الماء مثلًا! أما علماء الإسلام فلم يكونوا بهذا التخاذل، فلقد برع العالم الواحد في الفقه والحديث والفلك والشعر والجبر واللغة والفلسفة والكيمياء في آن واحد. (التميز الأدائي): كان الشعار الموحد لعلماء المسلمين هو: إذا غامرت في شرفٍ مروم. . . . فلا تقنع بما دون النجوم فالعلماء المسلمون تميزوا عن باقي علماء البشر بأنهم على الرغم من انفتاحهم على علوم من قبلهم دون تعصب، فإنهم لم يقلدوا، بل ابتكروا، فابتكر المسلمون علومًا جديدًا لم تكن معروفة قبلهم (كما سنرى)! وثابت بن قرة جمع في عبقريته الفذة هذه الصفات الثلاث، فكانت بدايته كبداية كل عالم مسلم بالمساجد والكتاتيب، فتعلم اللغة العربية (أساس البداية الصحيحة!) والشعر والفقه والحديث وعلوم القرآن الكريم. وعندما أتم ثابت الخامسة عشرة من عمره، التحق بحلقات العلم في المسجد الجامع بحرّان، ليتلقى تعليمه العالي وليتعلم بجانب العربية اللغتين السريانية واليونانية، ثم تلقى ثابت بحلقات هذا المسجد دروس الفلسفة والرياضيات والفلك والمنطق والطب بهذه اللغات الثلاث، ودرس الكتب المعتمدة في العلوم البحتة، وهي كتب: أرسطو وأفلاطون وإقليدس وجالينوس ثم برز ثابت بين أقرانه في المسجد الجامع الكبير، وتميز بعقليته الموسوعية في الفلسفة والرياضيات خاصة، فأجيز ثابت في العلم والتدريس، فصار له الحق في كشف أسرار العلم، وتفسير كتب أرسطو وأفلاطون وإقليدس وغيرهم، ليتصدر ثابت بن قرة التدريس بالمسجد الجامع الكبير وهو في العشرين من عمره فقط عام 230 هـ، فذاعت شهرته في الآفاق، وأخذ يدرس طلاب العلم بالمسجد الجامع كتاب "المخروطات" لأبولونيوس الصوري، وكتاب "الإيقاع الهرموني" لأرستكسينوس التارنتي. وبرع ثابت في علم الهندسة حتى قيل عنه أنه أعظم هندسي مسلم على الإطلاق، وقال عنه المؤرخ العالمي المشهور "يورانت ول": "ثابت بن قرة أعظم علماء الهندسة المسلمين، فقد ساهم بنصيب وافر في تقدم الهندسة، وهو الذي مهد لإيجاد علم التكامل والتفاضل، كما استطاع أن يحل المعادلات الجبرية بالطرق الهندسية، وتمكن من تطوير وتجديد

نظرية فيثاغورس، واستطاع أن يعطي حلولا هندسية لبعض المعادلات التكعيبية التي عجز عنها علماء الإغريق العظام". كما كان ثابت بن قرة من المولعين بالفلك، فأخذ يدرس الشمس وحركتها دراسة دقيقة، فقد كتب عنه المؤلف (سيدني فيش) في كتابه "الشرق الأوسط": "درس العالم الإسلامي ثابت بن قرة حركة الشمس وحسب طول السنة الشمسية فوجدها 365 يومًا و 6 ساعات و 9 دقائق و 10 ثوان بالضبط، أي أكثر من الحقيقة بأقل من نصف ثانية! ". وبرع عالمنا الإسلامي أيضًا في الرياضيات بجميع فروعها، وأضاف إليها إضافات عظيمة أثارت إعجاب علماء الغرب ودهشتهم، والجدير بالذكر أن تعميم نظرية فيثاغورس وابتكار قانونين أحدهما في إيجاد الأعداد المتحابة، والأخر للمربعات السحرية، لا يرجع إلى لأي عالم غربي، بل يعود في الأساس إلى عالمنا العظيم ثابت بن قرة. والشيء الذي لا يعلمه الكثيرون من أبنائنا من المنبهرين بالحضارة الغربية وعلمائها أن أساس نظريات (جاليليو) و (جاوس) و (نيوتن) و (اويلر) و (فارادي) مستمدٌ بالكلية من نظريات العالم الإسلامي العظيم ثابت بن قرة الذي لم يسمعوا عنه في حياتهم! فقد اكتشف ابن قرة قبل حوالي 1200 سنة من الآن نظرية حيَّرت العلماء إلى يوم الناس هذا! فلقد اكتشف هذا العالم المسلم في ذلك الوقت المتقدم من التاريخ الظاهرة الفلكية المعروفة باسم "هزة الاعتدالين"، وقد فسر ثابت بن قرة هذه الظاهرة بأن محور دوران الأرض يهتز أو يترنح كما تترنح النحلة، وهي تقف وتدور حول محورها، فتروح متمايلة هنا وهناك! وقال بأن ترنح محور الأرض له دورة كاملة تستغرق نحوًا من ستٍ وعشرين ألف سنة، بمعنى أن المحور لا يشير دائما إلى النجم القطبي. (أكد علماء وكالة الفضاء الأمريكية "ناسا" قبل عدة سنوات فقط وبواسطة أجهزة الكمبيوتر العملاقة صحة هذه النظرية!). ولثابت أعمال جليلة وابتكارات مهمة في الهندسة التحليلية التي تطبق الجبر على الهندسة، ويُعزى إليه العثور على قاعدة تستخدم في إيجاد الأعداد المتحابة، كما يعزى إليه تقسيم الزاوية ثلاثة أقسام متساوية بطريقة تختلف عن الطرق المعروفة عند رياضيي اليونان وأبدع العالم الإسلامي ثابت بن قرة في الطب أيضًا، فكان أول إنسان على وجه الأرض يشرِّح العين تشريحًا علميًا

تفصيليًا، فكان ثابت وبجدارة أبا طب العيون على مر العصور، وقد أحصى مؤرخو العلوم والعلماء في موسوعاتهم لثابت بن قرة 180 كتابا في علوم: الرياضة، والطب، والطبيعة، والفلسفة، والفلك، والأخلاق، والفقه، والحديث، والأحياء، والهندسة، والجبر، والتفاضل. وبعد أن استعرضنا بعض منجزات هذا العالم الإسلامي العملاق، ينبغي علينا أن نقف قليلًا مع أنفسنا لكي نتأمل أحوالنا قليلًا، فكم منّا يعرف أساسًا ما هو علم التفاضل والتكامل؟ أما آن الأوان لكي نخجل من أنفسنا قليلًا ونبدأ بتنفيذ أول أمر إلهي إلى أمة محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-. . . "اقرأ"؟! وعالمنا القادم هو أكثر مدعاة للدهشة من سابقه! لذلك ننتقل الآن معًا من شرق العالم الإسلامي في الشام المباركة، إلى غرب العالم الإسلامي في الأندلس الرائعة، ولكن هذه المرة ليس بقطار التاريخ الإسلامي، بل بطائرة التاريخ الإسلامي! لنراقب من نافذة غرفة الاختراعات الإسلامية في "قرطبة" عالما إسلاميًا جديدًا، وهو منهمكٌ في عمله لاختراع أول طائرة في تاريخ العنصر البشري! هذه الطائرة مكتوبٌ على جناحها الأيمن بأحرفٍ عربية واضحة عبارة: "صُنعَ في بِلادِ الإسْلام"! يتبع. . . . . .

61 - أول رائد فضاء في التاريخ (عباس بن فرناس)

" أول رائد فضاء في التاريخ" (عباس بن فرناس) " تفرد العلم الإسلامي بأنه لم ينفصل عن الدين قط، والواقع أن الدين كان ملهمه وقوته الدافعة الرئيسة، ففي الإسلام ظهر العلم لإقامة الدليل على الألوهية" (روم رولان) "نحن مدينون للمسلمين بكل محامد حضارتنا في العلم والفن والصناعة، وحسب المسلمين أنهم كانوا مثالًا للكمال البشري، بينما كنا مثالًا للهمجية" (ليوبولد فايس) "إن ما يدين به علمنا لعلم العرب ليس فيما قدموه لنا من كشوف مدهشة ونظريات مبتكرة فحسب، بل إنه مدين لهم بوجوده ذاته" (بريفولت) "إن انتصارات المسلمين العلمية المتلاحقة جعلت منهم سادة للشعوب المتحضرة، لدرجة تجعلها أعظم من أن تُقارَن بغيرها" (زيغريد هونكه) "من أراد الدليل فليقرأ القرآن وما فيه من نظرات ومناهج علمية، وقوانين اجتماعية، وإذا طُلبَ مني أن أحدّد معنى الإسلام فإني أحدده بهذه العبارة: الإسلام هو الحضارة! " (ويلز) "ما يدرينا أن يعود العقل الإسلامي الوَلود إلى إبداع الحضارة من جديد؟ فإذا كان المسلمون يمرون الآن بمرحلة انحدار حضاري، فإن أوروبا المتعجرفة نفسها كانت كذلك قبل نهوضها" (رينان) "أيها المسلمون! ما دام كتابكم المقدس عنوان نهضتكم موجودًا بينكم، وتعاليم نبيكم محفوظة عندكم، فارجعوا إلى الماضي لتؤسسوا المستقبل" (غريسيب)

لعل هذا العالم الإسلامي العظيم -عباس بن فرناس- كان من بين الأسباب الرئيسية التي دفعتني إلى كتابة هذا الكتاب! فقصة عباس بن فرناس بالذات تلخص حكاية الحضارة الإسلامية بأكملها، فهذا العالم البربري ظهر في الأندلس منبع الحضارة الإنسانية، وكغيره من باقي علماء الإسلام أبدع عباس ابن فرناس في كل شيء، فالذي لا يعرفه الكثير منا أن ابن فرناس لم يكن أول رائد فضاء في التاريخ فحسب، بل كان هذا العالم الإسلامي العبقري شاعرًا مفوَّهًا وفقيهًا ورِعًا وفلكيًا وطبيبًا وصيدليًا ورياضيًا وكيميائيًا وفيزيائيًا وفيلسوفًا ونحويًا ومخترعًا! فكان أول إنسان في التاريخ يخترع صناعة الزجاج من الحجارة والرمل، واخترع ابن فرناس أيضًا "المنقالة" (آلة لحساب الزمن)، واخترع "ذات الحلق" (آلة للرصد الفلكي)، وكان سقف بيت هذا الإنسان العبقري عبارة عن قبة عجيبة صممها على هيئة السماء بنجومها وغيومها وبروقها ورعودها والشمس والقمر والكواكب كما ذكر (الزركلي) وغيره من المؤرخين والمترجمين لحياة عباس بن فرناس، ولكن الأهم في قصة عباس بن فرناس أنها قصة تتلخص فيها نظرية "الغزو التاريخي"، فتاريخ هذا العالم الإسلامي العبقري تعرض للتشويه والتزوير بشكل مخيف للغاية، لدرجة تحول فيها هذا العالم الإسلامي العظيم إلى مجرد رجلٍ مجنون! وبغض النظر عن تلك التجربة الرائدة في عالم الطيران، وبغض النظر عن أن عباس بن فرناس نجح بالطيران وحلق في سماء قرطبة قبل أن يهبط على الأرض من دون أن يموت (على عكس ما تعلمناه في مدارسنا)، فإني في الحقيقة أشفق على أمثال أولئك الشباب المهزومين داخليًا، والذين فقدوا احترامهم لأنفسهم قبل أن يفقدوه من الآخرين، إلا أنني لا أضع كل اللوم على أولئك المساكين، بل أضعه على عاتق علمائنا الذين أهملوا الجانب التاريخي للحضارة الإسلامية، ولذلك فإننا سنحاول من خلال ذكر قصة بطلنا الإسلامي القادم أن نبين عظم الخديعة الكبرى التي نعيشها أنا وأنت، ومدى التزييف التاريخي الفظيع الذي لحق بتاريخ البشرية بشكل عام، قبل أن يلحق بتاريخ الإسلام بشكلٍ خاص! فإذا كنت تعتقد أن (كريستوفر كولومبوس) هو الذي اكتشف أمريكا، فما عليك إلا أن تنزل من طائرة ابن عباس التي طرنا بها إليه، لتستقل هذه المرة سفينة التاريخ الإسلامية، لنبحر بها سويةً إلى بحر "مرمرة" نحو تركيا، فنرسوا هناك في ميناء مدينةٍ تركيةٍ يقال "غاليبولي" حيث وُلد عظيمنا القادم! يتبع. . . . .

62 - مكتشف أمريكا (بيري رئيس)

" مكتشف أمريكا" (بيري رئيس) " إن أبناء غاليبولي أمضوا حياتهم في البحر كالتماسيح، وكانت أسرّتهم القوارب، وهدهدتهم البحر والسفن ليلًا ونهارًا" (المؤرخ العثماني: ابن كمال) هناك معلومات تاريخية رضعناها منذ الصغر وكأنها حقائق كونية أنزلها اللَّه على البشر فلم تعد قابلة للنقد "بالدال" أو النقض "بالضاد"! بل إنه في كثير من الأحيان ما يُتهم فيها مكذب هذه الحقائق المزيفة بالجهل والتخلف، وقد ذكرنا خلال فصول سابقة في هذا الكتاب أن من أهم بنود "نظرية الغزو الثقافي" هو تشويه تاريخ أبطالنا ورموزنا والمبالغة في تمجيد أبطال الغرب وتعظيمهم، وذكرنا أيضًا أن هناك بندٌ آخر مهم: ألا وهو طمس سيرة أبطال الإسلام الحقيقيين وإبدالها بحكاياتٍ أبطالٍ خرافيين لا مكان لهم في التاريخ فضلًا عن الوجود، والحقيقة أن بطلنا الإسلامي هذا نال الشرفين من أولئك الغزاة، فهو معروفٌ في الأدب الغربي كقرصان بحار، على الرغم من كونه أمير بحر إمبراطورية آل عثمان الإسلامية، أما في الأدب العربي. . . . فلا ذكر له أصلًا، ففي الوقت الذي نجد أن وسائل الإعلام العربية ومناهجنا التربوية لا تذكر اسمه من قريب أو بعيد، نجد أن تلك الوسائل ذاتها هي التي تمجد شخصية خرافية مثل "سندباد" والتي لا محل لها في الوجود التاريخي أصلًا، فمن هو سندباد؟ وما اسم أبيه؟ وأي كتاب ترك؟ لا شيء على الإطلاق طبعًا، فهو شخصية عديمة الوجود زرعها في أدمغتنا غزاة التاريخ لكي نكون نحن أيضًا عديمي الوجود مثله!! وقصص سندباد الخرافية مع طائر العنقاء ومغامراته لا تساوي شيئًا أمام مغامرات هذا البطل الإسلامي الحقيقي: بيري رئيس رحمه اللَّه تعالى. وقصة هذا العظيم تعود إلى (الأخوان بربروسا) اللذان سبق لنا وأن تحدثنا عنهما في بداية الكتاب، فلقد قام بيري رئيس أيضًا بالمساهمة في إنقاذ المسلمين الأندلسيين من

الإرهابيين الإسبان بعد أن حرر النساء والأطفال من أقبية الكنائس المظلمة حيث غرف التعذيب المخيفة، ثم قام هذا البطل الإسلامي الفذ بمحاربة البرتغاليين الصلبيين الذين أرادوا نبش قبر رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فحاربهم في عدن وعمان وهرمز، ثم توجه إلى أمواج البحر المتوسط ليحارب قراصنة القديس يوحنا الذين طغوا في البلاد وأكثروا فيها الفساد، ورغم جهاد هذا البطل الإسلامي الطويل، نراه في نفس الوقت عالمًا عبقريًا قل نظيره، فلقد أتقن اليونانية والإسبانية والبرتغالبة والإيطالية لكي يعرف لغة أعدائه، ثم تقدم بأبحاثه للخليفة سليم الأول رحمه اللَّه يوضح فيها آخر اكتشافاته الجغرافية، حتى جاء ذلك اليوم الذي غير تاريخ الإنسان، يوم إكتشاف أمريكا. . . . ففي عام 870 هـ 1465 م أي قبل اكتشاف كولومبوس بحوالي 27 عامًا، اكتشف أمير البحرية الإسلامية بيري أمريكا، بل وقام برسم خارطة لهذه القارة أذهلت العلماء بعد أن وجدوا التطابق العجيب بينها وبين صور الأقمار الصناعية، فلقد قام بيري رئيس برسم سواحل أمريكا بمنتهى الدقة، قبل أن يقدمها إلى السلطان سليم الأول في مصر عام 1517 م وهي موجودة الان في متحف "إسطانبول" وعليها توقيع الرئيس بيري شخصيًا. فقد رسم بيري جزر البحر الكاريبي، ورسم جزيرة كوبا بشكل ممتاز، ولم يكتف بذلك وحسب، بل قام برسم خارطة لنهر الأمازون العظيم، فرسم مصباته ومنابعه المتعددة، ورسم في خريطته العجيبة أنواع الحيوانات المتواجدة في أدغال الأمازون، ووضع فيها مقياسًا دقيقًا لخطوط العرض والطول التي أخترعها العلماء المسلمون من قبل، والجدير بالذكر أن هذه الخريطة التي رسمها الريس بيري لأمريكا هي الخريطة الأولى لأمريكا في التاريخ. ونذكر هنا أنه بتاريخ 26 أغسطس

عام 1956 م عُقدت في جامعة "جورج تاون" الأمريكية ندوة عن خرائط الريس بيري اتفق الجغرافيون المشتركون فيها بأن خرائط بيري لأمريكا "اكتشاف خارق للعادة" فلقد كان الرئيس بيري على معرفة بوجود أميركا قبل اكتشافها بعشرات السنين، والدليل على ذلك ما يقوله في كتابه الماتع المليئ بالمغامرات المدهشة "كتاب البحرية" "إن بحر المغرب -يقصد المحيط الأطلسي بحر عظيم يمتد بعرض 2000 ميل تجاه الغرب من بوغار سبته وفي طرق هذا البحر العظيم توجد قارة هي قارة أنتيليا وبذلك استحق أمير البحرية الإسلامية العثمانية بيري رئيس رحمه اللَّه أن يخلد اسمه في صفحات التاريخ الإنساني، وقد آن الأوان لكي ننفض الغبار عن تاريخ عظمائنا، لكي نقدمه إلى أبنائنا، ليكونوا لهم نباريسًا تضيئ لهم درب النهوض الإسلامي القادم والقريب بإذن اللَّه. ولكن. . . . هناك شيء غريب وجده بيري الرئيس عندما وصل إلى أمريكا! لقد وجد أناسًا يتكلمون بالعربية هناك!!! ليكتشف بذلك سرًا من أخطر أسرار التاريخ الإنساني. فإذا كنت مستعدًا لمعرفة تفسير هذا اللغز الخطير الذي لو علمه سكان الأرض لتغير وجه التاريخ، فخذ نفسًا عميقًا ستحتاجه لمتابعة القصة العجيبة التالية! يتبع. . . . . .

63 - المسلمون الذين لا يعرفهم المسلمون (الهنود الحمر!)

" المسلمون الذين لا يعرفهم المسلمون" (الهنود الحمر!) " إن كريستوفر كولومبس كان واعيًا الوعي الكامل بالوجود الإسلامي في أمريكا قبل مجيئه إليها" (ليون فيرنيل) بروفسور جامعة هارفرد في كتابه "أفريقيا واكتشاف أمريكا" Africa and the discovery of America"" عندما بدأت هذا الكتاب لم أكن أطمع بأكثر من عظيم إسلامي واحدٍ من قارتي أمريكا الشمالية والجنوبية لكي أضيفه إلى صفحات هذا الكتاب لأثبت أن هذا الدين دين عالمي، ولكنني صُعقت من المفاجأة عندما علمت أن سكان أمريكا بأسرهم كانوا مسلمين!!! وقبل أن يتهمني البعض بالجنون لما سأعرضه من معلومات تاريخية خطيرةٍ، ينبغي علينا أولًا، أن نراجع معًا ما تعلمناه سابقًا في كتب التاريخ المدرسية التي هي انعكاسٌ طبيعيٌ لكتب التاريخ الغربية: فلقد تعلمنا أن قارتي أمريكا الشمالية وأمريكا الجنوبية كانتا قارتين مجهولتين حتى عام 1492 م عندما اكتشفها بحار إيطالي اسمه (كريستوفر كولمبوس)، وهناك وجد هذا البحار الإيطالي الذي كان يعمل لصالح ملكي إسبانيا (فرناندو) و (وايزابيلا) أناسًا يعيشون في تلك الأرض، فظن أنهم من الهنود، فأسماهم (الهنود الحمر) للونهم الأسمر المائل للحمرة، ثم جاء (أميركو فاسبوتشي) وهو أحد البحارة الإيطاليين ليكتشف أن تلك الأرض ليست الهند وإنما هي قارة جديدة (ومنها جاءت تسمية أمريكا!)، ولأن الهنود الحمر لم يكونوا متحضرين، ولأنهم كانوا من آكلي لحوم البشر (كما تصورهم السينما الأمريكية دائمًا) فلقد تطوع الأوروبيون البيض بنشر الحضارة والثقافة في أوساط الهنود الحمر، ولكن الغريب أن عشرات

ملايين الهنود الحمر تم قتلهم من قبل الأوروبيين البيض في تلك الفترة التي كان من المفروض أن تكون لنشر الحضارة والمدنية في أوساطهم! انتهت الرواية الغربية. الحقيقة أن هذه الرواية التاريخية لا تعدو مجرد هراء أراد الأوروبيون فيه تبرير إبادتهم للشعب الهندي الأحمر، والمحزن في الأمر أننا تقبلنا هذه الرواية وكأنها حقيقة تاريخية، ولكن هذا الوقت قد فات وولى، فلقد آن الأوان لشباب هذه الأمة أن ينتفضوا في وجه غزاة التاريخ، وأن يعيدوا كتابة التاريخ لا أقول من منظور إسلامي، بل من منظور إنساني شامل، بعيدًا عن التزييف والتحيز لأي طرف، فالسر الخطير الذي ظل طي الكتمان في أرشيفات إسبانيا والبرتغال لمئات السنين هو أن الهنود الحمر كانوا شعوبًا إسلامية تمت إبادتهم من دافعٍ صليبي حاقد على الإسلام والمسلمين، وقبل أن يظن القارئ أن هذا الكلام ما هو إلا خيال كاتب يؤمن بنظرية المؤامرة، ينبغي علينا أن نستعرض الحقائق التاريخية التي توصلت إليها من خلال دراستي لهذا الموضوع الخطير، والآن لنستعرض سوية تاريخ الإسلام في أمريكا، وأترك المجال للقارئ الكريم بعد ذلك ليحكم بنفسه: (القرن الأول الهجري) بداية قصة الإسلام في أميركا بدأت مبكرًا من على ظهر فرس عربية أصيلة كانت تجري على الضفة الشرقية للمحيط الأطلسي في عام 63 هـ، وفوق هذه الفرس كان يركب فارسٌ من بني أمية اسمه (عقبة بن نافع) هو ابن خالة الفاتح الإسلامي العظيم -الأموي أيضًا- (عمرو ابن العاص)، هذا الفارس المسلم نظر إلى المحيط الأطلسي وعيونه تفيض بالدموع ليرفع يديه في علياء السماء ويقول بصوتٍ خالطت نبراته هدير أمواج بحر الظلمات: "اللهم لو كنت أعلم ان وراء هذا البحر أرضًا لخضته إليها في سبيلك حتى أعلي عليها كلمة لا إله إلا اللَّه"! (القرن الأول الهجري) الإمام الشعبي قال شيئًا عجيبًا ورد في كتاب (الحث على التجارة) لأبي بكر الخلال حيث قال "إن للَّه -عز وجل- عبادًا من وراء الأندلس كما بيننا وبين الأندلس ما يرون أن اللَّه تعالى عصاه مخلوق رضراضهم الدر والياقوت، جبالهم الذهب والفضة لا يحرثون ولا يزرعون ولا يعملون عملا لهم شجر على أبوابهم لها ثمر هي طعامهم وشجر لها أوراق عراض هي لباسهم"!!!!

(القرن الرابع الهجري) ذكر المؤرخ المسعودي كتابه "مروج الذهب ومعادن الجوهر" المكتوب عام 956 م وأبو حامد الغرناطي أن أحد المغامرين من قرطبة واسمه الخشخاش بن سعيد بن الأسود، عبر بحر الظلمات مع جماعة من أصحابه إلى أن وصل إلى الأرض وراء بحر الظلمات، ورجع سنة 889 م، وقال الخشخاش لما عاد من رحلته بأنه وجد أناسا في الأرض التي وصلها، ولذلك لما رسم المسعودي خريطة للعالم، رسم بعد بحر الظلمات أرضا سماها: الأرض المجهولة بينما يسميها الإدريسي بالأرض الكبيرة أي إنه في القرن التاسع الميلادي كان المسلمون يعرفون أن ثمة أرضا وراء بحر الظلمات (وردت سيرة هؤلاء المغامرين وهم أبناء عمومة في كتابات المؤرخ الجغرافي كراتشكوفسكي وتم توثيقها عام 1952 م في جامعة وايتووتر البرازيلية) (القرن الخامس الهجري) الشيخ البربري ياسين الجزولي (والد الشيخ عبد اللَّه بن ياسين مؤسس جماعة المرابطين) قطع المحيط الأطلسي وذهب إلى المناطق شمال البرازيل مع جماعات من أتباعه، ونشر فيها الإسلام وأسس منطقة كبيرة كانت تابعة للدولة المرابطية ولا تزال هناك مدنًا تحمل أسماء مدنٍ إسلامية مثل (تلمسان) و (مراكش) و (فاس) إلى يوم الناس هذا. (القرن السادس الهجري،) الشريف الإدريسي الذي عاش في القرن الثاني عشر الميلادي بين 1099 - 1180 م، ذكر في كتابه "الممالك والمسالك" قصة الشباب المغامرين وهم: جماعة خرجوا ببواخر من إشبونة " Lisbon" (عاصمة البرتغال الآن) وكانت في يد المسلمين وقتها، وقطع هؤلاء المغامرون بحر الظلمات، ورجع بعضهم، وذكروا قصتهم وأنهم وصلوا إلى أرض وصفوها ووصفوا ملوكها. والغريب في الأمر أنهم ذكروا أنهم وجدوا أناسا يتكلمون بالعربية هناك!!! وإذا كان أناس يتكلمون بالعربية هناك فهذا دليل على أن أناسا كثيرين وصلوا قبلهم إلى هناك، حتى تعلم أهلها العربية ليكونوا ترجمانا بينهم وبين الملوك المحليين، وعلى أنه كان هناك وجود إسلامي في ذلك التاريخ على تلك الأرض. والوصف الذي أعطاه هؤلاء المغامرون يظهر أنه وصف للجزر الكارابية، كوبا أو إسبانيولا. (عام 1327 م) المؤرخ الإسلامي شهاب الدين العمري يذكر قصة عجيبة في كتابه

"مسالك الأبصار وممالك الأمصار" بأن سلطان إمبراطورية مالي المسلم (منسا موسى) رحمه اللَّه لما ذهب للحج عام 1327 م، أخبره بأن سلفه أنشأ مائتي سفينة وقطع المحيط الأطلسي نحو الضفة الأخرى المجهولة وأنابه عليه في حكم مالي ولم يعد قط! وبذلك بقي هو في الملك وقد وُجدت بالفعل كتابات في البيرو والبرازيل وجنوب الولايات المتحدة تدل على الوجود الإفريقي الإسلامي من كتابات إما بالحروف الكوفية العربية أو بالحروف الإفريقية بلغة الماندينك؛ وهي لغة لشعب كله مسلم الآن، يسمونهم: "الفلان"، وكذلك تركت اللغة المانديكية آثارا لها في الهنود الحمر إلى يومنا هذا (وهناك قبائل هندية إلى يومنا هذا ما زالت تكتب بحروف لغة الماندينك الإسلامية!) (عام 1493 م) كريستوفر كولومبوس نفسه يكتب في مذكراته "إن الهنود الحمر يلبسون لباسا قطنيا شبيها باللباس الذي تلبسه النساء الغرناطيات المسلمات" وذكر أنه وجد في كوبا مسجدًا، والجدير بالذكر أن أول وثيقة هدنة بين كرستوفر والهنود الحمر كانت موقعة من طرف رجل مسلم (الوثيقة موجودة في متحف تاريخ أمريكا بتوقيع بحروف عربية من رجل من الهنود الحمر اسمه محمد!!!) (عام 1564 م) رسم الأوروبيون خريطة لفلوريدا في أمريكا تظهر فيها مدنا ذات أسماء توجد في الأندلس والمغرب مثل (مراكش) و (ميورقة) و (قادس)، ولكي تكون أسماء عربية هناك، فبالضروري كانت هجرة عربية قبل مائة أو مائتي عام من ذلك التاريخ على الأقل. (عام 1929 م) اكتشف الأتراك صدفة خريطة للمحيط الأطلسي رسمها بيري رئيس، الذي كان رئيس البحرية العثمانية في وقته، وذلك سنة 919 هـ/ أي: حوالي: 1510 - 1515 م، (وهي نفس الخريطة التي عرضناها في هذا الكتاب) الغريب فيها أنها تعطي خريطة شواطيء أمريكا بتفصيل متناه غير معروف في ذلك الوقت بالتأكيد، بل ليس الشواطيء فقط، بل أتى بأنهار وأماكن لم يكتشفها الأوروبيون إلا أعوام 1540 - 1560 م، فهذا يعني -وكما ذكر بيري رايس- بأن هذه الخريطة مبنية على حوالي تسعين خريطة له وللبحارين الأندلسيين والمغاربة الذين قدموا قبله، فسواء هو أو المسلمون قبله سيكونون عرفوا قطعا تلك المناطق، وعرفوا اسمها قبل الأوروبيين

والغريب في الأمر أنه أظهر بالتفصيل جبال الأنتس التي هي جبال تشيلي في أقصى غرب قارة أمريكا الجنوبية، التي لم يصلها الأوروبيون إلا عام 1527 م، وأظهر أنهارا في كولومبيا، ونهر الأمازون بالتفصيل، ومصبه الذين لم يكونا معروفين عند الأوروبيين ولا موجودين في خرائطهم. (عام 1920 م) البروفيسور ليون فيرنيل الذي كان أستاذا في جامعة هارفرد، كتب كتابًا اسماه: " أفريقيا واكتشاف أمريكا"، " Africa and the discovery of America" يقول فيه: "إن كريستوفر كولومبس كان واعيا الوعي الكامل بالوجود الإسلامي في أمريكا"، وركز في براهينه على براهين زراعية ولغوية وثقافية، وقال بأن المانديك المسلمين بصفة خاصة انتشروا في وسط وشمال أمريكا، وتزاوجوا مع قبيلتين من قبائل الهنود الحمر، وهما: "إيروكوا" و"الكونكير" في شمال أمريكا، وانتشروا -كما ذكر- في البحر الكاريبي جنوب أمريكا، وشمالا حتى وصلوا إلى جهات كندا! (عام 1960 م) جيم كوفين "كاتب فرنسي ذكر في كتابه: " Les Berberes d Amerique" " بربر أمريكا"، بأنه كانت تسكن في أمريكا قبيلة بربرية مسلمة اسمها "المامي"، " Almami"، وهي كلمة معروفة في أفريقيا الغربية ومعناها: "الإمام"، وهي تقال عن زعماء المسلمين، وذكر بأن أكثريتهم كانت في الهندوراس في أمريكا الوسطى، وذلك قبل كريستوفر كولومبس. (عام 1978 م) كذلك في كتاب "التاريخ القديم لاحتلال المكسيك"، " Historia Antigua de la conquesta de Mexico " لمانويل إيروسكو إيبيرا، قال: "كانت أمريكا الوسطى والبرازيل بصفة خاصة، مستعمرات لشعوب سود جاؤوا من أفريقيا وانتشروا في أمريكا الوسطى والجنوبية والشمالية". (عام 1775 م) اكتشف الراهب فرانسسكو كارسيس، عام 1775 م قبيلة من السود مختلطة مع الهنود الحمر في نيوميكسيكو في الولايات المتحدة الأمريكية "المكسيك الجديدة"، واكتشف تماثيل تظهر في الخريطة المرفقة تدل دلالة كاملة بأنها للسود. وبما أنه لا يوجد في أمريكا سود، فلا شك أنهم كانوا هم المسلمون الأفارقة الذين ذهبوا لنشر الإسلام في أمريكا.

(عام 1946 م) "مييراموس" في مقال في جريدة اسمها: "ديلي كلاريون"، " Daily Clarion" في "بيليز"، وهي إحدى الجمهوريات الصغيرة الموجودة في أمريكا الوسطى، بتاريخ عام 1946 م: "عندما اكتشف كريستوف كولومبس الهند الغربية، أي: البحر الكاريبي، عام 1493 م، وجد جنسا من البشر أبيض اللوق، خشن الشعر، اسمهم: "الكاريب"، كانوا مزارعين، وصيادين في البحر، وكانوا شعبا موحدا ومسالما، يكرهون التعدي والعنف، وكان دينهم: الإسلام، ولغتهم: العربية"! (عام 2000 م) لويزا إيزابيل أل فيريس دو توليدو، " Luiya Isabel al ferris Do Tolido"، وهي دوقة مدينة سيدونسا" Cedonia "، اكتشفت بالصدفة وهي ترمم قصرها في مدينة باراميدا " San Luca De paramida"، وثائقًا إسلامية مكتوبة بالعربية ترجع إلى العهد الأندلسي، في هذه الوثائق وصف كامل لأمريكا والمسلمين فيها قبل كريستوفر كولومبس، خبأها أجدادها الذين كانوا حكام إسبانيا وكانوا جنرالات في الجيش الإسباني، وكانوا حكام الأندلس وأميرالات البحرية الإسبانية. وقد خافت أن يحرقها الإسبان بعد موتها، فقامت بوضعها في كتاب قبل أن تموت سنة 2008 م، وهذا الكتاب اسمه " Africa versus America". وفيه تفاصيل الوجود الإسلامي في أمريكا. يجدر الإشارة أن الإكتشافات الأثرية الحديثة أثبتت وجود كتابات بالعربية منحوتة على جدران الكهوف في أمريكا، وفي عاصمة بورتوريكو القديمة سان خوان اكتشفت بعض الأحجار الصخرية مكتوبًا عليها لا غالب إلا اللَّه باللغة العربية! ووُجد على باب أحد المنازل القديمة بنفس المدينة فوق الباب وعلى جانبيه باللغة العربية على الفسيفساء الجميل نفس الكلام. . . . . لا غالب إلا اللَّه! وقد وُجدت نقوش في سقوف كنائس باهيا والسلفادور فيها عدة آيات من القرآن الكريم دون أن يشعر أحدٌ لأن أيًا منهم لا يجيد العربية، فهل كانت هذه الكنائس في الأصل مساجدًا للهنود الحمر؟! أما بعد. . . . فكما رأينا يتضح أن المسلمين كانوا قد هاجروا إلى أمريكا قبل مئات السنين من دخول كولمبوس لها، ولكنهم لم يهاجروا ليسرقوا الذهب وليبيدوا السكان الأصليين، بل ذهب المسلمون إلى أمريكا ليحملوا رسالة السلام، رسالة العدل، رسالة

لا إله إلا اللَّه، محمدٌ رسول اللَّه، هذه الرسالة التي دخلت قلوب وأرواح السكان المحليين الذين سماهم الإسبان الصليبيون بـ "الهنود الحمر" كما سموا من قبل البطل عرج بـ "برباروسا صاحب اللحية الحمراء"، وعلى ما يبدو أن الصليبيين مغرمون باللون الأحمر، فهو لون الدّم الذي يسفكونه في كل العصور، فلقد كان في الأمريكتين 100 مليونًا من الهنود الحمر أكثرهم المسلمين (إن لم يكن جميعهم!) يعيشون في أمانٍ مع المسلمين العرب والبربر والأفارقة الذين عاشوا بسلامٍ معهم، وتزاوجوا وتخالطوا معهم، وصلوا جميعًا جنبًا إلى جنب، فأين ذهب هؤلاء؟ أين ذهب إخوتنا؟ الآن وبعد مرور أكثر من 500 عام على دخول الكاثوليكية إلى أمريكا لم يبقَ إلا هذه الأعداد الصادمة التي أهديها لكل قذرٍ قال إن الإسلام انتشر بحد السيف وأن الصليبيين هم أهل السلام: من بين 100 مليون هندي لم يبقَ إلا: 200 ألف في البرازيل، 140 ألف في حماية التونا (جماعة تشى جيفارا)، 150 ألف هندى في الولايات المتحدة، 500 ألف في كندا يعيشون في الاقامات الجبرية. 150 ألف في كولومبيا، 250 ألف في الاكوادور، 600 ألف في جواتيمالا، 800 ألف في المكسيك، وعشرة ملايين في البيرو، ومع الأخذ بالإعتبار الزيادة الطبيعية للسكان بعد 500 عام كان من المفترض أن يكون عدد إخواننا من الهنود الحمر الآن ممن يشهدون بشهادة التوحيد يعادل 1000000000 مسلم! أبادوهم أولئك السفلة لسحق الإسلام، فالذي لا يعرفه الكثير منا للأسف أن سنة (اكتشاف!) كولمبوس لأمريكا 492 م هي نفسها السنة التي احتل فيها الصليبيان (فرناندو الثاني من أراجون)، (وايزابيلا الأولى من قشتالة) مدينة غرناطة الإسلامية، آخر معقل للمسلمين في الأندلس، فأرادت هذه القذرة إيزابلا (والتي كانت تفتخر بأنها لم تغتسل في حياتها إلا يوم ولادتها سنة 1451 وليلة دخلتها سنة 1461) أن تسحق المسلمين في أمريكا كما ستسحقهم قريبًا في محاكم التفتيش. والآن وبعد أن اطلعنا على هذه المعلومات الخطيرة التي تعب في جمعها المئات من المسلمين وما كنت أنا إلا مجرد ناقلٍ لها، آن لهذه الأمة أن تتحرك على مستويين اثنين: (المستوى الرسمي): مطالبة الدول الاستخرابية (خاصة إسبانيا والبرتغال) بالكشف عن أرشيفهم السري لمعرفة مصير إخواننا من الهنود الحمر وتعويض من بقي منهم.

(المستوى الشعبي): من كان يستطيع ترجمة هذه المعلومات الخطيرة (للإسبانية بالذات) فليترجمها ولينشرها في ربوع الأرض، ومن كان يستطيع نشرها في الانترنت فليفعل، فلو علم سكان أمريكا الجنوبية من بقايا الهنود الحمر بالذات تاريخ أجدادهم الإسلامي، لأقبلوا على هذا الدين أفواجًا، فمن كان يعرف أي هندي أحمر فلينقل له هذه المعلومات عن تاريخه الذي لا يعرفه، فلعل اللَّه يفتح قلبه للإسلام، كما أسلم من قبل أجداده على يد أجدادنا! ولكن الصليبيين نسوا شيئًا مهمًا في المسلمين. . . . لقد نسوا أننا أمة لا تموت أبدًا فبعد أكثر من قرنٍ ونصف من القتل والتعذيب والتنصير الإجباري، خرج من بين الرماد والركام في أدغال الأمازون البرازيلية، ماردٌ إسلاميٌ عظيم، انتفض على أولئك القتلة الصليبيين، ليقيم دولة البرازيل الإسلامية! يتبع. . . . . . .

64 - رئيس دولة البرازيل الإسلامية (زومبي)

" رئيس دولة البرازيل الإسلامية" (زومبي) " كان هؤلاء المسلمون الأفارقة يشكلون عنصرًا نشيطا مبدعًا، ويمكن أن نقول إنهم من أنبل من دخل إلى البرازيل خلقًا" (جلبير تو فريري) قبل أن نستعرض قصة هذا القائد الإسلامي العظيم الذي أقام دولة الإسلام في البرازيل، أستأذن القارئ الكريم لكي نستعرض سويةً بعض المعلومات التاريخية التي ستعطينا صورة بسيطة عن خلفية الموضوع: فبعد دخول الأوروبيين البيض النصارى إلى الأمريكتين الشمالية والجنوبية، قسّم الأوروبيون الأراضي الجديدة بيينهم على النحو التالي: أمريكا الشمالية بيد الإنجليز والفرنسيين، والجنوبية بين البرتغاليين والإسبان، والحقيقة أن الفرق بين تلك القوى الأوروبية أن فرنسا وإنجلترا قررا البقاء في أمريكا الشمالية والإستيطان فيها، فكان شعارهم مع السكان الأصليين هو: "الهندي الجيد هو الهندي الميت فقط"! أما الصليبيون الإسبان والبرتغاليون فلم يقرروا الاستيطان هناك، فكان شعارهم في أمريكا الجنوبية: "اقتل ثم انهب ثم انقل"! وربما يفسر لنا هذا الفرق الكبير بين اقتصاديات أمريكا وكندا من جهة وبين اقتصاديات دول أمريكا الجنوبية الفقيرة، أما أمريكا الشمالية فسنتعرض قصتها لاحقًا بالتفصيل في غير موضع، وأما الجنوبية فقد تقاسمتها البرتغال وإسبانيا على النحو التالي: تأخذ البرتغال أرض البرازيل الواسعة والغنية، وتأخذ إسبانيا بقية الدول، وفعلًا احتلت البرتغال البرازيل بقوة النار، وقامت بقتل السكان الأصليين هناك لكي تنهب خيراتهم، وكانت عملية النهب الواسعة لنقل أهرامات الذهب إلى البرتغال تحتاج إلى مزيد من الأيدي العاملة، فقاموا بالهجوم على سواحل الدول الإسلامية في الغرب الأفريقي، لكي يدخلوا على القرى الآمنة في منتصف الليل، ليأسروا جميع سكان القرية بشباكهم كالحيوانات، ومن ثم ينقولنهم في سجون في قيعان السفن إلى البرازيل، حتى وصلت أفواج العبيد المسلمين إلى البرازيل لأول مرة عام 1538 م، ولم تمضِ 40 سنة حتى نقل إليها 14 ألف مسلم مستضعف والسكان لا يزيدون على 57 ألفًا، وفي السنوات التالية أخذ

البرتغاليون يزيدون من أعدادهم إذ جلبوا من أنغولا وحدها 642 ألف مسلم زنجي، وجاءوا بجلّ هؤلاء الأفارقة المسلمين من غرب أفريقيا، وتؤكد الوثائق التاريخية المحفوظة في المتاحف البرازيلية، أن أكثرية المنحدرين من الأفارقة الذين جاءوا "كعبيد" إلى البرازيل هم من جذور إسلامية، وأنهم كانوا يقرأون القرآن باللغة العربية، فتعرض هؤلاء المسلمون لحملات قاسية من التنصير، قبل أن يحاول بعضهم الثورة عليهم، ولكن البرتغاليين قمعوا هذه الثورات وأرغموا من بقي من المسلمين على التنصر بقوة النار والحديد. وعندما ظن الصليبيون أنهم أطفأوا نار الإسلام في البرازيل إلى الأبد، خرج من بين رماد تلك النار بطل إسلامي عظيم اسمه (زومبي)، فأشعلها نارًا للانتفاضة الشعبية الإسلامية في جميع أرجاء البرازيل، فقام هذا القائد الإسلامي البطل ومن معه من شيوخ الإسلام بالتوجه إلى أفراد الشعب المضطهد والمستعبد، يعظونهم ويرشدونهم ويفقهونهم في الدين، وينزلون معهم الأكواخ ويعلمونهم القرآن ومبادئ الشريعة الإسلامية السمحاء، وبعد أن ازداد عددهم، وقويت عزيمتهم، أعلن الزعيم زومبي قيام "دولة البرازيل الإسلامية" عام 1643 م، وأعلن في البند الأول في دستورها أن الحرية هي أساس الحكم، فأعلنت البرتغال الحرب على تلك الدولة الإسلامية الناشئة، فانتصرت قوات القائد الإسلامي زومبي عليهم المرة تلو الأخرى، فتوسعت الدولة الإسلامية بشكل كبير، فاحتل البطل زومبي أكثر من عشرين موقعًا لولاية "باهاية" البرازيلية. واستمرت هذه الدولة الإسلامية البرازيلية لأكثر من 50 عامًا قدَّم فيها المسلمون الأحرار أروع صور الإباء والصمود، فقد أظهر السود المسلمون فنونًا من التضحيات الجليلة جعلتهم يصمدون أمام البرتغاليين، عندها قرر إمبراطور البرتغال أن يتدخل شخصيًا لينهِ هذا الحلم الإسلامي الوليد قبل أن ينتشر أكثر فأكثر، فأرسلت البحرية الإمبراطورية آخر ما توصلت إليه آلة القتل البرتغالية ليحاصروا الثوار المسلمين عام 1695 م، قبل أن يستشهدوا واحدًا تلو الآخر! وإذا كان زومبي قد وقف في وجه الصليبيين في أقصى غرب الكرة الأرضية في البرازيل، فإن هناك زومبي آخر وقف في وجه أولئك المجرمين في أقصى شرق الكرة الأرضية في الفلبين، فلم يدمر سفن الصليبيين فحسب، بل قتل بيديه الاثنتين القائد الأعلى للبحرية الإسبانية الصليبيية: القسيس البرتغالي الذي سمّا الغرب مضيق ماجلان على اسمه! يتبع. . . . .

65 - سلطان دولة الفلبين الإسلامية (لابو لابو)

" سلطان دولة الفلبين الإسلامية" (لابو لابو) " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ" من سلطان المسلمين في الفلبين لابو لابو إلى القس البرتغالي ماجلان، وصلني تحذيرك الذي تطلب فيه منا باسم المسيح أن نسلمك أرضنا لزعمك بأن العرق الأبيض أحق وأولى بأرضنا منا، أما أنا فأقول لك باسم اللَّه. . . إن الدين للَّه، وإن الإله الذي نعبده نحن المسلمون هو إله جميع البشر على اختلاف أعراقهم وألوانهم فتقدَّم إلينا يا كلب الصليب! قرأت كتابًا تاريخيًا وأنا في مرحلة الصِّبا يتحدث عن المستكشف البرتغالي البطل (فرديناندو ماجلان)، الذي كان -على حد زعم الكتاب- أول من اكتشف أن الأرض كروية، فاستطاع أن يعبر بسفنه مضيقًا يقع بين أمريكا الجنوبية وجزيرة أرض النار (سمُّي بعدها باسمه) ليصل بعدها للمحيط الهادي، قبل أن يقتله فلبيني من آكلي لحوم البشر في جزر الفلبين، لتنتهي بذلك حياة ذلك الرحالة البرتغالي العظيم. أذكر حينها جيدًا أنني تأثرت بقصة هذا المستكشف البرتغالي، أما الآن وبعد هذه السنين. . . . أدركت جيدًا كم كنت أحمقًا في حينها! فالذي لم تذكره كتب التاريخ العربية والغربية على حد سواء، أن ذلك المستكشف البرتغالي الشجاع لم يكن سوى قسيسٍ صليبيٍ لص، هرب من كنيسته في البرتغال بعد أن اكتشف الناس هناك سرقاته الهائلة من فقراء النصارى، ليتوجه إلى الملك الإسباني الذي كان عدوًا للبرتغال، ليصبح ماجلان جاسوسًا على بلده البرتغال، قبل أن يساهم في سفك دماء المسلمين في محاكم التفتيش الإسبانية، ومن ثم يتوجه للمغرب لقتل الفارين من المسلمين المدنيين، وفي سنة 1519 م، قام هذا القسيس اللص بعقد صفقة خبيثة مع ملك إسبانيا يقوم ماجلان بموجبها بالهجوم على ديار المسلمين الآمنة عن طريق الشرق، ليعمل على تنصير المسلمين بقوة النار في الفلبين، وفعلًا وصل هذا المنصر المسيحي إلى الفلبين سنة 1521 م، ليسرق أموال الأهالي الآمنين فيها، وليغتصب جنود هذا القسيس المسيحي نساء الفلبين، عندها قاومهم الأهالي بأسلحتهم البدائية، فأضرم الإسبان النار في أكواخ السكان، ليفرَّ الفيليبينيون -المسلمون منهم وغير المسلمين- إلى

جزيرة "ماكتان" التي يحكمها حاكمٌ مسلم اسمه (لابو لابو) رفض التسليم لماجلان على الرغم من أن ملوك الجزر الفلبينية الأخرى استسلموا لهذا القس الصليبي، فأدرك ماجلان أنه أمام نوعية أخرى من البشر، هذه النوعية هي نوعية المسلمين الذين خبرهم جيدًا في الأندلس والمغرب، فبعث له برسالة يتوعده فيها ويقول: "إنني باسم المسيح أطلب إليك التسليم لأننا العرق الأبيض أصحاب الحضارة أولى منكم بهذه البلاد، فنظر هذا القائد الإسلامي البطل إلى هذه الرسالة التي تطفح بالعنصرية القذرة، وقارنها برسالة السلام التي جاء بها المسلمون قبل ذلك على يد التجار العرب والدعاة القادمين من الصين وسومطرة، قبل أن يسلم أهل الفلبين طواعية عام 1380 م وليس بقوة النار كما أراد لهم الصليبيون، فأعلن لابو لابو الثورة الكبرى على ماجلان في الجزر الفليبينية! وفعلًا، قام هذا القائد الإسلامي البطل بتشكيل جيشٍ قوامه من المدنيين المسلحين بالأسلحة البدائية، ليحارب به أقوى جيشٍ في العالم حينها، جيش الإمبراطورية الإسبانية، وما أن التقى الجيشان في جزيرة "ماكنتان" الفليبينية، حتى علت صيحات اللَّه أكبر من أفواه المسلمين الفليبينيين هناك، قبل أن يتقدم القائد لابو لابو بنفسه في ميدان المعركة، ليقتل كل الحرس الإسباني المحيطين بالصليبي الجبان ماجلان، ليقوم برفع سيفه في علياء السماء، فيطيح برأس ماجلان من عنقه، لينتصر المسلمون على الإسبان الغزاة، وليهرب من استطاع منهم الهرب بأرواحهم على سفينة واحدة بقيت لهم ليبلغوا الملك الإسباني بخيبتهم التي حلت عليهم على يدي القائد الإسلامي الأسطورة لابو لابو. إلا أن الإسبان عادوا مرة أخرى بجيوشهم الجرارة إلى شعب الفليبين المسلم لينصِّروهم بقوة النار، وفعلًا تم لهم ذلك بعد ملايين الأرواح التي أزهقوها، ليحوِّلوا عاصمتها من "أمان اللَّه" إلى "مانيلا"، فتحولت الفليبين بذلك إلى الدولة الكاثوليكية الوحيدة في آسيا، ولكنها تحولت أيضًا إلى عاصمة الدعارة العالمية، ولعل الفليبينيين وجدوا ما يدفعهم إلى ذلك من القصص الجنسية الفاضحة الموجودة في الكتاب المقدس! وبعد أن استعرضنا جرائم البرتغاليين في البرازيل وجرائم الإسبان في الفليبين، جاء الوقت لكي نعطي إنجلترا حقها في هذا الكتاب! لنذكر الجرائم التي ارتكبها الإنجليز في أمريكا، من خلال أبشع حكايةٍ عرفتها الإنسانية، حكاية العبودية، يرويها لنا عظيم جديد من عظماء أمة الإسلام، بقصةٍ كتب هو حروفها بمدادٍ أحمر من دمه، فحُفظت صفحاتها في متاحف الولايات المتحدة الأمريكية! يتبع. . . . . .

66 - أمير العبيد (عبد الرحمن إبراهيم بن سوري)

" أمير العبيد" (عبد الرحمن إبراهيم بن سوري) الشيء الذي لا يعرفه الكثيرون منّا -أو الذي لا يريد لنا الكثيرون أن نعرفه- أن حكاية العبيد في أمريكا ما هي إلا فصلٌ من فصول الصراع الإسلامي الصليبي الطويل الأمد، فجلُّ العبيد الذين استقدمتهم إنجلترا وفرنسا وإسبانيا والبرتغال ما هم إلا إخوان لنا على ملة الإسلام، قامت تلك الدول باستعبادهم من دول الغرب الأفريقي التي دخلها الإسلام طواعيةً بفضل الدعاة من العرب والبربر، ولعل الشيخ البطل أبو بكر اللنتوني كان مثالًا حيًا من هؤلاء المسلمين، وشتان ما بين الإسلام وبين أولئك المجرمين، فالإسلام العظيم دخل قلوب الأفارقة بعد أن رأوا ما فيه من العدل والسواسية بين البشر، أما أولئك القتلة فكانوا يغيرون على القرى الآمنة للأفارقة في عتمة الليل، ليحرقوا أكواخهم بالنيران، ومن ثم يلقون شباكهم على المستضعفين من السود الذين هربوا من ألسنة اللهب، ليجدوا أنفسهم في شباك البيض الأوروبيين، لينقلهم هؤلاء القتلة في سجونٍ في قيعان السفن، ليموت أكثر من نصفهم في رحلة العذاب عبر الأطلسي، قبل أن يتخلص البيض من جثثهم برميها في أعماق بحر الظلمات، لتكون طعامًا لوحوش البحر، بعد أن كانت ضحية لوحوش البشر! أما من بقي حيًا من أولئك الأفارقة المساكين، فقد كانت حياتهم أصعب من الموت نفسه، فالميت يموت ميتة واحدة، أم هؤلاء فكانوا يموتون في اليوم ألف مرة، فيوم العبد عند أولئك سيده الأبيض كان يبدأ من شروق الشمس، وينتهي مع غروبها، يتخلل ذلك العمل الشاق. . . ثم العمل الشاق. . . ثم العمل الشاق! فيظل العبد الأفريقي المسلم يعمل عند أولئك السفلة حتى يموت من العذاب أو قلة الغذاء. إنسانٌ واحدٌ فقط استطاع النجاة ليروي للإنسانية قصة العبودية بكتاباته التي كان يكتبها بالعربية التي تعلمها في صغره عندما كان يدرس مسجد مدينة "تمبو" في دولة "غينيا" الإفريقية، هذا البطل الإسلامي الذي لا يعرفه أحد منا، قام بتسجيل حكايات العبيد المؤلمة في أوراقٍ كان

يخبؤها عن سيده الأبيض النصراني، لتكون هذه الكتابات المرجع الرئيسي الأول لقصة العبودية التي أقدم عليها النصارى الأوروبيون بحق الأفارقة المسلمين، وحسبك أن تعلم أن جميع المباني المهة في أوروبا وأمريكا ما هي إلا أبنية اختلطت مادة بنائها بعرق العبيد السود ودمائهم، ولك أن تعلم أن "البنك المركزي البريطاني" أقدم بناءٍ في وسط العاصمة الإنجليزية "لندن"، والذي لا يزال في موقعه إلى الآن، هو أول بناءٍ على وجه الأرض اختلطت أحجاره بدماء الأفارقة السود المسلمين الذين استقدمتهم إنجلترا من سواحل السنغال المسلمة، و"سكة الحديد الأمريكية" الأكبر في العالم، والتي تربط المحيط الأطلسي بالمحيط الهادي، بُنيت على جثث عشرات الآلاف من الأفارقة المسلمين الذين لا ذنب لهم إلا أنهم كانوا يمتلكون لون بشرة يختلف عن لون بشرة أولئك المرضى العنصريين، ولا ذنب لهم إلا أنهم اختاروا أن يعبدوا اللَّه على عبيدة الصليب! وبطلنا العظيم عبد الرحمن إبراهيم بن سوري لم يُخلق عبدًا مسلوب الإرادة، بل وُلد هذا البطل المسلم أميرًا على مملكة غينيا الإسلامية، قبل أن يستيقظ في ليلة من الليالي الآمنة لصلاة الفجر، ليجد أن الإنجليز أحرقوا مدينته بالكامل، ليتفاجأ هذا الأمير الأفريقي النبيل بأنه قد أصبح عبدًا بين ليلة وضحاها، قبل أن يقتاده تجار البشر الإنجليز بسفنهم عام 1788 م إلى ولاية "أوهايو" الأمريكية، ليعمل عبدًا بالسخرة عند مزارع تبغ أبيض نصراني يُدعى (توماس فوستر)، ليعمل عنده عبدًا ليس لسنة أو سنتين بل لـ 40 سنة ماتت فيها زهرة شبابه، ولم يذق فيها طعمًا الراحة، وعلى الرغم من حياة العبودية القاسية التي عاشها هذا البطل الإسلامي العظيم، فإنه كعادة عظماء أمة الإسلام لم يرضخ للواقع، بل اتجه إلى العبيد من أبناء جلدته ليعلمهم قراءة القرآن بالعربية، وليصبح إمامًا للمسلمين في ولاية اوهايو الأمريكية، حتى ذاع صيته بين صفوف العبيد في الولايات المتحدة الأمريكية بأسرها، قبل أن يطلب الرئيس الأمريكي (جون كوينسي آدمز) مقابلته شخصيًا سنة 1828 م، ليستمع منه إلى قصته العجيبة التي ذاعت في أرجاء الولايات المتحدة، فيصدر أمرًا رئاسيًا هو الأول من نوعه في تاريخ أمريكا بتحرير عبد الرحمن إبراهيم بن سوري. فهل عاد هذا البطل إلى بلاده ليتسلم عرش المُلك بعد موت

أبيه؟! لقد آثر هذا البطل الإسلامي الشهم البقاء بين إخوانه السود الأفارقة، ليتنقل من ولايةٍ أمريكية إلى أخرى يعلم الأفارقة دينهم الذي أنسوه بالقوة! وليقيم لهم المحاضرات التعليمية عن معنى الحرية، ومعنى السواسية في الإسلام، وليعيد هذا البطل الإسلامي لوحده إحياء دين الإسلام من جديد بين صفوف الأفارقة الذين أجبروا من قبل أسيادهم على التنصر، وعندما أحس هذا البطل الشهم بدنو أجله، ركب سفينة قاصدًا وطنه غينيا، فكان أول شيءٌ يصنعه عند نزوله من السفينة هو صلاته للَّه صلاة الشكر، قبل أن يبحث عن أمه، ليرتمي في أحضانها كالطفل وهو شيخُ ناهز السابعة والستين من عمره، لتنزل دموعه على على وجنتيه كشلالات متدفقة من الذكريات، ولتختلط تلك الدموع بدموع أمه التي فقدت بصرها حزنًا عليه، وما هي إلا أيام حتى توفي البطل الحر عبد الرحمن إبراهيم بن سوري وهو يتنقل في الحدائق الخضراء التي كان يلعب بها صغيرًا مع الأطفال قبل أن يأتيه أولئك السفلة المجرمون ليدمروا حياته. وللأسف. . . استمرت هذه الأوضاع المأساوية للعبيد في أمريكا لعشرات السنوات، حتى خرج للعالم عظيم آخر من عظماء أمة الإسلام، ليعلن ثورة تحرير العبيد، بعد مئات السنين من الظلم والاستعباد! يتبع. . . . . .

67 - (مالكوم إكس)

X (مالكوم إكس) " عزيزتي باتي. . . . . ربَّما لن تصدقي ما سأكتبه لك في هذه الرسالة، فأنا الآن في مكة أصلي بجانب رجل أبيض خلف رجل أسود، وآكل من نفس الطبق الذي يأكل منه رجل بعينين زرقاوين، وأشرب من نفس الكأس الذي شرب منه شيخ عربيٌ ببشرة فاتحة، لقد أدركت الآن وأنا في رحاب هذه المدينة المقدسة بأن جميع مشاكل أمريكا العنصرية لا يمكن لها أن تحل إلا بتعاليم الإسلام العظيم" الحاج: مالك الشباز Malcolm X كم منا يعرف قصة أخينا المسلم مالكوم إكس؟ بل كم منا سمع باسمه أصلًا؟ واللَّه إن العيب كل العيب يقع علينا عندما نكرس كل أوقاتنا في قراءة الصحف الصفراء لكي نتتبع آخر أخبار طلاق الفنانة الفلانية وآخر مستجدات انتقال اللاعب الفلاني إلى النادي الفلاني وآخر أحداث قضية مقتل المغنية الفلانية، في الوقت الذي لا نستقطع خمس دقائق فقط من حياتنا الممتدة لقراءة شيء عن أخٍ لنا دفع حياته كلها في سبيل الإسلام، وفي الوقت الذي يشتكي فيه شبابنا من الملل وأوقات الفراغ التي تقتلهم، نراهم لا يحفظون شيئًا من كتاب اللَّه، أو حديثًا نبويًا صحيحًا، فضلًا عن قراءتهم لتاريخ عظماء أمتهم! ومالكوم إكس أمريكي أسود تربى على يد أبيه الذي كان يعمل قِسًا في إحدى الكنائس، ولكنه تفاجأ في صغرة بمقتل أبيه من قبل رجالٍ بيض يعتنقون نفس الدين الذي يعتنقه أبوه! فلم يقتلوه فحسب، بل فجَّروا رأسه تحت تحت عجلات قطار سريع ليستمتعوا بمنظر الدماء وهي تتطاير منه، فتعجب هذا الفتى من سر الحقد الذي تمتلؤ به نفوس أولئك العنصريين على أبناء جلدته على الرغم من كونهم من نفس الدين. وحتى عندما دخل مالكوم المدرسة ليكون إنسانًا محترمًا لاحظ فيها التمييز العنصري المقيت، فالإنسان الأسود لا يساوي حتى حيوان الإنسان الأبيض! لذلك اجتهد مالكوم في دراسته ليثبت للأطفال البيض أنه لا يقل عنهم في

شيء، فأصبح أكثر التلاميذ المتميزين في المدرسة، فكافأته مدرسته بأن فصلته من التعليم كله! ليجد نفسه متشردًا في شوراع نيويورك، وليتنقل بعدها بين الأعمال المختلفة المهينة التي تليق بالزنوج، من نادل في مطعم، فعامل في قطار، إلى ماسح أحذية في المراقص، حتى أصبح راقصًا مشهورًا يشار إليه بالبنان، وعندها استهوته حياة الطيش والضياع فبدأ يشرب الخمر وتدخين السجائر، وكان يجد في لعبة القمار المصدر الرئيسي لتوفير أمواله، إلى أن وصل به الأمر لتعاطي المخدرات بل والاتجار فيها، حتى وقع هو ورفاقه في قبضة الشرطة، فأصدروا بحقه حكمًا مبالغًا فيه بالسجن لمدة عشر سنوات مقارنة بخمسٍ لرفاقه البيض، ولكن اللَّه أراد له الخير بذلك، فقد اعتنق الإسلام في السجن، وأصبح داعية في سجون نيويورك، قبل أن تطلق سراحه السلطات بعد القلق الذي خلقه بإسلام مئات المساجين السود على يديه، وعند خروجه من السجن قام مالكوم بتغيير اسمه من (مالكوم ليتيل) إلى (مالكوم إكس)، وإكس (X) تقابل سين (س) بالعربية، وهي القيمة المجهولة في الرياضيات، لأنه كان يؤمن أن اسم عائلته الحقيقي ليس ليتيل، بل هو اسم السيد الأبيض الذي كان يعمل عنده أجداده الأفارقة، فلقد كان كل سيد أبيض يسمي آلاف العبيد السود باسمه وكأنهم حيواناتٍ يمتلكها! ثم أصبح مالكوم إكس بعد ذلك المتحدث الرسمي باسم منظمة "أمة الإسلام" التي كانت تواجه العنصرية البيضاء بنفس العنصرية السوداء، ولكن مفهوم مالكوم إكس للإنسانية تغير عندما ذهب في رحلة إلى الحج، ليقوم علماء السعودية جزاهم اللَّه كل خير بتعليمه الإسلام الحقيقي ليرجع مالكوم إكس إلى أمريكا، ليعلن للعالم أن الحل الوحيد للأمريكان بيضًا وسودًا يكمن في التمسك بتعاليم الإسلام، وما هي إلا أيام على إعلانه هذا، حتى أغتيل هذا البطل الإسلامي أمام أعين أطفاله في ظروفٍ غامضة إلى يومنا هذا! والحقيقة أنه ليس كل البيض الأمريكيين مقتنعين بالعنصرية التي كانت -ولا زالت- سائدة في أمريكا! فلقد كان هناك رئيسٌ أمريكي عملاق غير من مصير عشرات الملايين من العبيد الأفارقة في أمريكا، ولكن ما هو السر الخطير الذي دفع ذلك الرئيس بالتحديد دون غيره إلى تحرير العبيد؟!! ولماذا كان هذا الرئيس الأمريكي أول رئيس أمريكي في تاريخ الولايات المتحدة يتم اغتياله في ظروفٍ غامضة؟!! يتبع. . . . . .

68 - الرئيس الأمريكي المسلم (أبراهام لينكولن)

" الرئيس الأمريكي المسلم" (أبراهام لينكولن) " أنا رئيس الولايات المتحدة الأمريكية: أبراهام لينكولن. . . أعلن بشكلٍ رسمي انتهاء مرحلة العبودية منذ صباح هذا اليوم" January 1, 1863 الحقيقة أنني ترددت كثيرًا في ذكر اسم هذا العظيم الإسلامي في هذا الكتاب لعدة أسباب: أولها أن أحدًا من الكتاب المعاصرين أو حتى السابقين لم يذكر شيئًا صريحًا بخصوص إسلام هذا الرئيس الأمريكي، وثانيها أنني لست إلا مجرد كاتبٍ مبتدئ ليس لي من الرصيد الأدبي ما يساعد على إثبات مصداقية ما أدعو إليه من الناحية الأكاديمية، وثالثها أنني لا أتحدث عن رئيسٍ مغمورٍ من رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية، بل أتحدث عن رجلٍ يعتبره الأمريكيون أعظم رئيسٍ للولايات المتحدة الأمريكية في تاريخها بعد المؤسس (جورج واشنطن)، ورابعها يتمثل في تلك العلاقة الحساسة التي تربط المسلمين بالولايات المتحدة الأمريكية والتي تختلط فيها الحقائق التاريخية بنظرية المؤامرة في كثير من الأحيان! لهذه الأسباب وغيرها رأيت أن من الحكمة أن أنأى بنفسي عن هذا الموضوع الشائك ولو مؤقتًا، وقد أعرضت بالفعل عن ذكر اسم هذا الرئيس الأمريكي في كتابي هذا عند أول عند مرة توصلت فيها لمعلومات تاريخية عن إسلامه في معرض بحوثي في موضوع "الآريسية"، إلا أنني وعن طريق الصدفة البحتة توصلت قبل عدة أيامٍ فقط لمعلوماتٍ تاريخية موثقة تؤكد إلى حدٍ كبيرٍ إسلام هذا الرئيس الأمريكي، مع اعترافي الواضح بأن هذه المعلومات لا تثبت تمام الإثبات قضية إسلام إبراهام لنكولن! إلا أنني رأيت فيها ما يؤكد ما توصلت إليه سابقًا من معلومات، وعندما تعمقت في سيرة هذا الرئيس الأمريكي، زاد يقيني بأن سيرة هذا الرئيس الأمريكي لا تصلح إلا أن تكون سيرة لرجلٍ مسلم!

والآن لنستعرض سوية هذه المعلومات التاريخية الخطيرة: (أولًا) انتماؤه لأصول الميلونجونس: وهي عائلات أندلسية من مسلمي البرتغال هاجرت إلى أمريكا هربًا بدينها من محاكم التفتيش، وقد كتب أمريكي اسمه "براند كينيدي" " Brand Kennedy" كتابًا أسماه " The Malingers" بتمويل من جامعة فرجينيا الغربية عن أصول الميلونجونس، تبين فيه أن أصولهم إسلامية من أندلسيي البرتغال، وذكر الكاتب فيه أنه بقيت فيهم عادات إسلامية إلى الآن، ومن أهم الشخصيات التي تنتمي إلى هذه الطبقة من الناس: "أبراهام لينكولن " Abraham Lincoln"، وقد ذكر هذا الكاتب الأمريكي أن تحرير أبراهام لينكولن للعبيد كان انتقاما للأندلس من النصارى بطريقة غير مباشرة، إلا أنه ينبغي على من باب الأمانة العلمية أن أذكر أن هذا الكاتب لم يذكر من قريب أو بعيد شيئًا عن إسلام لنكولن من عدمه! (ثانيًا) الغموض الذي يحيط بخلفيته الدينية: إبراهام لنكولن هو أكثر رئيسٍ أمريكي تحاك حول هويته الدينية -بالذات- كثير من القصص والألغاز! (ثالثًا) تحريره للعبيد: على الرغم من عرقه الأبيض كانت قضية تحرير العبيد السود تمثل كل شغله الشاغل حتى قبل توليه الحكم، ولا ننسى أن العبيد الأفارقة كانوا بالجملة من المسلمين، وربما كان هذا هو سر إخفاء أبراهام لنكون لإسلامه، فمصير ملايين المسلمين الأفارقة كان معلقًا بين يديه، ولعله لنكولن قرأ في كتب التاريخ كيف أخفى النجاشي ملك الحبشة إسلامه ليحمي عشرات المسلمين المهاجرين! (رابعًا) شكله!: قد يظنه البعض دليلًا تافهًا، إلا أنني أراه من الأهمية بمكان، ولطالما استخدمت العرب علم الفراسة لتحديد هوية الرجل! لذلك بحثت في جميع صور رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية ابتداءً من جورج واشنطن وحتى جورج بوش الابن، فلم أرَ أحدًا تظهر عليه ملامحٌ إسلامية بدماءٍ عربية مثل أبراهام لِنكولن! والعجيب أنني كنت أشك قديما بأن بيهودية هذا الرئيس بسبب شكله المميز ودمائه الشرقية الواضحة! أضف إلى ذلك أن أبراهام كان أول رئيسٍ للولايات المتحدة في التاريح يطلق لحيته، ويجز شاربه! (خامسًا) اغتياله: أبراهام لنكولن كان أول رئيسٍ أمريكي يتم اغتياله بطريقة غامضة

للغاية! ولم يُقتل بها تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية رئيس إلا هو ورئيسٌ آخر اسمه (جون إف كِندي). الغريب أن كِندي اغتيل بطريقة غامضة أيضًا، والأغرب أنه كان هو الآخر بخلفية دينية تختلف عن باقي رؤساء أمريكا عبر التاريخ, فلقد كان كندي كاثوليكيًا، على عكس باقي الرؤساء الذين ينتمون للطائفة البروتستانتية الإنجيلية! لهذه الأسباب الخمسة: رأيت أن الرئيس الأمريكي أبراهام لنكولن يستحق أن يضاف لقائمة العظماء المائة، نظرًا لإنقاذه لملايين الأرواح من العبيد المسلمين في الولايات المتحدة الأمريكية، أما من بقي في قلبه ذرة شك في إسلام أبراهام لنكولن بعد كل هذه "الدلائل" معللًا ذلك بأن لنكولن لم يُظهر إسلامه على الملأ، فعليه أن يتحول إلى الصفحة القادمة ليرى بنفسه الأهوال الفظيعة التي لحقت بمسلمي الأندلس في محاكم التفتيش عندما كشف أمرهم، وليضع نفسه في مكانه ثم يسأل نفسه إن كان سيعلن إسلامه أو يخفيه، فإذا كنت من أصحاب القلوب الضعيفة فتحول مباشرة إلى حكاية العظيم الإِسلامي الذي يلي بطلنا القادم، أما إذا كنت متعودًا على قصص الرعب والجرائم الدموية المخيفة. . . . . . فتابع معي! يتبع. . . . .

69 - قائد انتفاضة الموريسكيين محمد بن أمية (سليل عائلة الأبطال)

" قائد انتفاضة الموريسكيين" محمد بن أمية (سليل عائلة الأبطال) " ثم انتقلنا إلى غرف أخرى، فرأينا فيها ما تقشعر لهوله الأبدان، عثرنا على آلات رهيبة للتعذيب، منها آلات لتكسير العظام، وسحق الجسم البشري، كانوا يبدأون بسحق عظام الأرجل، ثم عظام الصدر والرأس واليدين تدريجيا، حتى يُهشم الجسم كله، ويخرج من الجانب الآخر كتلة من العظام المسحوقة، والدماء الممزوجة باللحم المفروم" (من مذكرات الكولونيل الفرنسي ليموتسكي، الذي كان أحد الذين أَكتشفوا محاكم التفتيش) كما قرأت أكثر في تاريخ أمة الإِسلام، وجدت صفحات مشرقة لأبطالٍ عظام ينتمون لعائلة بني أمية بالتحديد، ففهمت أكثر سبب الهجوم الشرس عليهم من المستشرقين الصليبيين وعملائهم من الشيعة الروافض، فواللَّه الذي لا إله إلا هو، ما رأيت عائلة ضحت في سبيل الإِسلام والمسلمين عبر جميع مراحل التاريخ الإِسلامي من الصين إلى الأندلس مثل عائلة بني أمية البطلة، وبذلك أصبح تشويه تاريخ هذه العائلة يساوي بالضرورة تشويه تاريخ الإِسلام بمجمله، فالحذر الحذر في الطعن بهذه العائلة الإِسلامية البطلة من قريبٍ أو بعيدٍ، فلقد سمعت بأذني شيوخًا محسوبين على أهل السنة والجماعة يهاجمون بني أمية، من دون أن يعلم هؤلاء أنهم بذلك يطعنون بتاريخ أمتهم بقصدٍ أو بغير قصدٍ! وبطلنا الآن بطلٌ تخرج من مدرسة بني أمية بن حرب، وسرّ عظمة هذا البطل يكمن في أنه قد ظهر وقتٍ من أصعب أوقات المسلمين في التاريخ على الإطلاق، فقد ظهر هذا القائد الإِسلامي العظيم في الأندلس، ولكنه لم يظهر في زمن الخلافة الأموية القوية هناك، أو زمن صقر قريش عبد الرحمن الداخل الأموي رحمه اللَّه، أو حتى في زمن ملوك

الطوائف على علاته، بل ظهر هذا البطل بعد سقوط الأندلس بعشرات السنوات، وبالتحديد في زمن محاكم التفتيش!. . . . . . وما أدراك ما محاكم التفتيش؟!! وقبل أن نخوض في قصة البطل الأموي محمَّد بن أمية، أرى أنه من الفائدة بمكان أن نعطي لمحة بسيطة عن محاكم التفتيش الكاثوليكية لسببين اثنين، أولهما: هو تقدير لمدى عظمة هذا البطل الإِسلامي والذي يكمن سر عظمته بظهوره في وقت صعب للغاية مثل هذا الوقت بالتحديد. والثاني وهو الأهم: هو وضع أكبر قدر من المعلومات الموثقة من مؤرخي الغرب أنفسهم لشباب هذه الأمة لكي يتسلحوا بها ليخرسوا لسان كل قذر يحاول وصم الإِسلام بالإرهاب، فنحن لا ننكر أن هناك من شباب المسلمين المغفل من هو إرهابي، ولكننا لم نجد في تاريخ المسلمين على الإطلاق مباركة من علماء هذه الأمة لأي مجرم يعمل على قتل الآمنين، ولكننا في حالة محاكم التفتيش لا نرى مباركة من القساوسة النصارى فحسب، بل نرى اشتراكا لهم بالتعذيب بمباركةٍ من بابا الفاتيكان نفسه، ولقد آن الأوان للكنيسة الكاثوليكية في الفاتيكان أن تقدم الاعتذار لجرائم المسيحيين في حق المسلمين الأندلسيين، كما سبق وأن قدمت اعتذارًا رسميًّا على جرائم المسيحيين ضد اليهود! أما شباب هذه الأمة، فعليهم أن يتسلحوا بالعلم، لا بالعنف، فأنت عندما تستخدم العنف لإسكات صوت قذرٍ واحدٍ من أولئك الذين يطعنون بالإِسلام ونبيه، فسيخرج لك مكانه ألف صوت يشتمون رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، أما إذا رددت عليه بالعلم والوثائق التاريخية، فإنك ستخرسه إلى الأبد، وما يدريك لعله يتحول إلى مسلمٍ بعد ذلك، وقد كان كثيرٌ من الصحابة في جاهليتهم لا يسبون النبي وحسب، بل يتمنون قتله بأيديهم، فالعلم سلاح المؤمن، وهو سلاح الأمة الأقوى الذي حكمت به مشارق الأرض ومغاربها، أما الآن فلنستعرض سويةً قصة محاكم التفتيش ولنبدأها من ساعة الصفر، وبالتحديد من يوم 2 يناير من عام 1492 م يوم سقوط الأندلس: 1492:- 2 يناير/ كانون الثاني: السلطان أبو عبد اللَّه الصغير يسلم مفاتيح غرناطة واضعًا بذلك نهاية للحكم الإِسلامي في الأندلس الذي دام ثمانية قرون، تضمنت شروط التسليم تعهد السلطات الإسبانية باحترام عقائد وعادات المسلمين الأوروبيين في الأندلس والذين يقدرون بالملايين. ولكن ذلك السلطان المسكين نسي أن أولئك القوم

لا يلتزمون بعهودهم أبدًا, ولعله اطمأن على التزام المسيحيين بتلك الإتفاقية بعد أن طلب من بابا الفاتيكان نفسه أن يوقع على تلك الإتفاقية، وطبعًا وقع البابا المجرم بالعشرة على تلك الإتفاقية، التي ما لبث أن نكث بها خروج السلطان مباشرة، فياله من دينٍ هذا الذي يحيى الغدر والخيانة! وما هي إلا أيام حتى طرد المسيحيون اليهودَ الذين كانوا يعيشون في الأندلس بأمان وسلام في ظل حكم المسلمين، وطبعًا لم يجد اليهود إلا الخلافة الإِسلامية العثمانية لاستقبالهم على أرضها ليعيشوا في سلام بعد أن طردهم المسيحيون، المضحك في الموضوع أن هؤلاء اليهود بالتحديد الذين أنقذهم المسلمون العثمانيون هم الذين سيعملون بعد ذلك على تدمير الخلافة الإِسلامية العثمانية بعد ذلك بأربعة قرون ونيف! (وسنتطرق إلى ذلك بالتفصيل في نهاية هذا الكتاب)، المهم أن الملكة القذرة إيزابيلا (التي لم تكن تغتسل) وزوجها الملك فرديناند أصدروا أمرًا ملكيًا بتنصير كل الموريسكيين، والموريسكيون: هم المسلمون الإسبان الذين بقوا في بلادهم ظنًا منهم أنهم سيلاقون المعاملة الحسنة من إخوتهم الإسبان المسيحيين المشتركين معهم في القومية والعنصر، هؤلاء الموريسكيون المساكين والذين لا يعرف عنهم شباب المسلمين شيئًا، كانوا ضحية أكبر عملية إرهابية شهدها التاريخ الإنساني منذ آدم وإلى يوم الناس هذا، فلقد رفض الموريسكيون تغيير دين الإِسلام، فحاول القساوسة في البداية أن يغرّوهم بالطرق السلمية لتنصيرهم، ولكن هيهات! فأنى لهذا القلب الذي عرف معنى التوحيد أن يعبد صليبًا من خشب أو حتى من ذهب؟! عند ذلك بدأ الإسبان عملياتهم الإرهابية الحقيرة بقتل المسلمين الموريسكيين، فانتفض المسلمون الموريسكيون في جميع أنحاء الأندلس ليعلنوها ثورة ضد النصارى، قبل أن يستخدم هؤلاء المجرمون أبشع وسائل القتل في حق الموريسكيين لإخماد انتفاضاتهم الشعبية. والسائل يتساءل هنا: لماذا لم يهاجر الموريسكيون المسلمون من بلادهم الأندلس بعد سقوط الحكم الإِسلامي فيها وتولي النصارى لمقاليد الحكم؟ ألم يكن الأجدر بهم أن يهربوا بدينهم إلى المغرب الإِسلامي ويتركوا الأندلس؟ والحقيقة أن هذا السؤال شغلني شخصيًا، فقد تساءلت عن سر بقاء الموريسكيين في

إسبانيا رغم كل ما كانوا يعانوه من قتل واضطهاد، بل إنني لا أخفيكم سرًا بأنني في لحظة معينة ظننت أن أولئك الموريسكيين رضوا بالذل والإهانة في حكم النصارى حتى لا يفقدوا بيوتهم وحدائقهم الغناء في الأندلس! والحقيقة أنني عثرت على معلومة تاريخية أثبتت لي خَطأ ذلك الظن السوء، فلقد قامت الملكة المجرمة (إيزابلا) بمشورة من كبير القساوسة الكاثوليك الكاردينال (ثيسنيروس) بإصدار مرسوم ملكي تأمر فيه المسلمين الإسبان باعتناق المسيحية أو مغادرة البلاد. لكنها فرضت على الراغبين في الرحيل إتاوات وغرامات مستحيلة لا يملكها فقراء المسلمين، ولكن الأنكى من ذلك أنها فرضت على كل من ينوي المغادرة من المسلمين التخلي عن أطفالهم الصغار ليتم تنصيرهم! وهنا يتساءل الإنسان مرة أخرى: كيف لقلب امرأة المفترض أنها أنثى وأم لعدة أطفال أن تصدر قرارًا إجراميًا مثل هذا القرار المخيف الذي يفرق بين الأمهات وأطفالهن؟! والحقيقة أنني لم أجد إلا تفسيرًا منطقيًا واحدًا يفسر هذه القسوة المرعبة لهذه الملكة الإسبانية، إلا أنني عثرت على معلومة جانبية ذكرها مؤرخو الإسبان قد تفسر لنا هذه القسوة: فالتفسير الوحيد الذي أجده هو أن قلب إيزابلا قد مات بالفعل بسبب بسيط هو بعدها عن الماء!!! وأنا لا أنقل إلا ما كتبه مؤرخو الإسبان بأنها لم تغتسل إلا مرتين: الأولى يوم ولادتها سنة 1451 م والثانية ليلة دخلتها سنة 1469 م، وبغض النظر عن يوم ولادتها التي اغتسلت فيه بدون إرادتها، فإن جسدها القذر لم يلمس الماء طيلة 52 سنة إلا مرة واحدة، واللَّه سبحانه وتعالى يقول في محكم كتابه: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ}، فلا شك إذا أنها كانت بقلب ميت لتصدر مثل ذلك القرار اللا إنساني بفصل الأطفال عن أمهاتهم، زاد من ذلك طبعا إيمانها الصليبي القوي وما كانت تجده من نصوص قتل الأطفال في الكتاب المقدس! هذا كله دفع الموريسكين لإخفاء إسلامهم وإظهار أنهم تنصروا، انتظارًا لفرج اللَّه من أحد المسلمين ليحررهم من ظلم النصارى. ولكن فرج اللَّه لم يأتِ للمورسكيين، فأتى مكانه ابتلاء اللَّه! فقد أراد اللَّه أن يختبر قوة إيمانهم بمحاكم التفتيش، ومحاكم التفتيش هو مصطلح للإجراءات المرعبة التي كان الإسبان النصارى يمارسوها بحق المسلمين من إخواننا الموريسكيين، تبدأ هذه المحاكم باقتحام بيوت كل من يُشتبه بأنه يخفي إسلامه، فإذا وجدوا في بيته

ورقة صغيرة فيها آية من كلام واللَّه، أو إذا وجدوا البيت خاليًا من لحم الخنزير أو الخمور، عندها تبدأ أصعب مرحلة من التعذيب والذي لا يُوصف بكلمات، ولقد استغربت بالفعل خلال زيارتي لمدينة "غرناطة" قبل عامٍ من الآن، من سر شراهة سكان ولاية الأندلس الإسبانية بالتحديد للحم الخنزير الذي يبيعونه في كل مكان، بل إنني عندما أردت أن أطلب طبق طعامٍ مكونٍ من الأسماك البحرية، تفاجأت أنهم يخلطون لحم الخنزير مع السمك! والآن لنبقى مع شهادة أحد الجنود الفرنسيين المسيحيين الذين أرسلهم نابليون بونابرت سنة 1808 م في حملة عسكرية على إسبانيا، ليروي لنا بنفسه ما الذي وجده الفرنسيون في كنائس الإسبان بعد مرور أكثر من 300 سنة من التعذيب المستمر للمورسكيين المسلمين: "أخذنا حملة لتفتيش أحد الأديرة التي سمعنا أن فيها ديوان تفتيش، وكادت جهودنا تذهب سدى ونحن نحاول العثور على قاعات التعذيب، إننا فحصنا الدير وممراته وأقبيته كلها. فلم نجد شيئًا يدل على وجود ديوان للتفتيش. فعزمنا على الخروج من الدير يائسين، كان الرهبان أثناء التفتيش يقسمون ويؤكدون أن ما شاع عن ديرهم ليس إلا تهمًا باطلة، وأنشأ زعيمهم يؤكد لنا براءته وبراءة أتباعه بصوت خافت وهو خاشع الرأس، توشك عيناه أن تطفر بالدموع، فأعطيت الأوامر للجنود بالاستعداد لمغادرة الدير، لكن اللفتنانت "دي ليل" استمهلني قائلًا: أيسمح لي الكولونيل أن أخبره أن مهمتنا لم تنته حتى الآن؟!! قلت له: فتشنا الدير كله، ولم نكتشف شيئًا مريبًا. فماذا تريد يا لفتنانت؟! قال: إنني أرغب أن أفحص أرضية هذه الغرف فإن قلبي يحدثني بأن السر تحتها. عند ذلك نظر الرهبان إلينا نظرات قلقة، فأذنت للضابط بالبحث، فأمر الجنود أن يرفعوا السجاجيد الفاخرة عن الأرض، ثم أمرهم أن يصبوا الماء بكثرة في أرض كل غرفة على حدة -وكنا نرقب الماء- فإذا بالأرض قد ابتلعته في إحدى الغرف. فصفق الضابط "دي ليل" من شدة فرحه، وقال ها هو الباب، انظروا، فنظرنا فإذا بالباب قد انكشف، كان قطعة من أرض الغرفة، يُفتح بطريقة ماكرة بواسطة حلقة صغيرة وضعت إلى جانب رجل مكتب رئيس الدير. أخذ الجنود يكسرون الباب بقحوف البنادق،

فاصفرت وجوه الرهبان، وعلتها الغبرة. وفُتح الباب، فظهر لنا سلم يؤدي إلى باطن الأرض، فأسرعت إلى شمعة كبيرة يزيد طولها على متر، كانت تضئ أمام صورة أحد رؤساء محاكم التفتيش السابقين، ولما هممت بالنزول، وضع راهب يسوعى يده على كتفي متلطفًا، وقال لي: يا بني: لا تحمل هذه الشمعة بيدك الملوثة بدم القتال، إنها شمعة مقدسة. قلت له، يا هذا إنه لا يليق بيدي أن تتنجس بلمس شمعتكم الملطخة بدم الأبرياء، وسنرى من النجس فينا، ومن القاتل السفاك!؟! وهبطت على درج السلم حتى وصلنا إلى آخر الدرج، فإذا نحن في غرفة كبيرة مرعبة، وهي عندهم قاعة المحكمة، في وسطها عمود من الرخام، به حلقة حديدية ضخمة، وربطت بها سلاسل من أجل تقييد المحاكمين بها. وأمام هذا العمود كانت المصطبة التي يجلس عليها رئيس ديوان التفتيش والقضاة لمحاكمة الأبرياء. ثم توجهنا إلى غرف التعذيب وتمزيق الأجسام البشرية التي امتدت على مسافات كبيرة تحت الأرض. رأيت فيها ما يستفز نفسي، ويدعوني إلى القشعريرة والتقزز طوال حياتي! فقد رأينا غرفًا صغيرةً في حجم جسم الإنسان، بعضها عمودي وبعضها أفقي، فيبقى سجين الغرف العمودية واقفا على رجليه مدة سجنه حتى يموت، ويبقى سجين الغرف الأفقية ممدًا بها حتى الموت، وتبقى الجثث في السجن الضيق حتى تبلى، ويتساقط اللحم عن العظم، وتأكله الديدان، ولتصريف الروائح الكريهة المنبعثة من جثث الموتى فتحوا نافذة صغيرة إلى الفضاء الخارجي، وقد عثرنا في هذه الغرف على هياكل بشرية ما زالت في أغلالها. كان السجناء رجالًا ونساءً، تتراوح أعمارهم ما بين الرابعة عشرة والسبعين، وقد استطعنا إنقاذ عدد من السجناء الأحياء، وتحطيم أغلالهم، وهم في الرمق الأخير من الحياة. كان بعضهم قد أصابه الجنون من كثرة ما صبوا عليه من عذاب، وكان السجناء جميعًا عرايا، حتى اضطر جنودنا إلى أن يخلعوا أرديتهم ويستروا بها بعض السجناء. أخرجنا السجناء إلى النور تدريجيًا حتى لا تذهب أبصارهم، كانوا يبكون فرحًا، وهم يقبّلون أيدي الجنود وأرجلهم الذين أنقذوهم من العذاب الرهيب، وأعادوهم إلى الحياة، كان مشهدًا يبكي الصخور. ثم انتقلنا إلى غرف أخرى، فرأينا فيها ما تقشعر لهوله الأبدان، عثرنا على آلات رهيبة للتعذيب، منها آلات لتكسير العظام، وسحق الجسم البشري، كانوا يبدؤون

بسحق عظام الأرجل، ثم عظام الصدر والرأس واليدين تدريجيا، حتى يهشم الجسم كله، ويخرج من الجانب الآخر كتلة من العظام المسحوقة، والدماء الممزوجة باللحم المفروم، هكذا كانوا يفعلون بالسجناء الأبرياء المساكين، ثم عثرنا على صندوقٍ في حجم جسم رأس الإنسان تمامًا، يوضع فيه رأس الذي يريدون تعذيبه بعد أن يربطوا يديه ورجليه بالسلاسل والأغلال حتى لا يستطيع الحركة، وفي أعلى الصندوق ثقب تتقاطر منه نقط الماء البارد على رأس المسكين بانتظام، في كل دقيقة نقطة، وقد جُنّ الكثيرون من هذا اللون من العذاب، ويبقى المعذب على حاله تلك حتى يموت. وآلة أخرى للتعذيب على شكل تابوت تثبت فيه سكاكين حادة، كانوا يلقون الشاب المعذب في هذا التابوت، ثم يطبقون بابه بسكاكينه وخناجره. فإذا أغلق مزق جسم المعذب المسكين، وقطعه إربًا إربًا. كما عثرنا على آلات كالكلاليب تغرز في لسان المعذب ثم تشد ليخرج اللسان معها, ليقص قطعة قطعة، وكلاليب تغرس في أثداء النساء وتسحب بعنفٍ حتى تتقطع الأثداء أو تبتر بالسكاكين. وعثرنا على سياط من الحديد الشائك يُضرب بها المعذبون وهم عراة حتى تتفتت عظامهم، وتتناثر لحومهم" أكتفي بهذا القدر من شهادة هذا الضابط الفرنسي، لكي لا أعكر مزاج القارئ الكريم أكثر من ذلك، ولعلنا الآن فهمنا لماذا أخفى الرئيس الأمريكي (أبراهام لِنكون) إسلامه، فهذا الذي ذكرته لا يمثل إلا الشيء اليسير من ألوان التعذيب المرعبة التي قام بها المسيحيون بمباركة من بابا الفاتيكان نفسه، أما الكلاب القذرة التي تدعي أن الإِسلام انتشر بحد السيف وأن دينهم هو دين المحبة فأهديهم بعض كلمات المؤرخ الفرنسي (غوستاف لوبون) في كتابه "حضارة العرب" حيث يقول عن محاكم التفتيش: "يستحيل علينا أن نقرأ دون أن ترتعد فرائضنا من قصص التعذيب والاضطهاد التي قام بها المسيحيون المنتصرين على المسلمين المنهزمين، فلقد نصّروهم عنوة، وسلموهم لدواوين التفتيش التي أحرقت منهم ما استطاعت من المجموع. واقترح القس "بليدا" قطع رؤوس كل المسلمين دون أي استثناء ممن لم يعتنقوا المسيحية بعد، بما في ذلك النساء والأطفال، وهكذا تم قتل أو طرد ثلاثة ملايين مسلم". وكعادة عظماء أمة الإِسلام. . . . . خرج من رحم هذه العذابات شابٌ من

المورسكيين تبدو عليه ملامح قرشيّة اسمه: (فرناندو دو قرطبة وبالور) (Fernand de cordoba y Valor) ومثل مالكوم إكس كان يعلم أن هذا الاسم ليس اسمه الحقيقي، بل اسم مسيحي سماه به النصارى، وكان يعلم أنه من سلالة رجالٍ عظماء يُقال لهم "بنو أمية"، فغير فرناندو اسمه إلى محمَّد بن أمية، ليقود أروع انتفاضة عرفتها الأندلس بعد سقوطها, ليعيد توحيد صفوف المورسكيين، وليكوِّن جيشا شعبيًا قوامه من المدنيين المورسكيين، ليحارب به الإمبراطورية الإسبانية، فيحقق به المستحيل!. . . . . فقد يندهش البعض حين يعلم أن القوات الشعبية لمحمد بن أمية الأموي استطاعت من أن تحرر مدينة "ألمرية" ومدينة "مالقا" من أيدي النصاري الكستاليين، وللتذكير فقط: نحن نتحدث عن وقت سقطت فيه الأندلس منذ أكثر من 75 سنة! بل إن هذا القائد الإِسلامي العظيم سليل الشرفاء من بني أمية، استطاع أن يشعلها انتفاضة إسلامية في ربوع إسبانيا سميت في التاريخ بـ "انتفاضة جبال البشرات"، فاضطر الملك الإسباني "فيليبي الثاني" أن يطلب العون من "إمبراطورية النمسا" لإنقاذ إسبانيا من ذلك الصقر القرشي، وفعلًا استطاعت هذه القوات الإمبراطورية أن تقمع هذه الإنتفاضة الشعبية، ليُستشهد البطل الأموي العظيم محمَّد بن أمية في سبيل اللَّه، ليطوي بذلك صفحة مشوقة في سجل أبيض كتبه رجالٌ من قريش ينتمون إلى آل أمية بن حرب، فيضيف بذلك اسمه إلى أسماء أجداده: عمرو بن العاص، وأبي سفيان ابن حرب، وعقبة بن نافع، ويزيد بن معاوية، وعبد الرحمن الداخل، وعبد الرحمن الناصر، وعمر بن عبد العزيز، والفارس الإِسلامي البطل: معاوية بن أبي سفيان رحمهم اللَّه جميعًا. (سيظهر في نهاية الكتاب من على قمة جبال الهملايا في الهند بطل أموي آخر وذلك التاسع عشر الميلادي!). ولكن كيف ولماذا سقطت الأندلس؟ ومن هو الرجل العظيم الذي أنقذ تراث الأندلس من الضياع؟! يتبع. . . . .

70 - الرجل الذي أنقذ تراث الأندلس (أبو يوسف يعقوب المنصور الماريني)

" الرجل الذي أنقذ تراث الأندلس" (أبو يوسف يعقوب المنصور الماريني) {إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (اللَّه) كنت واقفًا على قمة أعلى نقطة في مدينة مالقة الإسبانية، في قلعة يقال لها (القصبة) (Alkazaba)، هناك كنت أتأمل بهذه المدينة الحصينة وأتساءل في قرارة نفسي: كيف لمدينة بهذا التحصين الطبيعي العجيب أن تسقط من أيدي المسلمين؟! فمالقة التي كانت المدينة القبل الأخيرة التي تسقط بيد الجيش القشتالي، ما هي إلا مدينة محصنة بالجبال الشاهقة من ثلاث اتجاهات، وبالبحر الأبيض المتوسط من الجهة الرابعة، ولكنني عند قراءتي لتاريخ آخر ملوك الأندلس، أصبح سؤالي الذي أسأله لنفسي: كيف للأندلس كلها ألا تسقط وبها أناسٌ بهذا الشكل؟!! ولا أقصد بهذا السؤال آخر ملوك بني الأحمر وحسب، بل أقصد الشعب الأندلسي قبل قادته، فلقد وصل المسلمون في تلك الفترة إلى مرحلة قصوى في حب الدنيا، وعندما يصل المسلمون إلى هذه المرحلة، لا بدّ معها أن ينهزموا، بل لا بد معها أن يُذلوا، ليحق اللَّه عَزَّ وَجَلَّ وعده الذي ذكره في سورة التوبة، فهذه الكلمات تصف حال المسلمين في الأندلس قبل سقوطها بشكل يدعو المرء للاعتقاد بأنها نزلت في أهل الأندلس بالتحديد! فيقول تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التوبة: 38، 39]، أما رِضى الأندلسيين بالحياة الدنيا فقد كان، وأما استبدال اللَّه قومًا غيرهم فقد كان أيضًا، وأما يعذبكم عذابًا أليمًا فقد كان أعظم وصف لمحاكم التفتيش!

وبطلنا الآن ظهر في المغرب قبل سنيات قليلة من سقوط الأندلس، ولكنه ظهر أيضًا في نفس العصر الذي ظهر فيه (محمد الفقيه) أحد ملوك بني الأحمر، وواللَّه إنني لا أعتبر محمد الفقيه ملكًا مجرمًا ضيع الأندلس فحسب، بل إنني أعتبره شخصًا مسكينا لأبعد الحدود، فهناك من البشر صنفٌ غريبٌ للغاية، ملأ قلبه بحب الدنيا لدرجة الجنون، فأصبح كالمعتوه الذي يجري في الشوارع يمنة ويسرى يريد أن يلحق بالدنيا، فلا هو الذي كسب شيئًا من تلك الدنيا, ولا هو الذي كسب آخرته، ولا هو الذي كسب بياض الوجه في صفحات التاريخ, ومحمد الفقيه ينتمي لهذا الصنف من البشر! فلقد قام هذا الملك ومن قبله من ملوك بني الأحمر بأفعال مخزية، كان لا بد معها أن تسقط فيها الأندلس بهذا الشكل الدرامي، ففي ظل كل هذه الهزائم والانكسارات انشغل بنو الأحمر ببناء "قصر الحمراء" الذي يعتبر وبحق أجمل شيءٍ مكانٍ رأيته في حياتي عند زيارتي لغرناطة، فقد احتجت لخمس ساعاتٍ من المشي في هذا المبنى الضخم للمشي في طرقاته وحدائقه فقط، حينها نظرت على جدران هذا البناء فوجدت أن بني الأحمر قد نقشوا على كل حجرٍ من حجارة الجدران والسقف عبارة "لا غالب إلا اللَّه"، فابتسمت في قرارة نفسي لعلمي بتاريخ هؤلاء الملوك المساكين الذين كانوا يتحالفون مع النصارى على بعضهم البعض ولسان حالهم يقول: "لا غالب إلا ألفونسو! ". وفي ظل ذلك الانحطاط الأخلاقي الذي وصل إليه المسلمون في الأندلس، كان لا بد للنصارى أن يتوجهوا بجيوشهم لاحتلال باقي مدن الأندلس، والتي لم يبق منها إلا "إشبيلة" و"غرناطة"، فما كان من محمد الفقيه ملك غرناطة في ذلك الوقت إلا أن يتوجه بجيشه ليساعد الصليبيين في حصار شيوخ ونساء وأطفال أشبيلية، وفعلًا سقطت إشبيلية بفضل خيانة بني الأحمر، فكافأه الصليبيون بأن توجهوا إلى مدينته لينتزعوها من حكمه، فلم يستطع هذا الملك الخائن أن يحاربهم، فشعبه تعود على السهر على ألحان "زرياب" الموسيقية، وقصائد الغزل الأندلسي، فأنى لشابٍ تربى على الأغاني الماجنة أن يحمل السيف في سبيل اللَّه، وأنى لشيخٍ تعود لسانه على قول: "أيها الساقي اسقني لا تأتلِ" أن ينادي حيَّ على الجهاد؟! عند ذلك استغاث محمد الفقيه بملك المغرب، وهو البطل المجاهد (أبو يوسف يعقوب المنصور الماريني)، فانطلق هذا البطل الإِسلامي المؤمن

إلى نصرة إخوانه في الأندلس، فاستطاع هذا القائد الإِسلامي البطل بخمسة آلاف جندي مغربي أن ينتصر على جحافل الصليببيين في غرناطة، ليس هذا وحسب، بل استطاع أن يعيد تحرير إشبيلية أيضًا، وصدّق أو لا تصدق. . . . استطاع أن يحرر "قرطبة" والتي كانت قد سقطت قبل ذلك بعشرات السنين!!! كل هذا بخمسة آلاف مجاهد تربوا على الإِسلام الحقيقي، أما الذين تربوا على الرقص على ألحان زرياب، فقد ذهبوا مرة أخرى للصليبيين لكي يتحالفوا معهم لطرد القائد أبي يوسف يعقوب المنصور الماريني الذي جاء أصلًا لنجدتهم!!!! فانتصر أبو يوسف يعقوب المنصور الماريني على تحالف الصليبيين ومحمد الفقيه، ولكنه كعادة العظماء عفا عن محمد الفقيه، وترك له كل الغنائم التي غنمها من النصارى، وترك أيضًا حامية من مجاهدي المغرب الأشداء لكي يدافعوا عن المسلمين في الأندلس وقت الحاجة، وكعادة الجبناء خاف محمد الفقيه على ملكه، فتحالف مرة أخرى مع النصارى ضد تلك الحامية، ومرة أخرى أبحر إليهم أبو يوسف يعقوب المنصور الماريني لينتصر عليهم، واستمر الوضع كذلك ما بين خيانة الفقيه مع النصارى، وانتصار الماريني عليهم، ثم عفوه على الفقيه، حتى أدرك القائد المجاهد أبو يوسف يعقوب بن منصور الماريني أن الوضع ميئوس منه في تلك البلاد، أو كما نقول نحن الفلسطينيون بلهجتنا "صارت الحكاية مهزلة! "، ففي آخر انتصار له على النصارى عرضوا عليه الأموال والجزية، فرفض ذلك، وطلب منهم أن يعطوه كتب المسلمين التي استولوا عليها بدلًا من الأموال، وفعلًا تم له ذلك، وبذلك استحق أبو يوسف يعقوب المنصور الماريني أن يُكتب اسمه في سجل العظماء إلى يوم القيامة. وفعلًا ما هي إلا سنوات قليلة حتى تحققت رؤية هذا الصقر المغربي، فسقطت الأندلس، وأحرق المسيحيون كل كتب المسلمين، بعد أن حوّلوا مكاتبهم إلى كنائس! ولعل البعض قد تساءل عن سر تكراري للاسم الطويل للقائد (أبي يوسف يعقوب المنصور الماريني)، والحقيقة أنني فعلت ذلك لغاية في نفسي، فلقد ظهر قبله بعشرات السنين، ومن نفس بلاد المغرب، عظيم آخر من عظماء أمة الإِسلام المائة، فكان -للمفارقة- بنفس الاسم الطويل ولكن بلقبٍ آخر! يتبع. . . . .

71 - بطل معركة الأرك الخالدة (أبو يوسف يعقوب المنصور الموحدي)

" بطل معركة الأرك الخالدة" (أبو يوسف يعقوب المنصور الموحدي) " فلما وصل كتاب ألفونسو إلى الأمير يعقوب مزّقه وكتب على ظهر قطعة منه: {ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ (37)} الجواب ما ترى لا ما تسمع! " لم أشأ أن أنهي الحديث عن تاريخ الأندلس بدون ذكر هذا القائد الإِسلامي العظيم، فلقد أبحرنا سويًا في هذا الكتاب في تاريخ الأندلس منذ موسى بن نصير وطارق بن زياد، وحتى سقوط الأندلس وانتفاضة محمد بن أمية، مرورًا بيوسف بن تاشفين وعبد الرحمن الناصر والمتوكل بن الأفطس رحمهم اللَّه جميعًا، والحقيقة أنني تعمدت أن أفصِّل في تاريخ الأندلس بالذات، ليس من أجل البكاء على اللبن المسكوب كما قلنا، بل لأن تاريخ الأندلس بما يحمله من انتصارات وأمجاد وحتى هزائم يمثل منهاجًا واضح المعالم لشباب هذه الأمة، فلقد رأينا كيف كان المسلمون ينتصرون بأقل الأعداد وأضعف الأسلحة عندما تمسكوا بتعاليم هذا الدين، ورأينا في نفس الوقت كيف أنهم كانوا ينهزمون شر هزيمة ويدفعون الجزية للنصارى عندما دخل في قلبهم حب الدنيا وكراهية الموت، ورأينا أيضا كيف استطاع رجالٌ قليلون أن يغيروا من وضع المسلمين من حالة الهزيمة النكراء إلى حالة النصر المؤزر، وكيف استطاع رجلٌ بفرده مثل الشيخ عبد اللَّه بن ياسين أن يحول مجموعة صغيرة من رعاة الإبل على حدود السنغال إلى ملوك أعظم إمبراطورية عرفتها أفريقيا، ورأينا في نفس الوقت رجلًا مثل محمد الفقيه الذي ضيع الأندلس بحبه للدنيا، رأينا كيف كان رجال المغرب العظماء ينقذون الأندلس بين الحين والآخر، ورأينا خيانات الشيعة العبيديين (الفاطميين) الذين كانوا يمدون الصليبيين في الأندلس بالسلاح، فقصة الأندلس هي بالفعل مختصر قصة الإسلام بما فيه من انتصارات وخيانات، فلو قرأها شباب الأمة لعرفوا كيفية النهوض بحالة هذه الأمة التي تشبه إلى حد بعيد حالة المسلمين إبان عهد ملوك الطوائف،

فسيتنبط منها المسلمون أسباب النصر، التي نحن بأمس الحاجة إليها في هذه الفترة الزمنية الحرجة. وبطلنا الآن هو أبو يوسف يعقوب المنصور الموحدي، والموحدون هم الذين حكموا بلاد المغرب الإِسلامي والأندلس بعد انهيار دولة المرابطين، وأقف هنا قليلًا عند بلاد المغرب، فالمغرب الآن يواجه حملة شرسة من الصليبيين وأذنابهم من العملاء لتلطيخ سمعة هذا البلد الإِسلامي العظيم، بل إننا بتنا نسمع في الآونة الأخيرة أبواقًا قذرة تنال من سمعة نساء المغرب الشريفات، وليس عندي أدنى شك، بأن الذي يطلق مثل هذه الشائعات على نساء المغرب العفيفات يعلم علم اليقين أن تلك النساء هن نفس النساء اللواتي أنجبن رجالًا مثل يوسف بن تاشفين وأبو يوسف يعقوب المنصور الموحدي، أبو يوسف يعقوب المنصور الماريني، ومحمد بن عبد الكريم الخطابي، فاللَّه اللَّه في سمعة نساء المسلمين، واللَّه اللَّه في الدفاع عن أعراض هذه الأمة. وقد يتعجب البعض إذا علم أن دولة الموحدين التي خرج منها بطلنا كانت في الأساس دولة خبيثة، فلقد تأسست هذه الدولة على يد رجل اسمه محمد بن تومرت، وابن تومرت هذا رجلٌ منحرف العقيدة والفكر، تعلم في مدارس العراق الشيعية التي كانت خليطا من فلسفات المجوس وفلسفات الإغريق، فأخذ منها ما أخذ، وأخذ من المعتزلة ما أخذ، حتى بات يعتبر نفسه بأنه هو المهدي المنتظر، فذهب إلى المغرب، وأسس دولة الموحدين على أنقاض دولة المرابطين، وأشاع فيها ذلك الفكر المنحرف، حتى جاء البطل أبو يوسف يعقوب المنصور الموحدي، فأعلن فساد أفكار ابن تومرت، وبهذه الحركة التصحيصية، ضمن أبو يوسف يعقوب بن منصور الموحدي النصر حتى قبل أن يخوض أي معركة، فليس عيبًا أن يصحح الإنسان أفكاره إذا ما اكتشف أنها خاطئة، ولكن العيب كل العيب أن يستمر عليها الإنسان. وفي هذا الوقت ظهر في في مملكة قشتالة ملك مجرمٌ اسمه ألفونسو الثامن، وألفونسو هذا ليس ألفونسو الذي هزمه ابن تاشفين في معركة الزلاقة الخالدة، فالنصارى كانوا يكثرون من تسمية ألفونسو، المهم أن ألفونسو هذا عاث فسادًا في بلاد الأندلس الإِسلامية، فقتل الشيوخ واغتصب النساء، وقد تعودنا أن تستورد الأندلس النصر من

بلاد المغرب في السنوات الأخيرة، فتحرك أبو يوسف بجيشٍ قوامه 200 ألف مجاهد من مسلمي الشمال الأفريقي إلى نصرة إخوانهم في الأندلس، يرد به على رسالة مهينة بعث بها ألفونسو إليه، أما النصارى فقد أعلنوا حالة الطوارئ القصوى بعد أن أعلن بابا الفاتيكان حالة النفير العام، فتجمعت للصليبيين قوات هولندية وألمانية وفرنسية وإسبانية لتكون جيشًا جرارًا تعداده ربع مليون مقاتل نصراني، ورفعوا الصلبان بين جنودهم عاليًا لعلمهم بأنهم أمام المعركة الفاصلة التي ستحدد مصير المسلمين في الأندلس، أما المسلمون فرفعو نداء: اللَّه أكبر تحت قيادة أبي يوسف يعقوب المنصور الموحدي، والتقى الجمعان في التاسع من شهر شعبان لسنة 591 هـ، في معركة الأرك الخالدة، لينتصر المسلمون أعظم انتصارٍ في تاريخ الأندلس كله، فقد فاق نصر الأرك نصرَ الزلاقة، وطارت أخبار النصر في كل مكان، ودوت أخبار ذلك الانتصار العظيم على منابر المسلمين في أطراف دولة الموحدين الشاسعة، بل وصلت هذه الأخبار إلى المشرق الإِسلامي، فصلى المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها صلاة الشكر ابتهاجًا بهذا النصر العظيم. وإذا كان كثيرٌ منا لم يسمع في حياته عن المنصور الموحدي ولا عن معركة الأرك الخالدة، فليس عندي أدنى شك بأن جميعنا من دون أي استثناء سمع بقصة عظيم من عظماء أمة الإِسلام انتصر على الصليبيين قبل معركة الأرك الخالدة بثماني سنوات فقط بمعركة حرر بها القدس، ليتزامن انتصاره في الشرق الإِسلامي مع انتصار المسلمين في الأرك في الغرب الإِسلامي! فمن هو بطل أشهر شخصية إسلامية على وجه الأرض بعد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-؟ ولماذا ذاع صيته في الغرب والشرق على حدٍ سواء؟ وما حكاية معركة حطين الخالدة؟ وكيف أمكنه صنع هذا النصر العظيم؟ يتبع. . . . .

72 - بطل معركة حطين الباسلة (صلاح الدين الأيوبي)

" بطل معركة حطين الباسلة" (صلاح الدين الأيوبي) " واللَّه إني لأستحي من اللَّه أن أضحك والمسجد الأقصى ما زال محتلًا" (الناصر صلاح الدين) لن أسلك مسلك أغلب الكتّاب في الحديث عن القائد المجاهد الناصر صلاح الدين الأيوبي، فأغلب الذين يتحدثون عن صلاح الدين الأيوبي يبدأون كلامهم بنصر حطين، أمّا أنا فلن أكتب شيئًا على الإطلاق عن معركة حطين الخالدة، لسببين اثنين، الأول هو أن الصغير قبل الكبير بات يعرف حكاية هذه المعركة الخالدة التي حرّر بها صلاح الدين الأيوبي القدس من قبضة الصليبيين، أم السبب الثاني فهو أنني في هذا الكتاب لا أحاول أن أركز على ماهية النصر بقدر ما أحاول التركيز على كيفية النصر! فالخطأ الكبير الذي وقع فيه بعض شبابنا في هذه الأيام أنهم يعتقدون أن النصر يأتي في يومٍ وليلة بمجرد حمل أحدهم للسلاح، والحقيقة التي يغفلها أولئك الشباب المساكين أن القتال العسكري ليس إلا المرحلة الأخيرة من مراحل صناعة النصر، بل إن النصر يأتي أحيانًا من دون الحاجة لحمل السلاح أصلًا! فالنصر لا يعتبر أكثر من خطوة صغيرة في طريق طويل اسمه طريق صناعة النصر. والمتأمل في قصة سيدنا موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام يجد شيئًا عجيبًا للغاية، يجد أن اللَّه سبحانه وتعالى على قدر عظمته وقدرته عندما أراد أن يهلك فرعون، لم يرسل ملك الموت إليه ليقبض روحه بلمح البصر، بل بدأ اللَّه سبحانه وتعالى عملية صناعة النصر بوحيٍ أوحاه إلى أم موسى، ثم بتربية موسى في بيت فرعون، ثم بهجرته إلى مدين، فرجوعه إلى مصر، ثم مناظرته لفرعون بالكلام (لا بالسلاح!)، ثم بدعوته الشاقة والطويلة لبني إسرائيل، ثم بخروجه بهم من مصر، ليلحقه فرعون بجيشه، ليموت فرعون غرقًا في الماء، ولينتصر موسى على فرعون من دون أن أي قتال على الإطلاق، والسؤال هنا: لماذا لم يُغرق اللَّهُ فرعونَ من

بداية القصة؟ الجواب: لكي نتعلم أنا وأنت أن طريق النصر طريق طويل، أما النصر بعد ذاته فلا يحتاج إلا إلى ثوانٍ معدودة، بل لا يحتاج أصلًا إلى جهدٍ يذكر كما رأينا في قصة موسى! ولعل استعجال النصر من كثير من الحركات الإِسلامية المعاصرة التي حملت السلاح، هو سبب تفككها السريع وفشلها في تحقيق أي إنجازٍ يُذكر، لا من الناحية السياسية، ولا من الناحية الدعوية، اللهم إلا أنها ألقت بأبنائها في السجون، وشوَّهت صورة الإِسلام في أعين المسلمين وغير المسلمين، من قصد أو من غير قصد! وقبل أن نخوض في كيفية صناعة النصر على يد صلاح الدين الأيوبي، ينبغي علينا أن نأخذ لمحة بسيطة عن تاريخ الحروب الصليبية، والحقيقة أنني أحب أن أؤرخ بداية الحروب الصليبية قبل بدايتها بشكلٍ عملي بدعوة البابا (أوربان) لقتال المسلمين من مدينة "كليرمونت" الفرنسية في الـ 27 من في نوفمبر سنة 1095 م (488 هـ)، بل إنني أرجع البداية الحقيقية للحروب الصليبية إلى ما قبل ذلك بكثير، بل إلى ما قبل ولادة محمد بن عبد اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وبالتحديد إلى يوم إلى 20 من مايو سنة 325 م وهو اليوم الذي عُقد فيه مؤتمر "نيقية" الذي أعلن فيه الصليبيون الحرب على المسلمين بقيادة (آريوس)! أما إذا أردنا التأريخ للحروب الصليبية بمفهومها الدارج، ففعلًا بدأت تلك الحروب من تلك المدينة الفرنسية بالتحديد (وربما يفسر هذا سبب عداء فرنسا بالذات لكل ما هو إسلامي إلى هذا اليوم!) والملاحظ لهذا التاريخ الذي عُقد فيه مؤتمر "كليرمونت" أنه تاريخ سبقه مرور ألف سنة كاملة على ميلاد السيد المسيح عليه السلام، ولمن لا يعرف الكثير عن تاريخ المسيحية عليه أن يعلم أن البابوات في روما كانوا يأخذون الأموال من فقراء النصارى بعد أن أقنعوهم بأن يوم القيامة سيكون في سنة 1000 م، فعندما جاءت هذه السنة لاحظ أولئك الفقراء -الذين باعوا بيوتهم وأملاكهم للكنيسة لكي يشتروا بها صكوك الغفران- أن الأرض لم تتزلزل بهم البتة! وأن السماء لم تنشق عليهم!! فاكتشفوا أن رجال دينهم ما هم إلا لصوص سرقوا أموالهم بالباطل، فأوهمهم الباباوات أن الأمر يتطلب بعض الوقت حتى يستعد فيها الرب لهذه المهمة الشاقة، ولكن شيئًا لم يحدث! وسنة بعد سنة كان بابا روما يخترع فيها كذبة جديدة، وسنة بعد سنة كان النصارى يتململون من كذب رجال دينهم، حتى جاء الباب (أوربان) بالحل،

وهو أن يوجه أولئك الثوار إلى بلاد المسلمين قبل أن يثوروا على الكنيسة! وفعلًا حدث هذا، فتوجهوا أولًا إلى (القسطنطينية) ليقتلوا إخوانهم من الأرثوذكس في أبشع مذابح شهدها الأرثوذكس في تاريخهم، ولازالت هذه المذابح هي سبب القطيعة بين الكنيسة الكاثوليكية والكنيسة الأرثوذكسية إلى يوم الناس هذا (قارن ما فعله الكاثوليك بإخوتهم بالدين من قتل واغتصاب بما فعله محمد الفاتح بالأرثوذكس عند دخوله القسطنطينية من عفوٍ وتسامح!!!)، وسنة بعد سنة استطاع الصليبيون أن يستولوا على جلّ بلاد الشام، ساعدهم على ذلك تفكك العالم الإِسلامي، قبل أن يصلوا أخيرًا إلى القدس في سنة 492 هـ، وفي هذه المدينة المقدسة قتل الصليبيون الأطفال واغتصبوا النساء ومثلوا بالشيوخ، وهدموا المساجد، وأحرقوا البيوت، وذبحوا الآلاف من شباب المسلمين الأبرياء، فاحتمى المسلمون بالمسجد الأقصى ظنًا منهم أن الصليبيين لن يقتحموا الأماكن المقدسة، وهذه هي مشكلة المسلمين المزمنة: يظنون أن كل الناس لديهم نفس الأخلاق التي تعلموها من رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-! فقد اقتحم الصليبيون المسجد الأقصى بخيولهم، فقتلوا في ليلة واحدة: 70000 مسلمٍ ما بين سيدة وقاصر وحتى طفلة! ووصل مستوى الدم في الحرم القدسي الشريف إلى ركب الخيول، فسبحت خيول الصليبيين الأنجاس بدماء أطفال المسلمين الطاهرة!!! وفي سنة 532 هـ وُلد طفلٌ كردي في مدينة "تكريت" اسمه يوسف بن أيوب، وهو نفسه الذي سيحمل لقب صلاح الدين عندما يكبر! فنشأ ذلك الطفل تنشأةً إسلامية خالصة، ولما وصل إلى سن البلوغ، أرسله والده إلى مدرسة المدينة، فتعلم القراءة والكتابة باللغة العربية، وحفظ القرآن الكريم، حتى أصبح صلاح الدين معروفًا بين زملائه بالذكاء الشديد، وهدوء الطبع، وحبه الشديد للمطالعة ودراسة الكتب. الشيء اللافت للنظر الذي لاحظته من خلال مطالعتي لسيرة صلاح الدين الأيوبي، أنني وجدت أن والد صلاح الدين الأيوبي كان يقص عليه قصص الأبطال والمجاهدين في أمة الإِسلام! ولعل هذا ما يؤكد صدق ما كنا قد ذكرناه سابقًا بالنسبة لأهمية التاريخ في صناعة الأبطال، فلا بد لنا أن نربي أطفالنا منذ الصغر على قصص العظماء في هذه الأمة، لكي يخرج لنا ألف صلاح الدين، ليعيدوا لنا مسجد هذه الأمة.

المهم أن أمير الشام لاحظ مدى شجاعة هذا الفتى، فقام بتعيينه قائدًا في جنده، فأثبت صلاح الدين الأيوبي أنه أهل لهذه الثقة، وتوالت انتصارات المسلمين على الصليبيين، غير أن المسلمين ما كانوا ينتصرون على جيوش الصليبيين حتى يعود الصليبيون من جديد أكثر تسليحًا من سابق عهدهم! فلمّا فتش المسلمون على مصدر هذه الإمدادات الهائلة التي تأتي للصليبيين، وجدوا أنها تأتيهم من قومٍ ينتسبون إلى الإِسلام، ولكنهم يحملون في قلوبهم مرضًا لا يستطيعون التخلص منه أبدًا، مرض الخيانة! وكأن الخيانة أصبحت عادة عند الشيعة لا يستطيعون تغييرها أبدًا، وصدق اللَّه العظيم إذ قال "أتواصوا به" أي هل أوصى كل واحدٍ منهم الآخر على نفس العمل لدرجة أصبح فيها ذلك شيئًا متكررًا في التاريخ؟! وقد كنت أظن فيما مضى أن مشكلة الشيعة هي فقط مع عائلة بني أمية، إلا أنني تفاجأت في هذه السنة بالتحديد أن الشيعة يطلقون على صلاح الدين الأيوبي اسم خراب الدين الأيوبي!! وواللَّه إني عاشرت العرب والعجم، الأوروبيين منهم والأمريكان، وقابلت أقوامًا من جنسياتٍ أذكر بعضها وأنسى معظمها، فما وجدت منهم إلا الاحترام الشديد لسيرة هذا البطل الإِسلامي الذي شهد العدو له قبل الصديق ببسالته وسموّ أخلاقه. . . . . إلا الشيعة! وكأن لا همَّ لهم في الدنيا إلا الطعن في رموز هذه الأمة!!! أما نصر حطين فلم يبدأ من يوم المعركة بالتحديد، بل بدأ من اليوم الذي قرر فيه صلاح الدين الأيوبي التخلص من خيانات الشيعة المتمثلة بالدولة العبيدية (الفاطمية)، وهذا درسٌ يجب علينا أن نتعلمه من صلاح الدين إذا ما أردنا أن ننتصر كما انتصر هو على الصليبيين، ففي عصر صلاح الدين كان الصليبيون يحتلون القدس، وعلى الرغم من ذلك لم يحارب صلاح الدين الصليبيين أولًا، بل حارب الدولة الشيعية أولًا، وهذا شيء تكرر مع كل قادة المسلمين الذين صادف عصرهم ظهور عدوين أحدهما الشيعة، فواللَّه ما رأيت أحدهم يبدأ إلا بخونة الشيعة، وبعد ذلك ينتصر بكل سهولة على العدو الآخر، وما قصة السلطان العثماني سليم الأول رحمه اللَّه ببعيدة عنا، عندما ترك الصليبيين البرتغاليين، ليقاتل الخونة الصفويين في إيران، فما أن دمّر سليم الأول دولة إسماعيل الصفوي، حتى هرب الصليبيون من دون قتال، وصدق اللَّه العظيم إذ يقول في

كتابه الكريم يصف المنافقين {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ}! والدولة الفاطمية الشيعية التي تشيد بها معظم مناهج التاريخ العربية للأسف، هي نفسها الدولة التي قتلت ثلث الشعب المصري بأكمله، وقصة هذه الدولة الخبيثة التي عاونت الصليبيين في الأندلس والقدس، تعبدًا مع رجلٍ يهودي اسمه (عبيد اللَّه بن مأمون القداح) هذا الرجل هرب إلى المغرب ليدَّعي كذبًا أنه من نسل فاطمة بنت محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-، قبل أن يحتل أحد خلفائه وهو (المعز لدين اللَّه الفاطمي) مصر، ليقتل جميع علماء السنة فيها، وينشر الموالد والبدع في أرضها، ويعلن صراحة سب الصحابة في المساجد، بل وفي بعض الأحيان سب الرسول الكريم! حتى جاء ملوكٌ من بعده ليعاونوا الصليبيون في القدس، بعد أن عاونوهم من قبل في الأندلس، حتى جاء قرار صلاح الدين الأيوبي بإزالة هذه الدولة الخبيثة من على وجه الأرض، وبعد أن تم له ذلك. . . . أصبح نصر حطين مسألة وقت لا أكثر! ولكن. . . . من هو ذلك القائد التركي الذي أهدى للأمة الإِسلامية صلاح الدين الكردي؟ ولماذا يعتبره كثيرٌ من المؤرخين سادسَ الخلفاء الراشدين؟ يتبع. . . . .

73 - الشهيد (نور الدين زنكي)

" الشهيد" (نور الدين زنكي) " قد طالعت تواريخ الملوك المتقدمين قبل الإِسلام وفيه إلى يومنا هذا، فلم أر بعد الخلفاء الراشدين وعمر بن عبد العزيز أحسن سيرة من الملك العادل نور الدين" (ابن الأثير) هو ريحانة بلاد الشام، وأستاذ صلاح الدين الأيوبي، سماه بعض المؤرخين "سادس الخلفاء الراشدين" لعدله ودينه وحسن سياسته، هذا الرجل الذي لا يعرفه كثير منّا هو الصانع الحقيقي لنصر حطين، إننا نتحدث عن نورٍ أضاء اللَّه به الدين في أشد أوقات الأمة عتمة وسوادًا، إننا نتحدث عن نور الدين محمود ابن عماد الدين زنكي، المشهور باسم "نور الدين الشهيد"! وقبل أن نبحر سويًا في سيرة هذا البطل العطرة، أرى أن أقف قليلًا عند لقب "سادس الخلفاء الراشدين"، فأنا لا أرى أن هذا اللقب صحيح من الناحية التاريخية على الإطلاق! وليس هذا انتقاصًا من قدر هذا القائد العظيم الذي قدّم للإسلام الشيء الكثير، بل لأن الذين يطلقون عليه لقب سادس الخلفاء الراشدين هم أنفسهم الذين يطلقون على عمر بن العزيز رحمه اللَّه لقب خامس الخلفاء الراشدين، ومع إيماني اليقين أن كليهما من أعظم من أنجبت أمة الإِسلام، إلا أن في هذه الألقاب انتقاصٌ كبير لأمير المؤمنين الحسن ابن علي -رضي اللَّه عنهما-، والذي كان خامس الخلفاء الراشدين بدليل حديث رسول اللَّه الذي نص فيه بأن الخلافة بعده ثلاثين عامًا، أما إذا أردنا أن نطلق لقب سادس الخلفاء الراشدين على أحدٍ من البشر، فالأوْلى إذَا أن نطلقه على صاحب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وكاتب وحي السماء معاوية بن أبي سفيان -رضي اللَّه عنهما- والذي لو أنفق عمر بن عبد العزيز ونور الدين زنكي وصلاح الدين كنوز الأرض في سبيل اللَّه ما بلغوا شيئًا من فضله أو فضل

صحابي واحد من صحابة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- الذين هم أفضل خلق اللَّه على وجه الأرض بعد الأنبياء والرسل! ولكن الحقيقة أن سيرة نور الدين زنكي تشبه إلى حد بعيد سيرة الخلفاء الراشدين بالفعل، فهذا الملك التركي الأسمر هو الرجل الذي أحيى اللَّه به أمة الإِسلام بعد أن كادت تموت في القرن السادس الهجري، فيكفيك أن تعلم أن نور الدين الشهيد ظهر في زمانٍ استولى فيه الشيعة الرافضة على معظم بلاد الإِسلام، فلقد استولى (البويهيون) الشيعة على دولة الخلافة في بغداد، واستولى (العبيديون) الشيعة على مصر والمغرب الإِسلامي، ففتح الشيعة بذلك المجال للصليبيين لكي يستولوا على القدس، وكعادة عظماء أمة الإِسلام، فإن هذه الأوقات هي الأوقات التي يخرجون فيها للنور، وفعلًا. . . . . خرج للنور نور الدين، فأنار الدروب، ووحد الصفوف، وجمع الشمل، وما هي إلا سنوات قليلة، حتى كانت دولته تمتد من بلاد فارس في الشرق إلى حدود ليبيا في الغرب، ومن هضبة الأناضول في الشمال، إلى جبال اليمن في الجنوب، فأصبحت مسألة النصر على الصليبيين مسألة وقتٍ ليس أكثر، بل إن محمود نور الدين لم يرَ نصر حطين بعينيه، على الرغم من أنه كان مؤمنًا بالنصر، لدرجة دعته لبناء منبر لكي يوضع في المسجد الأقصى بعد تحريره، ولكنه مات قبل ذلك، فلم يُقدّر له أن يحضره بنفسه إلى القدس، فأحضره تلميذه صلاح الدين الذي أكمل طريقه في مقارعة الصليبيين، فالمنبر المعروف باسم منبر صلاح الدين هو في الأصل ذلك المنبر الذي بناه نور الدين الشهيد رحمه اللَّه (بقي هذا المنبر في المسجد الأقصى حتى يوم 21 آب (أغسطس) سنة 1969 م عندما أحرقه إرهابي صهيوني اسمه مايكل روهان!). وعلى الرغم من مكانة الملك محمود نور الدين زنكي العظيمة، وعلى الرغم من عظمة سلطانه واتساع ملكه، فإنه كان يتوسل إلى اللَّه قبل كل معركة بخشوع المؤمن، ففي ليلة من الليالي، خرج نور الدين في عتمة الليل إلى فناء مهجور، وقد استعد بجيشه الصغير لقتال جحافل الصليبيين الذين يحاصرون مدينة "دمياط" المصرية، فرفع الملك محمود يديه في السماء، وسجد على الأرض، ولطخ رأسه بالتراب وأخذ يبكي ويدعو اللَّه بانكسار: "اللهم إنك إن نصرت فدينك نصرت، فلا تمنعهم النصر بسبب محمود إن كان غير

مستحق للنصر، اللهم انصر دينك ولا تنصر محمودًا، من الكلب محمود حتى ينصر" عندها رأى شيخ كبير من شيوخ المسلمين رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في المنام وهو يقول له: "أعلم نور الدين أن الفرنج رحلوا عن دمياط هذه الليلة" فقال الشيخ: يا رسول اللَّه ربما لا يصدقني فاذكر لي علامة يعرفها، قال: "قل له بعلامة ما سجدت على تل حارم وقلت يا رب انصر دينك ولا تنصر محمودا من هو محمود الكلب حتى ينصر" فأسرع هذا الشيخ إلى المسجد الذي كان نور الدين يقوم فيه الليل وأخبره بالرؤيا والعلامة ولكنه لم يذكر لفظة (الكلب)، فقال له نور الدين رحمه اللَّه: "اذكر العلامة كلها! "، فاستحى الشيخ أن يذكرها، فألح نور الدين في ذلك، فقالها له، فبكى نور الدين وصدق الرؤيا وكانت هذه الليلة بالفعل هي ليلة هزيمة الصليبيين ورحيلهم عن دمياط! فرحم اللَّه نور الدين محمود بن عماد الدين زنكي، ورحم اللَّه تلميذه صلاح الدين يوسف الأيوبي لما قدماه للإسلام والمسلمين، فهذا رجل تركي، والآخر كردي، فيا لروعة الإِسلام الذي نصره اللَّه بالتركي والكردي، فالإِسلام لم ينتصر بالعروبة، ولا بالقبلية، ولا بالأكراد أو الأتراك، الإِسلام انتصر بالمسلمين! وإذا كنا قد تكلمنا عن البربر وعن الاكراد وعن الأتراك، فقد جاء الوقت لكي نتكلم عن رجالٍ خرجوا من عباءة قومية معينة، حملوا راية الإِسلام، ليرفعوها في علياء السماء، ليكونوا أعظم فرسانٍ للعلم في أمة الإِسلام العظيمة على الإطلاق، وليبشر رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بهم من دون أن يراهم! يتبع. . . . . .

74 - (مؤمنو الفرس)

(مُؤْمِنو الفُرْس) " لَوْ كَانَ الإيمَانُ عِنْدَ الثُّرَيَّا لَنالَهُ رِجَالٌ مِنْ هَؤُلاءِ" (رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-) ربّما لاحظ البعض أنني من خلال هذا الكتاب ركزت على الهجوم على خونة الفرس في غير موضع، وهذا شيءٌ لا أنكره البتة، وليس عندي من الشك أدناه أنني لو أعدت كتابة هذا الكتاب من جديد، لتركت المجال لقلمي لكي ينزل على مرازبة فارس ما هو أشد وطأة مما كتبت! ليس ذلك من قبيل الحقد القومي أو النزعة العنصرية التي لا يحتاج القارئ الكريم لكثيرٍ من التأمل في صفحات هذا الكتاب ليكتشف أن كاتبه بعيدٌ كل البعد عنها، بل كان ذلك من باب إعطاء كل ذي حقٍ حقّه. . . . . . فلقد مدحت البربر الأمازيغ في هذا الكتاب حتى خِلت نفسي بربريًا، ومدحت الأتراك في غير موضع حتى ظننت أنني أحد أحفاد عثمان أرطغرل، وأشدت بصلاح الدين وسليمان الحلبي بعد أن ذكرت أنهما كرديان، وترجمت لأبطالٍ منسيين من أمثال لابو لابو الفلبيني، وزومبي البرازيلي، والفرنسي موريس بوكاي، والأمريكي مالكوم إكس، والغيني عبد الرحمن بن سوري، والصعيدي علي الجرجاوي، والفارسي البطل سلمان الفارسي، ولمن كان له صبرٌ لمتابعة بقية أحداث هذا العمل لآخره سيجد أنني أذكر عظماء الإِسلام من الهنود بشكل يليق بعظمتهم، بل إن أول كتاب كتبته في حياتي كان عن عملاقٍ من أمة الفرس بالتحديد اسمه سلمان الفارسي، وواللَّه ما مدحت هؤلاء وهؤلاء في هذا الكتاب إلا إنصافا للتاريخ وابتغاءً لوجه اللَّه، وواللَّه ما هاجمت مجرمي الفرس في هذا الكتاب إلا إنصافا للتاريخ وابتغاءً لوجه اللَّه أيضًا! فلقد اختار الفرس كقومية منذ ظهور المجرم (إسماعيل الصفوي) أن ينسلخوا من إسلاميتهم وأن ينضوا تحت عباءة فارسيتهم المجوسية، فاختاروا بذلك أن يكونوا في الصف المعادي لأمة الإِسلام، فكان حقًا علي محاربتهم بقلمي، وأقسم بالذي أنزل القرآن العربي على عبده العربي لو أن العرب كانوا قد انسلخوا من إسلاميتهم وفضلوا

الرجوع إلى جاهليتهم كما فضل الفرس الرجوع إلى مجوسيتهم، لهجوت العرب في هذا الكتاب بهجاءٍ يفوق هجاء جريرٍ للفرزدق! ولا يحتاج المرء لأكثر من تذكرة سفر لطائرة متوجهة إلى حاضرة الفرس "طهران" لكي يرى بأم عينيه مظاهر انسلاخ الفرس عن الإِسلام، ولست في حاجة هنا إلى ذكره الأرقام التي تذكرها الحكومة الإيرانية عن نسب الدعارة المنتشرة في شوارع طهران أو مظاهر الانحلال الفاضحة التي يراها المرء في حدائق أصفهان، فهذا ليس لبّ الموضوع الذي يهمنا الآن، فالموضوع في أصله موضوعٌ عقائدي، فلقد لاحظت من خلال احتكاكي مع شباب فارس في أوروبا بأنهم يلبسون على أعناقهم سلاسلًا عليها نسرٌ مميز الشكل، ظننته في بادئ الأمر نوعًا من أنواع الزينة، ولكنني عندما رأيت هذا الأمر يتكرر، بحثت في حقيقة ذلك النسر لاكتشف أنه "نسر زرادشت المقدس"! وزرادشت يا سادة هو مؤسس الدين المجوسي!! ليس هذا فحسب، بل إن شعار الدولة الإيرانية المعاصرة والذي يعتقد كثيرٌ من المخدوعين بأنه عبارة عن رسمٍ للفظ الجلالة (اللَّه) ليس إلا شعار السيخ الهنود الذين انبثق من رحمهم الخميني، ولا أدري لماذا لا يرسم الفرس كلمة (اللَّه) بشكلٍ واضح كما رسمت المملكة العربية السعودية الشهادتين على علمها أو كما رسم الشهيد بإذن اللَّه صدام حسين على علمه بخط يده عبارة (اللَّه أكبر)! الغريب في الأمر أن إيران ما زالت تصر على تسمية الخليج العربي بالخليج الفارسي، على الرغم من أنها تدّعي الانتساب لشيعة علي العربي القرشي! بل إن إيران رفضت مقترحًا من منظمة المؤتمر الإِسلامي بتسميته بالخليج الإِسلامي!!! والذي لا يعلمه الكثير منّا أن العيد الوطني الرابع في إيران هو عيد مقتل الفاروق عمر الذي قتله الفارسي الإرهابي أبو لؤلؤة! وإيران الفارسية هي الدولة التي ما زالت تحتل أرضًا عربية متمثلة في الجزر الإماراتية والأحواز التي تمنع أهلها عن مجرد تعلم العربية لغة القرآن. وإذاعة إيران الرسمية تفتح إشارتها بلعن أصحاب محمد، ناهيك عن دور إيران القذر في العراق الجريح وتدريبها لميليشيات الغدر لقتل أهل السنة

والجماعة، وناهيك أيضًا عن دورها القذر في الاضطرابات التي يحدثها جواسيسها في المنطقة! من أجل هذه الأسباب وغيرها هاجمت خونة الفرس، ولكنني في نفس الوقت سأدافع عن الفرس المسلمين الذين يلعنهم الفرس الصفويين ليل نهار، فالذي لا يعلمه الكثيرون أن أبا حنيفة الذي نبش شيعة الصفويين الأنجاس قبره في بغداد عند احتلالها هو فارسي الأصل، فالفرس كانوا منا وكنا منهم، بل إن أعظم علماء أهل السنة والجماعة كانوا جميعًا من الفرس، فلقد كان 90 % من الفرس من أهل السنة والجماعة حتى جاء القذر إسماعيل الصفوي ليغير دين الفرس بعد أن قتل مئات الآلاف منهم، لينسى عامة الفرس انتسابهم لعظماء أمة الإِسلام، مفضلين على ذلك انتسابهم لكسرى يزدجرد! وهاكم قائمة ببعض أسماء علماء بلاد فارس الذين يتبرأ منهم الفرس الحاليون: الإِمام البخاري، الإِمام أبو حنيفة النعمان، الإِمام النسائي، الإِمام الترمذي، الإِمام ابن ماجة، الإِمام أبو داود، الإِمام البيهقي، الإِمام الحاكم النيسابوري، الإِمام الدارقطني، الإِمام السجستاني، الإِمام الطبري، الإِمام الكسائي، أبو بكر الرازي، فخر الدين الرازي، الخوارزمي، سيبويه، وغيرهم الكثير من الذين لا يتسع المقام لعدّهم، والذين كانوا من أهم بناء هذه الحضارة الإِسلامية العربية! وإذا جاء ذكر علماء الفرس، جاء ذكر أعظم عالم فارسي. . . . جاء ذكر عالم إسلامي عظيم كان كتابه ومازال أعظم كتاب موجودٍ على وجه الكرة الأرضية بعد كتاب اللَّه مباشرة! يتبع. . . . .

75 - الهدف القادم لغزاة التاريخ (البخاري)

" الهدف القادم لغزاة التاريخ" (البخاري) " ما تحت أديم السماء أعلم بحديث رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- مثل هذا الرجل" (إمام الأئمة ابن خزيمة) تعجب تلاميذ إحدى الكتاتيب الصغيرة الواقعة في إحدى مدن خراسان من أمر طفلٍ يتيمٍ دون العاشرة كان يأتي إلى الكتّاب من دون ورقةٍ أو قلم، فقد كان شيخ الكُتّاب يروي عليهم أحاديث رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فيسارعون هم إلى تدوينها، إلا ذلك الطفل لم يكن يكتب شيئًا على الإطلاق! ومرّت الأيام وهذا الطفل على حاله تلك، يأتي في صمت، ويعود في صمت، حتى جاء ذلك اليوم الذي سَخِر فيه التلاميذ من هذا الطفل الغريب، وعايروه بأنه لا يكتب شيئًا، فنظر الطفل الصغير إليهم نظرة الواثق وقال لهم: أخرجوا كراريسكم لأراجعها لكم! فأخرج التلاميذ كراريسهم وهم ينظرون بدهشة لهذا الطفل الصغير الذي بدأ يراجع لهم الأحاديث التي كتبوها على مدى أشهر حديثا حديثًا وهم يطابقون صحتها في كتبهم، فراجع لهم هذا الطفل الصغير الذي لم يبلغ العاشرة من عمره 15000 حديثٍ بمتونها وأسانيدها!!! لقد كان هذا الطفل الأعجوبة يُدعى (محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة ابن بردزبه)، وهو نفسه الذي سيطلق عليه بعد ذلك بسنوات قليلة وإلى يوم القيامة اسم: الإِمام البخاري! والحقيقة أنني عثرت على روايةٍ عجيبةٍ في خضم إبحاري في سيرة الإِمام البخاري قد تفسر لنا سرّ تلك الذاكرة العجيبة التي كان يتمتع بها البخاري، تقول هذه الرواية أن البخاريّ كان قد عمي في صغره، ففقد بصره بالكلية، فأخذت أمه تبكي على ابنها الوحيد بكاءً شديدًا وتدعو اللَّه أن يرجع له بصره، وفي ليلة من الليالي رأت تلك الأمة الصالحة في المنام نبي اللَّه إبراهيم الخليل عليه السلام فقال لها: يا هذه قد رد اللَّه على ابنك بصره! فاستيقظت الأم من نوها وأسرعت إلى طفلها لتجد أن بصره قد عاد إليه! الشاهد في هذه

الرواية أمران، الأول هو أن سر ذاكرة البخاري القوية يكمن في فقده لبصره في طفولته، فالمعلوم طبيًا أن هناك خاصية عجيبة خلقها اللَّه في جسم الإنسان، ألا وهي خاصية "التعويض الوظيفي" وتنص على أن الجسم البشري إذا ما فقد حاسة من حواسه، فإن قوة الحواس الأخرى تزيد بشكل يعمل على سد الثغرة الحسية التي نتجت عن فقده لتلك الحاسة، وهذا ما يفسر قوة السمع والحفظ للطفل الأعمى، أما في حالة البخاري فقد اكتسب دماغه أثناء عماه تلك الخاصية الاستثنائية على ما يبدو، ثم ردّ اللَّه عليه بصره، فصار البخاري يجمع بين ذاكرة الأعمى، ونظر المبصر، فأصبح إنسانًا استثنائيًا! أما الشاهد الثاني فهو أن البخاري مختارٌ من اللَّه الذي هيأه لهذه المهة الخطيرة، مهمة حفظ وحي السماء الذي جاء على صورة أحاديث رسول اللَّه، فهناك خطأ شائع لدى البعض ممن يعتقدون بأن اللَّه تكفل بحفظ القرآن فقط بقوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)}، فالذكر هو الوحي الإلهي الذي نزل على صورة القرآن أو الأحاديث القدسية أو أحاديث رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- الذي لم يكن ينطق عن الهوى {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)}، وحفظ هذا الذكر يتطلب رجالا يحفظون القرآن كعثمان ابن عفان، ويحفظون الأحاديث كالبخاري ومسلم، ويحفظون سيرة الرسول وسيرة أصحابه الذين حفظوا لنا القرآن والسنة: وهذا ما قام به أئمة المؤرخين من أمثال الطبري وابن كثير، ويتطلب أيضًا رجالًا مثلي ومثلك يقومون بالدفاع عن سيرة أولئك كلهم، والذين نقلوا الإِسلام لنا، والذين لو استطاع غزاة التاريخ أن ينالوا من سمعتهم وسيرتهم، لسقط هذا الدين بالكلية، ولأصبحنا أنا وأنت مجرد قطيعٍ بلا راعي! وهذا بالضبط ما نحاول صنعه في هذه السطور القليلة، فليس الغرض من هذا الكتاب مجرد سرد الحكايات والقصص المسلية، بل الهدف الأساسي منه هو الدفاع عن دين اللَّه في هذه الفترة الزمنية الحرجة التي يحاول فيها غزاة التاريخ أن ينالوا من دين اللَّه بالهجوم على ثوابته ورموزه بعد أن عجزوا لمئات السنين من أن يتخلصوا من المسلمين أنفسهم بعد ما قضوا مئات السنين يحاولون ذلك بمجازرهم ومذابحهم، فما وجدوا إلا ازديادًا لأعداد المسلمين رغم كل ذلك! فهناك ظاهرة طفت على السطح في السنوات الأخيرة بالذات، أحسب أنني لم أسمع

بظهورها في تاريخ المتقدمين أو المتأخرين، لقد خرج علينا أناسٌ من بني جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا، وينتسبون إلى الإِسلام، بل ويدعون التقوى والصلاح، ليطعنوا بالبخاري وصحيحه بالذات، والذي يعتبر أصح كتابٍ على وجه الأرض بعد كتاب اللَّه عَزَّ وَجَلَّ، ولو علم هؤلاء المنافقون أن الإِمام البخاري قضى 16 عامًا من زهرة شبابه في كتابة هذا الكتاب فقط لما تجرأوا على جريمتهم تلك، بل الأخطر من ذلك أنه ظهرت في الآونة الأخيرة مجموعة خطيرة من المنافقين ممن يُسمّون بـ "القرآنيين" هؤلاء المجرمون لا يطعنون في البخاري فحسب، بل لا يعترفون بالسنة النبوية أصلًا، ويدّعون كذبًا وبهتانًا أن المصدر الوحيد للتشريع الإِسلامي هو القرآن فقط، وأن أحاديث المصطفى كانت تخص الصحابة فقط، وإلى أولئك السفلة الذين يعلمون أننا نعلم أنهم يكاذبون أقول: ألم يقل اللَّه سبحانه وتعالى في القرآن الذي تتشدقون به: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ}، فهل طاعة الرسول تكون بغير الإلتزام بأحاديثه؟! أم أننا يجب أن نذهب إلى قبره لكي ننتظر منه الأوامر؟!! فقبحًا لكم ماذا أبقيتم لنا من هذا الدين؟ وأي دين تتبعون يا عبّاد الدولار؟ الغريب أن الفضائيات صارت تعطي كل من يطعن بالبخاري بالتحديد المجال الواسع لبث سمومه على عامة المسلمين! فصار كل من هبَّ ودبَّ يطعن في البخاري، وكأن الإِمام البخاري كان طفلًا يلعب معهم في رياض الأطفال! فاللَّه اللَّه في البخاري، واللَّه اللَّه في الدفاع عن السنة التي حفظها لنا الإِمام! وإذا كان اللَّه قد أخرج لأمة النبي العربي رجلًا فارسيًا ليحفظ لها أحاديث رسولهم الصحيحة بعد موته بـ 200 عام، فإن اللَّه سبحانه تعالى أخرج للمسلمين من على قمم جبال البلقان في أوروبا رجلًا ألبانيًا حمل راية الجرح والتعديل للأحاديث النبوية بعد 1300 عام من موت النبي، ليصبح هذا الرجل الأوروبي بكل استحقاق "محدِّث الأمة"! يتبع. . . . . .

76 - محدث الأمة (محمد ناصر الدين الألباني)

" مُحَدِّث الأمَّة" (محمد ناصر الدين الألباني) " ما رأيت تحت أديم السماء عالمًا بالحديث في العصر مثل العلامة محمد ناصر الدين الألباني" (الشيخ عبد العزيز بن باز) ما أعظم هذا الدين! فكلما تعمقت أكثر في تاريخ الإِسلام وتاريخ عظماء أمة الإِسلام، أدركت حجم النعمة التي نحن فيها، وأدركت عِظم هذا الدين الذي نحن عليه. فما الذي جعل رجلًا من أقاصي بلاد فارس ينذر حياته كلها في جمع أحاديث بلغة ليست بلغته، لنبي ليس من قوميته؟ وما الذي دفع رجلًا أوروبيًا ليس فيه جذورٌ عربية -عدنانية كانت أو قحطانية- أن يسخر كل حياته لكي يصحح الأحاديث المروية عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ليفصل منها الغث من السمين، وليحمل راية الجرح والتعديل في أصعب زمنٍ مرت به الأمة الإِسلامية على الإطلاق؟! إننا في صدد الحديث عن رجلٍ اعتبره كبار علماء هذه الأمة مجدد الإِسلام في القرن الأخير، إننا نتحدث عن الشيخ محمد ناصر الدين الألباني -رحمه اللَّه تعالى- الذي سخر عمره في تصحيح وتحرير سنة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. وقبل أن نتحدث عن الشيخ الألباني رحمه اللَّه، أرى أنه من الواجب أن نتكلم قليلًا عن "ألبانيا"، البلد الذي ينتسب إليه هذا العالم الإِسلامي العظيم، فمن منا يعلم أن في قلب أوروبا المسيحية بلدٌ إسلامي اسمه ألبانيا؟ من منّا سمع باسم "تيرانا" تلك العاصمة الإِسلامية لهذا البلد؟ بل من منا سمع باسم ألبانيا أصلًا في حياته كلها؟!! واللَّه يا إخوة إن حال هذه الأمة لن يتغير إذا لم نغير نحن من أنفسنا أولًا، فلا يستقيم أبدًا أن نحمل شرف أن يقال علينا أننا أتباع محمد بن عبد اللَّه الذي علّم البشرية كلها معنى العلم

ونحن بهذه الدرجة المتخلفة من الثقافة! ولا يستقيم أبدًا -وأوجه كلامي هنا خاصة لطلبة العلم الشرعي- أن نهتم بحفظ القرآن الأحاديث ودراسة الفقه والعقيدة ونهمل الاضطلاع على أمور العالم من حولنا لدرجة تجعلنا معزولين بالكلية عن العالم الخارجي وما يدور من حولنا! فما هكذا كان أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- الذين كانوا أعلم منا بألاف المرات بالقرآن والسنة، فالذي لا يعرفه الناس عن الصحابة الكرام رضوان اللَّه عليهم أنهم كانوا يتعلمون اللغات الأجنبية، وكانوا يحفظون الشعر وينظمونه دفاعًا عن دين اللَّه، وكانوا على دراية كبيرة بعلوم الزراعة والتجارة والصناعة بل وحتى علوم التاريخ والجغرافيا، والذي لا يعرفه الكثيرون عن أبي بكر رضي اللَّه عنه وأرضاه أنه كان عالمًا كبيرًا من علماء التاريخ الإنساني وعلماء الأنساب على مستوى الجزيرة العربية كلها، مما أهله لكي يكون مستشار رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في مفاوضاته مع القبائل العربية قبل الهجرة. وزيد بن ثابت الأنصاري رضي اللَّه وأرضاه (وهو الشاب الذي كلفه عثمان بن عفان رضي اللَّه عنه وأرضاه بقيادة فريق الصحابة لجمع القرآن الذي هو بين أيدينا الآن) تعلم العبرية في وقت قياسي بناءً على أمر شخصي من رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وأضاف إليها السريانية، مما أهله ليكون ترجمان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وليسأل كل واحدٌ فينا نفسه: هل لو كنت تعيش في زمن الصحابة، أكان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- سيستعين بك في شيء، أم أن ما في جعبتك من علوم الدنيا لا يؤهلك لخدمة رسول العالمين في شيء؟!! وألبانيا يا سادة دولة إسلامية في منطقة البلقان الأوروبية، التي كانت جزءً من ديار الإِسلام لما يزيد عن 500 عام في ظل الخلافة الإِسلامية العثمانية الراشدة، وقد يُفاجأ البعض عند علمهم أن الإِسلام دخل إلى ألبانيا مبكرًا، وبالتحديد مع القرن الأول الهجري في ظل دولة الأمويين! فلقد بعث بنو أمية الدعاة والتجار إلى البلقان لينشروا الإِسلام هناك، فأسلم الألبان عن بكرة أبيهم، ليبدأ مسلسل مجازر الصرب الأرثذوكس على المسلمين منذ ذلك الوقت المبكر، وحتى الآن! وفي عام 1333 هـ - 1914 م وُلد لشيخٍ طيبٍ من شيوخ عاصمة ألبانيا القديمة "أشقدورة" هو الحاج (نوح بن نجاتي بن آدم الأشقودري) طفل أسماه محمدًا تيمنًا

برسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وصادف ذلك الزمن ظهور رئيسٍ مجرمٍ في ألبانيا اسمه (أحمد زوغلو)، هذا الرئيس كانت له اتجاهات غربية، فمنع النساء من ارتداء الحجاب، وأغلق، المدارس الدينية، وفرض الفكر الغربي على المسلمين هناك. فقرر الحاج نوح أن يترك الدار والأهل ليهاجر في سبيل اللَّه إلى أرض الشام المباركة، وصدق رسول اللَّه إذ قال: "من كانت هجرته للَّه ورسوله، فهجرته للَّه ورسوله"، فقد كافأ اللَّه الحاج نوح على تضحيته بأن جعل من ابنه محمد إمام عصره وزمانه، ليكون بالفعل ناصر الدين في هذا الزمن، فلقد علم الحاج نوح ابنه محمدًا على يديه، فوضع له برنامجًا صارمًا في حفظ القرآن والحديث والنحو والتصريف، وفي نفس الوقت علمه مهنة إصلاح الساعات ليكون واحدًا من أشهر أرباب هذه المهنة في الشام كلها، فالألباني يا إخوة الذي صحَّح أحاديث محمد بن عبد اللَّه في مصنفاتٍ ضخمة لم يكن "دكتورًا جامعيًا" أو "أكاديميًا مروموقًا" بل كان "ساعاتيًا"! فهل قدمتم يا دكاترة هذا الزمان عُشر مِعشار ما قدمه هذا الساعاتي للإسلام؟ فإذا ما قرأت حديثًا لرسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ووجدت من تحته عبارة "صححه الألباني" فاعلم أن فضل ذلك يعود لهذا العالم الإِسلامي العظيم! ولكن الألباني ومِن قبله البخاري ومسلم والترمذي وغيرهم، ما كانوا ليكونوا ما كانوا عليه، لولا كينونة كائن نحيلٍ كان لا يكُنُّ في كيانه أيَّ شيءٍ كان يقوله أعظم كائنٍ كان في الكون. . . . كونوا معنا! يتبع. . . . .

77 - (أبو هريرة)

"فما خُلق مؤمن يسمع بي ولا يراني إلا أحبني! " (أبو هريرة) " أنت أعلمنا يا أبا هريرة برسول اللَّه وأحفظنا لحديثه" (عمر بن الخطاب) في السنة العاشرة من البعثة النبوية، قدم إلى مكة سيدٌ من أعظم أشراف اليمن وشعرائها يقال له: (الطفيل بن عمرو الدوسي)، فما إن وصل مكة حتى استقبلته قريشٌ استقبالًا يليق بسيدٍ من سادات العرب، وبينما هو بينهم اقتربوا منه ليحذروه من رجلٍ من بني هاشم اسمه محمد بن عبد اللَّه قائلين له: "يا طفيل. . . . إنك قدمت بلادنا، فاحببنا أن نحذرك من رجلٍ ظهر في قومنا، وقد فرق جماعتنا، وشتت أمرنا، وإنما قوله كالسحر يفرق بين الرجل وبين أبيه وبين الرجل وبين أخيه وبين الرجل وبين زوجته، وإنا نخشى عليك وعلى قومك ما قد دخل علينا، فلا تكلمنه ولا تسمعن منه شيئًا! " وظل كفار قريش يحذرون هذا السيد اليماني حتى خاف بالفعل وقرر في نفسه أن لا يسمع من ذلك الرجل ولا يكلمه بأي شيء، ليس ذلك فحسب، بل إن آلة قريش الإعلامية خوفت هذا الرجل الغريب من ذلك (الإرهابي) لدرجةٍ جعلت الطفيل يحشو أذنيه بشيء مثل القطن حتى لا يسمع شيئًا من ذلك الرجل! فانطلق الطفيل إلى الكعبة، فإذا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قائم يصلي عند الكعبة ويتعبد، فقام الطفيل منه قريبًا، فأبى اللَّه إلا أن يسمعه بعض قوله بالرغم من أن أذنيه محشوتان بالقطن، فسمع الطفيل كلاما حسنًا، فقال في نفسه: "واثكل أمك يا طفيل! واللَّه إنك لرجل لبيب شاعر ما يخفى عليك الحسن من القبيح، فما يمنعنك أن تسمع من هذا الرجل ما يقوله، فإن كان الذي يأتي به حسنا قبلته، وإن كان قبيحا تركته! " فمكث الطفيل يستمع خفية إلى الرسول حتى انصرف إلى بيته، فتبعه الطفيل سرًا، حتى إذا دخل بيته دخل عليه وقال: "يا محمد إن قومك قالوا لي كذا وكذا، فواللَّه ما برحوا يخوفونني أمرك حتى سددت أذني بكرسف لئلا أسمع قولك، ثم أبي اللَّه

إلا أن يسمعني قولك، فسمعته قولا حسنا، فأعرض علي أمرك" فعرض عليه رسول اللَّه الإِسلام وتلا عليه القرآن، ويقول الطفيل وهو يروي هذه القصة: "فلا واللَّه ما سمعت قولًا قط أحسن منه ولا أمرا أعدل منه، فأسلمت، وشهدت شهادة الحق". وبعد ذلك رجع الطفيل بن عمرو الدوسي إلى اليمن وأخذ يدعو قومه للإسلام، حتى جاءت السنة السابعة للهجرة، فتفاجأ المسلمون بمجيئ الطفيل بن عمرو الدوسي بسبعين عائلة من أهل اليمن أسلموا كلهم على يديه! كان من بينهم شاب نحيل لم يتجاوز الـ 26 من عمره تبدو عليه ملامح الفقر المتقع والبؤس الشديد اسمه: (عبد الرحمن بن صخر الأزدي)، كانت له هرة صغيرة يحملها على كتفيه يطعمها ويعطف عليها، ستصبح فيما بعد أشهر هرةٍ خلقها اللَّه منذ بداية الخلق، فلقد كنّى الناس هذا المسكين بـ (أبي هريرة)، وهو نفس الاسم الذي سيتردد بعد ذلك في سجل العظماء إلى يوم القيامة. وقبل أن نغوص أكثر في قصة هذا الشاب الرائع، أستسمح القارئ الكريم عذرًا لنقف قليلًا عند قصة إسلام السيد العظيم الطفيل ابن عمرو الدوسي رضي اللَّه عنه وأرضاه، والحق أقول أن هذه القصة لها دلائل عظيمة يصعب حصرها, ولكن الملاحظة المهة هي أن الكفار شوّهوا صورة الإِسلام وصورة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لدرجة دفعت هذا السيد الشاعر أن يحشو أذنيه بالكرفس خوفًا من ذلك الرجل المسلم الذي صورته "وكالات الأنباء القرشية" بـ "الإرهابي الخطير! "، فلم يكتفِ اللَّه سبحانه وتعالى بأن جعله مسلمًا فحسب، بل جعله سببًا لإسلام أبي هريرة، أعظم "وكالة أنباء" إسلامية في التاريخ الإِسلامي بأسره! وكأن هذه القصة تفسر قول اللَّه تعالى: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} ولاحظ هنا أن اللَّه قال "بأفواههم"، والفوه -أي الفم- هو مصدر الكلام والدعايات، فما أشبه اليوم بالأمس! فلا تكاد تجد وسيلة إعلام عالمية حتى تجد أمامك تشويه مخيف لصورة المسلمين، فأبشروا عباد اللَّه بفتحٍ قريب، كالفتح الذي جاء به الطفيل بن عمرو الدوسي جزاه اللَّه خيرًا، والذي ربّما لو لم تذكر له قريش محمدًا، لما استمع إليه أصلًا، ولما جاء بعد ذلك بأبي هريرة أكثر من نقل حديث رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- على وجه البرية. وإذا كان المرء قد تعجب من قصة "ذي النور" الطفيل ابن عمرو الدوسي رضي اللَّه عنه وأرضاه، فإن المرء ليتعجب أكثر من قصة أبي هريرة نفسه! فعبد الرحمن

الأزدي والذي لا يخلو كتاب يتحدث عن الإِسلام من ذكر كنيته الشهيرة "أبي هريرة"، لم يصحب الرسول لأكثر من 4 سنوات فقط من أصل 23 سنة هي عمر الدعوة المحمدية، وهو مع ذلك أكثر من نقل الحديث من الصحابة!. . . . فكيف نفسر ذلك؟! والحقيقة أن اللَّه تعالى وعلى الرغم من قدرته اللامحدودة يسخر الأسباب لكل شيء، فكما كان عمى البخاري سببًا في قوة ذاكرته، فإنه سبب الأسباب أيضًا لعبده أبي هريرة لكي يحفظ هذا القدر الكبير من الأحاديث في تلك الفترة الوجيزة (حوالي 4026 حديث)، فلقد كان أبو هريرة مسكينًا لا يملك تجارة يعمل بها ولا أرضا يحرثها ولا عائلة يرعاها! أي أن أبا هريرة كان باختصار شابًا معدمًا لا يملك حتى قوت يومه، لذلك استغل كل وقته في صحبة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولِندع طلحة بن عبيد اللَّه يفسر لنا سر كثرة أحاديث أبي هريرة بنفسه: "واللَّه ما نشك أنه قد سمع من رسول اللَّه ما لم نسمع، وعلم ما لم نعلم، إنا كنا قومًا أغنياء، لنا بيوتات وأهلون، وكنا نأتي رسول اللَّه طرفي النهار ثم نرجع، وكان هو مسكينًا لا مال له ولا أهل، وإنما كانت يده مع رسول اللَّه وكان يدور معه حيث دار، فما نشك أنه قد علم ما لم نعلم، وسمع ما لم نسمع". فجزاك اللَّه كل خير يا أبا هريرة لما قدمته للإسلام وللمسلمين، وإن كنت مسكينًا في حياتك، فهنيئًا لك الجنة أيها الشاب اليماني البطل، فأبشروا يا أهل اليمن، فواللَّه لو لم يكن فيكم إلا أبو هريرة لكفاكم شرفًا في التاريخ, ولكنكم أيها اليمانيون أبيتم إلا أن تقدِّموا للأمة أعظم رجالها، وأشجع فرسانها، فبورك فيكم يا أهل اليمن، وبورك في يمنكم التي أخرجت للبشريية بعد ما يزيد عن أحد عشر قرنًا من موت أبي هريرة اليماني عظيمًا يمانيًا آخر من عظماء أمة الإِسلام، خلّد اسمه في سجل المائة بكتاب عظيمٍ يحمل توقيعه، أطلق عليه اسم "نيل الأوطار"، فطار ذكره، وعلا صيته، وأصبح مرجعًا لا يستغني عنه أي طالب العلم! يتبع. . . .

78 - (الإمام الشوكاني)

"يا أهل اليمن. . . . اقبلوا البشرى! " (الإمام الشوكاني) " يطلع عليكم أهل اليمن كأنهم السحاب، هم خيار من في الأرض" (رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-) ما اختص رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أهل أرضٍ بالمديح والثناء، بمثل ما اختص به أهل الشام وأهل اليمن، فلقد أكثر رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بالدعاء لأهل تلك البلاد بالذات، فكان يكثر بالدعاء لهم بالبركة عن باقي شعوب الأرض، ففي الحديث الصحيح الذي أخرجه البخاري عن عبد اللَّه بن عمر -رضي اللَّه عنهما- أنه قال: "اللهم بارك لنا في شامنا وبارك لنا في يمننا" إلى آخر الحديث. وأخرج البخاري عن أبي هريرة أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "أتاكم أهل اليمن، هم أرق أفئدة وألين قلوبًا، الإيمان يماني، والحكمة يمانية". والحقيقة أنني استشعرت شخصيًا معنى هذا الحديث الشريف من خلال معاشرتي للشباب اليمانيين في أوروبا، فالشباب اليماني له ميزة خاصة في الأدب ودماثة الأخلاق قلّما تجدها في غيرهم، ولا ريب من ذلك بعد أن شهد لهم أصدق رجل في تاريخ البشرية بامتلاكهم لهذه الأخلاق الحميدة، فهذه الأرض هي التي أنبتت للمسلمين رجالًا مثل الطفيل بن عمرو الدوسي وأبي هريرة وأبي موسى الأشعري وأويس القرني وغيرهم من صحابة اليمن رضوان اللَّه عليهم أجمعين، وهذه الأرض هي التي خرج منها المجاهدون الذين فتحوا الشام ومصر والعراق، وهذه الأرض هي التي خرج منها التجار الحضارمة الذين نشروا الإِسلام في أفريقيا الشرقية وأندونيسيا وماليزيا وجنوب شرق آسيا كله، وهذه الأرض هي نفسها التي أنبتت للإسلام بطل قصتنا الحالي! ففي سنة 1173 هـ الموافق 1759 م، وُلد في بلدة "هجرة شوكان" من بلاد "خولان" باليمن طفل لعائلة زيدية كبيرة أسماه أبوه محمدًا، هذا الطفل سينسب بعد ذلك إلى بلدته تلك، ليعرف في التاريخ باسم "الإِمام الشوكاني"، فيكون بذلك من أهم علماء الإِسلام على

الإطلاق، بعد أن ترك كتابًا للإنسانية، صُنّف كواحدٍ من أروع كتب العقيدة الإِسلامية، إننا نتحدث عن الإِمام المجتهد المفسر الفقيه (محمد بن علي ابن محمد الشوكاني الصنعاني اليماني) صاحب الكتاب الأعجوبة "نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار". واستسمحكم مرة أخرى. . . . . لنقف قليلًا قبل الخوض في بحار سيرة الشوكاني، ولكن هذه المرة لكي نأخذ خلفية بسيطة عن إخواننا من المذهب الزيدي الذي ينتمي إليه الإِمام الشوكاني، أو بالأصح المذهب الذي كان ينتمي إليه الشوكاني قبل أن يرجع لأصول هذه الأمة التي لا تعرف المذاهب، وأحدد أكثر، المذهب الذي وُلد عليه الشوكاني قبل أن يتركه ويترك كل المذاهب ليعود إلى الدين الإِسلامي الذي كان عليه سلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين قبل إنشاء الفرق والمذاهب! فالزيدية مذهب من مذاهب الشيعة، إلا أنهم لا يتركون بناتهم للمتعة، ولا يسبُّون أبا بكر وعمر، ولا يتهمون زوجات الرسول بالزنى، والأهم من ذلك. . . . لا يخونون! أي أنهم أقرب للسنة منهم للشيعة، إلا أنهم يرون أن علي بن أبي طالب أفضل من أبي بكر وعمر! وهذا شيء لا يخرجهم أبدًا من دائرة الإِسلام، ولا يخرجهم من كونهم إخوة لنا (وهذا لا يعني أنهم على حق باعتقادهم بأفضلية علي!). أما لماذا سمّوا بالزيدية، فلإنهم ينتسبون إلى الإِمام (زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب)، وقد كان إمام كل الشيعة في زمانه، ولكن طائفة من أتباعه سألوه عن رأيه في أبي بكر وعمر، فترحَّم عليهما، فأبوا عليه ذلك وطلبوا منه أن يلعنهما، فرفض حفيد رسول اللَّه أن يلعن أصحاب جده، فرفضوه، وانشقُّوا عن فرقته، وتلك الفرقة اللعّانة هي التي سمِّيت في التاريخ باسم الرافضة، ذلك لأنهم رفضوا رأي زيد بن علي، وهؤلاء سيكون منهم من يؤسّس بعد ذلك مذهب "الاثني عشرية"، وهم أغلبية الشيعة في هذا الزمان وهو مذهب شيعة فارس وأتباعها والذي قتلناه بحثًا في هذا الكتاب، أم الشيعة الذين لم يخونوا إمامهم زيد بن علي رحمه اللَّه، فهم إخوتنا الزيدية الذين يتمركزون باليمن. ولكن قبل أن نترك موضوع الزيدية بقي أن أنبه على نقطة خطيرة، ففي السنوات الأخيرة اتجه (الخميني) وأتباعه لإحياء مسجد إمبراطوريتهم الفارسية المجوسية (التي كانت اليمن جزء منها في عهد الساسانيين!)، فقامت إيران برشوة أحد زعماء الزيدية ويدعى بـ (حسين بدر الدين

الحوثي)، فأخذوه إلى وكر الإرهاب في "قم" ليعلموه هناك لعن الصحابة الكرام واتهام أم المؤمنين عائشة بالزنى، وفعلًا عاد هذا الرجل إلى اليمن بأموالٍ فارسية لينشأ ميلشيات مسلحة في مدينة "صعدة"، فيشعل نار الفتنة بأسلحته الإيرانية، وأشرطته الصوتية التي ينشر فيها ثقافة اللعن التي تعلمها في فارس، وليمهد بذلك لعودة الفرس من جديد لليمن العربي، لتشتعل نار الفتنة بسببه، وليكون أغلب ضحاياها من إخواننا الزيديين، الذين لا يعلمون شيئًا عن خطر المخطط الفارسي في المنطقة، والذي يسعى لإعادة استعباد العرب. أما الإِمام الشوكاني الذي كان سيدًا من سادات الزيدية فقد كان على العكس من الحوثي، فلم يستجب لنداءات الفرس الراغبة في استعادة اليمن العربي إلى سيطرتها، بل استجاب لنداء العقل, فتحرَّر من قيد التقليد، وحارب البدع التي انتشرت عن قبور الصالحين، وقاوم كل من يحاول سب أصحاب محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-، وسأل نفسه أسئلة منطقية كانت سببًا في خلوده في صفحات الزمان، فقد سأل الشوكاني نفسه: أي المذاهب كان رسول اللَّه يتبع؟ هل كان شيعيًا؟ زيديًا أم اثني عشريًا؟ هل كان عمر مالكيًا؟ أم هل كان بلال حنفيًا؟ هل كان الأنصار شافعيين؟ أم تراهم كانوا على مذهب أبي حنيفة النعمان؟!! ومن خلال هذه الأسئلة المنطقية أدرك الشوكاني أن الأجدر به أن يعود للمصادر الأصلية للإسلام التي كانت قبل ظهور الفرق والمذاهب، وفعلًا كتب كتاب "نيل الأوطار" الذي يوضح فيه للمسلمين أساس العقيدة الصحيحة المبنية على الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة الكرام، ليكتب اللَّه لهذا الكتاب القبول الأرض، ولتطير أخباره في الهند والمغرب ومصر والشام، ليخلد التاريخُ الإمامَ الشوكاني بحروفٍ من ذهب، بعد أن حرر نفسه من عبودية التقليد الأعمى. ومن اليمن نفسها. . . . نركب فرسًا عربيةً أصيلة لنرافق قبيلة "الأزد" اليمانية وهي تهاجر إلى الشمال بعد انهيار "سد مأرب" الشهير، ليستوطن بعض رجال هذه القبيلة القحطانية مدينة في شمال الحجاز يقال لها "يثرب"، ليغير أولئك العرب الأقحاح بعد ذلك بسنوات تاريخ البشرية إلى الأبد! يتبع. . . . .

79 - (الأنصار)

"لا يحبهم إلّا مؤمن، ولا يبغضهم إلّا منافق" (الأنصار) " فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد" (سعد بن معاذ الأنصاري) على الرغم من ذكري للصحابة في بداية هذا الكتاب، إلا أنني رأيت أنه لا يستقيم أبدًا أن أكتب كتابًا عن العظماء من أمة الإسلام من دون أن تكون هذه الفئة البشرية النادرة إحدى النماذج العظيمة التي يجب أن تأخذ بعض حقها في هذا الكتاب، فالأنصار حالة استثنائية من الصحابة، أو بالأصح حالة استثنائية من البشر، فلقد تميز الأنصار بميزة ميَّزتهم عن بني آدم كلِّهم، هذه الميزة هي ميزة "الإيثار"! والإيثار: يعني أن تعطي غيرك كل ما لديك وأنت في أمس الحاجة إليه! ولنستمع إلى قول اللَّه يفسر لنا هذه الخاصية العجيبة للأنصار: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)} [الحشر: 9]، والخصاصة لغة تعني الفقر، فالحقيقة التي تغيب عن كثيرٍ منّا أن الأنصار كانوا فقراء شديدي الفقر، وربما ظنهم البعض أغنياءً من كثرة عطاءاتهم لإخوانهم من المهاجرين، وسرّ فقر الأنصار يكمن في كونهم أصلًا من المهاجرين! فالأنصار جزءٌ من قبيلة "الأزد" اليمانية التي كانت تسكن في اليمن السعيد مستفيدة من الرخاء الإقتصادي الذي كان يوفره لهم سد مأرب، ولكن مع انهيار سد مأرب عام 542 م، دخلت اليمن في مرحلة كبيرة من القحط والفقر، فلقد أرسل اللَّه على اليمن سيلًا سُمّي بـ "سيل العَرِم" وهو السيل الذي ذكره اللَّه في القرآن بقوله: {فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ} [سبأ: 16] فهلكت بذلك كل البساتين والكروم والحدائق التي بقي السبئيون يرعونها لعدة قرون، فعانى السبئيون بعد انهيار السد من فترة ركود طويلة

لم تقم لهم قائمة بعدها, لتهاجر القبائل اليمانية من اليمن بعد أن انعدمت سُبل الحياة هناك، وكان فيمن هاجر قبيلة يقال لها "قبيلة الأزد"! والأزد هو الأزد بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان بن عابر (وهو هود عليه السلام) ابن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح عليه وعلى نبينا السلام. فهاجرت قبيلة الأزد إلى الشمال، فانقسمت عدة انقسامات، فاستوطن فرعٌ منها يُسمى بـ "الغساسنة" جنوب سورية وشمال الأردن ليكونوا مملكة "الغساسنة"، وسكن في مكة فرعٌ آخر لم يستطع أن يكمل الهجرة إلى الشمال فتخزّع (أي تأخّر) في الطريف فسُمّي لذلك بـ "خزاعة"، وسكن قسم ينتمي لرجل اسمه عمرو بن عبد اللَّه في المنطقة التي تعرف ببلاد "غامد" في السراة وشبه السراة وتهامة، وقد وقع بين عمرو هذا وبين عشيرته شر فتغمّد ذنوبهم -أي غطاها- ومنه الغمد، فسميت قبيلته بـ "غامد"، واستوطن أزدي آخر اسمه عامر بن حوالة بن الهنو بن الأزد ويقال له "الباقم" بوادٍ خصيب ذي زرعٍ وافر يقع شرقي مدينة مكة اسمه "وادي تربة" (وإليه يُنسب الترابين أجداد مؤلف هذا الكتاب!) أما القسم الأهم والذي يعنينا هنا هو قسم استوطن مدينة "يثرب" شمال الحجاز، هذا القسم كان ينقسم بدوره إلى قبيلتين هما "الأوس" و"الخزرج" وهما من أولاد خزرج بن حارثة بن ثعلبة بن عمرو ابن عامر بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأزد، وهم الذين سينصرون بعد ذلك اللَّه ورسوله، ليسمّوا باسم جديدٍ سيبقى محفورًا في ذاكرة التاريخ: الأنصار! وفي الوقت الذي امتنعت فيه أعظم القبائل من نصرة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- حتى بعد معرفتهم بصدق دعوته (كقبيلة "شيبان" مثلًا) عرض "الأوس" و"الخزرج" على رسول اللَّه إيواءه ونصرته في مدينتهم بسرعة مدهشة!، وسأعرض الآن خمس عوامل ساعدت على الإسلام السريع للإنصار: العامل الأول: اليهود! قد يعجب البعض أن "اليهود" كانوا أهم عنصرٍ عمل على إسلام الأنصار السريع!، فلقد كان اليهود يهددون الأوس والخزرج بأنهم سيقتلونهم قتل عاد وإرم عندما يأتي نبي آخر الزمان الذي سيتبعونه!! فما إن اجتمع رسول اللَّه بنفرِ من الأوس والخزرج في مكة

يدعوهم للإسلام حتى قال بعضهم لبعض: "يا قوم، تعلمون واللَّه إنه للنبي الذي تدعوكم به اليهود، فلا تسبقنكم إليه" فأعلنوا إسلامهم على التو واللحظة. ولكن السؤال الذي غاب عن ذهن الكثيرين من دارسي السيرة، ألا يستغرب البعض بأن اليهود استوطنوا "يثرب" بالذات وما حولها من بلدات مثل "خيبر" و"تيماء"؟!! الحقيقة أن اليهود كانوا ينتظرون نبي آخر الزمان في تلك المنطقة لعلمهم بأنه سيهاجر إليها, ولقد رأينا في قصة سلمان الفارسي أن صاحب عمورية أوصاه بالهجرة إلى يثرب وإن لم يحددها بالاسم، ولقد وجدت في "الكتاب المقدس" شيئًا عجيبًا يدل على معرفتهم التامة بمكان هجرة الرسول، فقد ورد في (سفر أشعياء) الإصحاح 21 ما يلي: " (وحي من جهة بلاد العرب. في الوعر في بلاد العرب تبيتين يا قوافل الددانيين 13 هاتوا ماء لملاقاة العطشان يا سكان ارض تيماء وافوا الهارب بخبزه 14 فانهم من امام السيوف قد هربوا. من امام السيف المسلول ومن امام القوس المشدودة ومن امام شدة الحرب 15 فإنه هكذا قال لي السيد في مدة سنة كسنة الاجير يفنى كل مجد قيدار 16) وتيماء تقع شمال المدينة، والمتمعن لهذا الإصحاح يرى فيه قصة الهجرة التي هاجر فيها المسلمون خوفًا من بطش قريش، وقيدار اسم من أجداد قريش، بل يجد أيضًا حربًا ستحدث "في مدة السنة" بعد الهجرة، وهي المدة التي حدثت بعدها معركة بدر الكبرى!!! العامل الثاني: يوم بُعاث وهو اسم لمعركة طاحنة وقعت بين أبناء العمومة من الأوس والخزرج بمكيدة من يهود يثرب قبل الإِسلام بخمس سنوات فقط! قتل فيها أعظم زعمائهم وقادتهم الكبار، فأحس الأوس والخزرج أنهم بحاجةٍ إلى رجلٍ حكيمٍ يوحّد صفوفهم من جديد، فكان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بمثابة المنقذ للأنصار. العامل الثالث: الجذور اليمانية! وهو عنصر مهم أيضًا، فسكان اليمن هم أرق أفئدة وألين قلوبًا من باقي القبائل العربية، واليمنيون هم من رعاة الغنم، والعرب العدنانيون من قريش وغيرهم من رعاة الإبل، فالملاحظ أن رعى الغنم بالذات يحتاج إلى السكينة والهدوء والتأمل الطويل (لهذا رعى كل الأنبياء الغنم!) كما قال موسى: {وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي}، وهذا الحديث

النبوي يفسر لنا هذه الميزة: "أتاكم أهل اليمن، هم أرق أفئدة وألين قلوبا، الإيمان يمان والحكمة يمانية، والفخر والخيلاء في أصحاب الإبل، والسكينة والوقار في أهل الغنم". العامل الرابع: العملاق مصعب بن عمير وهو أول سفير في الإِسلام، بعثه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- مع الأنصار لكي يعلمهم دينهم، ويدعو قومهم للإسلام، فكان رضي اللَّه عنه وأرضاه خير داعية لخير داع، ففي سنة واحدة فقط، هي جلُّ وقت المهمة الدعوية لمصعب، أسلم أكبر قادة الأنصار على يديه بأسلوبه اللين الرائع، ورقيه الأخلاقي المتميز. العامل الخامس: البطل سعد بن معاذ هو سيد الأوس، والذي عندما أسلم على يدي مصعب بن عمير قام إلى قومه فجمعهم، وأخبرهم بأنه براءٌ منهم إن لم يسلموا في التو واللحظة، فأسلموا عن بكرة أبيهم حبًا له، وتصديقًا لرأيه، وقد استشهد سعد بن معاذ بعد الأحزاب نتيجة لخيانة "يهود بني قريظة" ولقد بكى عليه أبو بكر وعمر حتى سُمع بكاؤهما في شوارع مكة، وسعد رحمه اللَّه هو الإنسان الذي اهتز لموته عرش الرحمن! وبعد. . . . فقد كانت هذه لمحة بسيطة عن هذه الفئة البشرية العظيمة، التي لم يكن لها مثيل في تاريخ العنصر البشري بأسره، فئة تعطي ولا تأخذ، فئة أعطت كل شيء، ولم تأخذ أي شيء، فلقد كان الأنصار فقراءً قبل الإِسلام، وقد ظل الأنصار فقراء بعد الإِسلام! وعلى الرغم من كل ما قدموه للإسلام، فإن التاريخ لا يذكر أبدًا أنهم طلبوا منصبًا واحدًا في أي دولة من دول الإِسلام، فلم يعرف التاريخ الإِسلامي أن هناك أنصاريًّا تقلد منصب الخلافة، أو حتى الوزارة، على الرغم من أن المدينة عاصمة الخلافة الراشدة هي مدينتهم، وهم سكانها الأصليين، وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي بل ومحمد نفسه كانوا لاجئين لديهم، فهل سمعت يومًا عن قومٍ في التاريخ الإنساني جعلوا اللاجئين لديهم حكامًا عليهم؟ اللهم إلا أنصار محمد بن عبد اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فجزاكم اللَّه كل خير أيها الأنصار، ولا أقول لكم إلا ما قاله الرسول: "اللهم اغفر للأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار" فاللَّه اللَّه يا شباب الإِسلام بأنصار نبيكم، واللَّه اللَّه بأصحاب محمد، فلقد آن الأوان لِتخرسوا ألسنة كلاب إيران النجسة التي تطعن في شرف الصحابة

في الغداة والعشي، فيا شباب الإِسلام، يا من تدعون حب محمد، انصروا أنصار محمد، كما نصروا هم محمدًا من قبل، فإن أنصارًا نصروه بأرواحهم، ليستحقون منا النصرة بألسنتنا وأقلامنا! {وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ}. ونبقى الآن مع أنموذجٍ فريدٍ من الأنصار أخشى أن معظمنا لم يسمع باسمه البتة! على الرغم من حكايته العجيبة، وبطولته الأسطورية، فلقد كان هذا الأنصاري البطل: قائد قوات الكوماندوز المحمدية! يتبع. . . . .

80 - قائد قوات الكوماندوز النبوية (محمد بن مسلمة)

" قائد قوات الكوماندوز النبوية" (محمد بن مسلمة) " يا محمد بن مسلمة. . . . جاهد بهذا السيف في سبيل اللَّه، حتى إذا رأيت أمتي يضرب بعضهم بعضًا، فائت به أُحَدًا (أي: جبل أحد) فاضرب به حتى ينكسر، ثم اجلس في بيتك حتى تأتيك يد خاطئة أو منية قاضية" (رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-) تعجب الناس من صنيع رجلٌ من الأنصار أخذ سيفه وذهب به إلى "جبل أحد" عند أطراف المدينة، ليضرب به الصخور الصمَّاء لذلك الجبل الشامخ، فلقد كان هذا الرجل الطويل الأسمر الشديد السمرة يضرب بيديه الضخمتين ذلك الجبل بضرباتٍ تزلزل الأرض من حوله، فيتردد صداها في عنان السماء، ليتطاير الشرر في كل اتجاه، وهو يضرب بالسيف وكأنه يريد أن يُحطم أحدًا تحطيمًا، حتى جاءت تلك اللحظة التي انكسر بها نصل ذلك السيف، ليقف ذلك الرجل لبرهة وهو ينظر إلى سيفه المكسور متأملًا، قبل أن يرجع بهدوء إلى بيته في المدينة، ليأخذ متاعه، ويرحل إلى صحراء "الربذة" ليعتزل الفتنة التي قامت بين المسلمين رافضًا أن يلطخ سيفه بدماء المسلمين أيًا كان السبب، فلقد كان ذلك السيف هو نفسه السيف الذي أعطاه إياه قائده الأعلى محمد بن عبد اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- شخصيًا ليجعله رجل المهمات الصعبة، فلقد كان هذا القائد العسكري الأسمر هو الصحابي العملاق: محمد بن مسلمة! أعلم علم اليقين أننا جميعًا نعرف قصة أبي بكر، ونعرف أيضًا قصص الفاروق الشيقة، ولا شك أننا سمعنا بكرم ذي النورين عثمان، وبطولة ابن أبي طالب، وفروسية خالد، وربَّما سمع البعض منّا عن أبي عبيدة، وربما مررنا مرور الكرام أمام طلحة والزبير، ولكن هل هؤلاء فقط هم أصحاب محمد؟!! ألا يستحق صحابة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قليلًا من الذكر لما قدّموه لصاحبهم الذي نزعم نحن حبَّه؟ كم اسمًا من أسماء الصحابة

تحفظ؟ عشرة؟ عشرين؟ خمسين؟ مائة؟ كم اسمًا من أسماء المغنيين واللاعبين تحفظ؟ أهؤلاء من تريد حقًا أن تُحشر معهم يوم القيامة أم أصحاب رسول اللَّه؟! لقد آن لنا أن نستيقظ من سباتنا العميق، ونصحح أخطاءنا قبل فوات الأوان، فواللَّه إن أمة لا تعرف تاريخ رموزها, لهي أمة حقيرة لا تستحق إلا أن تكون غياهب النسيان. فهلمُّ يا شباب الأمة لكي نستعرض سويةً قصة عظيم جديد من عظماء أمة الإِسلام المائة، والذي كانت سيرته البطولية أسطورة حقيقية من أساطير قوات الكوماندوز عبر التاريخ البشري. . . . وقوات الكوماندوز: هو مصطلحٌ عسكري لقسمٍ خاصٍ من القوات الحربية التي تختص بالمهمات الشبه مستحيلة، ويعادلها بالعربية مصطلح "قوات المهمات الخاصة"، ولقد آثرت استخدام المصطلح الأجنبي "الكوماندوز"، " Commandos" على الرغم من مقتي الشديد لمن يبدلون اللسان العربي باللسان الأعجمي، وذلك لغاية في نفسي، فكثير من شباب هذه الأمة متيمون بأفلام الحركة الأمريكية التي يظهر فيها رجال "الكوماندوز الأمريكي" وكأنهم رجالٌ من المريخ، ولمّا يعلم شباب الأمة أن في تاريخهم المشرق أبطالٌ للكوماندوز الإِسلامي والذين ما كانوا مجرد أبطالٍ وهميين كأولئك الذين يظهرون بأفلام هوليوود، بل كانوا أبطالًا حقيقيين، نذكر في هذا الكتاب قصة أحدهم، وهو القائد البطل محمد بن مسلمة. والحقيقة أن المهات العسكرية الخاصة التي قام بها هذا القائد الأنصاري بناءً على تكليفٍ شخصي من رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أو من الخلفاء الراشدين من بعده لهي أكثر من أن تحصى في كتابٍ مثل كتابي هذا, ولكنني سأذكر بعضها هنا، تاركًا المجال للقارئ الكريم أن يفتش عن بقيتها في كتب التاريخ الإِسلامي، ليستمتع بقصصٍ بطولية عجيبة قام هذا البطل الإِسلامي الذي لا يكاد يسمع باسمه أحدٌ منا! وبداية المهمات الخاصة التي قام بها هذا البطل هو القضاء على أكبر محرضٍ على المسلمين: كعب ابن الأشرف، هذا الشاعر اليهودي كان يذكر نساء المسلمين بسوءٍ في شعره المنحط، ولم يكتفِ بذلك، بل كان هو من ذهب إلى قريش يحرضهم على قتال المسلمين والقضاء عليهم، ليتحول بذلك إلى عدوٍ للدولة الإِسلامية في المدينة، عندها جاء القرار السياسي الرسولي: "من لكعب بن

الأشرف؟!! فإنه آذى اللَّه ورسوله" عندها وقف هذا الشاب الأسمر الذي كان من بين القلائل من العرب الذين كانوا يحملون اسم "محمد" قبل الإِسلام، فقال محمد بن مسلمة لمحمد بن عبد اللَّه: "أنا له يا رسول اللَّه"، فما هي إلا أيام حتى انطلق هذا البطل في عملية فدائية إلى عقر دار العدو ليرجع حاملًا رأس ذلك المجرم! وفي الحديبية وبينما كان المسلمون نائمون، تسللت مجموعة مقاتلة من شباب قريش مكونة من خمسين فارسٍ في عتمة الليل إلى معسكر المسلمين ليباغتوهم وهم نيام، وإذ بهم يُصعقون برجلٍ أسمر يحيط بهم بمن معه من الفرسان الساهرين، ليقيدوهم ويربطوهم بالأحبال جميعًا، لقد كان ذلك الفارس الأسمر هو قائد العمليات الخاصة للمسلمين الذي لا ينام محمد بن مسلمة لينزل اللَّه قرآنًا يخلد هذه العملية البطولية. ولقد أمَّر رسول اللَّه هذا القائد العسكري الأعجوبة على نحو 51 سرية! وكان يرسله أيضًا ليأتي بالصدقات من الإمارات الإِسلامية. وقد شارك محمدٌ محمدًا في كل الغزوات المحمدية، إلا في تبوك عندما أوكله رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قيادة جبهة المدينة في غيابه. أما في عهد أبي بكر فقد كان هذا البطل الأسطوري قائدًا من قادة الجيوش الإِسلامية المحاربة للمرتدين، وفي عهد عمر بن الخطاب، وعندما طال حصار المسلمين لمصر، بعثه الفاروق على رأس كتيبة فدائية تضم من بين رجالها الرجل الأسطورة الزبير بن العوام، لتستطيع هذه الوحدة الفدائية بمجرد وصولها إلى أرض مصر من تحقيق النصر. أما الفاروق فقد عينه بمنصب "المفتش العام على ولاة الإمبراطورية الإِسلامية"، ليدور هذا القائد بين الولايات الإِسلامية، ليضمن تطبيق ولاتها لأحكام الشريعة، وحكمهم بالعدل بين رعيتهم. والحقيقة أن أغرب مهمة قرأتها في سيرة هذا القائد الإِسلامي: هي المهمة التي أوكلها إليه الفاروق في "الكوفة" بعد شكوى وصلته من أهلها أعتبرها أنا أوقح شكوى بعثها شعبٌ في تاريخ الأرض! فلقد اشتكى أهل الكوفة الخونة (والذين سيُسمّون بالشيعة بعد ذلك بسنوات) أن واليهم لا يُحسن الصلاة بشكل صحيح! الشئ الذي يدعو للاشمئزاز حقًا من أهل الكوفة، أن هذا الوالي الذي يدعون أنهم يفهْمون في الصلاة أكثر منه، هو نفسه الرجل الذي أدخل الإِسلام إلى أرض أولئك السفلة!!! يتبع. . . . .

81 - مدمر الإمبراطورية الفارسية (سعد بن أبي وقاص)

"يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة" مدمِّر الإمبراطورية الفارسية (سعد بن أبي وقاص) " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ" "من سعد بن أبي وقاص، إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب السلام عليكم ورحمة اللَّه وبركاته. . . . وبعد، فإن اللَّه نصرنا على أهل فارس ومنحهم سنن من كان قبلهم من أهل دينهم بعد قتال طويل، وزلزال شديد، وقد لقوا المسلمين بعدة لم يَرَ الراءون مثل زهائها فلم ينفعهم اللَّه بذلك، بل سلبهموه ونقله عنهم إلى المسلمين. وقد اتبعهم المسلمون على الأنهار، وعلى طفوف الآجام، وفي الفجاج" كان ذلك الشيخ العربي الفقير يخرج كل صباح بعد صلاة الفجر إلى الصحراء القاحلة على حدود المدينة ليبقى هناك حتى انتصاف النهار وهو يحدّق قبالة المشرق، حتى جاء ذلك اليوم الذي شاهد فيه من بعيد فارسًا عربيًا على ظهر ناقة عربية أصيلة تسرع الخطى نحو المدينة، فركض نحوه ذلك الشيخ الفقير يسلم عليه ويسأله من أين أتى، ليجيبه ذلك الفارس العربي أنه قد أتى من القادسية في أرض العراق رسولًا من القائد الأعلى للقوات الإِسلامية المجاهدة هناك، فتغير وجه ذلك الشيخ قبل أن يسأل الفارس العربي بلهفة قائلًا: يا عبد اللَّه حدثني ماذا فعل المسلمون؟ فنظر إليه ذلك الفارس العربي بعينيه السوداوين ونظرة ثاقبة وقال له: أيها الشيخ الطيب. . . لقد هزم اللَّه العدو! أما الآن فدعك عني، فإني على عجلة من أمري أريد إيصال كتاب النصر من سعد بن أبي وقاص إلى خليفة المسلمين. وما أن فرغ ذلك الفارس من قولته تلك حتى انطلق على ظهر ناقته مسرعًا نحو المدينة، وذلك الشيخ الفقير يجري وراءه كالطفل الصغير

بثيابه الممزقة يستوضح منه خبر النصر، حتى وصل الفارس العربي إلى المدينة، ووصل بعده بلحظات ذلك الشيخ الفقير وأنفاسه كادت تنقطع بعد أن تلطخت ثيابه البالية بالتراب الذي أحدثه غبار الناقة، فنظر المسلمون الملتفون حول الفارس العربي إلى ذلك الشيخ وقالوا: السلام عليك يا أمير المؤمنين! فصُعق الفارس من شدة الصدمة، وتمنى أن لو ابتلعته الأرض في قفارها، فلقد كان ذلك الشيخ ذو الثياب الممزقة والذي تركه يجري وراءه في صحراء العرب المحرقة كالطفل الذي يجري وراء أمه هو نفسه خليفة رسول اللَّه وأمير المؤمنين عمر بن الخطاب الذي مزقت جيوشه للتو جيوش أعظم إمبراطورية عرفتها القارة الآسيوية! فحاول أن يعتذر إليه وعمر يأخذ أنفاسه بعد تلك الجولة الماراثونية في الركض قبل أن يبتسم في وجه ذلك البشير ويقول له: لا عليك يا أخي! اللَّه! اللَّه! ما أعظم الإِسلام! فواللَّه لقد قرأت تاريخ الإغريق القدماء، وتاريخ الفراعنة، وتاريخ الرومان بشقيه الشرقي والغربي، وتاريخ فارس، والهند، والجزر اليابانية، والصين، وأوروبا، وأمريكا، فما وجدت تاريخًا قط بعشر معشار عظمة التاريخ الإِسلامي المجيد، فأين فرعون مصر "خوفو بن سنفرو" الذي استعبد شعبه لمدة 10 سنوات من أجل أن يبنوا له قبرًا من عمر بن الخطاب ذي الثياب الممزقة؟ وأين "كسرى أنوشروان" إمبراطور الفرس الذين كان يفرض على الوزراء من حوله لبس الكممات كي لا يلوثوا الهواء من حوله من عمر بن الخطاب الذي ملأ الغبار أنفه وهو يجري وراء ناقة بشير القادسية؟! وأين إمبراطور الرومان "فِسبازيانوس" الذي بني أكبر مسرح في الأرض لكي يشاهد الأسود وهي تمزق العبيد بأنيابها من عمر بن الخطاب الذي كان يذهب فجر كل يوم لعجوزٍ عمياء ليكنس لها بيتها ويطبخ لها طبيخها؟!! فواللَّه إن تاريخ الإِسلام لعظيم، وإن تاريخهم لقذر، وإننا أولى الناس برفع رؤوسنا عاليًا به! وقبل أن نتكلم عن "القادسية" والتي تُعتبر مع شقيقتها التوأم "اليرموك" وأختهما الكبرى "اليمامة" أعظم معارك أمة محمد بعد انقطاع الوحي، ينبغي علينا أن نتكلم عن البطل الذي حقق اللَّه على يديه ذلك النصر العظيم، فلِتصمت الحناجر، ولتخشع

القلوب، ولتشخص الأبصار، فنحن في صدد الحديث عن خالِ رسول اللَّه، وأحد العشرة المبشرين بالجنة، وأحد الثمانية السابقين للإسلام، وأحد الخمسة الذين أسلموا على يد أبي بكر الصديق، وأحد الستة أصحاب الشورى الذين اختارهم عمر بن الخطاب قبل موته، وأول من رمى سهمًا في تاريخ الإِسلام، وأحد البدريين، وأحد الـ 1400 صحابي من أصحاب بيعة الرضوان، وصاحب الدعوة المستجابة، والذي فداه النبي بأبيه وأمه، إنه القائد الذي حطم أسطورة فارس بكتائب الخلاص، إنه رمز البطولة والإخلاص، إنه البطل سعد بن أبي وقاص! والحقيقية أنني لم أحتر في إيجاد مقدمة أدخل بها لقصة بطلٍ من أبطال الكتاب المائة بمثل ما احترت في إيجاد مقدمة أقدِّم بها هذا الصحابي العظيم، فقصص بطولاته ليست فقط كثيرة، بل هي بالإضافة إلى ذلك بالغة العظمة، فصار من الصعب بل من المستحيل الاختيار ما بينها، فضلًا من أن أستطيع إن أحصرها! إلا أنني أرى في القصة التالية أمرًا يمكنه أن يفسر لنا كيفية تكون شخصية هذا العملاق الإِسلامي العظيم، فهذه القصة حدثت معه في أخطر سنٍ يمر به الإنسان، وهي المرحلة التي يبين فيها علماء النفس المعاصرون أنها السنن التي يبني فيها الإنسان شخصيته التي سترافقه طيلة حياته، هذه السنن سماها العلماء النفس بـ "سن المراهقة" وهي الفترة العمرية من سن 11 سنة إلى سن 21 سنة، وسُميت بذلك لقربها من مرحلة النضوج الفكري، ففعل "راهق" بالعربية يعني اقترب من الشيء. فعندما كان سعد بن أبي وقّاص مراهقًا في السابعة عشرة من عمره، أسلم هو وأربعة من المبشرين بالجنة على يد أبي بكر جزاه اللَّه كل خير، عند ذلك علمت أمه بإسلامه، وقد كان يحبها أكثر من نفسه، فحاولت رده إلى دين الأجداد دون جدوى، فلمَّا أخفقت جميع محاولات رده وصده عن الإِسلام، لجأت أمه إلى وسيلة لم يكن أحد يشك في أنها ستهزم روح سعد وترد عزمه إلى وثنية أهله وذويه. فلقد أعلنت إمه إضرابها الكلي عن الطعام والشراب حتى يعود سعد إلى وثنيته، أو تموت هي فيعايره العرب بأنه سبب موت أمه! ومضت هذه الأم في تصميم مستميت تواصل إضرابها عن الطعام والشراب حتى وصلت على الهلاك. وحين كانت تشرف على الموت، أخذه بعض أهله إلى أمه

ليلقي عليه انظرة الوداع الأخيرة، مؤملين أن يرق قلبه حين يراها في سكرة الموت، فذهب سعد ورأى مشهد أمه وهي تموت ببطء، وانتظر الناس أن يستجيب لأمرها لعلمهم بحبه العظيم لأمه، فنظر سعدٌ إليها وهي تأن وقال لها: "واللَّه يا أمّه. . . . لو كانت لك مائة نفس، فخرجت نفسًا نفسًا ما تركت ديني هذا لشيء، فكلي ان شئت أو لا تأكلي! " فلمَّا رأت أمه هذا الإيمان العميق من ولدها عدلت عن صومها، فنزل الملك جبريل بوحي من السماء إلى الأرض بكلماتٍ قالها الرب الذي خلق الكون يخلّد لسعدٍ هذه القصة في قرآن ستتلى آياته إلى يوم القيامة: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15)} [لقمان: 15]. ومن مرحلة المراهقة إلى مرحلة الشباب، ففي ليلة من الليالي، أرِق رسول اللَّه ولم يستطع النوم، خوفًا من غدر المشركين به وهو نائم، فيضيع بذلك الإسلام قبل أن يوصل رسالته للبشر، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لعائشة: "لَيْتَ رَجُلًا صَالِحًا مِنْ أَصْحَابِي يَحْرُسُني اللَّيْلَةَ" فما إن فرغ رسول اللَّه من قولته تلك حتى سمع الرسول وزوجه الطاهرة صوت خطوات تقترب من البيت في الخارج ويقترب معها صوت السلاح، فنادى رسول اللَّه قائلًا: "مَنْ هَذَا؟ ". فجاء الصوت من الخارج: "أنا يَا رَسُوْلَ اللَّهِ سَعْدُ بنُ أَبِي وَقَاصٍ" فقال له الرسول: "ما الذي جاء بك؟ " فقال سعد: "وقع في نفسي خوفٌ على رسول اللَّه فجِئْتُ احْرُسُه الليلة! " ففرح رسول اللَّه بهذا الصاحب الوفي، فَنَامَ بأبي هو وأمي مطمئنًا حتى سَمِعْت عائشة غَطِيْطَهُ! والآن وبعد أن رأينا كيفية تكون شخصية هذا القائد الإسلامي العظيم، جاء الوقت لنستعرض معًا بعضًا من بطولاته الأسطورية الحية. . . . . ففي بدرٍ: كان سعد بن أبي وقاص أول من رمى بسهمٍ في سبيل اللَّه في تاريح أمة محمد، وقد كان رسول اللَّه يقول لسعد: "اللهم أجب دعوته وسدد رميته" فكان إذا دعا أتت الإجابة من السماء كفلق الصبح، وكان إذا رمى لا تخطئ رميته البتة، حتى قال أحدهم: "إني لأظن سعدًا لو رمى في المشرق يريد المغرب لأوقعها اللَّه في المغرب! "

وقد ذكر (الإمام الذهبي) في "سير أعلام النبلاء" قصة عجيبة بقوله: "فمن العجائب أن سعدًا رمى بسهم ثلاث مرات يقتل بكل سهم ويعود السهم إليه ويرمي به، أي أنه كان يأخذ سهمًا فيرمي به في المشركين فيقتل رجلًا، فيأخذ المشركون السهم فيعيدونه لسعد فيرمي به فيقتل به مرة ثانية، فيعيدون له السهم فيقتل ثالثة! " وقد افتخر سعد بهذه الموهبة بقوله: ألا هل قد أتى رسول اللَّه أني ... حميت صحابتي بصدور نبلي فما يعتد رامٍ من معدٍ ... برميٍ يا رسول اللَّه قبلي وفي أحد: كنا قد ذكرنا في معرض حديثنا عن (طلحة بن عبيد اللَّه) أنه كان أحد بطلين ثبتا بجانب رسول اللَّه عندما حاصره المشركون، وكنت قد تركت اسم البطل الثاني معلقًا محاولة مني لتشويق القارئ الكريم كي لا يضيق ذرعًا بهذا الكتاب الطويل، واعدًا إياه بذكر اسم ذلك البطل في نهاية هذا الكتاب، وبما أن هذا الكتاب قد شارف على النهاية بالفعل، فإن الوقت قد جاء للوفاء بالوعد، فلقد كان ذلك البطل يُدعى بـ (سعد بن مالك بن أهيب) والذي عُرف بالتاريخ باسم (سعد بن أبي وقاص)! ففي الوقت الذي كان فيه طلحة يبارز بسيفه كالأسد الثائر فرسان المشركين من أحد الجوانب، تناول سعد قوسه في الجانب الآخر ليصوب ناظريه على الجنود المتقدمين وكأنه الصقر الجارح، فأخذ يرمي بسهامه كل من سولت له نفسه الاقتراب من حبيبه ورسوله، ورسول اللَّه يناوله السهام بيديه الطاهرتين وينظر إلى ضرباته ويضحك من دقة إصاباتها ويقول له: "ارمِ سعد، فداك أبي وأمي"! وفي سنة 15 هـ الموافق 635 م، وصلت أخبار إلى المدينة أن كسرى يحضر بنفسه جيشًا عرمرمًا لكي يرسله إلى مدينة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فينهي بذلك الإسلام من الوجود، فعقد الخليفة عمر ابن الخطاب اجتماعًا طارئًا للقيادة العليا في الدولة الإسلامية يضم بين أفراده رجالًا عمالقة مثل عثمان ابن عفان وعلي بن أبي طالب، فقرر القائد البطل عمر بن الخطاب أن يتقدم بجيوش المسلمين بنفسه إلى أرض فارس قبل أن يأتي الفرس إلى مدينة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، إلا أن علي بن أبي طالب خاف على صديقه عمر من غدر

الفرس المجوس، فأشار عليه أن يولي رجلًا من المسلمين على قيادة الجيش، وبعد شدٍ وجذبٍ بين الفاروق وأصحابه جاءت القرارات العمرية الثلاث: (أولًا) إعلان حالة الطوارئ القصوى والنفير العام في أرجاء الدولة الإسلامية. (ثانيًا) تعيين سعد بن أبي وقاص قائدًا عامًا للجيوش المجاهدة المتجهة إلى فارس (ثالثًا) إعلان الحرب الشاملة على الفرس المجوس! فماذا حصل بعد ذلك؟ وما هي قصة "معركة القادسية العظمى"؟ ومن هم أبطالها العظماء؟ وما هو ذلك الوصف العجيب الذي وصفهم به القائد الإسلامي العظيم سعد بن أبي وقّاص؟ يتبع. . . . .

82 - (أسود القادسية)

"ابتعثنا اللَّهُ لنخرح العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد" (أسود القادسية) " ورجال من المسلمين لا نعلمهم اللَّه بهم عالم، كانوا يدوون بالقرآن إذا جن عليهم الليل دوي النحل، وهم آساد لا يشبههم الأسود" (سعد بن أبي وقاص) أجد نفسي أمام مهمة صعبة للغاية، ألا وهي مهمة إنصاف عظماء الأمة، وخاصة الذين لم يأخذوا حقهم في التاريخ بالتأريخ لهم، فقلما تجد أحدًا يعرف شيئًا عن أبطال القادسية الذين دمّروا الإمبراطورية الفارسية التي عجزت جيوش الإغريق والرومان على تدميرها على مدار مئات السنين، وأخشى ما أخشاه أن هناك من لم يسمع أصلًا عن قائد القادسية سعد بن أبي وقاص فضلًا أن يعرف الاثنين والثلاثين ألفا من جنودها! والحقيقة أنني أردت أن أكتب عن جندي واحد من جنود القادسية اسمه "ربعي بن عامر" ليكون نموذجًا عن ذلك الجيش، ولكني تفاجأت عن قراءتي لأحداث يوم القادسية أن هناك 32000 نموذج بطولي في هذه المعركة كلٌ منها يختلف عن الآخر، لذلك آثرت أن أضم ذلك الجيش بأسره لقائمة العظماء المائة، فلقد خلد أولئك الأسود أنفسَهم بأنفسِهم في سجل الخلود الإنساني بحروفٍ من نور بعدما قدّموا للبشرية أعظم صور الفداء والتضحية، فكانوا رحمهم اللَّه كما وصفهم قائدهم سعد بن أبي وقّاص في رسالة النصر التي بعثها إلى الخليفة عمر كالأسود المفترسة صباحًا في ميدان المعركة، وفي الليل كالنحل من كثرة قراءتهم للقرآن، فمن حق هؤلاء الأبطال علينا أن نذكرهم ولو قليلًا، فلقد كان شهداء القادسية أكثر شهداء الفتوحات الإسلامية عددًا على الإطلاق، فتعالوا نستعرض معًا قصة أولئك العظماء، ولنبدأها من بداية القصة، قبل معركة القادسية بعشرات السنوات، أو لنقل قبل القادسية بمئات السنوات، مع بداية تكون الأمة الفارسية. . . .

في عام 1500 ق. م. هاجرت قبيلتان رئيسيتان من الآربيين من أبناء (يافث بن نوح) من "نهر الفولغا" شمال "بحر قزوين" واستقرا في "إيران" الحالية، وهاتان القبيلتان هما "الفارسيون" و"الميديون". فأسس الميديون الذين استقروا في الشمال الغربي "مملكة ميديا". وعاشت الأخرى في الجنوب في منطقة أطلق عليها الإغريق فيما بعد اسم "بارسيس" " Persis" ومنها اشتق اسم فارس! في عام 559 ق. م. أسس الفرس "الأخمينيون" إمبراطورية عظيمة، امتدت من حدود أفغانستان إلى حدود ليبيا، ومن اليونان إلى الهند، وقام ملكها (قورش) بتحرير اليهود الذين استعبدهم (نبوخذ نصر) الملك البابلي الشهير (ومنذ ذلك التاريخ بدأت العلاقات الفارسية اليهودية التي ستستمر بعد ذلك إلى لأبد!) في عام 226 م أسس الفرس "الإمبراطورية الساسانية" نسبة إلى الكاهن الزردشتي (ساسان)، الذي كان جد أول ملوك الساسانيين (أردشير الأول) وهذه الإمبراطورية هي نفسها التي سيدمرها صحابة محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- سنة 651 م لتنتهي بذلك أسطورة أرض فارس الكبرى إلى الأبد. والآن وبعد أن أخذنا صورة سريعة عن التاريخ السياسي، للدولة التي أبادها "أسود القادسية"، دعونا نتحول سوية إلى الجانب الثقافي لهذه الدولة لنستعرض، تاريخها الديني والإجتماعي: كانت "الزردشتية" أو "المجوسية" هي الديانة الرسمية للدولة الفارسية (وما زالت!)، والمجوس يعبدون النار من دون اللَّه، ويحرصون على أن تظل مشتعلة طيلة الوقت، وكتاب المجوس المقدس هو "الأفيستا" وقد كان من أهم مميزات الفرس المجوس الدينية إيمانهم بـ "عصمة الأكاسرة! " فكسرى كان بمثابة الإله، وقسم الفرس أنفسهم إلى عدة أقسام: أعلاها "السيد" وهو الذي يحمل دماءً ملكية، وأدناها عامة الشعب الذين يُربطون بالسلاسل كالكلاب، وانتشر الانحطاط الجنسي بين الفرس بدرجة مخيفة كانت تعيِّرهم بها الإغريق، فلقد انتشرتا "المتعة" الجنسية بينهم بشكل يدعو للاشمئزاز، فلقد كان كسرى (يزدجرد الثاني) يتمتع بأمه جنسيًا، وكان كسرى (بهرام جوبين) يتمتع بأخته، وغير ذلك من النجاسات القذرة التي لا أريد أن أذكرها في كتابٍ به أسماءُ أناسٍ طاهرين من أمثال عمر بن الخطاب!

والآن جاء الوقت لنبدأ حكاية الصراع الإسلامي الفارسي: البداية كانت بعد "صلح الحديبية" مباشرة، في شهر شوال من العام السادس للهجرة (مارس 628 م)، والبداية لم تكن عسكرية كما يظنها البعض، بل البداية كانت برسالة رقيقة من رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى كسرى (خُسرو الثاني) يدعوه بها للإسلام، فقام كسرى بتمزيق رسالة رسول العالمين، ومحاولة قتل حامل الرسالة الصحابي الجليل (عبد اللَّه بن حذافة) الذي نجح بالهرب من غدر كسرى، ولما علم رسول اللَّه بفعلته دعا عليه وقال "مزق اللَّه ملكه مثل ما مزّق الكتاب" وفعلًا ما هي إلا أيام حتى قتله ابنه (شيركويه)، وماهي إلا سنوات حتى مزق اللَّه إمبراطوريته على يد أسود القادسية. الغريب أنني وجدت شيئًا مثيرًا للعجب عبر قراءتي لتفاصيل الصراع الإسلامي الفارسي، ألا وهو أن الفرس كانوا دائمًا هم الذين يتحرشون بالمسلمين عبر جميع مراحل التاريخ، والمضحك أيضًا أنهم كانوا دائمًا ينهزمون من المسلمين في كل حِقب التاريخ! فلقد تحرش كسرى برسول اللَّه شخصيًا حين أرسل إليه عامله في اليمن لكي يعتقله ويربطه بالسلاسل! وتحرش الفرس بعد ذلك بالمسلمين في عهد الفاروق لدرجة جعلت الفاروق يقول: "ليت بيننا وبين فارس جبل من نار، لا يأتون إلينا ولا نأتي إليهم! " فالمسلمون لم يطلبوا الاحتكاك بالفرس أبدًا، بل على العكس، هم الذين جهزوا جيش الإمبراطورية الفارسية للتوجه للمدينة لإنهاء الإسلام بالكلية، ما اضطر المسلمين لمحاربتهم في القادسية وسحقهم، والشيء الغريب أن الفرس لم يتعلموا من هزائمهم شيئًا على ما يبدو، فمنذ أن رجع (الخميني) إلى إيران عام 1979 (على ظهر طائرة عسكرية فرنسية!) والفرس لا يفتأون يتحرشون بالمسلمين ومشاعرهم، فتارة يلعنون أصحاب نبينا، وتارة أخرى يسبون نساء نبينا، وتارة يثيرون الفتن، وتارة يحتلون جزر الإمارات العربية، وتارة يغدرون بالعراق، فيا أهل فارس كُفّوا عنا شركم، وتعلموا من التاريخ! فلقد بلغ السيل الزبى، ولكم في القادسية عبرة يا آل فارس، ولكم في أسود القادسية اثنان وثلاثون ألف عبرة!

والآن لنبقى مع بعض أسود معركة القادسية المجيدة والذين أذل اللَّه بهم ربع مليون فارسي قذر:- زهرة بن الحُوِيَّة: طلب قائد الفرس (رَستم) -بفتح الراء- أن يتفاوض مع المسلمين قبل المعركة، فتقدم له أول الأسود وهو الليث العربي (زهرة بن الحُوِيَّة)، فقال له رستم: أنتم جيراننا، وكنتم تأتوننا وتطلبون منا الطعام، وكنا نعطيكم ولا نمنعكم، وكنا نحسن جواركم، وكنا نُظِلُّكم بظلِّنا، ونطعمكم من طعامنا، ونسقيكم من شرابنا، وكنتم تأتوننا ولا نمنعكم من التجارة في أرضنا، فلم جئتم الآن تحاربوننا؟ فتبسَّم زهرة وقال: صدقت في قولك عمَّن كانوا قبلنا، فلقد كانوا يطلبون الدنيا، ولكن نحن نطلب الآخرة! كنا كما تقول حتى بعث اللَّه إلينا رسولًا، وأنزل عليه كتابًا، فدخلنا معه في دينه، وقال له اللَّه: إني مسلِّطٌ هذه الفئة على من خالفني، ولم يَدِنْ بديني، فإني مُنتقِمٌ منهم، وأجعل لهم الغلبة ما داموا مُقرِّين بي! ربعي بن محامر: في اليوم التالي أرسل رستم يطلب من المسلمين التفاوض للمرة الثانية، فانطلق ربعي على فرسه الصغير ذي الذيل القصير، وذهب به لمقابلة رستم، وقد ربط سيفه في وسطه بشيء غنمه من الفُرْسِ (إمعانًا باحتقارهم)، فدخل بفرسه ووقف على باب خيمة رستم، فطلب منه الفرس أن ينزع سلاحه، فقال: لا، أنتم دعوتموني، فإن أردتم أن آتيكم كما أُحِبُّ، وإلا رَجعتُ! فأخبروا رستم بذلك، فقال: ائذنوا له بالدخول. فدخل بفرسه على البُسُطِ الممتدة أمامه، وعندما دخل بفرسه وجد الوسائد المُوَشَّاة بالذهب؛ فقطع إحداها، ومرر لجام فرسه فيها وربطه به! ثم أخذ رمحه، واتجه صوب رستم وهو يتكئ عليه، والرمح يدب في البسط فيقطعها، فلم يترك بساطًا في طريقه إلا وقطعه، ووقف أهل فارس في صمت عجبًا من ثقة هذا العرب الذي يحتقرهم في عقر دارهم، فبدأ رستم بالكلام؛ فقال له رستم: ما جاء بكم؟ فقال له: لقد إبتعثنا اللَّهُ لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، فمن قَبِلَ ذلك منا قبلنا منه، وإن لم يقبل قبلنا منه الجزية، وإن رفض قاتلناه حتى نظفر بالنصر! فقال رستم: قد تموتون قبل ذلك. فقال: وعدنا اللَّه عز وجل أن الجنة لمن مات منا على ذلك، وأن الظفر لمن بقي منا، فقال: فهل لك أن تؤجلنا حتى نأخذ الرأي مع قادتنا وأهلنا؟ فقال له ربعي بكل

استخفاف: نعم، أعطيك، كم تحب: يومًا أو يومين؟ فأحس قائد الجيش الإمبراطوري الفارسي رستم بأنه صار هُزْأةٌ بين فرسان العرب وهو الذي يقدسه كل أهل فارس، لكنه تحامل على نفسه وقال مستعطفًا ربعي بن عامر: أعطني أكثر! فقال ربعي: إن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- سنَّ لنا أن لا نمكن آذاننا من الأعداء، وألا نؤخرهم عند اللقاء أكثر من ثلاث! حذيفة ابن محصن: في اليوم التالي بعث رستم برسالة إلى المسلمين يطلب فيها مقابلة ربعي من جديد، فأرسل المسلمون له رجلًا ثالثًا، وكأنهم يتبارون أيهم يهين الفرس أكثر من غيره! فدخل عليه حذيفة ابن محصن وهو راكب فرسه (دلالة على شدة الاستهانة بهم)، ودخل حذيفة بجواده يمشي به على البُسط، وظل راكبًا حتى وصل إلى رستم بجواده!!! ولنا أن نتخيل هذا الموقف: حذيفة فوق حصانه يكلمه، فقال له رستم: انزل يا عربي. فقال له ذلك العربي: لا أنزل؛ أنتم دعوتموني، فإن أردتم أن آتيكم كما أُحِبُّ، وإلا رجعت! فقبل رستم على مضض ثم قال له: ما جاء بكم؟ فقال له: إن اللَّه عز وجل مَنَّ علينا بدينه، وأرانا آياته فعرفناه، وكنَّا له منكرين، ثم أمرنا بدعاء الناس إلى ثلاث فأيُّها أجابوا قبلناه: الإسلام وننصرف عنكم، أو الجزاء (أي الجزية)، أو المنابذة. فقال له رستم: هل من الممكن أن تعطينا فرصة؟ فقال له حذيفة: نَعَمْ، ثلاثة أيام. فقال: إذن تقاتلونا في اليوم الرابع. فقال الأسد العربي بكل عزة وثقة: ثلاثة أيام ليس من اليوم بل من أمس!!! المغيرة بن شعبة: في اليوم الثالث طلب رستم التفاوض من جديد، فجاء الدور على صاحب رسول اللَّه المغيرة بن شعبة الثقفي لكي يهين الفرس قليلًا بطريقته الخاصة. وعلى الرغم من أن المغيرة يتقن الفارسية، إلا أنه لم يتكلم معهم إلا بالعربية، من شدة عزته بلغة محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-، فدخل عليه المغيرة بن شعبة وقد ترك حصانه بالخارج؛ ففرح رستم وظن أنه سيحترمه هذه المرة ولن يكون كسابقيه من الرسل، فظل المغيرة يمشي حتى وصل إلى رستم، فجلس بجانبه على السرير المُذهَّب، فصرخ الفرس في وجهه، إذ أن الفُرْسُ جميعهم يقفون بعيدًا جدًّا عن رستم، حتى لا يلوثوا الهواء من حوله! فقامت الحاشية بسرعة لكي تجذبه من مكانه، فقال لهم المغيرة: "واللَّه جلوسي جنب أميركم لم يزدني شرفًا! ولم ينقصه شيئًا، واللَّه يا أهل فارس إنَّا كانت تبلغنا عنكم الأحلام (أي نسمع عنكم أنكم عقلاء)، ولكني أراكم أسفهَ قوم، واللَّهِ الآن أدركتُ أن أمركم

مضمحلٌّ، وأن أمر الغَلَبَة والملك لا يقوم على مثل ما أنتم عليه" فسمع المغيرة الحاشية من خلفه وهي تقول بالفارسية: واللَّهِ صَدَقَ العربي! ثم قال المغيرة لرستم: "فنحن ندعوكم إلى واحدة من ثلاث: إما الإسلام، وإما الجزية عن يدٍ وأنت صاغر، وإن أبيت فالسيف" فقال له رستم: وكيف يدفع المرء الجزية وهو صاغر؟ فقال له: "أن يقوم أحدكم على رأس أميرنا فيطلب منه أن يأخذ الجزية، فيحمده إن قبلها، فكن يا رستم عبدًا لنا تعطينا الجزية؛ نكف عنك ونمنعك! وعندما سمع رستم من المغيرة "كن عبدًا لنا" لم يتحمل رستم أكثر من هذه الإهانات اليومية المتكررة من فرسان العرب، فاستشاط غضبًا، واحمرَّت عيناه وقال له: واللَّهِ ما كنت أظن أني أعيش حتى أسمع هذا الكلام من عربي! ثم حلف بالشمس أن لا يرتفع الصباح حتى يدفنهم في القادسية، ثم قال له: ارجع إلى قومك، لا شيء لكم عندي، وغدًا أدفنكم في القادسية. فرجع المغيرة وأثناء مروره على القنطرة أرسل رستم رجلًا يناديه، فنظر إليه، فقال له: مُنَجِّمُنا يقول: إنك تُفقَأ عينُك غدًا. (وذلك ليخوفه)، فتبسَّم تلميذ محمد بن عبد اللَّه الصحابي البطل المغيرة بن شعبة الثقفي وقال للفارسي القذر: "واللَّهِ لولا أني أحتاج الأخرى لقتال أشباهكم، لتمنيت أن تذهب الأخرى في سبيل اللَّه"! والآن وبعد أن أخذنا خلفية بسيطة عن النفسية العربية التي دمرت الإمبراطورية الفارسية، جاء الوقت لكي نأخذ صورة عن الخلفية العسكرية لأولئك الأبطال. فبعد هذه المفاوضات التي أذل بها أسود العرب قادة الفرس، جاء الوقت لبدء العملية العسكرية الحاسمة التي سيخلدها التاريخ لكونها جعلت من شيءٍ اسمه الإمبراطورية الفارسية مجرد ذكريات في كتب التاريخ المنسية! فلقد بدأت هذه المعركة الفاصلة بسلاحٍ من أسلحة الدمار الشامل الإسلامي، والذي لا تنتجه إلا المصانع العسكرية المحمدية، هذا السلاح استخدمه أيضًا بعد ذلك الجيش المصري البطل في معركة العاشر من رمضان عام 1973 م، وفي نفس وقت الظهيرة الذي حارب به أبطال القادسية أيضًا، وإن كان العدو وقتها آل فارس، والذين لا يختلفون كثيرًا عن آل صهيون، هذا السلاح استخدمه قائد أركان الجيش المصري السابق (سعد الدين الشاذلي) في حرب رمضان هو نفسه السلاح الذي استخدمه (سعد بن أبي وقاص)، هذا السلاح الذي

استخدمه السعدان هو سلاح: اللَّه اكبر! "خطة اللَّه أكبر الرباعية الأبعاد":- جمع القائد الإسلامي سعد بن أبي وقاص قادة جيوشه قبل بدء الزحف الإسلامي الكبير على جحافل الفرس ليحدد لهم خطة سير المعركة الحربية الفاصلة فقال لهم: "اعلموا عباد اللَّه أن اللَّه رزقكم التكبير، وأن التكبير لم يُعطه أحدٌ من قبلكم، واعلموا أنكم أعطيتموه تأييدًا لكم، فإذا صليت الظهر، فإني سأكبر أربعًا، تكون فيها إشارة الهجوم الإسلامي الكبير بعد التكبيرة الرابعة"! وفعلًا صلى المسلمون الظهر ليكبر بعدها سعد بن أبي وقاص أربع تكبيرات، لتكون التكبيرة الرابعة هي كلمة السر لانطلاق الزحف الإسلامي العظيم الذي سيخلده التاريخ إلى يوم الدين، فعلت صيحة اللَّه أكبر في علياء السماء، وبدأت ملحمة القادسية، لتبرز بطولات أسود القادسية القتالية والتي كان من أبطالها: القبائل العربية: كانت القبائل العربية الأصيلة هي بطلة "يوم أرماث"، وهو اليوم الأول من أيام القادسية الأربعة، فقد كانت القبائل العربية هي خط الهجوم الأول على جيوش الإمبراطورية الفارسية، فبرزت قبائل عربية عظيمة مثل قبيلة "دجيلة" وقبيلة "تميم" وقبيلة "الأسد" وقبيلة "كندة"، فصد فرسان العرب هجومًا مباغتًا حاول فيه الفرس أن يحطموا فيه الصفوف الأمامية بواسطة 13 فيل هائج مدرب على القتال، فاستطاعت تلك القبائل الأصيلة أن تقطع وضون الفيلة (والوضون هي الأحزمة التي تربط مراكب الجنود فوق الفيلة) فسقط جنود فارس من فوقها، فقطعهم مجاهدي يعرب بسيوفهم تقطيعًا، لتكون هذه بداية دمار فارس (ولعل هذا هو سبب حقد الفرس على القبائل العربية إلى يوم الناس هذا!) الخنساء: برزت الخنساء في اليوم الثاني من أيام القادسية والذي سُمِّي بـ "يوم أغواث"، فقد باتت الخنساء ليلتها السابقة تحفز أبناءها الأربعة على الجهاد في سبيل اللَّه، فقاتل الأبطال الأربعة قتالًا ما عرفت العرب مثله، فاستشهد الأربعة جميعًا، فلمَّا وصلها خبر استشهادهم، رفعت يدها إلى السماء وقالت: "الحمد للَّه الذي شرفني باستشهادهم، وإني لأرجو اللَّه أن يجمعني بهم في الجنّة"! والذي لا يعرف من هي الخنساء، فله أن

يعلم أن هذه السيدة العربية هي نفسها التي أتحفت الشعر العربي بقصائد الرثاء عندما مات أخوها (صحر) في جاهليتها، وها هي الآن تحمد اللَّه على استشهاد أبناءها الأربعة! الأخوان: القعقاع بن عمرو وعاصم بن عمرو: أحس الفرس باقتراب نهايتهم، فحاولوا محاولة أخيرة لتغيير مسار المعركة، فقاموا بتطوير خطة الهجوم في اليوم الثالث من أيام القادسية والذي عُرف بـ "يوم عماس"، فقاموا بربط المراكب على الفيلة، ولكنهم هذه المرة وضعوا حرس حول الفيلة، ليحولوا دون قطع المسلمين لأحزمتها، وكان قائد هذه الفيلة فيلٌ أبيض مجنون، درَّبه الفُرس على الحروب، فأصبح يفتك في صفوف المسلمين فتكًا، فتقدم الصحابيان الأخوان القعقاع وعاصم ابنا عمرو -رضي اللَّه عنهم- نحو الفيل الأبيض، فتوجه أحدهما نحو الميمنة، وتقدم الآخر نحو الميسرة، ليرفع كل منها رمحه، ثم يكبرا في نفس الوقت، ليفقأ البطل الأسطوري القعقاع العين اليمنى للفيل الأبيض، ويفقا أخوه البطل عاصم عينه الفيل اليسرى، لتتفجر الدماء شلالًا من رأس الفيل الأبيض، قبل أن يترنح يمينا وشمالًا، ليلحقه القعقاع بضربة من حسامه قطع به خرطومه، ليسقط ذلك الفيل العملاق على الأرض سقطة اهتزت لها أرض اليرموك، لتتخبط بقية الفيلة بعد مقتل كبيرها الفيل الأبيض، ولتهرب فيلة الفرس من أسود المسلمين! دريد بن كعب النخاعي: كان هذا الرجل شيخ قبيلة "نخاع" العربية، فأراد أن ينافس القبائل العربية الأخرى، ولكنه لم ينافسها بقصائد الفخر والرقص الشعبي، بل نافسها بمسابقة "من سيربح الجنّة أولًا"، فجمع شباب قبيلته نخاع في عتمة الليل بعد غروب شمس اليوم الثالث، وقال لهم بخفية من أمره: "إن المسلمين تهيأوا للمزاحفة، فاسبقوا المسلمين الليلة إلى اللَّه والجهاد، فإنه لا يسبق الليلة أحد إلا كان ثوابه على قدر سبقه، نافسوهم بالشهادة، وطيبوا بالموت نفسًا، فإنه أنجى من الموت إن كنتم تريدون الحياة، وإلا فالآخرة من أردتم" ولأول مرة في تاريخ المعارك الحربية على الإطلاق، قامت هناك معركة كبيرة في منتصف الليل! قام بها أسودٌ من شباب قبيلة نخاعة في تلك الليلة التي سميت في التاريخ بـ "ليلة الهرير" لكثرة القتال فيها (الذي علا فيه هرير الأسلحة)،

فلما رأى شباب القبائل العربية الأخرى ذلك، غاروا منهم، فهبوا على صفوف الفرس يدكّونها دكًا، ليتطاير شرر السيوف في عتمة الليل، فعلت سحابة من الغبار فوق سماء المعركة، ولم يعلم بقية المسلمين مصير أولئك الفدائيين حتى جاء الفجر، فرأوا شباب الإسلام يرجعون من هناك وهم يضحكون بعد أن قتلوا آلاف الفرس. هلال بن علفة: وفي اليوم الرابع للقتال والذي عُرف بـ "يوم القادسية"، وأثناء اشتداد القتال بالقرب من البغال التي تحمل مؤونة الجيش الفارسي، تقدم أسد عربي اسمه هلال بن عُلَّفة ليدكدك بسيفه جمامجم الفرس كالأسد في قفاره، وفجأة وعن طريق الصدفة البحتة، طاش سيفه وهو يضرب به، فقطع حملًا من أحمال هذه البغال، فسقط هذا الحمل على الأرض، ليسمع هلال بن علفة صراخًا كصراخ النساء من خلف البغل، ليتفاجأ هلال أن ذلك الصراخ لم يصدر من مرأة، بل كان مصدره رجلًا فارسيًا مختفيًا وراء البغال! فصُعق ذلك الرجل عندما رأى وجهًا عربيًا أمامه، فأخذ يصرخ صراخ النساء ويسرع بالفرار وكأنه رأى وحشًا من وحوش الأرض! فنظر إليه هلال بن علفة مستغربًا من هذا الفزع الذي حلَّ به، ولكنه لاحظ عليه مظاهر الأبهة والعظمة، فقال لنفسه: أهو هو؟! إنه رستم قائد الفرس!!! فلما رآه هلال بن علفة يجري بهذه السرعة وهذه الأبهة التي كانت عليه، قال: لا أفلحت إن نجا! وبالفعل أسرع وراءه حتى يلحق به، ورستم يجري! وتخيلوا معي ذلك المنظر المضحك، فارسٌ عربي بثيابٍ ممزقة يجري خلف قائد الإمبراطورية الفارسية العظمى رستم وهو يهرب كالكلب الطريد لابسًا تاجه الذهبي وثوبه الحريري الأحمر، عندها أخذ رستم يلتفت وهو يجري ويصرخ فيه: "بابيه! " (ومعناها بالفارسية: قِفْ كما أنت!)، ولكن هلالًا ظل يجري وراءه كالأسد المفترس الذي يجري وراء طريدته مصممًا على الظفر بها بمخالبه، فقذفه رستم برمح كان في يده، فأصاب قدم هلال بن علفة فأصابها، فوقع هلال أرضًا من شدة الإصابة، ولكنه في لحظة من الزمن. . . عاد ليقف على رجله المصابة، ليستمر في مطاردة رستم، فقذف رستم نفسه في النهر، وبدأ يعوم، فتحول ذلك الفارس العربي من أسدٍ بري إلى تمساحٍ مائي! فسبح وراءه، ورستم يسبحُ بكل قوته، والتمساح الإسلامي من ورائه، حتى أحس رستم بيدٍ تجذبه من قدمه إلى خارج النهر، لقد كانت هذه يد البطل العربي هلال بن علفة، وهي نفسها اليد التي

سترتفع عاليًا في السماء، حاملة سيفًا إسلاميًا لامع النصل، لتضرب رستم بضربة على رأسه، لتقسم جسمه إلى قسمين متماثلين، عندها وقف هلال بن علفة على كرسي القيادة الذهبي في موكب رستم، ورفع سيفه في عنان السماء، وصاح بصوت كاد يهز الجبال: اللَّه أكبر، قتلت رستم ورب الكعبة، إليَّ أيها المسلمون! فانهارت معنويات الفرس بذلك، وحاولوا الهرب بعبور دجلة، ولكنهم كانوا مقيدين بالسلاسل كالكلاب من قبل قادتهم، فاندفع 30 ألفًا من قطعان آل فارس في النهر هربًا من أسود العرب، فغرقوا بسلاسلهم الحديدية في أعماق دجلة، ليصبحوا طعامًا شهيًا لأسماك النهر، بعد أن كانوا فريسة لأسود البر! وبأسودٍ مثل هؤلاء الأسود، انتصر العرب المسلمون على آل فارس المجوس، فدمَّروا بذلك الإمبراطورية الساسانية إلى الأبد، ولكن انتصارهم هذا ولَّد حقدًا تاريخيًا دفينًا ظل مغروسًا في وجدان الفرس! فلماذا يؤمن الشيعة الفرس بأن المهدي سيقتل القبائل العربية عن بكرة أبيها عند خروجه من السرداب؟ ولماذا يعتقد اليهود في التلمود أن اللَّه ندم على خلقه أبناء إسماعيل "العرب"؟! فما هي قصة العرب؟ ولماذا اختار اللَّه العرب من دون سائر البشر ليبعث من بين إحدى قبائلهم أعظم مخلوقٍ في الكون؟ فلماذا يُعتبر حب العرب دليلًا على حب الإسلام؟ ولماذا يُعتبر كره العرب دليل نفاق؟ يتبع. . . . . . .

83 - (العرب)

{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (العرب) " العرب مادة الإسلام" (عمر بن الخطاب) ما ترددت في شيء في هذا الكتاب منذ بدايته إلى حد الآن بمثل ما ترددت في الكتابة عن هذا العنصر البشري المتمثل في أحد شعوب أمة الإسلام المتنوعة، ألا وهو العنصر الإسلامي العظيم "العرب"! فمن ناحية تاريخية بحتة لا يمكن لباحث تاريخي أن يكتب كتابًا يضم في صفحاته مائة نموذجٍ إسلامي كان لهم دور رائد في الإسلام، دون أن يذكر العرب من بينهم، فلقد ذكرت في هذا الكتاب عظماء الإسلام العظماء متنقلًا ما بين رجل وسيدةٍ ومجموعاتٍ فكرية وقومياتٍ إثنية، ولقد ذكرت من قبل البربر والكرد والأتراك ومؤمني فارس والهنود الحمر كقوميات إثنية ضحت من أجل السلام، فأصبح لزامًا علي ذكر قومية العرب التي كانت أول قومية تؤمن عن بكرة أبيها برسالة محمد بن عبد اللَّه الذي هو عربي بالأساس! ورغم كل هذا، ترددت طويلًا في ذكر القومية العربية بالتحديد لدرجة دفعتني أن ألغي بالفعل فكرة الكتابة عنهم من الأساس، قبل أن أرجع عن قراري بعض مفاوضات طويلة بيني وبين نفسي استغرقت أسابيعًا طويلة، توصلت من خلالها إلى ضرورة الكتابة عن العرب، بل إلى وجوب الكتابة عنهم في هذه الفترة الزمنية بالذات، والتي يُهاجم فيها العرب من جميع الاتجاهات! والحقيقة أن ترددي ذلك لم يكن نتيجة إغفالي لقيمة العرب القيادية في تاريخ الحضارة الإسلامية العربية، بل كان ذلك التردد يرجع بالأساس إلى عاملين اثنين: (أولًا): الجذور العربية القبلية لكاتب هذا العمل، والتي ترجع إلى قبيلة "الأزد" العربية القحطانية! (ثانيًا): الحساسية السياسية المعقدة التي تربط بين أصحاب الفكر القومي وكثير من الجماعات الإسلامية!

أما في الأولى فقد خشيت أن أتحيز فيها للعرب من منظورٍ عنصري بحت، فيختلط بذلك لدي العام بالخاص، فأخسر في النهاية نعمة الإخلاص التي أرجو اللَّه أن يرزقنيها في هذا الكتاب. أما في الثانية فقد خشيت أن يُفسَّر دفاعي عن العرب على غير محله من قبل بعض مفكري الجماعات الإسلامية السياسية، والذين تصيبهم حالة عصبية عند سماعهم باسم العرب أو العروبة! والحق أقول أن السبب الأول كان أهم عندي ألف مرة من السبب الثاني، فهجوم الجماعات الإسلامية السياسية على الكتاب أو صاحبه هو شيءٌ لا أرجوه، ولكنني لا أهتم له كثيرًا! فلا أنا عضو في جماعةٍ إسلامية سياسية أخشى أن أقال فيها من منصبي، ولا أنا أفكر أساسًا في الإنضمام في المستقبل القريب أو البعيد لأيٍ من تلك الجماعات التي كرَّست حياتها لتولي سدة الحكم في بلدانها، معظمة بذلك من شأن السياسة على حساب العقيدة، لدرجة دفعت بعضها إلى التحالف حتى مع إيران التي تطعن بشرف زوج رسول اللَّه وتلعن صحابته! مبررة تحالفها الإستراتيجي مع الرافضة بتحالف رسول اللَّه بعد الحديبية مع قبيلة "خزاعة" التي كانت مشركة في وقتها، ناسين بذلك -أو متناسين- أن خزاعة لم تكن تسب أصحاب محمدٍ يومًا، ولم تتهم زوجته عائشة يومًا ما بالزنى كما تفعل إيران وملاليها! فإلى أولئك "الإسلاميين السياسيين" أو بالأصح "السياسيين الإسلاميين" أقول: آن الوقت لكي تراجعوا أنفسكم، فواللَّه إن أيًّا منكم لا يقبل كلمة سوء تمس شرف أمه، فكيف يقبل على أمه عائشة زوجة رسول اللَّه أن تهان بأسفل التهم، فكيف بكم يوم الحشر أمام رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وهو يسألكم إن كنتم قد دافعتم عن عرضه وشرفه، فواللَّه إنكم بتحالفكم مع إيران ستخسرون الدنيا والآخرة، فلا كرسيًا ستأخذون، ولا شفاعة من محمد ستنالون. . . . إن أنتم لم تذوذوا عن عرضه! أما بالنسبة للسبب الأول. . . . فقد توصلت بعد أشهر من المفاوضات الشاقة مع نفسي إلى نتيجة واقعية بالنسبة للكتابة عن العرب، فأنا فعلًا حين أكتب عن العرب أكتب مفتخرًا بانتسابي لهم! بل وأفتخر كثيرًا بانتسابي للعروبة كقومية! ولكنني في نفس الوقت لا أفتخر بذلك من منظورٍ قبلي قومي عنصري ضيق، لا يفرق بين أبي لهب العربي وأبي بكر العربي، بل على النقيض تمامًا، فأنا حين أفتخر بقوميتي الغربية فإنني أفتخر بانتسابي

لأولئك القوم الذين بعث اللَّه من بينهم أعظم مخلوقٍ على وجه الكون، وأفتخر بانتسابي إلى القوم الذين كان من بينهم الصحابة أعظم مخلوقات اللَّه بعد الأنبياء، وأفتخر بالعرب الذين نشروا الإسلام في أرجاء الدنيا، وأفتخر بالقبائل العربية التي أطفأت نار المجوس الفارسية إلى الأبد، وأفتخر بأولئك القوم الذين ضحوا بأرواحهم من تحرير الشعوب من عبادة أباطرتها، أفتخر بقبائل نجدٍ البطلة التي لطالما دافعت عن الإسلام، وأفتخر بقبائل الحجاز العملاقة التي أضاءت نور الإسلام للدنيا، وأفتخر بقبائل اليمن العربية القحطانية التي حملت الإسلام إلى مجاهل المحيطات في آسيا وأفريقيا، أفتخر بالقعقاع التميمي الذي دكَ حصون الفرس، وأفتخر بخالدٍ المخزومي الذي أباد جيوش الروم، وأفتخر بعثمان الأموي الذي تستحي منه الملائكة، وأفتخر ببني عدي الذين خرج منهم رجال كعمر وزيد، أفتخر بالمغيرة بن شعبة الثقفي الذي أذل فارس بكلماته العربية الفصيحة، أفتخر بقبيلة تيم العربية الأصيلة التي أنبتت للإنسانية رجالًا مثل أبي بكر وطلحة، أفتخر بأبي عبيدة عامر بن الجراح الفهري، وعبد الرحمن بن عوف الزهري، وأويس القرني، أفتخر بالزبير البطل العربي الأصيل، وأفتخر بعمته خديجة زوجة رسول اللَّه، أفتخر بآل هاشم الذين أنجبوا بطلًا اسمه علي، وأفتخر بآل أمية الأبطال الذين نشروا دين محمد في أرجاء المعمورة، وأفتخر بالعباس بن عبد المطلب الذي كان من نسله بطل اسمه هارون، وأقولها بملء فمي: أفتخر بعروبتي وبانتسابي لقبيلة الأزد القحطانية أصل العرب العاربة، والتي قال عنها رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بالحديث النبوي الذي رواه أحمد وصححه الألباني: "الملك في قريش، والقضاء في الأنصار، والأذان في الحبشة، والشرعة في اليمن، والأمانة في الأزد"، أفتخر بأبناء عمومتي الأوس والخزرج الذين ناصروا محمدًا، وأرفع رأسي عاليًا في عنان السماء بأن منا أبا هريرة الأزدي، أفتخر بالحضارمة العرب الذين حملوا راية التوحيد إلى أندونيسيا والفلبين، أفتخر بسعدٍ بن معاذ الأنصاري الأزدي العربي الذي اهتز لموته عرش الرحمن، أفتخر بجعفر الهاشمي، أفتخر بأبي ذرٍ الغفاري، أفتخر بأبي أيوب الأنصاري، وشرحبيل بن حسنة الكِندي، أفتخر بإمام أهل السنة والجماعة أحمد بن حنبل الشيباني، وأفتخر قبل كل هؤلاء بالنبي العربي الهاشمي القرشي محمد بن عبد اللَّه بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن

مرة بن كعب ابن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نذار ابن معد بن عدنان! نعم. . . . . أفتخر بكل أولئك، وأرفع رأسي عاليًا بين شعوب الأرض لأناطح به أفق السماء بانتسابي لهذه القومية البطلة، فليس عيبًا أبدًا أن يفتخر المسلم بقوميته، فلو كنت بربريًا لشرفني أن أنتمي لطارق ابن زياد، ولو كنت تركيًا لافتخرت بمحمد الفاتح وبألب الدين أرسلان، أما وقد اكرمني اللَّه بانتسابي للقومية التي كان منها محمد بن عبد اللَّه وصحابته الأبطال، فحيْهَلا بها قومية! فالخطأ الذي تقع به كثير من الحركات الإسلامية الحديثة أنها تعتقد أن الإسلام أنهى مفهوم القومية والقبلية، وهذا غير صحيح على الإطلاق، فلقد كان رسول اللَّه يقسّم جنوده على حسب قبائلهم، فتفتخر كل قبيلة منهم أن العدو لا يأتي المسلمين من خلالها، ولقد رأينا كيف أن القبائل كانت تحارب في كتل مجتمعة في القادسية، فالإسلام لم يحارب القومية أو القبلية، بل قام بتحويلها إلى الإتجاه الصحيح الذي يخدم الإسلام، أما من أراد أن يفتخر بقوميته لمجرد إثارة النعرات القبلية، فإلى أولئك أقول ما قاله رسول اللَّه: "دعوها فإنها منتنة"! فاللَّه ليس بينه وبين أحد نسب، فحذاري من العنصرية، فواللَّه إن بلالَ الحبشي لهو خيرٌ عند اللَّه من أبي لهب الهاشمي عم رسول اللَّه، وإن سلمان الفارسي لهو خيرٌ من أبي جهل القرشي خال عمر بن الخطاب! فالبرغم من أن الإسلام لاقى كثيرًا من الصد في بداية الدعوة نتيجة لرفض زعماء العرب التخلي السريع عن موروث الآباء والأجداد، إلا أنه في نفس الوقت وجد أمامه أناسًا لديهم قابلية إجتماعية كبيرة لتقبل هذا الدين، فكثيرٌ من الأخلاق التي جاء بها الإسلام كانت منتشرة أصلًا بين العرب حتى قبل إسلامهم! ويرجع ذلك إلى تفسيرين اثنين: (أولًا) تأثر العرب بالدعوة الإبراهيمية التي ظلت بقاياها الاجتماعية بالرغم من اندثار بقاياها العقائدية! (ثانيًا) البيئة البدوية الصحراوية الغالبة التي كان يعيش فيها العرب! حيث يرى المؤرخ الأمازيغي الإسلامي ومؤسس علم الاجتماع (ابن خلدون) في مقدمته الشهيرة: "أن سكان القفار البدو الذين يقتصرون في غالب أحوالهم على

الألبان، ويفتقرون إلى الحبوب والأدم، هم أحسن حالًا في جسومهم وأخلاقهم وأذهانهم من أهل التلول الحضر المنغمسين في العيش الرغيد! " ويستشهد ابن خلدون للدلالة على صحة رأيه بمقارنة البدو من عرب وبربر في مناطق شمال أفريقيا بغيرهم من الحضر، بل يتجاوز ذلك إلى مقارنة غير الإنسان من حيوانات في القفار بنظائرها في الأمصار، فيجدها متفوقة في الأولى على الأخيرة، كما هو حال المها مع البقرة، والحمار الوحشي مع الحمار الأهلي، والغزلان مع الماعز! لذلك لم تكن المرأة العربية الحرة قبل الإسلام تزني كنساء فارس مثلًا، ولم يكن العرب يكذبون أصلًا كما رأينا في قصة الصحابي الجليل أبي سفيان مع هرقل، ولم يكن العربي يجبن أمام العدو أو يُربط بالسلاسل حذر الهرب! بل إن قريشًا قامت بعقد "حلف الفضول" الذي مدحه الرسول بعد الإسلام، فتصوير العرب في الجاهلية بأنهم أناسٌ حمقى متخلفون ما هو إلا شيءٌ عارٍ تمامًا من المصداقية التاريخية، بل إن في ذلك طعنٌ في أصل رسول اللَّه، فالرسول قالها علانية: "ما بُعثت إلا لأتمم مكارم الأخلاق" ولم يقل لكي أصنع أخلاقًا جديدة! فمكارم الأخلاق كانت موجودة بالفعل عند العرب، ولكنها كانت تحتاج إلى توجيه، فبدلًا من الموت في سبيل القبيلة، أصبح هناك مفهوم جديد اسمه "الموت في سبيل اللَّه"، وبدلًا من الكرم الحاتمي، أصبح هناك مفهوم "الزكاة"، والإيمان باللَّه كان موجودًا أصلًا بين القبائل العربية، ولكنه كان يحتاج إلى تصحيحه نحو التوحيد! فتخيل معي لو أن محمدًا قد بُعث بين الفرس الذين يؤمنون بأن النار هي اللَّه، وبأن الرجل يحق له التمتع جنسيًا بأمه، فهل كانت مهمته ستكون أسهل أم أعقد؛ ولقد وجدت عند النصارى في "الكتاب المقدس" في سفر "التكوين" بشارة من اللَّه لنبيه (إبراهيم) يبشره بأمة عظيمة من نسل (هاجر): (12: 12. . وابن الجارية أيضًا سأجعله أمة عظيمة)! وعلى عكس ما يعتقده البعض. . . فإن كثيرًا من الصحابة العرب كانوا يقرأون ويكتبون، ولكن أيًا منهم لم يكن فيلسوفًا (وللَّه الحمد!)، والطريف أنني سمعت عالمًا شيعيًا يذم العرب لأنهم كانوا بدوًا مفتقدين للتفسيرات الفلسفية، لذلك لم يفهموا القرآن كما فهمه الفرس أصحاب الفلسفة الزرادشتية، والحقيقة أن ذلك الشيعي الفارسي

الحاقد أصاب كبد الحقيقة بهذا القول الذي أراد منه ذم الصحابة، فالصحابة كانوا بدوًا بالفعل، والقرآن الذي نزل على محمد نزل على العرب البدو الذين لم تكن فيهم فلسفات الإغريق وخزعبلات الفرس التي كانت ستجعل تقبل القرآن شيئًا مستحيلًا! فقد كانوا رحمهم التبما يسمعون كلام اللَّه ليطبِّقُوه مباشرة، وصدق اللَّه تعالى إذ يصفهم: {قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا}، فتخيلوا لو أن رسول اللَّه بُعث في الإغريق، أكانوا سيتركونه وشأنه من دون مناقشته في شكل اللَّه، وشكل كرسيه، وهل الموت شيء وجداني أم شيء فيزيقي؟ وغير ذلك من الأسئلة التي لا علاقة لها بجوهر الدعوة: التوحيد! وما تفرقت الفرق الإسلامية الضالة مثل المعتزلة والشيعة إلا بعد دخول الفلسفة الإغريقية والفارسية إلى ديار المسلمين، وتخيلوا أن الرسول بُعث بين اليهود، هل كانوا سيحترمونه كما احترمه الصحابة العرب؟ أم أنهم سيفعلون به ما فعلوه بنبيهم موسى من قبل؟ هذه العوامل وغيرها جعلت من اختيار العرب كقومية حاضنة للدعوة الإسلامية ليس مجرد خيارٍ منطقيٍ وحسب، بل خيارًا وحيدًا لا ثاني له، وقد أثبت هذا الاختيار الإلهي للعرب من الناحية التاريخية البحتة أنه اختيار لا مثيل له، ففي غضون مائة عام فقط نقل بنو يعرب هذا الدين من صحراء الحجاز إلى البحر الأصفر شرقًا ونهر الراين على حدود باريس غربًا، ومن جبال القوقاز شمالًا، إلى أدغال أفريقيا جنوبًا، فأثبت العرب بحق أنهم خير سفراء لهذا الدين. فاللَّه اللَّه في أصل نبيكم، واللَّه اللَّه في العرب، فالعرب الآن يهاجمون من جميع الإتجاهات، فالفرس الشيعة يؤمنون أن مهديهم سيبيد العرب عن بكرة أبيهم (عندما يعجل اللَّه فرجه)! واليهود كتبوا في تلمودهم أن اللَّه ندم على أربع أشياء، من بينها خلقه للشر وخلقه للإسماعليين الذين هم العرب، والسينما الأمريكية ما تفتأ تصور العربي في أفلامها بأنه إرهابي. . . أو مدمن جنس. . . أو عاقر خمر! والمخرجون العرب من الشيعة يصورون بطلًا عربيًا مثل (الزير سالم) بأنه رجل جبان يسلم بناته للأعداء كي ينجو هو بنفسه، والرافضة يسمون العرب أسماءً مثل "العربان" و"الأعراب" و"البدو" و"راعة الإبل والبعير"، ونسي أولئك "العلوج" أن هؤلاء البدو هم الذين أبادوا إمبراطوريتهم، وأن تلك الإبل هي نفسها التي انتصر بها أولئك البدو على فيلتهم، فيا شباب الإسلام. . . .

ذبّوا عن العرب! وارفعوا رؤوسَكم عاليًا بانتسابكم العربي! فطالما أن الجميع يحاربونكم، فأبشروا بالخير، فهذه إشارة على قوتكم! وبعد أن تحدثنا عن العربية كقومية، حان الموعد للحديث عنها كلغة! فلماذا اختار اللَّه هذه اللغة لتكون لغة قرآنه؟ ولماذا اختارها من بين كل لغات الأرض لتكون لغة أهل الجنّة؟ فما هو سر جمال هذه اللغة؟ ولماذا تحارب هذه اللغة بكل شراسة؟ ومن هو ذلك الشاعر العربي الذي غزل من حروف هذه اللغة العجيبة شعرًا يفوح منه عبق التوحيد رغم موته قبل البعثة النبوية؟ وماهي تلك الرؤيا العجيبة التي رآها في منامه تبشر بالإسلام قبل موته بسنوات؟ ولماذا أعتبره شخصيًا. . . . . أعظم شاعرٍ في تاريخ البشر! يتبع. . . . . .

84 - أعظم شاعر في تاريخ الإنسانية (زهير بن أبي سلمى)

" أعظم شاعرٍ في تاريخ الإنسانية" (زهَيْر بن أبي سُلمى) فَلَا تَكْتُمُنَّ اللَّهَ مَا فِي نُفُوسِكُمْ ... لِيَخْفَى وَمَهْمَا يُكْتَمِ اللَّهُ يَعْلَم يُؤَخَّرْ فَيُوضَعْ في كِتَابٍ فَيُدَّخَرْ ... لِيَوْمِ الحِسَابِ أَوْ يُعَجَّلْ فَيُنْقَمِ (زهير بن أبي سلمى) العربية. . . . . . لغة تمتلك من سحر البيان وجزالة الألفاظ وروعة العبارات ما يسرق الألباب من رؤوس ذويها، وما يخطف القلوب من أولي النُّهى! لغة تمتلك من مقومات العظمة ما يجعلها سيدة لغات الأرض من دون أي منازع، ليس هذا تعصبًا أو تحيزًا، بل هو كلامٌ نابع من إيمان كاتبٍ غاص في بحار هذه اللغة، ليكتشف أعماقها، ويستخرج كنوزها، فيلتقط محارها الدفين، ويرفع عنه الغشاوة، ليجد بداخله اللؤلؤ المكنون يبرق كأنه الشمس في ضياها، فهذه اللغة اختارها اللَّه من بين 6500 لغة حية موجودة على سطح الأرض لتكون لغة أهل الجنّة، ولغة القرآن، الكتاب الوحيد الباقي من وحي السماء المنزل على البشر. وفي الوقت الذي تفتخر فيه كل أمة بلغتها بالرغم من ضحالتها، نجد أن شباب العرب لا يكادون يفقهون قولا بالعربية، فضلًا عن أن يحسنوا الكتابة بها، فكيف نرجوا النصر وفينا من لا يفرقون بين "الذال" و"الزاي"، والكاف و"القاف"؟ وكيف نرجوا من اللَّه أن ينصرنا وفينا من يكتبون لفظ الجلالة بهذا الشكل: "اللة"؟! وكيف يفلح قومٌ لا يعرفون الفرق بين "الألف المقصورة" و"الياء"؟ وبين "همزة الوصل" و"همزة القطع"؟ وبين "الضاد" و"الظاء"؟ ناهيك عن أولئك الذين يرفعون المنصوب ويجرون المرفوع بشكلٍ يدعو للشفقة والحزن عليهم في كثيرٍ من الأحيان! فواللَّه لن تقوم لهذه الأمة قائمة ونحن ساقطون في الإملاء، فقبل أن يفكر شباب هذه الأمة في الجهاد والتدرب على

حمل السلاح، عليهم أن يجاهدوا أنفسهم قليلًا ليتدربوا على الكتابة الصحيحة الخالية من الأخطاء الإملائية! فلن يُنشر هذا الدين بين شعوب الأرض بشباب ساقطين في لغتهم الأم من الأساس! ولن تعلو للإسلام راية وأبناء العرب يتربون في أحضان الخادمات الأجنبيات، فتصبح لغة "الأردو" و"الهندي" اللغة الرسمية من منازل العرب! فرسول اللَّه لم يتربى كذلك، فقد بعثه جده (عبد المطلب) إلى بادية "بني ساعدة" ليتربى تربية بدوية أصيلة، فيرضع من (حليمة السعدية) لبنها، ويرضع منها كذلك اللغة الجزلة القوية، فخرج رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- من عندهم وهو أفصح العرب. فعلموا أولادكم لغة العرب، فهذه اللغة هي جدار الدفاع الأول للإسلام، فإذا ضيَّعناها، ضيَّعنا الإسلام، وإذا أراد أحدكم أن يجاهد في سبيل اللَّه، فليجاهد أولًا نفسه بتعلم قواعد العربية لكي يحسن قراءة القرآن، فتعلم العربية فرض وليس اختيار، أما للذين ملأوا الدنيا صراخًا حبًا في رسول اللَّه، فليسألوا أنفسهم سؤالًا: هل تتقنون لغة رسول اللَّه الذي تدّعون محبته؟ هل إذا قابلتموه ستسلمون عليه بقولكم "هاي" كما تفعلون مع أصحابكم أو "الشلة" كما تسمونهم؟!! هل ستشكرون أبا بكر لما قدّمه للإسلام بقولكم "مرسي"؟ أم هل سيجرأ أحدكم أن يقول للمارد الإسلامي عمر عند وداعه: "باي باي"؟ واللَّه وكأني بابن الخطاب يرفع سيفه ويلحق بأحدنا بعد سماعه تلك الكلمات الأعجمية التي تنم عن هزيمة نفسية مغروسة في أنفسنا! وصدق (الإمام الثعالبي) رحمه اللَّه عندما قال في كتابه "فقه اللغة وأسرار العربية": "من أحب اللَّه تعالى أحب رسوله ومن أحب رسوله العربي أحب العرب ومن أحب العرب أحب العربية ومن أحب العربية عني بها، وثابر عليها، وصرف همته إليها! ". وصدق أيضا الكاتب الأديب الشاعر (مصطفى صادق الرافعي) حينما قال: "ما ذلت لغة شعب إلا ذل! ". وهذه الحقيقة عرفها الغزاة منذ بداية الاستخراب "الاستعمار" في الدول الإسلامية، فمن يراجع الوثائق التي بدأت بها عملية الاحتلال البريطاني لمصر يكتشف أن أول أعمال الاحتلال هو وضع خطة لتحطيم اللغة العربية، يبدو ذلك واضخا في تقرير (لورد دوفرين) عام 1882 م حين قال: "إن أمل التقدم الاستعماري ضعيف في مصر، ما دامت العامة تتعلم اللغة العربية الفصيحة! ". وهناك الكثير الكثير من مثل هذه الاقوال التي تضع محاربة اللغة العربية أولى

أولويات الاحتلال. فقد صرّح الحاكم الفرنسي في الجزائر في ذكرى مرور مائة عام على استعمار الجزائر "إننا لن ننتصر على الجزائريين ما داموا يقرؤون القرآن، ويتكلمون العربية، فيجب أن نزيل القرآن العربي من وجودهم، ونقتلع اللسان العربي من ألسنتهم" وهنا أحذر الإخوة الأمازيغ. . . فأنتم لديكم كل الحق في تعلم اللغة الأمازيغية، ولكن اللَّه اللَّه في لغة القرآن، لا تهملوها، فهي سلاحكم، وهي اللغة التي فسر بها (ابن كثير) كتاب اللَّه، وهي اللغة التي رسم بها جدكم (عباس بن فرناس) خرائط طائرته الشهيرة، أما إلى شباب العرب فأقول، إن تحدَّثكم بالمفردات الأجنبية في لغة خطابكم اليومي تنم على ثلاثة أشياء: (أولًا) أنكم مهزومومن نفسيًا! (ثانيًا) أنكم تعانون من عقدة نفسية، فأنتم لا تحسنون تلك أي لغة أجنبية، لذلك تحاولون أن تخفوا ذلك بترديد بعض المفردات الأجنبية! (ثالثًا) أنكم أقرب إلى النفاق منه إلى الإيمان! وقد قال الإمام (ابن تيميَّة) "إذا رأيت الرجل يتحدث بغير العربية من دون حاجة، فاعلم أن ذلك علامة من علامات النفاق! " وواللَّه لقد صدق شيخ الإسلام. . . . فما رأيت أحدًا يترك العربية إلا وكانت فيه بقية خصال المنافقين! فيا شباب الإسلام، أعيدوا مجد العربية، فقد كانت العربية هي لغة العلم الأولى في العالم، وستعود إن شاء اللَّه كذلك بفضلكم، وكانت اللغة العربية هي الحروف التي يكتب بها الأتراك والروس والأوروبيون والهنود والأفارقة إلى وقت قريب، فعودة اللغة العربية إلى سابق مجدها يعني بالضرورة عودة المسلمين إلى سابق عهدهم! وزهير بن أبي سلمى هو أفضل من قال الشعر باللغة العربية، وبما أن اللغة العربية هي أفضل لغة في العالم، نستنتج من ذلك أنه أفضل شاعر في تاريخ الإنسانية! يشهد على ذلك (عمر بن الخطاب) بنفسه، بدليل رواية (ابن عباس) التي قال فيها "خرجت مع عمر بن الخطاب في أول غزاة غزاها فقال لي: أنشدني لشاعر الشعراء، قلت: ومن هو يا أمير المؤمنين؟ قال: ابن أبي سلمى، قلت: وبم صار كذلك؟ قال: لا يتبع حوشي الكلام ولا يعاظل في المنطق، ولا يقول إلا ما يعرف ولا يمتدح أحدًا إلا بما فيه". وأيّد هذا الرأي العمري كثرة من بينهم عثمان بن عفان، وعبد الملك بن مروان، وآخرون، واتفقوا على أنّ زهيرًا صاحب "أمدح بيت. . . وأصدق بيت. . . وأبين بيت".

أما عن سر اختياري لهذا الشاعر العظيم بالتحديد ليكون ضمن قائمة المائة رغم أنه لم يلحق بزمان البعثة المحمدية فيعود إلى سببين: (أولًا) أنه فعلًا مسلم على الدين الحنيفي الإبراهيمي، وأن شعره المليئ بمعاني التوحيد وجماليات المنطق يعطيه الأحقية بذلك، إضافة لأنه كلامٍ عظيمٌ في التوحيد الذي كان على وشك الاندثار. (ثانيًا) أنه في ذكر زهيرٍ فائدةٌ كبيرة في رد شبهات النصارى والمستشرقين، فلقد ارتفعت في السنوات الأخيرة أصوات الصليبيين وإخوانهم من المنافقين يزعمون أن رسول اللَّه قام بسرقة القرآن من الشعراء من قبله، مدللين على ذلك بأن كثيرًا من معاني القرآن ومفرداته قد وردت بالفعل في شعر الجاهلية! والحقيقة أن في أقوال أولئك الكذابين حق يُراد به باطل، فأما قولهم بأن بعض معاني القرآن وألفاظه قد تكررت من قبل. . . فهذا صحيح! وأما قولهم أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قد سرق قرآنه من الشعراء فهو إفكٌ واضح وشرٌ فاضح! والحقيقة أن أولئك السفلة ما كانوا ليجترأوا على ذلك القول لولا تشويه بعض الدعاة المسلمين -بقصدٍ أو بغير - قصد- لتاريخ لعرب في أيام جاهليتهم، فالعرب عرفت الإسلام وعرفت التوحيد قبل رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فالإسلام كدين وكمفهوم ليس اختراعًا جديدًا أتى به محمد بن عبد اللَّه، بل هو دين اللَّه على الأرض الذي دان به الأنبياء جميعهم للَّه، فليس غريبًا أن تتطابق بعض آيات القرآن بما كان يقوله أدباء العرب من المسلمين الحنيفيين من أمثال (زهير ابن أبي سلمى) و (قس بن ساعدة الأيادي). أما للنصارى الذين يزعمون أن النبي العربي جاء بقرآنٍ تتطابق بعض آياته مع بعض ما ورد لديهم في "الكتاب المقدس" فأقول: هذا شيءٌ لا نستحي منه، فربنا هو ربكم، وكلامه في كتابكم هو نفسه كلامه في كتابنا، ولكن المشكلة في كتابكم أنكم أضفتم إليه وحذفتم منه، أما نحن فلم نبدل ولم نغير، فإن وجدتم في كتباكم ما يتطابق بما في كتابنا، فاعلموا أن ذلك هو ما تبقى من وحي موسى وعيسى! ولا تنسوا أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يكن يعرف الكتابة والقراءة لكي يسرق من كتابكم الذي لم ينقل أصلًا للعربية إلا في بداية القرن الحادي عشر! (الشيء العجيب الذي يدعو للتساؤل هو أن الشيعة بدأوا ينشرون مؤخرًا أن رسول اللَّه لم يكن أميًا!

فلمصلحة من يحاول الشيعة نشر هذه الأكاذيب التي تدعم الموقف الصليبي؟!). وزهير بن أبي سلمى كان واحدًا من أصحاب "المعلقات السبع"، وهي أعظم ما قالت العرب، والناظر لمعلقة زهير يجد فيها من التوحيد ما يثبت إسلامه وحسن أخلاقه، فمعلقته هي أجمل المعلقات، تناول فيها الحكمة الإنسانية النابعة من إيمانه الحنيفي الإبراهيمي، ولكنني سأترك معلقته لأذكر قصيدة له هي للأسف غير مشهورة، لأترك المجال للقارئ الكريم ليستشعر فيها عبق التوحيد الذي لا يخفى على عاقل يفقه شيئًا من لغة الضاد: ألا ليت شعري هل يرى الناس ما أرى ... من الأمر أو يبدو لهم ما بدا ليا بدا لي أن اللَّه حق فزادني ... إلى الحق تقوى اللَّه ما كان باديا بدا لي أن الناس تفنى نفوسهم ... وأموالهم ولا أرى الدهر فانيا وإني متى أهبط من الأرض تلعة ... أجد أثرا قبلي جديدا وعافيا أراني إذا ما بت بت على هوى ... وأني إذا أصبحت أصبحت غاديا إلى حفرة أهدى إليها مقيمة ... يحث إليها سائق من ورائيا كأني وقد خلفت تسعين حجة ... خلعت بها عن منكبي ردائيا بدا لي أني لست مدرك ما مضى ... ولا سابقا شيئا إذا كان جائيا أراني إذا ما شئت لاقيت آية ... تذكرني بعض الذي كنت ناسيا وما إن أرى نفسي تقيها كريهتي ... وما إن تقي نفسي كرائم ماليا ألا لا أرى على الحوادث باقيا ... ولا خالدًا إلا الجبال الرواسيا وإلا السماء والبلاد وربنا ... وأيامنا معدودة واللياليا ألم تر أن اللَّه أهلك تبعًا ... وأهلك لقمان بن عادٍ وعاديًا وأهلك ذا القرنين من قبل ما ترى ... وفرعونَ أردى جندَه والنجاشيا

ألا لا أرى ذا إمةٍ أصبحت به ... فتتركه الأيام وهي كما هيا ألم تر للنعمانِ كان بنجوةٍ ... من الشرِ لو أن امرأ كات ناجيًا فغير عنه ملك عشرين حجةٍ ... من الدهر يوم واحد كان غاويا فلم أر مسلوبًا له مثل ملكِه ... أقل صديقا باذلا أو مواسيا فأين الذين كان يعطي جياده ... بأرسانهن والحسان الغواليا وأين الذين كان يعطيهم القرى ... بغلاتهن والمئين الغواديا وأين الذين يحضرون جفانه ... إذا قدمت ألقوا عليها المراسيا رأيتهم لم يشركوا بنفوسهم ... منيته لما رأوا أنها هيا فقال لهم خيرا وأثنى عليهم ... وودعهم وداع أن لا تلاقيا وأجمع أمرا كان ما بعده له ... وكان إذا ما اخلولج الأمر ماضيا وفي ليلة من الليالي الهادئة في جزيرة العرب، رأى زهير بن أبي سلمى رؤيا عجيبة في منامه، فجمع أولاده، وقال لهم "إني لا اشكّ أنه كائن من خبر السماء بعدي شيء! فإن كان فتمسكوا به، وسارعوا إليه! " وفي نفس السنة التي مات فيها هذا الشاعر العظيم في نجد، بُعث رجل اسمه محمد ابن عبد اللَّه في الحجاز، ليكون ابن زهير شاعرًا من شعراء الرسول! فمن هو ذلك الشاعر بن الشاعر الذي كان صاحب قصيدة "البردة"؟ ومن يكون رفاقه الذين شكلوا وإياه وزارة خطيرة في حكومة محمد؟ يتبع. . . . . .

85 - وزراء الإعلام في حكومة محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم- (شعراء الرسول -صلى الله عليه وسلم-)

" وزراء الإعلام في حكومة محمد بن عبد اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-" (شعراء الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-) " هؤلاء النفر أشدُّ على قريشٍ من نضحِ النبل" (رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-) الإسلام هو دين الإعلام بامتياز! فقلما تجد دينًا في الدنيا يحظى بهذه التغطية الإعلامية الكبيرة التي يحظى بها الإسلام، بل إن الإسلام والإعلام مرتبطان ببعضهما البعض منذ فجر الرسالة، فالحرب الحقيقية التي خاضها رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في بداية الدعوة هي الحرب الإعلامية، هذه الحرب هي أصعب ألف مرة من الحرب التقليدية، فهي حربٌ مفتوحة دائمًا من الطرف المعادي للإسلام، يستخدم فيها العدو أشرس أنواع الأسلحة الإعلامية في بعض الأحيان، وفي أكثر الأحيان يستخدم أقذرها! لذلك انتبه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بحكمته المعهودة لهذه الحرب، فأسس وحدة من المجاهدين الأبطال، مهمة هذه الوحدة كانت تفوق باقي المهمات العسكرية بالأهمية في كثيرٍ من الأحيان، هذه الوحدة هي وحدة الإعلام الإسلامي، شكَّلها رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- من الشعراء بالتحديد، وسبب اختيار الشعراء بالذات يكمن في أن الشعر كان هو وسيلة الإعلام الوحيدة بين العرب، وليس عندي من الشك أدناه، بأنه لو كانت هناك صحفٌ في عهد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، لجنّد لها بعض الصحافيين الإسلاميين! فقوة الكلمة في الإسلام لا تقل عن قوة السيف أبدًا، بل إنها كما وصفها رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أشد على الكفار من نضح الإبل! وما انتشر الإسلام في الجزيرة العربية إلا بكلمات خرجت من فم محمد بن عبد اللَّه، وما حكمنا العالم من أقصاه إلى أقصاه إلى بكلمات من أفواه الدعاة، وما تخلفت هذه الأمة إلّا بعد إهمال المسلمين للإعلام والإعلاميين، فصارت أمنية الوالد المسلم أن يجعل من ولده طبيبًا أو مهندسًا، أم الإعلامي فهي مهنة ابتعد عنها المسلمون، مع العلم أن الإعلام الإسلامي يعتبر فرضًا من الفروض! فالإعلام هو الكلمة المرادفة للدعوة، ودعوة البشر

للإسلام وتوضيح صورة الإسلام لغير المسلمين هو فرض على المسلمين، فأقوى سلاح يملكه المسلم هو الكلمة، فبالكلمة أسلم عمر بن الخطاب الذي كان يريد قتل الرسول، وبالكلمة تحول خالد بن الوليد من أشد أعداء الإسلام إلى أعظم فاتحٍ في تاريخه، وبالكلمة ناظر موسى فرعون أشرس جبارٍ في الأرض، وبالكلمة دعا إبراهيم أباه، وبالكلمة كان عيسى، وبالكلمة طار هُدهُد سليمان إلى بلقيس، وبالكلمة دعا يونس ربه في بطن الحوت، وبالكلمة نادى زكريا ربه نداء خفيًا، وبالكلمة -لا بالسلاح- دعا نوح قومه 950 سنة! وبالكلمة ملكنا قلوب الشرق والغرب، وبالكلمة بنينا حضارتنا العظيمة، وبالكلمة كتبنا أعظم كتب الدنيا، وبالكلمة دافع إعلاميو الرسول عن الإسلام! فلقد كون أعظم قائدٍ سياسيٍ في تاريخ الإنسانية -رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وزارة للإعلام الإسلامي المجاهد، مهمتها الدفاع عن سمعة الإسلام والمسلمين، فرسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يكن كقادة بعض الجماعات الإسلامية الذين لا يحركون ساكنًا لشرف الصحابة وأمهات المؤمنين، بل كان رسول اللَّه غيورًا على شرف أصحابه ونسائه، فشكل على الفور مجموعة من خيرة شعراء الإسلام على رأسهم الأسماء العملاقة التالية: (حسان بن ثابت - عبد اللَّه بن أبي رواحة - كعب بن مالك - كعب بن زهير بن أبي سلمى) هؤلاء الإعلاميون الإسلاميون قاموا بالدفاع عن الإسلام والمسلمين خير دفاع بكلامهم وشعرهم، فالشعر في الإسلام ليس حرامًا، ولكن الإسلام حدد الاتجاهات الشعرية التي يجوز فيها للمسلم أن ينظم الشعر، وهو يتلخص بقول اللَّه عز وجل في سورة الشعراء: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227)}، وهذه الآيات لا تنطبق فقط على الشعراء، بل تنطبق جميع الكتّاب والمؤلفين بل وعلى جميع الإعلاميين بشكلٍ عام، فنصرة الإسلام تعتبر شرطًا أساسيًا في شرعية العمل الإعلامي، فليسأل كل أديبٍ وكل شاعرٍ وكل مذيعٍ نفسه سؤالًا، هل العمل الذي أقوم به فيه نصرة للإسلام أم لا؟ فإذا كان كذلك فبها ونِعم، وإلا فإنه يعرض نفسه للخطر! فلقد جاء الوقت للأمة الإسلامية أن تنهض إعلاميًا، وأن تهتم بكليات الإعلام، ففي

هذا الوقت بالتحديد، يستخدم أعداء الإسلام الإعلام بشكلٍ بشعٍ للغاية لتشويه صورة الإسلام ورسوله، ونحن ما زلنا في سباتنا العميق، فدونكم رسول اللَّه!. . . . احموه بالإعلام! فأين أنتم يا إعلامي الإسلام، أين أنتم يا كتّاب المسلمين، فشرف رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في حاجة إلى من يدافع عليه، فهل من مدافع؟! وكما كان الشاعر الإسلامي أديبًا عظيمًا ينسج من الكلمات ما يزلزل به كيان المشركين، فقد كان الشاعر أيضًا مجاهدًا عسكريًا عظيمًا، يحمل السلاح وقت الحاجة للدفاع بروحه عن دين اللَّه، فلقد برز من بين شعراء الرسول قائدٌ عسكريٌ بطلٌ حمل راية الإسلام عاليًا، فسقاها بدمائه تضحية، كما سقاها قبل ذلك بمداده شعرًا، فكان هذا الشاعر الإسلامي البطل أحد ثلاثة قوّادٍ إسلاميين، قدّموا حياتهم وهم يحملون نفس الراية، فكانوا وبحق أعظم ثلاثة قِوادٍ في تاريخ الجنس البشري يسقطون دفعة واحدة: فأوَّلهم كان أحد العشرة المبشرين بالجنّة! وثانيهم كان "الطيّار"! وثالثهم كان شاعر رسول اللَّه شخصيًا! يتبع. . . . .

86 - (الفرسان الثلاثة)

"حتى يقولوا إذا مرّوا على جَدثي ... أرشده اللَّه من غازٍ وقد رشدا! " (الفرسان الثلاثة) " أخذ الراية زيدٌ فأصيب، ثم أخذها جعفرٌ فأصيب، ثم أخذها ابنُ رواحة فأصيب" (رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-) في عام 1844 م ألّف كاتب فرنسي اسمه (أليكساندر دوما) رواية من محض خياله أسماها رواية "الفرسان الثلاثة" " Les Mousquetaires"، هذه الرواية الخيالية تسرد قصة ثلاثة حراسٍ ملكيين - (آثيوس) و (بوثوس) و (أراميس) - هؤلاء الثلاثة كانوا مدمني خمور يعملون خدمًا للملك الفرنسي (لويس الثالث عشر)، المهم أن الفرنسيين نشروا هذه القصة الخيالية في أرجاء الدنيا فجعلوا من ثلاثة فرنسيين مدمنين للكحول فرسانًا أسطوريين، تضرب بهم الأمثلة في البطولة والشرف، على الرغم من كونهم ثلاث شخصياتٍ خيالية لم تقدم شيئا فيه بطولة حتى في أحداث الرواية نفسها! قبل ذلك بنحوه 1200 عام، خرج من صحراء العرب ثلاثة فرسانٍ حقيقيين، اتجهوا شمالًا نحو بلاد الشام على رأس سرية صغيرة مكونة من 3 آلاف مجاهد إسلامي، لتقابلهم جحافل الإمبراطورية الرومانية العظمى بكامل جيشها الإمبراطوري الضخم المكون من 200 ألف مقاتل! هدفهم إفناء تلك السرية! لتنتصر هذه السرية الصغيرة على قوات إمبراطورية بيزنطة انتصارًا لم تشهد الأرض مثله من قبل، ولكن ذلك الانتصار الأسطوري جاء بعد أن ضحى الفرسان الثلاثة بأرواحهم في ميدان المعركة، لا في سبيل ملك من ملوك الأرض، بل في سبيل ملك ملوك الأرض والسماء، هؤلاء الفرسان الثلاثة هم على الترتيب: (زيد بن حارثة) - (جعفر بن أبي طالب) - (عبد اللَّه ابن أبي رواحة)! لا ألوم الفرنسيين على اختلاقهم لأبطالٍ وهميين لينشروا قصصَهم في مشارق الأرض ومغاربها، ولكنني ألوم المسلمين الذين ضيَّعوا قصص أبطالهم الحقيقيين! ففي الوقت الذي نرى فيه فرنسا تدرِّس قصة الفرسان الثلاثة في مدارسها، وتصنع لأطفالها

رسومًا متحركة تروي مغامراتهم الوهمية، نجد أن أطفال المسلمين -بل وشيوخهم- لا يعرفون شيئًا عن قصة الفرسان الثلاثة الحقيقيين! هذه المأساة جعلت أطفالنا يحلمون أن يصبحوا مثل "سبايدر مان" و"سوبر مان"، أما القعقاع الذي فقأ عين الفيل الأبيض في القادسية فلا يعرفه أحدٌ منهم! فهل آن الأوان لهذه المناهج العفنة أن تتغير؟! أما آن الأوان لكي نقف وقفة صدق مع أنفسنا لنعيد أسلوب كتابة التاريخ الإسلامي بشكل شيقٍ وممتعٍ يتقبله أطفالنا؟ (الفارس الأول) زيد بن حارثة: كان يُدعى بزيد بن محمد! فهو ابن رسول اللَّه بالتبني قبل أن يَلغي الإسلام نظام التبني، وهو حِبُّ رسول اللَّه، وهو الذي اختار محمدًا على أبيه، وهو من أول البشر الذين آمنوا بدعوة الإسلام، وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة، وهو القائد العسكري الأول للسرايا النبوية المجاهدة، وهو الصحابي الوحيد الذي ذكر اسمه في القرآن: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا}! (الفارس الثاني) جعفر بن أبي طالب: عُرف بـ "جعفر الطيار"، ابن عم الرسول، وأخو علي بن أبي طالب، وأمير المسلمين بالحبشة، وهو الرجل الذي وقف أمام النجاشي يتحدث عن الإسلام! (الفارس الثالث) عبد اللَّه بن أبي رواحة: شاعر الرسول، وأحد نقباء الأنصار الاثني عشر، قال عنه الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-: "رحم اللَّه عبد اللَّه بن رواحة، إنه يحب المجالس التي تتباهى بها الملائكة"! وقصة مؤتة تبدأ برسالة سلام ودية بعثها رسول السلام إلى ملك "بُصرى" بيد أسدٍ من أسود قبيلة "الأزد" هو الصحابي البطل (الحارث بن عمير الأزدي)، فقام ملك الغساسنة النصراني (شرحبيل بن عمرو) بقتل رسول رسول اللَّه، فاشتدّ ذلك على رسول الئْه، فأمر بتجهيز جيش من ثلاثة آلاف مجاهد لتأديب من غدروا بصاحبه، ووضع على رأس الجيش زيد بن حارثة، وقال: "إن قتل زيد فجعفر، وإن قتل جعفر فعبد اللَّه بن رواحة"، وعقد لهم لواء أبيض، ودفعه إلى زيد بن حارثة، وأوصاهم رسول الرحمة بقوله: "اغزوا بسم اللَّه، في سبيل اللَّه، مَنْ كفر باللَّه، لا تغدروا، ولا تغلوا، ولا تقتلوا وليدًا ولا

امرأة، ولا كبيرًا فانيًا، ولا منعزلًا بصومعة، ولا تقطعوا نخلًا ولا شجرة، ولا تهدموا بناء". فخرجت نساء المسلمين لتوديع أزواجهن قائلات لهم: "ردَّكم اللَّه إلينا صابرين" فرد أحد المسلمين على زوجته قائلًا: "أما أنا فلا ردني اللَّه"! لقد كان هذا قول أحد الفرسان الثلاثة، عبد اللَّه بن رواحة! وعند مدينة "معان" الأردنية وفي سهلٍ يقال له "مؤتة" غدر الروم بالمسلمين، فقاد الإمبراطور هرقل بنفسه جيشًا يقترب من ربع مليون مقاتل لقتال ثلاثة آلاف مجاهد فقط لم يأتوا أساسًا لقتال الروم! فتشاور المسلمون في القتال أو الرجوع، فأصر الشاعر البطل عبد اللَّه بن أبي رواحة على القتال، وفعلًا قاتل المسلمون جحافل النصارى، فكان القائد زيد أول شهداء المعركة، فتناول جعفر الراية قبل أن تسقط وأخذ يقاتل كالأسد المفترس، فقطعوا يده اليمنى، فتناول الراية باليسرى، فقطعوها له، فحملها بعضديه، فغرسوا رماحَهم في قلبه ليستشهد، ليتناولها ابن رواحة من صدر جعفر منشدًا: يا نفس إن لم تُقتلي تموتي ... هذا حياض الموت قد صليتِ وما تمنيت قد لقيتِ ... إن تفعلي فعلهما هديتِ وإن تأخرت فقد شقيتِ! فاستشهد الفرسان الثلاثة، واستشهد معهم تسعة آخرون، ليكون مجموع الشهداء في هذه الملحمة الأسطورية اثني عشر شهيدًا فقط! من بينهم القادة "الفرسان الثلاثة"، بينما قتل المسلمون 3350 فارسٍ من الأعداء (حسب مصدر أجنبي!)، لينتصر خالد بن الوليد بتنفيذ الخطة الخالدية! الجدير بالذكر أنه كان من ضمن أولئك المجاهدين شابٌ دون العشرين من عمره اسمه عبد اللَّه، هذا الشاب كون فيما بعد مع ثلاثة رجالٍ يحملون نفس الاسم "عبد اللَّه" رباعيًا لم تعرف البشرية مثله أبدًا، فقد كان لهذا الرباعي العظيم الدور الأكبر في حفظ سنة رسول اللَّه إلى الأبد! يتبع. . . . .

87 - الرباعي العظيم (العبادلة الأربعة)

" الرباعي العظيم" (العبادلة الأربعة) " وهؤلاء عاشوا حتى احتيج إلى علمهم، فإذا اتفقوا على شيء قيل: هذا قول العبادلة، أو فعلهم، أو مذهبهم" (الحافظ البيهقي) اشتُهرت في أيامنا هذه فرقٌ فنية تكونت من عدة أشخاص يحملون نفس الأسلوب والطابع، فقد تجد هنا ثنائيًا غنائيًا شهيرًا، وقد تجد هناك ثلاثيًا آخر للمسرح، وقد تجد رباعيًا مختصًا في الرقص وفنونه، وفي بعض الآحيان تجد خماسيًا استعراضيًا مهرِّجًا. الغريب في الأمر أن أيًا من تلك الفرق الفنية المشتركة لم يُكتب لها النجاح والاستمرار لأكثر من بضع سنوات، بل إنه في أغلب الأحوال يتحول أعضاء تلك الفرق إلى أعداءَ شرسين يحارب كل منهم الآخر، والأمثلة التاريخية المعاصرة أكثر من أن تُحصى! أما فريقنا الرباعي العجيب الذي خرج من من قبيلة عربية أصيلة يقال لها "قريش" لم يكن كذلك! هذا الفريق لم يستمر في تقديم عروضه الناجحة لمدة سنة أو سنتين أو حتى مائة سنة فحسب، بل نجح هذا الرباعي العظيم في تقديم أعظم عرضٍ إنساني ناجحٍ في مسارح الزمن لمدة عرض قياسية جاوزت الألف والأربعمائة عام إلى حد الآن! الغريب أن هذا الفريق الرباعي ازدادت نجاحاته في السنوات القليلة الماضية بشكلٍ ملفتٍ للانتباه، حتى بات كثيرٌ من الشبان يُقبل محلى عروضهم باستمرار، هذا الرباعي لم يجتمع على آلة موسيقية، ولم يجتمع على حلبة رقص، هذا الرباعي اجتمع على راية بيضاء مكتوب عليها بلغة عربية صحيحة: "لا إله إلا اللَّه، محمد رسول اللَّه"، في أسفلها عبارة صغيرة مكتوبٌ عليها: "صُنع في بلاد الإسلام" وعلى يمينها ختم الجودة الصناعية المسجلة المحتوي على ثلاث كلمات من المنتج: "محمد رسول اللَّه"! وليس عندي ذرة شكٍ واحدة، بأن أولئك العبادلة الأربعة تم اختيارهم من فوق سبع

سماوات من قبل اللطيف الخبير ليكوِّنوا هذا الرباعي العجيب، فكل شيءٍ فيهم مختارٌ بصورة تدعو للتعجب فعلًا! حتى في أسمائهم المتشابهة، وحتى في أسماء آبائهم العملاقة، فهذا ابن عمر بن الخطاب ثاني أعظم إنسانٍ في التاريخ بعد الأنبياء، وهذا هو ابن العباس بن عبد المطلب عمِّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ورفيقهما الثالث هو ابن حواري رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ابن البطل الأسطوري الزبير بن العوام، أما رابعهم فأكرم به وبأبيه، فهو ابن رمز الإيمان والبطولة، رمز الشرف والكرامة، أشهر فاتحٍ في تاريخ الإسلام القائد الكبير عمرو بن العاص عليه وعلى بقية أصحاب نبينا رضوان اللَّه ومرضاته. الحقيقة أن سرَّ اختياري لهذه الأسماء الأربعة لتكون ضمن خانةٍ واحدة في كتاب العظماء المائة، لا يعني أبدًا انقاصًا لمكانتهم، فواللَّه إن حروف هذا الكتاب مجتمعة لا تكفي لحصر عظمة واحدٍ منهم فقط، ولكنني آثرت أن لا أفرق أسماءهم بعد مماتهم، وهي الأسماء التي مجتمعة على ذكر اللَّه في حياتهم. ثم إن سِيَرَ هؤلاء الأربعة فيها من العناصر التاريخية والخصائص الفكرية ما يجعل منهم كيانًا متينًا واحدًا، فهؤلاء الأربعة هم من أعظم فقهاء الإسلام على الإطلاق، بل إنني لا أشطط حين أقول: أن الإسلام الذي بين أيدينا الآن ما هو إلى ثمرة من ثمار أولئك العلماء الأربعة بالتحديد، والذين سخرهم اللَّه للإنسانية لكي يحفظوا لنا سنة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، والتي بدونها لا يقوم الإسلام أبدًا، حتى بوجود القرآن نفسه، فالذي يعتقد أن القرآن هو المشرِّع الوحيد لهذا الدين فهو إمّا مجنون لا يفقه شيئًا في الدين، وإمّا مجرمٌ قذر يريد تدمير هذا الدين! وقد حذَّرنا من قبل في هذا الكتاب من ظهور مجموعات من شذّاذ الآفاق مؤخرًا ممن يطلقون على أنفسهم أسماءً برَّاقة مثل "القرآنيين" و"الإصلاحيين" و"المفكرين الإسلاميين"، وغير ذلك من الأسماء التي توهم بصلاح أصحابها، هذه المجموعة الشريرة والتي تأخذ تمويلها من جهات أجنبية معروفة، تبث سمومها على عامة المسلمين من خلال أوكارٍ لبث السموم يقال لها تمويهًا: "مراكز البحوث الإسلامية"، هؤلاء السفلة ليس لهم شاغلٌ في الحياة إلا الطعن في سنة رسول اللَّه عليه الصلاة والسلام، بل إنهم وسَّعوا من دائرة نشاطاتهم مؤخرًا ليطعنوا في صحابة الرسول، وزوجاته، بل في الرسول نفسه في بعض الأحيان! مدَّعين أن السنة التي بين أيدينا ما هي إلا روايات كُتبت بعد مئات

السنين من وفاة الرسول، فاعتدّوا بذلك أن السنة التي بين أيدينا الآن باطلة، وأن هذا الدين الذي بين أيدينا ليسس دينًا صحيحًا، لذلك وجب على شباب الأمة أن يدافعوا عن سنة رسولهم، ليس من خلال العنف الذي لا يزيد هؤلاء الخونة إلا صيتًا وشهرة، بل من خلال العلم والحقائق التاريخية الموثقة التي تسحب البساط من تحت أرجل أولئك المنافقين، فينكشف بذلك الستار عنهم، لتظهر للناس سوءاتهم، فيرى بذلك مريدوهم عمالتهم الواضحة وخيانتهم للأمة، ليُتركوا بعدها معزولين منبوذين، ليسقط الواحد فيهم في نهاية الأمر كما تسقط الثمرة العفنة! والعبادلة الأربعة لم يكونوا وحدَهم من يحملون اسم "عبد اللَّه" من بين ما يزيد عن 100000 من الصحابة الكرام رضوان اللَّه عليهم أجمعين، فقد ذكر (الإمام النووي) رحمه اللَّه أنه يعلم أن يوجد في الصحابة -رضي اللَّه عنهم- مائتين وعشرين رجلا يُسمّى بـ "عبد اللَّه"، لكنه اشتهر إطلاق اسم العبادلة على أربعة منهم فقط وهم: (عبد اللَّه بن عمر، وعبد اللَّه بن عباس، وعبد اللَّه بن الزبير، وعبد اللَّه بن عمرو بن العاص)، فهكذا ذكرهم أهل الحديث وغيرهم من العلماء. وقد علّل العلامة الفارسي العظيم الحافظ (أبو بكر أحمد بن الحسن البيهقي) إفراد العلماء لقب العبادلة على هؤلاء الأربعة فقط بقوله: "هؤلاء عاشوا حتى احتيج إلى علمهم، فإذا اتفقوا على شيء قيل: هذا قول العبادلة، أو فعلهم، أو مذهبهم". ولأن الحديث عن العبادلة الأربعة طويل طويل، ولأن عظمتهم ناطحت سحب السماء سموًا وسؤددًا، فقد قررت أن أنجو بقلمي الضئيل من الغوص في سِير أولئك العمالقة العظام، فلو أردنا أن نستعرض فقط تلك الخدمات الجليلة التي قدمها الصحابي الورع (عبد اللَّه ابن عمرو بن العاص) للإسلام والمسلمين، لما كفانا كتابة عشر مجلدات ضخمة، من دون أي مبالغة في ذلك، لذلك سأذكر فقط رؤوس أقلام عن كلِّ واحدٍ منهم، تاركًا مجال البحث في سيرهم للقارئ الكريم من أمهات كتب التاريخ الإسلامية: عبد اللَّه بن عمرو بن العاص: المؤسس الرائد لعلم الحديث، وأول إنسانٍ على وجه الكرة الأرضية يكتب حديث رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، قال عنه أبو هريرة: "ليس أحد من أصحاب

الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- أكثر حديثا عن الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- مني إلا عبد اللَّه بن عمرو بن العاص فإنه كان يكتب وكنت لا اكتب! ". فلقد كتب ابن عمرو -رضي اللَّه عنهما- الحديث في حياة الرسول وبتوجيه خاصٍ منه، فجمع بذلك مئات الأحاديث من فم رسول اللَّه مباشرة، وهذا رد مباشر على "القرآنيين" الذين يدَّعون أن كتابة الحديث بدأت في عهد (عمر بن عبد العزيز) رحمه اللَّه، فهذا الخليفة الأموي البطل أمر بجمع الأحاديث المحفوظة أساسًا إما في قرطاس وإما في صدور المسلمين تواترًا، وحتى الأحادث التي كُتبت لاحقًا تم جمعها بطريقة علمية ابتكرها المسلمون، هذه الطريقة العلمية لم يستخدمها إنسان قط قبل المسلمين (أو بعدهم)، ألا وهي طريقة "الإسناد"، وعلم السند ينص على ذكر الرواة بالتسلسل بطريقة علمية بحتة يُذكر فيها كل ما يتعلق بكل راوي على حدة، فلو اتضح أن هناك راويًا واحدًا فقط من بينهم اشتهر بالكذب والوضع في حياته، بطل الحديث بالكلية! وعبد اللَّه هو الابن الأكبر لعمرو بن العاص الذي شوَّه المستشرقون الصليبيون سيرته، وطعن فيها الشيعة أبشع الطعونات، ولعل السبب الرئيسي لهؤلاء وهؤلاء أنهم يعلمون علم اليقين أن ابن عمرو بن العاص هو الذي جمع سنة محمد نبي الإسلام، لذلك كان الطعن في عمرو وأولاده طعنًا للإسلام من جذوره! عبد اللَّه بن عمر: أعتبره شخصيًا مؤسس علم العقيدة الإسلامية، تعلّم مباشرة على يد أستاذه الذي علم البشرية -محمد بن عبد اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وهو على الرغم من إنه من أعظم رواة الحديث، إلا أنني أراه أنه الشارح الأكبر لمفهوم العقيدة. والعقيدة مشتقة من الفعل العربي "عقد" أي ربط وأوثق، العقيدة في اللغة من العَقْد: وهو الرَّبطُ، والإبرامُ، والإحكامُ، والتَّوثُّقُ، والشَّدُّ بقوة، والتماسُك، والمُراصَّةُ، والإثباتُ؛ ومنه اليقين والجزم. فالعقيدة هي أهم شيء في الدين الإسلام، فإذا كانت العبادات هي أركان الإسلام، فالعقيدة هي الأساس الذي تقوم عليه تلك العبادات، فمن كانت عباداته من صلاة وزكاة وصوم وحج قائمةً على عقيدة خاطئة مثل الاعتقاد بقدرة الأولياء والتبرك بالقبور، فعباداته باطلة، لأن الأساس وهو العقيدة باطل، فما بُني على باطل هو بالضرورة باطل! والمضحك أن الشيعة يعتبرون أن عبد اللَّه بن عمر هو المؤسس الفعلي لـ "الوهابية"! علمًا أن الإمام (محمد بن عبد الوهاب) رحمه اللَّه وُلد بعد مئات السنين

من موت ابن عمر، إلا أنني أرى أن الشيعة أصابوا كبد الحقيقة في اعتقادهم هذا، فإذا كانت الوهابية هي تطبيق القرآن والسنة والبعد عن التقليد الأعمى فقد صدقوا باستنتاجهم! فعبد اللَّه بن عمر لم يكن يُحَكم إلا القرآن والسنة بفهم سلف الأمة، فلم يكن ابن عباس يأخذ إلا بالقرآن وما صحَّ من أحاديث رسول اللَّه بفهم إجماع الصحابة، ضاربًا بعرض الحائط ما يتعارض مع ذلك حتى ولو كان صادرًا من أسماءٍ عملاقة، وهو صاحب المقولة الشهيرة: "ومن أبي؟! ". وقد رُوي رواية للترمذي أن عبد اللَّه بن عمر -رضي اللَّه عنهما- رأى رجلا يعطس ويقول: الحمد للَّه والصلاة على رسول اللَّه! فنظر إليه ابن عمر وقال له: وأنا أيضا أحمد اللَّه وأصلى على رسوله لكن ما هكذا علمنا رسول، لقد علمّنا أن نقول الحمد للَّه! عبد اللَّه بن الزبير: ابن حواري رسول اللَّه، وابن ذات النطاقين أسماء، وابن اخت أم المؤمنين عائشة، وحفيد أبي بكر الصديق، فرسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان زوج خالته عائشة، وابن خال أبيه، وزوج عمة أبيه "خديجة"، فمن هذا الأصل الطاهر وُلد النبت الطاهر عبد اللَّه بن الزبير ليكون أوّل مولودٍ في الهجرة، ليتربى في مدرسة النبوة، لينهل منها دروس الفداء والتضحية، فهذا البطل بن البطل يرافق أباه طفلًا في معركة اليرموك، فقد كان أبوه الزبير يردفه على فرسه وهو يقتحم صفوف الأعداء ليعلمه فنون البطولة الإنسانية في أبهى صورها، فشهد يوم اليرموك، كما شهد فتح أفريقيا والمغرب وغزو القسطنطينية، ويوم الجمل مع خالته السيدة عائشة وكان يضرب المثل بشجاعته، وكانت خالته الطاهرة عائشة تعتبره ابنها الذي لم تنجبه، فكانت تكنى به فيقال لها "أم عبد اللَّه"! عبد اللَّه بن عباس: حَبر الأمة، وترجمان القرآن، مؤسس علم التفسير، وأعظم مفسر للقرآن في أمة محمد، هو ابن العباس عم الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-، وابن عم علي، وابن عم جعفر، وابن أخ حمزة، ولد ببني هاشم قبل عام الهجرة بثلاث سنين، وكان النبي محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- دائم الدعاء له، فقد دعا له رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أن يملأ اللَّه جوفه علمًا وأن يجعله صالحًا. وكان النبي يدنيه منه وهو طفل صغير ويربّت على كتفه وهو يقول: "اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل". ولابن عباس قصة طريفة تعتبر مثالًا لكيفية التفوق العلمي لجميع بني البشر بدون استثناء، فقد توفي رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وعمر ابن عباس لا يتجاوز ثلاث عشرة

سنة، فقال ابن عباس لصاحبٍ له: دعنا نتعلم من أصحاب رسول اللَّه فإنهم اليوم كثير (أي قبل أن يموتوا واحدًا واحدًا)، فضحك منه زميله وقال: واعجبًا لك يا ابن عباس! أترى الناس يحتاجون إليك وفي الناس من أصحاب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من ترى؟! فترك ذلك الفتى العلم، وأقبل ابن عباس على سؤال الصحابة والتعلم منهم، فكان إذا سمع أن هناك حديثًا عند رجلٍ منهم، ينطلق كالبرق إلى بيته في عز الظهر، ليفرد رداءه على الرمل أمام بيته ينتظر خروجه، فتسفي الريح عليه التراب، حتى يخرج الصحابي فيراه على تلك الحال والتراب يغطيه، فيقول له: يا ابن عم رسول اللَّه ألا أرسلت إلي فآتيك (أي آتيك لبيتك لأعلمك)، فيقول له ابن عباس بأدب طالب العلم: أنا أحق أن آتيك فأسألك! ومرت الأيام والسنين، حتى رآه صاحبه الذي رفض العلم وقد أحاط الناسُ به من كل اتجاه يريدون التعلم منه، فنظر إلى ابن عباس بحسرة وقال: هذا الفتى أعقل مني! وعندما قرر الحسين -رضي اللَّه عنه- الخروج للعراق كان العباس أحد الذين نصحوا الحسين بقوله له: "إن أهل العراق قوم غدرٍ فلا تقربنهم" ولكن الحسين رحمه اللَّه أصرَّ على المسير للعراق بعد ان اطمأن من مئات الرسائل التي بعثها الشيعة إليه من هناك، ليقوم نفس الذين بعثوا إليه الرسائل بحمل السيوف ضده، ليغدروا به ويقتلوه، ليصدق ظن ترجمان الأمة بأولئك القوم الخونة! العجيب أن اللَّه شاء أن يُولدَ لعبد اللَّه بن عباس ولدٌ اسمه علي، ليولد لعلي ولدٌ اسمه محمد، ليُولد لمحمدٍ ولا اسمه عبد اللَّه، ليُولد لعبد اللَّه ولدٌ اسمه محمد، ليولد لمحمد طفلٌ في غاية الوسامة والجمال، هذا الطفل سيحمل عندما يكبر راية سوداء مكتوبٌ عليها باللون الأبيض "لا إله إلا اللَّه، محمدٌ رسول اللَّه" ليرفعها عاليًا في ثلاث قارات، فيكون عصره أكثر عصور دولة الإسلام ازدهارًا على الإطلاق، ليستحقَّ أن يسجَّل اسمه في سجل العظماء في أمة الإسلام. فمن تراه يكون ذلك الخليفة الإسلامي الرشيد؟ ولماذا شوِّهت صورته من قِبَل الإعلام العربي والغربي على حد سواء؟ وهل حقًّا كان رجلًا سِكيّرًا مغرمًا بالراقصات؟ أم تراه كان من أتقى وأورع وأعظم من حكم أمة محمد في تاريخها بأسره؟! يتبع. . . . . .

88 - الخليفة الناسك (هارون الرشيد)

ألف الحج والجهاد فما ... من سفرتين في كل عامِ " الخليفة الناسك" (هارون الرشيد) " من هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم قرأت كتابك يا ابن الكافرة والجواب ما تراه لا ما تسمعه" كلّما تقدمت أكثر في هذا الكتاب، أدركت عِظمَ حجمِ الكارثة التاريخية التي حلّت علينا جميعًا! أعترف أنني ما كنت أحسب الخليفة العباسي هارون الرشيد -وإلى وقتٍ قريب- إلا سكّيرًا ماجنًا ليس له همٌ في الدنيا إلى معاقرة الخمر والاستمتاع باللذات الدنيئة! فلقد كنت كغيري ممن نالتهم سهام غزاة التاريخ لا أكاد أسمع باسم هارون الرشيد بالذات، إلا ويدور في خلجي ما رسمه لنا أولئك الغزاة عن تلك الليالي الماجنة في قصور بغداد، والتي تزينها الرقصات الرشيقة من قِبل الجواري الحسان اللائي تتراقصن بدورهن على أنغام الموسيقى، في الوقت الذي يحمل فيه غِلمان صغارٌ أباريقًا من خمرٍ تزيد من مجون الخليفة ووزرائه، والذين علت أصوات قهقهاتم حتى وصلت إلى خارج أسوار بغداد! لذلك أعتقد أن الوقت قد حان لكي نعترف أننا وقعنا بالفعل في شباك غزاة التاريخ، بل إنني أرى أنه ينبغي علينا أن تكون لدينا الشجاعة الكافية لكي نعترف أننا هُزمنا في الحرب التاريخية التي شُنَّت علينا خلال المائة أو المائتين عامٍ الماضية، وهذا ليس عيبًا أبدًا، فمعرفة الخطأ هي بداية عملية تصحيح المسيرة، فإن كان غزاة التاريخ قد انتصروا بدون أدنى شك في جولتهم السابقة، فإنهم بدأوا يواجهون في السنوات الآخيرة بالتحديد، رجالًا أبطالًا حملوا راية الجرح والتعديل لتاريخ هذه الأمة المجيدة، ليعيدوا كتابة تاريخها من جديد، ليخلِّصوها من الشوائب التي علِقت بها من قِبل المستشرقين وعملائهم، ليتغير بذلك مسار رحى المعركة التاريخية الشرسة بيننا وبينهم لصالح هذه الأمة، وإن كنّا نسلم بأن ذلك التغيير ما زال بطيئًا إلى حد الآن، إلا أن

المهم أن يستمر الجميع في عمله، فدرب الألف ميل يبدأ بخطوة، فمن كان يستيطيع الكتابة فليكتب شيئًا يساهم به في تلك الحرب الشرسة، ومن قرأ شيئا فليبلغه لأهله وزملائه، فيا من تطلبون الجهاد وتصرخون من أجله، هذه هي ساحتكم، فليس الجهاد أن تحمل رشاشا لتقتل به الأبرياء، وليس الجهاد أن تلقي بنفسك وبأمتك إلى التهلكة، بل الجهاد هو أن تنصر أمتك، والأمة الآن تحتاج إلى رجالٍ صادقين، وإلى نساءٍ صادقات، يصحح كل منهم تلك المفاهيم التاريخية الخاطئة التي تعلمناها في مدارسنا، أو شاهدناها في إعلامنا، ولعلكم ستعجبون الآن عند اضطلاعكم على القصة الحقيقية للتاريخ الحميد، للخليفة الرشيد، والمجاهد الصنديد، والمقاتل العتيد، البطل الإسلامي المجيد: هارون الرشيد رحمه اللَّه تعالى وأسكنه فسيح جناته. وهذا الخليفة العباسي الهاشمي العظيم كان على العكس تمامًا من الصورة الذي أشاعها غزاة التاريخ عنه، فقد كان رحمه اللَّه من أكثر خلفاء الإسلام جهادًا وغزوًا واهتمامًا بالعلم والعلماء، وليس كما يدعي الغزاة أنه كان منشغلًا بالجواري والخمر والسكر، فكتب التاريخ الإسلامي الأصلية مليئة بمواقف رائعة للرشيد في نصرة الإسلام والمسلمين، وزاخرة بمواقف زهده وورعه وتقواه، بل إن هارون الرشيد كان معروفًا أنه "الخليفة الذي يحج عامًا ويغزو عامًا"! فقد كان رحمه اللَّه ديِّنًا محافظًا على التكاليف الشرعية، وصفه مؤرخو الإسلام أنه كان يصلي في كل يوم مائة ركعة إلى أن فارق الدنيا، ويتصدق من ماله الخاص بدون حساب، ولا يتخلف عن الحج إلا إذا كان مشغولًا بالغزو والجهاد، بل إن جمعًا كبيرًا من العلماء كانوا يذكرون أن هارون الرشيد كان من أكثر الناس تقريبًا للعلماء، ومن أشد الناس بكاءً عند سماعه للمواعظ، فقد قال عنه الإمام العظيم (أبو معاوية الضرير): "ما ذكرت النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بين يدي الرشيد إلا قال صلى اللَّه على سيدي ورويت له حديثه وددت أني أقاتل في سبيل اللَّه فأقتل ثم أحيى ثم أقتل فبكى حتى انتحب". بل إن أبا معاوية الضرير (الذي كان ضريرًا بالفعل) روى قصة عجيبة عن هارون الرشيد الذي كان يملكها من الصين إلى الأطلنطي فقال: "صبّ على يدي بعد الأكل شخصٌ لا أعرفه فقال الرشيد تدري من يصب عليك قلت: لا. قال: أنا إجلالا للعلم! ". وكان علماء الأمة يبادلونه نفس التقدير، فقد رُوي عن (الفضيل بن

عياض! أنه قال: "ما من نفس تموت أشد علي موتا من أمير المؤمنين هارون، ولوددت أن اللَّه زاد من عمري في عمره". وقال الإمام (منصور ابن عمار): "ما رأيت أغزر دمعًا عند الذكر من ثلاثة الفضيل بن عياض والرشيد وآخر" وقد قال له العالم الرباني الفضيل ذات مرة: "يا حسن الوجه (وقد كان الرشيد جميلًا جدًا) أنت المسئول عن هذه الأمة، فجعل هارون يبكى ويشهق حتى كاد يُغمى عليه"، ورُوي أن (ابن السماك) دخل على الرشيد يومًا فاستسقى فأتى بكوز فلما أخذه قال: "على رسلك يا أمير المؤمنين لو منعت هذه الشربة بكم كنت تشتريها؟ " قال هارون: "بنصف ملكي" فلما شربها قال له: "أسألك لو منعت خروجها من بدنك بماذا كنت تشترى خروجها؟ " فقال هارون: "بجميع ملكي! " عنده انظر العالم الجليل إلى أمير المؤمنين هارون الرشيد وقال له: "إن ملكًا قيمته شربة ماء وبَولة، لجديرٌ أن لا يُنافسَ فيه! " فبكى هارون الرشيد بكاء شديدا حتى أشفق عليه من حوله. وعلى الرغم من ورع الرشيد وتفرغه للعبادة وقيام الليل، فإنه لم يهمل شئون الدولة الإسلامية البتة، فقد كان عهد الخليفة العباسي العظيم هارون الرشيد أعظم عهدٍ في تاريخ الدول الإسلامية على الإطلاق من ناحية الازدهار الاقتصادي، والتقدم العلمي المبهر، والتطور الحضاري العظيم، فقد أنشأ هارون الرشيد بمشورة من زوجته الصالحة المجاهدة (زبيدة) طرقًا ممتدة توصل بلاد المسلمين بمكة والمدينة، وأقام على جوانب هذه الطرق الفنادق المجانية لزوار الحرم، كما أنشأ الرشيد أول جامعةٍ علمية في تاريخ البشرية أسماها "بيت الحكمة"، وزودها بأعداد كبيرة من الكتب والمؤلفات من مختلف بقاع الأرض كالهند وفارس والأناضول واليونان، وكانت تضم غرفًا عديدة تمتد بينها أروقة طويلة، خُصِّصت بعضها للكتب، وبعضها للمحاضرات، وبعضها الآخر للناسخين والمترجمين والمجلدين وكان الرشيد يشرف عليها شخصيًا هو وكبار رجال دولته، فكانوا يقفون وراء هذه النهضة بكل ما أوتوا من قوة (قارن ذلك بصورة سهرات الأنس التي صوَّرها الإعلام عن الخليفة ووزراءه!)، فكانوا يصلون أهل العلم والدين بالصلات الواسعة، ويبذلون لهم الأموال تشجيعًا لهم، وكان الرشيد نفسه يميل إلى أهل الأدب والفقه والعلم، ويتواضع لهم حتى إنه كان يصب الماء في مجالسه على أيديهم

بعد الأكل، فغدت حاضرة الرشيد "بغداد" قبلة لطلاب العلم من جميع البلاد، ليجدوا فيها كبار الفقهاء والمحدثين والقراء واللغويين وعلماء الرياضيات والترجمة وعلوم الطبيعة والفلك، وكانت المساجد تحتضن دروسهم وحلقاتهم العلمية التي كان كثير منها أشبه بالمدارس العليا، من حيث غزارة العلم، ودقة التخصص، وحرية الرأس والمناقشة، وثراء الجدل والحوار (قارن ذلك بحال المساجد هذه الأيام!)، وأُنفق الرشيد الأموال الطائلة في النهوض بالدولة الإسلامية العظمى، وتنافس كبار رجال الدولة في إقامة المشروعات كحفر الترع والأنهار، وبناء الحياض، وتشييد المساجد، وإقامة القصور، وتعبيد الطرق، بل إن الخليفة الإسلامي العظيم هارون الرشيد وضع بنفسه خطة علمية متكاملة، وميزانية ضخمة، لحفر قناةٍ بحريةٍ عملاقة، تربط بين البحر الأبيض المتوسط (بحر الروم) والبحر الأحمر (بحر القلزم)، إلا أنه رحمه اللَّه وجزاه كل خير خشي أن يفتح المجال بذلك للروم للعبور من خلال تلك القناة، فتكون مكة والمدينة في متناول أيديهم. (وبذلك يكون هارون الرشيد هو صاحب فكرة إنشاء "قناة السويس" قبل أن تُنسب بعد ذلك بألف عام للص الفرنسي "فرديناندو ديليسبس" والذي سرق أموالها بعد ذلك لسنواتٍ طوال!). أما "بغداد" فقد أصبحت قبلة الدنيا، وأصبحت معروفة في عهد الرشيد باسم "مدينة السلام"، فقد حظيت هذه المدينة التي بناها العباسيون حاضرة العالم بأسر بنصيب وافرٍ من العناية والاهتمام من قبل الخليفة الرشيد وكبار رجال دولته الأبطال، حتى بلغت في عهده قمة مجدها وتألقها، فاتسع عمرانها، فزاد عدد سكانها حتى بلغ نحو مليون نسمة (وقد كانت أعلى نسبة سكان لمدينة في العالم بأسره، تلتها مدينة إسلامية ثانية هي قرطبة الأندلسية، وإشبيلة الإسلامية في المركز الثالث على مستوى العالم)، فبُنيت في بغداد المساجد الضخمة، والمدارس المتنوعة، والمعاهد العلمية المتطورة، والقصور الفخمة، والأبنية الرائعة التي امتدت على جانبي دجلة، فأصبحت بغداد من اتساعها كأنها مدن متلاصقة، فصارت أكبر مركز للتجارة الحرة في العالم، حيث كانت تأتيها البضائع من الصين والهند وأوروبا وأفريقيا، فهاجر إليها فقراء النصارى واليهود، فاستقبلهم المسلمون بكل تسامحٍ ديني (سيتعامل هؤلاء فيما بعد مع هولاكو لإسقاط

بغداد وقتل أهلها المسلمين الذين استقبلوهم!!!). كما جذبت بغداد الأطباءَ والمهندسين وسائر الصناع، فأصبحت بغداد في عهد الرشيد المدينة الأولى في العالم بأسره من حيث التقدم الحضاري والتفوق العلمي والازدهار السكاني والعمراني، في ذات الوقت الذي كانت فيه مدنًا مثل باريس ولندن وبرلين غارقة في أوحال الظلام والتخلف الحضاري الرهيب! أما في مجال الجهاد. . . فحدِّث ولا حرج! فهذا الخليفة الإسلامي العملاق والذي صوَّروه لنا وكأنه طبَّالٌ راقص، لم يكن من أعظم فاتحي المسلمين فحسب، بل كان من أعظم فاتحي البشرية على الإطلاق، فلا (نابليون) الذي تتغنى به فرنسا، ولا (تشرشل) الذي يفتخر به الإنجليز، ولا حتى (الإسكندر المقدوني) نفسه كانوا يملكون نصف ما ملكه الرشيد رحمه اللَّه، فقد حكمها الرشيد من صينها إلى مغربها، ومن صحرائها الكبرى في قلب أفريقيا إلى قوقازها في مجاهل أوروبا، والعجيب أن هارون الرشيد تمكن من إدارة هذه الإمبراطورية الضخمة، المختلفة البيئات، والمتعددة العادات والتقاليد، وهو في سن التي 25 فقط! آخذين في عين الاعتبار صعوبة وسائل الاتصال والمواصلات في ذلك الوقت المبكر من التاريخ. فقد قام الرشيد بتنظيم الثغور المطلة على بلاد الروم على نحو لم يعرف من قبل، وعمّر الرشيد بعض مدن الثغور، وأنشأ الرشيد مدينة جديدة عرفت باسم "الهارونية" على الثغور، وأعاد الرشيد إلى الأسطول الإسلامي نشاطه وحيويته، ليواصل ويدعم جهاده مع الروم ويسيطر على الملاحة في البحر المتوسط، فأقام دارًا لصناعة السفن، وفكر في ربط البحر الأحمر بالبحر المتوسط كما أسلفنا، وفي عهد الرشيد عاد المسلمون إلى غزو سواحل أوروبا، ففتحوا بعض الجزر واتخذوها قاعدة لهم، مثلما كان الحال في زمن الأمويين طيّبي الذكر، فأعاد الرشيد فتح "رودس" في جنوب إيطاليا سنة 175 هـ - 791 م، وأغارت الأساطيل الهارونية على "أقريطش" (كريت) و"قبرص" سنة 195 هـ - 806 م. واضطرت دولة الروم أمام ضربات الرشيد المتلاحقة إلى طلب الهدنة والمصالحة، فعقدت (إيريني) ملكة الروم صلحًا مع الرشيد، مقابل دفع الجزية السنوية له في سنة 181 هـ - 797 م، حتى قتلها متمردٌ اسمه (نقفور) واستولى على الحكم في بلاد الروم، 186 هـ -802 م،

فما إن تسلم هذا الإمبراطور الأحمق الأخرق الحكم حتى بعث برسالةٍ وقحة إلى أعظم إمبراطور في الدنيا خليفة الدولة الإسلامية أمير المؤمنين هارون الرشيد يقول فيها: "من نقفور ملك الروم إلى ملك العرب (لم يذكر اسم الرشيد!)، أما بعد فإن الملكة إيريني التي كانت قبلي أقامتك مقام الأخ، فحملت إليك من أموالها، لكن ذاك ضعف النساء وحمقهن، فإذا قرأت كتابي فأردد ما حصل قبلك من أموالها، وافتد نفسك، وإلا فالحرب بيننا وبينك! فما إن فرغ الخليفة هارون من قراءة تلك الرسالة الوقحة حتى ثارت ثائرته، واحمر وجهه الأبيض (وقد كان هارون الرشيد رحمه اللَّه مثل جده رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يحمر وجهه الأبيض ساعة الغضب)، فتناول هارون الرشيد الرسالة وكتب على ظهرها بعزة العربي القرشي، وشهامة المسلم الموحد: "من هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم، قد قرأت كتابك يا ابن الكافرة، والجواب ما تراه لا ما تسمع! " فانطلق هذا الصقر العربي المسلم بنفسه إلى مدينة الروم، بجيشٍ ما عرفت الأرض مثله،، حتى وصل "هرقلة" وهي مدينة بالقرب من "القسطنطينية"، فدكها دكًا جعل منها نسيًا منسيًا، فلم يبق منها إلا اسمها وبقايا ذكريات! فحرقها عن بكرة أبيها، وانطلق بعد بسرعة يريد إزالة العاصمة "القسطنطينية" من على وجه الأرض، فأسرع الكلب نقفور بالكنوز والمجوهرات يحملها بنفسه إلى هارون الرشيد، يستحلفه بمحبته لنبي اللَّه عيسى أن يقبل منه هذه الكنوز كجزية، بعد أن صار يناديه بأمير المؤمنين، فرفض هارون ذلك، واشترط عليه لقبول تلك الكنوز كجزية أن يطلق سراح كل المسلمين من سجونه أولًا، فما كان من كلب الروم إلا أن أطلق سراح آلاف الأسارى من السجون الصليبية، فلم يبقَ شخصٌ يوحِّد اللَّه في أي سجني رومي بفضل هذا البطل الإسلامي العملاق هارون الرشيد، والذي استُشهد وهو في طريقه للجهاد في بلاد الشرق، وهو في سن -المفاجأة الكبرى- 46 سنة فقط!!! فرحمك اللَّه يا أبا الأمين، أيها الأسد الهاشمي العربى، وجزاك اللَّه كل خير لما قدمته للإسلام، وأعاننا اللَّه أن نعطيك حقّك في التاريخ، وأن ندفع عنك الشبهات، فمثلك أحق أن يُنصر، ومثلنا أحق أن يَنصر، فجزاك اللَّه كل خير لما قدّمته أنت وأمثالك لأمة الإسلام! ودبل أن نترك هذا العظيم، لكي ننتقل إلى عظيم إسلامي آخر، ينبغي علي أن أذكر

على وجه السرعة أمرين اثنين أرى أنهما من الأهمية بمكان: (أولهما) أن هناك قصة شهيرة يرددها بكل أسف المسلمون وهم يظنون أنها قصة تدعو للفخر والاعتزاز، هذه القصة هي قصة هدية هارون الرشيد للملك الألماني (شرلمان)، مختصر هذه القصة أن الرشيد بعث لشارلمان بهدية عبارة عن ساعة ضخمة، ليتعجب منها ذلك الملك الأوروبي ويظنها أنها مسكونة بالجن، وهذه القصة وإن كانت تبدو أنها قصة تبين مدى الرقي العلمي الذي وصل إليه المسلمون، إلا أنني أعتبرها من أخبث القصص التي انتشرت بين المسلمين، وسبب ذلك أن من روج لهذه القصة بين أن سبب الهدية هو دعم الرشيد لشارلمان الصليبي في قتاله للخلافة الأموية في الأندلس! وهذا إفكٌ واضح، وشرٌ فاضح، فأي تحالفٍ هذا الذي يعقده مجاهدٌ بتدين الرشيد مع صليبي مثل شارلمان؟! وأي قوة يرجوها إمبراطور مثل هارون الرشيد من ملكٍ من ملوك أوروبا المظلمة؟! فلو أراد الرشيد أن يستولي على الأندلس بأسرها من أيدي أبناء عمومته الأمويين، لاستولى عليها بلمح البصر، بل إنه لو كان يرى في أوروبا نفسها ما يستحق عناء غزوها في ذلك الوقت المظلم، لما أبقى فيها مدينة من دون أن يضمها إلى إدارة بغداد المركزية، ولقد بحثت شخصيًا عن مصدر هذه المعلومة، والحمد للَّه صدقت توقعاتي، فهذه المعلومة مصدرها الوحيد مستشرقة ألمانية تُدعى (زيغريد هونكه)! (ثانيهما) أكثر من تكرر ذكرهم في هذا الكتاب: "قوم كالعادة"، والذين مللت شخصيًا من ذكرهم وذكر خياناتهم، فواللَّه لا أقصد أبدًا تكرار قصص خياناتهم في هذا الكتاب، لكنني ما بحثت في قصة من قصص الإسلام إلا ووجدت خيانة شيعية مغروسة في قلبها! وكأن القوم قد رضعوا الغدر رضاعة! فالخطا الوحيد الذي ارتكبه الرشيد في خضم هذه السيرة العظيمة هو أنه آمن للشيعة، فجعل لأحدهم منصبًا وزازيا، المشكلة ليس في ما فعله الرشيد رحمه اللَّه الذي ربّما أراد أن يعطي أولئك الخونة فرصة ليصلحوا بها ماضيهم القذر المليئ بالخيانات، المشكلة تكمن في الجريمة التي فعلها الوزير نفسه! والتي نقلها رواة الشيعة أنفسهم، كالعالم الشيعي الملقب بصدر الحكماء ورئيس العلماء (نعمة اللَّه الجزائري) في كتابه المعروف "الأنوار النعمانية" (2/ 308 طبعة تبريز

إيران)، و (محسن المعلم) في كتابه "النصب والنواصب" (ص 622 ط دار الهادي - بيروت) ونصها: "وفي الروايات أن علي ابن يقطين وهو وزير هارون الرشيد قد اجتمع في حبسه جماعة من المخالفين (يعني بهم مسلمين سنيين!)، وكان من خواص الشيعة، فأمر غلمانه فهدموا سقف الحبس على المحبوسين فماتوا كلهم وكانوا خمسمائة رجل تقريبًا، فأرادوا الخلاص من تبعات دمائهم فأرسل إلى الإمام مولانا الكاظم فكتب -عليه السلام- إلى جواب كتابه، بأنك لو كنت تقدمت إلي قبل قتلهم لما كان عليك شيء من دمائهم، وحيث إنك لم تتقدم إليَّ فَكَفِر عن كل رجل قتلته منهم بتيس والتيس خير منه! ". (وهذه الرواية ذكرها علماء الشيعة يستدلون بها على جواز قتل الناصبي، والناصبي بتعريف الشيعة: هو كل من لا يعترف بأن الحسين ونسله (من شاه زنان الفارسية!) لديهم قدرة كونية على الخلق وعلم الغيب، ويعني ذلك بالمختصر المفيد أن دمي ودمك مستباحٌ من قِبل أولئك الإرهابيين شريطة أن يضحوا عن كلِّ واحدٍ منّا بتيس! وبعد الرشيد. . . . نظل مع العباسيين أيضًا، ولكننا هذا المرة لن نستخدم قطار (الخلود الإسلامي)، أو طائرة (ابن فرناس)، أو سفينة (بيري رئيس) أو جمال (ابن تاشفين) للوصول إلى بطلنا الإسلامي القادم، فلقد حان الوقت لكي نستخدم وسيلة نقل جديدة هي "الزلاجات الجليدية" لنصل بها إلى بطلنا القادم، لكي نسبر أغوار مغامراته العجيبه في القطب الشمالي، حيث الثلوج المتراكمة، والبحيرات الجليدية. فمن يكون ذلك المغامر العباسي الذي الذي ألهم خيال السينما الأمريكية بمغامراته الشيّقة، وحكاياته العجيبة؟ يتبع. . . . . .

89 - المحارب الثالث عشر (أحمد بن فضلان)

" المحارب الثالث عشر" (أحمد بن فضلان) " فأخبرته الساحرة الشمطاء (ملك الموت) أنه يجب عليه أن يُكوّن فريقًا كاملًا مؤلفًا من ثلاثة عشر محاربًا أحدهم من غير أهل الشمال، فتم اختياري لأكون ذلك المحارب الثالث عشر! فحاولت الاعتذار بكافة الطرق للهرب إلى بغداد، ولكن دون جدوى، فاعتبرت نفسي في عداد الأموات، وسافرت مع أولئك المجانين الشقر عبر الثلوج إلى إسكندنافيا، لأرى هناك العَجب العُجاب. . . " (من رسالة أحمد بن فضلان) لن أكون متشائمًا إذا ما قلت أنه من بين كل عشرة آلاف فردٍ منّا سنجد إنسانًا واحدًا فقط سمع باسم هذا المغامر الإسلامي العظيم، ولن أكون متفائلًا إذا ما ادّعيت أن من بين كل عشرة آلاف سنجد خمسة عشر ألفًا يعرفون اسم السندباد! فجميعنا من دون أي استثناء سمع بقصص السندباد، ونصفنا على الأقل يفرق بين قصص السندباد البّري وقصص السندباد البحري، فتكون بذلك شعبية السندباد بين المسلمين تساوي 150 %، بينما تكون شعبية أحمد بن فضلان تساوي 0.01 % على أحسن التقديرات! واللَّه إن العيب كل العيب أن نجهل تاريخ أبطالنا الحقيقيين إلى هذه الدرجة المخيفة! فسندباد ليس إلا شخصية خيالية وضعها المستشرقون لنا في كتاب قذرٍ مليءٍ بالقصص الجنسية المخجلة اسمه: "ألف ليلة وليلة"! وعلاء الدين الذي نروي قصصه لأطفالنا كل ليلة لم يكن قبل أن يعثر على مصباحه السحري إلا شابًا فاشلًا لم يعمل في حياته البتة! وعلي بابا الذي نغني باسمه ما هو إلَّا لصٌ سرق من اللصوص الأربعين ما كانوا قد سرقوه هم بالأصل من فقراء بغداد! ليُكوِّن هذا "الحرامي الواحد والأربعون" ثروته من أموالٍ حرامٍ! فأي قدوة ترجوها لطفلك وأنت تروي له مثل هذه القصص؟! وكيف لأمةٍ تريد النهوض بنفسها من سنوات الهوان والتبعية أن تردد على مسامع

أطفالها قصصًا ساذجةً في نفس الوقت الذي تضيِّع فيه تاريخَ أبطالٍ حقيقيين مثل المغامر ابن فضلان؟ ولا أقولها تحيزًا أو عنصريةً، فلقد بحثت في كتب المتقدمين والمتأخرين، فما وجدت في تاريخ الأرض منذ نشأة آدم وإلى يوم الناس هذا عظيمًا واحدًا من عظماء الأمم والشعوب لديه عُشر مِعشار عظمة عظيمٍ واحدٍ من عظماء أمة الإسلام العظيمة! وأنا هنا أتكلم بنظرةٍ تاريخيةٍ بحتةٍ نابعةٍ من باحثٍ تاريخيٍ يزعم أنه قرأ تاريخ الحضارات من أول "الحضارة الصينية" التي أسسها الملك (شانغ) في الصين، إلى أيام "الحضارة الغربية" التي تسود العالم الآن، بل إني اكاد أجزم بأن تاريخ الأرض وتاريخ البشرية لا يساوي شيئًا على الإطلاق بدون تاريخ المسلمين، بل إن تاريخ الإسلام هو تاريخ الأرض نفسها! ولقد خدعوك فقالوا لك في كتب التاريخ المدرسية أن "الحضارات قامت على ضفاف الأنهار"، فبربكم أي نهرٍ هذا الذي كان يجري بين مكة والمدينة عندما حمل محمد بن عبد اللَّه شعلة الحضارة الإنسانية ليضيئ بها ظلام الدنيا بأسرها؛ فهل سمع أحدٌ منكم نهرًا كان يُسمَّى نهر مكة؟ أو بحيرة الحارث بن حِلّزة مثلًا؟ وأي حضارة هذه التي قامت قديمًا على مصاب أنهار أوروبا اللامعدودة؟ فواللَّه لا أكاد أمر بمدينة أوروبية إلا وأجد فيها نهرًا أو نهرين يمران بها، بل إنني رأيت مدينة تجري بها ثلاثة نُهُرٍ! وقصة مغامرنا الإسلامي -أحمد بن فضلان- توضح بشكلٍ بعيد مفهوم الحضارة ومقومّاتها، وفي نفس الوقت توضح لنا مدى القصور المعرفي المخيف الذي نحن عليه، فكيف لأطفالنا وشبابنا بل وحتى شيوخنا أن يجهلوا شخصية عظيمة مثل شخصية المغامر الإسلامي الرائع فعلًا أحمد بن فضلان، فحكايات هذا البطل العربي تفوق في غرابتها وتشويقها قصصر السندباد الخرافية، بل إن السينما الأمريكية والأوروبية صنعت له أفلامًا عالمية من شدة روعة مغامرته، كان أبرزها فلم أنتجته استديوهات السينما في هوليود سنة 1999 م اسمه "المحارب الثالث عشر، The 13 th Warrior"، وهذا الفلم بما يحمله من تشويه للقصة الأصلية لطلنا الإسلامي إن دلَّ على شيء فإنه يدل على إهمالنا الفظيع بتاريخنا وتراثنا الإسلامي، الذي استخدمه الغرب في أدبه وفنونه. وتبدأ قصة بطلنا يوم الخميس الموافق الحادي عشر من شهر صفر لسنة 309 هـ الموافق

لحزيران سنة 921 ميلادية عندما قاد عالم إسلامي جليل اسمه الشيخ (أحمد بن فضلان) بعثة دعوية خرجت من "بغداد" -عاصمة النور آنذاك- بتكليف من الخليفة العباسي (المقتدر باللَّه) رحمه اللَّه إلى قلب القارة الآسيوية تلبية لطلب ملك الصقالبة البلغار (ألمش بن يلطوار) الذي طلب التعريف بالدين الإسلامي، عله يجد تفسيرًا للغز الكبير المثار وقتها ألا وهو "كيف استطاع هذا الدين الآتي من قلب الصحراء أن يكوّن تلك الإمبراطورية الضخمة التي لم تضاهها أي إمبراطورية في تاريخ الأرض؟ " وأستسمح القارئ الكريم مرة أخرى لأقف عند نقطتين مهمتين قبل أن نغوص في مغامرات بطلنا الشيقة. (النقطة الأولى): كثيرٌ منّا للأسف يعتقد أن الدولة العباسية كانت دولة مفككة، والحقيقة أن هذا شيء عارٍ عن الصحة التاريخية، فلا شك أن الدولة العباسية -كحال كل دول الأرض- ضعفت في نهاياتها، ولكن الشيء الذي لا يعرفه الكثير أن أبرز علماء الأمة -بما فيهم البخاري نفسه- ظهروا في العهد العباسي، وكما كان الأمويين يرسلون البعثات إلى العالم للدعوة للإسلام تحت مسمى "رجال الملابس البيضاء"، فقد كان للعباسيين رحمهم اللَّه دعاة عُرِفوا في أرجاء العالم باسم "رجال الملابس السوداء"! (النقطة الثانية): التشويه الرهيب الذي صنعه الغرب بتاريخ المسلمين ومن بينهم أحمد بن فضلان بطبيعة الحال، فالشيء المضحك المبكي في الأعمال الفنية التي صنعها الغرب لأحمد بن فضلان من روايات وأفلام، أنهم ادّعوا أن الخليفة العباسي "المقتدر باللَّه" رحمة اللَّه عليه إنما اختار ابن فضلان لهذه البعثة لكي يبعده عن عشيقته التي كان الخليفة الإسلامي متيمًا بها، وأنا لا أعجب من أولئك المزوِّرين الذين زوروا كتب اللَّه من قبل، ولكني أعجب من الشعوب الأوروبية والأمريكية من عوام الناس الطيبين، أليس بهم رجلٌ رشيدٌ يتساءل كيف للخليفه الإسلامي الذي يحكمها من شرقها إلى غربها أن يعجز من التخلص من رجل واحدٍ من رعيته بدون استخدام هذه الطريقة الرخيصة؟! والحق أقول أنني أضحك الآن وأنا أكتب هذه الكلمات، فلقد تذكرت الآن قصة وردت في "الكتاب المقدس" أعتقد أنها مصدر التحريف الذي وضعوه لابن فضلان، فهذه القصة متطابقة تمامًا مع القصة المحرفة التي وضعوها لصاحبنا، فهذه

القصة الجنسية التي وردت في "الكتاب المقدس" في سِفر صموئيل الثاني [11: 1]، تدّعي زورًا وبهتانًا على نبي اللَّه داود -عليه السلام- أنه استخدم نفس هذه الحيلة الرخيصة لكي يشبع شهوته الجنسية، ففي يومٍ من الأيام وبينما داود يتمشى على سطح البيت، رأى من على السطح امرأة عارية تستحم، فأعجب بجمالها (كما تزعم رواية الكتاب المقدس!)، فأرسل وسأل عن المرأة، ليكتشف أنها (بشثبع بنت اليعام) امرأة (أوريا الحثى)، ولكن داود على حد زعمهم لم يأبه لكونها متزوجة، فقام باغتصابها، لتأتيه المرأة بعد ذلك لتقول له أنها قد حبلت، فقام داود بتدبير حيلة رخيصة للتخلص من زوجها (هي نفسها الحيلة التي ينسبونها للخليفة العباسي)، وأترك "الكتاب المقدس" ليكمل لنا هذه القصة التي يستحي القلم قبل صاحبه في إكمالها: "وَفِي الصَّبَاحِ كَتَبَ دَاوُدُ رِسَالَةً إِلَى يُوآبَ، بَعَثَ بِهَا مَعَ أُورِيَّا، جَاءَ فِيهَا: اجْعَلُوا أُورِيَّا في الْخُطُوطِ الأُولَى حَيْثُ يَنْشُبُ الْقِتَالُ الشَّرِسُ، ثُمَّ تَرَاجَعُوا مِنْ وَرَائِهِ لِيَلْقَى حَتْفَه، فأرسل داود وضم امراة اوريا الي بيته وصارت له امراة وولدت له ابنا" (ملاحظة مهمة: اكتشفت مؤخرًا من مناقشتي مع زميل شيعي أن الشيعة يؤمنون بهذه القصة المفتراة التي وضعها أبناء عمومتهم اليهود على نبي اللَّه داود، وأنهم يعتقدون أن داود كان زانيًا والعياذ باللَّه، وأن الذي أنقذه من الخطيئة هو إيمانه بولاية الأمة من أبناء شاه زنان بنت كسرى يزدجرد!!!)، الشيء المحزن الذي وجدته خلال بحثي في قصة هذا الداعية الإسلامي، أن الأدباء العرب قاموا بترجمة ما كتبه الغربيون عن ابن فضيل وكأنه قرآن منزل، فجعلوا منه صعلوكًا لا هم له إلا الزنى وشرب الخمر، فرددوا كالببغاوات ما يردده الغرب عن أبطالنا، لكي يغيروا مسار القصة من كونها بعثة دعوية قام بها داعية إسلامي، إلى قصة جنسية قام بها مسلم منحرف! وبعد أن عرفنا مصدر الطعونات الجنسية التي يكيلها الصليبيون بين التارة والأخرى لرسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- والرموز الإسلامية من هارون الرشيد وغيره جاء الوقت لكي نكمل مغامرتنا مع ابن فضلان. فقد توغل أبن فضلان في بلاد الروس حتى وجد أناسًا من "الفايكنج" وهي القبائل التي تسكن السويد والنرويج والدنمارك وإيسلندا، ولنترك ابن فضلان نفسه الذي جاء من بغداد رمز الحضارة الإسلامية يصف لنا ما شاهده بأم عينه: "كان أعظم ما يعلمه أولئك القوم من الحلي هو الخرز الأخضر! يشترون الخرزة

بدرهم، وينظمونه عقودًا لنسائهم. وهم أقذر خلق اللَّه لا يستنجون من غائط ولا بول، ولا يغتسلون من جنابة، ولا يغسلون أيديهم من الطعام، بل هم كالحمير الضالة، يجيئون من بلدهم فيُرسون سفنهم بإتل، وهو نهر كبير، ويبنون على شطه بيوتًا كبارًا من الخشب. ولا بد لهم في كل يوم من غسل وجوههم ورؤوسهم بأقذر ماء يكون وأطفسه. وذلك أن الجارية توافي كل يوم بالغداة، ومعها قصعة كبيرة فيها ماء، فتدفعها إلى مولاها فيغسل فيها يديه ووجهه، وشعر رأسه فيغسله ويسرّحه بالمشط في القصعة، ثم يتمخط ويبصق فيها، ولا يدع شيئًا من القذر إلا فعله في ذلك الماء، فإذا فرغ مما يحتاج إليه حملت الجارية القصعة إلى الذي جانبه ففعل مثل فعل صاحبه، ولا تزال ترفعها من واحد إلى واحد حتى تديرها على جميع من في البيت. وكل واحد منهم يتمخط ويبصق فيها ويغسل وجهه وشعره فيها. وساعة توافي سفنهم إلى هذا المرسى يخرج كل واحد منهم ومعه خبز ولحم وبصل ولبن ونبيذ، حتى يوافي خشبة طويلة منصوبة، لها وجه يشبه وجه الإنسان، وحولها صور صغار، وخلف تلك الصور خشب طوال قد نصبت في الأرض، فيوافي إلى الصورة الكبيرة ويسجد لها، ثم يترك الذي معه بين يدي الخشبة -ويقول لها: "يا ربي! أريد أن ترزقني تاجرًا معه دنانير ودراهم كثيرة فيشتري مني كل ما أريد ولا يخالفني فيما أقول"؛ ثم ينصرف. فإذا تعسر عليه بيعه وطالت أيامه، عاد بهدية ثانية وثالثة، فإنْ تعذر ما يريد، حمل إلى كل صورة من تلك الصور الصغار هديةً، وسألها الشفاعة، وقال: "هؤلاء نساء ربنا وبناته وبنوه"، لا يزال يطلب إلى صورة صورة يسألها، ويستشفع بها ويتضرع بين يديها، فربما تسهّل له البيع فباع، فيقول: "قد قضي ربي حاجتي، وأحتاج أن أكافيه". فيعمد إلى عدة من الغنم أو البقر فيقتلها ويتصدق ببعض اللحم، ويحمل الباقي فيطرحه بين يدي تلك الخشبة الكبيرة والصغار التي حولها. ويعلق رؤوس البقر أو الغنم على ذلك الخشب المنصوب في الأرض. فإذا كان الليل وافت الكلاب فأكلت جميع ذلك، فيقول الذي فعله: "قد رضي ربي عني وأكل هديّتي! " وإذا مرض منهم الواحد ضربوا له خيمة ناحيةً عنهم، وطرحوه فيها، وجعلوا معه شيئًا من الخبز والماء، ولا يقربونه ولا يكلمونه، بل لا يتعاهدونه في كل أيام مرضه لا سيما إن كان ضعيفًا أو مملوكًا. فإن برئ وقام رجع إليهم، وإن مات أحرقوه، فإن كان

مملوكًا تركوه على حاله تأكله الكلاب وجوارح الطير. وكان يقال لي إنهم يفعلون برؤسائهم عند الموت أمورًا أقلها الحرق. فكنت أحب أن أقف على ذلك، حتى بلغني موتُ رجل منهم جليل، فجعلوه في قبره، وسقفوا عليه عشرة أيام حتى فرغوا من قطع ثيابه وخياطتها. وذلك أن الرجل الفقير منهم يعملون له سفينة صغيرة، ويجعلونه فيها ويحرقونها. والغني يجمعون ماله، ويجعلونه ثلاثة أثلاث. فثلث لأهله، وثلث يقطعون له به ثيابًا، وثلث ينبذون به نبيذًا يشربونه يوم تقتل جاريتُه نفسها، وتُحرَق مع مولاها. وهم مستهترون بالنبيذ يشربونه ليلًا ونهارًا، وربما مات الواحد منهم والقدح في يده. عندما يموت رجل جليل منهم، أو أحد رؤسائهم يقومون بوضعه في قبره ويقفلون عليه القبر لمدة عشرة أيام، حتى يفرغوا من تفصيل وحياكة الملابس اللازمة لهذه المراسم، مراسم حرق الميت، ومن ضمن هذه المراسم أن تحرق معه إحدى جواريه، فسأل سائل: من منكن يموت معه؟ فوافقت إحداهن طائعة راضية بمحض إرادتها، فهذا حسب معتقداتهم شرف لها، ومن لحظة موافقتها، تسهر بقية الجواري علي خدمتها، لدرجة أنهن يغسلن رجليها بأيديهن وهم يستعدون لتفصيل وحياكة الملابس اللازمة للحرق والجارية في كل يوم تشرب وتغني فرحة مستبشرة. ولما كان اليوم الذي سيحرق فيه الميت وجاريته، قامت الاستعدادات لذلك أمام النهر الذي ترسو فيه سفينته، التي يجري إعدادها بشكل فائق الجودة والبذخ بما فيه السرير الذي سوف يمدد عليه الرجل المتوفى، وتشارك في هذه المراسم، امرأة عجوز شمطاء، تسمي عندهم (ملك الموت) وهي التي تتولي قتل الجارية التي وافقت علي الموت مع سيدها وفي اللحظة المحددة يخرجون الميت من قبره، ويلبسونه سراويل جديدة، ويضعونه في الخيمة التي علي السفينة، ويجلسونه وقد اسندوه بالمساند، ووضعوا أمامه الفاكهة والريحان والنبيذ والخبز واللحم والبصل، ثم يقطعون كلبًا إلى نصفين ويلقونه في السفينة، ويضعون جنب المتوفى جميع سلاحه، ثم يجيئون بفرسين يذبحونهما بعد الغرق ويقطعون لحمهم بالسيف ويلقونه بالسفينة، ثم يفعلون الشيء ذاته ببقرتين وديكا ودجاجة، وأثناء ذلك تقوم الجارية التي سوف تحرق معه بالمرور داخل الخيم المنصوبة علي شاطئ النهر أمام السفينة، فينكحها كل صاحب خيمة ويقول لها: سلّمي على مولاكِ وقولي له إنما

فعلت هذا حبًا به! وبعد حركات متعددة تقوم الجارية أمام الحضور مع العجوز (ملك الموت) لتصعد إلي السفينة، فتشرب النبيذ، قدحًا بعد قدحٍ، وملك الموت تقتلها بخنجر عريض النصل، والرجال يضربون بالخشب علي التراس، لئلا يسمع صوت صراخها، فتجزع بقية الجواري، فلا يوافقن بعد ذلك علي الموت مع أسيادهن، ثم يتم حرق السفينة بكل ما فيها: الرجل السيد المتوفى وجاريته المتوفاة، وكل الأشياء والحاجات التي تم جمعها في السفينة، في أثناء تلك المراسم العجائبية". وبعد هذه المناظر الهمجية التي رآها ابن فضلان في مغامرته، صلى للَّه ركعتين شكرًا للَّه على نعمة الإسلام، وقرر الرجوع إلى البلاد الإسلامية وترك أولئك الهمجيين، واعتقد ابن فضلان أنه بعد مشاركته في مراسم الميت ودفنه، سوف يسمح له بالمغادرة، لكن ظنه خاب، فقد بدأ الصراع الداخلي بين زعماء أهل الشمال لخلافة الزعيم المتوفى، وانحصر الصراع بين زعيمين منهم. وكان كل واحد يحشد لمناصرته الأعيان وذوي النفوذ، ووإن أحدهما ويدعى (توركيل) يتطلع لمساندته ضد الآخر ويدعى (بولييف) في صراعهما علي الزعامة، خاصة أنه (توركيل)، كان طيلة الوقت يعتقد أن ابن فضلان مشعوذ وساحر يتمتع بقوة معينة، بسبب قراءته للقرآن وقيامه الليل، لذلك سمع ابن فضلان نصيحة الترجمان، وقرر البقاء وعدم اللجوء للهرب، لأنه سيعامل في حالة إكتشاف أمره كلص، حيث يقوده الناس إلي شجرة ضخمة، ويوثقون حبلا قويا حوله ويشنقونه ثم يتركونه معلقا حتى يبلي جسمه ويتناثر إربًا إربًا بفعل الريح والمطر. ثم حدثت مفاجأة غيرت من مجري الصراع على الزعامة، فقد وصل رسول من بلاد الشمال البعيدة "السويد" من قبيلة بولييف ليخبره أن هناك أخطارا جمة تحيق ببلاده البعيدة وأنه علي بولييف الاستعداد للعودة إلي بلاده لإنقاذها من هذه الأخطار، فقام بولييف باستدعاء العجوز الشمطاء (ملك الموت) فقامت ببعض حركات الشعوذة لتخبر بعدها بولييف أنه دُعي من قبل الآلهة لترك هذا المكان بسرعة، وأن ينصرف كبطل لصد ما يهدد بلاد الشمال من الخطر، وأخبرته أيضًا أن فريقه كاملا يجب أن يكون مؤلفًا من ثلاثة عشر محاربًا أحدهم من غير أهل الشمال، لذلك كان الثالث عشر غير الشمالي هو أحمد بن فضلان، ومنذ تلك اللحظة حمل صفة المحارب الثالث عشر،

رغم كل الاعتذارات والتبريرات التي قدمها لاستثنائه من تلك المهمة، لذلك كانت هذه الحالة الإجبارية كارثة حقيقية لابن فضلان، مما حدا به للقول: "بالنسبة لشخصي اعتبرت حالي كحال الشخص الميت". لتبدأ بذلك مغامرة جديدة لا يتسع كل كتابي هذا لذكرها، فقد كان الهدف الذي أردته هو تنبيه الأمة بتاريخها المنسي، أما من أراد متابعة مغامرات ابن فضلان فعليه أن يقرأ رسالته الشهيرة، على أن يحذر من التشويه العظيم الذي وضعه المستشرقون فيها من طعونات في شرف هذا الداعية الإسلامي العظيم! أما الآن. . . فلنترك هذه الأجواء الباردة، لننتقل إلى أجواءٍ حارة ملتهبة، لنتابع معًا قصة عظيم إسلامي آخر، حمل راية الإسلام عاليًا في شبه القارة الهندية، ليكون سببًا في إسلام 500 مليون مسلم، أي أن عظيمنا القادم ساهم في إسلام واحد من كل ثلاثة مسلمين موجودين في عالمنا المعاصر! فمن يكون ذلك السلطان الإسلامي العظيم؟ وكيف أنقذ الإسلام من الاندثار في الهند؟ وما هي قصة الإسلام في الهند؟ ولماذا دخل ملايين الهنود في الإسلام بسرعة البرق؟ وكيف قسم الهنود البشر إلى 4 طبقات؟ وما هي علاقة بطلنا القادم بـ "تاج محل"؟ ولماذا يعتبره الهنود أعظم إنسانٍ حكم شبه القارة الهندية في التاريخ؟ يتبع. . . . . .

90 - السلطان العالم (أورانج زايب عالم قير)

" السلطان العالم" (أورانج زايب عالَم قير) " إن الأسى ليعتصر قلبي، وأنا أرى إخواني وأخواتي لا يعرفون هذه الشخصية، ولا يدركون عظمتها، ولم يسبروا كنهها وغورها، وهذا واللَّه يحز في نفسي، أن يغيب عن ذاكرتنا رجلٌ عظيم، جليل القدر، رفيع المكانة، غزير العلم، مثل أورانج زايب عالم قير" (الشيخ المؤرخ: محمد الشريف) لن أبدأ الحديث عن هذا البطل الإسلامي بالسؤال الشهير الذي أطرحه عند بداية ترجمتي لمعظم أبطال هذا العمل، فلن أسأل إن كان أحدنا يعرف شيئًا عن هذا السلطان الهندي العظيم، فأنا على يقينٍ تامٍ، أن جلَّ معلوماتنا عن الهند تقتصر على تلك الأفلام الهندية التي تنتجها هوليود الشرق "بوليود"، والتي يدمن كثير من شباب المسلمين على مشاهدتها، وفي بعض الأحيان في تقليد حركات أبطالها البهلوانية أيضًا! ولو علم شباب الإسلام أننا حكمنا تلك الأرض لما يقرب من ألف عام، رفعنا فيها راية الإسلام الخفاقة، فصدحنا بأذان اللَّه أكبر في جميع أرجائها، لما حرصوا على متابعة تلك الأفلام بقدر حرصهم على قراءة تاريخ أمتهم! ولغيَّر شبابنا بعضًا من نظريتهم العنصرية تجاه إخوتهم الهنود، فالمسلمون الهنود (وأعني هنا مسلمي القارة الهندية من بنغلادش إلى باكستان مرورًا بالهند الحالية) يمثلون ثلث عدد المسلمين بالكلية، أي أنه من بين ثلاثة مسلمين يعيشون على الكرة الأرضية هناك هندي مسلمٌ بينهم! والفضل الأكبر لإسلام هؤلاء الإخوة من الهنود يرجع أولًا وأخيرًا إلى رجالٍ من أمثال بطلنا الذي نحن في صدد الترجمة له، وليت شعري أي ترجمة يمكن لي أن ترجمها لرجلٍ بمثل عِظم قدره، وسمو مكانته، وعلو همته، وعظيم سلطانه، إلا أنني أرى أنه من الضروري لهذه الأمة، إذا ما أرادت النهوض من حالة الغثيان التي تمر بها حاليًا، أن تستذكر بعض قصص أبطالها، كي يجد الجيل القادم نبراسًا يضيئ لهم جنبات الطُرق المظلمة، لذلك رأيت ضرورة

الكتابة عن هذا العملاق الإسلامي، مستعينًا بجل ما سأكتب عنه باللَّه أولًا، ثم بالأبحاث الجليلة التي قام بها الشيخ الدكتور (محمد بن موسى الشريف) جزاه اللَّه خيرًا، الداعية المشهور، وصاحب موقع التاريخ www.altareekh.com. وكما تعودنا في هذا الكتاب بأخذ خلفية تاريخية عن كل قصة نخوض في غمارها، أرى أن نأخذ خلفية عن قصة الإسلام في الهند، والحقيقة أنني أرى أن قصة الإسلام في الهند بدأت في وقتٍ مبكرٍ للغاية، وبالتحديد مع رسول الرحمة، وبالتحديد أكثر مع رحلة الطائف عندما رفض رسول اللَّه عرض ملك الجبال أن يدمر المشركين بإذن اللَّه، بعد أن أهانوه أشد الإهانة في الطائف، حين أجاب رسول الرحمة على عرض ملك الجبال بقوله: "بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا". وفعلًا، مرت الأيام والسنون، فدخلت مكة كلها في الإسلام، ودخلت بعدها الطائف، وتحققت نظرة رسول اللَّه المستقبلية، فخرج من أصلاب هؤلاء من لا يكتفي فقط بأن يعبد اللَّه وحده، بل يقوم أيضًا بحمل راية لا إله إلا اللَّه إلى كل بقعة في الأرض، فمن صُلب المجرم الوليد بن المغيرة خرج خالد ابن الوليد، ومن صلب أبي جهل خرج عكرمة بن أبي جهل، ومن صلب العاص بن وائل خرج عمرو ابن العاص، ومن صلب عتبة بن ربيعة خرج أبو حذيفة بن عتبة، وبعد عشرات السنين، ومن قبيلة ثقيف في الطائف التي أهانت الرسول في جاهليتها، خرج شابٌ عمره 17 سنة، حمل راية الإسلام الأموية، ليحملها إلى شبه القارة الهندية، ليخلفه رجالٌ أشداء نشروا الإسلام في جميع أرجاء القارة شبه الهندية. وهنا وقفة قصيرة أيضًا عن سر الانتشار السريع للإسلام في صفوف الهنود، والسبب يرجع لما وجده فقراء الهند في سماحة الإسلام وعدله، فلقد ذكرنا فيما سبق (في معرض

حديثنا عن آريوس) أن الهنود كانوا يعبدون كل شيء في الطبيعة، من أول الشر وحتى الأعضاء التناسلية، ولكن أشهر الأديان في الهند كان دينًا قائمًا على فكرة الثالوث المقدس (كأغلب الأديان الوثنية)، فكان إله الهندوس ينقسم إلى ثلاثة آلهة هي: 1 - (براهما): الموجد والخالق. 2 - (فشنو): الحافظ. 3 - (سيفا): المهلك. فكان الهنود يعتقدون أن من يعبد أحد الآلهة الثلاثة فقد عبدها جميعًا، ومن عبدها جميعًا فقد عبد أحدها! (قارن ذلك بفكرة الثالوث المقدس في المسيحية المعاصرة!). ولكن الكارثة الكبرى لم تكمن في ذلك فحسب، بل كانت أيضًا في النظام الطبقي العنصري الذي كان سائدًا في الهند قبل أن يُشرق الإسلام بنوره عليها، فمنذ أن وصلت القبائل الآرية إلى الهند إلى الهند، تشكل في الهند نظامٌ طبقي ما عرفت الأرض مثله، فقد قسم الهنود البشر إلى أربعة أقسام: 1 - (البراهمية): وهم الذين خلقهم الإله براهما من فمه: منهم المعلم والكاهن، والقاضي، ولهم يلجأ الجميع في حالات الزواج والوفاة، ولا يجوز تقديم القرابين إلا في حضرتهم. 2 - (الكاشتر): وهم الذين خلقهم الإله من ذراعيه: يتعلمون ويقدمون القرابين ويحملون السلاح للدفاع. 3 - (الويش): وهم الذين خلقهم الإله من فخذه: يزرعون ويتاجرون ويجمعون المال، وينفقون على المعاهد الدينية. 4 - (الشودر): وهم الذين خلقهم الإله من رجليه، وهم المنبوذين من عامة الشعب من الزنوج الأصليين، ويشكلون طبقة المنبوذين، وعملهم مقصور على خدمة الطوائف الثلاثة السابقة الشريفة ولا يمتهنون إلا المهن الحقيرة والقذرة! لذلك عندما جاء المسلمون إلى الهند بدين محمد بن عبد اللَّه الذي لا يفرق بين البشر، دخل عامة الشعب من المنبوذين في دين اللَّه أفواجًا، ليكون الإسلام هو الدين الرئيسي للهند لما يقرب من ألف عام. صدح فيها الأذان في جميع أرجائها. والآن وبعد أن أخذنا صورة بسيطة للغاية عن وضع الهند المعقد، جاء الوقت لكي نأخذ نبذة مختصرة للسيرة العظيمة لبطلنا العظيم: أورانج زايب عالم قير رحمه اللَّه تعالى وأسكنه فسيح جناته. والعجيب أن هذا السلطان العظيم كان من سلالة المجرمَيْن "جنكيز خان" و"تيمور لنك"، ولكن اللَّه شاء أن يكون من نسلهما من يرفع راية الإسلام عاليًا، فأورانج زايب

عالم قير هو ابن السلطان المغولي "شاه جيهان" الذي حكم الهند في القرن السابع عشر الميلادي، ولكن هذا السلطان تحول إلى رجلٍ مجنون بعد وفاة زوجته الجميلة "ممتاز محل"، فقام هذا السلطان -كعادة أصحاب الهوى دائمًا- بتحكيم العاطفة على الشرع، فأمر ببناء ضريحٍ يخالف الشرع لزوجته الجميلة التي فارقت الحياة الدنيا، فأنفق أموال المسلمين لمدة 7 سنوات سخّر فيها جهود 20000 عامل لبناء قبر حبيبته، وفي الوقت الذي أحاط به أعداء الإسلام بدولة الهند الإسلامية من كل جانب، كان هذا المحب المجنون يبكي على حبيبته ليل نهار، وفعلًا كاد الإسلام أن يضيع بالهند بسببه، وواللَّه ما ضاع الإسلام وضعف إلا بسببٍ شبابٍ حمقى مثل هذا العاشق الولهان، والذين يحوّلون العاطفة إلى ربٍ لهم من دون اللَّه! فلقد استولى ابنه الأكبر (درشكوه) على زمام الحكم، وأصبح هو الحاكم الفعلي للإمبراطورية، ولكن الخطر كان يكمن في أن درشكوه أراد إحياء مذهب كفري اسمه "المذهب الإلهي" وهو مذهب يجمع بين جميع الأديان في دين واحد، فتحرك بطلنا نحو العاصمة "دهلي" (وليس دلهي كما يشاع) "فاستولى على الحكم ليمنع أخاه من نشر المذهب الإلهي في الهند، ثم قام بعزل أبيه الذي جن من كثر البكاء على زوجته، ووضعه في قصرٍ معزول بعد أن صنع له أضخم مرآة في العالم ينظر من خلالها على تاج محل حيث ترقد زوجته الحسناء، فظل هذا العاشق الولهان ينظر على قبر حبيبته حتى دُفن بجانبها! أما البطل الإسلامي أوارنج زايب، فكانت حياته أكبر من هذه التفاهات، فقد أحيى السنة النبوية في أرجاء الهند، وقضى على البدع، وجاهد في سبيل اللَّه في أرجاء الأرض ينشر دين التوحيد، فحارب ملوك الهندوس العنصريين، وقطع أرجل الشيعة الروافض من الدخول للهند أبدًا، بعد أن اكتشف خيانتهم وتحالفهم مع الهندوس (كالعادة!)، ليس هذا فحسب، بل كان الإمبراطور العظيم شاعرًا عظيمًا، وأديبًا رقيقًا، فكتب الأشعار في نصرة الإسلام، وأصدر كتابًا لا يزال يُدرس إلى يومنا هذا في الجامعات الإسلامية اسمه "الفتاوى العالم قيرية" وهو معروف لطلبة العلم باسم "الفتاوى الهندية"، وظل 27 سنة يجاهد الهندوس والصليبيين البرتغاليين من جهة والشيعة الرافضة من جهة أخرى، فانتشر العدل في زمانه أيّما انتشار، وزاد عدد المسلمين بشكلٍ رهيب، بعد ما رأوه من عدله وزهده، فتكونت له

إمبراطورية ضخمة من جبال الهملايا إلى المحيط الهندي، ومن البنغال حتى طاجكستان. وعلى الرغم من اتساع رقعة دولته وكثرة مشاغله، اهتم السلكان أورانج زايب بالعلم، فحفظ القرآن وهو في سن الأربعين! فلم يكن السلطان ممن يقولون أنه لا وقت لديهم لحفظ القرآن، ليس ذلك فحسب، بل كان السلطان فنانًا خطاطًا لا يشق له غبار، فلقد كان يكتب القرآن بخط يده، ليعيش على ذلك، وقد كتب نسختين عظيمتين للقرآن بخط يده، أرسل إحداها إلى مكة والثانية إلى المدينة، فنشر العلم في أرجاء الهند في مدة حكمه التي استمرت 50 سنة بالتمام والكمال، ليحافظ على هذا الدين في تلك البلاد البعيدة، قبل أن تحين ساعة فراقه للدنيا، فيأمر أولاده بتكفينه بكفنٍ اشتراه بخمس روبيات جمعها بنفسه، بعد أن كان يغزل الصوف بيديه ليبيعه إلى في السوق سرًا، ليعيش على ذلك المال، ليدل أبناءه قبل موته على مكان ثروته، يوصيهم أن ينفقوها على الأيتام والأرامل، فذهب الأبناء إلى ذلك المكان الذي دلهم عليه أبوهم، ليجدوا فيه 300 روبية هي كل ثروة إمبراطور أعظم إمبراطورية هندية في التاريخ! فرحم اللَّه السلطان العظيم أورانج زايب عالِم قير. ولكن. . . . ماذا حدث للإمبراطورية الهندية الإسلامية من بعده؟ وكيف استولى الإنجليز عليها؟ وكيف قُسِّمت الهند إلى عدة دول؟ ومن هو القائد الإسلامي العظيم الذي أسس دولة باكستان الإسلامية؟ ولماذا ركّز الغرب على (غاندي) وأهملوا ذكره، على الرغم من كونه أستاذًا لغاندي في حركة الكفاح الهندي؟! يتبع. . . . . .

91 - قائدي أعظم (محمد علي جناح)

" قائدي أعظم" (محمد علي جناح) " ليس هناك ما يجمعنا بكم، فأبطالنا التاريخيون، أعداءٌ لكم، ومن تعتبرونهم أبطالًا تاريخيين، هم في نظرنا خونة، انتصارتنا التاريخية أيام حزنٍ لكم، وأنتصارتكم نكباتٌ لنا، البقرة إلهٌ لكم، وطعامٌ لنا، أنتم وثنيون، ونحن مسلمون، لن يزول الخلاف بيننا وبينكم، لن يحكمنا هندوسٌ بعد اليوم، أملنا الوحيد يكمن في باكستان الإسلامية! " (محمد علي جناح) الحقيقة أنني كلّما تقدمت أكثر في هذا الكتاب، وفتشت أكثر في صفحاتٍ خلت من التاريخ، وجدت أن أمة الإسلام هي أكثر أمةٍ تعرضت للتشويه في تاريخ الأرض منذ نشأتها، فلماذا يركز الإعلام الغربي على القس المسيحي (مارتن لوثر كنج) الزعيم الأمريكي الأسود الذي طالب بالمساواة مع البيض، في نفس الوقت الذي يهمش فيه نفس الإعلام شخصية إسلامية مثل (مالكوم إكس)، والذي سبق رفيقه المسيحي بسنواتٍ طوالٍ في كفاحه ضد العنصرية؟ ولماذا يركز الإعلام العالمي (الغربي منه والعربي!) على القائد الهندوسي (ألمهاتما غاندي) في الوقت الذي يُهمَّش فيه دور القائد المسلم (محمد علي جناح) أول من نادى بتحرير الهند من سيطرة التاج البريطاني؟ الإجابة عندي لا تخرج عن سببين: (أولًا): طمس تاريخ كل قائد مسلم، ليكون ذلك مقدمة لتشويه صورته "قتل الشخصية"! (ثانيًا): تحويل أنظار الناس نحو الطرق التي انتهجها القادة الغير مسلمين، لأن المسلمين لم يتعلموا من محمد بن عبد اللَّه أن يقاوموا المحتل بالإضراب عن الطعام ورعي الغنم (كما فعل غاندي)، بل إن المسلم مستعدٌ أن يضحي بآخر نقطةٍ من دمه في

سبيل أرضه وعرضه! وأذكر أنني شاركت ذات مرة في برنامجٍ إعلامي لقناة أجنبية كان السؤال فيها يدور حول إستعداد العرب للتحول لاستراتيجية (غاندي) السلمية في المطالبة بالحقوق الوطنية بدلًا من العنف "المقاومة"، فكان تعليقي بسيطًا للغاية حين قلت للمذيع: إذا كانت طريقة (غاندي) قد نجحت في الهند، فطريقة (مانديلا) التي تستخدم العنف قد آتت أكلها أيضًا في جنوب أفريقيا! فالشعب الواقع تحت الاحتلال هو الشعب الوحيد الذي يحق له أن يختار طريقة المقاومة التي تناسبه، فالمحتَل (اسم مفعول) لا المحتَل (اسم فاعل) هو صاحب القرار الأول والأخير في اتباع المنهج الذي يناسبه! ومحمد علي جناح الذي لا يعرفه أكثرنا كان قائد المسلمين في الهند، وعندما نقول الهند في ذلك الوقت فإننا نقصد بها شبه القارة الهندية، والتي تضم الآن كلًا من "الهند" و"باكستان" و"بنغلادش". فقد رأينا فيما سبق أن المسلمين هم الذين كانوا يحكمون الهند لأكثر من ألف سنة، إلا أن الوضع تغير بوصول المنصر الصليبي البرتغالي (فاسكو دي غاما) عام 1498 م إلى سواحل الهند، ليقيم جيوبًا للبرتغاليين في أرض الهند الإسلامية، وبعد ذلك دخل الإنجليز إلى الهند تحت مسمى (شركة الهند الشرقية) (Honourable East India Company)، لتكون هذه الشركة نواة لفترة استعمارية "استخرابية" طويلة دامية في شبه القارة الهندية. وفي نهاية القرن التاسع عشر تحرك الهنود لنيل حقوقهم الوطنية، فكان المسلمون الهنود هم دعاة الاستقلال، قبل أن ينضم الهندوس إلى تلك الحركة التحررية، فأسس الهنود المسلمون والهندوس "المؤتمر الوطني الهندي" الذي أعلنوه عام 1884 م. لتبدأ عملية المطالبة بالاستقلال، برز على ساحتها أولًا محامي مسلم فصيح اللسان، قوي الشخصية، اسمه (محمد علي جناح)، قبل أن يفتح الإنجليز الأبواب لشخصية هندوسية تدعى بـ (موهانداس كارما شند غاندي) الشهير بـ (المهاتما غاندي) خوفًا منهم لبزوغ نجم القائد الإسلامي للهند! فكان جناح يدعو في بداية الأمر إلى دولة موحدة للهنود متساوية الحقوق، إلا أن الأغلبية الهندوسية كانت ترفض إعطاء الأقلية المسلمة (كانت تبلغ وقتها 100 مليون!) حقوقًا متساوية مع الهندوس، وبعد أن لاحظ القائد الإسلامي محمد علي جناح تحيز بريطانيا

لصالح الهندوس، أعلن تأسيس "العصبة الإسلامية"، وفي عام 1930 م دعا شاعر الهند الأعظم (محمد إقبال) إلى فكرة استقلال الجزء الإسلامي من شبه القارة الهندية، وفي سنة 1933 م ظهرت للوجود كلمة "باكستان" كاسم لدولة إسلامية مستقلة، وهو اسم اقترحه طالب مسلم في جامعة "كمبردج" اسمه (تشودرى رحمت علي). وهى كلمة عجيبة في غاية البلاغة، فلكل حرف منها مغزاه وتعنى ككل "الأرض الطاهرة"! فحرف "الباء" يرمز إلى إقليم "البنجاب" وحرف "الألف" يأتى من "الأفغانية" والتى هى اسم قديم لإقليم الحدود، و"الكاف" منها يأتى من إقليم "كشمير" والذى لا يزال الجزء الكبير منه يرزخ تحت نير الإحتلال الهندي، وحرف "السين" يرمز إلى إقليم "السند" و"تان" من إقليم "بلوشستان". ويعنى الجزء الأول منها "باك" الطاهرة والجزء الثانى "ستان" الأرض. فتولى محمد على جناح (قائدي أعظم كما يسميه الهنود) مهمة قيادة كفاح المسلمين بتميزه القيادى وعزيمته الصلبة حتى وصل بها فى نهاية المطاف إلى الاستقلال عن البريطانيين والهنادكة، وبعد أشهر قليلة من إعلانه استقلال المسلمين، توفي القائد الأعظم محمد علي جناح من شدة التعب والإرهاق الذي بذله في سبيل تأسيس دولة الباكستان، التي أصبحت فيما بعد، أول دولة إسلامية تمتلك سلاح الردع النووي! ومن الهند نفسها، هاجر خياط مسلم اسمه (حسين كاظم ديدات) إلى جنوب أفريقيا بحثًا عن لقمة العيش، مصطحبًا معه طفلًا صغيرًا سيُكتب اسمه حين يكبر بحروفٍ من نور في سجل الخلود الإسلامي! يتبع. . . . . .

92 - أسد جنوب أفريقيا (أحمد ديدات)

{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} " أسد جنوب أفريقيا" (أحمد ديدات) " أيها العرب. . . إنهم يريدونكم أنتم بالذات! فأنتم الهدف الأول لحملات التنصير العالمية، أيها العرب، أقولها لكم بكل وضوح. . . أنتم التحدي القادم! " (الشيخ أحمد ديدات) كانت ليلة عاصفة، رجع فيها كل الموظفون إلى بيوتهم، ولم يبقَ في المصنع إلا شابٌ فقيرٌ لوحده، فهو من جهة لا يملك أن يترك المصنع قبل أن ينجز عمله، ومن جهة أخرى لم يكن ذلك الشاب المسكين يملك بيتًا أصلًا لكي يرجع إليه! لذلك أخذ ذلك الشاب شمعة صغيرة لكي يذهب بها إلى مخزنٍ مهجورٍ تابعٍ للشركة التي كان يعمل بها، فقد طلب منه رئيسه في العمل أن يرتب البضائع المتراكمة في ذلك المخزن القديم قبل أن يخلد إلى النوم، فبذلك فقط يتسنى له الحصول على قوت يومه الذي يسد به رمقه، فنزل ذلك الشاب الفقير ذو الساقين الرفيعتين إلى جنبات المستودع المظلم، وهزيم الرعد يزمجر أرجاء المستودع المهجور من حوله، ليتردد صدى الصوت في أرجاء الغرفة المظلمة، فيضفي ذلك جوًا من الرعب في أرجاء ذلك المكان المرعب من الأساس، فأخذ الشاب الفقير يرتب البضائع القديمة لوحده، وسحابة من الغبار تنطلق من بين ثنايا البضائع المهملة لتملأ أرجاء الغرفة المهجورة، ليضطر أن يحمل شمعته بيده ليفتح نافذة صغيرة موجودة في أعلى الغرفة قبل أن يختنق من الغبار الذي كاد أن يقتله، وما إن استطاع من فتح النافذة، حتى دفعته الرياح العاصفة من الخارج بقوة أسقطت جسمه النحيل أرضًا، لينطفأ بذلك وميض الشمعة الخافت الذي كان ينير له زوايا الغرفة المظلمة، فيضطر بعدها أن يعمل وحده في الظلام الدامس، منتظرًا ضوء البرق المنعكس بين الفينة والأخرى من نافذة ذلك المستودع المهجور، ليستدل من خلاله على موضعٍ

جديدٍ يرتبه في ذلك المخزن المهجور. وانتصف الليل. . . . . والعاصفة في الخارج تزداد شدة وهيجانًا، وصاحبنا ما زال يعمل كالأعمى يتحسس البضائع الملقاة في تلك الغرفة الموحشة، وكأن مدير المصنع تذكر هذا المخزن المهجور بعد سنينٍ طويلة من إقفاله، ليستغل حاجة هذا الشاب المعدم للمال في تنظيفه تلك الغرفة. وعندما أوشك الشاب المسكين على الوقوع أرضًا من شدة الجوع والتعب، حدث شيءٌ غريب!! فلقد ارتطمت قدماه بجسمٍ مجهولٍ على الأرض، فرفعه بيديه ليكتشف أنه كتابٌ ملقى في ثنايا الصناديق المهملة، فحاول عبثًا أن يقرأ عنوان ذلك الكتاب مستعينًا بضوء البرق المنعكس على الغرفة، ولكن دون جدوى، فلم يكن وميض البرق الخافت كافيًا لكي يميز من خلاله الحروف المنقوشة على الغلاف المتهالك لذلك الكتاب القديم، ولكن فضول الشاب وشغفه الشديد بالقراءة دفعه إلى يحمل الكتاب ويذهب به إلى تلك النافذة التي طرحته أرضًا من قبل، ليقاوم بجسمه النحيل قوة الرياح المندفعة من خلالها، منتظرًا ظهور البرق في سماء تلك الليلة الليلاء، علَّه يستطيع بذلك قراءة عنوان الكتاب، وبعد طول انتظار. . . . سقط نصلٌ لامعٌ من البرق، وكأنه سهمٌ انطلق من قوسٍ في علياء السماء، ليستقر على ذلك الكتاب بالتحديد، لتصبح الحروف المنقوشة على غلافه وكأنها حروفٍ من نور انعكست في عيني ذلك الشاب، فلقد ظهر للشاب الفقير أن اسم ذلك الكتاب هو "إظهار الحق"! وهو نفسه الكتاب الذي سيغير من حياته رأسًا على عقب بعد قراءته، ليتحول بعدها ذلك الشاب المسكين المعدم الذي لا يملك قوت يومه، إلى بطلٍ عظيمٍ من عظماء أمة الإسلام، يملأ عبقه الآفاق ذكرًا وشهرة، ليغير بعد ذلك مجرى التاريخ الإنساني إلى الأبد، فلقد كانت هذه الليلة العاصفة وتلك الغرفة المظلمة بداية الانطلاق لأسطورةٍ إسلاميةٍ حيةٍ اسمها: الشيخ أحمد ديدات! قبل ذلك بنحو قرنٍ ونصف من الزمان، وُلد مؤلف هذا الكتاب في الهند في غرة جمادى الأولى سنة 1233 هـ الموافق التاسع من مارس سنة 1818 م، وهو الشيخ (محمد رحمت اللَّه -بالتاء المفتوحة- ابن خليل الرحمن الكيرانوي العثماني الأموي الهندي ثم المكي)، ونسبه الأموي ينتهي إلى عثمان بن عفان -رضي اللَّه عنه- عند الجد الرابع

والثلاثين (وليت شعري أي شرفٍ تركتم لمن بعدكم يا بني أمية!). فبعد أن احتلت بريطانيا الهند، أيقن الإنجليز أنهم إذا تعرضوا لأية مشاكل في المستقبل فلن تأتي إلا من قبل المسلمين الهنود، لأن المسلمين هم وحدهم الذين لا يسكتون على ضيم، بعكس الهندوس، فإنهم مستسلمون ولا خوف منهم. وعلى هذا الأساس خطط الإنجليز لتنصير المسلمين للبقاء في الهند لألف عام، وبدؤوا فعلًا في استقدام موجات المنصرين إلى الهند، هدفهم الأول في ذلك هو تنصير المسلمين الهنود بالتحديد، مستعينين بذلك بقسيسٍ فصيح اللسان اسمه (الأب فندر)، فكان هذا القس يتحرش بالمسلمين في الغداة والعشي يريد تنصير المسلمين بأي شكلٍ من الأشكال، فأخذ يكيل الاتهامات وينشر الشبهات في صفوف المسلمين، والمسلمون عاجزون عن الرد إما خوفًا من بطش الجنود الإنجليز أو جهلًا باللغة الإنجليزية، حتى ظهر هذا الصقر الأموي من على قمم الهملايا، فطلب مناظرة القس فندر علانية أمام الملأ، فتجمع عشرات الآلاف من الهنود المسلمين والهندوس في الساحة الرئيسية للعاصمة الهندية دهلي (دلهي) في أكبر مناظرة دينية عرفتها الهند، فظن القس النصراني أن الفرصة صارت مواتية له لتنصير عشرات الآلاف من المسلمين دفعة واحدة، فبدأ فندر المناظرة بكيل سيل من الاتهامات في شرف النبي وسمعته، ولما انتهى من كلامه تقدم الشيخ رحمت اللَّه العثماني الأموي أمام الملأ ليفند تلك الاتهامات واحدة بعد الأخرى، حتى إذا ما انتهى من تفنيدها بدأ مرحلة الهجوم الكاسح على القس، ليقرأ له من كتابه المقدس ما يثبت نبوة محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- وبطلان ألوهية عيسى، لتعلوا صيحات اللَّه أكبر من عشرات الآلاف من الجمهور، والشيخ رحمت اللَّه يقرأ أسفار الكتاب المقدس سفرًا سفرًا لمدة ساعات من دون أن يتلعثم ولو في كلمة واحدة، حتى إذا ما فرغ من كلامه، تقدم مئات الهندوس من المستمعين ليعلنوا إسلامهم أمام القس الذي ولّى القهقرة، لينتصر رحمت اللَّه الأموي في مناظرته الشهيرة، وتنتشر أخبار هذه المناظرة في أرجاء الهند من دكا إلى كراتشي تحت اسم "المناظرة الكبرى"، قبل أن يُجبر الشيخ البطل رحمت اللَّه الأموي إلى الهروب متخفيًا إلى مكة بعد أن صار المطلوب رقم واحد للإمبراطورية البريطانية، فرصد الإنجليز ألف روبية لاعتقاله (مبلغ ضخم وقتها)، وهناك في مكة استقبله المسلمون أيّما استقبال بعد أن

طارت أخبار المناظرة الكبرى إليهم، ليطلبه الخليفة العثماني (عبد العزيز خان) رحمه اللَّه شخصيًا لمقابلته في "إسطانبول" وذلك بعد أن وصلت أخبار المناظرة الكبرى إلى الباب العالي في عاصمة الخلافة، ليقابل رحمت اللَّه الأموي خليفة المسلمين هناك، ويقص عليه قصة المناظرة الكبرى، ليفرح به الخليفة ويطلب منه أن يدون أحداث تلك المناظرة الكبرى في كتاب بتمويل من الخليفة نفسه حتى يستفيد منه المسلمون في سائر أرجاء الخلافة الإسلامية، وفي كل الأزمنة، ليدون الشيخ محمد رحمت اللَّه الكيرانوي العثماني الأموي الهندي ثم المكي هذه الأحداث في كتابٍ أسماه "إظهار الحق"، ليشاء اللَّه لبطلنا أحمد ديدات أن يجد نسخة نادرة منه بعد ذلك بمائة عام، ليكون هذا الكتاب العظيم أحد أسباب فتح آفاق الشيخ ديدات للرد على شبهات النصارى، وبداية لمنهج حواري علمي مع أهل الكتاب، وتأصيل ذلك تأصيلًا شرعيًا يوافق المنهج القرآني في دعوة أهل الكتاب بالتي هي أحسن إلى الحوار وطلب البرهان والحجة من كتبهم المحرفة، ليتحول ديدات من خلاله إلى المناظر الأول للنصارى في تاريخ أمة محمد عبر جميع مراحل التاريخ الإسلامي! وقد يعجب البعض حين يعلم أن النصارى أنفسهم هم الذين صنعوا هذا العملاق الإسلامي! فقد كان الشيخ أحمد ديدات مجرد صبي فقير لا يعرف في الإسلام غير "الشهادة" على حد قوله، ففي أربعينات القرن الماضي كان المنصرون في مدينة "ديربن" في جنوب أفريقيا يمرون عليه في دكان الملح الذي كان يعمل به ليوجّهوا له أسألة استفزازية من قبيل: "يا هذا. . . هل تعلم أن نبيك محمد سرق قرآنه من التوراة والإنجيل؟ يا هذا. . . هل تعلم أن نبيك محمد كانت له نساء كثيرات؟ هل تعلم أن نبيك نشر دينه بحد السيف؟ " والحقيقة أن أحمد ديدات لم يكن يعرف ماذا يريد أولئك المنصرون بالضبط، فهو بالكاد يعرف أن اسم نبيه هو محمد، فضلًا من أن يعرف عدد زوجاته! ولكن ذلك الصبي الفقير لم يكن يحتاج إلى كثيرٍ من الذكاء ليستنتج أن هناك نبرة استهزاء وعنصرية في كلام أولئك المنصرين، ففهم أن سبب عجزه عن الإجابة ينبع من جهله، فقام بتنفيذ أول أمرٍ إلهي للمسلمين "اقرأ"!، فقد أدرك هذه الصبي الجنوب أفريقي الذي هاجر مع أبيه إلى الهند بعد أن ماتت أمه أنه بالقراءة فقط يمكن له أن يصبح

قويًا، فصار يقرأ كلَّ شيء يجده أمامة، فلا يترك صحيفة ملقاة، أو كتابٍ مهمل، أو إعلانٍ دعائي إلا وقرأه، ثم اتجه إلى مكتبة المدينة، فصار يقرأ فيها كل شيء، يلتهم الكتب التهامًا، يقرأ عن أشياءٍ يعرف معناها وأشياءٍ لم يسمع بها البتة، فقرأ في التاريخ والأدب والفيزياء والهندسة واللغات وكل ما يخطر على بال إنسان، ثم قرأ عن المسيحية: كتبها - تاريخها - فلسفتها - تفاسيرها، كل شيء من دون استثناء، حتى جاء وقت على الشاب أحمد ديدات لم يجد به كتابًا يقرأه في مكتبة ديربن بعد أن قرأ كل الكتب والمجلات والوثائق الموجودة في المكتبة! فأصبح ذلك الشاب القارئ يمتلك حصيلة لغوية وموسوعة معرفية واضطلاع ثقافي واسع، وعندما انتهى الشاب أحمد ديدات من مرحلة بناء الشخصية، بدأ ديدات مرحلة الهجوم المضاد، فصار ينتظر أولئك المنصرين انتظارًا في دكان الملح الذي كان يعمل به أجيرًا، ليرد على أسألتهم، فيفحمهم بإجاباته، ثم يلقي الكرة في ملعبهم، مستعينًا بما يحفظه من كتبهم، فقد حفظ الشيخ الأناجيل الأربعة "لوقا - يوحنا - مرقص - متّى" عن ظهر قلب، بعد أن حفظ القرآن بأرقام آياته وسوره، ليتحول هذا الشاب الفقير بفضل أولئك الحمقى إلى ماردٍ إسلامي ضخم، فامتنع القساوسة من المجيئ للدكان بعدما رأوا ما رأوه منه. المضحك في القصة، أن أحمد ديدات صار ينتظر يوم عطلته الإسبوعية انتظارًا ليتوجه بنفسه إلى كنائسهم يبحث عنهم ليناظرهم! وبعد أن عثر شيخنا على كتاب "إظهار الحق" للعلامة (رحمت اللَّه الأموي) في القصة التي ذكرناها سابقًا، أصبح الشيخ أحمد ديدات أهم مناظر إسلامي على وجه الكرة الأرضية، ليجوب القارات الخمس مناظرًا للنصارى وداعية للإسلام، عندها قرر المنصرون أن يرموه بأعظم منصر في العالم، وهو المنصر الأمريكي (جيمي سويغارت)، فاستخدم ذلك المنصر الخدعة المستهلكة في الطعن في شرف النبي، فناظره الشيخ أحمد ديدات في عقر داره في "الولايات المتحدة"، ليقضي عليه بالضربة القاضية وينتصر عليه في المناظرة. (قبض على سويغارت عام 1988 وهو يمارس الجنس مع مومس محترفة في سيارته!)، ليحاول عبّاد الصليب محاولة أخيرة مع الشيخ ديدات، فبعثوا إليه بأكبر منصر عربي، هو المنصر الفلسطيني الصهيوني (أنيس شروش)، فلقنه بطلنا درسًا في فنون اللغة العربية وانتصر عليه. (قبض على شروش عام 2008 في ولاية ألاباما الأمريكية وهو

يحاول حرق وثائق تثبت اختلاسه لأموال الكنيسة متخفيًا بزي عربي لإيهام السلطات بأن الفاعل إرهابي عربي مسلم قبل أن يُكتشف أمره ويوضع في غياهب السجون مع المجرمين من أمثاله). فقام الشيخ الجليل بتسجيل هذه المناظرات وغيرها على أشرطة فيديو، لتنتشر هذه الأشرطة في العلام الإسلامي من أندونيسيا إلى السنغال. وفي إبريل عام 1996 أصيب الشيخ ديدات بجلطة في الدماغ، فنصحه الأطباء بالراحة، إلا أن ذلك الأسد المخضرم رفض الاستماع لنصائح الأطباء، فسافر إلى أستراليا لعرض الإسلام على الشعب الأسترالي، فتحدى هناك عددًا من المنصرين الأستراليين الذين أساءوا للإسلام، وكان لا يناظر ولا يبادر إلا المنصرين الذين يتعدون على الإسلام، فيستدعيهم الشيخ للمناظرات ويرد عليهم بالحجة والبرهان، وعلى الرغم من مرضه وكبر سنه الذي قارب من الثمانين، طاف الشيخ ديدات ولايات أستراليا محاضرًا ومناظرًا ومدافعًا عن دين محمد بن عبد اللَّه عليه الصلاة والسلام، غير آبهٍ بنصائح الأطباء، حتى وقع الشيخ أرضًا من شدة الإرهاق والتعب، فأصيب بجلطة في الدماغ، فأصبح داعيتنا البطل طريح الفراش لا يستطيع أن يحرك إلا عينيه، ولكنه رغم ذلك لم ييأس، فقد استخدم لوحة ضوئية يختار منها بعينيه حروف الكلمات التي يريد التعبير بها، ليستمر هذا الأسد الإسلامي في مسيرة العلم التي بدأها صغيرًا يوم كان يعمل في دكان الملح، ويوم كان يذهب خلسة إلى مكتبة ديربن، ويبقى على تلك الحالة الثابتة مدة تسع سنوات يعلم تلاميذه بنظرات عينيه. وفي صباح يوم الاثنين الثامن من أغسطس 2005 م الموافق الثالث من رجب 1426 هـ فقدت الأمة الإسلامية الداعية الإسلامي الكبير، أسد جنوب أفريقيا الإسلامي، الشيخ المجاهد أحمد ديدات، فعليه من اللَّه جزيل الرحمات، وواسع المغفرة والكرامات. ولكن لماذا يحمل الصليبيون كل هذا الحقد على الإسلام؟ ومتى بدأ الصراع الإسلامي الصليبي؟ وما هي قصة "تبوك"؟ وما حكاية "المُخلّفين الثلاثة"؟ ولماذا خلّدهم اللَّه في قرآنٍ يُتلى إلى يوم القيامة؟ يتبع. . . . . .

93 - (المخلفون الثلاثة)

{وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} (المخلَّفون الثلاثة) " ولبثت بعد ذلك عشر ليالٍ حتى كملت لنا خمسون ليلة من حين نهى رسول اللَّه عن كلامنا، فلما صليت صلاة الفجر صبح خمسين ليلة على سطح بيت من بيوتنا بينا أنا جالس على الحال التي ذكر اللَّه تعالى، قد ضاقت عليَّ نفسي، وضاقت عليَّ الأرض بما رحبت، سمعت صوت صارخ أوفى من جبل سلع بأعلى صوته، يا كعب بن مالك: أبشر! فخررت ساجدًا" (كعب بن مالك) تطرق هذا الكتاب إلى قصة التتار، وفصّل بشكلٍ مطول -نوعًا ما- تاريخَ الأندلس، وشرح قصةَ الفتنة من أول شرارة لها، وكشف الغطاء عن قصة الإسلام الخفية في أمريكا، وقتل موضوع الشيعة الرافضة وخياناتهم من الهند إلى الأندلس بحثًا وتحذيرًا، وحاول بشكلٍ أو بآخر أن يعطي القارئ الكريم فكرة عن دولِ الإسلام المختلفة، من بداية الخلافة الراشدة، وحتى الخلافة العثمانية، مرورًا بالخلافتين الأموية والعباسية، ولكني أعتقد أن أهم قصة وردت في هذا الكتاب هي قصة الإسلام نفسه! والحقيقة أنني أرى أن كثيرًا من أساتذتي المختصين في مجال التاريخ الإسلامي يفوتهم شيءٌ مهمٌ للغاية، فالكثير منهم يعتقد أن تاريخ الإسلام يبدأ مع نزول الروح الأمين جبريل عليه السلام، على الصادق الأمين محمد عليه الصلاة والسلام، وثلة قليلة منهم تبدأ حديثها عن الإسلام من عام الفيل! والحقيقة أن أيًا من الفريقين جزاهمهما اللَّه خيرًا لم يُصب كبد الحقيقة في اجتهاده. فحصر قصة الإسلام لتُبدأ من بداية البعثة النبوية شيءٌ لا يستقيم أبدًا، فتاريخ الإسلام قديم قديم، بقِدم ظهور الإنسان نفسه، فالإسلام كشريعة (مثل الحج مثلًا) بدأ فعلًا مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولكن الإسلام كعقيدة (توحيد اللَّه) سبق ظهور رسول اللَّه نفسه، فلقد رأينا أن هناك من العرب من كانوا مسلمين قبل البعثة النبوية، ورأينا بعض النصارى المسلمين (الآريسيين)، ورأينا زوجة فرعون المسلمة،

وأصحاب الكهف المسلمين، ومؤمني ثمود، وغيرهم الكثيرين من المسلمين الموحدين، فالإسلام هو تاريخُ الإنسانية، وليس تاريخًا في الإنسانية! وفي ضوء هذا المفهوم الأوسع للإسلام، يصبح من الخطأ بمكان أن نؤرخ لبداية الحروب الصليبية من الـ 27 من نوفمبر سنة 1095 م يوم انعقاد مؤتمر "كليرمونت"، فالبداية الحقيقية للحروب الصليبية بدأت في يوم الـ 20 من مايو سنة 325 م! وهو اليوم الذي تم فيه عقد مؤتمر "نيقية" الذي أعلن فيه الصليبيون الحرب على المسلمين الموحدين بقيادة القس البطل (آريوس) الذي رفض قرارات المؤتمر! أما بالنسبة للمسلمين من أمة محمد، فقد بدأت الحرب الصليبية فعليًا من العام السابع للهجرة، وبالتحديد مع رسالة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى هرقل، والمفارقة أن أول شهداء الحروب الصليبية في تاريخ أمة محمد كان كبير أساقفة الإمبراطورية الرومانية (صغاطر) رحمه اللَّه تعالى الذي قتله الصليبيون فورَ إسلامه! ثم رأينا كيف دعا رسول الرحمة النصارى بالحسنى والطرق السلمية إلى الإسلام، ليقابله النصارى بقتل رسوله، قبل أن يغدر جيشٌ مكونٌ من 200000 مقاتل نصراني بسرية إسلامية صغيرة مكونة من 3000 مجاهد لم يذهبوا في الأساس لقتال الرومان. ورأينا كيف استشهد "الفرسان الثلاثة" في ملحمة بطولية نادرة لا تتكرر في التاريخ! وللقصة بقية. . . . فلقد قرر رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- منذ تلك اللحظة إعلان حالة الحرب الشاملة على الإمبراطورية الرومانية التي غدرت بالمسلمين، والسائل يتساءل هنا: هل أعلن الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- الحرب على أكبر إمبراطورية موجودة في العالم آنذاك من أجل 12 صحابيًا فقط كانوا قد سقطوا في مؤتة؟ الإجابة: نعم! فأولئك الشهداء لم يكونوا جنودًا يُربطون بالسلاسل كجنود الفرس، ولم يكونوا عبيدًا ملزمين بالتجنيد الإجباري كجنود الروم، بل كانوا محمد بن عبد اللَّه أعظم إنسانٍ خلقه اللَّه في الكون بأسره، فرسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- هو أكثر إنسان في الدنيا يقدر معنى الوفاء للصاحب، والصحابة رضوان اللَّه عليهم هم خير البشر بعد الأنبياء منذ بدء الخلق وإلا يوم القيامة، لذلك أعلن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- الحرب على أكبر إمبراطورية في الدنيا من أجل 12 صحابيًا فقط! وواللَّه ما أعلنت الحرب على علماء الشيعة الرافضة في هذا الكتاب إلى حبًا بمحمدٍ واقتداءً به، فالعيب

كل العيب أن ندفن رؤوسنا في الرمال ومائة ألفٍ من أصحاب محمدٍ يُلعنون من شذّاذ الآفاق في فارس وأتباعهم، فواللَّه لن أكفنَّ عنهم إلا إذا كفّوا عن لعن أصحاب نبيّنا، فإن كفوّا نكف. . . . . وإلا فلا كرامة! وبالفعل. . . . حرَّك رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- جيشًا مكونًا من 30000 مجاهدٍ هو أكبر جيشٌ جمعته العرب في تاريخها، فتوجه به نحو "تبوك" لملاقاة الروم، فكانت المفاجأة. . . . لقد هرب الروم!!! فظل الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- في تبوك لثلاثة أيامٍ معسكرًا ليثبت للروم أنه ينتظرهم بدون أي خوف، ولكن أحدًا منهم لم يظهر، لينتصر المسلمون في معركة تبوك الخالدة بدون قتال! وليتحملني القارئ الكريم هذه المرة أيضًا، فقد شارف الكتاب على الانتهاء، وعندها سيرتاح القارئ من الكاتب ووقفاته المتكررة، فهناك ملاحظة مهمة لا يجب أن تفوت علينا: فلماذا شارك الإمبراطور الروماني بنفسه مع ما يقرب من ربع مليون مقاتل في قتال سرية صغيرة من ثلاثة آلاف مسلم، في الوقت الذي يمتنع فيه عن قتال رسول الإسلام نفسه الذي جاءه بقدميه؟ بل حتى تجنب إرسال كتيبة لقتالهم؟! الحقيقة أن الجواب ينقسم إلى شقين اثنين: (الأول) الرعب الذي ملأ قلب الرومان بعد رؤيتهم لبسالة جيش مؤتة والفرسان الثلاثة، فلقد انتصر ثلاثة آلاف مسلم فقط على ما يقرب من ربع مليون نصراني في مؤتة، فما بالك بجيش تبوك الذي كان عشرة أضعاف جيش مؤتة؟!! (ثانيًا): رأينا من القصة التي رواها الصحابي الجليل أبو سفيان بن حرب والتي أخرجها البخاري في صحيحه، أن هرقل كان مؤمنًا تمام الإيمان بنبوة رسول اللَّه، إلا أنه ضنَّ بملكه، ففضل الدنيا على الآخرة، فلما علم القيصر أن رسول اللَّه جاء بنفسه على رأس جيشٍ لقتاله، ولّى القهقرة، ولم يعقب! والآن لنبقى مع قصة المخلفين الثلاثة، فمتى ذكِرت غزوة تبوك ذكِر معها ذلكم الحدث العظيم، الذي عاشته المدينة وتقلبت مع أحداثه خمسين ليلة، إنه خبر الثلاثة الذين خلفوا: (كعب بن مالك ومرارة ابن الربيع وهلال بن أمية)، وهؤلاء الثلاثة كانوا الوحيدين من بين المؤمنين الذين تخلفوا عن الجيش، لا عن نفاق أو جبن، بل بسبب التسويف، ولنترك الحديث للشاعر كعب بن مالك ليروي لنا فصول تِلكم الواقعة:

"قد جمعت راحلتين، وأنا أقدر شيء في نفسي على الجهاد، وأنا في ذلك أصغي إلى الظلال، وطيب الثمار، فلم أزل كذلك حتى قام رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- غاديًا بالغداة، فقلت: أنطلق غدا إلى السوق فأشتري جهازي ثم ألحق بهم، فانطلقت إلى السوق من الغد، فعسر علي بعض شأني، فرجعت فقلت: أرجع غدًا إن شاء اللَّه فألحق بهم، فعسر عليَّ بعض شأني أيضًا، فقلت: أرجع غدًا إن شاء اللَّه، فلم أزل كذلك، حتى مضت الأيام، وتخلفت عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فجعلت أمشي في الأسواق وأطوف بالمدينة، فلا أرى إلا رجلًا مغموصًا عليه في النفاق، أو رجلًا قد عذره اللَّه، فلما قضى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- غزوة تبوك، وأقبل راجعًا إلى المدينة، جعلت أتذكر بماذا أخرج به من سخطه، وأستعين على ذلك بكل ذي رأي من أهلي، حتى إذا وصل المدينة، عرفتُ أني لا أنجو إلا بالصدق، وكان من عادته إذا جاء من سفر أو غزاة أن يبدأ بالمسجد، فيصلي ركعتين ثم يجلس للناس. فجاءه المخلفون (المنافقون)، فطفقوا يعتذرون إليه، ويحلفون له، هذا يشكي مرضه، وذاك قلة ذات اليد عنده، وآخر نساءه وعوراته، كانوا بضعة وثمانين رجلًا، فقبل منهم علانيتهم، وبايعهم واستغفر لهم، ووكل سرائرهم إلى اللَّه، فجئت إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فسلمت عليه، فتبسم تبسّم المغضب، ثم قال لي: تعال، فجئت أمشي حتى جلست بين يديه، فقال لي: ما خلفك، ألم تكن قد ابتعت ظهرك؟ فقلت: بلى، إني واللَّه لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا، لرأيت أن أخرج من سخطه بعذر، ولقد أعطيت جدلًا، ولكني واللَّه لقد علمت أن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عليَّ، ليوشكن اللَّه أن يسخطك عليَّ، ولئن حدثتك حديث صدق تجد علي فيه، إني لأرجو فيه عفو اللَّه عني، واللَّه ما كان لي من عذر، واللَّه ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك، فقال رسول اللَّه: أما هذا فقد صدق، فقم حتى يقضي اللَّه فيك، فقمت، وثار رجال من بني سلمة، فاتبعوني يؤنبوني فقالوا لي: واللَّه ما علمناك كنت أذنبت ذنبًا قبل هذا، ولقد عجزت ألا تكون اعتذرت إلى رسول اللَّه بما اعتذر إليه المخلفون فقد كان كافيك ذنبك واستغفار رسول اللَّه لك، قلت: فواللَّه ما زالوا يؤنبوني حتى أردت أن أرجع فأكذب نفسي، ثم قلت: هل لقي هذا معي أحد؟ قالوا نعم، رجلان قالا مثل ما قلت، فقيل لهما مثل ما قيل لك، فقلت: من هما؟ قالوا: مرارة بن الربيع العامري، وهلال بن أمية الواقفي، فذكروا لي رجلين صالحين شهدا بدرًا فيهما

أسوة، فمضيت حين ذكروهما لي فاجتنبنا الناس وتغيروا لنا، حتى تنكرت لي الأرض، فما هي بالتي أعرف، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة، فأما صاحباي، فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأما أنا فكنت أشبَّ القوم وأجلدَهم فكنت أخرج، فأشهد الصلاة مع المسلمين، وأطوف في الأسواق، ولا يكلمني أحد، وأتي رسول اللَّه، فأسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة، فأقول في نفسي: هل حرّك شفتيه بود السلام عليَّ أم لا؟ ثم أصلي قريبًا منه، فأسارقه النظر، فإذا أقبلت على صلاتي، أقبل إليَّ وإذا التفت نحوه، أعرض عني، حتى إذا طال عليَّ ذلك في جفوة المسلمين، مشيت حتى جدار حائط أبي قتادة، وهو ابن عمي، وأحبُّ الناس إليَّ فسلمت عليه، فواللَّه ما رد عليَّ السلام، فقلت: يا أبا قتادة، أنشدك اللَّه، هل تعلمني أحُب اللَّه ورسوله فسكت، فعدت، فناشدته، فسكت، فعدت فناشدته فقال: اللَّه ورسوله أعلم! ففاضت عيناي، وتوليت حتى تسورت الجدار، فبينا أنا أمشي بسوق المدينة، إذا نبطي من أنباط الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة يقول: من يدل على كعب بن مالك، فطفق الناس يشيرون له حتى إذا جاءني، دفع إليَّ كتابًا من ملك غسان (النصراني)، فإذا فيه: أما بعد: فإنه بلغني أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك اللَّه بدار هوان ولا مضيعة، فالحق بنا نواسك! (عرض للخيانة!) قال كعب: وهذا أيضًا من البلاء فتيممت التنور فسجرتها، (أي أحرقتها). حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين إذا رسول رسول اللَّه يأتيني فقال: إن رسول اللَّه يأمرك أن تعتزل امرأتك، فقلت: أطلقها؟ قال: لا، ولكن اعتزلها ولا تقربها، وأرسل إلي صاحبي مثل ذلك فقلت لامرأتي: الحقي بأهلك، فكوني عندهم حتى يقضي اللَّه في هذا الأمر، فجاءت امرأة هلال بن أمية فقالت: يا رسول اللَّه إن هلال بن أمية شيخ ضائع ليس له خادم، فهل تكره أن أخدمه قال: لا، ولكن لا يقربك، قالت: إنه واللَّه ما به حركة إلى شيء، واللَّه ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا، قال كعب فقال لي بعض أهلي: لو استأذنت رسول اللَّه في امرأتك كما أذن لامرأة هلال بن أمية أن تخدمه، فقلت: واللَّه لا أستأذن فيها رسول اللَّه وما يدريني ما يقول رسول اللَّه إذا استأذنته فيها، وأنا رجل شاب. ولبثت بعد ذلك عشر ليالٍ حتى كملت لنا خمسون ليلة من حين نهى رسول اللَّه عن كلامنا، فلما صليت صلاة الفجر صبح خمسين ليلة على سطح بيت من بيوتنا بينا أنا جالس على الحال التي ذكر اللَّه تعالى (في الآية

القرآنية التي تصف حالهم)، قد ضاقت عليَّ نفسي، وضاقت عليَّ الأرض بما رحبت، سمعت صوت صارخ أوفى من جبل سلع بأعلى صوته، يا كعب ابن مالك: أبشر، فخررت ساجدًا فعرفت أن قد جاء فرج من اللَّه، وآذن رسول اللَّه بتوبة اللَّه علينا حين صلى الفجر فذهب الناس يبشروننا، وذهب قبل صاحبي مبشرون فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبيَّ فكسوته إياهما ببشراه، واللَّه ما أملك غيرهما! واستعرت ثوبين، فلبستهما، فانطلقت إلى رسول اللَّه فتلقاني الناس فوجًا فوجًا يهنئونني بالتوبة يقولون: ليهنك توبة اللَّه عليك، حتى دخلت المسجد، فإذا رسول اللَّه جالس حوله الناس، فقام إليَّ طلحة بين عبيد اللَّه يهرول حتى صافحني وهنأني، ولست أنساها لطلحة، فلما سلمت على رسول اللَّه قال: وهو يبرق وجهه من السرور: أبشر بخير يومٍ مر عليك منذ ولدتك أمك، قلت: أمن عندك يا رسول اللَّه أم من عند اللَّه؟ قال: لا بل من عند اللَّه، وكان رسول اللَّه إذا سُر استنار وجهه حتى كأنه قطعة قمر، وكنا نعرف ذلك منه فلما جلست بين يديه قلت: يا رسول اللَّه، إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى اللَّه، وإلى رسوله فقال: أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك. قلت: فإني أمسك سهمي الذي بخيبر، فقلت: يا رسول اللَّه، إن اللَّه إنما نجاني بالصدق، وإن من توبتي ألا أحدث إلا صدقًا ما بقيت". وقد خلّد اللَّه قصة هؤلاء المخلفين الثلاثة، الذين علّموا الدنيا معنى التوبة الحقيقية في قرآنٍ تُتلى آياته إلى يوم القيامة بقوله عز من قائل: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117) وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)} [التوبة: 117 - 119]. غزوة تبوك. . . . . كان من أبطالها عملاقٌ عظيم من عمالقة الإسلام، هذا العملاق دفع نصف أملاكه دفعة واحدة لتجهيز الجيش الإسلامي المتجه إلى تبوك! فمن يكون الصحابي الجليل الذي أسس علم الاقتصاد الإسلامي؟ يتبع. . . .

94 - مؤسس علم الاقتصاد الإسلامي (عبد الرحمن بن عوف)

" مؤسس علم الاقتصاد الإسلامي" (عبد الرحمن بن عوف) " دلَّني على السوق! " (عبد الرحمن بن عوف) الإسلام ليس دين الفقراء كما يظن البعض، وليس دين الأغنياء كما يتمنى البعض الآخر، الإسلام هو دين المسلمين! دين الفقراء والأغنياء على حدٍ سواء، فليس صحيحًا أنه ينبغي عليك أن تكون معُدمًا كي تكون تقيًا مؤمنًا، وليس صحيحًا أن الغنى هو المرادف للتسلط والجبروت، فالخطأ الكبير الذي يقع به بعض المسلمين أنهم يظنون أن الإسلام الصحيح هو في ترك الدنيا والانعزال عن العالم الخارجي والتفرغ للدروشة، فما هكذا كان أصحاب محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-، وما هكذا كان السلف الصالح الذي فتح الدنيا، فقد كانوا رحمهم اللَّه يزاولون حياتهم بشكلٍ طبيعي، فالإسلام يحتاج للغني كما يحتاج للفقير، فمن الذي قال أنه هذه الأمة هي أمة الفقراء؟ فأمة الإسلام على أيدي رجالٍ أثرياء مثل أبي بكر وعثمان وعبد الرحمن، فاللَّه سبحانه وتعالى هو الذي سخر لهذه الأمة تجّارًا يحملونها على أيديهم، فلولا ثراء أبي بكر لبقي بلالٌ يُعذب تحت حجارة مكة، ولولا ثراء عثمان لبقي الصحابة عَطاشى ينتظرون شربة ماء من اليهودي الذي كان يملك بئر رومة، ولولا ثراء ابن باديس لما صنع جيلًا حرر به الجزائر، فواللَّه لن تقوم هذه الأمة بدون أغنيائها أبدًا، فالأمة تحتاج إلى رجال أعمالٍ أثرياءٍ ينفقون على الدعوة ويحملون همّ قيام هذه الأمة من جديد، فالمال قوة، والقوة هي ما نحتاج في هذه المرحلة الحساسة! وقبل أن نخوض في قصة هذا الصحابي العظيم، أرى أن أذكر قصة طريفة تسهِّل علينا فهم هذه العقلية الاقتصادية الإسلامية الجبارة، فقد رُوي في الأثر أن أحد التجار خرج في التجارة ليرجع من حيث أتى في اليوم التالي، فلما رجع إلى مدينته سأله صاحبه عن سر رجوعه بقافلته، فقال له: "يا أخي، لقد رأيت حمامة عرجاء عمياء في منتصف

الطريق، فقلت في نفسي: كيف لهذه الحمامة أن تعيش وهي في هذه الحالة، وبعد لحظات جاءت حمامة أخرى حاملة بعض الطعام إلى تلك الحمامة العمياء، فقلت: لا إله إلا اللَّه! إن الذي رزق هذه الحمامة العمياء في جوف الصحراء لقادرٌ أن يرزقني بدون أن ألهث وراء الدنيا، فما إن رأيت ذلك حتى قررت أن أرجع بتجارتي لأهلي وأولادي" فنظر إليه صاحبه ووضع يده على كتفه وقال له وهو يحاوره: "سبحان اللَّه يا أخي! لم ترضى على نفسك أن تكون حمامة عرجاء تنتظر طعامها من الغير، ولا ترضى أن تكون حمامة قوية تطعم غيرها من الحمام؟!! ". وعظيمنا الحالي هو أحد أغنى أغنياء المسلمين في التاريخ، وأحد العشرة المبشرين بالجنة، وأحد الخمسة العظماء الذين أسلموا على يد الصدّيق (جزاك اللَّه خيرًا يا أبا بكر!)، وأحد الستة أصحاب الشورى، وأحد البدريين، وأحد أصحاب بيعة الرضوان، صاحب الهجرتين، المصلي إلى القبلتين، إنه رمز العطاء، وقدوة الأغنياء، إنه الثري الذي كان يتصدق بلا خوف، إنه البطل العظيم عبد الرحمن بن عوف. وعبد الرحمن بن عوف رضي اللَّه عنه وأرضاه لم يكن غنيًا ومؤمنًا فحسب، بل كان عبد الرحمن ابن عوف وأبو بكر الصِّديق المخلوقين الوحيدين على وجه الكون الذين صلى خلفهما رسول العالمين محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- الذي صلى خلفه جميع الأنبياء والرسل في رحلة الإسراء الشهيرة! وعبد الرحمن بن عوف أراد أن يكون في خانة العطاء، لا في خانة الأخذ، فعندما هاجر بطلنا إلى المدينة، آخى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بينه وبين الصحابي الجليل (سعد بن الربيع)، وقد قدم عبد الرحمن بن عوف المدينة صفر اليدين كغيره من المهاجرين الأبطال الذين خلفوا منازلهم وأسواقهم وأموالهم خلف ظهورهم في مكة وتركوها لوجه اللَّه تعالى، فعرض عليه أخوه الأنصاري سعد بن الربيع -رضي اللَّه عنه- نصف ما يملك فاعتذر عبد الرحمن بعفاف النبلاء قائلًا: "بارك اللَّه في مالك وأهلك ولكن دلني على السوق" فانطلق -رضي اللَّه عنه- إلى سوق المدينة فباع واشترى، واشترى وباع وما هو إلا زمن قصير فإذا به يصبح من أرباب الملايين! يقول الإمام (ابن حجر العسقلاني): "خلّف عبد الرحمن بن عوف أربع زوجات فورثت كل واحدة 100000 دينار، ومعلوم إن الزوجات يشتركن في

الثمن، وبحسبة بسيطة يكون الثمن 400000، فتكون التركة الكاملة التي تركها لورثائه تساوي (8400000) × (3200000)، أي ثلاثة ملايين ومائتي ألف دينارٍ (ذهبي)! " هذا باستثناء الأموال التي كان ينفقها على المسلمين، والقوافل التي كان يوقفها في سبيل اللَّه، كل هذا لأنه لم ينتظر أن تأتيه "الوظيفة" كما يفعل خريجو جامعاتنا، فكلمة السر هي: "دلّوني على السوق! " ومع نهاية قصة هذا الصحابي الإسلامي العظيم، أكون قد انتهيت من ذكر قصص الصحابة في هذا الكتاب، بدأتها بقصة أول العشرة المبشرين بالجنة (أبو بكر الصديق) وانتهيت بقصة عاشر العشرة المبشرين بالجنة (عبد الرحمن بن عوف)، ذاكرًا قصص بعض الصحابة بينهما، فلو كان الأمر بيدي، لكتبت قصص أصحاب محمد الذين يزيدون عن المائة ألف، فكل واحدٍ فيهم لديه قصة عجيبة جعلت منه واحدًا من أعظم خلق اللَّه في الكون. فوداعًا أصحابَ محمد، والعفو والسماح إن كنت قد قصّرت في حقكم، فأنّى لإنسانٍ أن ينصف من مثلكم، فعظمتكم ناطحت علياء السماء، فتعدت النجوم والثريا، فواللَّه إني ما كتبت عن واحدٍ منكم إلا وعشت معه وكأني أراه أمامي، ولا أعرف إن كان لمثلي أن يتمنى أن يرزقه اللَّه رؤيتكم في حضرة نبيه يوم القيامة، ولكني أعلم أن اللَّه على كل شيء قدير. ومن عبد الرحمن إلى عبد العزيز، ومن صحاري الحجاز، إلى حدائق تونس الخضراء، نطير معًا برفقة نسرٍ إسلاميٍ عملاق، حلّق فوق قمم جبال الأطلس، يرفع بجناحيه راية الإسلام، لتعانق بذلك سُحب السماء! فمن هو ذلك القائد الإسلامي العظيم الذي لقن فرنسا درسًا في معنى النضال الإسلامي في تونس، ولقن الإنجليز درسًا آخرًا في معنى الحرية المحمدية في العراق؟ فتعالوا معًا لنسبر أغوار هذا النسر الإسلامي العملاق الذي رفع بجناحيه راية التحرير في تونس الخضراء، ليعلنها ثورة حتى النصر! يتبع. . . . .

95 - نسر تونس الخضراء (عبد العزيز الثعالبي)

" نسر تونس الخضراء" (عبد العزيز الثعالبي) " الثعالبي هو أعظم خطيب عربي عرفه هذا القرن" (الشاعر العراقي معروف الرصافي) "فلِيكن الهم الأول لكل مسلم فينا هو التفكير في كيفية استرجاع مجد هذه الأمة، ثم العمل على تحقيق ذلك بالفعل" (الثعالبي في مؤتمر القدس) من بين بنود نظرية "الغزو التاريخي" التي فصّلناها في بداية هذا الكتاب، بندٌ يُسمى بـ "قتل الشخصية"، هذا البند ينص على تحويل البطل أو الرمز إلى عدم، وفي أحسن الظروف إلى سراب! فيقوم بذلك غزاة التاريخ بعملية تشويهٍ منظّمة مستمرة، يتحول في نهايتها البطل إلى جبان، والمناضل إلى خائن، والعالم إلى مجنون، بحيث لا تكون الشخصية نفسها هي الهدف الرئيسي من هذه العملية الخبيثة، بل يكون فيها الهدف الأول والرئيسي هو: أنا وأنت! ليسقط بعد ذلك مفهوم القدوة في أعيننا، فلا نجد بطلًا تاريخيًا نستلهم منه سُبل النصر والتمكين، وبالتالي لا يكون أمامنا في نهاية بحثنا اليائس عن البطل المنشود إلّا أن نسلّم أننا أمة بلا تاريخ، وفي بعض الأحيان أمة بتاريخٍ قذر!!! فنصغر في أعيننا شيئًا فشيئًا، حتى نتلاشى تدريجيًا، فنتحول في نهاية المطاف. . . . . إلى ذكرى منسية في التاريخ! وبطلنا الإسلامي العظيم الذي نحن في صدد الحديث عنه يُمثل نوعًا خاصًا من تلك الفئة المنسية التي تم قتلها في التاريخ، فكم منّا سمع في حياته ولو لمرة واحدة عن هذا النسر التونسي الذي حلق عاليًا ليس فوق جبال الأطلس في تونس فحسب، بل فوق جبال الهملايا في الهند، وهضاب الأناضول في تركيا، وقمم الألب في فرنسا؟! وكأن سُحب السماء وقمم الجبال ما فتأت تعانق أجنحته، لتجعل منه بطلًا عظيمًا من عظماء أمة الإسلام المائة، فلِتخشع القلوب، ولتشخص الأبصار، ولتصمت الألسنة، فنحن في صدد

الحديث عن أسطورة نسرٍ إسلامي عملاق، انطلق من سماء تونس الصافية، ليخترق بجناحيه حاجز الزمان والمكان، إننا نتكلم عن سيرة رجلٍ من أعظم العظماء، وأفصح الخطباء، وأنبل الشرفاء، إنه زعيم تونس الخضراء: القائد البطل عبد العزيز الثعالبي. ليس عندي مثقال ذرة من خردل من شكٍ أنه لو كان في زماننا عشرة فقط من نفس طينة هذا القائد العظيم، لتغير وضع المسلمين رأسًا على عقب! فالثعالبي كان رجلًا بأمة، حمل على عاتقه مسؤولية إعادة مجد الإسلام، من دون أن ينتظر مساعدة من أي إنسان، فلقد كان الثعالبي يسافر بين قفار الأرض وبحارها وكأنه أحد الرَّعين الأول من الصحابة البواسل الذين طافوا فيافي الأرض نشرًا لدعوة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فهيا بنا لنسبر معًا أغوار هذه الأسطورة الإسلامية الحية. . . . . والبداية تبدأ في يومٍ من أيام سنة 1881 م، حينها افتقدت إحدى الأمهات التونسيات طفلَها الصغير، فأخذت تفتش عليه في شوارع مدينة "تونس" العاصمة، حتى وجدته جالسًا لوحده على الرمال الناعمة لشواطئ تونس، فما إن رأت تلك المرأة الصالحة طفلها الذي لم يتجاوز السابعة من عمره حتى هرعت إليه لتضمه إلى صدرها بلهفة الأم، ولكنها تعجبت من دموعه الغزيرة التي تبلل قسمات وجهه الصغير! عندها ظنت الأم أن أحدًا من الأطفال قام بضرب صغيرها، فسألته عن سر بكائه، فنظر الطفل الصغير إلى أمه والدموع تتساقط من عينيه ليقول لها بصوتٍ ملائكي: "يا أمي. . . لم يضربني أحد، ولكن ألا ترين الفرنسيين يدخلون إلى بلادنا؟! إنهم يحتلون تونس. . . . ولن يرحلوا عنها إلا إذا حاربناهم! ". كانت هذه اللحظة الإنسانية الفارقة في حياة هذه الطفل ذي السبع سنوات، هي لحظة ميلاد جديدة لأسطورة القائد المجاهد عبد العزيز الثعالبي، فمنذ ذلك الموقف الذي مر به في طفولته، حمل عبد العزيز همَّ تحرير تونس من الفرنسيين، ليتحول هذا الطفل الشجاع إلى شابٍ مناضل حمل راية الكفاح في بلاده ضد جنرالات فرنسا، والذين احتلوا تونس بنفس الحجة المستهلكة التي يستخدمها الغزاة في كل زمان: "نشر الحضارة والقضاء على الرجعية! " ولكن الشيء الذي لا يعرفه الكثيرون منا أن تونس في ذلك الوقت كانت بلادًا مزدهرة علميًا وحضاريًا، فقد كانت تونس في ذلك الوقت قد خطت خطوات ثابتة إلى الحضارة والعمران على يد (خير الدين التونسي) و (الشيخ محمود قابادو) وآخرين. لكن ذلك لم يدم إذ سرعان ما سقطت البلاد في

قبضة الفرنسيين سنة 1881 م إثر مناوشات قبلية حدودية بين تونس والجزائر اتخذتها فرنسا ذريعة لاحتلال تونس ومن ثم إعلان الحماية عليها في الثاني عشر من مايو سنة 1882 م، وعلى إثر ذلك عينت فرنسا فرنسيًا مستعربًا يدعي (لويس ماشويل) رئيسًا لإدارة المعارف وأطلقت يده في البلد فاستولى على كل ما له علاقة بالتعليم والثقافة، ليغير نظام التعليم الإسلامي في "الجامعة الزيتونية"، ويضع قوانين تقدم الفرنسية على العربية في مناهج التدريس، فأوقف بذلك النهضة العلمية في الزيتونة التي كانت قد جمعت آنذاك بين العلوم الشرعية والعصرية. ثم قامت فرنسا بتقييد الحريات المدنية للتونسيين، وحولت الإدارة إلى النظم الفرنسية وجعلت اللغة الفرنسية هي اللغة الرسمية في البلاد، وأهملت المؤسسات التي خطت خطوات متقدمة في الطريق إلى الحضارة والعمران كـ "الزيتونة" و"مدرسة باردو الحربية" التي جمعت بين العلوم العسكرية والهندسية والرياضية، وكان غياب (خير الدين التونسي) عن تونس مؤثرًا في الروح المعنوية لأهلها، فقد استقال من الوزارة قبل الاحتلال الفرنسي لتونس وصار صدرًا أعظم -رئيسًا للوزراء- في الدولة العثمانية وبقي عندها برز إلى الساحة (الشيخ سالم بوحاجب) و (البشير بن مصطفى صفر) فأسسا معًا جمعية سموها "الحاضرة" وأصدروا جريدة أسبوعية لها الاسم نفسه، ومن ثم أسَّسا "المدرسة الخلدونية" سنة 1896 م. وفي تلك المدة برز الشيخ (عبد العزيز الثعالبي) الذي ولد سنة 1293 هـ، 1874 م في تونس، وهو من أصول جزائرية، فاهتم به جده المجاهد (عبد الرحمن الثعالبي) الذي قاوم الفرنسيين في الجزائر، فقام على تعليمه وتحفيظه القرآن ومبادئ النحو والعقيدة. ولما تألف في تونس "الحزب الوطني" الذي كان أول حزب يطالب بتحرير تونس سنة 1895 م انضم إليه الثعالبي، قبل أن يؤسس بنفسه "الحزب الوطني الإسلامي"، فأسس جريدة "سبيل الرشاد" التي استمرت عامًا قبل أن توقف، وهنا رأى الثعالبي أن تونس ضاقت عليه فقرر الخروج منها، فخرج منها إلى عاصمة الخلافة "إسطانبول" عن طريق اليونان وبلغاريا فوصلها سنة 1898 م وتحدث مع رجال الدولة العثمانية وناقشهم في القضية التونسية، ثم عاد إلى تونس فوصلها سنة 1902 م بعد أن بقي أربع سنوات خارجها، فوجد أن الفرنسيين قد شجعوا الفكر الصوفي بما يحمله من خمول ودروشة، فأخذ الشيخ الثعالبي يقاوم أفكار هذا الفكر المصطنع، ويدعو الناس إلى دعاء اللَّه وحده وترك التبرك بالقبور والأولياء الأحياء منهم والأموات، فرأت فرنسا

أن ما يدعو إليه الثعالبي من الرجوع إلى القرآن والسنة يمثل خطرًا على استمرارهم في تونس، فقبضوا عليه سنة 1906 م ووضعوه في السجن بتهمة "محاربته للأولياء"! بعد أن رفع علماء الصوفية المتعاملين مع الاحتلال الفرنسي أعلامًا بيضاء عليها عبارة بالفرنسية: "اقتلوا الثعالبي الكافر!! ". ولما احتلت إيطاليا ليبيا سنة 1911 م حاول الثعالبي مساعدة المجاهدين وإرسال المساعدات لهم، فنقم عليه الفرنسيون صنيعه، فقبضوا عليه مرة أخرى سنة 1912 م وأخرجوه خارج البلاد، فأضربت البلاد وأصر الشعب على رجوعه فعاد الشيخ الثعالبي إلى تونس سنة 1914 م، ليظل يعمل في مجالات الإصلاح إلى أن اعتقل سنة 1920 م، حتى سُجن، قبل أن يخرج من البلاد سنة 1923 م، فغادر تونس إلى إيطاليا ففرنسا، ثم إلى مصر فالحجاز، ثم استقر به المقام في العراق حيث أصبح أستاذًا في جامعات بغداد منذ سنة 1925 م إلى سنة 1930 م، ولما رأى العراقيون فصاحته المنقطعة النظير، انتدبه العراق للإشراف على البعثة الطلابية العراقية إلى مصر، فمثّل العراق في "مؤتمر الخلافة" بمصر سنة 1925 م الذي دعا إليه شيخ الأزهر عقب إسقاط الخلافة. ثم ترك الثعالبي العراق إلى مصر، ومنها سافر إلى الصين وسنغافورة وبورما والهند، فأخذ يدعو الناس إلى الإسلام، فدرس حالة المنبوذين من الهندوس، فكتب في الصحف أن الحل الوحيد لمشكلتهم هي في الإسلام! فأسلم الآلاف من الهنود على يد هذا البطل التونسي، قبل أن يعود إلى تونس للمرة الأخيرة، حيث استقبل استقبالًا حافلًا من الشعب التونسي المسلم، فأخذ الشيخ الثعالبي يجاهد الفرنسيين بمقالاته وكتاباته حتى توفي رحمه اللَّه سنة 1944 م بعد حياة حافلة من النضال والكفاح، وسنينٍ من السفر والترحال بدون كللٍ أو مللٍ في سبيل رفع راية الإسلام من جديد. وفي الوقت الذي كان الثعالبي يجاهد فيه الفرنسيين في تونس، كان هناك من يجاهد الفرنسيين والإنجليز والطليان والصهاينة في قلب العالم الإسلامي! فمن هو ذلك المجاهد الإسلامي العظيم الذي نقش اسمه في فلسطين بحروفٍ من نور؟ وكيف دخل الصهاينة إلى هذه الأرض المقدسة؟ وهل فعلًا باع الفلسطينيون أرضهم لليهود؟!! وما قصة ثورة القسّام الكبرى؟ يتبع. . . . .

96 - قائد ثورة فلسطين (عز الدين القسام)

" قائد ثورة فلسطين" (عز الدين القسّام) " أن نموت شهداء في سبيل اللَّه. . . . خير لنا من الاستسلام للكفرة! " (عز الدين القسام) حديثنا الآن عن بطل استثنائي في أمة الإسلام العظيمة، نحن نتحدث عن رجلٍ بأمة، رجلٌ أيقظ اللَّه به روح الجهاد في المسلمين بعد سباتٍ طويل! إننا نتحدث عن مفجر ثورة فلسطين الأولى، إننا نتحدث عن أسد الإسلام، والبطل المقدام، القائد الفذ الهمام، إنه مفجر ثورة القسام. . . . . الشيخ عز الدين القسام. الحقيقة أن القارئ لتاريخ عظماء أمة الإسلام يجد شيئًا عجيبًا للغاية! فهناك شيء لاحظته من خلال دراسةٍ للتاريخ -أحسب أنها مستفيضة- واطلاع لا بأس به، أن أبطال الإسلام بصفة خاصة ليسوا كغيرهم من أبطال الأمم الأخرى! فلقد حارب البطل اللاتيني (بوليفار) الإمبراطورية الإسبانية، وحارب الثائر الفيتنامي (هو شي منه) الإمبراطورية الأمريكية، وحارب قبلهم القائد القرطاجي (هانيبعل) الإمبراطورية الرومانية، إلا أننا لا نرى بطلًا حارب عدة إمبراطوريات في نفس الوقت إلا في حالة أبطال أمة الإسلام!!! فكما رأينا من خلال هذا الكتاب كيف حارب الصديق الإمبراطوريتين الساسانية والبيزنطية في آنٍ واحد، وكيف حارب الخطابي فرنسا وإسبانيا وإنجلترا في نفس الوقت، وكيف حارب سليم الأول الصفويين والبرتغاليين، وكيف حارب صلاح الدين الأيوبي العبيديين الشيعة والصليبيين. . . . والآن جاء الدور على رجل حارب كلًا من: الإمبراطورية الفرنسية، والإمبراطورية البريطانية، والإمبراطورية الإيطالية، والعصابات الصهيونية، في آن واحد!!! فحكمت عليه فرنسا بالإعدام، ولاحقته إيطاليا بسبب دعمه لثورة عمر المختار، وأصبح المطلوب رقم واحد من قبل القوات الإنجليزية، والعدو الرئيسي لإرهابيى عصابات الهاجانا الصهيونية، ليقضي

زهرة شبابه مطاردًا من قبل جبابرة الأرض، هدف كل واحدٍ منهم القضاء على أسطورة رجلٍ شامي. . . . . يقال له عز الدين القسام! والبداية تبدأ -كمعظم أبطال أمة الاسلام- من المساجد، ففي بلدة "جبلة" في محافظة "اللاذقية" في سوريا وُلد عزّ الدين عبد القادر مصطفى يوسف محمد القسام في سنة 1300 هـ 1882 م، ليتعلم القسام في مساجد تلك البلدة الشامية قبل أن يرحل في شبابه إلى مصر حيث درس في الأزهر. وفي سنة 1920 م اشترك القسام في قيادة الثورة ضد الفرنسيين في سوريا، عندها حاولت السلطة العسكرية الفرنسية شراءه وإكرامه بتوليته القضاء، فرفض القسام ذلك، فكان جزاؤه أن حكم عليه الديوان السوري العرفي بالإعدام! لينجح القسام بالهرب إلى فلسطين عام 1921 م، ليقوم بتأسيس خلايا سرية للمقاومة الشعبية الفلسطينية في "حيفا". وبعد أن نال اليهود وعد بلفور من الإنجليز، أراد بعض الشباب المتحمسين البدء بالقتال، إلا أن الشيخ القسام فضل التريث لإعلان الثورة الكبرى، فالأمور في رأي القسام لا تؤخذ بالعاطفة، وإنما بالإعداد الجيد والمنظم، فقام الشيخ بتعليم أبناء القرى وتدريبهم على السلاح في معسكرات خاصة. وفي 15 نوفمبر 1935 م أطلق الشيخ عز الدين القسام الرصاصة الأولى للثورة الفلسطينية الكبرى والتي عُرفت في التاريخ باسم "ثورة القسام"، ليقدم المجاهدون الفلسطينيون أروع صور الكفاح والنضال، وليسقط البطل تلو البطل دفاعًا عن أرض فلسطين، حتى أضحى القسام علمًا من أعلام الجهاد يتردد اسمه في بلاد فلسطين كلها، قبل أن يستشهد الشيخ المجاهد عز الدين القسام على أرض هذه الأرض المقدسة، أرض أولى القبلتين، وثالث الحرمين الشريفين، مسرى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ومهد الأنبياء، أرض فلسطين المقدسة! وقبل أن ننتقل إلى البطل القادم. . . . . أرى أنه من الضرورة بمكان أن أعرِّج على موضوعٍ هام للغاية، وهو موضوع شبهةٍ ألقيت على الشعب الفلسطيني البطل، واللَّه ما كنت أعلم أن هناك من على وجه الأرض من يرددها حتى سمعتها بأذني، ألا وهي أن الفلسطينيين هم من باعوا أرضهم لليهود! والحقيقة المرة التي اكتشفتها مؤخرًا أن هذه الشبهة الشنيعة منتشرة بشكلٍ مخيف بين أوساط الشباب العربي! ولا أنكر بأنني من

خلال هذه السطور أدافع عن شرف شعبي المناضل في فلسطين، ولكني واللَّه أدافع قبل ذلك عن مصداقية محمد بن عبد اللَّه -عليه الصلاة والسلام- الذي قال فيما صححه العلامة الألباني: "ألا إن الإيمان إذا وقعت الفتن بالشام" "ألا إن عقر دار المؤمنين الشام" ففي دراسة تاريخية لا يتسع المجال لذكرها (الدراسة موجودة على شبكة الإنترنت!) نجد أن الصهاينة لم يحصلوا على تلك الأراضي من خلال البيع والشراء، وإنما من خلال هزائم الجيوش العربية المتلاحقة ضد اليهود! أما النسبة الضئيلة التي حصل عليها بنو صهيون من دون قتال فهو إما من خلال الأراضي التي منحها الانتداب البريطاني لليهود، أو من خلال بعض العائلات المسيحية -اللبنانية والسورية والفلسطينية- التي باعت أراضيها لليهود، أو من خلال حكومة "الإتحاد والترقي" التابعة ليهود "الدَوْنمة"! فمن هم يهود الدونمة؟ وما قصة حكومة الإتحاد والترقي؟ ومن هو كمال أتاتورك؟ وكيف سقطت الخلافة الإسلامية العثمانية؟ ومن هو ذلك الخليفة الإسلامي العظيم الذي رفض بيع شبرٍ واحدٍ من فلسطين لليهود؟ وما هو المصير الذي لاقاه نتيجة لعدم تفريطه بأرض فلسطين للصهاينة؟ يتبع. . . . . .

97 - الخليفة الذي ضحى بالملك من أجل فلسطين (عبد الحميد الثاني)

" الخليفة الذي ضحى بالمُلك من أجل فلسطين" (عبد الحميد الثاني) أنصح السيد "هرتسل" أن لا يفكر مرة أخرى في هذا الموضوع، ففلسطين ليست ملكًا لي لكي أستطيع أن أبيع شبرًا واحدًا من أرضها، فلسطين ملك للمسلمين كلهم، ولقد جاهد أجدادي العثمانيون لمئات السنين من أجل هذه الأرض، وروت أمتي ترابها بدماء المسلمين، ونصيحتي لليهود أن يحتفظوا بملايينهم، فإذا تجزّأت دولة الخلافة يومًا ما فإنكم قد تأخذونها بلا ثمن، أمَّا وأنا حيٌّ، فواللَّه إنَّ عمل السكين في بدني لأهون عليَّ من أن أرى فلسطين وقد بُترت من ديار الإسلام. خادم المسلمين عبد الحميد الثاني هناك شيءٌ عجيبٌ لاحظته من خلال دراسة -أحسب أنها مستفيضة- لتاريخ دول الإسلام، شيءٌ قد يظنه كثيرٌ من المؤرخين ضربًا من ضروب الجنون! فعلى عكس ما يعتقده الناس، لاحظت أنه في نهاية كل دولة إسلامية، يبرز إلى الساحة قائدٌ عظيم يكون من أواخر زعماء تلك الدولة المنهارة! هذا القائد يبلغ من العظمة ما يؤهله لكي يحتل المركز الثاني أو الثالث في سلم العظمة لتلك الدولة! فلقد ظهر (عبد الرحمن الداخل) في نهاية الخلافة الأموية، وظهر في نهاية الخلافة العباسية خليفة عباسي لا يعرفه الكثيرون اسمه (المستنصر باللَّه العباسي)، هذا الخليفة شبهه المؤرخون بالصحابة من شدة عدله وعلمه، وكان السلطان البطل (نجم الدين أيوب) آخر سلطان للأيوبيين وثانيهم في العظمة بعد (صلاح الدين الأيوبي)، وظهر قبل سقوط الأندلس مباشرة (أبو يوسف

يعقوب المنصور الماريني) والذي حقق انتصارات عظيمة للمسلمين هناك بعد أن غابت عنهم لعشرات السنين، وكان آخر سلاطين المماليك (قلنصوة الغوري) هو الذي أنقذ "مكة" و"المدينة" من الاحتلال الصليبي الشيعي المشترك (تابع المهمة بعده السلطان العثماني سليم الأول)، بل إن الغوري أبحر بسفنه إلى "الهند" لمحاربة فلول الصليبيين البرتغاليين! أما في دولة الخلافة العثمانية، فقد ظهر في نهايتها بطل إسلامي عظيم، يقارب في عظمته عظمة أجداده العثمانيين من أمثال (الفاتح) و (القانوني)، هذا البطل الإسلامي العظيم اسمه الخليفة (عبد الحميد بن عبد المجيد)، وهو نفسه الذي تخلده كتب التاريخ الإسلامي بحروفٍ من ذهب تحت اسم (السلطان عبد الحميد الثاني). وقبل أن نسبح في بحر عظمة هذا الخليفة الإسلامي، أرى أن نفسر هذه الظاهرة الغريبة التي ذكرناها للتو، فلماذا يظهر العظماء في نهاية كل دولة؟ ولماذا لم تحل عظمة أولئك العظماء دون سقوط دولهم التي سقطت بعدهم مباشرة؟ الحقيقة أنني لم أجد تفسيرًا علميًا لهذه الظاهرة العجيبة (والتي تظهر في تاريخ دول المسلمين فقط!)، إلا أنني أفترض عدة افتراضات منهجية قد يكون إحداها أو جميعها يمثل حلًا لهذا اللغز العجيب: (1) إما أن تكون فترة حكم ذلك القائد قصيرة بشكل لا يكفي لإحداث تلك الإصلاحات. (2) وإما أن يكون ذلك القائد العظيم قد ظهر في زمانٍ لا تنفع في الإصلاحات أصلًا بسبب تركة الهزائم والديون والفوضى التي أورثها إياه سبقوه من قادة ضعاف. (3) وإما أنه يكون ضحية للمؤامرة! وباستثناء قصر فترة الحكم، فإن جميع ما سبق ينطبق على الخليفة عبد الحميد الثاني، فلقد تسلم الخليفة العثماني مقاليد الخلافة في "إسطانبول" بعدد سلسلة من السلاطين الذي أضعفوا الدولة العثمانية بترفهم وتبذيرهم، فعمل الخليفة عبد الحميد على إصلاح دولة الخلافة، وفعلًا كاد أن ينجح في ذلك، لولا حدوث المؤامرة التي أسميها شخصيًا بـ "المؤامرة الكبرى"، هذه المؤامرة لم تبدأ مع حكم عبد الحميد الثاني، بل بَدأت قديمًا جدًا، كانت بدايتها بالتحديد مع الأخوين (برباروسا)! هل ما زلنا نذكر

هذين الأخوين؟ قبل أن أفصل أكثر أحب أن أفسر سبب اقتصار ظهور القادة العظماء في زمن انهيارات الدول الإسلامية بالذات، والحقيقة أن السبب يكمن في أمرٍ وحيدٍ يميز المسلمين بشكلٍ عامٍ -قادة وشعوبًا- ألا وهو: أن عظمة المسلم لا تظهر إلى في وقت الشدة! وكنّا قد ذكرنا أن الأخوين باربروسا (عروج وخير الدين) رحمهما اللَّه، كانا قد أنقذا المسلمين الأوروبيين في الأندلس من محاكم التفتيش، فقاما بتنفيذ أمر الخلفاء العثمانيين -جزاهم اللَّه كل خير- بنقل عشرات الآلاف من المسلمين إلى الجزائر وشمال أفريقيا على متن سفن الأسطول العثماني، والحقيقة أن الإسبان المسيحيين لم يقتلوا المسلمين فحسب، بل قتلوا كل من هو ليس كاثوليكي حتى ولو كان مسيحيًّا بروتستانتيًا! فكان اليهود أيضًا ضحية لإرهاب الإسبان الكاثوليك على الرغم من كل الخدمات التي قدمها اليهود للإسبان ضد مسلمي الأندلس! حينها لم يجد اليهود غير المسلمين لإنقاذهم من إرهاب المسيحييين المتطرفين في إسبانيا! فقام الأخوان بارباروسا بحملهم على سفن الخلافة العثمانية إلى ديار المسلمين، ليلقن الإسلام البشرَ درسًا كبيرًا في معنى الإنسانية والتسامح الديني، ليس ذلك فحسب، فلقد قامت الخلافة الإسلامية العثمانية باستقبال العائلات اليهودية الهاربة من روسيا وفرنسا وإنجلترا بعد أن طردوا اليهود من بلدانهم مدّعين أن أحدًا لا يستطيع العيش مع اليهود لغدرهم وخياناتهم -على حسب ادعاءاتهم! والحقيقة أن المسلمين بصفة عامة تعلموا من محمد رسول الرحمة عدم الحكم المسبق على البشر، فلقد عاش الرسول مع اليهود بسلام في المدينة المنورة، ولم يحاربهم إلا بعد خياناتهم المتكررة (قام بنو قريظة بفتح بوابات المدينة للأحزاب ليتمكنوا من قتل المسلمين المدنيين!)، فقد حرَّم الإسلام قتل اليهودي لكونه يهوديًا أو قتل المسيحي من أجل دينه، ولقد تجسد هذا الدرس المحمدي بشكل لم تعرفه البشرية من قبل (ولا من بعد) في قرطبة الأندلسية حين كان اليهود والنصارى يعيشون في كنف الدولة الإسلامية!

المهم أن المسلمين العثمانيين قاموا باستضافة اليهود المضطهدين من أوروبا، فأكرموهم كرمًا بالغًا، وأعطوهم بعض الإقطاعيات في مدينة "سالونيك" اليونانية (وكانت تابعة للخلافة العثمانية)، ليعيش اليهود في كنف دولة الإسلام في غاية الأمن والاستقرار (قام رئيس الوزراء التركي أردوغان بتذكير شمعون بيريس بما صنعه أجداده العثمانيون لليهود وذلك عقب حرب غزة 2009 م!)، إلا أن بعض اليهود أراد أن يرد الجميل للعثمانيين، فعملوا على تدمير دولتهم!!! فادّعوا اعتناقهم للإسلام (تقية!) لأخذ مناصب عليا في الدولة، فسُموا بـ "يهود الدَوْنمَة"، وهي كلمة تعني بالتركية العثمانية "اليهود الذين ارتدوا عن اليهودية". ليصلوا إلى بعض المناصب الرفيعة في الدولة، وعندها تعاونوا في السر مع إنجلترا وفرنسا والحركة الصهيونية لإسقاط الخلافة العثمانية إلى الأبد، إلا أن مشروعهم تعطل عند ظهور خليفة قوي اسمه السلطان عبد الحميد الثاني، فلقد أرسل زعيم الحركة الصهيونية (ثيودور هرتسل) رسالة إلى السلطان عبد الحميد الثاني يعرض عليه رشوة تبلغ 150 مليون جنيه إسترليني، على أن يعمل السلطان على تشجيع الهجرة اليهودية إلى فلسطين، ومنح اليهود قطعة أرض يقيمون عليها حكمًا ذاتيًا. فرفض سليل صقور آل عثمان ذلك العرض المغري الذي كان بإمكانه حل مشاكل الدولة المالية، عندها قرر اليهود إزالة هذا الخليفة الإسلامي من على خارطة القرار! فقام يهود الدونمة بإنشاء جمعية تسمى "جمعية تركيا الفتاة" تدعو الأتراك من خلالها إلى الأفكار العلمانية والقومية، ومناهضة كل ما هو إسلامي، ليلتحق بهذه الجمعية عدد كبير من أفراد الجيش مُكوِّنين ما عُرف بحزب "الاتحاد والترقي"، وهو الجناح العسكري لجمعية تركيا الفتاة، بعدها قام حزب الاتحاد والترقي بالانقلاب على السلطان عبد الحميد الثاني سنة 1909 م بعد أن سلمه ثلاثة جنرالاتٍ قرار العزل (اثنان منهم يهود!)، ليقوم هؤلاء الإنقلابيون بنفي بطلنا إلى مدينة "سلانيك" (وهي نفس المدينة التي استضاف بها الخلفاء العثمانيون اليهود المضطهدين من أوروبا!!!) حيث بقي هناك منفيًا إلى توفي رحمه اللَّه في 10 فبراير 1918 م. ولكن الخليفة الإسلامي استطاع أن يسرب من منفاه سرًا خطيرًا للغاية! ويسرني ونحن في نهاية هذا الكتاب أن أعلن عن مفاجأة للقارئ الكرام: فلقد

حصلت (بطريقةٍ ما!) على صورة لوثيقةٍ سريةٍ للغاية بخط يد السلطان عبد الحميد الثاني شخصيًا، تضمن رسالة كان قد سرَّبها السلطان سرًا من منفاه بعد خلعه إلى أحد الشيوخ الأتراك، يشرح له من خلالها سرَّ خلعه، [مخطوطة] ويبين فيها دور اليهود الأساسي في خلعه من كرسي الخلافة بعد رفضه بيع فلسطين لليهود، وفيما يلي ترجمة بالعربية لبعض ما جاء في الرسالة السرية المكتوبة باللغة العثمانية (كانت بالأبجدية العربية) والتي استطاع أحد الخدم المخلصين للخليفة إيصالها خفية للشيخ التركي المسلم: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد للَّه رب العالمين وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد رسول رب العالمين وعلى آله وصحبه أجمعين والتابعين إلى يوم الدين أرفع عريضتي هذه إلى شيخ أهل عصره الشيخ محمود أفندي أبي الشامات، أقبل يديه المباركتين راجيًا دعواته الصالحة. بعد تقديم احترامي أعرض أني تلقيت كتابكم المؤرخ في 22 مايس من السنة الحالية، وحمدت المولى وشكرته أنكم بصحة وسلامة دائمتين. سيدي: إنني

بتوفيق اللَّه تعالى مداوم على الأوراد ليلا ونهارا، وأعرض أنني مازلت محتاجا لدعواتكم القلبية بصورة دائمة بعد هذه المقدمة أعرض لرشادتكم وإلى أمثالكم أصحاب السماحة والعقول السليمة المسألة المهمة الآتية كأمانة في ذمة التاريخ: إنني لم أتخل عن الخلافة الإسلامية لسببٍ ما، سوى أنني -بسبب المضايقة من رؤساء جمعية الاتحاد المعروفة باسم (جون تورك) وتهديدهم- اضطررت وأجبرت على ترك الخلافة. إن هؤلاء الاتحاديين قد أصروا وأصروا علي بأن أصادق على تأسيس وطن قومي لليهود في الأرض المقدسة (فلسطين)، ورغم إصرارهم فلم أقبل بصورة قطعية هذا التكليف، وأخيرًا وعدوا بتقديم 150 مائة وخمسين مليون ليرة إنجليزية ذهبًا، فرفضت هذا التكليف بصورة قطعية أيضًا، وأجبتهم بهذا الجواب القطعي الآتي إنكم لو دفعتم ملء الأرض ذهبا -فضلا عن 150 مائة وخمسين مليون ليرة إنجليزية ذهبًا فلن أقبل بتكليفكم هذا بوجه قطعي، لقد خدمت الملة الإسلامية والمحمدية ما يزيد عن ثلاثين سنة فلم أسوِّد صحائف المسلمين آبائي وأجدادي من السلاطين والخلفاء العثمانيين، لهذا لن أقبل تكليفكم بوجه قطعي أيضًا. وبعد جوابي القطعي اتفقوا على خلعي، وأبلغوني أنهم سيبعدونني إلى (سلانيك) فقبلت بهذا التكليف الأخير. هذا وحمدت المولى وأحمده أنني لم أقبل بأن ألطخ الدولة العثمانية والعالم الإسلامي بهذا العار الأبدي الناشئ عن تكليفهم بإقامة دولة يهودية في الأراضي المقدسة فلسطين. . . وقد كان بعد ذلك ما كان، ولذا فإنني أكرر الحمد والثناء على اللَّه المتعال، وأعتقد أن ما عرضته كافٍ في هذا الموضوع الهام، وبه أختم رسالتي هذه. وألثم يديكم المباركتين، وأرجو واسترحم أن تتفضلوا بقبول احترامي بسلامي على جميع الإخوان والأصدقاء يا أستاذي المعظم لقد أطلت عليكم التحية، ولكن دفعني لهذه الإطالة أن نحيط سماحتكم علما، ونحيط جماعتكم بذلك علما أيضًا والسلام عليكم ورحمة اللَّه وبركاته. في 22 أيلول 1329 هـ خادم المسلمين: عبد الحميد رحمك اللَّه أيها الخليفة البطل، وجزاك اللَّه كل خير من شابٍ فلسطيني ضاعت بلاده

بلا ثمن بعد انهيار دولتك وكما توقعت أنت بالضبط يا سليل العثمانيين الأبطال، فجزاكم اللَّه كل خير يا آل عثمان لما قدمتموه للإسلام، وقد كنت أقرأ في مدارسنا أنكم المحتلون الأتراك الذين احتللتم بلادنا، وأنكم سبب تخلف هذه الأمة، فبعد أن كبرت وقرأت كتبًا غير تلك الكتب الدراسية المتعفنة، علمت أن فضلكم كبير كبير، فلقد أنقذتم قبر الرسول من النبش، ونشرتم الإسلام في أوروبا، وفتحتم مدينة هرقل، وأنقذتم المسلمين في الأندلس، وأنقذتم الإسلام من خطر كلاب الصفويين، فجزاكم اللَّه كل خير يا صقور الأناضول الجارحة! وبعد التخلص من السلطان عبد الحميد الثاني رحمه اللَّه، ظهرت بعد ذلك شخصية من أسوأ الشخصيات التي حاربت الإسلام، هي شخصية أحد يهود الدونمة المدعو (كمال أتاتورك)، فقد كان هذا الرجل كارهًا للإسلام تمامًا، ومواليًا للصهاينة بشكلٍ كاملٍ، فقد ألغى الخلافة العثمانية تمامًا، وأتبع ذلك بعدة قوانين منعت كل مظهر إسلامي في تركيا، كإلغاء الحروف العربية من اللغة التركية، واستخدام اللاتينية عِوضًا عنها، وإلغاء منصب شيخ الإسلام، ومنع الأذان للصلاة باللغة العربية، ومنع الحجاب، وتحويل العطلة من الجمعة إلى السبت والأحد. فظن الجميع أن الإسلام قد انتهى وإلى الأبد في تركيا، حتى حدث بعد ذلك بنصف قرن شيءٌ لا يصَّدقّ! بطريقة لا تُعقل! بتدبيرٍ لا يمكن إلا أن يكون من اللَّه الحكيم! يتبع. . . . . .

98 - (العثمانيون الجدد)

{وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} (العثمانيّون الجدد) " إنهم يقولون عنّا إننا العثمانيون الجدد، نعم. . . . . نحن العثمانيون الجدد! " (وزير الخارجية التركي: أحمد داود أوغلو) واللَّه إن قصة الإسلام لهي أعجب من العجب، ولولا أننا نرى فصولها تتكرر أمام أعيننا، لقلنا أنها حكاية من نسج الخيال! فمن الذي ربّى موسى سوى فرعون نفسه؟ ومن الذي جعل الأوس والخزرج يسلمون سوى يهود يثرب؟ ومن الذي سمّى قطز غير التتار؟ ومن الذي صنع ديدات غير المنصِّرين أنفسهم؟ إن اللَّه سبحانه وتعالى لهو قادر على أن ينتصر لأوليائه بدون استخدام أعدائه وأعدائهم، ولكن اللَّه أراد زيادة إذلال أولئك الطغاة، فجعل دمارهم على أيديهم، ليكونوا عبرة لكل من يخطر على باله محاربة اللَّه والمسلمين، وقصة العثمانيين تعتبر اكبر مثالٍ على هذا النوع الرباني من التأديب والعقاب، فالذي لا يعرفه أغلبنا أن الأتراك لم يكونوا سوى قبائل متفرقة في شعاب آسيا الوسطى، وبالرغم من كونها قبائلًا مسلمة (أسلمت على يد الخليفة يزيد بن معاوية جزاه اللَّه كل خير)، إلا أنها لم تكن تمثل أي مظهر من مظاهر القوة، المضحك في الأمر أن التتار هم الذين صنعوا العثمانيين أيضًا! ولعمري كم خدم المغول الإسلام من دون يشعروا! {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50)} [النمل: 50]. فقد هاجرت قبيلة تركية من بطش متوحشي الجيش التتري، فشدّوا الرحال من "التركستان الغربية" في وسط آسيا، إلى "آسيا الصغرى" وهي بلاد تركيا الحالية، هناك قام زعيم هذه القبيلة التركية واسمه (عثمان أرطغرل) بمساعدة أحد ملوك السلاجقة بدافعٍ من النخوة والشهامة (السلاجقة الأبطال كانوا أيضًا أتراكًا)، فكافأه الملك بان أقطعه إحدى المقاطعات الصغيرة، فظل عثمان الكبير يحارب الروم ويتوسع حتى اتسعت مقاطعته لتصبح شبه دولة، قبل أن يأتي السلطان (يزيد الصاعقة) ليضم أراضٍ واسعة للعثمانيين، إلى أن جاء (الفاتح) و (القانوني)، وبقية القصة تعرفونها

من خلال تطرقنا لها في هذا الكتاب تباعًا. وقد ذكرنا كيف عمل "يهود الدونمة" بقيادة اليهودي (كمال أتاتورك) على تدمير دولة الخلافة العثمانية، ففي 27 - رجب - 1342 هـ الموافق 3 - 3 - 1923 م قام أتاتورك بإنهاء دولة الخلافة الإسلامية، هذا التاريخ الأسود هو أول يوم في تاريخ الأرض ينقطع فيه خلفاء محمد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقد كان آخر الخلفاء العثمانيين (عبد المجيد الثاني بن عبد العزيز) رحمه اللَّه آخر خلفاء الإسلام وهو الخليفة الثاني بعد المائة للمسلمين منذ الخليفة الأول (أبي بكر الصديق) رضي اللَّه عنه وأرضاه. وهنا بدأ المجرم أتاتورك بإنهاء كل ما هو إسلامي في تركيا، ففصل تركيا فصلًا كاملًا عن كل بلاد العالم الإسلامي، ثم قام بوضع دستور الدولة التركية، وفيه أكّد بوضوح وصراحة على أن دولة تركيا علمانية لا دين لها، وألقى الشريعة الإسلامية، وصاغ القانون من القانون السويسري والإيطالي، وأتبع ذلك بعدة قوانين منعت كل مظهر إسلامي في البلد، كإلغاء الحروف العربية من اللغة التركية واستخدام اللاتينية بدلًا منها، بعد أن منع الأذان للصلاة باللغة العربية (لاحظ أن كل من يحقد على الإسلام يبدأ بالعربية ويحقد بالضرورة على العرب!)، وقام أيضًا بإلغاء منصب شيخ الإسلام، ومنع الحجاب من المؤسسات الحكومية والجامعات والمدارس، وإغلاق عدد كبير من المساجد، وقتل أكثر من 150 عالمًا من علماء الإسلام، وغير ذلك من القوانين والمواقف التي رسّخت العلمانية في تركيا. وبحكم أن مصطفى كمال أتاتورك كان قائدًا من قوّاد الجيش، فإنه أعطى للجيش التركي صلاحيات هائلة، ووضع في بنود الدستور ما يكفل للجيش التدخُّل السافر لحماية علمانية الدولة! وأصبحت العلمانية والبُعد عن الإسلام هدفًا في حد ذاته، بل إن أغلب أعضاء حزب "الاتحاد والترقي" -الذين صاروا قادة الجيش التركي- لهم جذور يهودية معروفة (يهود الدونمة) أو انتماءات ماسونية يعرفها الجميع. فسيطر أتاتورك وآلته العسكرية الجبارة على الإعلام والتعليم، ومن خلالهما غيّروا أفكار الشعب التركي تمامًا (أو هكذا اعتقدوا!) وحوّلوه إلى العلمانية المطلقة، ولعدة عشرات من السنين. وبعد قيام "إسرائيل" في 1948 م، اعترفت تركيا العلمانية مباشرة بها، فكانت هي الدولة الإسلامية الأولى التي تصدر هذا الاعتراف، قبل أن تلحق بها دولة الفرس

المجوسية إيران (كالعادة!) بالاعتراف بإسرائيل، فأعلن بن جوريون قيام "حلف الدائرة"، وهو الحلف المحيط بالدول العربية، وكان هذا الحلف مكوَّنًا من تركيا العلمانية في الشمال، وأثيوبيا الصليبية في الجنوب، وإيران المجوسية في الشرق (ملاحظة: كانت العلاقات بين إيران وإسرائيل في عهد الشاه بشكل علني، قبل أن يختار الخميني تحويلها إلى علاقات خفية لكي يتسنى له المتجارة بالقضية الفلسطينية لنشر دين الروافض بين أوساط الشباب المتحمسين، فقد أسقطت القوات العراقية أيام حكم الشهيد صدام حسين رحمه اللَّه طائرة إيرانية في شمال العراق، ليكتشف العراقيون أنها محملة بأطنان من الأسلحة الإسرائيلية، مهداة من حكام تل أبيب إلى الخميني، زاد من صدقية هذا الخبر ما فضحه الإعلام الأمريكي من فضيحة "إيران كونترا" والتي عرفت بـ " Iran gate" . المهم أن أتاتورك مات عام 1939 م، بعد أن حذف اسم مصطفى من اسمه الكامل، وأوصى أن لا يُصلّى عليه، وأن لا يدفن على الطريقة الإسلامي! فخلف أتاتورك أتباعًا مخلصين قاموا على نهجه، حتى حدث شيءٌ عجيب غير المعادلة الأتاتوركية رأسًا على عقب! فكما ذكرنا في البداية أن اللَّه يمعن في إذلال أعدائه، فقد جعل اللَّه قيام الإسلام في تركيا على يد رجلٍ من رفاق أتاتورك نفسه! الغريب أن هذا الرجل ليس له علاقة من قريبٍ أو بعيدٍ بالإسلاميين! ففي سنة 1950 م قام رجلٌ من رفاق أتاتورك اسمه (عدنان مندريس) بتأسيس حزبٍ سياسي، أراد به أن يصل إلى الحكم بأي وسيلة ممكنة، فأراد أن يمكر بالمسلمين في القرى التركية النائية باعطائهم بعض الحقوق الدينية مقابل أن يعطوه صوته، الجميل في ذلك أن أول مطلب كان للأتراك المسلمين هو تحويل الأذان من اللغة التركية إلى اللغة العربية! وفعلًا فاز مندريس بالانتخابات التركية العامة، فعمل على إعطاء أهل القرى (وهم أغلبية الشعب) مزيدًا من الحقوق الدينية ليضمن فوزه المتكرر لا غير، فكان له ذلك، فقد استمر في الحكم طيلة 10 سنوات متصلة، وكان بإمكانه أن يستمر 10 سنوات أخرى، لولا أن الجيش التركي أدرك خطورة هذه اللعبة، فقاموا بالانقلاب عليه وإعدامه سنة 1962 م، ومنذ ذلك الحين أسس الجيش (وأغلب قادته من يهود الدونمة) مجلسًا عسكريًا أسموه "مجلس الأمن القومي"، هذا المجلس

هو الجهة السياسية الأقوى في تركيا إلى وقت كتابة هذه الحروف، ليقوم هذا المجلس السياسي العسكري بحل أي حكومة لا تتناسب مع التوجهات العلمانية للدولة التركية. ولكن كما قال (ضبة بن أدٍ المضري): "سبق السيف العذل! "، فقد تذوق الشعب التركي المسلم طعم الإسلام بعد سنواتٍ من اضطهاد أتاتورك وملئِه، فأي قوة في الأرض يمكنها أن تعيدهم مرة أخرى إلى العلمانية؟ فقد خرج من رحم الشعب التركي المسلم شخصية إسلامية كان لها شرف السبق في إشعال مشكاة الإسلام من جديد في ظلام تركيا العلمانية، هذه الشخصية هي شخصية العالم المخترع (نجم الدين أربكان) جزاه اللَّه كل خير، فمن حكم ترؤسه لقسم الاختراعات في إحدى شركات صناعة الدبابات الألمانية في مدينة "كولون" الألمانية، كان أربكان متمرسًا على مواجهة الدبابات وحل المعضلات الحسابية المعقدة! فأخذ يلاعب العلمانيين بنفس لعبتهم بعد أن فهم قواعد اللعبة السياسية، فأنشأ حزبًا سياسيًا دخل من خلاله الانتخابات ليفوز من أول ظهور له بمقاعد عديدة في البرلمان التركي، قبل أن يقرر الجيش التركي حل الحزب بتهمة -ستكرر كثيرًا بعد ذلك- "عدم موافقة الحزب للمبادئ الأتاتوركية" واتجاهات أربكان "الرجعية"! ولكن هذا البطل الإسلامي العظيم -كديدن عظماء أمة الإسلام- لم يستسلم البتة، فقام بإنشاء حزبٍ ثانٍ، وثالث، وهكذا دواليك حتى استطاع أن يفوز بالبرلمان التركي سنة 1995 م، ليكون أول حكومة "إسلامية" في تركيا منذ انهيار دولة الخلافة الراشدة، ولكن الجيش ممثلًا بـ "مجلس الأمن القومي" قام بإسقاط حكومته سريعًا بعد أن رفض البطل أربكان تنفيذ 18 مطلبًا أهمها إغلاق المدارس الدينية وتدعيم التعليم العلماني. فأغلق الجيش حزب "الرفاه الإسلامي" الذي كان يرأسه، ولكن هذا الصقر التركي وعلى الرغم من كبر سنه، فإنه لم يستسلم، فقد أسس حزبًا آخر لا أعرف بالضبط ترتيبه بين أحزاب أربكان، هذا الحزب هو حزب "الفضيلة"، فانتصر أربكان مرة أخرى في انتخابات 1999 م، ولكن الجيش ضاق ذرعًا بهذا الكهل الذي لا يمل ولا يتعب، فأودعوه في غياهب سجون الأناضول! ولكن في نفس الوقت كانت هناك مجموعة شابة من أفراد الحزب تضيق ذرعًا ليس بالجيش فحسب، بل في النظام السياسي ككل، فخرج من عباءة أربكان ثلاثة شباب سيغيرون مجرى التاريخ بعد ذلك

وهم: رئيس بلدية إسطانبول (رجب طيب أردوغان)، وأستاذ علم الاقتصاد في جامعة "سكاريا" على البحر الأسود الأستاذ الدكتور الأرمني الأصل (عبد اللَّه غول)، وأستاذ العلوم السياسية في جامعة "مرمرة" التركية البروفيسور (أحمد داود أوغلو)، فقام هؤلاء بتأسيس حزب "العدالة والتنمية" الإسلامي، غير أن هؤلاء الشباب طوّروا من أساليب أستاذهم أربكان، فأخذوا يسايرون الجيش وجنرالات الجيش التركي (المحكوم بيهود الدونمة والعلمانيين!)، ليأخذوا حقوقهم المشروعة شيئًا فشيئًا، وليسحبوا البساط بشكل تدريجي من تحت أقدام المؤسسة العسكرية، وخلال كتابة هذا الكتاب استطاع الرئيس التركي عبد اللَّه غول من أن ينتزع قانونًا يمنع تدخل الجيش في أي انقلاب عسكري، وخلال كتابة هذا العمل أيضًا قامت إسرائيل بأغبى عمل يمكن لدولة أن ترتكبه، فقد قامت بالاعتداء على سفينة تركية مدنية متوجهة إلى مدينة "غزة" الفلسطينية، ليسقط عددٌ كبير من شباب الأتراك الأبطال شهداءً في سبيل اللَّه كما نحسبهم، فكان هذا العمل الجبان مقدمة لبزوغ نجم "العثمانيين الجدد" في الساحة، بعد موقف رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان البطولي تجاه قضية فلسطين، وما إن بزغ نجم العثمانيين الجدد وارتفعت شعبيتهم في أرجاء العالم العربي والإسلامي، حتى تحركت أقلام المنافقين العرب من العلمانيين وأتباع الفرس الصفويين (الذين محق آل عثمان دولتهم) لكي يهاجموا هؤلاء الأبطال ويعيدوا استخدام الكذبة القديمة "الاحتلال التركي! "، ولكن كما قلنا من قبل: سبق السيف العذل! فتركيا صاعدة سياسيًا بفضل نظرية أوغلو في "تصفير الصراعات" وصاعدة إقتصاديًا بسبب سياسة عبد اللَّه غول في خلق أكبر مصانع في الشرق الأوسط المتمثلة في "نمور الأناضول"، وصاعدة شعبيًا بسبب بطولة أردوغان، ولا أخفيكم سرًا، فمن حكم قراءتي لصفحات التاريخ المطوية، إني لأرى نصر الأمة باديًا أمامي على أيدي أولئك الأبطال! وبما أن "الحديث ذو شجون" (كما قالها أيضًا ضبة بن أدٍ المضري) فإن الصحوة التركية لم تكن وليدة الصدفة، فهذه الصحوة ما هي إلا جزءٌ لا يتجزأ من صحوة إسلامية شاملة قادها مجموعة من شباب أمة الإسلام ليكوِّنوا جيلًا كاملًا من العظماء، هذا الجيل صار يعُرَف في التاريخ بـ. . . . . . يتبع. . . . .

99 - (جيل الصحوة)

(جيل الصحوة) " إن من ورائكم أيام الصبر للمتمسك فيهن يومئذ بما أنتم عليه أجر خمسين منكم. قالوا: يا نبي اللَّه أو منهم؟! قال: بل منكم! " (رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-) تختلف أمة الإسلام عن باقي الأمم أنها أمة خالدة، فهي أمة تضعف في بعض الأحيان، ولكنها لا تموت أبدًا! فأين الفراعنة الشداد؟ وأين ثمود وعاد؟ وأين التتار الذين ملكوا العالم من كوريا إلى بولندا؟ وأين حضارة البابليين؟ أين اختفى شعب الإنكا؟ أين ذهب الفايكنج؟ ماذا بقي من حضارة الرومان غير مسارحهم التي كانوا يعبثون فيها مع العبيد؟ ماذا بقي من الإغريق غير دولةٍ فقيرة متخمة بالديون؟ أين كسرى يزدجرد؟ ماذا ترك خلفه غير مجموعة من الحمقى الذين يحاولون عبثًا استعادة مجد فارس؟ أين اختفى هتلر الذي احتل أوروبا بأسرها؟ أين إمبراطورية بريطانيا التي لا تغيب عنها الشمس؟ ماذا حل بالبرتغال التي احتلت أراضٍ في أربع قارات؟ لماذا لم نعد نسمع عنها غير أخبار منتخبها الكروي؟ أين تبخر الهكسوس؟ أين اختفت الإمبراطورية البيزنطية؟ لماذا انقرضت اللاتينية والهيروغليفية والآرامية؟ أين الإتحاد السوفيتي؟ أين إمبراطورية غانا؟ أين إمبراطورية الصين؟ أين إمبراطورية اليابان؟ أين تلاشى شعب الأبرجين في أستراليا؟ أين تبخرت إمبراطورية الأنغكور الكمبودية التي حكمت شرق آسيا 600 عام؟ لماذا اختفى كل هؤلاء ولم يبقَ إلا المسلمون وقرآنهم وعربيتهم؟!! الشيء الأغرب من هذا كله أن أمة الإسلام هي الأمة الوحيدة في تاريخ الإنسانية التي تعرضت لغزوات متلاحقة من جميع الأمبراطوريات العظيمة التي مرت على تاريخ الأرض! والشيء الأغرب والأغرب من ذلك أن جميع تلك الإمبراطوريات قد انهارت لتبقى أمة الإسلام!! فلقد حارب المسلمون كلًا من: (1) الإمبراطورية الساسانية الفارسية. (2) الإمبراطورية الرومانية الشرقية البيزنطية. (3) الإمبراطورية الرومانية الغربية المقدسة. (4) الإمبراطورية المغولية التترية. (5) الأمبراطورية الغانية الأفريقية. (6) إمبراطورية الحبشة. (7) إمبراطورية جويتا الهندية.

(8) الإمبراطورية النمساوية المجري. (9) الإمبراطورية الصربية. (10) الإمبراطورية الروسية القيصرية. (11) الإمبراطورية الإنجليزية. (12) الإمبراطورية الفرنسية. (13) الإمبراطورية الإسبانية القشتالية. (14) الإمبراطورية البرتغالية. (15) الإمبراطورية الهولندية الأورانجية. (16) تحالف ممالك الصليبيين. (17) الفايكنج. (18) الدولة العبيدية "الفاطمية" الشيعية. (19) دولة القرامطة الشيعة. (19) الدولة الصفوية الشيعية الأولى. (20) الدولة الصفوية الشيعية الثانية "الخمينية". (21) الدولة البويهية الشيعية. (23) مملكة القوط الغربيين. (22) إمبراطورية إيطاليا الفاشية. (23) الإتحاد السوفييتي. . . . وغيرها الكثير الكثير من الدول والممالك التي اصطدمت بالمسلمين عبر جميع مراحل التاريخ الإسلامي. والشيء اللافت للنظر أن جميع هذه الدول قد فشلت في تدمير الأمة الإسلامية، بالرغم من استخدامها لأبشع وسائل القتل والتدمير، إلا أن اللافت للنظر أن الأمة الإسلامية لم تسلم من هجمات أولئك الغزاة فحسب، بل خرجت كل مرة من محنتها أقوى من قبل، فبعد كل مرة يقوم فيها الغزاة بمجازر وجرائم يظنون من خلالها أنهم استطاعوا القضاء على الإسلام كليةً، تنهض الأمة الإسلامة الغبار عن نفسها لتلملم أوصالها من جديد وترمم جروحها، وكأنها "قنديل البحر الهيدرواني"، المخلوق الوحيد الذي يستطيع الرجوع إلى المراحل الحياتية الأولى من نموه وتجديد جميع أعضائه المصابة ليعيد تكوين جسمه كاملًا مرارًا وتكرارًا. لذلك طوَّر الغزاة في القرن الماضي وسيلة جديدة لتدمير الأمة الإسلامية، هي من الخبث بمكان، بحيث يتم تدمير الأمة الإسلامية من الداخل بدون الحاجة لاستخدام الوسائل العسكرية التي لا تجدي أصلًا مع المسلمين، فنجحوا في هذه الخطة القذرة من تدمير الخلافة الإسلامية، واعتقد الجميع أن الإسلام قد انتهى، ولأول مرة في التاريخ الإسلامي، لم يعد هناك خليفة لرسول اللَّه! فقد استطاع الغزاة لأول مرة في التاريخ الإسلامي منذ خلافة أبي بكر الصديق -رضي اللَّه عنه- من القضاء على الخلافة الاسلامية بواسطة عملاء مندسّين في الأمة، واستطاعوا بعدها القضاء على حكم الشريعة الإسلامية وإبدالها بدساتير مستوردة من فرنسا وبلجيكا وبريطانيا بواسطة عملائهم الذين زرعوهم خلفهم عقب مرحلة الاستخراب

(الاستعمار)، وفعلًا انصرف المسلمون حكامًا وشعوبًا عن المنهج الإسلامي، فصارت الجوامع شبه خالية إلا من كبار السن، وخلعت المرأة المسلمة لأول مرة في التاريخ الحجاب، حتى صارت المرأة المحجبة في فترة الستينات من القرن الماضي وكأنها غريبة دار! وتحول الشباب المسلم إلى الشيوعية تارة، وإلى الإشتراكية تارة أخرى، ودخلت الأمة الإسلامية في نفقٍ مظلمٍ من الهزائم العسكرية والتخلف العلمي، حتى حدث شيءٌ عجيببٌ. . . .! ففي نهاية الستينات، نبتت عضلة إسلامية صغيرة في الأمة الإسلامية، والعجيب في الأمر أن هذه العضلة نبتت في مختلف الأقطار الإسلامية بشكل متزامن يدعو إلى العجب! ففي مصر وعقب نكسة 1967 م تحول الشعب المصري شيئا فشيئا إلى الإتجاه الإسلامي، وفي تركيا رجع الأذان بالعربية لأول مرة منذ سقوط الخلافة، وبدأ الشباب التركي يستمع سرًا لإذاعات القرآن الكريم ويقرأ كتابات الشيخ الكردي البطل (بديع الزمان النورسي) رحمه اللَّه، وفي الخليج رجع شباب الصحوة ليملأوا المساجد، وفي أندونيسيا بدأت الحركة الإسلامية في النشاط، وفي باكستان أصبحت الشريعة من جديد أساسًا للقضاء، وفي الجزائر التي اعتقدت فرنسا أنها قضت على الإسلام فيها، بدأ الحراك الإسلامي ينشط من جديد على أرضها الممزوجة بدماء الشهداء، وفي الشام رجع الناس إلى التمسك بشريعة اللَّه، وفي أفريقيا نشطت حركة الدعوة إثر بعثات الأزهر ثم بعثات الدعاة الخليجيين جزاهم اللَّه كل خير، وفي أوروبا وأمريكا انتشر الإسلام بشكلٍ لافت على يد المهاجرين العرب والأتراك والهنود. والآن وبعد مرور كثير من ثلاثين عامًا على تلك الصحوة الإسلامية، أصبحت المساجد عامرة بالمصلين الذين يمثل الشباب منهم القسم الأعظم، ورجعت المرأة المسلمة للحجاب الذي أمرها اللَّه به رجوعًا جميلًا، فصارت أغلب النساء المسلمات محجبات، ونشطت الفضائيات الدينية، وظهر شبابٌ مثل الورود لا هم لهم إلا نشر المواد العلمية على شبكة "الإنترنت" وأصبحت مساجد أوروبا عامرة بالمصلين الأوروبيين من أهل البلاد الأصليين. وبعد سنوات من انتشار فكر الإسلام البدعي من جهة وفكر الإسلام التكفيري من جهة أخرى، بدأ الناس يرجعون إلى الإسلام الحقيقي القائم على الكتاب

والسنة بفهم سلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين، ورغم كل التشويه الذي يتعرض له الإسلام، أصبح الإسلام أسرع الأديان انتشارًا على وجه الأرض! في ظاهرةٍ عجيبة حيَّرت علماء الجغرافيا البشرية، وفي دراسات حديثة قامت بها الأمم المتحدة يعتقد العلماء أنه إذا استمرت الدعوة الإسلامية بهذا النجاح المنقطع النظير، فسوف يصبح نصف عدد البشر من المسلمين عما قريب! والآن وبعد أن انتهينا من الإبحار في قصص تسعة وتسعين عظيمٍ إسلامي في هذا الكتاب، حان الوقت لكي نكشف الستار عن العظيم المائة! يتبع. . . . . .

100 - العظيم المائة (؟)

العظيم المائة (؟) إذا القومُ قالوا مَنْ فتى؟ خِلْتُ أنّني ... عُنيتُ فلمْ أكسلْ ولمْ أتبلّد (طرفة بن العبد) العظيم المائة هو الشخص الذي تنتظره هذه الأمة منذ سنوات، وهو نفسه العظيم الذي سوف يعيد مجد الإسلام من جديد! هذا الشخض قد يكون امرأة كالسيدة هاجر، أو رجلًا كأبي عبيدة عامر بن الجراح، شابًا كطلحة الخير ومحمد الفاتح، أو كهلًا كموسى بن نصير وابن تاشفين، بل ربما يكون هذا العظيم المنتظر طفلًا بطلًا كابن العوّام، أو غلامًا يافعًا كغلام اليرموك المجهول، ربما كان بطلنا الذي ننتظره أبيضًا كمعاوية وهارون، أسمرًا كنور الدين زنكي، أشقرًا كطارق بن زياد، ربما كان هنديًا كديدات، أوروبيًا كأنسليم تورميدا، أمريكيًا كمالكوم إكس، آسيويًا كالقائد الفليبيني البطل لابو لابو، ربما كان هذا العملاق الإسلامي ينتمي لقومية عظيمة كقومية الأمازيغ البربر كأبي بكر بن عمر اللنتوني، أو لعله ينتمي لقومية محمد بن عبد اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم كأسود القادسية العرب، ربما يكون هذا العظيم ملكًا كالنجاشي، أميرًا كعبد الرحمن إبراهيم بن سوري، رئيسًا كإبراهام لنكولن، غنيًا كعبد الرحمن بن عوف، أو حتى مسكينًا معدمًا كأبي هريرة، ربما يكون هذا العظيم الذي تنتظره أمة محمد صلى اللَّه عليه وسلم شاعرًا رقيقًا كزهير بن أبي سُلمى، أو فارسًا عملاقًا كمحمد ابن مسلمة ربما يكون عالمًا كقرة بن ثابت، أو مخترعًا كابن فرناس، بحارًا كأمير البحرية العثمانية بيري رئيس، أو مغامرًا كابن فضلان، أو تاجرًا غنيًا ينفق بسخاءٍ على الإسلام كعثمان بن عفّان، ربما يكون تركيًا كقطز، فارسيًا كسلمان، كرديًا كصلاح الدين، ربما بدأ هذا العظيم متأخرًا كما بدأ ابن تيمية، أو بدأ في مراحل عمره المتقدمة كالبخاري، ربما كان هذا العظيم متمثلًا في فريقٍ ثنائيٍ كالأخوان بربروسا، أو فريقٍ ثلاثي كالفرسان الثلاثة، أو فريقٍ رباعي كالعبادلة الأربعة، ربما سيكون الزمن الذي سيظهر به هذا العظيم زمن عزة

كزمن بني أمية الشرفاء، أو ربما سيظهر في زمن ذلة كزمن ملوك الطوائف الذي ظهر به الأمير البطل المتوكل بن الأفطس، ربما نشأ هذا العظيم الذي ننتظر في بيئة بدوية كتلك التي نشا فيها الإمام ابن عبد الوهاب والقائد عمر المختار، أو لعله نشأ في بيئة الحضر كتلئا التي نشا فيها عبد الرحمن الناصر والقائد الأموي يزيد بن معاوية، ربما كان هذا العظيم إعلاميًا ككعب بن زهير، أو داعية كعبد اللَّه بن ياسين الجزولي، ربما كان قائدًا عسكريًا كخالد بن الوليد أو جنديًا بطلًا كزيد بن الخطاب، ربما تربى هذا العظيم في بيئة كافرة كتلك التي تربى فيها عملاق التوحيد في الجاهلية زيد بن عمرو بن نفيل، أو في بيئة صالحة كتلك التي تربى فيها عبد اللَّه بن عباس، ربما كان هذا العظيم الذي تنتظره الأمة نصرانيًا سيقذف اللَّه في قلبه الإسلام كما قذفه في قلب صغاطر كبير أساقفة الروم، أو لعله كان رجلًا علمانيًا أدرك كنه الإسلام وعظمته كالعالم الفرنسي موريس بوكاي، أو لعله يكون مسلمًا يتوب إلى اللَّه بتوبةٍ كتلك التي تابها المخلفون الثلاثة، ربما تمثل هذا العظيم في شخص امرأة عظيمة غيرت مجرى التاريخ كأم موسى، ربما كان زوجها صالحًا كخديجة بنت خويلد، أو كان زوجها شيطانًا كأسية زوجة فرعون، أو لعلها كانت عزباء كمريم ابنة عمران، ربما كانت هذه المرأة العظيمة التي سوف يخلدها التاريخ أمًا فدائية كماشطة بنت فرعون أو فتاة شجاعة كفاطمة بنت محمد أو عالمة ربّانية كعائشة، ربما يكون بطلنا القادم أبًا يصنع من ابنه قائدًا فاتحًا كما صنع السلطان مراد الثاني ابنه الفاتح، أو ربما يكون أستاذًا يزلزل الأرض بصوته ليزرع روح العزة والكرامة في نفوس تلاميذه كما كان يفعل نسر تونس العملاق عبد العزيز الثعالبي، ربما كان هذا البطل الذي ننتظره هو نفسه القائد الذي سيتقذ الإسلام من شر الصفويين الجدد كما فعل سليم الأول مع الصفويين القدامى، أو يكون هو الرجل الذي سيخلص المسلمين من شر الصليبيين الجدد كما فعل سليمان القانوني مع الصليبيين القدامى، ربما كان بطلنا من بلاد الشام المباركة كسليمان الحلبي وعز الدين القسّام، أو لعله كان عملاقًا مصريًا كالجرجاوي، ربما خرج هذا العظيم المنتظر من أرض الأبطال في الجزائر كابن باديس والأمير عبد القادر الجزائري، أو خرج من مصنع الرجال المغربي الذي أنتج للأمة عمالقة عظام كالخطابي والماريني، ربما كان عظيمنا من أبناء اليمن السعيد كالشوكاني،

أو كان من أبناء الخليج العربي العظماء الذين قادوا جيل الصحوة بامتياز، ربما خرج بطلنا من رحم دولة العثمانيين الجدد، أو لعله كان من أبناء دولة باكستان النووية التي أسسها القائد العظيم محمد علي جناح، ربما كان هذا العظيم الذي ننتظره هو ذلك الطفل الذي يلعب أمامك بدميته والذي سيحمل الراية التي حملها الخليفة العثماني البطل عبد الحميد الثاني ليصبح هذا الطفل يومًا ما الخليفة الثالث بعد المائة لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، ربما يكون هذا العظيم المنتظر قائدًا عملاقًا يعمل على توحيد الأمة كما وحدَّها من قبل الحسن بن علي رضي اللَّه عنهما، أو لعله يكون مثل أبيه البطل علي بن أبي طالب الذي حارب الخوارج التكفيريين، ربما كان بطلنا قائدًا عملاقًا يُدمر أكبر إمبراطوريات الأرض كما فعل عمر بن الخطاب، أو فارسًا مقدامًا يدكدك جحافل الظلم كما فعل سعد بن أبي وقاص، هذا البطل الذي ينتظره الجميع سيكون حتمًا كالأنصار الأبطال الذين نصروا الإسلام. . . . . فلئن عرف التاريخُ أوسًا وخزرجًا ... فلله أوسٌ قادمون وخزرج وإن كنوز الغيب تخفي طلائعًا ... صابرة رغم المكائدِ تخرج هذا العظيم المنتظر قد يكون هو أنت!. . . . نعم أنت!!!. . . ما المانع في ذلك؟ أو لعله يكون ذلك الطفل الذي تجلب له الحلوى! قد يكون هو ابنك، أو ابنتك، أو زوجتك، أحدًا تعرفه، أو أحدًا لا تعرفه! ليس تحديد هوية هذا العظيم هو المهم. . . . بل المهم هو أن يحمل كل واحدٍ منا على عاتقه إعادة إحياء مجد هذه الأمة العظيمة. . . . أمة الإسلام! فهناك حقيقة لا أعرف إن كنت تدركها أم لا؟!. . . . ألا وهي: أن الإسلام سينتصر بك أو بغيرك!!! فاللَّه لا يحتاجك لينصر بك دينه، بل أنت الذي تحتاجه في أبسط أمور حياتك! فأدرك نفسك. . . . قبل أن يدركك الوقت! والحق بركب العظماء!! فمن حكم قراءةٍ للتاريخ -أحسبها مستفيضة- أرى أن عودة الإسلام أصبحت مسألة وقتٍ لا أكثر!!! بل ربما يعجب البعض حينما يعلم أن كل المؤشرات التاريخية التي استنبطناها من دروس

التاريخ (المتكررة!) تشير بما لا يدعو للشك أن عودة الإسلام للتربع على قمة الهرم الحضاري لن تستغرق أكثر من سنواتٍ قليلة. . . . أقصد هنا سنوات معدودة ولا أقصد عشرات السنوات!!! وربما يعجب البعض أكثر حينما يعلم أننا -أي المسلمين- قد دخلنا بالفعل منذ عدة سنوات في طور القيام! فلقد ولّت سنوات الانحدار الحضاري التي عاشت فيها الأمة في القرن الرابع عشر الهجري، وأصبح المسلمون الآن -وللَّه الحمد- في بؤرة اهتمام الصحافة العالمية، وبغض النظر عن صورة المسلمين في وسائل الإعلام العالمية إن كانت بالسلب أو الإيجاب، فلقد أصبحت أنت كمسلم رقمًا صعبًا في المعادلة الدولية، فأنت تمثل واحدًا من بين أربعة أشخاصٍ موجودين على سطح الكرة الأرضية، ودينك يمثل أسرع الأديان انتشارًا في العالم وفي أمريكا والقارة الأوروبية بالتحديد، وإخوانك المسلمون يرجعون يومًا بعد يوم إلى الإسلام الصحيح البعيد عن البدع والتكفير، وإذا استمر الحال على ما هو عليه لبضع سنواتٍ فقط، حينها أبشر بالخير!

وبعد

وبعد. . . . . . عندما بدأت العمل في إعداد كتابي هذا قبل أكثر من سنة من الآن، لم أكن أتوقع أبدًا أن يستغرق إعداد هذا العمل التاريخي أكثر من شهرين أو ثلاثة أشهر على أكبر تقدير، وكان عدد الصفحات المخطط له في حساباتي يتأرجح بين 150 إلى 200 صفحة! وصدِّق أو لا تصدق!. . . . . . لم أكن أعرف عمَّن سأكتب أصلًا!!! اللهم باستثناء بعض العظماء الذين لا يمثلون ثلث أبطال هذا العمل التاريخي! وربما ذكرت سابقًا بين سطور هذا الكتاب أنني لا أملك أي خطة مطلقًا لترتيب أولئك العظماء المائة! والشيء العجيب الذي أدهشني شخصيًا أنني لم أواجه صعوبة تُذكر في رَصِّ أسماء أولئك الأبطال خلف بعضهم البعض، على الرغم من اختلافهم العرقي والزماني والمكاني!!! والحق أقول. . . . . أنني وبعد أن تعمقت في تاريخ أمة الإسلام، أدركت حجم التقصير المعيب الذي نعانيه، فبعد أن حمل المحدثون في هذه الأمة -جزاهم اللَّه خيرًا- راية الجرح والتعديل للأحاديث النبوية الشريفة، نرى أن صفحات التاريخ الإسلامي ما زالت مطوية بدون تنقيحٍ أو تصحيح، وفعلًا استغل غزاة التاريخ -من المستشرقين وعملائهم- هذه الثغرة التي أهملناها، ليزرعوا الشبهات في أوساط الشباب المسلم، وما هذا الهجوم الذي نراه في الآونة الأخيرة على رموزٍ عظامٍ من أمثال عمرو بن العاص والبخاري بل وحتى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، إلا ثمرة لتقصيرنا نحن بالدرجة الأولى للجانب التاريخي للأمة! فلقد آن الأوان لنذود عن تاريخ هذه الأمة! فالتاريخ ليس كما يظن البعض مجردٍ قصصٍ وحكاياتٍ، التاريخ هو ذاكرة الأمة، فإذا ضيَّعناه. . . . أصبحنا بلا ذاكرة!. . . . وعندها فقط. . . . نسقط أنا وأنت كالثمرة الفارغة برماح غزاة التاريخ!

بقي أن أذكر شيئًا أخيرًا قبل أن أضع نقطة النهاية لهذا الكتاب. . . . . فمن خلال جمعي لمادة هذا العمل وجدت أن هناك جم غفير من عمالقة الإسلام المجهولين الذين لم يغيروا مجرى التاريخ فحسب، بل قاموا بتغيير مسار الإنسانية بصفة عامة! فما هي قصة أولئك العمالقة؟ وما هي الأسرار التاريخية الخطيرة التي رافقت سيرهم؟ من هم أولئك "العمالقة المائة في أمة الإسلام؟!! " يتبع. . . . . . . إن شاء اللَّه! جهاد الترباني [email protected] رمضان 1431 هـ، أغسطس 2010 م

المراجع

المراجع * ابن كثير، أبو الفداء إسماعيل بن عمر القرشي الدمشقي: تفسير القرآن العظيم، تحقيق سامي ابن محمد سلامة، دار طيبة للنشر والتوزيع، الطبعة الثانية، 1320 هـ = 1999 م. * الرازي، فخر الدين محمد بن عمر: التفسير الكبير أو مفاتيح الغيب، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، 2000 م. * القرطبي، أبو عبد اللَّه محمد بن أحمد الأنصاري: الجامع لأحكام القرآن، دار إحياء التراث العربي، بيروت - لبنان، 1405 هـ = 1985 م. * ابن حزم، أبو محمد على بن أحمد: الفصل في الملل والأهواء والنحل، مكتبة الخانجي - القاهرة. * البخاري: التاريخ الكبير، دار الفكر، الطبعة الأولى - بيروت، 1986 م. * البخاري، محمد بن إسماعيل أبو عبد اللَّه الجعفي: الأدب المفرد، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، دار البشائر الإسلامية - بيروت، الطبعة الثالثة، 1409 هـ = 1989 م. * البخاري، محمد بن إسماعيل أبو عبد اللَّه الجعفي: الجامع الصحيح المختصر، تحقيق مصطفى ديب البُغَار، دار ابن كثير، اليمامة - بيروت، الطبعة الثالثة، 1407 هـ = 1987 م. * عبد الرزاق الكيلاني: من مواقف عظماء المسلمين، دار النفائس للطباعة والنشر، الطبعة الأولى - بيروت، 1994 م. * مسلم بن الحجاج أبو الحسين القشيري النيسابوري: صحيح مسلم، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي - بيروت. * الهيثمي، نور الدين علي بن أبي بكر: مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، دار الفكر - بيروت، 1412 هـ. * ابن حجر العسقلاني: فتح الباري شرح صحيح البخاري، دار المعرفة - بيروت، 1379 هـ. * الألباني: تمام المنة في التعليق على فقه السنة، دار الراية، الطبعة الثالثة - 1409 هـ. * الألباني: صحيح وضعيف الجامع الصغير وزيادته، المكتب الإسلامي. * الألباني: صحيح وضعيف سنن أبى داود، برنامج منظومة التحقيقات الحديثية المجاني، من إنتاج مركز نور الإسلام لأبحاث القرآن والسنة بالأسكندرية. * الألباني، محمد ناصر الدين: السلسلة الصحيحة، مكتبة المعارف - الرياض.

* ابن الأثير، أبو الحسن علي بن محمد الجزري: الكامل في التاريخ، دار إحياء التراث العربي - بيروت. * ابن الجوزي، أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد: المنتظم في تاريخ الملوك والأمم، دار صادر، الطبعة الأولى - بيروت، 1358 هـ. * ابن الطقطقا: الفخري في الآداب السلطانية والدول الإسلامية، دار صادر - بيروت. * ابن الوردي: خريدة العجائب وفريدة الغرائب، تعليق محمود فاخوري، دار الشرف العربى - بيروت، 1991 م. * ابن تيمية، أحمد بن عبد السلام: مفاج السنة النبوية، تحقيق محمد رشاد سالم، مؤسسة قرطبة، الطبعة الأولى. * ابن حبان، أبو حاتم محمد بن حبان بن أحمد البستي: السيرة النبوية، تحقيق عبد السلام علوش، المكتب الإسلامي - بيروت. * ابن حجر العسقلاني: إنباء الغمر بأبناء العمر في التاريخ، تحقيق محمد عبد المعيد خان، دار الكتب العلمية، الطبعة الثانية - بيروت، 1406 هـ = 1986 م. * ابن حزم: جوامع السيرة، تحقيق إحسان عباس وآخرين، دار المعارف - القاهرة، 1998 م. * ابن حيان القرطبي، حيان بن خلف بن حيان: المقتبس في تاريخ الأندلس، دار الآفاق الجديدة - بيروت. * ابن خلدون: المقدمة، تحقيق علي عبد الواحد وافي، مطبعة دار الشعب. * ابن دقماق: الجوهر الثمين في سير الخلفاء والملوك والسلاطين، جامعة أم القرى - السعودية، 1403 هـ. * ابن سعد، أبو عبد اللَّه محمد بن منيع: الطبقات الكبرى، تحقيق إحسان عباس، دار صادر، الطبعة الأولى - بيروت، 1968 م. * ابن فضل اللَّه العمري: مسالك الأبصار في ممالك الأمصار، تحقيق محمد نايف الديلمي، عالم الكتب للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت. * ابن قيم الجوزية، أبو عبد اللَّه بن أبي بكر بن أيوب الزرعي: زاد المعاد في هدي خير العباد، تحقيق مصطفى عطا، دار الكتب العلمية. * ابن كثير، أبو الفداء إسماعيل: البداية والنهاية، تحقيق علي شيري، دار إحياء التراث العربي، الطبعة الأولى، 1408 هـ = 1988 م.

* ابن هشام، أبو محمد عبد الملك المعافري: السيرة النبوية، تحقيق محمد فهمي السرجاني، مكتبة التوفيقية - القاهرة. * أبو العباس الناصري، أحمد بن خالد: الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى، تحقيق جعفر الناصري، دار الكتب - الدار البيضاء، 1418 هـ = 1997 م. * الذهبي: تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام، تحقيق مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية - بيروت. * المقريزي، أبو العباس تقي الدين أحمد بن علي: السلوك لمعرفة دول الملوك، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى - لبنان، 1418 هـ = 1997 م. * اليافعي، أبو محمد عبد اللَّه بن أسعد: مرآة الجنان وعبرة اليقظان في معرفة ما يعتبر من حوادث الزمان، وضع حواشيه خليل المنصور، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى - بيروت، 1417 هـ = 1997 م. * ابن الأثير، أبو الحسن عز الدين علي بن محمد الجزري: أسد الغابة في معرفة الصحابة، دار الفكر - بيروت. * ابن الخطيب، لسان الدين: الإحاطة في أخبار غرناطة، تحقيق محمد عبد اللَّه عنان، الطبعة الأولى - القاهرة، 1977 م. * الذهبي: سير أعلام النبلاء، تحقيق حسين الأسد، مؤسسة الرسالة، الطبعة التاسعة - بيروت، 1413 هـ = 1993 م. * ابن منظور، محمد بن مكرم الإفريقي المصري: لسان العرب، دار صادر، الطبعة الأولى - بيروت. * الفيروزآبادي، محمد بن يعقوب: القاموس المحيط، مطبعة دار المأمون، الطبعة الرابعة، 1357 هـ. * ابن خرداذبه، عبيد اللَّه بن أحمد: المسالك والممالك، دار صادر - بيروت، 1989 م. * الحموي، أبو عبد اللَّه ياقوت بن عبد اللَّه: معجم البلدان، دار الفكر - بيروت. * الحميري، أبو عبد اللَّه محمد بن عبد اللَّه بن عبد المنعم: صفة جزيرة الأندلس، دار الجيل، الطبعة الأولى - بيروت. * القزويني، زكريا بن محمد: آثار البلاد وأخبار العباد، دار بيروت - بيروت، 1979 م. * المقريزي، أبو العباس تقي الدين أحمد بن علي: المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار، تحقيق محمد زينهم ومديحة الشرقاوي، مكتبة مدبولي - القاهرة، 1998 م.

* ابن أبي الربيع، محمد بن أحمد: سلوك المالك في تدبير الممالك، تحقيق حامد ربيع، دار الشعب - القاهرة، 1979 م. * راغب السرجاني: قصة التتار من البداية إلى عين جالوت، مؤسسة اقرأ، الطبعة الأولى - القاهرة، 1427 هـ = 2006 م. * راغب السرجاني: ماذا قدم المسلمون للعالم، مؤسسة اقرأ، الطبعة الثالثة - القاهرة، 1431 هـ = 2010 م. * علي محمد الصلابي: الدولة العثمانية عوامل النهوض وأسباب السقوط، دار التوزيع والنشر الإسلامية، الطبعة الثانية - القاهرة، 1424 هـ = 2004 م. * علي محمد الصلابي: دولة المرابطين، دار التوزيع والنشر الإسلامية، الطبعة الأولى - القاهرة. المواقع الإلكترونية * موقع فضيلة الشيخ محمد بن عبد الملك الزغبي: www.alzoghby.com * موقع تاريخ الإسلام إشراف الدكتور راغب السرجاني: www.islamstory.com * موقع التاريخ إشراف محمد بن موسى الشريف: www.altarekh.com * موقع قناة المستقلة إشراف الدكتور محمد الهاشمي: www.almustakilla.com * موقع وزارة المجاهدين الجزائرية: www.m.moudahidine.dz * موقع متحف التاريخ الأمريكي: www.americanhistory.is.edu * موقع صحيفة دايلي تليغراف الإنجليزية: www.telegraph.co.uk

§1/1