لوائح الأنوار السنية ولواقح الأفكار السنية
السفاريني
كلمة شكر وتقدير
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كلمة شكر وتقدير الحمد للَّه رب العالمين أحمده سبحانه وأشكره وأثني عليه وأصلي وأسلم على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. بمناسبة إنتهائي من إعداد رسالة "الدكتوراه" وهي دراسة وتحقيق كتاب "لوائح الأنوار السنية ولواقح الأفكار السنية شرح قصيدة ابن أبي داود الحائية للعلامة السفاريني رحمه اللَّه. فإنى أتوجه بالشكر للَّه سبحانه الذي وفقني وأمدني بعون من عنده ثم أتقدم بالشكر والثناء لكل من قدم لي مساعدة وعونا في إعداد هذه الرسالة وأخص بالذكر استاذي فضيلة الدكتور أحمد مرعي العمري المشرف على رسالتي والذي لقيت منه كل مساعدة وتشجيع. والذي قدم لي الكثير من التوجيه والإرشاد والملاحظات القيمة التي كان لها أثر كبير في هذه الرسالة فجزاه اللَّه خيرًا وبارك فيه. كما أشكر الزملاء في قسم العقيدة وعلى رأسهم الدكتور صالح العبود الذي نلقى منه كل عناية وتشجيع وجزى اللَّه القائمين على هذه الجامعة المباركة خير الجزاء ووفقهم وسدد خطاهم وبارك في أعمالهم. كما أشكر الأخ القاضل الشيخ عمر بن سعود العيد الذي ساعدني في الحصول على إحدى مخطوطتي الكتاب وهي نسخة الظاهرية بدمشق فجزاه اللَّه خيرا. كما أشكر الأخ محمد بن عبد اللَّه السمهري الذي صور لي مقدمته لتحقيق
كتاب البحور الزاخرة في علوم الآخرة، والذي استفدت منه في دراستي هذه. فجزاه اللَّه خيرًا. كما أشكر الأخوين الفاضلين عبد الرحمن بن محمد البصيري وعبد الرحمن بن صالح العبد اللطيف الذين قاما بمساعدتي أثناء المقابلة، فجزاهما اللَّه خير الجزاء. وختامًا أسأل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ أن يجعل عملي هذا وكل أعمالي خالصة لوجهه الكريم وأن يوفقنا لما يحبه ويرضاه. إنه سميع مجيب. * * *
مقدمة المحقق
مقدمة إن الحمد للَّه نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ باللَّه من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده اللَّه فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102] {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]. {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70، 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب اللَّه، وخير الهدي هدي محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار (¬1). أما بعد: فإن اللَّه تعالى بعث نبيه محمدًا -صلى اللَّه عليه وسلم- بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره الكافرون فبلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح للأمة وجاهد في اللَّه حق جهاده، وما توفي صلوات اللَّه وسلامه عليه حتى كمّل اللَّه به الدين وأتم به نعمته على المسلمين. ¬
كما قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}. [المائدة: 3]. فكان مما جاء به وبينه -صلى اللَّه عليه وسلم- ما يتعلق بذات اللَّه من توحيد الأسماء والصفات. وهذا النوع من التوحيد -أي توحيد الأسماء والصفات منزلته في الدين عالية وأهميته عظيمة ولا يمكن أحدًا أن يعبد اللَّه على الوجه الأكمل حتى يكون على علم بأسماء اللَّه تعالى وصفاته ليعبده على بصيرة قال اللَّه تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} [الأعراف: 180]. ولما كانت حاجة العباد إلى معرفة هذا النوع ماسة بل إن حاجتهم إليه أعظم من حاجتهم إلى الماء والغذاء فقد بينه اللَّه في كتابه بيانًا شافيًا واضحًا وهذا من رحمته تعالى أن ما كانت حاجة الناس إليه أشد كان بيانه واضح ووجوده أعم. والرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- قد وصف اللَّه بما وصف به نفسه في كتابه الذي أنزله ليكون هدى للعالمين ومنارًا للسالكين، فأخبر الناس بأنه تعالى يرحم ويغضب ويرضى ويسخط ويحب ويبغض وأنه مستو على عرشه عال على خلقه وأنه يسمع ويبصر ويعطى ويمنع ويخفض ويرفع وأنه ينزل إلى السماء الدنيا في ثلث الليل الآخر، أخبرهم بذلك وغيره فآمن الصحابة به وتلقوه بالقبول من غير شك ولا ارتياب وعاش أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- على هذه العقيدة الصحيحة الصافية الخالية من الشوائب والأكدار، ثم واصلوا مسيرة الخير والنور فانتشر الإِسلام انتشارًا لم يعهد له نظير في سالف الدهر ولاحقه لأي دعوة من الدعوات وبسرعة عجيبة فطبق المعمورة شرقًا وغربًا وجنوبًا وشمالًا فدخل في الإسلام شعوب مختلفة العادات والأفكار واللغات ولها حضارات وأديان فاعتاضوا عن ذلك كله بالإِسلام. عند ذلك ثارت ثائرة المجوسية الحاقدة واليهودية الماكرة بغيًا وحسدًا وأخذوا
يخططون لكيد الإسلام وأهله فكان أول هذه المكائد مقتل الخليفة عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه، ثم عثمان رضي اللَّه عنه، ثم خروج الخوارج على علي رضي اللَّه عنه وقتلهم إياه ثم ظهر في مقابلتهم التشيع البغيض ثم استفحل إلى الرفض والغلو المفرط ثم ظهرت القدرية المنقصة للَّه ثم كان الإرجاء والتجهم والإعتزال ثم جاءت الأشعرية بتأويلاتها وتحريفاتها وتناقضاتها (¬1). وفي مقابل هذه الفرق الضالة والبدع الحادثة هيأ اللَّه لهذه العقيدة من ينصرها ويدافع عنها ويقوم ببيانها وتوضيحها على مر العصور أمثال الإمام أحمد والإمام البخاري وأبى سعيد الدارمي والإمام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وغيرهم من العلماء ممن يطول ذكرههم رحمهم اللَّه. ومن هؤلاء العلماء البارزين العلامة محمد بن أحمد بن سالم السفاريني من علماء القرن الثاني عشر الذي ألف عدة مؤلفات في بيان عقيدة السلف والدعوة إليها والرد على الفرق المخالفة. ومن هذه المؤلفات كتابه: "لوائح الأنوار السنية ولواقح الأفكار السنية شرح قصيدة ابن أبي داود الحائية" وهو هذا الكتاب الذي قمت بدراسته وتحقيقه. هذا وقد بذلت جهدي وأفرغت وسعي في سبيل خدمة هذا الكتاب وأرجو أن أكون قد وصلت به إلى ما يفيد القارئ الكريم وأسأل اللَّه أن ينفع به وأن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه. هذا ولا أبرئ نفسى من الخطأ والتقصير فهذا من طبع البشر إلا من عصمه اللَّه من رسله وأنبيائه، لكن عذري أني قد بذلت جهدي فما كان فيه من صواب فمن ¬
اللَّه وله الحمد والمنة وما كان فيه من نقص وتقصير فمنى واستغفر اللَّه. وإلى القارئ الكريم بيان عملي ومنهجي في دراسة الكتاب وتحقيقه: يتكون عملي هذا من قسمين: القسم الأول: الدراسة. القسم الثاني: التحقيق والتعليق. أما الدراسة فستكون في فصلين: الفصل الأول: دراسة عن المؤلف وفيه مباحث: المبحث الأول: عصر المؤلف من الناحية السياسية والدينية والعلمية. المبحث الثاني: حياته الشخصية وفيه الأمور الآتية: اسمه ونسبه ونسبته. مولده ونشأته. أسرته وأصله. صفاته وسيرته وأخلاقه. وفاته. المبحث الثالث: حياته العلمية وفيه: طلبه العلم ورحلاته وتحصيله العلمي - شيوخه - تلاميذه - مكانته العلمية وثناء العلماء عليه - مؤلفاته - عقيدته ومذهبه.
الفصل الثاني: دراسة الكتاب وفيه مباحث: المبحث الأول: 1 - اسم الكتاب. 2 - موضوع الكتاب. 3 - سبب تأليف الكتاب. 4 - توثيق نسبة الكتاب إلى المؤلف. 5 - منهج المؤلف في الكتاب. 6 - مصادر الكتاب. 7 - موازنة بين الكتاب وبين كتاب "لوامع الأنوار" للمؤلف وبيان أهميتهما. 8 - بعض المآخذ على الكتاب. المبحث الثاني: 1 - وصف النسخة الخطية للكتاب. 2 - تاريخ النسخ. 3 - الناسخ. أما منهج التحقيق والتعليق فقد سرت فيه على النحو الآتي: 1 - قراءة النص ومقابلة النسختين واثبات الفروق في الهامش مع المقابلة بكتاب لوامع الأنوار للمؤلف في كثير من المواضع وقد ساعدني كثيرًا في تقويم بعض النصوص التي يتفقان فيها. وكذلك رجعت إلى المصادر التي ينقل عنها المؤلف وذلك لتوثيق النص وتصويبه
للوصول به إلى أقرب صورة إلى الصواب. 2 - تحرير نسبة الأقوال والآراء التي يسندها المؤلف إلى أصحابها وعزوها إلى مصادرها من كتبهم ما أمكن ذلك. 3 - التعليق على المواضع التي رأيت أنها تحتاج إلى بيان وتوضيح وخاصة ما يتعلق بالعقيدة. 4 - نبهت على الأوهام التي وقعت للمؤلف. 5 - ذكرت مواضع الآيات القرآنية من كتاب اللَّه. 6 - خرجت الأحاديث والآثار الواقعة في الكتاب مع بيان ما قاله أهل العلم في الحكم على الحديث بإيجاز. 7 - ترجمت للأعلام الواقع ذكرهم في الكتاب ولم أترجم للصحابة لشهرتهم. 8 - شرحت المفردات الغريبة في الكتاب. 9 - وقعت بعض الأخطاء في نصوص الكتاب فإذا كان النص للمؤلف فإني أبقي النص كما هو -في الغالب- مع الإشارة في الهامش إلى ما رأيت أنه الصواب. أما إذا كان النص لغير المؤلف ووجدته في أصوله فإني أثبت ما في الأصول مع الإشارة في الهامش إلى ما في أصل النص. 10 - عرفت تعريفًا موجزًا بالفرق والبلدان والأماكن الوارد ذكرها في الكتاب. 11 - جعلت نص القصيدة بين قوسين تمييزًا له عن شرح المؤلف. 12 - وضعت فهارس للكتاب وهي: - فهرس الآيات.
- فهرس الأحاديث. - فهرس الآثار. - فهرس الأشعار. - فهرس الفرق. - فهرس الأعلام. - فهرس الموضوعات. وباللَّه التوفيق. * * *
الفصل الأول دراسة حياة المؤلف وعصره
القسم الأول: الدراسة
الفصل الأول دراسة حياة المؤلف وعصره وفيه مباحث: المبحث الأول: عصر المؤلف من الناحية السياسية، والعلمية، والدينية المبحث الثاني حياته الشخصية المبحث الثالث في حياته العلمية
المبحث الأول في عصر المؤلف
المبحث الأول في عصر المؤلف تمهيد: من المعلوم أنه ينبغي لمن أراد أن يعطي فكرة عن علم من الأعلام وبيانًا لأثره في المجتمع أن يدرس الظروف المحيطة به والبيئة التي عاش فيها ذلك أن الشخص يتأثر بالبيئة وبمن حوله من أساتذته ومعلميه كما يؤثر هو في تلاميذه وبمن يحيطون به ويعاشرونه، فللأحوال السياسية والاجتماعية وغيرهما أثر في تكييف إتجاهه ومنهجه الذي يسلكه من أجل ذلك رأيت أن أعطي القارئ فكرة موجزة عن عصر السفاريني من النواحي الآتية: 1 - الناحية السياسية. 2 - الناحية الدينية. 3 - الناحية العلمية. أولا: الحالة السياسية: عاش السفاريني رحمه اللَّه في القرن الثاني عشر في بلاد الشام في الفترة ما بين (1114 - 1188 هـ) وكانت بلاد الشام لا تزال تحت الحكم العثماني، وإذا نظرنا إلى الدولة العثمانية في هذا العصر نجدها قد ضعفت بعد قوتها (. . فقد تآلبت عليها دول أوروبا في هذا القرن حتى انتزعت منها كثيرًا من ممتلكاتها وكان سلاطينها من الضعف بمكان فلم يكن لهم شيء من الأمر في الدولة وإنما كان الأمر
لوزرائهم وكان أكثر هؤلاء الوزراء جُهلاء، لا يعرفون شيئًا من أحوال السياسة الدولية في هذا القرن ولا يعرفون ما يجري حولهم ولا يأخذون بشيء من الإصلاح والتجديد، بل يجمدون على ما ألفوه. . .) (¬1). (وبهذا انقلبت الدولة العثمانية إلى مطايا استبداد وفوضى وقام كثير من الولاة والأمراء بالخروج عليها وتكوين حكومات مستبده وضعيفة لا تستطيع اخضاع من في حكمها فكثر السلب والنهب وفقد الأمن) (¬2). ويصف محمد كرد علي حالة الشام في القرن الثاني عشر فيقول: (. . . وسكان هذا القطر -أي بلاد الشام- كسائر الأقطار العثمانية لا عمل لهم إلا رضاء شهوات حكامهم من وطنيين وغرباء فلم يحدث شيء مما يقال له الإصلاح لأن رجال الدولة لم يفكروا فيه حتى يتوسلوا بأسبابه وإذا توسلوا فلا يحسنون طرقه وقد اعتادوا الأخذ ولم يعتادوا العطاء بتحسين الحالة ليزيد الأخذ والعطاء معًا. . .) (¬3). وقد كان لهذه الأحوال السياسية أثر على الأمة الإِسلامية في كثير من نواحي الحياة، ولذا يقول بمعنى المؤرخين: (إن الحكم العثماني للبلاد الإِسلامية ابتداء من القرن الثاني عشر قد اتسم ¬
الحالة الدينية
بالتخلف والإستبداد وإرهاق الرعية بالضرائب والأتاوات الباهظة فعم الفقر والبؤس) (¬1). وإذا ما أردنا أن نتعرف على موقف السفاريني من حكام عصره لا شك أن السفاريني رحمه اللَّه قد نشأ وتربى في هذا الجو السياسي والظروف القاسية وعانى منها وأحس بوطئتها على من حوله لذا فإنه عندما اكتملت رجولته ووصل إلى درجة التأثير. . (نراه محاربًا للظلم والطغيان صادعًا بكلمة الحق لا يماري فيه ولا يهاب أحدًا والجميع من أعيان بلده وأمرائه ليهابونه، يأمر بالمعروف، وينهي عن المنكر) (¬2). ومما يذكر من شجاعته أنه قال لأمير نابلس لما تولى بعد أبيه وجاء أهل العلم لتهنئته بالإمارة وطلبوا منه إلغاء الضرائب الزائدة عن الزكاة الشرعية فإن المزارعين جائعون لا يشبعون من غلة أراضيهم من الضرائب الفادحة، فقال الأمير: لا أغير شيئًا مما كان عليه والدي المرحوم، فقال له الشيخ السفاريني: وما أدراك أنه مرحوم؟ أزل الضرائب والناس يدعون لك وله فاستجاب الأمير للشيخ وأزال كثيرًا من الضرائب وأخذوا منه كتابه بإزالة الضرائب ودعوا له بالتوفيق (¬3). ثانيًا: الحالة الدينية: كان العالم الإِسلامي في القرن الثاني عشر يعاني من الجمود والإنحطاط وقد تسربت الأداواء إلى الأخلاق والإجتماع وقبل المسلمون كثيرًا من العادات والشعائر ¬
والتقاليد الأعجمية غير الإِسلامية (¬1) وانتشر فيه التصوف وظهر فيه كثير من البدع والخرافات فقد اشتدت غربة الإِسلام بينهم وعفت آثار الدين لديهم وانهدمت ملة الحنيفية وغلب على الأكثرين ما كان عليه أهل الجاهلية وانطمست أعلام الشريعة في ذلك الزمان وغلب الجهل والتقليد والإعراض عن السنة والقرآن (¬2). ويصور الكاتب الأمريكى "لوثروب ستودارد" في كتابه: (حاضر العالم الإسلامي) الحالة الدينية المتردية فيقول: (وأما الدين فقد غشيته غاشية سوداء فألبست الوحدانية التي علمها صاحب الرسالة للناس سجفا من الخرافات وقشور الصوفية وخلت المساجد من أرباب الصلوات وكثر عدد الأدعياء الجهلاء وطوائف الفقراء والمساكين يخرجون من مكان إلى مكان يحملون في أعناقهم التمائم والتعاويذ والسبحات ويوهمون الناس بالباطل والشبهات ويرغبونهم في الحج إلى قبور الأولياء ويزينون للناس التماس الشفاعة من دفناء القبور وغابت عن الناس فضائل القرآن. . .) (¬3). وينقل لنا السفاريني رحمه اللَّه تعالى في كتابه غذاء الألباب صورًا من مظاهر الحالة الدينية في عصره قال رحمه اللَّه -بعد أن ذكر شكوى ابن عقيل (¬4) ومن بعده ابن مفلح (¬5) من أهل زمانهم وما ظهر في زمنهم من البدع والمنكرات قال: "فما ¬
بالك بعصرنا هذا الذي نحن فيه -وهو في المائة الثانية عشرة- وقد انطمست معالم الدين وطفئت إلا من بقايا حفظة الدين فصارت السنة بدعة والبدعة شرعة والعبادة عادة والعادة عبادة، فعالمهم عاكف على شهواته، وحاكمهم متمادي في غفلاته، وأميرهم لا حلم لديه ولا دين، وغنيهم لا رأفة عنده ولا رحمة للمساكين، وفقيرهم متكبر، وغنيهم متجبر" ثم قال: مطلب متصوفة زماننا وما يفعلونه من المنكرات فلو رأيت جموع صوفية زماننا وقد أوقدوا النيران واحضروا آلات المعازف بالدفوف المجلجلة والطبول والنايات والشّباب (¬1) وقاموا على أقدامهم يرقصون ويتمايلون لقضيت بأنهم فرقة من بقية أصحاب السامري وهم على عبادة عجلهم يعكفون أو حضرت مجمعا وقد حضره العلماء بعمائمهم الكبار والفراء المثمنة والهيئات المستحسنة وقدموا نصاب الدخان التي هي لجامات الشيطان وقد ابتدر ذو نغمة ينشد من الأشعار المهيجة فوصف الخدود والنهود والقدود وقد أرخى القوم رؤوسهم ونكسوها واستمعوا للنغمة واستأنسوها لقلت وهم لذلك مطرقون ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون، فإنا للَّه وإنا إليه راجعون (¬2). وفي خضم هذا الفساد الإعتقادي والإبتعاد عن كتاب اللَّه وسنة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- الذي ساد العالم في القرن الثاني عشر قيض اللَّه من يصحح لهذه الأمة عقيدتها وسلوكها ومن بين هؤلاء الذين حملوا لواء الإصلاح الشيخ محمد السفاريني في بلاد الشام. ومن أبرز مظاهر تغييره للأوضاع الإعتقادية السائدة تأليفه في العقيدة السلفية ¬
الحالة العلمية
ومنها كتابه هذا: "لوائح الأنوار السنية ولواقح الأفكار السنية شرح قصيدة ابن أبى داود الحائية"، وهو الكتاب الذي أقوم بتحقيقه. ومنها كتابه الآخر: "لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثريه لشرح الدرة المرضية في عقد الفرقة المرضية" وكذلك كتابه "البحور الزاخرة في علوم الآخرة". ثالثًا: الحالة العلمية: كان هذا العصر من الناحية العلمية يغلب عليه الجمود وعدم الإبتكار ويعلل بعض المؤرخين سبب هذا الإنحطاط إلى الحكم الإستبدادي والضرائب الفادحة والتدهور الإقتصادي والإنهيار الاجتماعي وهذه الأمور لا تغري بالإبتكار الشخصي في العلوم في عصر الجمع والتعليق والإختصار والتقليد الذي بدأ قبل ذلك بقرون عديدة واستمر في هذه الأثناء لكن النتائج التي أعطاها كانت أقل وأضعف (¬1). إلا أن الشيخ أبا الحسن الندوي في بحث له عن العالم الإِسلامي في القرن الثاني عشر يصور لنا الحالة العلمية بصورة تظهر أنها كانت في أوجها يقول: ". . . كان العلماء في مصر والشام والعراق والحجاز واليمن وإيران والهند وغيرها من بلدان العالم الإِسلامي منصرفين إلى التدريس والإفادة وكان الباحثون والمحققون مقبلين على التألف والتصنيف والبحث والتحقيق". ثم ساق نخبة من أسماء العلماء في هذا العصر، أمثال الشيخ أبي الحسن السندي الكبير (المتوفى سنة 1138 هـ) والشيخ محمد حياة السندي (المتوفى سنة 1163 هـ) والشيخ إسماعيل العجلوني ¬
المشهور بالجراحي (المتوفى سنة 1162 هـ) صاحب كشف الخفاء ومزيل الالباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس، والشيخ أبي طاهر الكوراني الكردي، والشيخ حسن العجيمي في الحرمين الشريفين، والشيخ سليمان بن يحيى الأهدل في اليمن والشيخ محمد بن أحمد السفاريني (المتوفى سنة 1188 هـ) والأمير محمد بن إسماعيل الصنعاني (المتوفى سنة 1142 هـ) صاحب سبل السلام وغيرهم (¬1). ولكن الذي يظهر: أن هؤلاء الذين ذكرهم -أو أغلبهم- لم يكونوا من أهل الإبتكار -غالبا- وإنما تآليفهم إما أن تجدها حواشي على مؤلف أو اختصار أو جمع أو غير ذلك مما كان يتطلبه هذا العصر وإن كان لهم في ثنايا ذلك بعض الترجيحات والتصويبات (¬2). ويصف الشيخ السفاريني الحالة العلمية التي عاشها في معرض حديثه عن عزمه على شرح (ثلاثيات مسند الإمام أحمد) بعد تردد طويل قال -بعد أن استقر رأيه على كتابة شرحه القيم: ". . . ولم يبق من آثار هذا البيان إلا حكايات تتزين بها الطروس ككان وكان والعلم قد أفلت شموسه وتقوضت محافله ودروسه وربعه المأهول أمسى خاليًا وواديه المأنوس أضحى موحشًا داويا وغصنه الرطيب غدا داويًا وبرده القشيب صار باليًا فالعالم الآن قلت مضاربه وضاقت مطالبه وعالت معاطيه وسددت مذاهبه فليس له في هذا الزمان ومنذ أزمان إلا التجاء إلى عالِم السر والإعلان. . . " (¬3). ¬
فالحاصل: أن السمة البارزة للحياة العلمية في هذا العصر من حيث التأليف قد كانت عبارة عن الإختصار والنقل والشرح والجمع وتكرار ما قاله السابقون مع بعض الإضافات العلمية من ترجيح وتصويب خطأ ونحو ذلك. ونجد هذه السمة واضحة في مؤلفات الشيخ السفاريني مواكبة منه لروح العصر العلمية وتأثر بالسائد فيه (¬1). * * * ¬
المبحث الثاني حياته الشخصية
المبحث الثاني حياته الشخصية وفيه: 1 - إسمه ونسبه ونسبته. 2 - مولده ونشأته. 3 - أصله وأسرته. 4 - صفاته وسيرته وأخلاقه. 5 - وفاته.
اسمه ونسبه ونسبته
المبحث الثاني حياته الشخصية اسمه وكنيته ونسبته: محمد بن أحمد بن سالم بن سليمان السفاريني أبو العون شمس الدين (¬1) نسبته إلى سفارين، وهي قرية من قرى نابلس بفلسطين. ¬
مولده وأسرته وأصله
قال العلامة مرتضى الزبيدي في شرح القاموس: "سفارين كجبارين قرية من أعمال نابلس منها شيخنا العلامة (أبو عبد اللَّه) محمد بن أحمد بن سالم الحنبلي الأثري. . . " (¬1). وقال محمد شراب: سفارين بفتح السين وتشديد الفاء قرية تقع جنوب شرق طولكرم (بفلسطين) على مسافة عشرين كيلًا ينسب إليها عدد من العلماء منهم: الشيخ محمد السفاريني (¬2). مولده وأسرته وأصله: اتفقت المصادر على أن مولده بقرية سفارين سنة أربع عشرة ومائة وألف كما وجد بخطه. ونشأ بها (¬3). وأما أسرته وأصله: فلم تذكر المصادر معلومات وافية عن أسرته وأصله وأولاده إلا ما ذكره محمد شراب في ترجمته إذ قال: وأصل الأسرة من الحجاز حيث نزح بعض أفرادها وسكنوا طولكرم ويافا وعرفوا فيما بعد بـ "آل حنون" العائلة الوجيهة في البلاد والشيخ سعيد بن أسعد السفاريني كان إمامًا معتمدًا في المذهب الحنبلي وتوفى سنة 1252 هـ. . (¬4). وقد استطعت من خلال الإستقراء الوصول إلى معرفة اثنين من أبنائه وهما: يوسف ومصطفى. ¬
صفاتة وسيرته وأخلاقه
وإلى معرفة اثنين من أحفاده وهما عبد الرحمن بن يوسف وعبد القادر بن مصطفى (¬1). جاء ذكرهما عرضًا في ترجمته في فهرس الفهارس حيث قال: "وقال الحافظ الزبيدي عنه أيضًا في إجازته لحفيد المترجم عبد الرحمن بن يوسف بن محمد السفاريني: وجده محمد بن أحمدا ... شيخ الحديث قد هدى وسددا قد كان عمر اللَّه في نابلس ... بقية الأخيار عالي النفس أوحد من كانت له العناية ... في حفظ هذا الفن فوق الغاية وقال في ذكر سنده لمرويات المصنف. . . ونتصل به مسلسلًا بالحنابلة: عن البرهان إبراهيم الخنكي الحنبلي عن محمد بن حميد التركي عن الشهاب أحمد اللبدي النابلسي وعثمان بن عبد اللَّه النابلسي كلاهما عن عبد القادر بن مصطفى بن محمد السفاريني عن أبيه عن جده (¬2). صفاته وسيرته وأخلاقه: كان رحمه اللَّه تعالى جليلًا جميلًا صاحب سمة ووقار ومهابة واعتبار جمع بين الإمامة والفقه والديانة والصيانة والصدق وحسن السمت والخلق والتعبد وطول الصمت عما لا يعني وكان محمود السيرة نافذ الكلمة رفيع المنزلة عند الخاص والعام سخي النفس كريمًا بما يملك مهابًا عظيمًا، وكان كثير العبادة ملازمًا على ¬
وفاته
قيام الليل ودائمًا يحث الناس عليه، وكانت مجالسه لا تخلو من فائدة وكان مشغلا جميع أوقاته بالإفادة والاستفادة بطرح المسائل على الطلاب والأقران ويدور بينه وبينهم المحاورة في التحرير والإتقان، وكان صادعًا بالحق لا يماري فيه ولا يهاب أحدا والجميع من أعيان البلد وأمرائها يهابونه. يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر وكان ناصرًا للسنة قامعًا للبدعة، وكان خيرًا جوادًا لا يقتنى شيئًا من الأمتعة والأسباب الدنيوية سوى كتب العلم فإنه كان حريصًا على جمعها ويقول دائما: أنا فقير من الكتب العلمية، وكان كل ما يدخل إلى يده من الدنيا ينفقه وعاش مدة عمره في بلده عزيزًا موقرًا محتشمًا (¬1). وفاته: اتفقت المصادر على أنه توفي سنة ثمان وثمانين ومائة وألف. قال الجبرتي: لا زال يملي ويفيد ويجيز من سنة ثمان وأربعين (¬2) إلى أن توفى يوم الأثنين ثامن شوال من هذه السنة (¬3) بنابلس وجهز وصلى عليه بالجامع الكبير ودفن بالمقبرة الزاركية وكثر الأسف عليه ولم يخلف بعده مثله -رحمه اللَّه رحمة واسعة (¬4). * * * ¬
المبحث الثالث في حياته العلمية
المبحث الثالث في حياته العلمية وفيه الأمور الآتية: 1 - طلبه العلم ورحلاته وتحصيله العلمي. 2 - شيوخه - تلاميذه. 3 - مكانته العلمية وثناء العلماء عليه. 4 - مؤلفاته. 5 - عقيدته - ومذهبه في الفقه.
طلبه العلم ورحلاته
المبحث الثالث حياته العلمية مبدأ طلبه العلم: قال عن نفسه رحمه اللَّه: "وقد من اللَّه على بقراءة القرآن سنة إحدى وثلاثين ومائة وألف وعمري إذ ذاك نحو سبعة عشر عامًا وللَّه الحمد" (¬1). ويذكر الجبرتي مبدأ طلبه للعلم بقوله: "وقرأ القرآن في سنة إحدى وثلاثين في نابلس واشتغل بالعلم قليلًا، وارتحل إلى دمشق سنة 1133 هـ ومكث بها قدر خمس سنوات وأخذ عن علمائها" (¬2). "وعاد من رحلته في طلب العلم سنة تسع وثلاثين ومائة وألف إلى نابلس" (¬3). رحلاته العلمية وتحصيله العلمي: كما ذكرت المصادر فقد ولد رحمه اللَّه في قرية سفارين ثم انتقل منها إلى نابلس وبدأ بها في طلب العلم ثم ارتحل بعد ذلك إلى دمشق وهي في ذاك الوقت عامرة بالعلماء وطلبة العلم فأخذ بها في طلب العلم مشمرًا عن ساق الإجتهاد ورزقه اللَّه قوة الحفظ وملكة الإستيعاب فحصل في الزمن اليسير ما لم يحصل لغيره في الزمن الكثير (¬4). ¬
فسمع في رحلته هذه من كبار المشايخ والعلماء وأجازه غير واحد منهم فاكتسب بذلك علمًا غزيرًا حتى صار يذاكر بعض شيوخه في مسائل في المذهب الحنبلي وهو إذ ذاك ابن تسع عشرة سنة، ومن ذلك ما يرويه حين رحل إلى الشيخ أبى التقى عبد القادر بن عمر التغلبي سنة ثلاث وثلاثين ومائة وألف قال -رحمه اللَّه-: وذاكرته في عدة مباحث من شرحه على الدليل -أي دليل الطالب- فمنها ما رجع عنها، ومنها ما لم يرجع لوجود الأصول التي نقل منها. وكانت إجازة الشيخ -المذكور- لنا سنة خمس وثلاثين (¬1). وهذا يدل على سرعة استيعابه وحفظه وقوة فهمه وتبحره في المذهب الحنبلي مما جعل بعض شيوخه يقربه إليه ويجله حتى كان يحضره مجالس العلماء والفقهاء، قال -رحمه اللَّه- عن شيخه أحمد الغزي وكان يقدمني ويجلني، وكان له يوم في الأسبوع يحضره العلماء والمدرسون من سائر المذاهب وكان يجلسني مع كبارهم مع أنى يومئذٍ من الطلبة فكنت أحتشم من كوني أجلس مع أشياخي أو فوقهم ولكن لا بد من امتثال أمره وكان مهابا جدًا وإذا بدأ ما يسأل عنه في المذهب الحنبلي سألني مع حضور أشياخي: الشيخ مصطفى اللبدي أمين فتوى المذهب الحنبلي والشيخ محمد بن الشيخ عبد الجليل أبي المواهب مفتي السادة الحنابلة فأجيبه ثم اعتذر بعد انفضاض المجلس، فيقول الشيخ مصطفى: هذا من مفاخري أن يجيب تلميذي في مثل هذه المحافل" (¬2). ثم حج بمد ذلك في سنة 1148 هـ وفي خلال سفره للحج زار المدينة المنورة والتقى فيها بالشيخ الحافظ محمد حياة السندي فسمع منه الحديث المسلسل بالأولية ¬
شيوخه
وأوائل الكتب الستة، كما سمع من صهره الشيخ محمد الدقاق (¬1). شيوخه: رحل السفاريني رحمه اللَّه -كما ذكرنا- في طلب العلم وجد فى تحصيله فلازم عددًا من المشايخ وأخذ عن كثير من العلماء. قال ابن حميد في ترجمته. . . "ثم قدم دمشق فقرأ الحلم فى الجامع الأموي على مشايخ فضلاء وأئمة نبلاء ما بين مكيين ومدنيين وشاميين ومصريين" (¬2). وسأذكر فيما يلي أسماء من عرفت منهم -إجمالًا- ثم أذكر ترجمة موجزة لأشهرهم وأكثرهم تأثيرًا فيه -فمنهم-: 1 - أحمد بن عبد الكريم بن سعودي العامري الغزي. 2 - أحمد بن على المنيني الحنفي الطرابلسي. 3 - إسماعيل بن محمد الجراحي العجلوني. 4 - الياس بن إبراهيم بن داود الكردي. 5 - حامدي بن على بن إبراهيم العمادي. 6 - سليمان بن أحمد بن سليمان المحاسني. 7 - طه بن أحمد اللبدي. 8 - عبد الرحمن بن محي الدين السليمي الشهير بالمجلد. 9 - عبد الرحيم الكرمي. 10 - عبد السلام بن محمد الكاملي. 11 - عبد الغني النابلسي. ¬
12 - عبد القادر التغلبي. 13 - عبد اللَّه البصروي. 14 - عواد بن عبيد الكوري. 15 - محمد حياة السندي ثم المدني. 16 - محمد الدقاق. 17 - محمد السلقيني. 18 - محمد الخليلي. 19 - محمد الفزي. 20 - محمد أبو طاهر المدني. 21 - محمد الأسكندري. 22 - مصطفى البكري. 23 - مصطفى بن عبد الحق اللبدي. 24 - مصطفى بن سوار. 25 - مصطفى بن مصطفى السواري. 26 - مصطفى بن يوسف الكرمي. 27 - هاشم الحنبلي. 28 - أبو حسني السندي ثم المدني (¬1) وفيما يلي ترجمة موجزة لأبرزهم: ¬
1 - أحمد بن علي المنيني الحنفي الطرابلسي الأصل ولد بقرية منين من قرى دمشق سنة 1089 ونشأ في دمشق وأخذ عن علمائها وقد قرأ عليه السفاريني "شرح جمع الجوامع" و"شرح الكافية" و"شرح الفطر" للفاكهي وحضر دروسه للصحيح، وشرحه على منظومة الخصائص الصغرى للسيوطي وقد أجازه بذلك كله. توفى بدمشق سنة 1172 هـ (¬1). 2 - أحمد بن عبد الكريم بن سعودي بن نجم الدين الشافعي الغزى الأصل العامري الدمشقي مفتى الشافعية بها كان عالمًا صدرًا رئيسا ولد بدمشق في سنة ثمان وسبعين وألف وبها نشأ له مؤلفات منها: شرح على المنحة النجمية، وشرح على نظم نخبة الفكر، ومختصر السيرة النبوية للحلبي وغير ذلك. قرأ عليه السفاريني في الجامع الأموي غالب الصحيح بحضرة جملة من كبار شيوخ المذاهب الأربعة، توفى بدمشق سنة 1143 هـ (¬2). 3 - إسماعيل بن محمد الجراحي العجلوني الدمشقي أبو الفداء. محدث الشام في أيامه، مولده بـ"عجلون" سنة 1087 هـ. له كتب منها: كشف الخفاء ومزيل الألباس عما أشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس (¬3)، والفيض الجاري في شرح صحيح البخاري (خ) يوجد منه ثمانية مجلدات بخطه في مكتبة زهير الشاويش كتبها سنة 1153 ولم يتم. وقد لازمه السفاريني خمس سنين قرأ عليه في السيرة النبوية وفي الحديث. ¬
توفى في دمشق سنة 1162 هـ (¬1). 4 - عبد الرحمن بن محي الدين السليمي الحنفي المعروف بالمجلد الدمشقي المعمر المحدث الفقيه مولده بعد الثلاثين وألف، وفاته سنة 1140 قرأ عليه السفاريني ثلاثيات البخاري وحضر دروسه العامة وأجازه (¬2). 5 - عبد الغني بن إسماعيل بن عبد الغني الحنفي الدمشقي، ولد ونشأ في دمشق ورحل إلى بغداد وعاد الى دمشق واجتمع به محمد السفاريني في دمشق فقرأ عليه الأربعين النووية وثلاثيات البخاري وثلاثيات الإمام أحمد وحضر دروسه في التفسير، له تصانيف عديدة منها: ذخائر المواريث للدلالة على مواضع الحديث (¬3)؛ وتحقيق القضية في الفرق بين الرشوة والهدية وغير ذلك. مات بدمشق سنة 1143 هـ (¬4). 6 - عبد القادر بن عمر التغلبي الحنبلي الدمشقي أبو التقي، ولد بدمشق سنة 1052 هـ وتخرج عليه جماعة من الحنابلة وغيرهم من أجلهم العلامة محمد السفاريني وقد أجازه منة 1135 هـ، له مصنفات منها: شرح دليل الطالب في مذهب الحنابلة وغيره، توفى سنة 1135 هـ (¬5). ¬
تلاميذه
7 - عواد بن عبيد اللَّه الدمشقي الشهير بالكوري الفقيه كان الغالب عليه الصلاح والتقوى والديانة وكان يعظ فى الجامع الأموي وكان الناس يزدحمون على سماع وعظه، وقد تتلمذ عليه جماعة من الأفاضل أجلهم العلامة السفاريني وقد كتب له إجازة مطولة، وكانت وفاته بدمشق سنة 1168 هـ (¬1). 8 - مصطفى بن عبد الحق اللبدي النابلسي ثم الدمشقي الحنبلي له باع فى الفقه وأصوله وفى الفرائض والحساب، كان دينًا ورعًا صالحًا متواضعًا ومناقبه جمة وقد صحبه السفاريني وقرأ عليه، غالب مشاهير كتب المذهب، توفى بدمشق سنة 1153 هـ (¬2). 9 - مصطفى بن كمال البكري الحنفي أبو المواهب كثير التصانيف والرحلات لازمه السفاريني وقرأ عليه مصنفاته وأجازه بماله وكتب له بذلك، توفى سنة 1162 هـ (¬3). تلاميذه: المؤلف رحمه اللَّه من كبار علماء عصره ولا شك أنه تتلمذ على يده عدد كبير من طلبة العلم، فمن أبرزهم: 1 - محمد كمال الدين بن محمد الفزي العامري المتوفى سنة 1214 هـ صاحب كتاب النعت الأكمل لأصحاب الإمام أحمد وقد ترجم للمؤلف في كتابه هذا ¬
ترجمة وافية وقال فى صدر الترجمة: شيخنا الشيخ الإمام (¬1). 2 - محمد مرتضى الحسيني الزبيدي العلامة اللغوي المتوفى سنة 1205 هـ صاحب تاج العروس شرح القاموس. قال في شرح مادة (سفر). . . "وسفارين كجبارين قرية من أعمال نابلس منها شيخنا العلامة محمد بن أحمد السفاريني .. كتب إليّ مروياته وأجازني بها" (¬2). 3 - شاكر بن علي العقاد (¬3) الشهير بمقدم سعد شيخ علماء الحنفية بدمشق المولود بدمشق سنة 1158 والمتوفى بها سنة 1222 هـ قال عبد الحي الكتاني وهو يذكر مؤلفات المؤلف وله ثبت ألفه لما استجازه من دمشق العلامة شاكر العقاد. . . قال فأجازه وأرسل اليه كراسة جعلها كالثبت له. . . إجازة مطولة جامعة شافية مشتملة على الأسانيد العالية والمرويات الغالية (¬4). 4 - عبد اللَّه بن شحادة السفاريني، الشهير بابن الخطاب قرأ على الشيخ محمد السفاريني مدة وافرة ولازمه وانقطع فى خدمته حتى توفى سنة 1187 هـ بنابلس (¬5). 5 - مصطفى بن سعد السيوطي. مفتي الحنابلة فى دمشق وهو من أكابر تلاميذ ¬
السفاريني، ولد سنة 1165 وتوفى بدمشق سنة 1243 هـ (¬1). 6 - محمد بن أحمد بن صفي الدين أبو الفضل الحسيني محدث فقيه، ولد سنة 1160 هـ سمع من العلامة محمد السفاريني في ذهابه إلى نابلس وأجازه، توفى بنابلس سنة 1200 هـ (¬2). 7 - محمد بن السيد هاشم الجعفري النابلسي ولد بنابلس سنة 1156 هـ ونشأ بها، تفقه على والده وعلى العلامة السفاريني، توفى سنة 1228 هـ (¬3). 8 - عيسى القدومي عالم فاضل اشتغل بتحصيل العلوم بدمشق واستفاد وأفاد وهو من تلامذة العلامة السفاريني (¬4). وقد استجازه عدد من العلماء وطلبة العلم. قال الحافظ الزبيدي في ترجمته من المعجم المختص كتبت إليه أستجيزه فكتب إليّ إجازة حافلة في عدة كراريس حشاها بالفوائد والغرائب وكان وصول هذه الإجازة 1179. ثم كاتبته ثانيًا عام 1182 وأرسلت اليه الإستدعاء باسم جماعة من الأصحاب فاجتهد وحرر إجازة حسنة حشاها بفوائد غربية فى كراريس" (¬5). ¬
مكانته العلمية وثناء العلماء عليه
وممن استجازه: السيد سليمان بن يحيى بن عمر الأهدل (¬1) الزبيدي الشافعي محدث الديار اليمنية في عصره وهو شيخ مرتضى الزبيدي صاحب تاج العروس، توفى سنة 1197 هـ. قال عبد الحي الكتاني: "ممن استجاز له السيد مرتضى من الزبيديين: شيخه وعمدته السيد سليمان الأهدل وكذا لأخيه السيد أبي بكر وعثمان الحنبلي وغيرهم. وفي ترجمة عبد القادر بن خليل المدني من معجم الزبيدي: استجزت له من شيخنا السفاريني فكتب له إجازة طويلة في خمس كراريس فيها فوائد جمة" انتهى (¬2). مكانته العلمية وثناء العلماء عليه: احتل المؤلف رحمه اللَّه تعالى مكانة عالية بين علماء عصره وذلك لما تميز به رحمه اللَّه من سعة العلم والإطلاع مع ما جمع من حسن الخلق والصدق والورع وحسن القصد والإخلاص في النية. فقد أثنى عليه معاصروه ومن جاء بعدهم بالثناء الحسن ووصفوه بالأوصاف العلمية التي تدل على جلالته وإمامته. فمن ذلك: ما وصفه به تلميذه: محمد كمال الدين الفزى قال فيه: شيخنا الشيخ الإمام والحبر البحر التحرير. . . العلامة العالم صاحب التآليف الكثيرة ¬
مؤلفاته
والتصانيف الشهيرة. . . " (¬1) ثم قال بعد ذلك. . . "وبالجملة فقد كان غرة عصره وشامة مصره لم يظهر في بلاده بعده مثله. . . " وحلّاه الوجيه الأهدل في النفس اليماني بـ"مسند الشام الحافظ الكبير". وحلّاه مفتي الحنابلة بمكة محمد بن حميد بالسند الحافظ المتقن (¬2). ووصفه تلميذه: مرتضى الزبيدي بقوله: شيخنا العلامة. . . " (¬3). وذكره الكتاني (¬4) فقال: "هو الإمام محدث الشام وأثريه مسند عصره وشامته أبو العون محمد بن أحمد بن سالم السفاريني النابلسي الحنبلي الصوفي. . . " (¬5) وهكذا كل من ترجم له ممن جاء بعدهم. مؤلفاته: ألف العلامة السفاريني مؤلفات كثيرة جليلة ولم يقتصر رحمه اللَّه على فن واحد ¬
بل ألف في معظم علوم الشريعة فقد ألف في السنة وعلومها وفي العقيدة وفي الفقه وفي السيرة النبوية وغير ذلك وسوف أذكر ما وففت عليه من ذلك بعد البحث في المصادر المختلفة وسوف أشير إلى المطبوع منها والمخطوط حسب ما تيسر لي وإليك بيانها بالترتيب: 1 - "الأجوبة النجدية عن الأسئلة النجدية" (¬1) خ. 2 - "الأجوبة الوهبية عن الأسئلة الزعبية" (¬2) خ. 3 - "البحور الزاخرة في علوم الآخرة" في مجلدين. وقد ذكره المؤلف في كتابه "لوائح الأنوار". - وهو الكتاب الذى أقوم بتحقيقه -قال بعد أن ذكر أدلة عذاب القبر "وقد ذكرت في كتابي البحور الزاخرة" ثم في "لوامع الأنوار" من ذلك ما يكفي ويشفي (¬3). 4 - "تحبير الوفاء في سيرة المصطفى" خ، وهو اختصار لكتاب الوفاء في أحوال المصطفى لابن الجوزي وقد ذكره المؤلف في إجازته للسيد مرتضى الزبيدي قال -وهو يذكر مشايخه- ومن مشايخي بل ومن أكثرهم لي اقراء الشيخ إسماعيل ¬
العجلوني فقد لازمته خمس سنين وعرضت عليه كتابي الذى اختصرته من الوفاء للحافظ ابن الجوزي وسميته "تحبير الوفاء فى سيرة المصطفى" فاستجاده وأثنى عليه وقال: هذا فى غاية التنقيح والتحرير، ويفوق أصله من الفوائد بكثير (¬1). 5 - "التحقيق فى بطلان التلفيق" وهو رسالة مستقلة كتبها العلامة السفاريني ردًا على رسالة الشيخ مرعي ابن يوسف الكرمي التي يجيز فيها التلفيق فى العبادات وغيرها، وقد ذكر محمد سعيد الباني في كتابه "عمدة التحقيق فى التقليد والتلفيق" نصوصًا من تلك الرسالة (¬2). 6 - "تحفة النساك فى فضل السواك" (¬3) خ. 7 - "تراجم لبعض مشايخ المذهب" (¬4) خ. 8 - "ثبت" ألفه لما استجازه فى دمشق العلامة شاكر العقاد فأجازه وأرسل إليه كراسة جعلها كالثبت له ذكر فيها بعض مشايخه وأسانيده ومروياته وبعض المسلسلات وسنده فى الصحيحين والمسانيد وغير ذلك" (¬5) خ. ¬
9 - "تفاضل الأعمال بشرح حديث فضائل الأعمال" (¬1) خ. 10 - "تعزية اللبيب بأحب حبيب" (¬2) خ. 11 - "الجواب المحرر في الكشف عن حياة الخضر والأسكندر" (¬3) خ. 12 - "الدرة المضيئة في عقد الفرقة المرضية" وهي منظومة تقع في مائتي بيت وبضعة عشر بيتا وقد قام المؤلف بشرح هذه القصيدة شرحًا وافيا سماه "لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية لشرح الدرة المضية في عقد الفرقة المرضية". وقد اعتنى العلماء بهذه المنظومة وشرحها اعتناء تامًا وتناولوا القصيدة بالشرح والتعليق والتدريس فممن شرحها العلامة الشيخ محمد بن عبد العزيز بن مانع وسمى شرحه: الكواكب الدرية لشرح الدرة المضية في عقد الفرقة المرضية". وقد طبع شرحه هذا في الهند سنة 1336 هـ وللشيخ عبد الرحمن ابن محمد بن قاسم عليها حاشية سماها: حاشية الدرة المضيئة، وقد طبعت هذه الحاشية سنة 1364 هـ. في مكة المكرمة. 13 - "الدراري المصنوعات في اختصار الموضوعات" خ. وهو اختصار لكتاب الموضوعات لابن الجوزي ذكره المؤلف في كتابه لوامع الأنوار (¬4) وذكره صاحب الرسالة المستطرفة (¬5) وتوجد منه نسخة ¬
خطية عند يوسف زخور (¬1). 14 - "الدر المنثور في فضل يوم عاشور" (¬2) خ. 15 - "الدر المنظم فى فضل عشر محرم" خ، ذكره المؤلف أثناء حديثه عن المفاضلة بين صيام عرفة وصيام عاشوراء، فقال: وقد أنهيت الكلام على عاشوراء في رسالة "الدر المنظم في فضائل عشر المحرم" (¬3). 16 - "الدرر المكنيه في شرح المنظومة الحسابية" (¬4) خ. 17 - "الذخائر لشرح منظومة الكبائر الواقعة في الإقناع" (¬5) خ. 18 - "رسالة في بيان الثلاث والسبعين فرقة والكلام عليها" (¬6) خ. 19 - "رسالة في حكم تارك الصلاة" خ وقد ذكرها المؤلف رحمه اللَّه في كتابه غذاء الألباب" أثناء كلامه على حكم تارك الصلاة بقوله: "وقد سئلت عن هذه المسألة فأجبت عنها بجزء لطيف" (¬7). 20 - رسالة في شرح حديث "الإيمان بضع وسبعون شعبة" (¬8). ¬
21 - "رسالة في ذم الوسواس" (¬1). 22 - رسالة في فضل الفقير الصابر. خ ذكرها المؤلف في كتابها "غذاء الألباب" أثناء حديثه في المقارنة بين الفقير الصابر والغني الشاكر وأيهما أفضل واختار الأول ثم قال: "وقد أفردت لهذه المسألة رسالة أتيت فيها بأكثر أحاديث مدح الفقر والفقراء والأعراض عن الدنيا والتقلل منها" واللَّه الموفق (¬2). 23 - رسالة في أحكام الصلاة على الميت. خ وقد ذكرها المؤلف" في شرحه ثلاثيات مسند الإمام أحمد "أثناء حديثه على حديث" من اقتنى كلبًا إلا كلب ماشية أو كلب قنص، نقص من أجره كل يوم قيراطان" حيث قال: "وقد ذكرت الكلام في هذا الحديث في رسالة متعلقة بالصلاة على الميت" (¬3). وقال في غذاء الألباب أثناء كلامه -أيضًا- على هذا الحديث قال: "وقد ذكرنا الكلام على هذا في رسالة حررنا فيها الكلام على أن من صلى على ميت فله بالصلاة عليه قيراط وله بتمام دفنه قيراطان (¬4). 24 - "شرح دليل الطالب" خ. ودليل الطالب متن مختصر في الفقه الحنبلي للشيخ مرعي بن يوسف الكرمي وقد وصل في شرحه إلى باب الحدود (¬5). 25 - شرح فضائل الأعمال للضياء المقدسي (¬6) خ. ¬
26 - شرح نونية ابن القيم، وقد ذكر ذلك الشيخ محمد جميل الشطي فقد جاء في تعليق له على أبيات ذكرها الشيخ عثمان النجدى في كتابه "نجاة الخلف في اعتقاد السلف" من نونية العلامة ابن القيم ما نصه: "قال الشطي: وهذه الأبيات من نونية الإمام ابن القيم التي سماها "الكافية الشافية في الإنتصار للفرقة الناجية" وهي مطبوعة في الهند في مجلد لطيف، ثم أضاف قائلًا: ويوجد في مكتبتنا شرح عليها في مجلدين ضخمين لعلامتنا السفاريني وهو غير مطبوع (¬1). 27 - "عرف الزرنب في شأن السيدة زينب" (¬2) خ. 28 - "غذاء الألباب شرح منظومة الآداب" ومنظومة الآداب هذه لمحمد ابن عبد القوي المرداوي المتوفى سنة 699 وهو شرح نفيس جدًا وفيه فوائد جمة وقد طبع الطبعة الأولى سنة 1324 هـ بمطبعة النجاح بمصر، ثم طبع سنة 1393 هـ في مطبعة الحكومة بمكة المكرمة في مجلدين (¬3). 29 - "قرع السياط في قمع أهل اللواط" طبع ذكره المؤلف في كتابه "غذاء الألباب" (¬4). ¬
30 - "القول العلي في شرح أثر أمير المؤمنين علي" (¬1) خ وقد أشار إليه المؤلف في كتابه "غذاء الألباب" في عدة مواضع منها عند ذكر حديث النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث. . . " ثم قال: "وقد ذكرت في كتابي القول العلي في شرح أثر أمير المؤمنين علي" من فضل العلم وتعلمه وتعليمه ما يكفي ويشفي" (¬2). وتوجد منه نسخه خطية في خزانة الرباط (¬3). 31 - "كشف اللثام شرح عمدة الأحكام" خ. وعمدة الأحكام في أحاديث الأحكام من تأليف الحافظ عبد الغنى بن عبد الواحد المقدسي المتوفى سنة 600 هـ. وقد أشار إليه المؤلف في كتابه "شرح ثلاثيات مسند الإمام أحمد" عندما ذكر أن الحاج مخير بين أنواع النسك الثلاثة: التمتع والقران والإفراد ثم رجح أنّ أفضلها التمتع قال: "وقد أطلنا الكلام على ذلك في شرح العمدة فراجعه إن شئت" (¬4). وهذا الكتاب لا يزال مخطوطًا، وتوجد منه نسخة مخطوطة في المكتبة ¬
الظاهرية بدمشق وهى بخط حسن بن هاشم بن عثمان الحنبلي النابلسي وتاريخها سنة 1169 هـ (¬1). 32 - "اللمعة فى فضل الجمعة" (¬2) خ. 33 - "لوائح الأنوار السنية شرح قصيدة ابن أبي داود الحائية" وهو هذا الكتاب الذي أقوم بدراسته وتحقيقه وسيأتي الكلام عليه (¬3). 34 - "لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية لشرح الدرة المضية في عقد الفرقة المرضية" وقد ذكره المؤلف في كتابه "لوائح الأنوار السنية شرح قصيدة ابن أبي داود الحائية" فى مواضع منها:. . . بعد أن ذكر فرق الخوارج قال: "وقد ذكرتهم في شرح الدرة "لوامع الأنوار" (¬4). وهذا الكتاب مطبوع فى جزئين في مجلد كبير وعليه حواشي وتعليقات مفيدة للشيخ عبد اللَّه بن عبد الرحمن أبا بطين والشيخ سليمان بن سحمان وغيرهما، وهذا الكتاب كتاب عظيم القدر وقيمته العلمية كبيرة جدًا، وهو شرح وافي أتى فيه المؤلف على ما اشتملت عليه القصيدة من مباحث وعلوم وسلك فيه مسلك الإطناب والتطويل وأتى فيه بفوائد جمة. وقد اختصر هذا الشرح غير واحد من العلماء فمنهم العلامة حسن الشطي الحنبلي ومنهم العلامة محمد السلوم ومنهم الشيخ علي المنصور الكرمي ومع ¬
هذا فإن العلامة السفاريني وقع فيه في بعض الأخطاء التي تخالف أهل السنة والجماعة وهى قليلة جدًا وقد نبه على ذلك جماعة من أهل العلم ومنهم الشيخان اللذان سبق ذكرهما (¬1). وسوف أشير إلى هذه الأخطاء في مبحث عقيدة المؤلف. 35 - "معارج الأنوار في سيرة النبي المختار" خ وهو كتاب شرح فيه السفاريني نونية الصرصري وهي منظومة في سيرة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وقد ذكر المؤلف رحمه اللَّه هذا الكتاب في شرح ثلاثيات مسند الإمام أحمد أثناء حديثه عن معجزات النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- حيث يقول: "ومعجزات النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لا تحصى ودلائل نبوته لا تستقصى وقد أفردت بالتأليف، وقد ذكرت منها طرفًا صالحًا في كتاب "معارج الأنوار في سيرة النبي المختار" وهو شرح نونية الصرصري" (¬2). 36 - "الملح الغرامية" وهي شرح لمنظومة ابن فرح اللامية في مصطلح الحديث وتقع في ثلاثين بيتا ومطلعها قوله: غرامي صحيح والرجاء فيك معضل ... وحزني ودمعي مرسل ومسلسل ¬
يقول الدكتور محمد السمهري: "وتوجد نسخة مخطوطة من هذا الشرح اطلعت عليها في دار الكتب المصرية برقم 164 - الفن مصطلح حديث تيمورية، وتقع في ثمان وأربعين ورقة وتاريخ نسخها 1213 هـ" (¬1). 37 - "منتخب الزهد للإمام أحمد" حذف منه المكرر والأسانيد وقد ذكره المؤلف أثناء حديثه عن مؤلفات الإمام أحمد حيث يقول "ومن تصانيفه "الزهد" وقد انتقيت منه أجزاء" (¬2). 38 - "نفثات صدر المكمد وقرة عين الأرمد لشرح ثلاثيات مسند الإمام أحمد" وهو مطبوع في مجلدين كبيرين. (¬3). 39 - "نتائج الأفكار شرح حديث سيد الاستغفار" (¬4) خ. ¬
عقيدته وبعض المآخذ عليه
40 - "نظم الخصائص الواقعة في الإقناع" (¬1) خ وله غير ذلك من الفتاوى والرسائل والإجازات قال تلميذه محمد الفزي "وأما الفتاوى التي كتب عليها الكراس والأقل والأكثر فكثيرة ولو جمعت لبلغت مجلدات. . " (¬2). وقال ابن حميد في ترجمته بعد أن ذكر مصنفاته -قال: "وله غير ذلك من التحريرات والفتاوي الحديثية والفقهية والأجوبة على المسائل العديدة والتراجم لبعض أصحاب المذهب وبالجملة فتآليفه نافعة مفيدة مقبولة سارت بها الركبان وانتشرت في البلدان (¬3). عقيدته وبعض المآخذ عليه: أما عقيدته فقد كان رحمه اللَّه تعالى على معتقد أهل السنة والجماعة في الجملة وقد أبان رحمه اللَّه عن ذلك في كتابه هذا -لوائح الأنوار السنية شرح قصيدة ابن أبي داود الحائية. وفي كتابه الآخر "لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية" حيث يقول مقررًا لأنواع التوحيد "اعلم أن التوحيد ثلاثة أقسام: توحيد الربوبية، وتوحيد الإلهية، وتوحيد الأسماء والصفات. فتوحيد الربوبية أن لا خالق ولا رازق ولا محيي ولا مميت ولا موجد ولا معدم إلا اللَّه تعالى. وتوحيد الإلهية إفراده تعالى بالعبادة والتأله له والخضوع والذل والحب والافتقار والتوجيه إليه تعالى. وتوحيد الصفات أن يوصف اللَّه بما وصف به نفسه وبما وصفه به نبيه -صلى اللَّه عليه وسلم- فيثبت له ما أثبته لنفسه وينفى عنه ما نفاه عن نفسه. . . " ثم قال: "وقد علم ¬
أن طريقة سلف الأمة وأئمتها إثبات ما أثبته من غير تكييف ولا تمثيل ومن غير تحريف ولا تعطيل وكذلك ينفون عنه ما نفاه عن نفسه، مع ما أثبته من الصفات من غير الحاد فى الأسماء، ولا فى الآيات، فإنه تعالى ذم الملحدين فى أسمائه وآياته" (¬1). وقال فى موضع آخر من كتابه هذا لوائح الأنوار السنية عن إثبات صفة الإستواء للَّه تعالى "قد دلت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية على أن اللَّه عز وجل مستو على عرشه بائن من خلقه استواء يليق بذاته من غير تكييف ولا تمثيل ولا تحريف ولا تعطيل قال تعالى فى محكم كتابه العزيز {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ} [السجدة: 4] (¬2). وقال في كتابه اللوامع: "قد استوى على عرشه من فوق سبع سماواته استواء يليق بذاته كما ورد في الآيات القرآنية والأحاديث النبوية والنصوص السلفية مما لا يحصى ويتعذر أن يستقصى، فهذا كتاب اللَّه من أوله إلى آخره وسنة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- من أولها إلى آخرها ثم عامة كلام الصحابة رضي اللَّه عنهم والتابعين لهم بإحسان رحمهم اللَّه ثم سائر كلام أئمة الدين ممن تلوى على كلامهم الخناصر ولا ينازع فيه إلا كل مكابر ومعاند، بأن اللَّه تعالى مستو على عرشه بائن من خلقه" (¬3). ومع هذا فإن السفاريني رحمه اللَّه أخذت عليه بعض المآخذ التي خالف فيها عقيدة أهل السنة والجماعة (¬4) ومن هذه المآخذ: ¬
1 - تأثره ببعض عبارات أهل الكلام مثل قوله: "القرآن كلام اللَّه القديم" (¬1). وقوله: "وسائر صفانه الفعلية من الإستواء والنزول والإتيان والمجئ والتكوين ونحوها قديمة للَّه تعالى ليس شيء من ذلك محدثا" (¬2). ومثل قوله فى عقيدته: وليس ربنا بجوهر ولا ... عرض ولا جسم تعالى ذو العلى (¬3). 2 - ومن المآخذ ما جاء فى كلامه فى مبحث الإستواء بعد أن ذكر الأدلة على الإستواء قال: "فمذهب السلف الإيمان بذلك جريًا على عادتهم من عدم الخوض فى المتشابه مع تفويض علمه إلى اللَّه" (¬4). ومثله ما جاء في كتابه اللوامع عند قوله: فكل ما جاء من الآيات ... أو صح في الأخبار عن ثقات من الأحاديث نمره كما ... قد جاء فاسمع من نظامي واعلما قال في شرحه: فكل ما جاء فى الأخبار الصحيحة والآثار الصريحة مما يوهم تشبيها أو تمثيلا فهو من المتشابه الذي لا يعلمه إلا اللَّه. ¬
مذهبه في الفقه
ثم قال بعد ذلك ومذهب السلف عدم الخوض فى مثل هذا والسكوت عنه وتفويض علمه إلى اللَّه تعالى (¬1). وقد ذكرت التنببه عليه فى موضعه (¬2). وهذه المآخذ لا تؤثر فى علمه وصلاحه وتقواه وما خلف من آثار علمية نفع اللَّه بها، لكن الكمال للَّه وحده، وكل يؤخذ من قوله ويرد إلا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. مذهبه فى الفقه: كان السفاريني رحمه اللَّه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل رحمه اللَّه في الفقه ومما يدل على ذلك قوله: ما لى إليك وسيلة إلا الرجاء ... وجميل عفوك ثم إني حنبلي (¬3) وكذلك نجد أكثر الذين ترجموا له عدوه من الحنابلة (¬4). ¬
الفصل الثانى دراسة الكتاب
الفصل الثاني دراسة الكتاب
الفصل الثاني دراسة الكتاب وفيه مباحث
المبحث الأول
المبحث الأول وفيه الأمور الآتية: 1 - اسم الكتاب. 2 - موضوع الكتاب. 3 - سبب تأليف الكتاب. 4 - توثيق نسبة الكتاب إلى المؤلف. 5 - منهج المؤلف في الكتاب. 6 - مصادر المؤلف في الكتاب. 7 - منزلة الكتاب العلمية. 8 - موازنة بين الكتاب وبين كتاب "لوامع الأنوار" للمؤلف وبيان أهميتهما. 9 - بعض المآخذ على الكتاب، والتنبيه على الأوهام التي وقعت للمؤلف.
اسم الكتاب
المبحث الأول 1 - اسم الكتاب: قال المؤلف رحمه اللَّه فى مقدمته: "وسميته بـ "لوائح الأنوار السنية ولواقح الأفكار السنية شرح عقيدة أهل الآثار السلفية". وجاء اسمه في الورقة الأولى من المخطوطتين "لوائح الأنوار السنية ولواقح الأفكار السنية في شرح قصيدة الإمام الحافظ أبي بكر بن أبي داود الحائية في عقائد الطوائف السلفية والفرق الأثرية". ويلاحظ اتفاق التسميتين فى الجزء الأول من العنوان والإختلاف فى الجزء الأخير منه. ولا يبعد أن المؤلف رحمه اللَّه اختصر العنوان فى مقدمته ثم ذكره كاملا على غلاف الكتاب. ويؤيد هذا أن نسخة الأصل هي بقلم تلميذ المؤلف عيسى القدومي وهو ممن درس على الشيخ ولازمه مدة طويلة وقد كتبها عن نسخة المؤلف بعد فراغ المؤلف من كتابتها بزمن يسير حيث ذكر فى آخر الكتاب أنه فرغ من تأليفه فى العشرين من شهر شعبان سنة 1176 هـ وذكر الناسخ أنه انتهى من كتابة نسخته فى الرابع من ذي القعدة فى السنة المذكورة. وأرجح أن الناسخ هو تلميذ المؤلف قد عرضها عليه واطلع عليها. ويؤيد هذا أن الكتاب هو شرح لقصيدة ابن أبي داود الحائية. ويرجح هذا أن أغلب المترجمين الذين ترجموا للمؤلف ذكروا هذا الكتاب باسم
موضوع الكتاب
"لوائح الأنوار السنية ولواقح الأفكار السنية شرح منظومة ابن أبي داود الحائية". 2 - موضوع الكتاب: أما موضوع الكتاب فهو شرح لقصيدة ابن أبي داود (¬1) في العقيدة. وهذه القصيدة تقع في ثلاثة وثلاثين بيتا (¬2) وقد تضمنت أمهات المسائل في العقيدة وخاصة المسائل التي جرى فيها الخلاف بين أهل السنة والجماعة والمخالفين لهم من أهل البدع. وهذه المسائل هي: 1 - التمسك بالقرآن والسنة والتحذير من البدع. 2 - مسألة القرآن وأنه كلام اللَّه غير مخلوق. 3 - الرؤية. 4 - اليدان. 5 - النزول. 6 - فضائل الصحابة رضي اللَّه عنهم. 7 - القدر. 8 - عذاب القبر والمسآلة. 9 - الحوض. ¬
10 - الميزان. 11 - الشفاعة. 12 - الخوارج والتحذير من رأيهم. 13 - الإيمان. 14 - التمسك بالقرآن والسنة وترك الرأي. وقد ذكر المؤلف رحمه اللَّه أن ابن البنا الحنبلي زاد عليها ثلاثة أبيات وقد شرحها المؤلف رحمه اللَّه ضمن شرحه لهذه القصيدة وتتضمن هذه الأبيات: 1 - فضائل أم المؤمنين عائشة رضي اللَّه عنها. 2 - ومعاوية رضي اللَّه عنه. 3 - وفضائل المهاجرين والأنصار. 4 - فضائل التابعين. هذا وقد أضاف المؤلف رحمه اللَّه أيضًا عدة مسائل في العقيدة تتميمًا للفائدة. ونظرًا لأن الناظم رحمه اللَّه لم يستوعب كل مسائل العقيدة وإنما ذكر امهات مسائل جرى فيها الخلاف بين أهل السنة وأهل البدع، وهذه المسائل هى: 1 - مسألة الإستواء قال رحمه اللَّه (¬1) "لم يذكر الناظم رحمه اللَّه مسألة الإستواء مع أنها من أعظم مسائل المعترك بين أهل السنة وأهل البدع لكنه أشار بالتجلي وبالنزول وبقوله: فيما يأتي وكلهم يعصي وذو العرش يصفح إلى ما يعلم منه ذلك". 2 - الصحف. ¬
سبب تأليف الكتاب
3 - الصراط. 4 - الحساب. قال رحمه اللَّه (¬1) "لم يذكر الناظم رحمه اللَّه الصحف ونشرها وأخذها باليمين والشمال ولا ذكر الصراط ولا الحساب وذلك أنه انما يشير إلى امهات مسائل اشتهر فيها خلاف أهل البدع من المعتزلة وغيرهم مما لا يحسن اغفاله في العقائد الدينية. . . ". 3 - سبب تأليف الكتاب: ذكر المؤلف رحمه اللَّه في مقدمته السبب الباعث له على تأليف هذا الكتاب فقال -بعد الحمد للَّه والصلاة والسلام على نبيه- "أما بعد فيقول العبد الفقير إلى مولاه العلي محمد بن الحاج أحمد السفاريني الحنبلي لما كان عام ست وسبعين بعد الألف ومائة من السنين رأيتني كاتبا في أيام الطب على قصيدة الإمام الحافظ أبى بكر بن الإمام الحافظ أبي داود صاحب السنن كتابة تليق بتلك الأيام لا على حسب ما يقتضيه المقام فحملني ذلك على تحرير تلك الكتابة وتحقيق مذهب السلف وما كان عليه الصحابة رضي اللَّه عنهم وبيان اعتقاد أهل الأثر من تلك العصابة وأفرغت ما كنت سودته في قالب التحقيق وبذلت جهدي في ذلك على سبيل التوفيق والتدقيق. . (¬2). 4 - توثيق نسبة الكتاب إلى المؤلف: لقد ثبتت نسبة هذا الكتاب إلى المؤلف رحمه اللَّه وهناك أدلة كثيرة تؤكد صحة نسبة هذا الكتاب له ومن هذه الأدلة. ¬
منهج المؤلف في الكتاب
أولًا: ما جاء صريحًا في مقدمته بعد الحمد للَّه والصلاة على رسوله قال: "أما بعد فيقول العبد الففير إلى مولاه العلي محمد بن الحاج أحمد السفاريني. . . " (¬1). ثانيًا: ما جاء في آخر المخطوطة من قول الناسخ عيسى القدومي وهو من تلاميذ المؤلف قال: "قال شيخنا الشيخ محمد السفاريني فرغت من تعليقه بعون اللَّه تعالى وتوفيقه نهار السبت لعشر بقيت من شعبان من سنة ألف ومائة وست وسبعين من الهجرة النبوية على صاحبها الصلاة والسلام (¬2). . " ثالثًا: ذكره للمؤلف عدد ممن ترجم له منهم: تلميذه محمد الفزي في النعت الأكمل (¬3). والمرادي في سلك الدرر (¬4) والجبرتي في تاريخه (¬5) وابن سلوم في مقدمته لكتاب "مختصر لوامع الأنوار البهية" (¬6) والكتاني في فهرس الفهارس (¬7). رابعًا: ما جاء على غلاف المخطوطتين من نسبة الكتاب إلى المؤلف رحمه اللَّه. 5 - منهج المولف في الكتاب 1 - رتب المؤلف مواضغ الكتاب حسب ترتيبها في القصيدة. 2 - طريقته في الشرح: أنه يشرح كلمات البيت من القصيدة كلمة كلمة فيشرح معنى الكلمة في اللغة ويتوسع في ذلك -أحيانا- ويستشهد لذلك باللغة ¬
والحديث والقرآن وبعض الآثار وربما يذكر المعنى في الإصطلاح (¬1)، ثم يتكلم بتوسع على المعنى الذي سيق من أجله البيت وهو ما يتعلق بأمور العقيدة مثل مسألة كلام اللَّه والرؤية واليدين والنزول والإستواء وغيرها من مسائل العقيدة فيذكر الأدلة على مذهب السلف من الكتاب والسنة وأقوال الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الأئمة، وقد يورد مذاهب المخالفين لأهل السنة من أهل الكلام والاعتزال وغيرها ثم يزيد ما ذهب إليه السلف (¬2). 3 - استقى المؤلف مادة الكتاب من القرآن الكريم ومن السنة الشريفة ومن بعض كتب التفسير وكتب شروح السنة والعقائد والتواريخ والسير واللغة والفقه، كما يظهر ذلك من مراجعة المصادر التي رجعت إليها في توثيق النصوص وأثبتها في قائمة المراجع وكذلك المصادر التي صرح بها وأثبتها في مصادره وهو يصرح أحيانًا -بعزو المعلومات إلى مصادرها ذاكرًا الكتاب ومؤلفه أو أحدهما. وأحيانًا لا يصرح بذلك. 4 - النقل والجمع والإختصار سمة بارزة ومنهج سار عليه المؤلف وقد يعلق -أحيانًا- على بعض المسائل بقوله: (قلت) (¬3) وتارة يعرض المسألة وأقوال العلماء ويرجح ما يظهر له رجحانه (¬4) وأحيانًا لا يرجع (¬5) وأحيانًا يحقق بعض المسائل ويرجع فيها إلى المراجع الكثيرة (¬6). ¬
مصادر المؤلف في الكتاب
5 - أسلوبه في هذا الكتاب هو أسلوب المصادر التي اعتمد عليها مع بعض التصرف أو الإختصار ويظهر ذلك جليا في إرجاع المعلومات إلى مصادرها فنجد الفروق يسيرة وأما أسلوبه الذي هو من إنشائه فيغلب عليه جانب السجع وشيء من التكلف (¬1). 6 - مصادر المؤلف في الكتاب: كما أشرت في مبحث منهج المؤلف في الكتاب فقد رجع المؤلف رحمه اللَّه إلى الكثير من كتب الشريعة في العقائد والتفسير والحديث والفقه والسيرة والتاريخ واللغة كما يظهر ذلك من مراجعة المصادر التي رجعت إليها في توثيق النصوص وأثبتها في قائمة المراجع وفيما يلي بيان بأسماء المصادر التي رجع إليها المؤلف وصرح بذكرها (¬2). 1 - الإبانة لأبي الحسن الأشعري (¬3). 2 - الإستيعاب لابن عبد البر (¬4). 3 - إعلام الموقعين لابن القيم (¬5). 4 - أهوال القبور لابن رجب (¬6). 5 - بحر الكلام للنسفي (¬7). ¬
6 - البحور الزاخرة للمولف (¬1). 7 - بدائع الفوائد لابن القيم (¬2). 8 - البدور السافرة للسيوطي (¬3). 9 - البرهان في حقيقة القرآن (¬4) لابن قدامة المقدسي. 10 - البعث للبيهقي (¬5). 11 - بهجة الناظرين (¬6) لمرعي بن يوسف الكرمي. 12 - التاريخ للإمام أحمد (¬7). 13 - تاريخ ابن خلكان (¬8). 14 - تاريخ بغداد للخطيب (¬9). 15 - التثبيت في التبييت للسيوطي (¬10). 16 - تجريد أسماء الصحابة للذهبي (¬11). 17 - تحفة الودود لأبي بكر بن داود (¬12). ¬
18 - التدمرية لابن تيمية (¬1). 19 - التذكرة للقرطبي (¬2). 20 - الترغيب للأصبهاني (¬3). 21 - تفسير القاضي البيضاوي (¬4). 22 - التمهيد لابن عبد البر (¬5). 23 - جامع الأصول لابن الأثير (¬6). 24 - الجامع الكبير للسيوطي (¬7). 25 - جلاء الأفهام لابن القيم (¬8). 26 - الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لابن تيمية (¬9). 27 - الجيوش الإسلامية لابن القيم (¬10). 28 - حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح لابن القيم (¬11). 29 - الحلية لأبي نعيم (¬12). ¬
30 - الحماسة لأبي تمام (¬1). 31 - الرسالة الحموية لابن تيمية (¬2). 32 - الروح لابن القيم (¬3). 33 - السنة للإمام أحمد (¬4). 34 - السنة لابن بطة (¬5). 35 - السنة للخلال (¬6). 36 - السنة للالكائي (¬7). 37 - شرح الإيمان لابن تيمية (¬8). 38 - شرح الأربعين لابن رجب (¬9). 39 - شرح تائية شيخ الإسلام للطوفي (¬10). 40 - شرح الدرة - للمؤلف (¬11). ¬
41 - شرح العقائد النسفية للتفتازاني (¬1). 42 - شرح العقيدة الأصفهانية لابن تيمية (¬2). 43 - شرح منازل السائرين لابن القيم (¬3). 44 - الشفاء للقاضي عياض (¬4). 45 - صفة النار لابن رجب (¬5). 46 - طبقات الحنفية (¬6) 47 - العرش للذهبي (¬7). 48 - العقائد النسفية للنسفي (¬8). 49 - عقيدة أهل السنة للصابوني (¬9). 50 - عقيدة أبي المعالي من الحنابلة (¬10). 51 - فتح الباري شرح صحيح البخاري للحافظ ابن حجر (¬11). 52 - الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان لابن تيمية (¬12). ¬
53 - الفقه الأكبر لأبي حنيفة (¬1). 54 - قاعدة شيخ الإسلام في بيان أن القرآن كلام اللَّه. . " (¬2). 55 - القاموس للفيروزآبادي. (¬3). 56 - "قواعد وجوب الاستقامة والإعتدال" للطوفي (¬4). 57 - الكامل لابن عدي (¬5). 58 - الكامل للمبرد (¬6). 59 - الكشاف للزمخشري (¬7). 60 - الكنى للحاكم (¬8). 61 - مرقاة المبتدئين ونهاية المنتهين وهو شرح الجواهر المنظومة للوزنتي من الحنفية (¬9). 62 - مسائل حرب بن إسماعيل عن الإمام أحمد (¬10). 63 - المغني لابن هشام (¬11). 64 - مناقب شيخ الإسلام لابن عبد الهادي (¬12). ¬
منزلة الكتاب العلمية
65 - الموضوعات لابن الجوزي (¬1). 66 - النهاية لابن الأثير (¬2). 67 - نهاية المبتدئين لابن حمدان (¬3). 68 - الوفاء لابن الجوزي (¬4). 7 - منزلة الكتاب العلمية: لا شك أن هذا الكتاب للعلامة السفاريني من الكتب المهمة التي تشرح عقيدة السلف وتبين مذهبهم المؤيد بالأدلة من الكتاب والسنة وإجماع أهل السنة والجماعة. ويتميز هذا الكتاب بالتوسع والإطالة في سرد النصوص من الكتاب والسنة والآثار (¬5) لتأييد مذهب السلف نظرًا لما تميز به مؤلفه رحمه اللَّه من قوة الحفظ وسعة الإطلاع، كما يتميز بإيراد مذهب المخالفين لمذهب السلف والرد عليه. كما يتميز بالشمول حيث حَوَت موضوعاته أكثر مسائل العقيدة. كما نقل لنا عن كتب ومصادر في عقيدة الملف بعضها ما يزال مخطوطا وبعضها ربما يكون في عداد المفقود مثل "نهاية المبتدئين" لابن حمدان الحنبلي، وعقيدة أبي المعالي من الحنابلة، وبهجة الناظرين للشيخ مرعي ابن يوسف الكرمي وغيرها. كما يتميز بجمع كلام العلماء المتقدمين والمتأخرين. ¬
موازنة بين الكتاب وبين كتاب "لوامع الأنوار" للمؤلف
8 - موازنة بين هذا الكتاب وبين كتاب المؤلف "لوامع الأنوار البهية": 1 - هذان الكتابان وهما "لوامع الأنوار البهية شرح الدرة المضية في عقد الفرقة المرضية" و"لوائح الأنوار السنية ولواقح الأفكار السنية شرح قصيدة ابن أبي داود الحائية" للعلامة السفاريني رحمه اللَّه يتفقان في بعض الأمور ويختلفان في بعضها ويتميز كل واحد منهما بمزايا ليست في الآخر. فمن الأمور التي يتفقان فيها أن كلا منهما شرح لمنظومة في العقيدة. فالأول شرح لمنظومة الدرة المضية وهي من نظم العلامة السفاريني. وأما الثاني فهو شرح لمنظومة الحافظ أبي بكر بن أبي داود في العقيدة. 2 - هاتان المنظومتان لاقتا عناية واهتمامًا من العلماء فنجد الذهبي رحمه اللَّه بعد أن أورد قصيدة أبي بكر ابن أبي داود رحمه اللَّه قال: "وهذه المنظومة متواترة عن ناظمها رواها الآجري وصنف لها شرحا وأبو عبد اللَّه بن بطة في الإبانة" (¬1). قلت وممن شرحها العلامة ابن البناء الحنبلي (¬2) ثم العلامة السفاريني في كتابه هذا -وهو الكتاب الذي أقوم بتحقيقه وقد رواها بالسند المتصل إلى عبد اللَّه. وأما منظومة السفاريني فقد شرحها في كتابه "لوامع الأنوار" ثم شرحها العلامة ابن مانع رحمه اللَّه في كتاب سماه "الكواكب الدرية لشرح الدرة المضية" وللشيخ عبد الرحمن بن قاسم عليها حاشية مفيدة طبعت في مكة المكرمة سنة 1364 هـ. 3 - والكتابان متفقان في عرض مسائل العقيدة المهمة وخاصة المسائل التي جرى ¬
فيها الخلاف بين السلف والخلف مثل مسألة القرآن، والعلو، والإستواء، وغيرها، وبيان مذهب السلف وتوضيحه ثم بيان مذهب الخلف وبيان خطائهم والرد عليهم. وأما ما يتميز به كل واحد منهما عن الآخر: فهو أن الأول منهما وهو "لوامع الأنوار" قد أطال المؤلف في منظومته حيث بلغت مائتا بيت وبضعة عشر بيتًا بحيث اشتملت على أكثر قضايا العقيدة بل إن المؤلف رحمه اللَّه قد عرض فيها لمسائل كان المناسب أن يكون لها مكانها في كتب أخرى مثل ذكر المهدي والمسيح والدجال وأمر يأجوج ومأجوج وهدم الكعبة وغير ذلك مما حقه أن يذكر في كتب الملاحم والفتن. وكما أشرت فإن المؤلف رحمه اللَّه قد أطال في كتابه هذا وسلك فيه مسلك الإطناب بل والإستطراد إلى مواضيع بعيدة عن أصل بحثه وموضوعه مثل استطراده في فضائل علي رضي اللَّه عنه إلى ما وقع في عهده من الخلاف والحروب مثل وقعة الجمل وصفين وما جرى بينه وبين الخوارج وغير ذلك. وكذلك استطراده في الحديث عن فضائل عمر رضي اللَّه عنه إلى ما جرى في خلافته من الفتوح والوقائع. وأما الكتاب الثاني "لوائح الأنوار السنية شرح قصيدة ابن أبي داود الحائية" فإن الناظم رحمه اللَّه قد اقتصر في نظمه على أمهات مسائل العقيدة وخاصة المسائل التي جرى فيها الخلاف بين أهل السنة ومخالفيهم من المعتزلة وأهل الكلام وغيرهم. ولعل من أهم ما يتميز به هذا الكتاب عن الكتاب الأول من المباحث، مبحثين الأول في أول الكتاب وهو مبحث في التمسك بالقرآن والسنة والتحذير من البدع أورد فيه المؤلف عددًا من الآيات والأحاديث والآثار الواردة في ذلك.
بعض المآخذ على الكتاب
والمبحث الثاني ختم به الكتاب وهو أيضًا حث على التمسك بالقرآن والسنة وفيه فضل العلم وأهله وفضل الحديث وأهله. وقد أورد فيه المؤلف أيضًا عددًا عن النصوص الواردة في ذلك. والحاصل أن في كل واحد من الكتابين مزايا ليست في الآخر، فقد يذكر المؤلف في هذا الكتاب موضوعًا ليس في الكتاب الآخر، أو يذكر في الكتاب الآخر موضوعًا ليس في هذا الكتاب، أو يطيل البحث في موضوع في أحدهما ويختصره في الآخر، وهكذا. والخلاصة أن الكتابين يعتبر كل واحد منهما مكمل للآخر وكل منهما مهم لطالب العلم واللَّه أعلم. 9 - بعض المآخذ على الكتاب: إن الإقدام على نقد عمل العلماء ولا سيما من اشتهر منهم بغزارة علمه وسعة اطلاعه من الأمور الصعبة لكن ليست هناك حيلة في عدم ركوبها فمن المعلوم أن عمل البشر غير الأنبياء عرضة للخطأ. ولذلك فلا تمنع مكانة العالم أن يقال أخطأ في كذا، كما لا يمنع خطاؤه في جانب الإستفادة منه في جوانب أخرى. كما أن النقد الذي يوجه إليه عرضة للخطأ أيضًا إذ العصمة لم يجملها اللَّه عز وجل إلا لأنبيائه ورسله. وقد سبق أن تحدثت عن محاسن الكتاب عند الحديث عن منزلته العلمية وهنا سأذكر الملاحظات على المصنف في تأليفه لهذا الكتاب وهي محدودة وتنحصر في ناحيتين:
أولا: الناحية العلمية
1 - الناحية العلمية. 2 - الناحية المنهجية. أولًا: الناحية العلمية: أهم الملاحظات العلمية هي ما يتعلق بالعقيدة وهي: نقله بعض كلام أهل الكلام دون التنبيه على ما فيه من الأخطاء ومن أمثلة ذلك: أ- ما جاء في المباحث التي ذكرها في مقدمته حيث قال: "وأما تعريفه -يعني علم التوحيد- فهو العلم بالعقائد الدينية عن الأدلة اليقينية أي العلم بالقواعد الشرعية الاعتقادية المكتسب من أدلتها اليقينية والمراد بالدينية المنسوبة إلى دين محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- من السمعيات وغيرها سواء كانت من الدين في الواقع ككلام أهل الحق أو لا ككلام أهل البدع واعتبروا في أدلتها اليقين لعدم الاعتداد بالظن في الاعتقاديات (¬1) " انتهى. وهذا من مذهب أهل الكلام الذين يقولون أن أحاديث الآحاد ظنية لا تثبت به عقيدة وهو مذهب باطل ومردود -كما بينته في موضعه- (¬2). ب- ما نقله عن عقائد النسفي وشرحها للتفتازاني في كلامهم على أفعال اللَّه تعالى حيث قال: "وأيضًا لو حدث فعله تعالى لحدث أما في ذاته تعالى فيصير محلا للحوادث أو في غيره. . . ولا خفاء في استحالته. وهذا من كلام أهل البدع الذين يقولون لا تقوم به الحوادث فنفوا بذلك الصفات وقد نبهت عليه في موضعه (¬3). ¬
جـ- ومن أمثلة ذلك ما نقله في آخر مبحث الإستواء عن الكمال بن الهمام الحنفي في تأويل الإستواء بالإستيلاء وغيره من الصفات دون الرد عليه وقد ذكرت الرد على ذلك مفصلًا (¬1). ومن الملاحظات على المؤلف رحمه اللَّه تعالى إكثاره من إيراد الأحاديث الضعيفة بل والموضوعة أحيانًا دون بيان درجتها وقد نبهت على ذلك في مواضعه، وهذه بعض الأمثلة على ذلك: 1 - ما أورده في فضل أبي بكر وعمر رضي اللَّه عنهما من حديث ابن عباس رضي اللَّه عنه أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "إن اللَّه تعالى أيدني بأربعة وزراء: اثنين من أهل السماء جبريل وميكائيل، واثنين من أهل الأرض أبو بكر وعمر" هذا الحديث قال الهيثمي في مجمع الزوائد في إسناده محمد بن مجيب الثقفي وهو كذاب. (انظر 1/ 370) من هذا الكتاب. 2 - ما أورده في فضائلهما أيضًا في حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "أبو بكر وعمر خير الأولين والآخرين وخير أهل السموات وخير أهل الأرض إلا النبيين والمرسلين" هذا لحديث قال فيه الذهبي موضوع. وقد بينت ذلك انظر (2/ 8). 3 - ما أورده في مبحث إثبات الصحف (2/ 206) من حديث أنس رضي اللَّه عنه عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "الكتب كلها تحت العرش فإذا كان يوم القيامة يبعث اللَّه ريحا فتطيرها بالأيمان والشمائل أول خط فيها {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء: 14]. هذا الحديث من رواية يغنم بن سالم قال عنه العقيلي منكر الحديث. انظر التفصيل (2/ 206). ¬
ثانيا: الناحية المنهجية
4 - ومن ذلك ما أورده في مبحث الصحف أيضًا (2/ 210) من حديث ابن عباس: أول من يأخذ كتابه بيمينه من هذه الأمة أبو سلمة بن عبد الأسد. هذا الحديث في إسناده حبيب بن زريق رماه أبو حاتم وابن عدي بالوضع. (انظر التفصيل 2/ 210). ثانيًا: الناحية المنهجية: ومن هذه الملاحظات: أن المؤلف رحمه اللَّه في أثناء شرحه لهذه المنظومة لم يورد نص أبيات المنظومة المراد شرحها كاملة وإنما كان ينقل كلمات المنظومة من مصدرها كلمة كلمة ثم يشرع في شرحها وهكذا. فالقارئ في هذه الحالة لا يدري عن النص الذي يريد المؤلف شرحه شيئًا حيث لم يتميز المتن عن الشرح ويتضع المعنى العام الذي يريد المؤلف أن يتحدث عنه. وكان الأنسب أن يثبت نص البيت المراد شرحه من المنظومة ثم يشرع في شرحه حتى يتبين للقارئ الموضوع المراد شرحه بصورة أوضح. ومن ثم ينتقل إلى البيت الذي يليه وهكذا. وكنت قد رأيت في بداية بحثي أن أورد نص أبيات المنظرمة المراد شرحها في أعلى الصحيفة ثم أتبعه بشرح المؤلف حتى تتضح الصورة أمام القارئ أكثر مع التنبيه على ذلك. لكني رجعت عن ذلك وأثرت أن أبقى منهج المؤلف كما هو دون تغيير حتى لا أغير منهجًا اختاره المؤلف رحمه اللَّه. ومن الملاحظات: نقله كثيرًا من كتب بعض العلماء ممن سبقه دون عزوه إليهم ومن أمثلة ذلك: ما نقله عن شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالته الحموية الكبرى (من
1/ 120 - 127) من هذا الكتاب وما نقله عنه أيضًا من كتابه الإيمان (من 2/ 295 - 301). وكذلك ما نقله عن ابن القيم في كتابه حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح (من 1/ 282 - 293). وكذلك ما نقله عن كتاب أقاويل الثقات للشيخ مرعي بن يوسف الكرمي (من 1/ 299 - 313) من هذا الكتاب. ومن الملاحظات: كثرة استطراد المؤلف وقد تكون هذه الاستطرادات بعيدة عن أصل موضوعه مثل استطراده في الحديث عن علي رضي اللَّه عنه إلى ما وقع في عهده من الحروب والوقائع وخاصة ما جرى له في صفين مع معاوية وما جرى له مع الخوارج وهذا له مكانه من كتب التاريخ. وكذلك اطالته في الحديث عن الخوارج وتعداد فرقهم وما جرى معهم من الوقائع والحروب وهذا أيضًا له مكانه من كتب الفرق والتاريخ. هذا وقد وقعت للمؤلف بعض الأوهام والأخطاء التي لا يخلو منها عمل البشر (¬1) من ذلك: 1 - قوله (1/ 322): قال الإِمام البخاري في كتاب خلق أفعال العباد من صحيحه وهذا خطأ فان كتاب "خلق أفعال العباد" للبخاري كتابًا مستقلًا وليس ضمن كتابه الصحيح، وقد نبهت على ذلك في موضعه. 2 - عزوه الكلام على المعتزلة وأنهم أول من خالف في حكم العصاة لابن ¬
عبد الهادي تلميذ ابن تيمية والصحيح أن الكلام هو لابن تيمية نفسه كما بينته (انظر 2/ 274 - 275). 3 - لم يذكر المؤلف رحمه اللَّه شيئًا من الأحاديث الصحيحة الواردة في فضل أبي بكر الصديق رضي اللَّه عنه بخصوصه سيما وأنه توسع في ذكر فضائل الصحابة رضي اللَّه عنهم بل وفي كل الموضوعات التي تطرق لها. وقد أوردت جملة من الأحاديث الصحيحة الواردة في فضل أبي بكر رضي اللَّه عنه (انظر 1/ 376 - 377). * * *
المبحث الثاني
المبحث الثاني وفيه الأمور الآتية: 1 - وصف النسخ الخطية. 2 - تاريخ نسخ المخطوطات. 3 - الناسخ. 4 - تاريخ تأليف الكتاب. 5 - بيان المصطحات التي عملت بها في الكتاب. 6 - نماذج من المخطوطات. 7 - نص قصيدة الحافظ ابن أبي داود في العقيدة.
وصف النسخ الخطية
وصف النسخ الخطية: بعد البحث والتدقيق حصلت بتوفيق اللَّه على نسختين خطيتين لهذا الكتاب: الأولى: وهي الأصل الذي اعتمدت عليه في تحقيق هذا الكتاب، وقد حصلت على صورتها من مكتبة المخطوطات بالجامعة الإسلامية وهي مسجلة تحت رقم (6000) ويبلغ عدد أوراقها (168) ورقة، ومسطرتها 17 × 25 سم تقريبًا، وعدد الأسطر في كل ورقة 50 سطرًا تقريبًا وخطها نسخى ليس بالجيد ولكنه مقرؤ من حيث الجملة. وناسخها هو عيسى القدومي الحنبلي وهو من تلاميذ المؤلف وقد سبقت الإشارة إليه في مبحث تلاميذ المؤلف (¬1). وتاريخ نسخها هو سنة 1176 هـ أي في حياة المؤلف. وقد جعلتها الأصل الذي اعتمدت عليه حيث أن ناسخها هو تلميذ المؤلف وقد نسخها في حياته. النسخة الثانية: وهي من مخطوطات المكتبة الظاهرية بدمشق وهي مسجلة تحت رقم (6952) وقد حصلت على صورتها بمساعدة الأخ الفاضل الشيخ عمر بن سعود العيد جزاه اللَّه خيرًا. وناسخها هو مصطفى بن محمود بن معروف الشطي ترجمه صاحب مختصر طبقات الحنابلة فقال فيه كان عالمًا عابدًا ورعًا. . . (¬2). وكانت وفاته سنة تسع وستين ومائتين وألف وتاريخ نسخها هو سنة 1232 هـ. وعدد أوراقها 145 ورقة مسطرتها 21 × 25 سم وعدد الأسطر في كل ورقة (46) سطر تقريبًا، ¬
الناسخ
وخطها نسخي في غاية الجودة إلا أنه يؤخذ على الناسخ له إهماله لبعض العبارات مثل رضي اللَّه عنه في الصحابي والصلاة والسلام على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في بعض الأحيان. وتتميز هذه النسخة بمقابلتها على نسخة أخرى يتبين ذلك من كتابة الناسخ في مواضع من الهامش بلغ مقابلة. كما كتب الناسخ بعض الاضافات على الهامش مثل قوله: قف وتأمل ما ذكره الشارح، وكذلك وضع بعض العناوين مثل: مطلب في كذا وكذا. وقد أشرت إلى هذا كله في موضعه في تعليقي في الهامش. تاريخ تأليف الكتاب: الذي يظهر أن هذا الكتاب هو من آخر مؤلفات السفاريني رحمه اللَّه ويدل عليه قوله رحمه اللَّه في آخره فرغت من تعليقه بعون اللَّه تعالى وتوفيقه نهار السبت لعشر بقيت من شهر شعبان من سنة ألف ومائة وست وسبعين من الهجرة النبوية. كما يدل علبه إحالته في كتابه هذا إلى كتابيه "البحور الزاخرة" و"لوامع الأنوار" أكثر من مرة، كما بينت ذلك عند الكلام على هذين الكتابين (1/ 40 - 47). وكان رحمه اللَّه قد ذكر في بداية الكتاب أنه كتب في بداية طلبه العلم على قصيدة الحافظ أبي بكر بن أبي داود كتابة تليق بتلك الأيام، ولم تكن على المستوى اللائق بهذه المنظومة، ثم إنه بعد التوسع في العلم والاطلاع والتمكن من التأليف حرر تلك الكتابة ونقحها وبذل فيها ما هي جديرة به من التحقيق. المصطلحات التي عملت بها في الرسالة: * أ-: نسخة الأصل. * ظ-: نسخة الظاهرية.
* تقريب: تقريب التهذيب لابن حجر. * فتح: فتح الباري شرح صحيح البخاري. * جميع الاحالات التي في الرسالة على البخاري المقصود بها صحيح البخاري مع الفتح.
(الوجه الأول من الورقة الأولى من مخطوطة الأصل)
(الوجه الثاني من الورقة الأولى من مخطوطة الأصل)
(الوجه الأول من الورقة الأخيرة من مخطوطة الأصل)
(الوجه الأول من الورقة الأولى من مخطوطة الظاهرية)
(الوجه الثاني من الورقة الأولى من مخطوطة الظاهرية)
(الوجه الأول من الورقة الأخيرة من مخطوطة الظاهرية)
(الوجه الثاني من الورقة الأخيرة من مخطوطة الظاهرية)
نص قصيدة الحافظ ابن أبي داود في العقيدة
قصيدة الحافظ أبي بكر عبد اللَّه بن سلميان بن الأشعث في العقيدة (¬1) والتي شرحها العلامة السفاريني في كتابه هذا "لوائح الأنوار السنية ولواقح الأفكار السنية شرح قصيدة ابن أبي داود الحائية": تمسك بحبل اللَّه واتبع الهدي ... ولاتك بدعيًا لعلك تفلح ¬
ودن بكتاب اللَّه والسنن التي ... أتت عن رسول اللَّه تنجو وتربح وقل: غير مخلوق كلام مليكنا ... بذلك دان الأتقياء وأفصحوا ولا تك في القرآن بالوقف قاتلًا ... كما قال أتباع لجهم وأسجحوا ولا تقل: القرآن خلق قراءته ... لأن كلام اللَّه باللفظ يوضح وقل: يتجلى اللَّه للخلق جهرة ... كما البدر لا يخفى وربك أوضح وليس بمولود وليس بوالد ... وليس له شبه تعالى المسبح وقد ينكر الجهمي هذا وعندنا ... بمصداق ما قلنا حديث مصرح رواه جرير، عن مقال محمد ... فقل مثل ما قد قال في ذلك تنجح وقد ينكر الجهمي أيضًا يمينه ... وكلتا يديه الفواضل تنفح وقل: ينزل الجبار في كل ليلة ... بلا كيف، جل الواحد المتمدح إلى طبق الدنيا يمن بفضله ... فتفرج أبواب السماء وتفتح يقول: ألا مستغفر يلق غافرًا ... ومستمنح خيرًا ورزقًا فيمنح روى ذاك قوم لا يرد حديثهم ... ألا خاب قوم كذبوهم وقبحوا وقل: إن خير الناس بعد محمد ... وزيراه قدما، ثم عثمان الأرجح ورابعهم خير البرية بعدهم ... علي حليف الخير بالخير منجح وإنهم للرهط لا ريب فيهم ... على نجب الفردوس شرح سعيد وسعد وابن عوف وطلحة ... وعامر فهو والزبير الممدح
وقل خير قول في الصحابة كلهم ... ولا تك طعانًا تعيب وتجرح فقد نطق الوحي المبين بفضلهم ... وفي الفتح آي للصحابة تمدح وبالقدر المقدور أيقن، فإنه ... دعامة عقد الدين والدين أفيح ولا تنكرن -جهلًا- نكيرًا ومنكرا ... ولا الحوض والميزان، إنك تنصح وقل: يخرج اللَّه العظيم بفضله ... من النار أجسادًا من الفحم تطرح على النهر في الفردوس تحيا بمائه ... كحب حميل السعيد إذا جاء يطفح وإن رسول اللَّه للخلق شافع ... وقل في عذاب القبر حق موضح ولا تكفرن أهل الصلاة وإن عصوا ... فكلهم يعصي، وذو العرش يصفح ولا تعتقد رأي الخوارج إنه ... مقال لمن يهواه يردي ويفضح ولا تك مرجيًا لعوبًا بدينه .. ألا إنما المرجي بدينه يمزح وقل: إنما الإيمان قول ونية ... وفعل على قول النبي مصرح وينقض طورًا بالمعاصي وتارة ... بطاعته ينمي وفي الوزن يرجح ودع عنك آراء الرجال وقولهم ... فقول رسول اللَّه أولى وأشرح ولا تك من قوم تلهو بدينهم ... فتطعن في أهل الحديث وتقدح إذا ما اعتقدت الدهر، يا صاح، هذه ... فأنت على خير تبيت وتصبح
القسم الثاني: نص الكتاب المحقق
مقدمة المؤلف
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد للَّه الذي بهر ببديع قدرته عقول العارفين وحير (¬1) برفيع حكمته الباب العالمين وقهر بعظيم صنعه أفكار الناظرين (¬2) وشهر أنوار آياته فأشرقت على صفحات أغوار قلوب الواصلين (¬3) سبحانه من إله ظهر في خفائه لأوليائه، واحتجب في ظهوره (¬4) عن أعدائه، فهو الظاهر الباطن في سبحاته (¬5) والمتعالى القريب في تحلياته للمقربين وأصحاب اليمين (¬6). ¬
وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أمره ولا في خلقه، مالك يوم الدين وأشهد أن سيدنا محمدًا (¬1) عبده ورسوله وحبيبه وخليله خاتم النبيين، وإمام المرسلين، الذي جاء بالحق المبين، والدين المتين، فلم يدع حجة للمتحذلقين (¬2) (¬3) إلا بتكها (¬4) ولا شبهة للمبطلين إلا هتكها (¬5) ولا نحلة (¬6) للمعتدين إلا مسخها ولا ملة للسابقين إلا نسخها، بشرعه القويم، وهديه المستقيم وكتابه المبين. صلى اللَّه عليه وعلى آله وأصحابه وأصهاره وأحبابه، ¬
وأنصاره، وأحزابه ما انزاح شك بيقين ووهم بحجة وبراهين وعلى التابعين وتابع (¬1) التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وعلى الأئمة المجتهدين ومقلديهم وأهل التحقيق ومقتفيهم على نهج السلف الصالح من غير زيغ ولا مين (¬2). أما بعد: فيقول العبد الفقير لمولاه العلي محمد بن الحاج أحمد السفاريني الحنبلي لما كان عام ست وسبعين بعد الألف ومائة من السنين رأيتني كاتبًا في أيام الطلب على قصيدة الإمام الحافظ (أبي بكر بن الإمام الحافظ أبي داود) (¬3) صاحب السنن كتابة تليق بتلك الأيام لا على حسب ما يقضيه المقام فحملني ذلك على تحرير تلك الكتابة وتحقيق مذهب السلف وما كان عليه الصحابة رضي اللَّه عنهم، وبيان اعتقاد أهل الأثر من تلك العصابة، وأفرغت ما كنت سودته في قالب التحقيق وبذلت جهدي في ذلك على سبيل التوفيق والتدقيق. وسميته "بلوائح الأنوار السنية ولواقح الأفكار السنية في شرح عقيدة أهل الآثار السلفية". وقدمت أمام المقصود مقدمة تشتمل على ثلاثة مقاصد وخاتمة، ثم أشرح القصيدة الفريدة، والخريدة (¬4) التليدة (¬5)، والدرة اليتيمة، والعقيدة القديمة (¬6) ¬
المقصد الأول: في ترجمة الناظم
معتمدًا على اللَّه تعالى. ومتوجهًا إليه في الحفظ من الزيغ عن مذهب السلف وفي الإعانة عليه فأقول: المقدمة المشتملة على الثلاثة مقاصد والخاتمة: المقصد الأول: في ترجمة الناظم وذكر مناقبه ومآثره وذكر والده الإمام الحافظ أبي داود صاحب السنن رحمهما اللَّه تعالى ورضي عنهما. أما أبو بكر فهو (¬1): الحافظ المتقن العلامة قدوة المحدثين وعمدة المدققين الحافظ ¬
أبو بكر عبد اللَّه بن الحافظ الكبير الإمام سليمان بن الأشعث السجستاني صاحب التصانيف المفيدة والفوائد المجيدة، والعوائد العديدة. ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
رحل أبو بكر وسمع وبرع وساد الأقران رحل به أبوه من سجستان فطوف به شرقًا وغربًا، وأسمعه من علماء ذلك الوقت، فسمع بخراسان، والجبال (¬1) وأصبهان، وفارس والبصرة، وبغداد والكوفة، والمدينة ومكة والشام ومصر، والجزيرة، والثغور (¬2) واستوطن بغداد، وصنف المسند، والسنن، والتفسير، والقراءات والناسخ والمنسوخ، وغير ذلك (¬3). وكان فهمًا عالمًا حافظًا. ¬
وحدث عن علي بن خشرم (¬1) المروزي، وأبي داود بن معبد السنجي (¬2) وسلمة بن شبيب (¬3) ومحمد بن يحيى الذهلي (¬4) وأحمد بن الأزهر (¬5) النيسابوري، وإسحق بن منصور الكوسج (¬6) ومحمد بن بشار (¬7) بندار، ومحمد بن المثنى (¬8) وعمرو بن علي (¬9) ونصر بن ¬
علي (¬1) البصريين، وإسحاق بن إبراهيم النهشلي (¬2) وزياد بن أيوب (¬3) ومحمد ابن عبد اللَّه المخرمي (¬4) ويعقوب الدورقي (¬5) ويوسف بن موسى القطان (¬6) ومحمد بن عبد الرحيم صاعقة (¬7) وخلق كثير من أمثالهم (¬8). ¬
وروى عنه أبو بكر بن مجاهد القراء (¬1) وعبد الباقي بن قانع (¬2) ودعلج (¬3) وأبو بكر الشافعي (¬4) ومحمد بن المظرف الوراق (¬5) والدارقطني (¬6) وأبو حفص بن شاهين (¬7) وأبو القاسم (¬8) بن حبابه، ¬
والمخلص (¬1) وأبو عبد اللَّه ابن بطة (¬2) وعيسى بن علي الوزير (¬3). وكان عيسى يشير إلى موضع في داره ويقول: حدثنا أبو القاسم البغوي (¬4) في ذلك الموضع، وحدثنا يحيى بن صاعد (¬5) في ذلك. وثنا (¬6) أبو بكر بن مجاهد في ذلك الموضع وذكر غير هؤلاء، فيقال ألا نراك تذكر أبا بكر بن أبي داود فيقول: ليته إذا مضينا إلى داره كان يأذن لنا في الدخول عليه والقراءة عليه (¬7). ونصب لأبي بكر بن أبي داود السلطان المنبر فحدث عليه لفضله ومعرفته (¬8) ¬
وقال الأزهري (¬1) سمعت أحمد بن إبراهيم بن شاذان (¬2) يقول: خرج أبو بكر بن أبي داود إلى سجستان في أيام عمرو (¬3) بن الليث فاجتمع إليه أصحاب الحديث وسألوه أن يحدثهم فأبى وقال: ليس معي كتاب، فقيل له ابن أبي داود وكتاب؟ قال أبو بكر فأثاروني فأمليت عليهم ثلاثين ألف حديث من حفظي، فلما قدمت بغداد قال البغداديون مضى ابن أبي داود إلى سجستان ولعب بالناس ثم جهزوا فيجًا (¬4) اكتروه إلى سجستان ليكتب لهم النسخة فكتبت وجئ بها إلى بغداد، وعرضت على الحفاظ فخطئوني في ستة أحاديث، منها ثلاثة حدثت بها كما حدثت وثلاثة أحاديث أخطأت فها (¬5). قال ابن شاهين (¬6) سمعت أبا بكر بن أبي داود يقول: دخلت الكوفة ومعي درهم واحد فاشتريت به ثلاثين مدًا باقلا فكنت آكل منه ¬
مدًا واكتب عن أبي سعيد (¬1) الأشج ألف حديث، فلما كان الشهر، حصل معي ثلاثون ألف حديث. وقال ابن شاهين -أيضًا- وكان يملي من حفظه ولقد قرأ علينا يومًا حديث الفتون (¬2) من حفظة فقال له أبو تمام الزينبي ما رأيت مثلك إلا أن يكون إبراهيم (¬3) الحربي فقال كلما كان إبراهيم الحربي يحفظه فأنا أحفظه (¬4). وقال (¬5) أبو محمد الخلال (¬6): "كان أبو بكر بن أبي داود إمام العراق وكان في وقته مشايخ أسند منه -أي أعلا سندًا منه- ولم يبلغوا في الآلة والإتقان ما بلغ (¬7). ¬
وقال الخطيب (¬1): طاف شرفًا وغربًا استوطن بغداد وصنف المسند والسنن وغيرهما، وكان فقيهًا عالمًا حافظًا (¬2)، وكان قوي النفس لا يذل نفسه أراد علي بن عيسي (¬3) الوزير أن يصالح بينه وبين ابن صاعد (¬4) فجمعهما فقال: يا أبا بكر أبو محمد أكبر منك فلو قمت إليه قال لا أفعل، فقال الوزير أنت شيخ زيف، قال الشيخ الزيف الكذاب على رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، قال الوزير: من الكذاب؟ قال: هذا، ثم قام وقال: تتوهم أني أذل لك لأجل رزقي وإنه يصل على يدك، واللَّه لا أخذت من يدك شيئا. قال: فكان الخليفة المقتدر (¬5) يزن رزقه بيده ويبعث إليه في طبق على يد الخادم (¬6). ¬
وعن أبي بكر بن أبي داود رضي اللَّه عنهما قال: قلت لأبي زرعة (¬1) ألق عليّ حديثًا غريبًا من حديث مالك (¬2) فألقى علي حديث وهب بن كيسان (¬3) "لا تحصي فيحصى عليك" (¬4) رواه عبد الرحمن (¬5) بن شيبة وهو ضعيف، فقلت له يجب أن تكتبه عني عن أحمد بن صالح (¬6) عن عبد اللَّه بن نافع (¬7) عن مالك، فغضب وشكاني إلى أبي وقال: انظر ما يقول لي أبو بكر (¬8). ¬
وكان أحمد بن صالح يمنع المرد من مجلسه فأحب أو (¬1) داود أن يسمع من أبنه فشد لحيته على وجهه وسمع، فعرف وقال: أمثلي يعمل معه هذا، فقال لا تنكر عليّ هذا واجمع إبني مع الكبار فإن لم يقاومهم بالمعرفة فاحرمه السماع (¬2). وذكره ابن عدي (¬3) فقال: تكلم فيه أبوه وابن صاعد (¬4) فأما أبوه فقال: من البلاء أنّ عبد اللَّه يطلب للقضاء (¬5). قال الحافظ السيوطي (¬6) في طبقات الحفاظ: "هذا ليس بكلام بل قاله على سبيل التواضع، وأما ابن صاعد فعدوه فلا يعتد ¬
بكلامه فيه كما لا يعتد بكلام ابن أبي داود في ابن صاعد (¬1). وقال ابن خلكان (¬2) في وفيات الأعيان: "كان أبو بكر عبد اللَّه بن أبي داود من أكابر الحفاظ ببغداد عالمًا متفقًا عليه إمامًا وله كتاب "المصابيح" وشارك أباه في شيوخه بمصر والشام وسمع ببغداد وخراسان وأصبهان وشيراز وغيرها. انتهى (¬3). وأبو بكر هذا وأبوه الإمام صاحب السنن من أئمة علماء مذهبنا، وأبوه أحد نقلة مذهب الإمام أحمد (¬4) وعدهما علماؤنا وغيرهم من جملة علماء المذهب. مولد الإمام الحافظ أبي بكر بن أبي داود سنة ثلاثين ومائتين، قال وأول ما كتبت سنة إحدى وأربعين عن محمد بن أسلم الطوسي (¬5) وكان بطوس (¬6) وكان ¬
رجلًا صالحًا وسر بي أبي لما كتبت عنه وقال لي أول ما كتبت كتبت عن رجل صالح (¬1). قال أبو بكر: ورأيت جنازة إسحاق (¬2) بن راهوية، ومات إسحاق سنة ثلاث وأربعين ومائتين وكنت مع ابنه في الكتاب (¬3). وتوفى أبو بكر عبد اللَّه بن أبي داود رضي اللَّه عنهما وهو ابن ست وثمانين سنة وست أشهر وأيام وصلى عليه مطلب الهاشمي (¬4) ثم أبو عمر حمزة بن القاسم الهاشمي (¬5) وقيل إنه صلى عليه ثمانين مرة (¬6) حتى أنفذ الخديفة المقتدر باللَّه جماعة ¬
فخلصوا جنازته، ودفنوه يوم الأحد لاثنتي عشرة بقيت من ذى الحجة سنة ست عشرة وثلاثمائة في مقبرة باب البستان في بغداد وقيل صلى عليه زهاء ثلاثمائة ألف إنسان وأكثر، وأخرج بعد صلاة الغداة ودفن بعد صلاة الظهر وخلف ثمانية أولاد أبو داود محمد، وأبو عمر عبيد اللَّه، وأبو أحمد عبد الأعلى وخمس بنات رحمهم اللَّه تعالى (¬1). وأما والده أبو داود (¬2) فهو: سليمان بن الأشعث بن إسحق بن بشير بن شداد بن عمر بن عمران الأزدي، الإمام المتقن أبو داود السجستاني حافظ زمانه وإمام عصره وأوانه، وهو ممن رحل وجمع وصنف، وكتب عن العراقيين والخراسانيين ¬
والشاميين والمصريين، سمع سيدنا الإمام أحمد (¬1) ومسلم (¬2) بن إبراهيم وسليمان (¬3) بن حرب، وأبا عمر الحوضي (¬4) وأبا الوليد الطيالسي (¬5) وخلقًا سواهم. روي عنه ابنه عبد اللَّه المتقدم ذكره (¬6) وأبو عبد الرحمن النسائي (¬7) وأبو بكر النجاد (¬8) وأبو الحسين بن المنادي (¬9) وأبو بكر ¬
الخلال (¬1) وأبو بكر ابن داود الأصبهاني (¬2). وسمع منه سيدنا الإمام أحمد حديثًا واحدا (¬3) من في رواية الأكابر عن الأصاغر (¬4). ¬
سكن أبو داود الإمام البصرة وقدم بغداد غير مرة، وروى كتابه المصنف في السنن بها ونقله عنه أهلها، ويقال إنه صنفه قديمًا وعرضه على سيدنا الإمام أحمد فاستجاده (¬1) واستحسنه. وهو أحد الكتب الستة. قال أبو داود رحمه اللَّه تعالى: قلت لأبي عبد اللَّه أحمد بن حنبل رضي اللَّه عنه أرى رجلا من أهل السنة مع رجل من أهل البدع أترك كلامه؟ قال: لا، أولًا تعلمه أن الرجل الذي رأيته معه صاحب بدعة فإن ترك كلامه فكلمه وإلا فالحقه به (¬2). وسألته عن ملك يوم الدين أو مالك يوم الدين أنهما أحب إليك، قال: مالك أكثر ما جاء في الحديث (¬3). قال أبو داود رضي اللَّه عنه: "كنت عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- خمسمائة ألف حديث انتخبت منها ما ضمته هذا الكتاب -يعني كتاب السنن- جمعت فيها أربعة آلاف وثمانمائة حديث ذكرت الصحيح وما يشبهه ويقاربه ويكفي الإنسان لدينه من ذلك أربعة أحاديث (¬4). ¬
أحدها: قوله عليه السلام: "الأعمال بالنيات" (¬1). والثاني: قوله عليه السلام: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه" (¬2). والثالث: قوله عليه السلام: "لا يكون المؤمن مؤمنًا حتى يرضى لأخيه ما يرضي لنفسه" (¬3). والرابع: قوله عليه السلام: "الحلال بين والحرام بين. . . " (¬4). الحديث. ¬
قال إبراهيم الحربي: "لما صنف أبو داود هذا الكتاب أُلين له الحديث كما أُلين لداود الحديد" (¬1). وروي أن سنن أبي داود قرئت على ابن الأعرابي (¬2) فأشار إلى النسخة وهي بين يديه (¬3) فقال لو أن رجلا لم يكن عنده من العلم إلا المصحف الذي فيه كتاب اللَّه عز وجل، ثم هذا الكتاب لم يحتج معهما إلى شيء من العلم بتة (¬4). وجاء لأبي داود سهل بن عبد اللَّه التستري (¬5) رحمه اللَّه تعالى فقيل له يا أبا داود هذا سهل بن عبد اللَّه قد جاءك زائرًا قال فرحب به وأجلسه، فقال: يا أبا داود لي إليك حاجة، قال وما هي؟، قال حتى تقول لي قد قضيتها، قال قد قضيتها مع الإمكان، قال أخرج لسانك الذي حدثت به عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- حتى أقبله، قال: فأخرج لسانه فقبله (¬6). وقال أبو العلا المحسن (¬7) الواذاري: "رأيت النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في المنام فقال: من أراد ¬
أن يستمسك بالسن فليقرأ كتاب أبي داود" (¬1). فائدة: ذكر الحافظ ابن حجر (¬2) في شرح البخاري أن الإمام الحافظ يوسف بن عبد البر (¬3) إمام المغرب أخرج بسند جيد عن أبي داود صاحب السنن -يعني صاحب الترجمة- أنه كان في سفينة فسمع عاطسًا على الشط حمد فأكثرى قاربًا بدرهم حتى جاء إلى العاطس فشمته ثم رجع فسئل عن ذلك فقال: لعله يكون مجاب الدعوة، فلما وقد سمعوا قائلًا يقول: يا أهل السفينة إن أبا داود اشترى الجنة من اللَّه بدرهم (¬4). ¬
المقصد الثاني: في الإشارة إلى مذهب السلف وبيان حقيقته وأنه أسلم المذاهب
وكانت ولادة أبي داود سليمان بن الأشعث رضي اللَّه عنه سنة (اثنتين) (¬1) ومائتيين، وتوفى في البصرة يوم الجمعة منتصف شوال سنة خمس وسبعين ومائتين رحمه اللَّه ورضي عنه (¬2). المقصد (¬3) الثاني (¬4): في الإشارة إلى مذهب السلف وبيان حقيقته وأنه أسلم المذاهب وأعلم وأحكم وهم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار وسائر أصحاب النبي المختار -صلى اللَّه عليه وسلم-، والذين اتبعوهم بإحسان وأئمة الهدى بعد هؤلاء الذين أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم وتقدمهم والإقتداء بهم واتباعهم والسير بسيرهم والنهج على منوالهم فإن اللَّه سبحانه وتعالى بعث نبيه وحبيبه ورسوله محمدًا -صلى اللَّه عليه وسلم- بالهدى ودين الحق، ليخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد وشهد له بأنه بعثه داعيًا إليه بإذنه وسراجًا منيرًا وأمره (¬5) أن يقول: {. . . قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف: 108]. فمن المحال في العقل والدين أن يكون السراج المنير الذى أخرج به الناس من الطمات إلى النور، وأنزل معه الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، وأمر الناس أن يردوا ما تنازعوا فيه من دينهم إلى ما بعث به من الكتاب والحكمة ¬
وهو يدعو الى اللَّه وإلى سبيله، بإذنه على بصيرة وقد أخبر تعالى بأنه أكمل له ولأمته دينهم وأتم عليهم نعمته، فمحال مع هذا وغيره أن يكون ترك باب الإيمان باللَّه والعلم به ملتبسًا (¬1) مشتبهًا ولم يميز ما يجب للَّه من الأسماء الحسنى والصفات العلى، وما يجوز عليه وما يستحيل فإن معرفة هذا أصل الدين وأساس الهداية وأوجب وأفضل ما اكتسبته القلوب وحصلته النفوس وأدركته العقول. فكيف يكون ذلك الكتاب، وذلك الرسول (¬2) وأفضل خلق اللَّه بعد (¬3) النبيين والمرسلين لم يحكموا هذا الباب إعتقادًا ولم يتقنوه قولًا واعتمادًا مع أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- علم أمته كل شيء حتى الخراءة (¬4). وقال: "تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك" (¬5). وقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فيما صح عنه "ما بعث اللَّه نبيًّا إلا كان حقًا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم وينهاههم عن شر ما يعلمه لهم" (¬6). ¬
وقال أبو ذر الغفاري رضي اللَّه عنه: "لقد توفى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وما من طائر يقلب جناحيه في السماء إلا ذكرنا (¬1) منه علمًا" (¬2). وقال عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه قام فينا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- مقامًا فذكر بدء الخلق حتى دخل أهل الجنة منازلهم وأهل النار منازلهم حفظ ذلك من حفظه ونسيه من نسيه" رواه البخاري (¬3). فمحال مع (¬4) تعليمهم كل شيء لهم فيه منفعة في الدين وإن دقت (¬5) أن يترك تعليمهم ما يقولونه بألسنتهم ويعتقدونه بقلوبهم في ربهم رب العالمين الذي معرفته غاية المعارف وعبادته أشرف المقاصد والوصول إليه غاية المطالب هذه (¬6) خلاصة الدعوة النبوية وخلاصة الرسالة الإلهية، فكيف يتوهم من في قلبه أدنى مسكة من إيمان وحكمة أن لا يكون بيان هذا الباب (¬7) قد وقع من الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- على غاية التمام والكمال، ثم إذا كان وقع ذلك منه فمن المحال أنّ خير أمته وأفضل قرونها ¬
قصروا في هذا الباب زائدين فيه أو ناقصين عنه. ثم من المحال -أيضًا- أن تكون القرون الفاضلة القرن الذي بعث فيهم رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم كانوا غير عالمين وقائلين في هذا الباب بالحق المبين لأن ضد ذلك إما عدم العلم والقول، وإما اعتقاد نقيض الحق وقول خلاف الصدق وكلاهما ممتنع. أما الأول فلأن من في قلبه أدنى حياة وطلب للعلم ونهمة للعبادة يكون البحث عن هذا الباب والسؤال عنه ومعرفة الحق فيه من أكبر مقاصده وأعظم مطالبه -أعني بيان ما يعتقده- لا كيفية الرب تعالى وكيفية صفاته. وليست النفوس الصحيحة إلى شيء أشوق منها إلى معرفة هذا الأمر (وهذا أمر) (¬1) معلوم بالفطرة الوجدانية (¬2)، فكيف يتصور مع قيام هذا المقتضى الذي هو من أقوى المقتضيات أن يتخلف عنه مقتضاه في أولئك السادة في مجموع عصورهم، هذا لا يكاد يقع في أبلد الخلق وأشدهم إعراضًا عن اللَّه وأعظمهم إكبابًا على طلب الدنيا والغفلة عن ذكر اللَّه فكيف يقع في أولئك وأما كونهم كانوا معتقدين فيه غير الحق أو قائليه فهذا لا يعتقده مسلم ولا عاقل عرف حال القوم. ثم الكلام عنهم في هذا الباب أكثر من أن يمكن سطره (¬3) في مثل هذا المختصر، يعرفه من تتبعه وطلبه، فزعم من زعم أن الخلف أعلم من السلف غباوة وجهل بقدر القوم بل ذلك جهل بمعرفة اللَّه ورسوله والمؤمنين به فإن حقيقة المعرفة المأمور بها في طريقة السلف ونهجهم أسلم وأعلم وأحكم. ¬
وأما زعم من زعم أن طريقة السلف أسلم وطريقة الخلف أعلم وأحكم فكذب وافتراء وتمويه على الناس، لأنهم ظنوا أن طريقة السلف هي مجرد الإيمان بألفاظ القرآن والحديث من غير فقه، بل بمنزلة الأميين الذين قال اللَّه تعالى فيهم {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [البقرة: 78]. وأن طريقة الخلف هي استخراج معاني النصوص المصروفة عن حقائقها بأنواع المجازات وغرائب اللغات. فهذا الظن الفاسد أوجب تلك المقالة الفاسدة، التي مضمونها نبذ الإسلام وراء الظهر وقد كذبوا على طريقة السلف وظلموا في تصويب طريقة الخلف فجمعوا بين الجهل والظلم. وسبب ذلك إعتقادهم أنه ليس في نفس الأمر صفة دلت عليها هذه النصوص بالشبهات الفاسدة التي شركوا (¬1) فيها الفلاسفة والمعطلين فلما أعتقدوا انتفاء الصفات في نفس الأمر وكان مع ذلك لابد للنصوص من معان ارتبكوا بين الإيمان بالألفاظ وتفويض المعاني وهي التي يسمونها طريقة السلف وبين صرف اللفظ إلى معان بنوع تكلف وهي التي يسمونها طريقة الخلف، فصار هذا مركبًا من فساد العقل والكفر بالسمع فإن النفي إنما اعتمدوا في على أمور عقلية ظنوها بينات وهي في نفس الأمر شبهات، والسمع حرفوا فيه الكلام عن مواضعه فلما ابتنى أمرهم علي هاتين المقدمتين كانت النتيجة استجهل السابقين الأولين واستبلاههم واعتقاد أنهم (¬2) كانوا قومًا أميين بمنزلة الصالحين من العامة لم يتبحروا في حقائق العلم باللَّه تعالى ولم تفطنوا لدقائق العلم الإلهي، وأن الخلف الفضلاء حازوا قصب السبق في ¬
نقول عن بعض أهل الكلام وما آل إليه أمرهم من الندم والحسرة
هذا كله وهذا قول باطل وجهل بارد إذا تدبره الإنسان وجده في غاية الجهالة بل في غاية الضلالة، فكيف يكون هؤلاء المتأخرون ولاسيما والإشارة بالخلف إلى ضرب من المتكلمين الذين كثر في باب الدين اضطرابهم وغلظ عن معرفة اللَّه حجابهم، وقد لجوا في بيداء الضلالة تائهين، وزعموا أنهم خاضوا بحور العلم دعوى وإنما سلكوا طريق المشائين فأثمر لهم ذلك الجد والإجتهاد الحيرة والتخبيط وكثرة الإنتقال والتخليط، فترى أحدهم زيف أحد الأقوال في بعض مؤلفاته واعتمده في بعض واعتمد بعضها في بعض وزيفه في آخر، وهذا دأب من سلك غير سبيل المعصوم وارتضع من غير لبان ما أنزل عليه من الحي القيوم، حتى يقول بعض (¬1) هؤلاء في أواخر عمره: "لقد خضت البحر الخضم وتركت أهل الإسلام وعلومهم وخضت في الذي (¬2) نهوني عنه والآن إن لم يتداركني اللَّه برحمته فالويل لفلان، وها أنا أموت على عقيدة أمي". ويقول الآخر: أكثر الناس شكًا عند الموت أصحاب الكلام (¬3). ويقول أحد فضلائهم (¬4): ¬
لعمري لقد طفت المعاهد كلها ... وسيرت طرفي بين تلك العالم فلم أر إلا واضعًا كف حائر ... على (¬1) ذقن أو قارعًا سن نادم ويقول أحد رؤسائهم (¬2): نهاية إقدام العقول عقال ... وأكثر سعي العالمين ضلال وأرواحنا في وحشة من جسومنا ... وغاية دنيانا أذى ووبال ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا ... سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا وكل هؤلاء المتهوكون (¬3) والزاعمون أنهم هم المحققون إذا حقق عليهم الأمر لم يوجد عندهم من حقيقة العلم باللَّه وخالص المعرفة به خبر ولم يقعوا من ذلك على عين ولا أثر، كيف يكون هؤلاء المحجوبون المنقوصون المسبوقون المتخلفون الحيارى المرتبكون أعلم باللَّه وأسمائه وصفات وأحكم في باب ذات وصفاته من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان من ورثة الأنبياء وخلفاء الرسل وأعلام الهدى ومصابيح الدجى الذين بهم قام الكتاب وبه قاموا، وبهم (¬4) نطق الكتاب وبه نطقوا، الذين وهبهم اللَّه من العلم والحكمة ما برزوا به على سائر ¬
أتباع الأنبياء، وأحاطوا من حقائق المعارف وبواطن الحقائق ما (¬1) لو جمعت حكمة غيرهم إليها لاستحى من يطلب المقابلة. ثم كيف يكون خير قرون الأمة أنقص في العلم والحكمة ولاسيما العلم باللَّه، وأحكام أسمائه وآياته من هؤلاء الأصاغر بالنسبة إليهم. أم كيف يكون أفراخ المتفلسقة وأتباع الهند واليونان وورثة المجوس وعبدة الأوثان، وضلال اليهود والنصارى والصابئين وأشباههم أعلم من ورثة الأنبياء وأهل القرآن والإيمان؟ وإنما استولى الضلال والتهوك على مثل هؤلاء لنبذهم الكتاب المبين وراء ظهورهم وإعراضهم عن سنة خاتم النبيين والمرسلين صلوات اللَّه وسلامه عليه وعليهم أجمعين. وتركهم البحث عن طريق السابقين والتابعين والتماسهم علم معرفة اللَّه ممن لم يعرف اللَّه باقراره على نفسه وشهادة الأمة على ذلك (¬2). وما أملح ما أنشده بعض الفضلاء (¬3) في الكدح فيما لا يجدي: تجاوزت حد الأكثرين إلى العلا ... وسافرت واستبقتهم (¬4) في المفاوز وخضت بحارًا ليس يدرك قعرها ... وسيرت نفسي في قسيم (¬5) المفاوز ولججت في الأفكار ثم تراجع ... اختياري إلى استحسان دين العجائز ¬
حاصل مذهب السلف في باب معرفة الله وأسمائه وصفاته
وحاصل ما اتفق عليه سلف الأمة وأعيان الأئمة في باب معرفة اللَّه وأسمائه وصفاته تعالى وتقدس: "أنه تبارك وتعالى يوصف بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل. فإنه قد علم بالسمع مع العقل أن اللَّه تعالى ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله كما قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشوري: 11]. وقال: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65]. وقال: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 22]. وقال تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 3]. وقد علم بالعقل أن المثلين يجوز على أحدهما ما يجوز على الآخر ويجب له ما يجب له، ويمتنع عليه ما يمتنع عليه، فلو كان المخلوق مثلًا للخالق للزم اشتراكهما فيما يجب ويجوز ويمتنع، والخالق جل ثناؤه يجب وجوده وقدمه والمخلوق يستحيل وجوب وجوده وقدمه بل يجب حدوثه وإمكانه، والمخلوق قد ثبت عدمه وما ثبت عدمه يستحيل قدمه (¬1). وسيأتي إن شاء اللَّه تعالى تقرير كلام أئمة السلف في شرح المنظومة عند كل مسألة منها ما يليق بالمقام واللَّه ولي الإنعام. المقصد الثالث (¬2): في وجوب الإعتصام بالرسالة وبيان ¬
تعليق من المحقق على حديث: "الدنيا ملعونة ملعون ما فيها" الحديث
أن (¬1) السعادة والهدى في متابعة الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-، وأن الضلال والشقاء في مخالفته، وأن كل خير في الوجود (من عام وخاص) (¬2) فمنشأه من جهة الرسول وأن كل شر بالعالم وكل شر يختص بالعبد فسببه مخالفة الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- والجهل بما جاء به. وأن سعادة العباد في المعاش والمعاد باتباع الرسالة، وهي ضرورية للعباد ولا بد لهم منها وحاجتهم إليها فوق حاجتهم إلى كل شيء وهي روح العالم ونوره وحياته فلا صلاح للعالم إذا عدم الروح والحياة والنور، والدنيا مظلمة ملعونة كلها إلا ما طلعت عليه شمس الرسالة (¬3)، وكذلك العبد ما لم تشرق في قلبه شمس الرسالة ويناله من ¬
حياتها وروحها فهو في ظلمة وهو من الأموات قال اللَّه تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام: 122]. فهذا وصف المؤمن كان ميتا في ظلمة الجهل فأحياه اللَّه بروح الرسالة وبنور الإيمان وجعل له نورًا يمشي به في الناس. وأما الكافر فميت القلب في الظلمات، وقد سمى اللَّه على رسالته روحا، والروح إذا عدم تقدت الحياة قال (¬1) تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ (¬2) رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ (¬3) جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} (¬4) [الشورى: 52]. فذكر في هذه الآية الكريمة الأصلين وهما الروح والنور. فالروح الحياة والنور المزيل للظلمات، فالكافر في ظلمات الكفر والشرك والشك ميت غير حي وإن كان فيه حياة بهيمية فهو عادم الحياة الروحانية العلوية التي سببها الإيمان وبه يحصل للعبد السعادة والفلاح في الدنيا والآخرة. فإن اللَّه تعالى جعل الرسل وسائط بينه وبين عباده في تعريفهم ما ¬
بيان الأصول الثلاثة التي عليها مدار الخلق
ينفعهم وما يضرهم وتكميل ما يصلحهم في معاشهم ومعادهم، وبعثوا جميعهم بالدعوة إلى اللَّه تعالى وتعريف الطريق الموصل إليه، وبيان حالهم بعد الوصول إليه. فالأصل الأول تضمن اثبات الصفات والتوحيد والقدر وذكر أيام اللَّه في أوليائه وأعدائه، وهي القصص التي قصها على عباده والأمثال التي ضربها اللَّه لهم. والأصل الثاني يتضمن تفصيل الشرائع والأمر والنهي والإباحة وبيان ما يحبه اللَّه ويكرهه. والأصل الثالث يتضمن الإيمان باليوم الآخر والجنة والنار والثواب والعقاب على هذه الأصول الثلاثة، مدار الخلق والأمر والسعادة والفلاح موقوفة عليها ولا سبيل إلى معرفتها إلا من جهة الرسل فإن العقل لا يهتدي إلى تفاصيلها ومعرفة حقائقها، وإن كان قد يدرك وجه الضرورة إليها من حيث الجملة، كالمريض الذي يدرك وجه الحاجة إلى الطب ومن يداويه ولا يهتدي إلى تفاصيل المرض وتنزيل الدواء عليه. وحاجة العبد إلى الرسالة أعظم بكثير من حاجة المريض إلى الطبيب فإن آخر ما يعذب بعدم الطبيب موت الأبدان. وأما إذا لم يحصل للعبد نور الرسالة وحياتها مات قلبه موتًا لا ترجى الحياة معه أبدًا وشقي شقاوة لا سعادة معها أبدًا، فلا فلاح إلا باتباع الرسول فإن اللَّه تعالى خص بالفلاح أتباعه المؤمنين به وأنصاره كما قال تعالى: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 157]. أي لا مفلح إلا هم، كما قال: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104].
ونحو ذلك من الآيات، فعلم بذلك أن الهدى والفلاح دائر حول ربع (¬1) الرسالة وجودًا وعدمًا، وهذا مما اتفقت عليه الكتب المنزلة من السماء، بعثت به جميع الرسل، فالرسالة ضرورية في صلاح العبد في معاشه ومعاده فكما أنه لا صلاح له في آخرته إلا باتباع الرسالة، فكذلك لا صلاح له في معاشه ودنياه إلا باتباعها فالإنسان مضطر إلى الشرع فإنه بين حركتين حركة يجلب بها ما ينفعه وأخرى يدفع بها ما يضره، والشرع هو النور الذي يبين ما ينفعه وما يضره، فهو نور اللَّه في أرضه، وعدله بين عباده وحصنه الحصين وحبله المتين، وليس المراد بالشرع التمييز بين النافع والضار بالحس (¬2) فإن ذلك يحصل للحيوانات العجم فإن الحمار والجمل يميز بين الشعير والتراب، بل المراد التمييز بين الأفعال التي تضر فاعلها في معاشه ومعاده والأفعال التي تنفعه في معاشه ومعاده، كنفع الإيمان والتوحيد والعدل والبر والصدق، والإحسان والأمانة والعفة والشجاعة والحلم والصبر، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وصلة الأرحام وبر الوالدين والإحسان إلى المماليك والجيران، وأداء الحقوق، وإخلاص العمل للَّه والتوكل عليه والإستعانة به، والرضا بمواقع (¬3) أقداره والتسليم لحكمه، والإنقياد لأمره، وموالاة أوليائه ومعاداة أعدائه، وخشيته في الغيب والشهادة، والتقرب إليه بأداء فرائضه واجتناب محارمه، واحتساب الثواب عنده، وتصديقه وتصديق رسله (في كل ¬
ما أخبروا به) (¬1) ولاسيما في التوحيد، والإيمان به تعالى وبصفاته ونعوته، وعدم الإلحاد في أسمائه وصفاته بل الإيمان بكل ما أخبر (¬2) به من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل فمن أعظم نعم اللَّه على عباده وأشرف مننه عليهم أن أرسل إليهم رسله وأنزل عليهم كتبه وبين لهم الصراط المستقيم، والدين القويم، ولولا ذلك لكانوا بمنزلة الأنعام والبهائم أو شر حالًا منها، فمن قبل الرسالة وما جاءت به الرسل واستقام عليها فهو من خير البرية ومن ردها وخرج عنها وطعن وألحد ولاسيما في الأسماء والصفات فهو شر البرية، وأسوأ حالًا من الكلب والخنزير، والحيوان والبهيم، والدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ما أشرقت عليه شمس الرسالة (¬3) وأسس بنيانه عليها، ولا بقاء لأهل الأرض إلا ما دامت آثار الرسالة موجودة (¬4) فيهم، فإذا درست آثار الرسل من الأرض وانمحت بالكلية أخرب اللَّه العالم العلوي والسفلي وأقام القيامة، فالرسل صلوات اللَّه وسلامه عليهم وسائط بين اللَّه وبين خلقه في أمره ونهيه وهم السفراء بينه وبين عباده، وكان خاتمهم وسيدهم وأكرمهم على ربهم محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "يا أيها الناس إنما أنا رحمة مهداة" (¬5). وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]. ¬
وقال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن اللَّه نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب" (¬1). وهذا المقت كان لعدم هدايتهم بالرسل فرفع اللَّه منهم هذا المقت برسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فبعثه اللَّه رحمة للعالمين ومحجة للسالكين وحجة على الخلق أجمعين، وافترض على العباد طاعته، ومحبته وتعزيره وتوقيره والقيام بأداء حقوقه. وسد تعالى إليه جميع الطرق فلم يفتح لأحد إلا من طريقه، وأخذ العهود والمواثيق بالإيمان به وعلى تصديقه وحتَّم إتباعه على جميع الأنبياء والمرسلين (¬2) وأمرهم أن يأخذوا العهود والمواثيق على من اتبعهم من المؤمنين (¬3) أرسله بالهدى ودين الحق بين يدي الساعة بشيرًا ونذيرا وداعيًا إلى اللَّه يإذنه وسراجًا منيرًا، فختم به الرسالة وهدى به من الضلالة وعلم به من الجهالة، وفتح برسالته أعينًا عميًا وآذنًا صمًا، وقلوبًا غلفًا فأشرقت برسالته الأرض بعد ظلماتها وتألفت به القلوب بعد شتاتها فأقام به الملة العوجاء، وأوضح به المحجة البيضاء، وشرح له صدره ووضع ¬
منشأ الخلاف والنزاع بين الفرق وسببه
عنه وزره، ورفع له ذكره، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمره، وجعل الهدى والفلاح في اتباعه وموافقته، والشقاء والضلال في معصيته ومخالفته، وامتحن به الخلائق في قبورهم، فهم حتى في القبور عنه (مسئولون) (¬1) وبه ممتحنون (¬2) فإذا كان هذا شأن هذا النبي الكريم والرسول الرؤوف الرحيم فكيف يلتمس الهدي والفلاح والفوز والنجاح من غير هديه القويم، وسبيله المستقيم، ولاسيما في معرفة اللَّه وصفاته التي هي الغاية القصوى والسعادة العظمى. فإن قلت ما منشأ هذا الخلاف والنزاع والتباين والإبتداع الذي طبق الأرض بأسرها، وعم الفرق في نهيها وأمرها؟ فالجواب: إن منشأ ذلك كله عدم اتباع آثار الرسول وعدم التمسك بصحيح المنقول، والإستقلال بالعقول مع ميلها للأوضاع الفلسفية والإصطلاحات المنطقية، والمقدمات الكلامية، فمشوا على قانون أسلافهم وتركوا سنة نبيهم زعمًا أنهم المحققون وهم في الحقيقة تائهون ومتحذلقون وأين الثريا عن يد المتطاول؟ فمنشأ التفرق (¬3) والإختلاف والإبتداع والإنحراف علم الكلام الذي ذمه السلف وعابوه وحذروا منه وأبنوه (¬4) وهو الكلام المشتبه المشتمل على حق وباطل فيه ما يوافق العقل والسمع وفيه ما يخالفهما فيأخذ هؤلاء جانب النفي المشتمل على نفي الحق والباطل وهؤلاء جانب الإثبات المشتمل على إثبات حق وباطل، وجماعه: ¬
هو الكلام المخالف لكتاب للَّه وسنة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فكل كلام كان كذلك فهو باطل، وذلك إنه لما تناظروا في مسألة حدوث العالم وإثبات الصانع، فأستدلت الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم من طوائف الكلام على ذلك: بأن ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث، وأن المستدلين بذلك على حدوث الأجسام قالوا: إن الأجسام لا تخلوا عن الحوادث وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث (¬1) ثم تنوعت طرقهم في المقدمة الأولى فتارة يثبتونها بأن الأجسام لا تخلوا (عن الحركة والسكون وهما حادثان، وتارة يثبتونها بأن الأجسام لا تخلو عن الإجتماع والإفتراق وهما حادثان، وتارة يثبتونها بأن الأجسام) (¬2) لا تخلوا عن الأكوان الأربعة: الإجتماع والإفتراق والحركة والسكون وهي حادثة وهذه طريقة المعتزلة ومن وافقهم، وتارة يثبتونها بأن الأجسام لا تخلوا من كل جنس من الأعراض عن عرض منها ويقولون: القابل (¬3) للشيء لا يخلو عنه وعن ضده، ¬
ويقولون: إن العرض يمتنع بقاؤه زمانين، وهذه الطريقة هي التي اختارها أبو حسن الآمدي (¬1) وزيف ما سواها ووافقه عليها طائفة من الفقهاء من أصحاب الأئمة الأربعة كالقاضي أبي يعلى (¬2)، وأبي المعالي (¬3) الجويني من الشافعية وأبي الوليد (¬4) الباجي من المالكية وغيرهم. ¬
طلب المأمون كتب اليونان
وأما الهشامية (¬1) والكرامية (¬2) وغيرهم من الطوائف الذين لا يقولون بحدوث كل جسم، ويقولون إن القديم تقوم به الحوادث ويقولون: الجسم القديم يخلو عن الحوادث بخلاف الأجسام المحدثة فإنها لا تخلو عن الحوادث فلا يوافقون الآمدي ومن وافقه من كل وجه وهذا نزاع طويل عريض وبسببه افترقت الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة كما في الحديث عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- كما سنذكره فيما بعد (¬3). قال أهل التاريخ إن المأمون (¬4) بن هارون الرشيد لما هادن بعض ملوك النصارى ¬
قال الصلاح الصفدي (¬1) أظنه صاحب جزيرة قبرص طلب (¬2) منه خزانة كتب اليونان وكانت عندهم مجموعة في بيت لا يظهر عليها أحد فجمع الملك خواصه من ذوي الرأي واستشارهم في ذلك فكلهم أشار بعدم تجهيزها إليه إلا مطران واحد فإنه قال جهزها إليهم فما دخلت هذه العلوم على دولة شرعية إلا أفسدتها وأوقعت بين علمائها (¬3). وكان شيخ الإسلام الإمام تقي الدين أبو العباس أحمد (¬4) بن تيمية قدس اللَّه روحه يقول: ما أظن أن اللَّه يغفل عن المأمون ولا بد أن يقابله على ما اعتمده مع ¬
حديث افتراق الأمة على ثلاث وسبعين فرقة وتخريجه
هذه الأمة من إدخال هذه العلوم الفلسفية بين أهلها (¬1) انتهى. هذا وإن كان أصل الخلاف كان موجودًا إلا أنه زاد البلاء واشرأبت الفتن وكثر الإختلاف وانتشرت الإحن بدخول كتب الفلاسفة في هذه الملة (¬2) وبين علمائها. وقد روى من حدث أنس بن مالك رضي اللَّه عنه أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "إن بني إسرإئيل اخرقوا على إحدى وسبعين فرقة وإن أمتي ستفترق على اثنتين وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة" (¬3). وأخرج الإمام أحمد (¬4) في المسند من حديث معاوية رضي اللَّه عنه قال: قام فينا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: "إن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا اثنتين وسبعين (¬5) وإن هذه الأمة ستفترق إلى ثلاث وسبعين ثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة وهي الجماعة" (¬6) رواه أبو داود وزاد فيه "وإنه سيخرج في أمتي أقوام تتجارى ¬
تفسير لبعض العلماء للفرقة الناجية وتعقيب من المؤلف عليه
بهم الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه، لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله". قوله في الحديث: الكلب -هو بفتح اللام قال الخطابي هو داء يعرض للإنسان من عضة الكلبِ الكلبَ وعلامة ذلك في الكلب أن تحمر عيناه ولا يزال يدخل ذنبه بين رجله فإذا رأى إنسانًا ساوره (¬1). وفي رواية أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "ستفترق أمتي ثلاثا وسبعين فرقة كلهم في النار إلا فرقة واحدة قيل له من هم يا رسول اللَّه؟ -يعني الفرقة الناجية- فقال: هم من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي" (¬2). وفي رواية ستفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة كلهم في النار إلا فرقة واحدة وهي ما كان (مثل) ما أنا عليه وأصحابي. وقال بعض الأئمة هم -يعني الفرقة الناجية- أهل الحديث (¬3) يعني الأثرية (¬4) ¬
تعليق من المحقق على كون أهل السنة ثلاث فرق
والأشعرية (¬1) والماتريدية (¬2). قلت: وجوهر الحديث ولفظه وهو قوله فرقة واحدة ينافي التعداد (¬3). ¬
طرف حديث افتراق الأمة على ثلاث وسبعين فرقة
وقد روى هذا الحديث الحاكم (¬1) في صحيحه وصححه وأبو داود والترمذي (¬2) وغيرهم. وقد روى حديث افتراق أمته -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى ثلاث وسبعين فرقة واحدة في الجنة وثنتان وسبعون في النار. روي من حديث أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وسعد بن أبي وقاص وابن عمر ¬
رواية الغزالي الحديث بلفظ: ستفترق أمتي نيفا وسبعين فرقة كلهم في الجنة إلا الزنادقة وتعقب المؤلف له
وأبي الدرداء ومعاوية وابن عباس وجابر وأبي أمامة وواثلة بن الأسقع وعوف بن مالك وعمرو بن عوف المزني وأنس بن مالك رضي اللَّه عنهم. فكل هؤلاء قالوا: واحدة في الجنة وهي الجماعة. وأما ما نقله أبو حامد الغزالي في كتابه "الفرقة بين الإيمان (¬1) والزندقة" من أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "ستفترق أمتي نيفًا وسبعين فرقة كلهم في الجنة إلا الزنادقة (¬2) " وهي فرقة قال وهذا لفظ الحديث في بعض الروايات، قال وظاهر الحديث يدل على أنه أراد الزنادقة من أمته إذ قال ستفترق أمتي ومن لم يعترف بنبوته فليس من أمته. والذين ينكرون أصل المعاد والصانع فليسوا معترفين بنبوته. إذ يزعمون أن الموت عدم محض وأن العالم لم يزل كذلك موجودًا بنفسه من غير صانع ولا يؤمنون باللَّه واليوم الآخر وينسبون الأنبياء إلى التلبيس فلا يمكن نسبتهم إلى الأمة انتهى. قلت وهذا الحديث الذي ذكره الإمام الغزالي (¬3) كذب موضوع. ¬
قال الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية (¬1) قدس اللَّه روحه: "أما هذا الحديث -يعني الحديث الذي ذكره الغزالي فلا أصل له بل هو موضوع كذب باتفاق أهل العلم بالحديث ولم يروه أحد من أهل الحديث المعروفين بهذا اللفظ، بل الحديث الذي في السنن والمسانيد عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من وجوه أنه قال: "ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة واحدة في الجنة وثنتان وسبعون في النار". وروي عنه أنه قال: هي الجماعة. وفي لفظ آخر: "هي من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي" قال وضعفه ابن حزم (¬2). لكن رواه الحاكم في صحيحه ورواه أبو داود والترمذي (¬3) وغيرهم قال وأيضًا لفظ الزندقة لا يوجد في كلام النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- كما لا يوجد في القرآن. وأما الزنديق الذي تكلم الفقهاء في توبته قبولًا وردًا فالمراد به عندهم المنافق الذي يظهر الإسلام ويبطن الكفر (¬4). انتهي. ¬
قلت: وقد ذكر الحديث الذي ذكره الغزالي الإمام الحافظ ابن الجوزي (¬1) في كتابه في الموضوعات (¬2) وذكر أنه روي من حديث أنس ولفظه "تفترق أمتي على سبعين أو إحدى وسبعين فرقة كلهم في الجنة إلا فرقة واحدة قالوا يا رسول اللَّه من هم؟ قال: الزنادقة وهم القدرية". أخرجه العقيلي (¬3) وابن عدي (¬4) ورواه الطبراني (¬5) أيضًا. قال أنس: "كنا نراهم القدرية" (¬6). قال ابن الجوزي: وضعه الأبرد بن الأشرس وكان وضاعًا كذابًا وأخذه منه ياسين الزيات فقلب اسناده وخلطه وسرقه عثمان بن عفان القرشي. ¬
خاتمة في ذكر بعض أشياء ينبغي أن تعلم
وهؤلاء كذابون متروكون فلا يعول على ما نقلوه ولا يلتفت إلى ما رووه (¬1) وباللَّه التوفيق. الخاتمة في ذكر بعض أشياء لا ينبغي لمن يريد الخوض في هذا العلم أن يجهلها منها: مما ينبغي أن يعلم أن الأحكام الشرعية منها ما يتعلق بكيفية العمل وتسمى فرعية وعملية. ومنها ما يتعلق بالإعتقاد وتسمى أصلية واعتقادية والعلم المتعلق بالأولى علم الشرائع والأحكام لأنها لا تستفاد إلا من جهة الشرع. ولا يسبق إلى الفهم عند إطلاق الأحكام إلا إليها. والمتعلق بالثانية علم التوحيد والصفات سمي بذلك لأنه أشهر مباحثه وأشرف مقاصده، وكان الصدر الأول رضوان اللَّه عليهم لصفاء عقائدهم ببركة صحبة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وقرب العهد بزمانة وقلة الإختلافات والوقائع وتمكنهم من المراجعة إلى الثقات مستغنين عن تدوين العلمين وترتيبهما أبوابًا وفصولًا وتقرير مقاصدهما فروعًا وأصولًا إلى أن حدثت الفتن بين المسلمين والخروج والبغي على أئمة الدين وظهر اختلاف الآراء والميل إلى البدع والأهواء وكثرت الفتاوى والواقعات والرجوع إلى العلماء في المهمات فاشتغلوا بالنظر والإستدلال والإجتهاد والإستنباط وتمهيد القواعد والأصول وترتيب الأبواب والفصول وتكثير المسائل بأدلتها وإيراد الشبه بأجوبتها وتعيين الأوضاع والإصطلاحات وتبيين المذاهب والإختلافات. وسموا ما يفيد معرفة الأحكام العملية عن أدلتها التفصيلية بالفقه. ومعرفة أحوال الأدلة إجمالًا في إفادتها الأحكام بأصول الفقه ومعرفة العقائد ¬
تعريف لعلم الكلام
عن أدلتها بالكلام، وبأصول الدين وبالتوحيد وإنما سموه بالكلام لأن عنوان مباحثه: كان قولهم الكلام في كذا وكذا أو لأن مسألة الكلام الذي هو القرآن كانت أشهر مباحثه، وأكثرها نزاعًا وجدلًا، حتى قتل بعض المتغلبة خلقًا كثيرًا من أهل العلم والسنة لعدم قولهم بخلق القرآن كالمأمون وأخيه المعتصم (¬1) والواثق (¬2) ابن المعتصم ونال سيدنا الإمام أحمد رضي اللَّه عنه من ذلك أذى كثيرًا ولأنه يورث قدرة على الكلام في تحقيق الشرعيات وإلزام الخصوم كالمنطق والفلسفة فيما يزعم ذووه. ولأنه أول ما يجب من العلوم التي إنما يعلم ويتعلم بالكلام فأطلق عليه هذا الإسم لذلك ثم خص به ولم يطلق على غيره تمييزًا له عن غيره. ولأنه إنما يتحقق بالمباحثة وإدارة الكلام من الجانبين وغيره قد يتحقق بالتأمل ومطالعة الكتب، ولأنه أكثر العلوم خلافًا ونزاعًا فيشتد افتقاره إلى الكلام مع المخالفين والرد عليهم، ولأنه لقوة أدلته صار كأنه هو الكلام دون ما عداه من العلوم. كما يقال لأقوى الكلامين هذا هو الكلام، ولأنه لإبتنائه على الأدلة القطعية المؤيد أكثرها بالأدلة السمعية أشد العلوم تأثيرًا في القلب وتغلغلًا فيه فسمي بالكلام المشتق من الكلم وهو الجرح وهذا هو كلام القدماء ومعظم خلافياته مع الفرق ¬
تعريف لعلم أصول الدين
الإسلامية خصوصًا المعتزلة ومن نحا منحاهم. وأما تسميته بأصول الدين فالأصول جمع أصل ويطلق على أمور منها: ما ينبني عليه غيره، فسمي بذلك لابتناء الدين عليه بحسب أصله والمراد بالدين دين الإسلام. ويأتي تعريفه. وأما تسميته بالتوحيد فلأنه يبحث به عن الذات الواجب الوجود، والصفات. وكذلك يسمى بالعقائد مشتق من الإعتقاد الذي هو حكم الذهن الجازم. ومنها ينبغي لكل طالب علم أن يتصور ذلك العلم بحده أو رسمه ليكون على بصيرة في طلبه وأن يعرف موضوعه ليمتاز عنده عما سواه مزيد امتياز فإنما تمايز العلوم بتمايز موضوعاتها، وأن يصدق بغاية مآله وإلا كان الطلب عبثًا، ولا بد أن يكون معتدًا بها بالنظر لمشقة التحصيل. وإلا ربما فتر جده، ولابد أن تكون مترتبة (¬1) على ذلك الشيء المطلوب، وإلا ربما زال اعتقادها بعد الشروع فيه فيصير سعيه في تحصيله عبثا في نظره. إذا عرفت هذا فالفن المسمى بأصول الدين وبعلم العقائد وبعلم التوحيد والصفات وبعلم الكلام. أما تعريفه: (¬2) العلم بالعقائد الدينية عن الأدلة اليقينية أي العلم بالقواعد الشرعية الإعتقادية المكتسب من أدلتها اليقينية والمراد بالدينية المنسوبة إلى دين محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- من السمعيات وغيرها سواء كانت من الدين في الواقع ككلام أهل الحق أو لا ككلام أهل البدع. ¬
واعتبروا في أدلتها القين لعدم الإعتداد بالظن في الإعتقاديات (¬1) فدخل في التعريف علم علماء الصحابة فإنه كلام وأصول وعقائد وإن لم يكن يسمى في ذلك الزمان بهذا الإسم. كما أن علمهم بالعمليات فقه وإن لم يكن ثَمّ هذا التدوين والترتيب. وذلك إذا كان متعلقًا بجميع العقائد بقدر الطاقة البشرية مكتسبًا من النظر في الأدلة اليقينية، أو كان ملكة تتعلق بها بأن يكون عندهم من المآخذ والشرائط ما يكفيهم في استحضار العقائد، وقال غير واحد حده: علم يقتدر معه على إثبات العقائد الدينية ودفع الشبه -أي المنسوبة إلى دين سيدنا محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- وإن لم تكن مطابقة للواقع لعدم إخراجنا الخصم عن أن يكون من علماء الكلام وإن خطأناه أو كفرناه (¬2). فيه بقوله ودفع الشبه على لطيفة وهي أن ليست القواعد الكلامية لأجل أن يؤخذ منها الإعتقادات الإسلامية، بل المقصود منها ليس إلا دفع شبه الخصوم فإنهم ¬
موضوع علم أصول الدين
طعنوا في بعض منها بأنه غير معقول فبينوا بالقواعد الكلامية معقولية ذلك البعض وإنما تؤخذ الإعتقادات الإسلامية من النصوص القرآنية والأحاديث النبوية. وأما موضوعه: فهو المعلوم من حيث يتعلق به إثبات العقائد الدينية تعلقًا قريبًا -أي بلا واسطة- وبعيدًا أي بواسطة لا ذات اللَّه للبحث عن صفاته وأفعاله العارضين له كما ظن بعضهم لأنا نبحث عن أمور أخرى في الكلام من غير ملاحظة استنادها الى ذات اللَّه تعالى وعروضها له (¬1) كالجواهر والأعراض فيبحث في هذا العلم عن أحوال الصانع من القدم والوحدة والقدرة والإرادة وغيرها ليعتقد ثبوتها له تعالى. وأحوال الجسم والعرض من الحدوث والإفتقار والتركيب من الأجزاء وقبول الفناء ونحو ذلك ليعتقد تنزيهه تعالى عنها، فيثبت للصانع ما ذكر مما هو عقيدة إسلامية أو وسيلة إليها. وكل هذا بحث عن أحوال المعلوم كإثبات العقائد الدينية وهو كالموجود إلا أنه أوثر على الموجود ليصح على رأي من لا يقول بالوجود الذهني ولا يعرف العلم بحصول الصورة في العقل وورى مباحث المعدوم والحال من مسائل الكلام. وأما غايته: فهي أن يصير الإيمان والتصديق بالأحكام الشرعية متقنًا محكمًا لا تزلزله شبه المبطلين فيرقى من حضيض التقليل إلى ذروة الإيقان بسبب التمكن من الإستدلال. ومن فوائده أيضًا: إرشاد الطالبين وإلزام المعاندين بإقامة الحجج والبراهين ونقض غبار شبه الخصوم عن قواعد الدين وصحة النية والإعتقادات الإسلامية التي يقع بها العمل في حيز القبول. ¬
أسباب العلم ثلاثة
وفائدة جميع ذلك: الفوز بسعادة الدارين والظفر بما هو كمال في الكونين من انتظام المعاش في الدنيا بالمحافظة على العدل والمعاملة المحتاج إليها في إبقاء النوع الإنساني على وجه لا يؤدى إلى الفساد. وفي الآخرة النجاة من العذاب المرتب على الكفر وسوء الإعتقاد. ومسائله: القضايا النظرية الشرعية الإعتقادية. واستمداده: من الكتاب والسنة والتفسير والإجماع مع النظر الصحيح. ومنها: أنه مما ينبغي أن يعلم أن أسباب العلم ثلاثة: إحداها: الحواس السليمة، وهي السمع والبصر والشم والذوق واللمس. فكل حاسة منها -يُوقف- بمعنى يطلع على ما وضحت هي له- كالسمع للأصوات (والبصر للمبصرات) (¬1) والذوق للمطعوم والشم للروائح واللمس للملموسات من حرارة وبرودة ورطوية ويبوسة ونحو ذلك. الثاني: الخبر الصادق من الكتاب المنزل والأحاديث عن النبي المرسل فإن معظم المعلومات الدينية مستفادة من الخبر الصادق. الثالث: العقل لحكم الإستقراء. ووجه الحصر أن السبب إن (¬2) كان من خارج فالخبر الصادق وإلا فإن كان آلة غير المدرك فالحواس وإلا فالعقل فإن قيل السبب المؤثر في العلوم كلها هو للَّه تعالى لأنها بخلقه وإيجاده من غير تأثير للحاسة والخبر والعقل. ¬
والسبب الظاهري كالنار للإحراق هو العقل لا غير وإنما الحواس والأخبار آلات وطرق للإدراك. والسبب المنفي في الجملة بأن يخلق اللَّه تعالى العلم معه بطريق جري المادة عند الأشاعرة ومن نحا نحوهم ليشمل المدرك كالعقل والآلة كالحس والطريق كالخبر لا ينحصر في الثلاثة بل ثم أشياء أخر مثل (¬1) الوجدان والحدس والتجربة ونظر العقل بمعنى ترتيب المباديء والمقدمات. فالجواب أن هذا جرى على عادة مشايخ علماء الكلام ومحققيهم في الإقتصار على المقاصد والإعراض عن تدقيقات الفلاسفة (¬2) واللَّه أعلم. ومنها: العلم لا يحد في وجه والحق أنه كحد وهر صفة يميز المتصف بها تمييزًا جازمًا مطابقًا للواقع لا يحتمل النقيض. وقد يراد به مجرد الإدراك جازمًا أو مع احتمال راجح أو مرجوح أو مساو على سبيل المجاز فيشمل الأربعة قوله تعالى -حاكيًا مقالة النسوة اللاتي قطعن أيديهن {مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ} [يوسف: 51] إذ المراد نفي كل إدراك. وعلم اللَّه تعالى قديم ليس بضروري ولا نظري ولا يوصف تعالى بأنه عارف. قال العلامة ابن حمدان (¬3) في نهاية المبتدئين: علم اللَّه تعالى لا يسمى معرفة ¬
حكاه القاضي (¬1) إجماعًا. وعلم المخلوقات محدث وهو قسمان: 1 - ضرورى وهو ما يعلم من غير نظر كتصورنا معنى النار وإنها حارة. 2 - نظري وهو ما لا يعلم إلا بنظر وهو عكس الضروري. وتعريف العلم الضروري هو ما لزم نفس المكلف لزومًا لا يمكنه الخروج عنه (¬2). فائدة: ما عنه الذكر الحكمى يعني المعنى الذي يعبر عنه بالكلام الخبري من إثبات أو نفي تخيله أو لفظ به. إما أن حتمل متعلقه النقيض بوجه من الوجوه أو لا. الثاني العلم والأول إما أن يحتمله عند الذاكر لو قدره في نفسه أولا. الثاني: الإعتقاد فإن طابق لما في نفس الأمر فهو اعتقاد صحيح وإن لم يطابق ففاسد. والأول وهو الذي يحتمل النقيض عند الذاكر لو قدره الراجح منه ظن، ¬
والمرجوح وهم والمساوي شك (¬1) واللَّه تعالى أعلم. وقد آن لنا أن نشرع في شرح القصيدة الفريدة والخريدة المفيدة. فنقول: * * * ¬
بداية شرح القصيدة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ اعلم أني في جميع الكتب التي وقفت عليها مما هذه القصيدة مذكورة فيها لم أر من صدرها بالبسملة. وذلك لأني إنما وقفت عليها في ترجمة ناظمها وليس من عادة المترجمين ذكر البسملة في أول منظومات العلماء. ويحتمل أن الناظم قدس اللَّه روحه لم يأت بها في أول منظومته إما لهضم نفسه بأن منظومته ليست من الأمور التي يهتم بها ويحتفل بشأنها فهي عنده ليست من أمر ذي بال (¬1). أو يكون ترك البسملة لورود النهي عن الإتيان بها في الشعر فقد جاء عن الشعبي (¬2) رحمه اللَّه تعالى منع ذلك. وعن الزهري (¬3) قال مضت السنة أن لا يكتب في الشعر بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. ¬
وعن سعيد (¬1) بن جبير رحمه اللَّه جواز ذلك. وتابعه على ذلك الجمهور واختاره غير واحد من أهل العلم ما لم يكن محرمًا أو مكروهًا. وأما ما كان متعلقًا بالعلم كهذه المنظومة فتصديره بالبسملة محل وفاق (¬2). اقتداء بالكتاب العظيم وتأسيًا بالنبي الكريم وامتثالًا لقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فهو أبتر" -أي ذاهب البركة-. رواه الخطيب في كتابه "الجامع" (¬3). وفي رواية فهو أقطع. وفي أخرى أجذم. وقد ذكر العلامة أبو بكر التونسي (¬4) من المالكية إجماع علماء كل ملة على أن ¬
شرح: بسم الله الرحمن الرحيم
اللَّه سبحانه افتتح جميع كتبه ببِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. والباء فيها للإستعانة أو المصاحبة متعلقة بمحذوف وتقديره فعلا خاصا مؤخرا أولى، واللَّه علم على الذات الواجب الوجرد المستحق لجميع الكمالات. والرحمن المنعم بجلائل النعم كمية أو كيفية والرحيم المنعم بدقائقها كذاك. وقدّم الأول لأنه خاص باللَّه تعالى ولأنه أبلغ من الرحيم فقدّم عليه ليكون الرحيم له كالتتمة والرديف فإن قيل العادة تقديم غير الأبلغ ليترقى منه إلى الأبلغ كما فى قولهم عالم نحرير وجواد فياض. فالجواب قد قيل إن الرحيم أبلغ وقيل هما سواء غير أنه قد خص كل منهما بشيء. وقيل الرحمن أمدح والرحيم ألطف. والحق أن الرحمن أبلغ لأن زيادة البناء تدل على زيادة المعنى وإنما خولفت العادة لأنه أريد أن يردف الرحمن الذي تناول جلائل النعم وأصولها بالرحيم ليكون له كالتتمة والرديف كما تقدم لتناوله ما دق منها ولطف كما أشرنا اليه (¬1). وقد ذكر العلامة جمال الدين ابن هشام (¬2) في ¬
المغني (¬1) "إن الحق قول الأعلم (¬2) وابن مالك (¬3) إن الرحمن ليس بصفة بل علم قال وبهذا لا يتجه السؤال وينبني على علميته أنه في البسطة ونحوها بدل لا نعت وأن الرحيم بعده نعت له لا نعت لاسم اللَّه. إذ لا يقدم البدل على النعت. قال وإنما يوضح أنه غير صفة مجيئه كثيرًا غير تابع نحو {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ} [الرحمن: 1 - 2]، {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ} [الإسراء: 110]، {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ} [الفرقان: 60] انتهى. ومن يقول أنه صفة يجيب عن ذلك بأن الموصوف إذا علم جاز حذفه وإبقاء صفته كقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ. . .} [فاطر: 28] ¬
أي نوع مختلف ألوانه كاختلاف السموات والجبال، وعلى المشهور في أنه صفة كالرحيم بحسب الأصل فمشتقان من رحم بجعله لازما بنقله إلى باب فعل بضم العين أو بتنزيله منزلة اللازم إذ هما صفتان مشبهتان وهي لا تشتق من متعد. ورحمة اللَّه تعالى صفة قديمة قائمة بذاته تعالى تقتضي التفضيل والإنعام (¬1). وأما تفسيرها برقة في القلب تقتضي الإنعام كما في الكشاف (¬2) وغيره (فهذا) (¬3) إنما يليق برحمة المخلوق، ونظير ذلك العلم فإن حقيقته المتصف بها تعالى ليست مثل الحقيقة القائمة بالمخلوق. بل نفس الإرادة التي يردون الرحمة إليها في حقه مخالفة لإرادة إلمخلوق إذ هي ميل قلبه إلى الفعل أو الترك. وإرادته تعالى بخلاف ذلك. وكذا رد الزمشخري (¬4) لها في حقه تعالى إلى الفعل بمعنى الإنعام مع أن فعل العبد الإختياري إنما يكون لجلب نفع للفاعل أو دفع ضرر عنه. وفعله تعالى بخلاف ذلك فما فروا إليه فيه من المحذور نظير الذي فروا منه. ¬
فائدة في ذكر بحر القصيدة ووزنها
وبهذا يظهر أنه لا حاجة لدعوى المجاز في رحمته تعالى كما هو مذهب السلف إذ المجاز خلاف الأصل المقتضي لصحة نفي الرحمة عنه تعالى وضعف المقصود منها فيه كما هو شأن المجاز. إذ يصح أن نقول لمن قال زيد أسد ليس بأسد، وليست جرأته كجرأته. والحاصل أنّ الصفة تارة تعتبر من حيث هي هي، وتارة من حيت قيامها به تعالى، وتارة من حيث قيامها بغيره تعالى، وليست الإعتبارات الثلاثة متماثلة إذ ليس كمثله تعالى شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله. كما ذكره إمام المحققين ابن القيم (¬1) رحمه اللَّه تعالى في كتابه بدائع الفوائد (¬2). فائدة: هذه القصيدة الآتى ذكرها من بحر الطويل من الضرب الثاني وله عروض واحدة مقبوضة والقبض حذف خامس الجزء وأضربه ثلاثة: الأول صحيح وبيته: أبا منذر كانت غرورا صحيفتي ... ولم أعطكم بالطوع مالي ولا عرضي (¬3) ¬
الثاني مثلها وبيته: ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا ... ويأتيك بالأخبار من لم تزودي (¬1) والثالث وبيته: قول الشاعر: اقيموا بني النعمان عنا صدوركم ... وإلا تقيموا صاغرين الرؤسا (¬2) والحذف هو ذهاب سبب خفيف كما في البيت. وأجزاء البحر الطويل ثمانية وهي: فعولن، مفاعيلن، فعولن، مفاعيلن، فعولن، مفاعيلن، فعولن، مفاعيلن. ولنقطع البيت الأول من قصيدة الناظم رضي اللَّه عنه ليقاس عليه نظائره: تمسك فعولن، بحبل الا مفاعيلن هو اتت فعول دخله القبض وهو حذف خامس الجزء ساكنا كما هنا. بع الهدى مفاعلن بحذف خامسه ساكنا لأن عروضه لا تكون إلا كذلك. ولات: فعول دخله القبض الذي هو حذف خامس الجزء ساكنا كما علمت كبدعيا مفاعيلن لعلك: فعولن مقبوضة كتفلح. مفاعلن مقبوضة أيضًا والحرف المشدد في هذا الفن بحرفين، والمعروض مؤنثة وهي آخر المصراع الأول. والضرب مذكر وهو آخر المصراع الثاني. ¬
رواية ابن بطة عن أبي بكر صاحب القصيدة قوله -بعد ذكرها- هذا قولي وقول أبي
وأما القافية: فهي من آخر البيت الى أول متحرك قبل ساكن بينهما وتكون بعض كلمة كما في قول امريء القيس (¬1). وقوفا بها صحبي عليَّ مطيهم ... يقولون لا تهلك أسى وتجمل (¬2) هي من الحاء إلى الياء. وتكون كلمة كقوله (¬3) أيضًا: ففاضت دموع العين في صبابة ... على النحر حتى بل دمعي محملي وفي منظومة الناظم آخر البيت الواو الساكنة في جميع القصيدة والمتحرك الذي قبل ساكن هي التاء في البيت واللَّه أعلم. تتمة: قال الإمام العلامة أبو عبد اللَّه عبيد اللَّه بن محمد بن حمدان المعروف بابن بطة (¬4) أحد أعلام المذهب وهو ممن أخذ عن الحافظ أبي بكر بن أبي داود الناظم رحمهم اللَّه تعالى ورضي عنهم قال ابن أبي داود بعد سماعي هذه القصيدة الفريدة والعقيدة المفيدة هذا قولي وقول أبي الإمام الحافظ أبي داود وقول إمامنا الإمام أحمد بن حنبل وقول من أدركنا من أهل العلم ومن لم ندرك فيمن بلغنا عنه فمن قال غير هذا يعني ما يخالفه فقد كذب (¬5). انتهى (¬6). ¬
فصل في الحث على اتباع السنة واجتناب البدعة
فصل في الحث على اتباع السنة واجتناب البدعة قال رضي اللَّه عنه: (تمسك) أيها المسلم السني المتبع سنة رسول اللَّه وجماعة السلف الصالح من أهل الفرقة الناجية (بحبل) أى شرع اللَّه من الكتاب المنزل وما شرعه اللَّه تعالى على لسان نبيه المرسل والجار والمجرور متعلق بتمسك يقال أمسكت الشيء وبالشيء ومسكت به وتمسكت وامتسكت ومنه الحديث: "من مسك من هذا الفى بشيء" (¬1) أى أمسك وهو نظير قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ} [آل عمران: 103] أى بدين الإسلام أو بكتابه لقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "القرآن حبل اللَّه المتين" كما فى الترمذي (¬2). استعار له الحبل من حيث أن التمسك به سبب النجاة عن التردي كما أن التمسك بالحبل سبب السلامة عن التردي الموثوق به والإعتماد عليه فهر استعارة مصرحة وذكر التمسك ترشيحا. وقد أخرج الترمذي عن الحارث (¬3) الأعور قال مررت في المسجد فإذا الناس يخوضون في الأحاديث فدخلت على علي رضي اللَّه عنه فأخبرته فقال أوقد فعلوها؟ قلت: نعم. قال: أما إني سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "ألا إنها ستكون فتنة قلت فما المخرج منها يا رسول اللَّه؟ قال كتاب اللَّه فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم ¬
وحكم ما بينكم هو الفصل ليس بالهزل من تركه من جبار قصمه اللَّه ومن ابتغى الهدى في غيره أضله اللَّه وهو حبل اللَّه المتين وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم وهو الذي لا تزيع به الأهواء ولا تلتبس به الألسنة ولا يشبع منه العلماء ولا يخلق على كثرة الرد ولا تنقضي عجائبه هو الذي لم ينته الجن إذ سمعته حتى قالوا: {قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ}. من قال به صدق ومن عمل به أجر ومن حكم به عدل ومن دعا إليه هدى إلى صراط مستقيم (¬1) خذها إليك يا أعور. قال الترمذي حديث غريب. ونحوه حدث عمر رضي اللَّه عنه قال نزل جبريل عليه السلام على رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فأخبره أنها ستكون فتنة قال فما المخرج منها يا جبريل قال كتاب اللَّه فيه نبأ ما قبلكم ونبأ ما هو كاين بعدكم وفيه الحكم بينكم وهو حبل اللَّه المتين وهو النور المبين الحديث (¬2). وفي حدث ابن عباس رضي اللَّه عنهما قال: جمع اللَّه في هذا الكتاب علم الأولين والآخرين وعلم ما كان وعلم ما يكون والعلم بالخالق جل جلاله أمره وخلقه (¬3). ¬
تعريف الهداية وأنواعها
(واتبع الهدى): أي الذي جاء به النبي المصطفى والرسول المقتدى والهدى بضم الهاء وفتح الدال المهملة الرشاد والدلالة ولو لم تكن موصلة خلافًا (¬1) للمعتزلة (¬2). يقال هداه هدى وهديا وهداية وهدية بكسرهما أرشده فتهدى واهتدى وهداه اللَّه الطريق دله. قال الإمام (¬3) المحقق في كتابه بدائع الفوائد: "الهداية أربعة أنواع: أحدها: الهداية العامة المشتركة بين الخلق المذكورة في قوله تعالى {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه: 50] أي أعطى كل شيء صورته التي لا يشتبه فيها بغيره وأعطى كل عضو شكله وهيئته، وأعطى كل موجود خلقه المختص به. ثم هداه لما خلقه له من الأعمال. قال وهذه الهداية تعم الحيوان المتحرك بإرادته إلى جلب ما ينفعه ودفع ما يضره. قال وللجماد أيضًا هداية تليق به كما أن لكل نوع من الحيوان هداية تليق به وإن اختلفت أنواعها وصورها. وكذلك لكل عضو هداية تليق به: فالرجلين للمشي ¬
واللسان للكلام والعين لكشف المرئيات وهلمّ جرا، وكذا هدى الزوجين من كل حبران إلى الأزدواج والتناسل وتربية الولد، والولد (¬1) إلى التقام الثدي عند وضعه ومراتب هدايته تعالى لا يحصيها إلا هو. الثاني: هداية البيان والدلالة والتعريف لنجدي الخير والشر وطريقي النجاة والهلاك (¬2). وهذه الهداية لا تستلزم الهدي التام فإنها سبب وشرط لا موجب ولهذا ينتفي الهدى معها كقوله تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت: 17] أي بينا لهم وأرشدناهم ود للناهم فلم يهتدوا ومنها قوله تعالى {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52] وهذه تنكرها المعتزلة. فعندهم يلزم من الهداية الهدى فلا هداية عندهم إن لم تكن موصلة (والذكر الحكيم يرد قولهم وباللَّه التوفيق) (¬3). الثالث: هداية التوفيق والإلهام وهي الهداية المستلزمة للإهتدى فلا يتخلف عنها وهى المذكورة في قوله تعالى {يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [فاطر: 8]. وفي قوله تعالى: {إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ} [النحل: 37] وفي قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "من يهدي اللَّه فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له .. " (¬4). ¬
وفي قوله تعالى {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص: 56] فنفى عنه هذه الهداية وأثبت له هداية الدعوة والبيان في قوله: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52]. الرابع: غاية هذه الهداية وهي الهداية إلى الجنة أو النار إذا سيق أهلهما إليهما قال اللَّه تعالى {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [يونس: 9]. وقال أهل الجنة فيها: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف: 43]. وقال تعالى في حق أهل النار: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} (¬1) [الصافات: 22]. وفي تفسير القاضي البيضاوي (¬2) رحمه اللَّه تعالى: "الهداية دلالة بلطف ¬
ولذلك تستعمل في الخير قال: وقوله تعالى: {فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} [الصافات: 23] على سبيل التهكم. ثم قال: وهداية اللَّه تعالى تتنوع أنواعًا لا يحصيها عد لكنها تنحصر في أجناس مترتبة: الأول: افاضته القوى التي بها يتمكن المرء من الإهتداء إلى مصالحه كالقوة العقليه والحواس الباطنة والمشاعر الظاهرة. الثاني: نصب الدلائل الفارفة بين الحق والباطل والصلاح والفساد وإليه أشار بقوله: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد: 10]. وقال: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت: 17]. الثالث: الهداية بإرسال الرسل وإنزال الكتب وإياها عنى بقوله: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} [الأنبياء: 73]. وقوله: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9]. الرابع: أن يكشف على قلوبهم السرائر ويريهم الأشياء كما هي بالوحي أو الإلهام والمنامات الصادقة. وهذا قسم يختص بنيله الأنبياء والأولياء وإياه عنى بقوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90]. وقوله: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69] انتهى (¬1). فمن تمسك بالدين القويم واتبع الهدي الذي جاء به النبي الكريم هدي إلى الصراط المستقيم وإلى جنات الخلود والنعيم المقيم. ثم صرح الناظم رحم اللَّه تعالى روحه ونور ضريحه ما أشعر بنفيه ورفضه ناهيًا ¬
عن الإتصاف به والمثول إلى غرضه فقال (ولا) ناهية (تك) أصلها تكون دخلت أداة النهي فسكنت النون فالتقى ساكنان النون والواو فحذفت الواو لالتقاء الساكنين فصارت اللفظة (تكن) فحذفت النون تخفيفا حذفا جائزا لا لازما فصارت تك. وكان القياس أن لا تحذف هذه النون لكنهم حذفوها تخفيفا لكثرة الإستعمال. ومذهب سيبوية (¬1) ومن تابعه أن هذه النون لا تحذف عند ملاقاة ساكن فلا تقول: لم يك الرجل قائما. وأجاز ذلك يونس (¬2) وقرئ شاذا {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا} [البينة: 1]. وأما إذا لاقت متحركا فلا يخلو إما أن يكون ذلك المتحرك ضميرًا متصلا أولا فإن كان لم تحذف النون اتفاقا كقوله -صلى اللَّه عليه وسلم- لعمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه في ابن ¬
تعريف البدعة وأقسامها
صياد إن يكنه فلن تسلط عليه وإن لا يكنه فلا خير لك في قتله (¬1) فلا يجوز حذف النون فلا يقال: إن يكه ولا إن لا يكه وإن كان غير ضمير متصل جاز الحذف والإثبات نحو: لم يكن زيد قائمًا، ولم يك زيد قائما (¬2). واسمها في النظم عائد على المخاطب وبدعيًا خبرها أي ولا تكن صاحب بدعة أي مرتكبا غير سبيل السلف الصالح من الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة الدين المقتدى بأقوالهم وأفعالهم. وأصل هذه الكلمة من الإختراع وهو الشيء يحدث من غير أصل سبق ولا مثال احتذى ولا ألف مثله ومنه قولهم أبدع اللَّه الخلق أي خلقهم ابتداء ومنه قوله تعالى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [البقرة: 117]. وقوله: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف: 9]، أي لم أكن أول رسول إلى أهل الأرض. قال العلامة الفاضل أبو بكر محمد بن الوليد الفهري الطرطوشي (¬3) المالكي في ¬
كتابه (¬1): "وهذا الإسم يدخل فيما تخترعه القلوب وفيما تنطق به الألسنة وفيما تفعله الجوارح (¬2)، وقد غلب لفظ البدعة على الحدث المكروه في الدين مهما أطلق هذا اللفظ ومثله لفظ المبتدع لا يكاد يستعمل إلا في الذم (¬3). وأما من حيث أصل الإشتقاق فإنه يقال: ذلك فى المدح والذم لأن المراد أنه شيء مخترع على غير مثال سبق ولهذا يقال في الشيء الفائق جمالًا وجودة: ما هو إلا بدعة. قال (¬4) والبدعة: الحدث في الدين بعد الكمال وهو ما لم يكن في عصر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- مما فعله أو أقر عليه، أو علم من قواعد شريعته الإذن فيه وعدم النكير عليه. وفي معنى ذلك ما كان في عصر الصحابة رضي اللَّه عنهم مما أجمعوا عليه قولًا أو فعلًا أو تقريرًا، وكذا ما اختلفوا فيه فإن اختلافهم رحمة مهما كان للإجتهاد والتردد مساغ وليس لغيرهم إلا الإتباع دون (¬5) الإبتداع (¬6). ¬
فإن قلت المحدثات منقسمة إلى بدع مستحسنة وإلى بدع مستقبحة (¬1) كما قال ¬
الإمام الشافعي (¬1) رضي اللَّه عنه: البدعة بدعتان: بدعة محمودة وبدعة مذمومة فما وافق السنة فهو محمود وما خالف السنة فهو مذموم (¬2) واحتج قول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه في قيام رمضان "نعمت البدعة" (¬3). ¬
وقال الشافعي أيضًا: المحدثات من الأمور ضربان: أحدهما ما أحدث يخالف كتابًا أو سنة أو أثرًا وإجماعا فهذه البدعة الضلالة. والثاني: ما أحدث من الخير لا خلاف فيه لو أحدث من هذا فهي محدثة غير مذمومة (¬1). قلت الأمر كذلك ولكن تسمية المستحسن من ذلك بدعة على سبيل التوسع والمجاز وإلا فالبدع المراد بها ما خالف المشروع وتعدى به إلى الممنوع. وأما المحدثات الحسنة فجائزة ومنها ما هو واجب ومنها ما هو مستحب (¬2) مثل ¬
بناء المنابر والربط والمدارس والمارستانات (¬1) وخانات السبيل وغير ذلك من أنواع البر التي لم تعهد فى الصدر الأول فإن فعل ذلك موافق لما جاءت به الشريعة من اصطناع المعروف والمعاونة على البر والتقوى (¬2). ومن أعظم ذلك صنعا وأحسنه وضعا وأعمه نفعا تصانيف الكتب فى جميع العلوم النافعة الشرعية على اختلاف فنونها وتقرير قواعدها وتقسيمها وتقريبها وتعليمها وكثرة التفريعات وفرض المسائل التي لم تقع وتحقيق الأجوبة عنها وتفسير الكتاب العزيز والأخبار النبوية، والكلام على الأسانيد والمتون والجرح والتعديل ولواحق ذلك. وتتبع كلام العرب نثره ونظمه وتدوين كل ذلك وإستخراج علوم جمة منه كالنحو والمعاني والبيان والقوافي والأوزان، فهذا كله وما شاكله معلوم حسنه، ظاهرة فائدته معين على معرفة أحكام اللَّه تعالى وفهم معاني كتابه وسنة رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- فكل ذلك مأمور به ولا محذور فيه (¬3). وأما البدع المستقبحة فهي التي أطلق العلماء ذمها والمراد هنا بالبدع الإعتقادية المخالفة لما كان عليه السلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة الدين المعول عليهم والمشهود لهم بالتمكين والمجمع على إمامتهم بين علماء أهل السنة العاملين. ¬
قال الحافظ ابن رجب (¬1): " (¬2) يتعين في هذه الأزمنة التي بعد العهد فيها بعلوم السلف ضبط ما نقل عنهم ليتميز به ما كان من العلوم موجودًا في زمانهم وما حدث من ذلك بعدهم فتعلم بذلك السنة من البدعة. وقد صح عن ابن مسعود رضي اللَّه عنه أنه قال: إنكم قد أصبحتم اليوم على الفطرة وإنكم ستحدثون ويحدث لكم فإذا رأيتم محدثة فعليكم بالهدي الأول (¬3). وروى ابن مهدي (¬4) عن الإمام مالك (¬5) رضي اللَّه عنه قال: "لم يكن شيء من هذه الأهواء في زمن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وأبي بكر وعمر وعثمان رضي اللَّه عنهم (¬6). ¬
وكان مالك يشير بالأهواء إلى ما حدث من التفرق في أصول الدين من أمر الخوارج (¬1) والروافض (¬2) والمرجئة (¬3) ونحوهم ممن تكلم في تكفير المسلمين واستباحة أموالهم ودمائهم أو في تخليدهم في النار أو في تفسيق خواص هذه الأمة أو عكس ذلك فزعم أن المعاصي لا تضر أهلها وأنه لا يدخل النار من أهل التوحيد أحد. ¬
وأصعب من ذلك كله: ما أحدث من الكلام فى أفعال اللَّه تعالى من قضائه وقدره وكذب بذلك من كذب وزعم أنه نزه اللَّه تعالى بذلك عن الظلم. وأصعب من ذلك ما أحدث من الكلام في ذات اللَّه تعالى وصفاته مما سكت عنه النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابه رضي اللَّه عنهم والتابعون لهم بإحسان رحمهم اللَّه تعالى. فقوم نفوا كثيرا مما ورد في الكتاب والسنة من ذلك وزعموا أنهم فعلوه تنزيهًا للَّه تعالى عما تقتضى العقول تنزيهه عنه وزعموا أنّ لازم ذلك مستحيل على اللَّه تعالى وقوم لم يكتفوا بإثباته حتى أثبتوا بإثباته ما يظن أنه لازم له بالنسبة إلى المخلوقين. وهذه اللوازم نفيًا وإثباتًا درج صدر الأمة والرعيل الأول على السكوت عنها (¬1) (¬2) وهو مذهب السلف واعتقاد الفرقة الناجية الذي أشار إليه الناظم رحمه اللَّه تعالى ورضي عنه. ¬
وأراد بقوله: (ولا تك بدعيا) أي لا تكن ممن إعتقد إعتقاد أهل البدع في أصول الدين من الإثنتين وسبعين فرقة، فإنها في النار كما أخبر النبي المختار -صلى اللَّه عليه وسلم-: فمنهم الخوارج (¬1) والمرجئة (¬2) والقدرية (¬3) ¬
تفسير لكلمة الفلاح
والرافضة (¬1) والجهمية (¬2) والمعتزلة (¬3) وهذه الفرق تتشعب منها الإثنتان وسبعون فرقة (¬4) واللَّه تعالى أعلم. وقول الناظم رحمه اللَّه ورضي عنه (لعلك) أيها الأثري المقتفي لنظمي ونثري إن تمسكت كالشرع القويم من الكتاب العزيز القديم وبما صح عن النبي الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم والسلف الصالح القويم من الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة الدين المعول عليهم في سائر الأزمان وجانبت أهل البدع ولم تركن إلى أهوائهم وما انتحلوه وابتدعوه من دعاويهم ودعواهم ومباينة اعتقادهم ومجانبة فسادهم وإفسادهم. (تفلح): أي تفوز بالدرجات العالية والنعيم المقيم في عرصات الآخرة وجنات النعيم. والفلاح: من الكلمات الجامعة لخيري الدنيا والآخرة. قيل: إنه عبارة عن أربعة أشياء: بقاء بلا فناء، وغنى بلا فقر، وعز بلا ذل، وعلم بلا جهل. ¬
التحذير من مذهب أهل البدع
قالوا: فلا كلمة في اللغة أجمع للخيرات من كلمة الفلاح (¬1). وكذلك النصيحة فإنها كلمة جامعة معناها حيازة الحظ للمنصوح له ويقال إنها من وجيز الأسماء ومختصر الكلام (¬2). فال الخطابي: (¬3) وليس في كلام العرب كلمة مفردة تستوفي بها العبارة عن معنى هذه الكلمة. كما قالوا في الفلاح: إنه ليس في كلامهم كلمة أجمع لخيري الدنيا والآخرة منه أي الفلاح (¬4) انتهى. ومفهوم كلام (المصي) (¬5) رحمه اللَّه تعالى أن لا فلاح لأهل البدع أصلا لأنه ترجى لمن أقتفى الآثار ونهج نهج الأتباع وجانب الأشرار وخالف أهل الإبتداع الفلاح ومن لا يكون كذلك فلا يرجى له الفلاح ولا يتوقع له الخلاص ولا النجاح. ¬
ولما طلبت أم بشر بن غياث المريسي (¬1) الخبيث المعتزلي من الإمام الشافعي (¬2) رضي اللَّه عنه أن ينهاه عن هواه قال له أخبرني عما تدعو اليه أكتاب ناطق؟ أم فرض مفترض، أم سنة قائمة؟ أم وجوب عن السلف البحث فيه، والسؤال عنه؟ قال بشر: ليس فيه كتاب ناطق ولا فرض مفترض ولا سنة قائمة ولا وجوب عن السلف البحث فيه، والسؤال عنه إلا أنه لا يسعنا خلافه. فقال له الإمام الشافعي رضي اللَّه عنه: أقررت على نفسك بالخطأ فأين أنت عن الكلام في الفقه والأخبار يواليك الناس عليه فلم يفعل فلما خرج بشر عن عند الشافعي قال الشافعي رضي اللَّه عنه: هذا رجل لا يفلح (¬3) فجزم له بعدم الفلاح. وكذلك قال سيدنا الإمام أحمد (¬4) رضي اللَّه عنه: عليكم بالسنة والحديث وما ينفعكم وإياكم والخوض والمراء (¬5) فإنه لا يفلح عن أحب الكلام. وقال رضي اللَّه عنه في علماء أهل البدع عن المتكلمة: لا أحب لأحد أن ¬
تنبيه: في ذم السلف لعلم الكلام
يجالسهم ولا يخالطهم ولا يأنس بهم فكل من أحب الكلام لم يكن آخر أمره إلا إلى البدعة. فإن الكلام لا يدعوهم الى خير فلا أحب الكلام ولا الخوض فيه ولا الجدال. عليكم بالسنن والفقه الذي تنتفعون به ودعوا الجدال وكلام أهل الزيغ والمراء. أدركنا الناس وما يعرفون هذا ويجانبون أهل الكلام وقال رضي اللَّه عنه: من أحب الكلام لم يفلح عاقبة الكلام لا تؤول إلى خير أعاذنا اللَّه وإياكم من الفتن وسلمنا وإياكم من كل هلكة (¬1) (¬2). تنبيه: قد أكثر السلف رضي اللَّه عنهم في ذم الكلام والخوض فيه والتقصي عن دقائقه والتدقيق فيما يزعمون أنه قضايا برهانية وحجج قطعية يقينية، وقد شحنوا ذلك بالقضايا المنطقية والمدارك الفلسفية والتخيلات الكشفية والمباحث القرمطية، وكان أئمة الدين مثل الإمام مالك (¬3) وسفيان (¬4) وابن المبارك (¬5) وأبى يوسف (¬6) ¬
والشافعي (¬1) وأحمد (¬2) وإسحق (¬3) والفضيل (¬4) بن عياض وبشر الحافي (¬5) يبالغون في ذم الكلام وفي ذم بشر المريسي (¬6) وتضليله. حتى إن هارون الرشيد خامس خلفاء بني العباس قال يومًا: بلغني أن بشر المريسي يقول: إن القرآن مخلوق وللَّه عليَّ إن أظفرني اللَّه لأقتلنه قتلة ما قتلها أحد (¬7) فأقام بشر متواريًا أيام الرشيد نحو من عشرين سنة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية قدس اللَّه روحه في كتابه: شرح العقيدة الأصفهانية: "هذه التأويلات التي ذكرها ابن فورك (¬8) ويذكرها ¬
الرازى (¬1) في كتابه تأسيس التقديس وغيره ويوجد منها في كلام غالب المتكلمة من عبد السلام الجبائي (¬2) وعبد الجبار (¬3) وأبي حسن البصري (¬4) وغيرهم هي بعينها التأويلات التي ذكرها بشر المريسي ورد عليه الإمام عثمان بن سعيد الدارمي (¬5) ¬
أحد مشاهير أئمة السنة من علماء السلف في زمن البخاري (¬1) في المائة الثالثة في كتابه الذي سماه: رد عثمان بن سعيد على الكاذب العنيد فيما افترى على اللَّه في التوحيد. فحكى هذه التأويلات بأعيانها عن بشر المريسي بكلام يقتصي أنَّ المريسي أقعد بها وأعلم بالمعقول والمنقول من هؤلاء المتأخرين الذين اتصلت اليهم من جهته (¬2). وقد أجمع أئمة الهدى على ذم الفرقة المريسية وأكثرهم كفروهم وضللوهم وذموا الكلام و (أهله) (¬3) بعبارات رادعة وكلمات جامعة. قال أبو الفتح نصر المقدسي (¬4) في كتابه "الحجة على تارك المحجة" بإسناده عن الربيع (¬5) بن سليمان قال سمعت الإمام محمد بن إدريس الشافعي يقول: ¬
"ما رأيت أحدًا إرتدى بالكلام فأفلح (¬1) ولما كلمه حفص الفرد من أهل الكلام قال: لأن يبتلي اللَّه العبد بكل ما نهى اللَّه عنه خلا الشرك باللَّه عز وجل خير له من أن يبتلى بالكلام (¬2). وقال حكمي في أصحاب الكلام إن يصفعوا وينادى بهم في العشائر والقبائل هذا جزاء من ترك السنة وأخذ في الكلام (¬3). وعن عبد الرحمن (¬4) بن مهدي قال: دخلت على الإمام مالك (¬5) بن أنس رضي اللَّه عنه وعنده رجل يسأله عن القرآن والقدر فقال للرجل لعلك من أصحاب عمرو بن عبيد (¬6) لعن اللَّه عمرًا فإنه إبتدع هذه البدعة من الكلام ولو كان الكلام علمًا لتكلم به الصحابة والتابعون رضي اللَّه عنهم كما تكلموا في الأحكام والشرائع ¬
ولكنه باطل يدل على باطل (¬1). وقال الإمام محمد بن الحسن (¬2) صاحب أبي حنيفة النعمان (¬3) بن ثابت سمعت أبا حنيفة رضي اللَّه عنه يقول: لعن اللَّه عمرو بن عبيد فإنه مبتدع (¬4) فهل يكون أشد من هذا الإنكار من هؤلاء الأئمة الكبار. وقال الإمام أبو جعفر الطحاوي (¬5) سمعت علي بن الحسين (¬6) القاضي يقول: ¬
حدثني ابن فهم (¬1) حدثني ابن زنجوية (¬2) حدثني الإمام أحمد بن حنبل (¬3) قال: كنت في مجلس أبي يوسف (¬4) القاضي حين أمر ببشر المريسي فجر برجله فأخرج قال ثم رأيته بعد تلك فى المجلس فقيل له على ما فعل بك رجعت إلى المجلس؟ فقال: لست أضيع حظي من العلم لما فعل بي بالأمس (¬5)، قال في طبقات الحنفية (¬6): أخذ بشر المريسي الفقه عن أبي يوسف وبرع فيه ونظر في الكلام والفلسفة. قال الصيمري (¬7) فيما جمعه ومن أصحاب أبي يوسف خاصة: "بشر بن غياث المريسي وله تصانيف وروايات كثيرة عن أبي يوسف، وكان من أهل العلم غير أنه رغب الناس عنه في ذلك الزمان لاشتهاره بعلم الكلام وخوضه في ذلك (¬8). وقالوا في ترجمته هو المعتزلي المتكلم مولى زيد بن الخطاب (¬9) قالوا وكان ¬
ترجمة لبشر بن غياث
أبو يوسف يذمه قال: وهو عندي كأبرة الرفا طرفها دقيق ومدخلها ضيق وهي سريعة الإنكسار (¬1) ثم نفاه من بغداد فاختفى بالبصرة أيام الرشيد كما أشرنا إليه سابقًا. قال العلامة شهاب الدين ابن خلكان (¬2) فى تاريخه وفيات الأعيان: بشر بن غياث بن أبي كريمة المريسي الفقيه الحنفي المتكلم من موالي زيد بن الخطاب رضي اللَّه عنه أخذ الفقه عن القاضي أبي يوسف الحنفي إلا أنه اشتغل بالكلام وجرد (¬3) القول بخلق القرآن وحكى عنه ذلك أقوال شنيعة وكان مرجئًا وإليه تنسب الطائفة المرجئة، وكان يقول إن السجود للشمس والقمر ليس بكفر ولكن علامة للكفر. قال: وكان يناظر الإمام الشافعي رضي اللَّه عنه، وكان لا يعرف النحو فيلحن لحنًا فاحشًا، ويقال إن أباه كان يهوديًا صباغًا بالكوفة وروى الحديث عن حماد بن سلمة (¬4)، وسفيان ين عيينة (¬5)، وأبي يوسف القاضي وغيرهم (¬6)، وتوفى فى ¬
ترجمة لعمرو بن عبيد، وواصل بن عطاء
سنة ثمان عشرة ومائتين ببغداد أو البصرة والأول أصح (¬1). وأما عمرو بن عبيد الذي لعنه أبو حنيفة ومالك رضي اللَّه عنهما فهو عمرو بن عبيد بن باب المتكلم الزاهد مولى بنى عقيل كان جده باب من سبي كابل من جبال السند وهو رفيق واصل بن عطاء (¬2) إمام أهل الإعتزال مولى بني منبه وقيل مولى بنى مخزوم كان واصل أحد الأئمة البلغاء المتكلمين في علم الكلام وغيره وكان يلثغ بالراء فيجعلها غينا قال أبو العباس المبرد (¬3) في كتابه الكامل: كان واصل بن عطا أحد الأعاجيب وذلك أنه كان ألثغ قبيح اللثغة في الراء فكان يخلص كلامه من الراء ولا يفطن لذلك لإقتداره على الكلام وسهولة ألفاظه (¬4). وهو أول المعتزلة، وعمرو بن عبيد رفيقه، ولما ظهر الإختلاف فقالت الخوارج بتكفير مرتكبي الكبيرة وبخلوده في النار. وقالت الجماعة: مرتكبو الكبيرة مؤمنون وان فسقوا بالكبائر وهم في مشيئة اللَّه تعالى يجوز أن يعفو عنهم إبتداء ويدخلهم الجنة ويجوز أن يعذب من شاء منهم ثم ¬
يخرجهم من النار ويدخلهم الجنة، فلا يخلد في النار أحد من أهل الكبائر إذا مات على الإسلام (¬1) فخرج واصل بن عطاء عن الفريقين وقال: إن الفاسق من هذه الأمة لا مؤمن ولا كافر منزلة بين منزلتين فطرده الحسن (¬2) عن مجلسه وقال: اعتزلنا فاعتزل عنه وجلس إليه عمرو بن عبيد فقيل لهما ولأتباعهما معتزلة (¬3). وقيل أول من سماهم بهذا الاسم قتادة (¬4) بن دعامة السدوسي البصري الأكمه كان تابعيًا عالمًا كبيرًا. قالوا إنه دخل مسجد البصرة فإذا بعمرو بن عبيد ونفر قد اعتزلوا من حلقة الحسن البصري وحلقوا وارتفعت أصواتهم فأمهم وهو يظن أنها حلقة الحسن فلما صار معهم عرف أنها ليست هي فقال: إنما هؤلاء المعتزلة، ثم قام عنهم فمنذ يومئذٍ سموا المعتزلة (¬5). وكان قتادة هذا مع فضله ومعرفته يرمى بالقدر (¬6) واللَّه أعلم. ¬
وكانت ولادة واصل بن عطاء سنة ثمانين للهجرة بالمدينة المنورة على صاحبها الصلاة والسلام، ومات سنة إحدى وثلاثين ومائة وكانت ولادة عمرو بن عبيد سنة ثمانين من الهجرة أيضا، وتوفي سنة أربع وأربعين ومائة وهو راجع إلى مكة بموضع يقال له مران ولهذا قال أبو جعفر (¬1) المنصور ثاني خلفاء بني العباس يرثي عمرا (¬2) ولم يسمع بخليفة رثى من دونه سواه حيث يقول: صلى الإله عليك من متوسد ... قبرا مررت به على مران قبرا تضمن مؤمنا متحنفا ... صدق الإله ودان بالعرفان لو أن هذا الدهر أبقى صالحًا ... أبقى لنا عمرًا أبا عثمان (¬3). ¬
تعريف الدين لغة واصطلاحا
ومران موضع بين البصرة ومكة المشرفة على ليلتين من مكة (¬1) واللَّه تعالى الموفق. ولما أمر الناظم رحمه اللَّه تعالى ورضي عنه بالتمسك والإعتصام بحبل اللَّه واتباع الهدى الذي شرعه اللَّه تعالى على لسان نبيه محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- من كتاب اللَّه وسنة رسول اللَّه وحذر من إرتكاب البدع والأهواء ليفوز بالفلاح والتقوى أعقب ذلك مبينا وموضحًا للأصلين العظيمين والحصنين الحصينين فقال: (ودن) أمر من دان يدين يقال: دنته بكسر الدال المهملة وسكون النون دينا: جازيته فالدين لغة الجزاء والإسلام والعادة والعبادة والمواظب من الأمطار والطاعة والذل والحساب والقهر والغلبة. والإستعلاء والسلطان والملك والحكم والسيرة والتدبير والتوحيد واسم لجميع ما يتعبد اللَّه عز وجل به والملة وغير ذلك (¬2). والدين اصطلاحًا: "وضع إلهي سائق لذوي العقول باختيارهم المحمود إلى ما هو خير لهم بالذات (¬3) لما يتعرف به العباد من أمري المعاش والمعاد ويتعرفون منه أحكام عقائدهم وأفعالهم وأقوالهم وما يترتب عليه صلاحهم في الدارين وذلك الموضوع بالوضع الإلهي من حيث أنه منقاد له ومطاع له ومجازي عليه دين: وهو لغة الجزاء كما تقدم آنفًا ومنه قولهم: كما تدين تدان، وبيت الحماسة (¬4): ¬
تعريف السنة لغة واصطلاحا
ولم يبق سوى العدوان ... دناهم كما دانوا وباعتبار أنه طريق موصل إلى المقصود شريعة: فعيلة بمعنى مفعولة وهي مورد الشاربة. والطريقة إلى الماء شُبّه بها الدين لأنه طريق إلى ما هو سبب الحياة الأبدية. وباعتبار أنه مجتمع عليه: ملة بكسر الميم وهي لغة الإجتماع من إجتماع الرماد والجمر. ومراد الناظم رحمه اللَّه تعالى بقوله: (ودن) أى تعبد واهتد بكتاب اللَّه المنزل على رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- الذي هو القرآن العظيم والذكر الحكيم لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد. فحلل حلاله وحرم حرامه وأتبع محكمه وآمن بالمتشابه منه أي اعتقد ذلك واجزم به جزمًا محكمًا تكن مؤمنًا مسلمًا. ودن بالسنة: وهي فى اللغة الطريقة والسيرة والعادة (¬1). واصطلاحا: ما أضيف إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من قول أو فعل أو تقرير أو صفة (¬2). ومن ثم قال: (التي أتت) أى جاءت وثبتت عن سيدنا محمد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- الذي أرسله على حين فترة من الرسل وقلة من الدين، وقد طبق الظلم والجهل والكفر الأرض برحبتها والأمم بجملتها والفرق على اختلاف دعوتها فأرسله رحمة للعالمين وحجة على الظالمين وقطع معذرة المتعنتين، وهداية للغافلين ومنجاة للمتقين ¬
تفسير لمعنى الربح
فهدى به من الضلالة وعلم به من الجهالة وأغنى به بعد القلة وأعز به بعد الذلة ففتح به أعينا عميًا وآذانًا صمًا وقلوبًا غلفًا وجعل العز والفلاح لمن والاه والذل والصغار والخيبة على من عاداه، وحصر النجاة فى إتباع سبيله والربح فى اقتفاء دليله ومن ثم قال: إذا أنت دنت اللَّه تعالى ومرت إليه متبعًا لكتابه وسنة رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- (تنج) (¬1) من جميع الآفات وتسلم من الهلكات، وتتنزه عن البدع والأهواء فتسلم من غضب اللَّه وعذابه ودخول دار سخطه وانتقامه، وعقابه. (وتربح): زائدًا عن النجاة الفوز والفلاح والخلود فى دار النعيم وجوار الكريم. والربح: بالكسر والتحريك وكسحاب (¬2) اسم لما يربحه الإنسان وأصله الفاضل عن رأس المال فكان هذا المتبع لكتاب اللَّه المستن بسنة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- رأس ماله النجاة من عذاب اللَّه وربحه الخلود في دار القرار، فى قصور وحور، وأزهار وأنهار في أمن وأمان ونعيم ورضوان ورب غير غضبان. تتمة في بعض ما ورد من مدح الإتباع وذم الإبتداع: قال اللَّه تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ. . .} [آل عمران: 31]. وقال: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153]. وقد روى عن أبي الحجاج مجاهد بن جبر (¬3) المكي وهو من كبار التابعين وإمام ¬
المفسرين أنه قال فى قوله تعالى {وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ}: البدع والشبهات (¬1). وقال عز وجل: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [النساء: 59]. قال الإمام الشافعي رضي اللَّه عنه فى كتاب الرسالة -واللَّه أعلم- إلى ما قال اللَّه والرسول (¬2). وقال أبو عبد اللَّه ميمون بن مهران الجزري (¬3) وهو من فقهاء التابعين في هذه الآية: الرد إلى اللَّه إلى كتابه والرد إلى الرسول إذا قبض إلى سنته (¬4). وأخرج الترمذي وصححه وأبو داود وابن ماجه (¬5) ¬
وابن حبان (¬1) في صحيحه عن العرباض بن سارية رضي اللَّه عنه قال: وعظنا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- موعظة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون فقلنا يا رسول اللَّه كأنها موعظة مودع فأوصنا قال: "أوصيكم بتقوى اللَّه والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد، وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها كالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة" (¬2). قال الحافظ ابن رجب في شرح الأربعين النووية (¬3) هذا إخبار منه -صلى اللَّه عليه وسلم- بما وقع في أمته بعده من كثرة الإختلاف في أصول الدين وفروعه وفي الأقوال والأعمال والإعتقادات وهذا موافق لما روى عنه من افتراق أمته على بضع وسبعين فرقة وأنها كلها في النار إلا فرقة واحدة، وهي ما كان على (¬4) ما هو عليه وأصحابه ¬
وكذلك هنا فى الحديث أمر -صلى اللَّه عليه وسلم- عند الإفتراق والإختلاف بالتمسك بسنته وسنة الخلفاء الراشدين من بعده. والسنة هي الطريقة المسلوكة كما تقدم فيشمل ذلك التمسك بما كان عليه هو وخلفاؤه الراشدون من الإعتقادات والأعمال والأقوال وهذه هي السنة الكاملة. وإن كان كثير من المتأخرين يخص اسم السنة بما يتعلق بالإعتقادات لأنها أصل الدين والمخالف فيها على خطر عظيم (¬1). وروى الطبراني فى الكبير بإسناد جيد عن أبي شريح الخزاعي رضي اللَّه عنه قال: خرج علينا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: "أليس تشهدون أن لا إله إلا اللَّه وأني رسول اللَّه قالوا: بلى قال: إن هذا القرآن طرفه بيد اللَّه وطرفه بأيديكم فتمسكوا به فإنكم لن تضلوا ولن تهلكوا بعده أبدًا (¬2) ". ورواه الطبراني أيضًا والبزار (¬3) من حديث جبير بن مطعم رضي اللَّه عنه وفيه قال: كنا مع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بالجحفة فذكره (¬4). ¬
وروى البيهقي عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما مرفوعًا: "من تمسك بسنتي عند فساد أمتي فله أجر مائة شهيد" (¬1). ورواه الطبراني من حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه باسناد لا بأس به إلا أنه قال: فله أجر شهيد (¬2). وفي الصحيحين وغيرهما عن أم المؤمنين عائشة الصديقة بنت الصديق رضي اللَّه عنهما قالت: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" (¬3). وفي صحيح مسلم وسنن ابن ماجة وغيرهما من حديث جابر رضي اللَّه عنه قال: "كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إذا خطب احمرت عيناه وعلا صوته واشتد غضبه كأنه منذر جيش يقول: صبحكم ومساكم. ويقول: بعثت أنا والساعة كهاتين ويقرن بين أصبعيه السبابة والوسطى ويقول: أما بعد: فإن خير الحديث كتاب اللَّه، وفي ¬
لفظ أصدق الحديث كتاب اللَّه وخير الهدي هدي محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة. وفي لفظ كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة (¬1). وزاد البيهقي (¬2) وكل ضلالة في النار (¬3). وأخرج الإمام أحمد في المسند والبزار والطبراني في معاجمه الثلاثة وبعض أسانيدهم رواته ثقات عن أبي برزة رضي اللَّه عنه عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "إنما أخشى عليكم شهوات الغي في بطونكم وفروجكم ومضلات الهوى" (¬4). وأخرج الطبراني بإسناد حسن من حديث أنس (¬5) رضي اللَّه عنه قال: ¬
قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن اللَّه حجب التوبة عن كل صاحب بدعة حتى يدع بدعته" (¬1) ورواه أيضًا ابن ماجة وابن أبي عاصم (¬2) فى كتاب السنة من حديث ابن عباس رضي اللَّه عنهما ولفظه: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أبى اللَّه أن يقبل عمل صاحب بدعة حتى يدع بدعته" (¬3). ورواه ابن ماجة أيضًا من حديث حذيفة رضي اللَّه عنه ولفظه قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا يقبل اللَّه لصاحب بدعة صومًا ولا صلاة ولا صدقة ولا حجًا ولا عمرة ولا جهادًا ولا صرفًا ولا عدلًا يخرج من الإسلام كما يخرج الشعر من العجين" (¬4). ¬
وفي صحيح مسلم عن أنس بن مالك رضي اللَّه عنه: "من رغب عن سنتي فليس مني" (¬1). وعن عمرو بن عوف رضي اللَّه عنه أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال لبلال بن الحارث يومًا: "اعلم يا بلال، قال ما أعلم يا رسول اللَّه؟ قال: إعلم أن من أحيا سنة من سنتي أميتت بعدي كان له من الأجر مثل من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيئًا ومن ابتدع بدعة ضلالة لا ترضي اللَّه ورسوله كان عليه مثل آثام من عمل بها لا ينقص ذلك من أوزار الناس شيئًا" رواه الترمذي وابن ماجة كلاهما من طريق كثير بن عبد اللَّه بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده. وقال الترمذي: حديث حسن (¬2). وقال الحافظ المنذري (¬3) وكثير بن عبد اللَّه وإن كان متروك الحديث واهيا فللحديث شواهد (¬4). ¬
وروى نحوه أبو داود، والدارمي (¬1) من حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه ولفظه أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من اتبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئًا" (¬2). وقال سيدنا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه: يهدم الإسلام زلة العالم وجدال المنافق بالكتاب وحكم الأئمة المضلين (¬3). وقال رضي اللَّه عنه: إنه سيأتي ناس يجادلونكم بشبهات القرآن فخذوهم بالسنن فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب اللَّه عز وجل (¬4). وقال رجل لابن عباس رضي اللَّه عنهما أوصني فقال: عليك بتقوى اللَّه والإستقامة اتبع ولا تبتدع (¬5). ¬
وقال ابن عباس أيضًا إن أبغض الأمور إلى اللَّه البدع (¬1). وفي حديث: "ما من أمة تحدث في دينها بدعة إلا أضاعت مثلها من السنة" (¬2). (فالتمسك بالسنة أحب إليَّ من أن أحدث بدعة) (¬3). وقال ابن عمر رضي اللَّه عنهما: كل بدعة ضلالة وإن رآها الناس حسنة (¬4). والكلام والنصوص في ذلك كثير من أن تحصى في مثل هذا المختصر. ¬
فصل في مسألة الكلام: يعني القرآن العظيم
فصل في مسألة الكلام يعني القرآن العظيم والذكر الحكيم المنزل على النبي عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، قال الناظم قدس اللَّه روحه ونور ضريحه (وقل) أيها السني المتبع للآثار والسلف الصالح (غير مخلوق) ولا محدث (¬1) (كلام مليكنا) أي مالكنا ومالك الخلق أجمعين. ومن أسمائه تعالى الملك وهو التام الملك الجامع لأصناف المملوكات والملك الخاص الملك. وقد يسمى بعض المخلوقين ملكا إذا إتسع ملكه إلا أن الذي يستحق هذا الإسم هو اللَّه تعالى لأنه مالك الملك، وليس ذلك لغيره لأنه الملك الحق الذي يتصرف في الأمر والنهي في الدنيا والآخرة على الإطلاق، وقيل هو الذي يستغني في ذاته وصفاته عن كل شيء ويحتاج إليه كل شيء وهو يوصف بالملك والمالك والمليك وكلها في القرآن (¬2) كما في تحفة الودود للعلامة أبي بكر بن أبي داود (¬3) الحنبلي تلميذ المحقق ابن القيم. والتحفة هذه كتاب جليل ذكر فيه أدلة أوراد والده الصالح المسماة بالدر المنتقى ¬
المرفوع في أوراد اليوم والليلة والأسبوع، وهو كتاب جليل في بابه وإنما عرفته هذا التعريف لموافقته الناظم في الكنية وكنية الأب (¬1) وأن كلا منهما حنبلي. إذا علمت ذلك فدن اللَّه تعالى وطعه وتعبده باعتقاد قدم (¬2) القرآن العظيم والذكر الحكيم الذي هو كلام اللَّه المنزل على رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. (بذلك): أي كون كلام اللَّه غير مخلوق بل قديم (¬3). ¬
تفسير لكلمة التقوى، مراتب التقوى
(دان) أى تعبد وأطاع (الأتقياء) جمع تقي من الوقاية، يقال: وقاه فاتقى فالوقاية فرط الصيانة (¬1). فالتاء من التقوى مبدلة من الواو لأن أصلها من الوقاية وتقديرها يوتقى فقلبت وأدغمت فلما كثر استعمالها توهموا أن التاء من نفس الكلمة فقالوا اتقى يتقي بفتح الياء فيهما وربما قالوا: اتقى يتقي مثل رمى يرمي. والتقوى في الشرع: اسم لمن يقي نفسه عما يضره في الآخرة وله ثلاث مراتب (¬2): الأولى: التوقي عن العذاب المخلد بالتبري عن الشرك وعليه قوله تعالى {إِوَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} [الفتح: 26]. الثانية: التجنب عن كل ما يؤثم من فعل أو ترك حتى الصغائر عند قوم وهو ¬
نصوص في معنى التقوى
المتعارف بالتقوى في الشرع وهذا المعني بقوله: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا} [الأعراف: 96]. الثالثة: أن ينزه عما يشغل سره عن الحق ويتبتل إليه بشراشره (¬1). وهذا هو التقوى على الحقيقة المطلوب بقوله تعالى: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران: 102]. وقد أخرج الترمذي وابن ماجة من حديث عبد اللَّه بن يزيد رضي اللَّه عنه عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرًا مما به بأس" (¬2). وقال أبو الدرداء رضي اللَّه عنه: تمام التقوى أن يتقي اللَّه العبد حتى يتقيه من مثقال ذرة وحتى يترك بعض ما يرى أنه حلال خشية أن يكون حرامًا حجابًا بينه وبين الحرام (¬3). وقال الحسن (¬4) ما زالت التقوى بالمتقين حتى تركوا كثيرًا من الحلال مخافة الحرام. ¬
نقل من كتاب البرهان في حقيقة القرآن لابن قدامة
وقال الثوري: (¬1) إنما سموا متقين لأنهم اتقوا ما لا يتقى (¬2). (وأفصحوا) بقولهم: القرآن كلام اللَّه قديم (¬3) غير مخلوق. قال الإمام موفق الدين ابن قدامة (¬4) في صدر كتابه: "البرهان في حقيقة القرآن" (¬5): مذهب أهل السنة والجماعة والذي كان عليه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- والصحابة الكرام والتابعون لهم بإحسان ومن بعدهم من أئمة أهل الإسلام أن القرآن كلام اللَّه القديم وحبله المتين وكتابه المبين نزل به الروح الأمين على قلب سيد المرسلين بلسان عربي مبين، وهو سور وآيات وحروف وكلمات، منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات، من قرأه وأعربه فله بكل حرف عشر حسنات، نزله اللَّه تنزيلًا، ورتله ترتيلًا، وسماه قولًا ثقيلًا، ووعد على تلاوته أجرًا جزيلًا، فقال عز من قائل: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا} [الإنسان: 23]. وشهد اللَّه وملائكته بإنزاله على رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- وحض على تدبره وترتيله وآجرنا على أحكامه وتفصيله، ونص على تشريفه وتفضيله، وعجز الخلق عن الإتيان بمثله أو تبديله. ¬
الأدلة من الكتاب والسنة والإجماع على أن القرآن كلام الله
قال تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88]. وقال: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [النساء: 166]. وهو هذا الكتاب العربي الذي هو مائة وأربعة عشرة سورة أولها الفاتحة وآخرها المعوذتان، مكتوب في المصاحف متلو في المحاريب مسموع بالآذان متلو بالألسن، له أول وآخر وأجزاء وأبعاض. والدليل على أن هذا هو القرآن: الكتاب والسنة والإجماع، أما الكتاب فإن اللَّه تعالى تحدى الخلق بالإتيان بمثله في قوله تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ. . .} [الإسراء: 88]. وقال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} [الطور: 34]. ثم قال: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 23]. وقال: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} [هود: 13]. والتحدي إنما وقع بالإتيان بمثل هذا الكتاب بغير إشكال لأن ما في النفس لا يدري ما هو ولا يسمى سورًا ولا حديثًا فلا يجوز أن يقال فأتوا بحديث مثل ما في نفس الباري ولأن المشركين إنما زعموا أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- افترى هذا القرآن أو تقوله، فرد اللَّه عليهم دعواهم فتحداهم بالإتيان بمثل ما زعموا أنه مفترى ومتقول دون غيره. وهذا واضح لا شك فيه والكتاب العزيز مملوء من مثل هذا فلا نطيل بذكره.
وأما السنة فقول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وسكوته، أما قوله فكثير جدًّا كقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "هذا القرآن مأدبة اللَّه فتعلموا مأدبته ما استطعتم، إن هذا القرآن حبل اللَّه وهو النور المبين والشفاء النافع، عصمة لمن تمسك به ونجاة لمن اتبعه، لا يعوج فيقوم ولا يزيغ فيستعتب ولا تنقضي عجائبه ولا يخلق على كثرة الرد، فاتلوه فإن اللَّه يأجركم على تلاوته لكل حرف عشر حسنات، ألا إني لا أقول ألم حرف ولكن ألف عشر ولام عشر وميم عشر (¬1) " رواه أبو عبيد (¬2) في فضائل القرآن. وقال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن الذي يقرأ القرآن وهو يشتد عليه فله أجران" (¬3). وقال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أعربوا القرآن" (¬4). ¬
وقال: لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن تناله أيديهم (¬1). وقال من قرأ القرآن فأعربه فله بكل حرف عشر حسنات ومن قرأه فلحن فيه فله بكل حرف حسنة (¬2) حديث صحيح فهذه الأخبار وأضعاف أضعافها تدل دلالة واضحة على أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ما أراد بالقرآن سوى هذا الكتاب المنزل عليه الذي يعرف المسلمون قرآنا. ولم يرد ما تزعم هذه الطائفة أنه معنى في النفس لا يظهر للشخص ولا ينزل ولا له أول ولا آخر ولا يدري ما هو لا سور ولا آيات ولا حروف ولا كلمات. وأما سكوته -صلى اللَّه عليه وسلم- فإنه لو كان القرآن ما قالوا لوجب على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بيانه وتعريفه ¬
فإنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة إليه بالاتفاق، وما أشد حاجة الأمة إلى معرفة القرآن الذي فيه ذكرهم وشرفهم. قال أهل التفسير في قوله تعالى: {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ} [الأنبياء: 10] أي شرفكم (¬1). وقال بعضهم (¬2) في قوله تعالى: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ} [آل عمران: 193]. هو القرآن. (فإن كل الأمة) (¬3) لم تسمع من النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فكيف لا يحتاج المسلمون إلى معرفة القرآن الذي شرفهم اللَّه به وجعله بشيرًا ونذيرًا ومناديًا وداعيًا إلى الهدى وحجة ونورًا وبرهانًا وشفاء ورحمة ومعجزة لنبيه -صلى اللَّه عليه وسلم- ومعرفًا للأحكام من الحلال والحرام والصلاة والزكاة والحج والصيام وسائر الأحكام. وأمر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بتبليغه والإنذار به. فهذا مما لا يجوز للنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أن يهمل بيانه ولا يكتمه عن أمته سيما وقد أمره اللَّه بالتبليغ وفرضه وتوعده على تركه فقال: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة: 67]. وقال: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} [الحجر: 94]. وقال مخبرًا عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام: 19]. أي ومن بلغه القرآن. وأيضًا لو ساغ للنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- السكوت عن بيان القرآن فكيف ساغ له إيهام أمته أن ¬
القرآن غير ما هو قرآن بما تلاه من الآيات التي فيها ذكر القرآن بأنه هو هذا الذي نقرأه. والأخبار التي رويناها عنه -صلى اللَّه عليه وسلم- ليضل أمته بذلك عن الصواب ويعتقدوا غير الحق ويصيروا معتقدين غير الصواب فلو كان الأمر كما زعموا لكان -صلى اللَّه عليه وسلم- هو المضل لأمته والمغوي لهم والداعي إلى صراط الجحيم والمانع من الصراط المستقيم. ولا شك أن اعتقاد مثل هذا كفر باللَّه العظيم، فهذه أدلة قاطعة في أن القرآن هو ما يعتقده المسلمون قرآنًا لا غير. وأما الإجماع: فإن أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ما كانوا يعتقدون القرآن سوى هذا الذي نعتقده قرآنًا دلت على ذلك أقوالهم وأحوالهم فإنهم سموا (¬1) حروفه وآياته وكلماته وأجزاءه وذكروا قراءته واستماعه على نحو ما ذكرناه عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. قال الصديق الأعظم أبو بكر رضي اللَّه عنه: "إعراب القرآن أحب إلينا من حفظ بعض حروفه" (¬2). وسئل علي رضي اللَّه عنه عن الجنب يقرأ القرآن قال: لا ولا حرف (¬3). وروي عنه أنه قال: من كفر بحرف من القرآن فقد كفر به كله (¬4). ¬
ونصوص الصحابة في ذلك كثيرة جدًّا تخرج عن حد الإحصاء كل ذلك يدل دلالة ظاهرة واضحة على أن القوم ما اعتقدوا قرآنًا سوى هذا الذي هو حروف منظومة وآيات معلومة وكذلك من بعدهم من أهل الإسلام وكلامهم في هذا كثير جدًّا. قال الإِمام الموفق في البرهان: وما علمت أحدًا جحد كون هذا قرآنًا سوى هذه الطائفة ثم إنهم قد أجمعوا مع المسلمين على أنهم متى تلو آية قالوا: قال اللَّه كذا وقول اللَّه هو كلامه. وأجمع المسلمون على أن القرآن يقرأ ويسمع ويحفظ ويكتب وهذه الصفات لا تعلق لها بما لم ينزل إلينا مما لم ندر ما هو، وأجمعوا على أن القرآن أنزل على محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- وأنه معجزته التي تحدى بها اللَّه تعالى الخلق الإتيان بمثله فعجزوا عنه، وأجمعوا على أن في القرآن ناسخًا ومنسوخًا, ولا تعلق لذلك بالكلام النفسي، وأجمعوا على أن من جحد سورة من القرآن أو آية أو كلمة أو حرفًا متفقا عليه أنه كافر (¬1). قال أبو نصر السجزي: (¬2) هذه حجة قاطعة على أنه حروف وأجمع المسلمون على أن القرآن لم ينزل على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- جملة واحدة وإنما نزل نجومًا في ثلاث وعشرين سنة، وقد دل على ذلك قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32) وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا ¬
نقل من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في قاعدة له: في بيان أن القرآن كلام الله
جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} [الفرقان: 32 - 33]. انتهى ملخصًا (¬1). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية قدس اللَّه روحه في قاعدة له في بيان أن القرآن كلام اللَّه ليس شيء منه كلامًا لغيره، لا جبريل ولا محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- ولا غيرهما (¬2) قال اللَّه تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100) وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ. . .} [النحل: 98 - 102]. فإن الضمير في قوله تعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ} عائد على ما في قوله {بِمَا يُنَزِّلُ} والمراد به القرآن كما يدل عليه سياق القرآن وقوله: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ} فيه إخبار اللَّه بأنه أنزله لكن ليس في هذه اللفظة بيان أن روح القدس نزل به ولا أنه منزل منه. ولفظ الإنزال في القرآن قد يرد مقيدًا بالإنزال منه كنزول القرآن، وقد يرد مقيدًا بالإنزال من السماء، ووواد به العلو فيتناول نزول المطر من السحاب ونزول الملائكة من عند اللَّه وغير ذلك، وقد يرد مطلقًا فلا يختص بنوع من الإنزال، بل ربما تناول الإنزال من رؤوس الجبال كقوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ. . .} [الحديد: 25]. والإنزال من ظهور الحيوان كإنزال الفحل الماء وغير ذلك. فقوله: {نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} بيان لنزول جبريل به من اللَّه فإن روح القدس هنا جبريل بدليل قوله تعالى: {. . . مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ ¬
بطلان قول الجهمية في القرآن
عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة: 97]. وهو الروح الأمين في قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: 192 - 195]. وفي قوله: الأمين دلالة على أنه مؤتمن على ما أرسل به لا يزيد فيه ولا ينقص منه. فإن الرسول الخائن قد يغير الرسالة، كما قال في صفته في الآية الأخرى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} [التكوير: 20]. وفي قوله: {مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ} [الأنعام: 114] دلالة على أمور: منها بطلان قول من يقول إنه كلام مخلوق خلقه في جسم من الأجسام المخلوقة كما هو قول الجهميين (¬1) الذين قالوا بخلق القرآن من المعتزلة (¬2) والنجارية (¬3) والضرارية (¬4) وغيرهم. فإن السلف كانوا يسمون كل من نفى الصفات وقال إن ¬
الجعد بن درهم أول من قال بخلق القرآن
القرآن مخلوق وأن اللَّه لا يرى في الآخرة جهميا. فإن جهما (¬1) أول من ظهرت عنه بدعة نفي الأسماء والصفات وبالغ في نفي ذلك فله في هذه البدعة مزية المبالغة في النفي والابتداء بكثرة إظهار ذلك والدعوة إليه وإن كان الجعد بن درهم (¬2) سبقه إلى بعض ذلك. فإن الجعد بن درهم أول من أحدث ذلك في الإسلام فضحى به خالد بن عبد اللَّه القسري (¬3) بواسط يوم النحر وقال: "يا أيها الناس ضحوا تقبل اللَّه ضحاياكم فإني مضح بالجعد بن درهم إنه زعم أن اللَّه لم يتخذ إبراهيم خليلا ولم يكلم موسى تكليمًا. تعالى عما يقول الجعد بن درهم علوًا كبيرًا ثم نزل فذبحه" (¬4). وكان خالد أمير العراقين (¬5) من جهة هشام بن ¬
بيان معنى "منزل من ربك"
عبد الملك (¬1) الأموي وكان معدودًا من خطباء العرب المشهورين بالفصاحة والبلاغة وكان جوادًا كثير العطاء، وفيه يقول بعض الشعراء (¬2): تبرعت لي بالجود حتى نعشتني ... وأعطيتني حتى حسبتك تلعب فأنت الندى وابن الندى وأبو الندى ... حليف الندى ما للندى عنك مذهب ولكن (¬3) المعتزلة وإن وافقوا جهما على بعض ذلك فهم يخالفونه في مسائل غير ذلك كمسائل الإيمان والقدر وبعض مسائل الصفات أيضًا, ولا يبالغون في النفي مبالغته، وهو يقول إن اللَّه تعالى لا يتكلم ويقول: إنه يتكلم بطريق المجاز. وأما المعتزلة فيقولون: إنه يتكلم حقيقة لكن قولهم في المعنى هو قول جهم وجهم ينفي الأسماء كالصفات كما نفتها الباطنية ومن وافقهم من الفلاسفة. وأما جمهور المعتزلة فلا ينفون الأسماء. والمقصود أن قوله تعالى: {مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ} [الأنعام: 114] فيه بيان أنه منزل من اللَّه لا من مخلوق. ولهذا قال السلف منه بدأ أي هو الذي تكلم به لم يبتد من غيره كما قالت الخلقية (¬4)، ومنها أن قوله: {مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ} فيه بطلان قول من يجعله فاض ¬
على نفس النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من العقل الفعال أو غيره كما يقول ذلك طوائف من الفلاسفة والصابئة، وهذا القول أعظم كفرًا وضلالًا من الذي قبله. ومنها أن هذه الآية تبطل أيضًا قول من يقول إن القرآن العربي ليس منزلًا من اللَّه بل مخلوق له تعالى إما في جبربل، أو محمد، أو جسم آخر غيرهما كما تقول ذلك الكلابية (¬1) والأشعرية (¬2) الذين يقولون القرآن العربي ليس هو كلام اللَّه وإنما كلامه المعنى القائم بذاته، والقرآن العربي خلق ليدل على ذلك المعنى. ثم عندهم إما أن يكون خلق في بعض الأجسام: الهواء وغيره أو ألهمه جبريل فعبر عنه بالقرآن العربي، أو ألهمه محمدًا -صلى اللَّه عليه وسلم- فعبر عنه بالقرآن العربي، أو يكون أخذه جبريل من اللوح المحفوظ أو غيره. فهذه الأقوال التي تقال تفريعًا على هذا القول فإن هذا القرآن العربي لا بد له من متكلم تكلم به أولًا قبل أن يصل إلينا وهذا يوافق قول المعتزلة ونحوهم في إثبات خلق القرآن العربي وكذا التوراة البرية ويفارقه من وجهين: أحدهما أن أولئك يقولون: أن المخلوق كلام اللَّه وهؤلاء لا يقولون: إنه كلام اللَّه لكن يسمونه كلام اللَّه مجازًا، وهذا قول أئمتهم وجمهورهم، وقالت طائفة من ¬
متأخريهم: بل لفظ الكلام يقال على هذا، وهذا بالإشتراك اللفظي لكن قد ينقض أصلهم في إبطال قيام الكلام بغير المتكلم به وهم من هذا لا يقولون: إن المخلوق كلام اللَّه حقيقة كما تقوله المعتزلة مع قولهم: إنه كلامه حقيقة، بل يجعلون القرآن العربي كلامًا لغير اللَّه، وهو كلامه حقيقة وهذا شر من قول المعتزلة، وهذا حقيقة قول الجهمية. ومن هذا الوجه فقول المعتزلة أقرب وقول الآخرين هو قول الجهمية المحضة. نعم المعتزلة موافقون لهؤلاء في المعنى وإنما ينازعونهم في اللفظ. الثاني: أن هؤلاء يقولون للَّه كلام هو معنى قديم قائم بذاته تعالى والخلقية يقولون: لا يقوم بذاته كلام. ومن هذا الوجه الكلابية والأشعرية خير من الخلقية في الظاهر، لكن جمهور الناس يقولون: إن أصحاب هذا عند التحقيق لم يثبتوا كلامًا له حقيقة غير المخلوق فإنهم يقولون: إنه معنى واحد هو الأمر والنهي والخبر إن عبر عنه بالعربية كان قرآنًا وإن عبر عنه بالعبرية كان توراة، وإن عبر عنه بالسريانية كان إنجيلا، ومنهم من قال: هو خمس معان. وجمهور العقلاء يقولون: إن فساد هذا معلوم بالضرورة بعد التصور التام. والعقلاء الكثيرون لا يتفقون على الكذب وجحد الضرورات من غير تواطؤ واتفاق كما في مخبر الأخبار المتواترة. وأما مع التواطؤ فقد يتفقون على الكذب عمدًا، وقد يتفقون على جحد الضرورات وإن لم يعلم كل منهم أنه جاحد للضرورة ولم يفهم حقيقة القول الذي يعتقده لحسن ظنه فيمن يقلد قوله ولحبه لنصرة ذلك القول. كما اتفقت النصارى والرافضة وغيرهم من الطوائف على مقالات يعلم مفاسدها بالضرورة.
وقال جمهور العقلاء: نحن إذا عربنا التوراة والإنجيل لم يكن معنى ذلك معنى القرآن بل معاني هذا ليست معاني هذا. وكذلك: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] ليس هو معنى {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} [المسد: 1] ولا معنى آية الكرسي آية الدين. وقالوا: إذا جوزتم أن تكون الحقائق المتنوعة شيئًا واحدًا فجوزوا أن يكون العلم والقدرة والكلام والسمع والبصر صفة واحدة فاعترف أئمة هذا القول بأن هذا الإلزام ليس لهم عنه جواب عقلي، ثم منهم من قال: إن الناس في الصفات إما مثبت لها قائل بالتعدد، وإما ناف لها, وإما إثباتها واتحادها فخلاف الإجماع. وهذه طريقة أبي بكر الباقلاني (¬1)، وأبِي المعالي الجويني (¬2)، وغيرهما ومنهم من اعترف بأنه ليس له جواب كأبي الحسن الآمدي (¬3) وغيره. والمقصود هنا أن هذه الآية الكريمة تبين بطلان هذا القول كما بينت بطلان غيره فإن قوله: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ} يقتضي نزول القرآن من ربه. والقرآن اسم للقرآن العربي لفظه ومعناه بدليل قوله: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ} [النحل: 98] وإنما يقرأ القرآن العربي لا يقرأ معانيه المجرده. فإذا كان روح القدس نزل بالقرآن العربي لزم أن يكون نزله من اللَّه فلا يكون شيء منه نزله من عين الأعيان المخلوقة ونزله من نفسه. ¬
نقل من كلام شيخ الإسلام في شرح العقيدة الأصفهانية
وأيضًا فإنه قال عقب هذه الآية {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل: 103]. وهم كانوا يقولون: إنما يعلمه هذا القرآن العربي بشر لم يكونوا يقولون إنما يعلمه بشر معانيه فقط. بدليل قوله: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ}. وعبر عن هذا بـ (يلحدون) لما تضمن من معنى ميلهم عن الحق، وميلهم إلى هذا الذي أضافوا إليه القرآن، فإن لفظ الإلحاد يقتضي ميلًا عن شيء إلى شيء بباطل. وقد اشتهر في التفاسير: أن بعض الكفار كانوا يقولون إن محمدًا -صلى اللَّه عليه وسلم- تعلم القرآن من شخص كان بمكة أعجمي قيل: إنه كان مولى لابن الحضرمي (¬1). فإذا كان الكفار جعلوا الذي يعلمه ما نزل به روح القدس بشرًا واللَّه أبطل ذلك بأن لسان ذلك أعجمي، وهذا لسان عربي مبين. علم أن روح القدس نزل باللسان العربي المبين وأن محمدًا -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يؤلف نظم القرآن بل سمعه من روح القدس، وإذا كان روح القدس نزل به من اللَّه علم أنه سمعه منه لم يؤلفه هو، وهذا بيان من اللَّه أن القرآن الذي هو باللسان العربي المبين سمعه روح القدس من اللَّه رب العالمين ونزل به منه (¬2) " وهذا بين وللَّه الحمد. وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أيضًا في شرح الأصفهانية (¬3). ¬
قال أبو الحسن محمد بن عبد الملك (¬1) الكرجي الشافعي في كتابه الذي سماه "الفصول في الأصول عن الأئمة الفحول" وذكر إثنى عشر إمامًا: الشافعي (¬2)، ومالك (¬3)، وسفيان الثوري (¬4)، وأحمد بن حنبل (¬5)، وسفيان بن عيينة (¬6)، عبد اللَّه بن المبارك (¬7)، وإسحاق بن راهوية (¬8)، والبخاري (¬9)، وأبا زرعة (¬10)، وأبا حاتم (¬11). قال فيه: سمعت الإمام أبا منصور محمد بن أحمد (¬12) يقول: سمعت الإمام ¬
أَبا بكر عبد اللَّه بن أحمد (¬1) يقول: سمعت الشيخ أبا حامد الأسفرائيني (¬2)، يقول مذهبي ومذهب الشافعي وفقهاء الأمصار أن القرآن كلام اللَّه غير مخلوق، ومن قال: مخلوق فهو كافر. والقرآن حملة جبريل مسموعًا من اللَّه تعالى والنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- سمعه من جبريل والصحابة رضي اللَّه عنهم سمعوه من النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وهو الذي نتلوه نحن بألسنتنا فيما بين الدفتين، وما في صدورنا مسموعًا ومكتوبًا ومحفوظًا ومنقوشًا كل حرف منه كالباء والتاء كله كلام اللَّه غير مخلوق، ومن قال: مخلوق فهو كافر عليه لعائن اللَّه والملائكة والناس أجمعين (¬3). قال أبو الحسن: وكان الشيخ أبو حامد الاسفرائيني شديد الإنكار على أصحاب الكلام، وكان يدخل الجامع المنصور ويقبل على من حضر ويقول: أشهدوا عليّ ¬
بأن القرآن كلام اللَّه غير مخلوق كما قال الإمام أحمد بن حنبل رضي اللَّه عنه، لا كما يقول الباقلاني، وكان يتكرر منه ذلك فقيل له في ذلك، فقال: حتى ينتشر في الناس ويشيع الخبر في أهل البلاد، أني بريء مما هم عليه -يعني الأشعرية- وبريء من مذهب أبي بكر الباقلاني فإن جماعة (¬1) من المتفقهة الغرباء يدخلون على الباقلاني خفية ويقرؤن عليه فيعتنون بمذهبه، فإذا رجعوا إلى بلادهم أظهروا بدعتهم لا محالة فيظن ظان أنهم مني تعلموه، وأنا قلته، وأنا بريء من مذهب الباقلاني وعقيدته" (¬2). هذا كلام (¬3) الإمام أبي حامد أحمد بن طاهر الاسفرائيني إمام الأئمة الذي طبق الأرض علمًا وأصحابًا، قال ابن خلكان في تاريخه وفيات الأعيان: أنتهت إليه رئاسة الدنيا والدين ببغداد فكان يحضر مجلسه أكثر من ثلاثمائة فقيه (¬4). وذكر الخطيب في تاريخ بغداد: "أنه كان يحضر مجلسه سبعمائة متفقه، وكان الناس يقولون لو رآه الشافعي لفرح به" (¬5) انتهى. وكانت ولادة أبي حامد الإسفرائيني سنة أربع وأربعين وثلاثمائة، وقدم بغداد سنة ثلاث وستين وثلائمائة، وتوفى سنة ست وأربعمائة ببغداد، ودفن في داره ثم نقل إلى باب حرب (¬6). ¬
أصل مقالة التعطيل
وإسفراين بلدة بخراسان من نواحي نيسابور على منتصف الطريق إلى جرجان (¬1) رحمه اللَّه ورضي عنه. و"لا" ناهية (تك) مجزومًا بها وحذفت النون تخفيفًا (في القرآن) العظيم والذكر الحكيم: (بالوقف قائلا): بأن تقول: أنا لا أقول القرآن قديم (¬2) ولا مخلوق. قال سيدنا الإمام أحمد رضي اللَّه عنه: الواقفة: هم الذين يقولون: القرآن كلام اللَّه ولا يقولون غير مخلوق، قال: وهم من شر الأصناف وأخبثها (¬3) انتهى. وقوله رحمه اللَّه تعالى ورضي عنه: (كما قال أتباع) أي نوع من أتباع الجهم بن صفوان الذي نسبت إليه مقالة الجهمية. وإن كان إنما أخذ المقالة المذكورة عن الجعد بن درهم الذي ضحى عليه خالد القسري كما تقدم. قال شيخ الإسلام بن تيمية روح اللَّه روحه في "الرسالة الحموية" (¬4) أصل مقالة تعطيل الصفات إنما أخذ من تلامذة اليهود والمشركين وضلال الصابئين فإنه أول من حفظ عنه أنه قال هذه المقالة في الإسلام الجعد بن درهم، وأخذها عنه الجهم ابن صفوان وأظهرها فنسبت مقالة الجهمية إليه. وقد قيل: إن الجعد أخذ مقالته عن أبان بن سمعان وأخذها أبان عن طالوت ابن أخت لبيد بن الأعصم، وأخذها طالوت عن لبيد بن الأعصم اليهودي ¬
الساحر الذي سحر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬1). وكان الجعد هذا فيما قيل من أهل حران، وكان فيهم خلق كثير من الصابئة والفلاسفة بقايا أهل دين النمرود الكنعانيين الذين صنف بعض المتأخرين في سحرهم، والنمرود هو ملك الصابئة الكذابين المشركين كما أن كسرى ملك الفرس والمجوس، وفرعون ملك القبط الكفار، وقيصر ملك الروم، فهو اسم جنس لا اسم علم وكانت الصابئة إلا قليلا منهم إذ ذاك على الشرك وعلماؤهم الفلاسفة. وإن كان الصابيء قد لا يكون مشركا، بل قد يكون مؤمنًا باللَّه واليوم الآخر كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 62]. لكن كثيرًا منهم، أو أكثرهم كانوا كفارًا ومشركين، فأولئك الصابئون كانوا إذ ذاك، وكانوا يعبدون الكواكب ويبنون لها الهياكل فمذهب (¬2) النفاة من هؤلاء في الرب سبحانه: أنه ليس له إلا صفات سلبية، أو اضافية، أو مركبة منهما، وهم الذين بعث إبراهيم خليل الرحمن عليه الصلاة والسلام إليهم فيكون الجعد قد أخذها عن الصابئة الفلاسفة وأخذها الجهم عنه، وأخذ المقالة الجهم أيضًا فيما ذكره سيدنا الإمام أحمد رضي اللَّه عنه وغيره من السمنية وهم بعض فلاسفة الهند، وهم الذين يجحدون من العلوم ما سوى الحسيات، فهذه أسانيد الجهم ترجع إلى اليهود والنصارى والصابئين والمشركين والفلاسفة الضالين، إما من الصابئين، وإما من المشركين، ثم لما عربت الكتب الرومية كما تقدم الإشارة إليه زاد البلاء مع ما ألقى ¬
الشيطان في قلوب الضلال ابتداء من جنس ما ألقاه في قلوب أشباههم. وفي حدود المائة الثانية انتشرت هذه المقالة التي يسميها السلف مقالة الجهمية بسبب بشر بن غياث المريسي وطبقته، وكلام الأئمة مثل: مالك، وسفيان بن عيينة، وابن المبارك، وأبي يوسف، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، والفضيل بن عياض، وبشر الحافي رضي اللَّه عنهم وغيرهم في هؤلاء في ذمهم وتضليلهم مشهور معلوم (¬1). فقول الناظم رحمه اللَّه تعالى ورضي عنه (كما قال أتباع لجهم وأسمحوا) يعني إن الواقفية من فرق الجهمية. وأما الجهمية المحضة من جهم وأتباعه المختصين به الذاهبين مذهبه فصرحوا بالقول بخلق القرآن. قال سيدنا الإمام أحمد رضي اللَّه عنه في كتاب السنة: "الجهمية هم أعداء اللَّه فهم الذين يزعمون أن القرآن مخلوق، وأن اللَّه تعالى لم يكلم موسى عليه السلام، وأن اللَّه تعالى لم يتكلم، وأنه تعالى لا يرى في الآخرة، ويقولون: ليس للَّه عرش ولا كرسي، قال: ويقولون كلامًا كثيرًا أكره حكايته. قال: وهم كفار" (¬2) انتهى. ومعنى قوله: "وأسمحوا" أي جادوا بالقول بخلق القرآن ولانوا. يقال: سمح ككره سماحًا وسماحة جاد وكرم كأسمح فهو سمح وأسمحت قرونته ذلت نفسه والدابة لانت بعد استصعاب (¬3). ¬
النهي عن القول بخلق القرآن
(ولا تقل القرآن العظيم خلق) أي مخلوق فلا ناهية وتقل مجزوم وحركت اللام بالكسر لالتقاء الساكنين، والقرآن مبتدأ، وخلق بمعنى مخلوق خبره. و (قراءة) منصوب على الحال أو بنزع الخافض أي في القراءة يعني لا تقل: قراءتي مخلوقة. قال سيدنا الإمام أحمد رضي اللَّه عنه: "اللفظية هم الذين يزعمون أن القرآن كلام اللَّه، ولكن ألفاظنا وقراءتنا مخلوقة، وهم جهمية (¬1) فساق. انتهى. ولهذا قال الناظم (فإن كلام اللَّه) الذي هو القرآن (باللفظ يوضح) أي يكشف ويظهر ويبين. فتحرير مذهب السلف: أن اللَّه تعالى متكلم، وأن القرآن كلام اللَّه، وأنه قديم (¬2) حروفه ومعانية. والكلام كلام من قاله مبتدئًا به لا كلام من قاله مبلغًا ومؤديًا، وموسى عليه السلام سمع كلام اللَّه من اللَّه بلا واسطة، والمؤمنون يسمعه بعضهم من بعض، فسماع موسى مطلق بلا واسطة، وسماع الناس مقيد بواسطة، كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} [الشورى: 51]. وقال تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} [التوبة: 6]. ¬
وقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "زينوا القرآن بأصواتكم" (¬1). فجعل الكلام، كلام الباري، وجعل الصوت صوت القارئ فالذي يقرأ به العبد صوت نفسه، فمن قال عن القرآن الذي يقرؤه المسلمون: ليس هو كلام اللَّه، أو هو كلام غيره، فهو ملحد مبتدع ضال. ومن قال إن أصوات العباد والمداد الذي كتب به القرآن قديم أزلي فهو ملحد مبتدع ضال، بل هذا القرآن هو كلام اللَّه وهو مثبت في المصاحف، وهو كلام اللَّه مبلغ مسموع من القراء ليس هو مسموعًا منه تعالى فكلام اللَّه قديم وصوت العبد حادث مخلوق (¬2). ¬
مذهب الحنابلة في كلام الله
والحاصل أن مذهب الحنابلة كسائر السلف أن اللَّه يتكلم بحرف وصوت. قال العلامة ابن حمدان (¬1) في "نهاية المبتدئين في أصول الدين": "اللَّه تعالى قائل ومتكلم بكلام قديم (¬2) ذاتي وجودي غير مخلوق ولا محدث ولا حادث. وقال: قال الإمام أحمد رضي اللَّه عنه: لم يزل اللَّه متكلمًا كيف شاء وإذا شاء بلا كيف. وقال: القرآن كيف تصرف فهو غير مخلوق، ولا نرى القول بالحكاية والعبارة وغلط من قال بهما وجهله، ونصه: "من قال إن القرآن عبارة عن كلام اللَّه تعالى فقد غلط وجهل". وقال الناسخ والمنسوخ في كتاب اللَّه تعالى دون العبارة والحكاية، وقال: ¬
تقرير لشيخ الإسلام حول مسألة اللفظ بالقرآن
هذه بدعة لم يقلها السلف. وقوله تعالى: {تَكْلِيمًا} يبطل الحكاية، منه بدأ وإليه يعود (¬1). قال شيخ الإسلام ابن تيمية طيب اللَّه ثراه: " (¬2) معنى قولهم منه بدأ: أي هو المتكلم به لم يخلقه في غيره كما قالت الجهمية (¬3) من المعتزلة وغيرهم إنه بدأ من بعض المخلوقات وأنه سبحانه لم يقم به كلام قال ولم يرد السلف أنه كلام فارق ذاته تعالى فإن الكلام وغيره من الصفات لا يفارق الموصوف به، بل صفة المخلوق لا تفارقه وتنتقل إلى غيره فكيف صفة الخالق تفارقه وتنتقل إلى غيره. ولهذا قال سيدنا الإمام أحمد: كلام اللَّه من اللَّه ليس ببائن منه خلقه في بعض الأجسام. ومعنى قول السلف: "إليه يعود": ما جاء في الآثار أن القرآن يسرى به حتى لا يبقى في المصاحف منه حرف ولا في القلوب منه آية (¬4). ¬
وقال الإمام أحمد رضي اللَّه عنه تارة: منه القرآن أي من اللَّه خرج وهو المتكلم به وإليه يعود: أي يرتفع القرآن دفعة واحدة عن الناس وترتفع تلاوته وأحكامه. فيعود إلى اللَّه تعالى حقيقة نص عليه الإمام أحمد رضي اللَّه عنه. ونص الإمام أحمد أيضًا رضي اللَّه عنه على أنه حروف وأصوات وسور وآيات فقال في رواية ابنه عبد اللَّه: تكلم اللَّه بصوت، وإنما تنفى هذا الجهمية، وإنما يدورون على التعطيل (¬1). وقال في رسالته إلى أهل نيسابور: من زعم أن حروف الهجاء مخلوقة فهو كافر لأنه سلك طريقًا إلى البدعة، قال: ومتى قال بذلك حكم بأن القرآن مخلوق (¬2). قال شيخ الإسلام ابن تيمية قدس اللَّه روحه (¬3): "إذا قيل إن حروف المعجم قديمة بمعنى النوع كان ذلك ممكنًا بخلاف ما إذا قيل إن عين اللفظ الذي نطق به زيد وعمرو قديم فإن هذا مكابرة للحس والمتكلم يسلم أن حروف المعجم كانت موجودة قبل وجوده بنوعها. وأما نفس الصوت المعين الذي قام به أو التقطيع أو التأليف المعين لذلك الصوت فيعلم أن عينه لم يكن موجودًا قبله قال: والمنقول عن الإمام أحمد رضي اللَّه عنه وغيره من الأئمة أهل السنة يطابق لهذا القول. ¬
قال: ولهذا أنكروا على من زعم أن حرفًا من حروف المعجم مخلوق وأنكروا على من قال لما خلق اللَّه الحروف سجدت له إلا الألف فقالت لا أسجد حتى أومر، مع أن هذه الحكاية نقلت للإمام أحمد عن السري السقطي (¬1) وهو نقلها عن بكر (¬2) بن خنيس العابد (¬3). ولم يكن قصد أولئك الشيوخ بها إلا بيان أن العبد الذي يتوقف فعله على الأمر والشرع هو أكمل من العبد الذي يعبد اللَّه بغير شرع، فإن كثيرًا من العباد يعبدون اللَّه تعالى بما تحبه قلوبهم، وإن لم يكونوا مأمورين به، فقصد أولئك الشيوخ أن من عبد اللَّه بالأمر، ولم يفعل شيئًا حتى يؤمر به فهو أفضل ممن عبده بما لم يؤمر به. وذكروا هذه الحكاية الإسرائيلية شاهدًا لذلك، مع أن هذه لا إسناد لها ولا يثبت بها حكم، ولكن الإسرائيليات إذا ذكرت على طريق الاستشهاد بها لما عرف صحته لم يكن بذكرها بأس. وقصدوا بذلك الحروف المكتوبة لأن الألف منتصبة وغيرها ليس كذلك، مع أن هذا أمر اصطلاحي وخط العرب غير خط الغرب، ولم يكن قصد أولئك الأشياخ أن نفس الحروف المنطوقة التي هي مباني أسماء اللَّه الحسنى وكتبه المنزلة مخلوقة ¬
بائنة عن اللَّه تعالى، بل هذا شيء لمله لم يخطر بقلوبهم، والحروف المنطوقة لا يقال فيها إنها منتصبة ولا ساجدة، فمن احتج بهذا من قولهم على أنهم يقولون: إن اللَّه لم يتكلم بالقرآن العربي، ولا بالتوراة العبرية، فقد قال عنهم ما لم يقولوه. وأما الإمام أحمد رضي اللَّه عنه فإنه أنكر إطلاق هذا القول وما يفهم منه عند الإطلاق، وهو أن نفس حروف المعجم مخلوقة كما نقل عنه أنه قال: ومن زعم أن حرفًا من حروف المعجم مخلوق، فقد سلك طريقًا إلى البدعة فإنه إذا قال ذلك مخلوق فقد قال القرآن مخلوق (¬1) أو كما قال. قال الإمام تقي الدين ابن تيمية: ولا ريب أن من جعل نوع الحروف مخلوقًا بائنًا عن اللَّه كائنًا بعد أن لم يكن لزم أن يكون كلام اللَّه العربي والعبري ونحوهما مخلوقًا وامتنع أن يكون اللَّه تكلم بكلامه الذي أنزله على عبده فلا يكون شيء من ذلك كلامه. فطريقة (¬2) الإمام أحمد وغيره من السلف مطابقة لصريح المعقول، وصحيح المنقول (¬3) انتهى. قال سيدنا الإمام أحمد رضي اللَّه عنه: فإن قال القرآن مخلوق، أو محدث، أو حادث، أو القرآن بلفظي، أو لفظي بالقرآن مخلوق، أو محدث، أو حادث، أو وقف فيه شاكًا، أو ادعى قدرة بشر على مثله كفر. ومن قال لفظي بالقرآن غير مخلوق فهو مبتدع (¬4) نص عليه انتهى. ¬
تنبيهات
ومراد الإمام أحمد والأصحاب أن يحمي حمى القرآن فلا تتسلق إليه الألسنة -خصوصًا ألسنة المبتدعة بما لعله يصير سلمًا للوصول إلى القول بخلقه- وإلا فلا يرتاب أن ألفاظ العباد كأصواتهم وسائر ما هو منهم مخلوق بلا شك ضرورة كون الألفاظ من المتلفظ وهي لا تزيد على ما هي منه. وحينئذٍ فالصواب أن يقال: القرآن قديم (¬1) ولفظي مخلوق (¬2) وهذا بين وللَّه الحمد. تنبيهات: الأول: ثبت الصوت بالنص صريحًا مع ما يفهم من قوله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164] و {إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى} [النازعات: 16] إلى غير ذلك من الآيات القرآنية مما لا يحصى إلا بكلفة. وموسى عليه السلام مع الكلام بحرف وصوت من الملك السلام، وإذا ثبت سماع موسى من اللَّه تعالى لم يجز أن يكون الكلام الذي سمعه إلا صوتًا وحرفًا. فإنه لو كان معنى في النفس وفكرة ورؤية لم يكن ذلك تكليمًا لموسى ولا هو بشيء يسمع والفكر لا يسمى مناداة. فإن قيل نحن لا نسميه صوتًا وإن كان مسموعًا، قلنا هذا مخالفة في اللفظ مع موافقة المعنى فإنه لا يعني بالصوت إلا ما كان مسموعًا فإن قيل إنما سمع موسى ¬
تقرير للحافظ ابن حجر حول مسألة "الصوت"
الكلام من الشجرة. قلنا هذا مع مصادمته للنص ومكابرة في غير طائل يلزم أن يكون موسى كليم الشجرة لا كليم اللَّه تعالى ويلزم أن يكون بنو إسرائيل أفضل في ذلك منه لأنهم سمعوا من أفضل ممن سمع منه موسى على زعمكم، إنما سمع من الشجرة، ولا يرتاب مؤمن أن موسى أفضل وأجل وأعظم من الشجرة (¬1). ثم إن لفظ الصوت صحت به الأخبار عن النبي المختار -صلى اللَّه عليه وسلم-. قال الحافظ بن حجر (¬2) في شرح البخاري: (¬3) "من نفى الصوت يلزمه أن اللَّه تعالى لم يسمع أحدًا من ملائكته ولا رسله كلامه، بل ألهمهم إياه إلهامًا، قال: وحاصل الإحتجاج للنفي الرجوع إلى القياس على أصوات المخلوقين لأنها التي عهدت ذات مخارج ولا يخفى ما فيه إذ الصوت قد يكون من غير مخارج كما أن الرؤية قد تكون من غير انفصال أشعة، ولئن سلم فيمنع القياس المذكور لأن صفة الخالق تعالى لا تقاس على صفة المخلوقين. وحيث ثبت ذكر الصوت بالأحاديث الصحيحة, وجب الإيمان به ثم إما التفويض وإما التأويل" (¬4). ¬
أحاديت إثبات الصوت
وقال في موضع آخر من شرح البخاري أيضًا: "قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ثم يناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب" حمله بعض الأئمة على مجاز الحذف -أي يأمر من ينادي فأستبعده بعض من أثبت الصوت بأن في قوله: "يسمعه من بعد" إشارة إلى أنه ليس من المخلوق لأنه لم يعهد مثل هذا فيهم. وبأن الملائكة إذا سمعوه صعقوا، وإذا سمع بعضهم بعضًا لم يصعقوا. قال: فعلى هذا فصوته صفة من صفات ذاته، لا يشبه صوت غيره إذ ليس يوجد شيء من صفاته في صفات المخلوقين. قال: وهكذا قرره المصنف يعني الإمام البخاري ما في كتاب خلق أفعال العباد (¬1). فمن أحاديث اثبات الصوت ما روى جابر بن عبد اللَّه رضي اللَّه عنهما قال: خرجت إلى الشام إلى عبد اللَّه بن أنيس الأنصاري رضي اللَّه عنه فقال عبد اللَّه بن أنيس: سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "يحشر اللَّه العباد أو قال الناس وأوما بيده إلى الشام عراة غرلا (¬2) بهما قال قلت ما بهما؟ قال: ليس معهم شيء فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب أنا الملك أنا الديان لا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل النار وأحد من أهل النار يطلبه بمظلمة حتى اللطمة ولا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار وأحد من أهل الجنة يطلبه بمظلمة حتى اللطمة قلنا كيف وإنما نأتي اللَّه حفاة عراة غرلا، قال بالحسنات والسيئات" أخرج أصله البخاري فى صحيحه تعليقا مستشهدًا به إلى قوله: "أنا الملك أنا الديان" (¬3). ¬
وأخرجه الإمام أحمد وأبو يعلى الموصلي (¬1)، والطبراني (¬2). وأخرجه الحافظ ضياء الدين المقدسي (¬3) بسنده إلى جابر رضي اللَّه عنه قال: بلغني أن للنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- حديثا في القصاص قال وكان صاحب الحديث بمصر فاشتريت بعيرًا فشددت عليه رحلا، وسرت حتى وردت مصر فمضيت إلى باب الرجل الذي بلغني عنه الحديث، فقرعت بابه فخرج إليه مملوكه فنظر في وجهي ولم يكلمني، فدخل إلى سيده، فقال أعرابي، فقال سله من أنت؟ ¬
فقال جابر بن عبد اللَّه الأنصاري، فخرج إلى مولاه، فلما ترائينا اعتنق أحدنا صاحبه فقال: يا جابر ما جئت تعرف فقلت حديث بلغني عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في القصاص ولا أظن أحدًا ممن مضى وممن بقي أحفظ له منك قال: نعم يا جابر سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول إن اللَّه تعالى يبعثكم يوم القيامة من قبوركم حفاة عراة غرلا بهما ثم ينادي بصوت رفيع غير فظيع يسمعه من بعد كمن قرب أنا الديان لا تظالم اليوم أما وعزتي لا يجاورني اليوم ظالم، ولو لطمة بكف أو يد على يد ألا وأنَّ أشد ما أتخوف على أمتي من بعدى عمل قوم لوط فلترتقب أمتي العذاب إذا تكافأ النساء بالنساء والرجال بالرجال" (¬1) ورواه عبد الحق الأشبيلي (¬2) من طريق الحارث (¬3) ابن أبي أسامه ومن مسنده نقله وخرجه علي بن معبد البغوي (¬4) المالكي وغيره. وفي حديث ابن مسعود رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن اللَّه تعالى ¬
إذا تكلم بالوحي سمع أهل السماء صلصلة كجر السلسلة على الصفاء فيصعقون، فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم جبريل عليه السلام، فإذا جاءهم جبريل فزع عن قلوبهم فيقولون يا جبريل: ماذا قال ربك؟ "يقول" الحق. فينادون الحق الحق". أخرجه أبو داود (¬1) ورواته ثقات. ونحوه من حديث أبي هريرة رواه البخاري، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجة (¬2). وكذا رواه الإمام أحمد ورواه ابنه عبد اللَّه قال: وسألت أبي فقلت يا أبي الجهمية يزعمون أن اللَّه لا يتكلم بصوت، فقال: كذبوا إنما يدورون على التعطيل. ثم روى الإمام أحمد بسنده إلى ابن مسعود رضي اللَّه عنه قال: إذا تكلم اللَّه بالوحي سمع صوته أهل السماء (¬3). ¬
قال السجزي: (¬1) وما في رواة هذا الخبر إلا إمام مقبول انتهى. وتتمة الخبر: فيخرون سجدًا حتى إذا فزع عن قلوبهم قال سكن عن قلوبهم قال أهل السماء: ماذا قال ربكم، قالوا الحق قال كذا وكذا. قال الإمام القاضي أبو الحسين (¬2) وغيره ومثل هذا لا يقوله ابن مسعود رضي اللَّه عنه إلا توقيفًا لأنه إثبات صفة للذات (¬3). وقد روي في إثبات الحرف والصوت ما يزيد على أربعين حديثًا بعضها صحاح وبعضها حسان يحتج بها (¬4) أخرجها الإمام الحافظ ضياء الدين المقدسي (¬5) وغيره. وأخرج سيدنا الإمام أحمد غالبها، واحتج به وذكر الحافظ بن حجر غالبها في شرح البخاري، واحتج بها البخاري وغيره من أئمة أهل السنة والحديث على أن اللَّه تعالى وتقدس يتكلم بحرف وصوت. ¬
تقرير مذهب السلف في إثبات الصوت
وقد صححوا هذا الأصل واعتقدوه واعتمدوه مع تنزيههم للَّه تعالى عما لا يليق بعظمة جلاله من شبهات الحدوث وسمات النقص كما قالوا في سائر الصفات إثبات بلا تمثيل وتنزيه بلا تعطيل فالمشبه يعبد صنما، والمعطل يعبد عدمًا، والمسلم يعبد إله الأرض والسماء. فإذا رأينا أحدًا من الناس مما لا يقدر عشر معشار هؤلاء يقول لم يصح عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- حديث واحد أنه تكلم بحرف وصوت، ورأينا هؤلاء الأئمة قد دونوا هذه الأخبار، وعملوا بها ودانوا اللَّه تعالى بها وصرحوا بأن اللَّه تعالى تكلم بحرف وصوت لا يشبهان صوت مخلوق ولا حرفه بوجه ألبتة، معتمدين على ما صح عندهم عن صاحب الشريعة المعصوم في أقواله وأفعاله الذي (لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى). مع اعتقادهم الجازم الذي لا ريب فيه ولا شك يعتريه نفي التمثيل والتكييف والتشبيه، بل يقولون في صفة الكلام كما يقولون في غيرها من سائر الصفات الذاتية، والفعلية، والخبرية: نؤمن بما جاءة بها الأخبار وصحت الآثار، لا كما يخص بالبال أو يتوهمه الخيال. إذ ليس كمثل اللَّه شيء، لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله (¬1) واللَّه تعالى الموفق. الثاني: القرآن العظيم كلام اللَّه القديم (¬2) ونوره المبين وحبله المتين وفيه الحجة ¬
والدعوة، فله اختصاص بذلك على غيره من سائر الكتب الإلهية كما ثبت عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه قال: "ما من نبي من الأنبياء إلا وقد أوتي من الآيات ما آمن على مثله البشر وإنما كان الذي أوتيته وحيًا أوحاه اللَّه إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة" (¬1). قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: يعني أن معجزتي التي تحديت بها الوحي الذي أنزل عليّ وهو القرآن لما اشتمل عليه من الإعجاز الواضح، قال: وليس المراد حصر معجزاته فيه، ولا أنه لم يؤت من المعجزات ما أوتي من تقدمه. بل المراد أنه المعجزة العظمى والآية الكبرى التي اختص بها دون غيره -صلى اللَّه عليه وسلم- من الاُنبياء عليهم السلام (¬2). انتهى. ولا يخفى أن كون دعوة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- التي هي شريعته المبعوث بها فيها معجزته التي تحدى الخلق بها من أعظم الآيات وأبهر المعجزات، وأظهر الدلالات، ولهذا استمرت معجزته العظمى باستمرار شريعته الغراء. وفيه إشارة، وتنبيه، وبشارة، وتنويه بأن هذا النبي الأمين خاتم النبيين والمرسلين، فشريعته دائمة ما دام الملوان (¬3) ومعجزته باقية ما ¬
التنبية الثالث: ثبوت إعجاز القرآن وبطلان القول بالصرفه
كر الجديدان (¬1) واللَّه ولي الإحسان. . . (¬2). الثالث: قال سيدنا الإمام أحمد رضي اللَّه عنه: من قال القرآن مقدور على مثله، ولكن اللَّه منع قدرتهم من ذلك كفر، بل هو معجزة بنفسه -كما في نهاية المبتدئين (¬3) - يعني ليس في وسع الخلق ولا قدرتهم مضاهات القرآن ولا شيئا منه (¬4). قال الحافظ أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي (¬5) الحنبلي في كتابه "الوفاء": "وكان المرتضى (¬6) العلوي يقول بالصرفة -يعني أن اللَّه تعالى صرف العرب عن الإتيان بمثله لا أنهم عجزوا" (¬7). قال الإمام أبو الوفاء (¬8) ابن عقيل الحنبلي شيخ ابن الجوزي: ¬
نقل من كلام شيخ الإسلام حول إعجاز القرآن وضعف القول بالصرفة
الصرف عن الإتيان بمثله دال على أن له قدرة حاصلة قال، وإن كان في الصرفة نوع إعجاز إلا أن كون القرآن في نفسه ممتنعًا عن الإتيان بمثله لمعنى يعود عليه آكد في الدلالة وأعظم لفضيلة القرآن، قال وما قول من قال بالصرفة إلا بمثابة من قال بأن عيون الناظرين إلى عصا موسى عليه السلام خيل لهم أنها حية وثعبان، لا أنها في نفسها انقلبت، قال: فالتحدي للمصروف عن الشيء لا يحس كما لا يتحدى العجم بالعربية. قال ابن الجوزي وأنا أقول: إنما يصرفون عن النبي بتغير طباعهم عند نزوله أن يقدروا على مثله، فهل وجد لأحد منهم قبل الصرفة منذ وجدت العرب كلام يقاربه مع اعتمادهم على الفصاحة (¬1). فالقول بالصرفة ليس بشيء (¬2). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية قدس اللَّه سره في كتابه: "الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح" (¬3): "كلما ذكره الناس من الوجوه في إعجاز القرآن حجة على إعجازه، ولا تناقض في ذلك، بل كل قوم تنبهوا لما تنبهوا له. ثم قال: ومن أضعف الأقوال قول من يقول من أهل الكلام أنه معجز بصرف ¬
الدواعي مع قيام الموجب لها، أو سلب القدرة الجازمة وهو أن اللَّه صرف قلوب الأمم عن معارضته مع قيام المقتضى التام أو سلبهم القدرة المعتادة في مثله سلبًا عامًا شل قوله تعالى لزكريا: {آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا} [مريم: 10]. فإن هذا يقال على سبيل التقدير والتنزيل، وهو أنه إذا قدر أن هذا الكلام يقدر الناس على الإتيان بمثله فامتناعهم جميعهم عن هذه المعارضة مع قيام الدواعي العظيمة إلى المعارضة من أبلغ الآيات الخارقة للعادة بمنزلة من يقول: "إني آخذ جميع أموال أهل الأرض، أو أهل هذه البلد العظيم، وأضربهم جميعهم وأجوعهم، وهم قادرون على أن يشتكوا إلى اللَّه، وإلى ولي الأمر، وليس فيهم مع ذلك من يشتكي فهذا من أبلغ العجائب الخارقة للعادة، ولو قدر أن أحدًا صنف كتابًا يقدر أمثاله على تصنيف مثله، أو قال شعرًا يقدر أمثاله على أن يقولوا مثله وتحداهم كلهم فقال: عارضوني، وإن لم تعارضون فأنتم كفار مأواكم النار ودماؤكم حلال امتنع في العادة أن لا يعارضه أحد فإذا لم يعارضوه كان هذا من العجائب الخارقة للعادة. والذي جاء بالقرآن العظيم -صلى اللَّه عليه وسلم- قال للخلق كلهم أنا رسول اللَّه إليكم جميعا، ومن آمن بي دخل الجنة، ومن لم يؤمن بي دخل النار، وقد أبيح لي قتل رجالهم وسبي ذراريهم ونسائهم وغنيمة أموالهم، ووجب عليهم كلهم طاعتي ومن لم يطعني كان من أشقى الخلق. ومن آياتي هذا القرآن فإنه لا يقدر أحد على أن يأتي بمثله وأنا أخبركم أن أحدًا لا يأتي بمثله فإنه لا يخلو إما أن يكون الناس قادرين على المعارضة، أو عاجزين فإن كانوا قادرين ولم يعارضوه، بل صرف اللَّه دواعى قلوبهم ومنعها أن تريد معارضته مع هذا التحدي العظيم، أو سلبهم القدرة التي كانت فيهم قبل تحديه،
فإن سلب القدرة المعتادة أن يقول رجل: معجزتي أنكم كلكم لا يقدر أحد منكم على الكلام، ولا على الأكل والشرب، فإن المنع من المعتاد كإحداث غير المتعاد فهذا من أبلغ الخوارق. وإن كانوا عاجزين ثبت أنه خارق للعادة فثبت خرق العادة على تقدير النقيضين النفي والإثبات. فثبت أنه من العجائب الناقضة للعادة في نفس الأمر، قال شيخ الإسلام قدس اللَّه روحه (¬1): فهذا غاية التنزل وإلا فالصواب المقطوع به أن الخلق كلهم عاجزون عن معارضته، لا يقدرون على ذلك. قال: بل ولا يقدر محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- من تلقاء نفسه أن يبدل سورة من القرآن، بل يظهر الفرق بين القرآن وبين سائر كلامه لكل من له أدنى تدبر كما أخبر تعالى فى قوله: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88)} [الإسراء: 88]. قلت: وفى شفاء القاضي عياض (¬2) ميل للقول بالصرفة (¬3). ¬
التنبية الرابع: معجزات الأنبياء مناسبة لأحوال قومهم
وذكر الحافظ ابن الجوزي في كتابه الوفاء عن الإمام أبي الوفاء ابن عقيل أنه قال: حكى لي أبو محمد بن مسلم النحوي قال: كنا نتذاكر إعجاز القرآن، وكان ثم شيخ كثير الفضل، فقال: ما فيه ما يعجز العقلاء عنه، ثم ارتقى إلى غرفة ومعه صحيفة ومحبرة ووعد أنه سيباديهم بعد ثلاثة أيام بما يعمله مما يضاهي القرآن، فلما انقضت الأيام الثلاثة صعد واحد فوجده مستندا يابسًا وفد جفت يده على القلم (¬1). قلت: وبمثل هذه الحكاية يتعلق القائلون بالصرفة، وليس لهم في ذلك حجة لعدم حصر الهلاك فيها، بل لما عجز أهلكه اللَّه كمدًا، ولتجريه على ما ليس في وسعه وقدرته (¬2) واللَّه أعلم. الرابع: كان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يأتون بالمعجزات الباهرة والآيات الظاهرة لأقوامهم الكافرة، وأممهم الفاجرة، فكان كل نبي تقع معجزتة مناسبة لحال قومه (¬3). كما كان السحر فاشيًا عند فرعون وقومه، فجاء موسى بالعصا على صورة ما يصنع السحرة لكنها تلقفت ما صنعوا فبسوا (¬4)، وانصدعوا واحتاروا وانقمعوا ¬
العرب هم أرباب البلاغة ولذا جاء القرآن معجزا في بلاغته وبيانه وتحداهم الله عن الإتيان بمثله
وعلموا أن ما جاء به موسى الأمين هو الحق اليقين فألقي السحرة ساجدين قالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهارون. ولم يقع ذلك بعينه لغير موسى من الأنبياء عليهم السلام. ولما كان الزمن الذي بعث فيه عيسى بن مريم عليه السلام كان قد فشى فيها الأطباء والحكماء بين الأنام، وكان أمرهم في غاية من الظهور والاعتناء بصناعتهم ظاهر مشهور، جاء السيد المسيح بإحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص من الداء العضال القبيح، وخلق من الطين كهيئة الطير بإذن اللَّه فطاشت قلوب الحكماء وأذعنوا بأنه من عند اللَّه. ولما كانت العرب هم أرباب البلاغة وجراثيم (¬1) الفصاحة وأس (¬2) البيان وأرومة (¬3) الوضاحة (¬4) وفرسان الكلام وأرباب النظام قد خصوا من البلاغة ¬
والحكم ما لم يخص به غيرهم من سائر الأمم، وقد أوترا من ذرابة (¬1) اللسان ما لم يؤت مثله إنسان. ومن فصل الخطاب ما يقيد الألباب، جعل إذنه تعالى لهم ذلك طبعا وسليقة، وفيهم غريزة وحقيقة يأتون منه على البديهة بالعجب العجاب، ويدلون به إلى كل سبب من الأسباب، فإذا مدحوا أعجبوا، وإذا وصفوا أغربوا، وإذا هجوا أبدعوا، وإذا ذموا أقذعوا، وإذا تغزلوا هيجوا النفوس، وهيموا البليد فضلًا عن المأنوس (¬2). وعلى كل حال لهم من البلاغة البالغة والقوة الدامغة، والفنون البديعة والضروب الرفيعة ما يعجز عن وصفه الواصفون ويحجم عن إستقصائه العارفون فبينما هم في ذلك كذلك فما راعهم إلا والرسول الكريم قد أتى بهذا القرآن العظيم لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد قد أحكمت آياته وفصلت كلماته وبهرت بلاغته العقول وسمت فصاحته على كل معقول وتظافر إيجازه وإعجازه وتظاهرت حقيقته ومجازه. وهم أفسح ما كانوا في هذا الباب مجالا وأوسعه في اللغة والغريب مقالا. والقرآن العظيم نزل بلغتهم التي بها يتحاورون ومنازعهم التي عنها يتناضلون صارخًا بهم في كل حين ومفزعًا لهم بضعًا وعشرين من السنين وموبخًا لهم على رؤوس الخلائق أجمعين. ¬
{قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [يونس: 38]. فلم يزل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يقرعهم بالقرآن أشد التقريع، ويتحداهم ويوبخهم ويشنع عليهم غاية التشنيع، ويسفه أحلامهم، ويفرق نظامهم، ويذم آلهتهم وآباءهم، ويستبيح أرضهم وأموالهم ونساءهم وأبناءهم، وهم فى كل ذلك ناكصون عن معارضته، محجمون عن مناضلته، يخادعون أنفسهم بالتشغيب، بالتكذيب والإفتراء بالإفتراء، فتارة يقولون هذا سحر مفترى، وأخرى أساطير الأولين، وطورًا يقولون إذا سمعوا آيات الكتاب: {قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} [فصلت: 5]. ومنهم من استحق وهذى فقال بضرب من الدعوى: {لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا} [الأنفال: 31]. ومن تعاطى شيئًا من سخفائهم بدعوى المعارضة افتضح وانكشف عواره، وما نجح وظهر بواره. ولما سمع الوليد بن المغيرة من النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى. . .} [النحل: 90] قال واللَّه إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أسفله لمغدق، وإن أعلاه لمثمر، ما يقول هذا بشر (¬1). ¬
وذكر أبو عبيد (¬1) أن أعرابيًا سمع رجلًا يقرأ: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الحجر: 94]. فسجد فقيل له في ذلك، فقال: سجدت لفصاحته. وسمع آخر رجلًا يتلو: {فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا} [يوسف: 80]. فقال: أشهد أن مخلوقًا لا يقدر على مثل هذا الكلام (¬2). وقد ذكرنا في شرح الدرة (¬3) طرفًا صالحًا من متعلقات ذلك وهو قليل من كثير. واللَّه ولي التيسير وباللَّه التوفيق. ¬
فصل في الكلام على صفة التجلي فيه بيان أنواع التوحيد
فصل في الكلام على صفة التجلي الإلهي، ووجوب وحدانيته تعالى والكلام على بعض الصفات الخبرية والفعلية من النزول اللائق بذاته المقدسة، ونحو ذلك. أعلم أولا أن التوحيد ثلاثة أقسام (¬1): توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الصفات. فتوحيد الربوبية: أن لا خالق، ولا رازق، ولا محيي، ولا مميت، ولا موجد، ولا معدم، ولا مغني، ولا مقني، ولا رافع، ولا خافض، إلا هو سبحانه وتعالى. وتوحيد الإلهية: افراده تقدس وتعالى بالعبادة والتأله له، والخضوع والذل والحب والإفتقار والإقبال والتوجه إليه تعالى. وتوحيد الصفات: أن يوصف اللَّه بما وصف به نفسه، وبما وصفه به نبيه محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- (نفيًا وإثباتًا، فيثبت ما أثبته لنفسه وما أثبته له نبيه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وينفى عنه ما نفاه عن نفسه ونفاه عنه نبيه محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-) (¬2). وقد علم أن طريقة السلف وأئمة الدين إثبات ما أثبته من الصفات من غير تكييف، ولا تمثيل ومن غير تحريف ولا تعطيل، وكذلك ينفون عنه ما نفاه عن نفسه (مع اثبات ما) (¬3) أثبته من الصفات من غير إلحاد في الأسماء، ولا في ¬
الآيات فإنه تعالى: ذم الملحدين في أسمائه وآياته فقال تعالى: {وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف: 180]. وقال: {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40)} [فصلت: 40]. فطريقة سلف الأمة وأئمتها: إثبات الأسماء والصفات مع نفي مماثلة المخلوقات إثبات بلا تمثيل وتنزيه بلا تعطيل كما قال اللَّه تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]. فالحق جل شأنه بعث الرسل عليهم الصلاة والسلام بإثبات مفصل ونفي مجمل، فأثبتوا له الصفات على وجه التفصيل، ونفوا عنه ما لا يليق بذاته من التشبيه والتعطيل، فالإثبات المفصل من أسمائه وصفاته ما أنزله في محكم آياته كقوله تعالى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة: 255]. {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ. . .} [الإخلاص: 1]. {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} [الحديد: 3 - 4]. وقوله تعالى: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [البينة: 8]. {اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 28]. ¬
أقسام الصفات
وقوله: {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ} [النساء: 93]. وقوله: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164]. {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} [مريم: 52]. {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82]. {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف: 156]. إلى أمثال هذه الآيات. وكذلك الأحاديث الثابتة في أسماء الرب سبحانه وصفاته فإن في ذلك من إثبات ذاته المقدسة وصفاته المنزهة على وجه التفصيل، وإثبات وحدانيته. بنفي التمثيل ما هدى اللَّه به عباده إلى سواء السبيل. فهذه طريقة الرسل صلوات اللَّه عليهم أجمعين. وأما من زاغ وألحد فهو على الضد من ذلك فيصفون اللَّه بالصفات السلبية على وجه التفصيل، ولا يثبتون إلا وجودًا مطلقًا، لا حقيقة له عند التأمل لكل محقق نبيل، وإنما يرجع ذلك إلى وجود في الأذهان، لا في الأعيان فقولهم يستلزم التعطيل والتمثيل فإنهم يمثلونه بالممتنعات والمعدومات والجمادات ويعطون الأسماء والصفات تعطيلًا يستلزم نفي الذات المقدسة تعالى اللَّه عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا (¬1). واعلم ثانيًا: أن صفات الباري جل وعلا تنقسم إلى ثلاثة أقسام: صفات ذاتية، وصفات فعلية، وصفات خبرية. ¬
مذهب المعتزلة في الصفات
فالصفات الذاتية المتفق عليها عند أهل السنة من الأثريه والأشعريه والماتريدية (¬1) (¬2): الحياة والعلم والكلام والقدرة والإرادة والسمع والبصر، فللعالم خالق واجب الوجود لذاته، متصف بهذه الصفات وبغيرها مما وصف اللَّه تعالى به نفسه، ووصفه به نبيه -صلى اللَّه عليه وسلم-، لكن الأشعرية ومن نحا نحوهم إنما يثبتون له تعالى الصفات (السبع) المتقدمة. وأما المعتزلة (¬3) فنفوا الصفات والأفعال للَّه تعالى وسموا الصفات أعراضًا، والأفعال حوادث، ويقولون: لا تقوم به تعالى الأعراض، ولا الحوادث، فيتوهم من لا يعرف حقيقة قولهم أنهم ينزهون اللَّه تعالى عن النقائص والعيوب والآفات، ولا ريب أن اللَّه تعالى يجب تنزيهه عن كل عيب ونقص وآفة، فإنه القدوس السلام الصمد الكامل في كل نعت من نعوت الكمال كمالًا لا يدرك الخلق حقيقته، منزهًا عن كل نقص تنزيهًا لا يدرك الخلق كماله. وكل كمال يثبت لموجود من غير استلزام نقص فالخالق تعالى أحق به وأكمل فيه منه وكل نقص تنزه عنه مخلوق فالخالق أحق بتنزيهه عنه وأولى ببراءته منه (¬4). قال شيخ الإسلام ابن تيمية روح اللَّه روحه في كلامه على مسألة حسن إرادة اللَّه تعالى بخلق الخلق وإنشاء الأنام (¬5). ¬
روينا من طريق غير واحد من الأئمة كعثمان بن سعيد الدارمي (¬1)، وأبى جعفر الطبري (¬2)، والبيهقي (¬3)، وغيرهم في تفسير علي بن أبي طلحة (¬4) عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما فى قوله تعالى {الصَّمَدُ} قال السيد الذي كمل فى سؤدده والشريف الذي قد كمل في شرفه، والعظيم الذي قد كمل في عظمته، والحكيم الذي قد كمل في حكمته، والغني الذي قد كمل في غناه، والجبار الذي قد كمل في جبروته، والعالم الذي قد كمل في علمه، والحليم الذي قد كمل في حلمه، وهو الذي قد كمل في أنواع الشرف والسؤدد وهو اللَّه عز وجل وهذه صفته لا تنبغي إلا له، ليس له كفوًا، وليس كمثله شيء سبحان اللَّه الواحد القهار. قال: وهذا التفسير ثابت عن عبد اللَّه بن صالح (¬5) عن معاوية بن صالح عن ¬
علي بن أبي طلحة الوالبي (¬1). لكن يقال إنه لم يسمع التفسير عن ابن عباس. قال: لكن مثل هذا الكلام ثابت عن السلف. وقد روى عن سعيد بن جبير (¬2) -أيضًا- أنه قال الصمد الكامل في صفاته وأفعاله. وثبت عن أبي وائل شقيق بن سلمة (¬3) أنه قال الصمد السيد الذي انتهى سؤدده. وهذه الأقوال وما أشبهها لا تنافي ما قاله كثير من السلف كسعيد بن المسيب (¬4)، ¬
وابن جبير (¬1)، ومجاهد (¬2)، والحسن (¬3)، والسُّدى (¬4)، والضحاك (¬5)، وغيرهم: من أن الصمد هو الذي لا جوف له، وهذا منقول عن ابن مسعود رضي اللَّه عنه، وعن عبد اللَّه بن بريده عن أبيه، موقوفًا، أو مرفوعًا، فإن كلا القولين حق (¬6). ولفظ "الأعراض" لغة يفهم منه ما يعرض للإنسان من الأمراض ونحوها. وكذلك نفي الحوادث والمحدثات قد يفهم منه ما يحدثه الناس من الأفعال المذمومة والبدع التي ليست مشروعة، أو ما يحدث بالإنسان من نحو الأمراض. واللَّه تعالى يجب تنزيهه عما هو فوق ذلك مما فيه نوع نقص، ولكن لم يكن مقصود المعتزلة بقولهم: منزه عن الأعراض والحوادث إلا نفي صفاته الذاتية وأفعاله الإختيارية فعندهم لا يقوم به علم ولا قدرة ولا مشيئة ولا رحمة ولا حب ولا رضا ولا فرح ولا خلق ولا إحسان ولا عدل ولا إتيان ولا مجيء ولا تجلي ولا نزول ¬
نقل من كلام الوزنتي من الحنفية حول صفة الخلق
ولا استواء ولا غير ذلك من صفات ذاته وأفعاله. وجمهور المسلمين يخالفهم في ذلك ومن الطوائف من ينازعهم في الصفات (دون الأفعال ومنهم من ينازعهم في بعض الصفات) (¬1) دون بعض، ومن الناس من ينازعهم في الفعل القديم فيقول: فعله تعالى قديم وإن كان المفعول محدثًا (¬2). وقد علمت أن مذهب السلف إثبات الصفات الذاتية والفعلية والخبرية له وهو مذهب الماتريدية (¬3). قال الوزنتي (¬4) من الحنفية في شرح المنظومة المعروفة بالجواهر ما ملخصه: "التخليق صفة اللَّه تعالى وهو فعله تعالى لاقتضاء المفعول فعلًا لاستحالة مفحول بلا فعل ففعله تعالى صفة له فاستحال دخوله تحت قدرت وإرادته". ثم قال: "واعلم أن الأئمة الأربعة ونظائرهم من أئمة أهل السنة وأكثر رجال الصوفية الذين كانت كراماتهم ظاهرة مثل مالك (¬5) بن دينار، وإبراهيم بن ¬
أدهم (¬1)، والفضيل بن عياض (¬2)، وذي النون (¬3) المصري، والسري السقطي (¬4)، ومعروف الكرخي (¬5)، وسهل بن عبد اللَّه التستري (¬6). ومن نشر علم الإشارة أبي القاسم الجنيد (¬7) البغدادي، وأبي بكر الشبلي (¬8) وغيرهم كانوا يصفون اللَّه بالفعل والكلام والرؤية والسمع كما يصفونه بالحياة ¬
نقل من عقيدة النسفي وشرحها للتفتازاني حول صفة الفعل الكلام على الرواية وما ورد فيها من الأحاديث
والعلم والقدرة والإرادة وأخذ يحط على أبي حسن الأشعري (¬1) وأنه أتى بخلاف مذهب أهل السنة. انتهى (¬2). وفي عقائد النسفي (¬3) المشهورة: والتكوين صفة اللَّه أزلية وهو تكوينه للعالم، ولكل جزء من أجزائه وهو غير المكون عندنا (¬4). قال شارحها المحقق التفتازاني (¬5): "التكوين هو المعنى المعبر عنه بالفعل والخلق والتخليق والإيجاد والإحداث والإختراع ونحو ذلك، ويفسر بإخراج المعدوم من العدم إلى الوجود صفة اللَّه تعالى لإطباق العقل والنقل على أنه خالق للحالم مكون له. ¬
وامتناع إطلاق الإسم المشتق على الشيء من غير أن يكون مأخذ الاشتقاق وصفًا له قائمًا به أزلية لامتناع قيام الحوادث بذاته ولأنه سبحانه وصف ذاته في كلامه الأزلي باللَّه الخالق فلو لم يكن في الأزل خالقًا للزم الكذب، أو العدول إلى المجاز أي الخالق فيما يستقبل، أو القادر على الخلق من غير تعذر الحقيقة على أنه لو جاز إطلاق الخالق عليه بمعنى القادر لجاز إطلاق كل ما يقدر عليه من الأعراض. وأيضًا لو كان فعله تعالى حادثًا، فإما بتكوين آخر فيلزم التسلسل، وهو محال ويلزم منه استحالة تكون مع أنه مشاهد، وإما بدونه فيستغني الحادث عن المحدث والإحداث، وفيه تعطيل الصانع تعالى، وأيضًا لو حدث فعله تعالى لحدث، إما في ذاته تعالى فيصير محلًا للحوادث (¬1)، أو في غيره كما ذهب إليه أبو الهذيل (¬2) المعتزلي: من أن تكوين كل جسم قائم به فيكون كل جسم قائم به فيكون كل جسم خالقًا ومكونًا لنفسه، ولا خفاء في استحالته. ومبنى هذه الأدلة على أن التكوين صفة حقيقية كالعلم والقدرة. ¬
قال التفتازاني والمحققون من المتكلمين على أنه من الإضافات والاعتبارات العقلية مثل كونه تعالى قبل كل شيء ومعه وبعده ومذكورًا بألسنتنا ومعبودًا لنا ومميتنا ومحيينا ونحو ذلك قال: والحاصل في الأزل هو مبدأ التخليق والترزيق والإماتة والإحياء وغير ذلك. قال ولا دليل على كونه صفة أخرى سوى القدرة والإرادة، وإن كانت نسبتها إلى وجود الكون وعدمه على السواء لكن مع انضمام الإرادة بتخصيص أحد الجانبين ولما استدل القائلون بحدوث التكوين بأنه لا يتصور بدون المكون كالضرب بدون المضروب فلو كان التكوين قديمًا لزم قدم المكونات وهو محال. أشار النسفي ومن يقول بقدمه من علماء السلف إلى الجواب عنه بقوله: وهو أي التكوين تكوينه تعالى للعالم، ولكل جزء من أجزائه، لا في الأزل، بل لوقت وجوده على حسب علمه وإرادته فالتكوين باق أزلًا، وأبدًا، والمكون حادث بحدوث التعليق، كما في العلم والقدرة وغيرهما من سائر الصفات القديمة التي لايلزم من قدمها قدم متعلقاتها لكون تعلقاتها حادثة. وهذا تحقيق ما يقال إن وجود العالم إن لم يتعلق بذات اللَّه أو صفة من صفاته لزم تعطيل الصانع واستغناء الحوادث عن الموجد، وهو محال باطل أولًا، فليكن التكوين أيضًا قديمًا، مع حدوث المكون المتعلق به، وما يقال: بأن القول بتعلق وجود المكون بالتكوين قول بحدوثه إذ (¬1) القديم ما لا يتعلق وجوده بالغير، والحادث ما يتعلق به فمنظور فيه لأن هذا معنى القديم والحادث بالذات على ما تقول به الفلاسفة. وأما المتكلمون فعندهم الحادث ما لوجوده بداية بأن يكون مسبوقًا بالعدم ¬
والقديم بخلافه ومجرد تعلق وجوده بالغير لا يستلزم حدوثه بهذا المعنى لجواز أن يكون محتاجًا إلى الغير صادرًا عنه دائمًا بدوامه، كما ذهبت إليه الفلاسفة فيما ادعوا قدمه من الممكنات كالهيولا (¬1) -مثلا-. نعم إذا أثبتنا صدور العالم من الصانع بالإختيار دون الإيجاب بدليل لا يتوقف على حدوث العالم كان القول بتعليق وجوده بتكوين اللَّه تعالى قولًا بحدوثه. ومن هنا (¬2) يقال: إن التنصيص على كل جزء من أجزاء العالم إشارة إلى الرد على من زعم قدم بعض الأجزاء كالهيولا. وإلا فهم إنما يقولون بقدمها بمعنى عدم المسبوقية بالعدم لا بمعنى عدم تكون ذلك بالغير. والحاصل أنا لا نسلم أنه لا يتصور التكوين بدون المكون وأن وزانه معه وزان الضرب مع المضروب، فإن الضرب صفة إضافية لا يتصور بدون المضافين أعنى الضارب والمضروب وقد بينا أن التكوين صفة حقيقية هي مبدأ الإضافة التي هي إخراج المعدوم من العدم إلى الوجود لا عينها حتى لو كانت عينها على ما وقع في عبارة بعض المشايخ لكان القول بتحققها بدون المكون مكابرة وإنكارًا للضروري فلا يندفع بما يقال من أن الضرب مستحيل البقاء فلا بد لتعلقه بالمفعول ووصول الألم إليه من وجود المفعول معه إذ لو تأخر لانعدم كذا قيل. ¬
وهذا بالنسبة لفعل المخلوق وهو بخلاف فعل الباري فإنه أزلي الدوام ييقى إلى وقت وجود المفعول (¬1). فالتكوين غير المكون فسائر الصفات الذاتية من الحياة والقدرة والإرادة والسمع والبصر والعلم والكلام وغيرها وسائر الصفات الخبرية من الوجه واليدين والقدم وغيرها. وسائر صفات الفعلية من الإستواء والنزول والإتيان والمجيء والتكوين ونحوها قديمة (¬2) للَّه تعالى عند سلف الأمة وأئمتها ليس شيء من ذلك محدثًا. إذا علمت هذا التمهيد فمن الصفات التي يثبتها سلف الأمة وأئمة الدين من أهل الأثر دون الخلف والمتحذلقين: "التجلي الإلهي ورؤية رب العالمين". وقد أشار إليه الإمام أبو بكر بن أبي داود رضي اللَّه عنهما بقوله: (وقل) أيها الأثري السلفي (يتجلى اللَّه) سبحانه وتعالى (للخلق) من المسلمين أما في الموقف فيتجلى للمسلمين عامة حتى منافقي هذه الأمة وعصاتها (¬3) كما في الصحيحين ¬
وغيرهما من حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه وفيه: "قال الناس يا رسول اللَّه هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال: هل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب؟ قالوا: لا يا رسول اللَّه. قال: هل تضارون في القمر ليلة البدر وليس دونه سحاب؟ قالوا: لا يا رسول اللَّه، قال: فإنكم ترونه يوم القيامة كذلك" يجمع اللَّه الناس فيقول: من كان يعبد شيئًا فليتبعه فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس، ويتبع من كان يعبد القمر القمر، ويتبع من كان يعبد الطواغبت الطواغيت، وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها فيأتيهم اللَّه في غير الصورة التي يعرفون فيقول: أنا ربكم فيقولون نعوذ باللَّه منك، هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا أتانا ربنا عرفناه فيأتيهم اللَّه في الصورة التي يعرفون فيقول: أنا ربكم فيقولون أنت ربنا فيتبعونه (¬1). وفى حديث أبي موسى الأشعري عند الطبراني قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يحشر الناس فينادي مناد أليس عدلًا مني أن أولي كل قوم ما كانوا يعبدون ثم ترفع لهم آلهتهم فيتبعونها، حتى لا يبقى أحد غير هذه الأمة، فيقال لهم مالكم، قالوا: ما نرى إلهنا الذي كنا نعبد فيتجلى لهم تبارك وتعالى (¬2). وعند اللالكائي (¬3) من حديث أبي موسى أيضًا رضي اللَّه عنه: فيكشف لهم عن ¬
الحجاب فينظرون إلى اللَّه فيخرون له سجدًا ويبقى أقوام ظهورهم مثل صياصي البقر (¬1) فيريدون السجود فلا يستطيعون فيقول اللَّه تعالى: يا عبادى ارفعوا رؤوسكم. . . (¬2) الحديث. وأخرج الإمام عبد اللَّه بن المبارك (¬3) والآجري (¬4) عن جابر بن عبد اللَّه رضي اللَّه عنهما قال: إذا دخل أهل الجنة الجنة، وأقيم عليهم بالكرامة جاءتهم خيول من ياقوت أحمر لا تبول ولا تروث لها أجنحة فيقعدون عليها ثم يأتون الجبار عز وجل ¬
فإذا تجلى لهم خروا له سجدًا، فيقول الجبار يا أهل الجنة ارفعوا رؤوسكم فقد رضيت عنكم رضا لا سخط معه، يا أهل الجنة ارفعوا فإن هذه ليست بدار عمل إنما هي دار مقامة ودار نعيم، فيرفعون رؤوسهم فيمطر اللَّه عليهم طيبا ثم يرجعون إلى أهليهم فيمرون بكثبان المسك فيبعث اللَّه ريحًا على تلك الكثبان فتهيجها في وجوههم حتى أنهم ليرجعون إلى أهليهم وإنهم وخيولهم لشباع من المسك (¬1). وفي رواية عند الآجري وإنهم لشعث غبر من المسك. وأخرج ابن ماجة (¬2)، وابن أبي الدنيا (¬3)، والدارقطني (¬4) والآجري (¬5)، عن جابر -أيضًا- رضي اللَّه عنه عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه قال: "بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور رفعوا رؤوسهم، فإذا الرب قد أشرف عليهم من فوقهم، فقال السلام عليكم يا أهل الجنة وذلك قول اللَّه: {سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس: 58] قال فينظر إليهم وينظرون إليه فلا يلتفتون إلى ¬
شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه حتى يحتجب عنهم ويبقى نوره وبركته عليهم في ديارهم (¬1). إشرافه سبحانه وتعالى هو تجليه واطلاعه بالمعنى الذي يليق بذاته المقدسة. ورواه البيهقي (¬2)، وأبو نعيم (¬3)، وفيه فيؤتون بنجائب من ياقوت أحمر أزمتها زبرجد أخضر وياقوت أحمر (فيحملون) عليها تضع حوافرها عند منتهى طرفها فيأمر اللَّه بأشجار عليها الثمار فتجيء جوار من الحور العين وهن يقلن نحن الناعمات فلا نبأس، ونحن الخالدات فلا نموت أزواج قوم مؤمنين كرام ويأمر اللَّه بكثبان من مسك أبيض أذفر فيثير عليهم ريحًا يقال لها: المثيرة حتى تنتهى بهم إلى جنة عدن، وهي قصبة الجنة، فتقول الملائكة يا ربنا قد جاء القوم فيقول مرحبًا بالصادقين، مرحبًا بالطائعين، فيكشف لهم الحجاب فينظرون إلى اللَّه جهرة فيتمتعون بنور الرحمن حتى لا يبصر بعضهم بعضًا، ثم يقول ارجعوهم إلى القصور بالتحف، فيرجعون وقد أبصر بعضهم بعضا، قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬4) ¬
فذلك قول اللَّه تعالى: {نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت: 32]. وأخرج الشيخان (¬1) والدارقطني من حديث جرير البجلي رضي اللَّه عنه قال: كنا جلوسًا عند النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إذ نظر إلى القمر ليلة البدر، فقال: "أما إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها (¬2). -يعني العصر والفجر-. وهذا الذي آشار إليه الناظم بقوله: (كما البدر) أي كالبدر والميم زائدة لا يخفى على أحد في إبداره مع الصحو (وربك) أيها المخاطب ورب الخلائق أجمعين (أوضح): أي أظهر وأبين من البدر لأن البدر من مخلوقاته. قال الحافظ البيهقي والحافظ ابن الجوزي: التشبيه للرؤية وهو فعل الرائي لا ¬
للمرئي- والمعنى ترون ربكم رؤية ينزاح معها الشك وتنتفي معها المرية كرؤيتكم القمر لا ترتابون ولا تمترون (¬1). وقوله: لا تضامون روي بتخفيف الميم وضم أوله من الضيم أي لا يلحقكم في رؤيته ضيم ولا مشقة، وروي بتشديدها والفتح على حذف إحدى التائين والأصل لا تتضامون أي لا يضام بعضكم بعضا كما يفعل الناس في طلب الشيء الخفي الذي لا يسهل إدراكه فيتزاحمون عند ذلك ينظرون إلى جهته يضام بعضهم بعضا، يريد أنكم ترونه وكل واحد في مكانه لا ينازعه رؤيته أحد (¬2). ولما كان ربما توهم متوهم من لازم التجلي والإنكشاف والرؤية الجسمية بالقياس على ما هو معاين من المخلوقين قياسًا للغائب على الشاهد دفع ذلك الوهم بقوله: (وليس) اللَّه تبارك وتعالى (بمولود) ولده والد (وليس) هو تقدس وتعالى (بوالد) لشئ من المولدات ولا الملائكة ولا عيسى بن مريم، ولا العزيز عليهما السلام، ولا غيرهم (وليس له) سبحانه (شبه) لا في ذاته المقدسة، ولا في صفاته المنزهة، ولا في أفعاله سبحانه (تعالى) ارتفع قدره وتقدس: (المسبح) أي المنزة عن أن يكون والد الشيء أو مولودًا في شيء، أو شبيهًا لشيء فإنه سبحانه وتعالى ليس له شبيه، لا في ذاته ولا في صفاته، ولا في أفعاله. فال شيخ الإسلام قدس اللَّه روحه في شرح العقيدة الأصفهانية: "الذي اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها أن يوصف اللَّه تعالى بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله من غير تحريف، ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، فإنه قد علم ¬
بالسمع مع العقل أن اللَّه ليس كمثله شيء لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، كما قال: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65]. وقال تعالى: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 22]. وقوله تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 4]. وقد علم بالعقل أن المثلين، يجوز على أحدهما ما يجوز على الآخر، ويجب له ما يجب له ويمتنع عليه ما يمتنع عليه فلو كان المخلوق مثلًا للخالق وشبيهًا له للزم اشتراكهما فيما يجب ويجوز ويمتنع والخالق يجب وجوده وقدمه والمخلوق يستحيل وجوب وجوده وقدمه بل يجب حدوثه وإمكانه. انتهى (¬1). وقد قال تعالى في محكم كتابه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]. فرد على المشبهة بنفي المثلية ورد على المعطلة بقوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}. واعلم أن قدماء المعتزلة كأبي علي الجبائي (¬2)، وابنه أبي هاشم (¬3)، وأضرابهم ذهبوا إلى أن المماثلة هي المشاركة في أخص صفات النفس فمماثلة زيد لعمرو عندهم مشاركته إياه في الناطقية فقط، لأنها أخص أوصاف الإنسان. ¬
وذهب الماتريدية إلى أن المماثلة هي الإشتراك في الصفات النفسية كالحيوانية والناطقية لزيد وعمرو، قالوا: ومن لازم الاشتراك في الصفة النفسية أمران: أحدهما: الاشتراك فيما يجب ويجوز ويمتنع. وثانيهما: أن يسد كل منهما مسد الآخر وينوب الآخر منابه، فمن ثم يقال: المثلان موجودان مشتركان فيما يجوز ويمتنع. وموجود أن يسد كل واحد منها مسد الآخر. والمتماثلان وإن اشتركا في الصفات النفسية فلا بد من اختلافهما بجهة أخرى ليتحقق التعدد والتمايز فيصح التماثل وينسب إلى أبي حسن الأشعري أنه يشترط في التماثل التساوي من كل وجه. واعترض بأنه لا تعدد حينئذ فلا تماثل، وبأن أهل اللغة مطبقون على صحة قولنا: زيد مثل عمرو في الفقه إذا كان يساويه فيه ويسد مسده وإن اختلفا في كثير من الأوصاف. وفي الحديث: "الحنطة بالحنطة مثلًا بمثل" (¬1) أراد به الإستواء في الكيل دون الوزن، وعدد الحبات، وأوصافها، ولا يخفى أن من الممكن أن يقال: المراد بالمماثلة التساوي في الوجه الذي به التماثل فزيد وعمرو إذا اشتركا في الفقه، وكان بينهما مساواة فيه بحيث ينوب أحدهما عن الآخر، ويسد مسده، يصح القول: بأنهما مثلان فيه، وإلا فلا وكل هذا مغالطة وتمويه ليس شيء منه مما نحن ¬
أصل مقالة التعطيل
فيه فالحق ليس له مثل ولا شبيه وباللَّه التوفيق (¬1). (وقد ينكر الجهمي) أي أتباع جهم بن صفوان، وتقدم أنه أخذ مقاله التعطيل، ونفي الصفات عن الجعد بن درهم (¬2)، لكن الجهم أظهر المقالة فنسبت إليه وأخذها الجهم -أيضًا- فيما ذكره سيدنا الإمام أحمد رضي اللَّه عنه عن غيره من أهل الضلال. قال الجلال السيوطي (¬3) في الأوائل: أول من تفوه بكلمة خبيثة في الاعتقاد يعني في هذه الملة: الجعد بن درهم مؤدب مروان (الحمار) (¬4) آخر ملوك بني أمية فقال: بأن اللَّه تعالى لا يتكلم (¬5). قال شيخ الإسلام قدس اللَّه سره في الرسالة الحموية: أصل فشو البدع بعد القرون الثلاثة وإن كان قد نبع (¬6) أصلها في أواخر عصر التابعين. قال: ثم أصل مقالة التعطيل للصفات إنما هو مأخوذ من تلامذة اليهود والمشركين وضلال الصابئين، فإن أول من حفظ عنه أنه قال هذه المقالة في الإسلام هو: الجعد بن درهم، وأخذها عنه الجهم بن صفوان وأظهرها فنسبت اليه (¬7) كما قدمنا ذلك عند قول الناظم: (كما قال أتباع لجهم) (¬8). ¬
وقول الناظم: (هذا) هاء حرف تنبيه وذا إسم إشارة محله النصب على المفعولية والمشار إليه التجلي (وعندنا) معشر أهل السنة والجماعة - (بمصداق). قال في القاموس: مصداق الشيء ما يصدقه (ما) يحتمل أن يكون موصولًا حرفيًا أي بمصداق قولنا، ويحتمل أن يكون موصولًا اسميًا أي بمصداق الذي قلناه، (حديث مصحح) (¬1): مبتدأ خبره متعلق الظرف على الأصح أو الظرف (¬2) نفسه والجملة حالية (رواه) أي روى ذلك الحديث الصحيح (جرير) بن عبد اللَّه البجلي رضي اللَّه عنه وهو الحديث الذي قدمناه (¬3)، رواه البخاري ومسلم وغيرهما (عن مقال) أي من قول (محمد) رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى. (فقل) أيها المسترشد وطالب النجاة ومتبع السنة وأهل الحق (مثل ما قد قال) أي مثل قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬4) (في ذلك) أي في التجلى ورؤية المؤمنين لرب العالمين في جنات النعيم (وكذا) (¬5) في الموقف. و (قل) (¬6) أيضًا مثل ما قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من نحو ذلك من سائر الصفات الذاتية والخبرية والفعلية. (تنجح): أي تظفر بموافقة الصواب ومتابعة السنة والكتاب والنجاح بالفتح ¬
ترجمة جرير بن عبد الله البجلي أحد رواة أحاديث الرؤية
والنجح بالضم الظفر بالشيء، يقال: نجحت الحاجة كمنع وانجحت وأنجحها اللَّه وأنجح زيد إذا صار ذا نجح وهو منجح والنجح الصواب من الرأي، ونجح أمره تيسر، وسهل وتناجحت أحلامه تتابعت بصدق والنجاحة الصبر ونفس نجيحة صابرة (¬1). و (جرير) هذا الذي ذكره الناظم رحمه اللَّه تعالى هو: أبو عمرو وقيل: أبو عبد اللَّه جرير بن عبد اللَّه بن جابر البجلي (¬2) الأحمسي رضي اللَّه عنه، أسلم في السنة التي توفى فيها رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، قال جرير: أسلمت قبل موت النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بأربعين يومًا فيما يقال (¬3) والصحيح أنه أسلم قبل ذلك، نزل الكوفة وسكنها زمانًا طويلًا ثم انتقل إلى قرقيسيا (¬4)، ومات بها سنة إحدى وخمسين، وقيل سنة أربع وخمسين، روى عنه أنس بن مالك، وقيس بن أبي حازم، والشعبي، وبنوه: عبيد اللَّه، والمنذر، وإبراهيم. وقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن جرير -رضي اللَّه عنه- قال: ما حجبني رسول اللَّه منذ أسلمت ولا رآني إلا تبسم في وجهي (¬5). ¬
تتمة: رؤية المؤمنين لربهم في الآخرة ثابتة بالكتاب والسنة والإجماع وسياق الأدلة على ذلك
وفى رواية ولقد شكوت إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أني لا أثبت على الخيل، فضرب بيده في صدري، وقال: اللهم ثبته واجعله هاديًا مهديا (¬1). تتمة (¬2): رؤية المؤمنين لرب العالمين (في الآخرة) ثابتة بالكتاب والسنة، وإجماع أهل الحق من أهل السنة والجماعة، وهى الغاية التي شمر إليها المشمرون وتنافس فيها المتنافسون، وتسابق إليها المتسابقون، ولمثلها فليعمل العاملون. فإن أهل الجنة إذا نالوها نسوا ما هم فيه من النعيم وحرمانها، والحجاب إنما هو لأهل الجحيم، وهو أشد عليهم من العذاب الأليم. وقد اتفق على ثبوتها الأنبياء والمرسلون والصحابة والتابعون وأئمة أهل السنة على تتابع القرون. وأنكرها أهل البدع والمارقون والجهمية المتهوكون، والفرعونية المعطلون، والباطنية الذين هم من جميع الأديان منسلخون، والرافضة الذين هم بحبائل الشيطان متمسكون، ومن حبل اللَّه منقطعون، وعلى مسبة أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عاكفون. وللسنة وأهلها محاربون، ولكل عدو للَّه ورسوله مسالمون، وكل هؤلاء عن ربهم محجوبون، وعن بابه مطرودون، فهم حزب الضلالة، وشيعة إبليس اللعين، ويعسوب الجهالة، وقدوة المخالفين. وقد أخبر سبحانه وتعالى عن أعلم خلقه به في زمانه، وهو كليمه عليه السلام، ¬
أنه سأل ربه تعالى النظر إليه، فقال له تعالى: {لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} [الأعراف: 143]. فلا يظن بكليم المولى الجليل أن يسأل ربه المستحيل، ولو كانت رؤيته تعالى لا تجوز لأنكر على موسى ذلك وحاشاه من الجهل بذلك، وإنما أخبره بأنه لا يثبت لرؤيته، ثم أعلمه أن الجبل مع قوته وصلابته لا يثبت لتجليه له في هذه الدار فكيف بالبشر الضعيف الذي خلق من ضعف، وقد علق رؤيته له على جائز غير ممتنع الاستقرار، بل استقراره ممكن، ولو كانت محالًا في ذاتها لم يعلقها بالممكن في ذاته، ثم إنه سبحانه تجلى للجبل، وهذا مشعر بجواز رؤيته فإنه إذا جاز أن يتجلى للجبل الذي هو جماد لا ثواب له، ولا عقاب عليه، فكيف يمتنع أن يتجلى لأنبيائه ورسله وأوليائه في دار كرامته ويريهم نفسه، وقد زال عنهم الضعف وخلفه القوة المستمر أبد الآبدين. وقد قال تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ} [البقرة: 223]. وقال: {تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ} [إبراهيم: 23]. فهذا من دلالة الكتاب على رؤية رب الأرباب في دار الجزاء والثواب. ومن أدلة الكتاب على ذلك قوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26]. قال أهل العلم الحسنى: الجنة، والزيادة هي: النطر إلى وجهه الكريم. كذلك فسرها رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- الذي أنزل عليه القرآن والصحابة من بعده، كما روى مسلم في صحيحه من حديث (صهيب) رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في قوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} إذا دخل أهل الجنة الجنة،
وأهل النار النار، نادي مناد يا أهل الجنة إن لكم عند اللَّه موعدًا، ويريد أن ينجزكموه فيقولون ما هو؟ ألم يثقل موازيننا ويبيض وجوهنا ويدخلنا الجنة ويجرنا من النار فيكشف الحجاب فينظرون إليه، فما أعطاهم شيئًا أحب إليهم من النظر (¬1) وهى الزيادة. وقد جاء ذلك عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من عدة طرق يفيد مجموعها العلم القطعي. ومنها قوله تعالى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 14 - 15]. ووجه الاستدلال بها أنه سبحانه جعل من أعظم عقوبة الكفار كونهم محجوبين عن رؤيته، وسماع كلامه فلو لم يره المؤمنون ولم يسمعوا كلامه كانوا أيضًا محجوبين عنه. وقد احتج هذه الحجة الإمام الشافعي رضي اللَّه عنه واحتج بها غيره من أئمة الإسلام رضي اللَّه عنهم. ¬
قال الحاكم أبو عبد اللَّه النيسابوري (¬1): حدثنا الأصم (¬2)، حدثنا الربيع (¬3) بن سليمان الجيزى قال: حضرت محمد بن إدريس الشافعي، وقد جاءته رقعة من الصعيد فيها: ما تقول في قول اللَّه عز وجل: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} فقال الشافعي: لما انحجب عن هؤلاء في السخط كان في هذا دليل على أن أولياءه يرونه في الرضا، قال الربيع قلت: يا أبا عبد اللَّه وبه تقول, قال: نعم وبه أدين اللَّه لو لم يوقن محمد بن إدريس أنه يرى اللَّه لما عبد اللَّه عز وجل (¬4) ورواه الطبراني في شرح السنة من طريق الأصم أيضًا. ومنها قوله تعالى: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق: 35]. ¬
قال الطبراني: (¬1) قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وأنس بن مالك رضي اللَّه عنهما: هو النظر إلى وجه اللَّه عز وجل (¬2)، وقاله من التابعين: زيد بن وهب وغيره (¬3). ومنها قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22 - 23]. فهذه الآية إذا حررت (¬4) من تحريفها عن مواضعها، والكذب على المتكلم بها سبحانه فيما أراد منها وجدتها منادية نداء صريحًا أن اللَّه سبحانه يرى عيانًا بالأبصار يوم القيامة في دار القرار. وإن أبيت إلا تحريفها الذي يسميه المحرفون تأويلًا، فتأويل نصوص المعاد والجنة والنار والميزان والصراط والحساب أسهل على أرباب التأويل من تأويلها، وتأويل كل نص تضمنه القرآن والسنة كذلك، فلا يشأ مبطل على وجه الأرض أن يتأول النصوص ويحرفها عن مواضعها إلا وجد إلى ذلك من السبيل ما وجده متأول هذه النصوص، وهذا هو الذي أفسد الدين والدنيا. وأضاف سبحانه النظر إلى الوجه الذي هو محله في هذه الآية الكريمة، وتعديته ¬
بأداة "إلى" الصريحة في نظر العين وإخلاء الكلام من قرينة تدل على أن المراد بالنظر المضاف إلى الوجه المعدى بإلى خلاف حقيقته وموضوعه صريح في أنه سبحانه أراد بذلك نظر العين التي في الوجه إلى الرب جل جلاله، فإن النظر له عدة استعمالات بحسب صلاته وتعديه بنفسه فإن عدى بنفسه فمعناه التوقف والإنتظار كقوله تعالى: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} [الحديد: 13]. وإن عدى بفي فمعناه التفكر والإعتبار كقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف: 185]. وإن عدى، بإلى فمعناه المعاينة بالأبصار كقوله: {انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ} [الأنعام: 99]. فكيف إذا أضيف إلى الوجه الذي هو محل البصر. قال يزيد بن هارون (¬1) أخبرنا مبارك (¬2) عن الحسن (¬3) قال: نظرت إلى ربها تبارك وتعالى فنضرت بنوره. رواه الآجري والبيهقي في كتاب الرؤية واللآلكائي في السنة (¬4). ¬
وروى ابن مردويه (¬1) في تفسيره عن عبد اللَّه بن عمر رضي اللَّه عنهما [قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} [القيامة: 22] قال] (¬2) من البهاء والحسن، {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 23] قال: في وجه اللَّه عز وجل) (¬3) (¬4). وقال ابن عباس رضي اللَّه عنهما {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} قال: تنظر إلى وجه ربها عز وجل (¬5). وقال عكرمة (¬6) {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} قال من النعيم {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} ¬
قال تنظر إلى ربها نظرًا (¬1). ثم حكى عن ابن عباس رضي اللَّه عنه مثله. وهذا قول كل مفسر من أهل السنة (¬2). وأما الأحاديث عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابه الكرام رضوان اللَّه عليهم الدالة على الرؤية فمتواترة (فرويت) (¬3) عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ورويت عن الصديق الأعظم أبي بكر خليفة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وأبي هريرة، وأبي سعيد الخدري، وجرير بن عبد اللَّه البجلي، وصهيب بن سنان الرومي، وعبد اللَّه بن مسعود الهذلي، وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وأبي موسى الأشعري، وعدي بن حاتم الطائي، وأنس بن مالك الأنصاري، وبريدة بن الحصيب الأسلمي، وأبى رزين العقيلي، وجابر بن عبد اللَّه الأنصاري، وأبي أمامة الباهلي، وزيد بن ثابت، وعمار بن ياسر، وأم المؤمنين عائشة الصديقة، وعبد اللَّه بن عمر، وسلمان الفارسي، وحذيقة بن اليمان، وعبد اللَّه بن عباس، وعبد اللَّه بن عمرو بن العاص، وغيرهم رضوان اللَّه عليهم أجمعين، رواها (¬4) أصحاب الصحاح والمسانيد والسنن، وتلقاها الناس بالقبول والتسليم، وانشراح الصدور لا بالتحريف والتبديل وضيق العطن، والتأويل على خلاف المشهور ولا التكذيب، بها فمن كذب بها لم يكن إلى وجه ¬
ربه الكريم ناظرًا وربما كان من المحجوبين فيخشى أن يكون كافرًا، ولا حاجة إلى سرد جميعها (¬1). وحديث جرير بن عبد اللَّه البجلي رضي اللَّه عنه الذي ذكره الناظم رواه البخاري، ومسلم، وأكثر من خمسين إمامًا منهم: إسماعيل بن أبي خالد (¬2)، ويحيى بن سعيد القطان (¬3)، وهشيم بن بشير (¬4)، وعلي بن عاصم (¬5)، وسفيان بن عيينة (¬6)، ومروان بن معاوية (¬7)، ووكيع ¬
ابن الجراح (¬1)، ويزيد بن هارون (¬2)، وشعبة بن الحجاج (¬3)، وعبد اللَّه بن المبارك (¬4)، وحماد بن أبي حنيفة (¬5)، وأبو حنيفه النعمان بن ثابت الإمام (¬6)، وزيد بن أبي أنيسه (¬7)، وجوَّده فقال: ستعاينون ربكم عز وجل كما تعاينون هذا القمر. وأبو شهاب الحناط (¬8) وقال: سترون ربكم عيانا. وغير هؤلاء ممن يطول ¬
ذكرهم كلهم يرويه عن قيس بن أبي حازم عن جرير. وكل هؤلاء شهدوا على إسماعيل بن خالد، وشهد إسماعيل بن خالد على قيس ابن أبي حازم (¬1)، وشهد قيس بن أبي حازم على جرير بن عبد اللَّه، وشهد جرير على رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (فكأنك تسمع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-) (¬2) وهو يقوله ويبلغه لأمته، ولا شيء أقر لأعينهم منه على رغم أنوف الجهمية والفرعرنية والرافضة والقرامطة والباطنية وفروخ الصابئة والمجوس واليونان ونحوهم من أعداء السنة وأهلها (¬3). وروى ابن بطة (¬4) في السنة، والإمام ابن المبارك (¬5)، والبزار (¬6)، والأصبهاني (¬7) في الترغيب من حديث حذيفة بن اليمان رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أتاني جبريل فإذا في كفه مرآة كأصفى المرايا وأحسنها وإذا في ¬
وسطها نكتة سوداء، قال قلت يا جبريل: ما هذه؟ قال: هذه الدنيا صفاؤها وحسنها، قال: قلت وما هذه اللمعة في وسطها؟ قال هذه الجمعة، قلت: ما الجمعة؟ قال: يوم من أيام ربك عظيم". . . وفيه وأما شرفه وفضله واسمه في الآخرة، فإن اللَّه تعالى إذا صير أهل الجنة إلى الجنة، وأهل النار إلى النار، وجرت عليهم أيامهما وساعاتهما ليس بها ليل ولا نهار إلا قد علم اللَّه مقدار ذلك وساعاته، فإذا كان يوم الجمعة في الحين الذي (يبرز أو يخرج فيه أهل الجمعة إلى جمعهم) (¬1) نادى منادٍ يا أهل الجنة أخرجوا إلى دار المزيد لا يعلم (سعتها وعرضها وطولها) (¬2) إلا اللَّه عز وجل في كثبان المسك قال: فيخرج غلمان الأنبياء بمنابر من نور ويخرج غلمان المؤمنين بكراسي من ياقوت قال: فإذا وضعت لهم وأخذ القوم مجالسهم بعث اللَّه تبارك وتعالى عليهم ريحًا تدعى المثيرة تثير عليهم المسك الأبيض فتدخله من تحت ثيابهم وتخرجه في وجوههم وأشعارهم وفيه. . . ثم يوحي اللَّه سبحانه إلى حملة العرش فيوضع بين ظهراني الجنة وبينه وبينهم الحجاب، فيكون أول ما يسمعون منه أن يقول: أين عبادي الذين أطاعوني بالغيب، ولم يروني وصدقوا رسلي واتبعوا أمري، فسلوني فهذا يوم المزيد، قال: فيجتمعون على كلمة واحدة، رب رضينا عنك فارض عنا، قال: فيرجع اللَّه تعالى إليهم في قولهم أن يا أهل الجنة لو لم أرض عنكم لما أسكنتكم جنتي، فسلوني فهذا يوم المزيد، قال: فيجتمعون على كلمة واحدة رب وجهك، رب وجهك أرنا ننظر إليه، قال: ¬
تنبيه: هل يرى النساء ربهن في الجنة أو هي خاصة بالرجال
فيكشف اللَّه تبارك وتعالى تلك الحجب ويتجلى لهم فيغشاهم من نوره شيء لولا أنه قضى عليهم أن لا يحرقوا لاحترقوا مما غشيهم من نوره، قال: ثم يقال ارجعوا إلى منازلكم، قال فيرجعون إلى منازلهم، وقد خفوا على أزواجهم وخفين عليهم مما غشيهم من نوره تعالى، فإذا صاروا إلى منازلهم تراد النور حتى يرجعوا إلى صورهم التي كانوا عليها، قال: فتقول لهم أزواجهم لقد خرجتم من عندنا على صورة ورجعتم على غيرها، قال: فيقولون ذلك بأن اللَّه تبارك وتعالى تجلى لنا فنظرنا منه إلى ما خفينا به عليكم، قال: فلهم في كل سبعة أيام الضعف على ما كانوا فيه. وفي لفظ البزار: فهم يتقلبون في مسك الجنة ونعيمها في كل سبعة أيام، قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وذلك قوله تعالى: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17] " (¬1). والأحاديث في هذا الباب كثيرة واللَّه أعلم (¬2). تنبيه: وقع في كلام بعض العلماء منهم: الحافظ عماد الدين ابن كثير (¬3) أن ¬
الخلاف في رؤية الملائكة لربهم
رؤية اللَّه تعالى مختصة في الجنة بمؤمني البشر من الذكور دون النساء فإنهن لا يرينه تعالى (¬1). وخصها العز بن عبد السلام (¬2) بالبشر دون الملائكة، واحتج لاختصاص البشر بقوله تعالى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام: 103] فإنه عام خص بالآية ¬
والأحاديث في المؤمنين فيبقى على عمومه في الملائكة" (¬1) كذا قال وقد نص البيهقي على خلافه فقال في كتاب الرؤية: باب ما جاء في رؤية الملائكة ربهم فروى عن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص قال: خلق اللَّه الملائكة لعبادته أصنافًا، وإن منهم لملائكة قيامًا صافين من يوم خلقهم إلى يوم القيامة، وملائكة ركوعًا وخشوعًا من يوم خلقهم إلى يوم القيامة، وملائكة سجودًا منذ خلقهم إلى يوم القيامة، فإذا كان يوم القيامة تجلى لهم تبارك وتعالى فينظرون إلى وجهه الكريم، فإذا نظروا إلى وجهه الكريم قالوا: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك (¬2). وأخرج نحوه أيضًا عن عدي بن أرطأة عن رجل من الصحابة، مرفوعًا وفيه: فإذا كان يوم القيامة تجلى لهم ربهم فينظرون إليه، قالوا: سبحانك ما عبدناك كما ينبغي لك (¬3). وفى الدارقطني مرفوعًا: إذا كان يوم القيامة رأى المؤمنون ربهم عز وجل، ¬
ترجيح عموم رؤيته تعالى لكل من دخل الجنة
فأحدثهم عهدًا بالنظر إليه في كل جمعة. ويراه المؤمنات يوم الفطر ويوم الأضحى (¬1) -أي في مثل ذلك-. وقد نص أبو الحسن الأشعري في الإبانة على أن الملائكة يرون ربهم يوم القيامة (¬2). وجزم بهذا جمع محققون منهم الإمام المحقق ابن القيم، والجلال السيوطي، والبلقيني (¬3). قال الحافظ السيوطي: وهو أرجح بلا شك (¬4). ومال البلقيني إلى ثبوتها لمؤمنى الجن -أيضًا- وهو اللائق بكرمه تعالى (¬5). قلت: التحقيق ثبوت رؤيته تعالى لكل من دخل الجنة. وقد أخرج الآجري عن عكرمة قال: قيل لابن عباس رضي اللَّه عنهما كل من يدخل الجنة يرى اللَّه تعالى، قال: نعم (¬6). ¬
وأخرج أبو نعيم في الحلية عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما قال: تلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- هذه الآية: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف: 143] قال يا موسى إنه لن يراني حي (¬1) إلا مات، ولا يابس إلا تدهده (¬2) ولا رطب إلا تفرق، وإنما يراني أهل الجنة الذين لا تموت أعينهم، ولا تبلى أجسادهم (¬3). وأما رؤية الباري في الموقف، فتحصل حتى لمنافقى هذه الأمة، بل زعم جماعة أنها تحصل في الموقف حتى للكافرين ثم يحجبون (¬4). وباللَّه التوفيق. قال الناظم -روح اللَّه روحه- (وقد ينكر الجهمي) أي المعتقد اعتقاد جهم بن صفوان، ومن وافقهم من المعطلة، والقرامطة، والباطنية، والفلاسفة، وذويهم (أيضًا): مصدر آض يئيض أيضًا إذا رجع أي مع إنكاره لرؤيته تعالى وتجليه لعباده ¬
الكلام علي بعض الصفات الخبرية وذكر مذاهب بعض الفرق
المؤمنين في دار كرامته ينكر يمينه تعالى وتقدس. وكلتا يديه تبارك وتعالى (الواو) ابتدائية وكلتا مبتدأ، ويديه مضاف (¬1) إليه و (بالفواضل): جمع فاضلة وهي النعم الجسيمة والأيادى الجميلة، وفواضل المال ما يأتيك من غلته ومرافقه. ولذا قيل: إذا عزب المال قلت فواضله (¬2). متعلق (¬3) بقوله: (تنضح) بفتح التاء المثناه فوق مبنيًا للفاعل من النضح، وهو الرش والسقي، يقال: نضح النخل إذا سقاها بالسانية ونضح الحلة نثر ما فيها والمراد تنعم وتعطي الكثير والقليل، والجملة خبر المبتدأ، والجملة من عند قوله: وكلتا يديه حالية. وينكر الجهمي أيضًا سائر صفاته الخبرية (¬4) من الوجه والعين واليد ونحوها مما أضيف إلى اللَّه تعالى مما وردت به الآيات والأحاديث، مما يوهم التشبيه والتجسيم (¬5) تعالى اللَّه عن ذلك علوًا كبيرًا، فإن اللَّه تعالى مخالف لجميع الحوادث فذاته لا تشبه الذوات، وصفاته لا تشبه الصفات، فلا يشبهه شيء من خلقه، ولا يشبه هو شيئًا من خلقه، بل هو منفرد عن جميع المخلوقات، ليس كمثله شيء لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، له الوجود المطلق، فلا يتقيد بزمان، ولا ¬
يتخصص بمكان (¬1) فكل ما توهمه الخيال أو سنح بالبال من حسن أو بهاء، أو جمال، أو شبح، أو نور، أو ضباء، أو مثال، فهو بخلاف ذي العزة والعظمة والجلال، إذا توهمته الأوهام هلكت، وإذا تخيلته الأفهام والعقول أفكت. فطريق إثبات صفاته المقدسة السمع فنثبتها لورودها، ولا نعطلها، ولا نكيفها، ولا نمثلها، فمذهب السلف: إثبات بلا تمثيل وتنزيه بلا تعطيل. وهناك طائفة غلت في النفي فعطلته محتجين بأن الإشتراك في صفة من صفات الإثبات يوجب الإشتباه حتى زعموا أنه سبحانه لا يوصف بالوجود، بل يقال إنه ليس بمعدوم، ولا يوصف بأنه حي، ولا قادر، ولا عالم، بل يقال: إنه ليس بميت، ولا عاجز، ولا جاهل. وهذا مذهب أكثر الفلاسفة والباطنية ونحوهم. وغلت طائفة أخرى في الإثبات فشبهته حتى أثبتوا له الصورة والجوارح حتى أن الهاشمية (¬2) من غلاة الرافضة زعموا -كما قال ¬
القرطبي- (¬1) أن معبودهم سبعة أشبار بشبر نفسه. وقالت الكرامية (¬2): إنه جسم، وبالغ بعض هؤلاء، فزعم أنه على صورة الإنسان، فمنهم من زعم أنه على صورة شيخ أشمط الرأس واللحية، ومنهم من زعم أنه على صورة شاب أمرد جعد قطط، ومنهم من زعم أنه مركب من لحم ودم، ومنهم من زعم أنه على مقدار مسافة العرش لا يفضل أحدهما على الآخر شيء -تعالى اللَّه عن قول هولاء الفرق علوًا كبيرًا- فإن هذا غلو بارد، وقد نهى اللَّه تعالى عن مثل هذا بقوله: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} [النساء: 171] (¬3). قال شيخ الإسلام ابن تيمية -قدس اللَّه روحه- أول من قال إن اللَّه جسم: هشام بن الحكم الرافضي (¬4) انتهى. وإليه تنسب الطائفة الهاشمية من غلاة الرافضة، قالوا: إن اللَّه تعالى وتقدس عن قولهم، طويل عريض عميق متساو كالسبيكة البيضاء يتلألأ من كل جانب، وله لون وطعم ورائحة وقالوا ويقوم ويقعد، ويعلم ما تحت الثرى بشعاع ينفصل عنه ¬
حكاية مذهب السلف عن الخطابي
إليه، قالوا إنه سبعة أشبار بشبر نفسه مماس للعرش بلا تفاوت وإرادته هي حركته لا عينه ولا غيره، وقالوا إنما يعلم الأشياء بعد كونها بعلم لا قديم ولا حادث وكلامه صفة له لا قديم ولا مخلوق (¬1) وهؤلاء كفار. وباللَّه التوفيق. وفرقة أخرى أثبتت ما أثبته السمع من نحو سميع بصير عليم قدير وامتنعت من إطلاق السمع والبصر والعلم والقدرة، وهم المعتزلة فيثبتون الأسماء دون الصفات. وفرقة أخرى أثبتت الصفات المعنوية من الحياة والقدرة والإرادة والسمع والبصر والعلم والكلام، وهم الأشاعرة، والماتريدية ومن نحا منحاهم من أهل السنة (¬2) من أتباع الأربعة الأئمة وهؤلاء الصفاتية، ثم اختلفوا فيما ورد به السمع من لفظ اليد والعين والوجه ونحوها ففرفة أولتها وهم جمهور المتكلمين من الخلف. وفرقة أثبتت ما أثبته اللَّه تعالى ورسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- من ذلك وأجروها على ظواهرها، ونفوا الكيفية والتشبية عنها قائلين: إن إثبات الباري سبحانه وتعالى، إنما هو إثبات وجود لا إثبات تحديد، وتكييف، فإذا قلنا يد ووجه وسمع وبصر، فإنما هي صفات أثبتها اللَّه تعالى لنفسه، فلا نقول إن معنى اليد القوة والنعمة، ولا معنى السمع والبصر العلم، ولا نقول إنها جوارح. ¬
وهذا هو مذهب السلف كما نقله الخطابي (¬1) وغيره، ومنهم الأئمة الأربعة، وبهذا المذهب قال الحنابلة والحنفية وكثير من الشافعية وغيرهم. وهو إجراء آيات الصفات وأحاديثها على ظاهرها مع نفى الكيفية والتشبيه عنها محتجين بأن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات، فإذا كان إثبات الذات إثبات وجود، لا إثبات تكييف، فكذلك إثبات الصفات اثبات وجود، لا إثبات تكييف، وقالوا: لا نلتفت في ذلك إلى تأويل، لأنا لسنا منه على ثقة ويقين لاحتمال عدم إرادته (أنه) (¬2) مأخوذ بطريق الظن والتجويز، لا على سبيل القطع والتحقيق، فلا ينبني الاعتقاد على مثل ذلك. قال الإمام القاضي أبو يعلى (¬3) -قدس اللَّه روحه- في كتابه: "إبطال التأويل" (¬4) لا يجوز رد هذه الأخبار، ولا التشاغل بتأويلها، والواجب حملها على ظاهرها، وأنها صفات اللَّه تعالى لا تشبه صفات الخلق، ولا نعتقد التشبيه فيها. لكن على ما روى عن الإمام أحمد وسائر الأئمة رضي اللَّه عنهم وذكر ¬
بعض كلام الزهري (¬1)، ومكحول (¬2)، ومالك بن أنس (¬3)، والثوري (¬4)، والليث (¬5)، وحماد بن زيد (¬6)، وحماد بن سلمة (¬7)، وابن عيينة (¬8)، والفضيل بن عياض (¬9)، ووكيع (¬10)، وعبد الرحمن بن مهدي (¬11)، وإسحق بن راهويه (¬12)، وأبي عبيد (¬13)، ومحمد بن جرير الطبري (¬14)، وغيرهم في هذا الباب. ¬
حكاية مذهب السلف عن ابن عبد البر
إلى أن قال: ويدل على إبطال التأويل أن الصحابة والتابعين لهم بإحسان حملوها على ظواهرها، ولم يتعرضوا لتأويلها، ولا صرفها عن ظواهرها، فلو كان التأويل سائغًا لكانوا إليه أسبق لما فيه من إزالة غبار التشبيه ورفع الشبهة. انتهى (¬1). قال القرطبي: قال الإمام الترمذي (¬2) بعد ذكره حديث: "ما تصدق أحد بصدقة إلا أخذها الرحمن في يمينه. . . " (¬3). "وقد قال غير واحد من أهل العلم في هذا الحديث، وما أشبهه من الروايات من الصفات ونزول الرب تبارك وتعالى كل ليلة إلى سماء الدنيا نثبت الروايات في هذا ونؤمن بها، ولا نتوهم، ولا يقال كيف، هكذا روى عن مالك بن أنس وسفيان بن عيينة وعبد اللَّه بن المبارك، وهذا قول أهل العلم من أهل السنة والجماعة، وأما الجهمية فأنكرت هذه الروايات، وقالت هذا تشبيه. وفد ذكر اللَّه تعالى في غير موضع من كتابه اليد ونحوها فتأولت الجهمية هذه الصفات وفسروها على غير ما فسر أهل العلم فقالوا إن اللَّه لم يخلق آدم بيده، وقالوا معنى اليد هنا القدرة" (¬4). وقال ابن عبد البر: (¬5) "أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة ¬
تأويل الأشعرية لصفة اليدين
كلها في القرآن والسنة والإيمان بها وحملها على الحقيقة، لا على المجاز إلا أنهم لا يكيفون شيئًا من ذلك، ولا يحدون فيه صفة مخصوصة. قال وأما الجهمية والمعتزلة كلها والخوارج فكلهم ينكرها ولا يحمل شيئًا منها على الحقيقة، ويزعمون أن من أقرَّ بها مشبه -وهم عند من أقرَّ بها نافون للمعبود- قال والحق فيما قاله القائلون بما نطق به كتاب اللَّه وسنة رسوله وهم أئمة الجماعة (¬1) " إنتهى كلام ابن عبد البر إمام المغرب في عصره. وقال القرطبي: قال إسحق بن إبراهيم (¬2) إنما يكون التشبيه إذا قال يد كيدي أو مثل يدي، أو سمع كسمعي، أو مثل سمعي، فهذا الشبيه، وأما إذا قال للَّه سمع وبصر ولا يقول كيد ولا مثل سمع، ولا كسمع فهذا لا يكون تشبيهًا وهو كما قال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] (¬3). وقد قال تعالى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: 10]، {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75]، {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64]، {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} [يس: 71]، {قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ} [آل عمران: 73]. قال أبو الحسن الأشعري: "اليد صفة ورد بها الشرع، قال والذي يلوح من معنى هذه الصفة أنها قريبة من معنى القدرة إلا أنها أخص منها والقدرة أعم كالمحبة مع الإرادة والمشيئة فإن في اليد تشريفًا لازمًا" (¬4). ¬
وقالت المعتزلة وطائفة من الأشعرية. . . (¬1) إن المراد باليدين في قوله تعالى: {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75] يعني النعمتين. وطائفة من الأشعرية أن المراد باليدين القدرة لأن اليد في اللغة عبارة عن القدرة كقول الشاعر (¬2): فقمت ومالي بالأمور يدان. قالوا: ويوضح هذا أن الخلق من جهة اللَّه إنما هو مضاف إلى قدرته لا إلى يده ولهذا يستقل في إيجاد الخلق بقدرته ويستغني عن يد وآلة يفعل بها مع قدرته وقوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64] ثنى اليد مبالغة في الرد على اليهود، ونفى البخل عنه، وإثباتًا لغاية الجود، فإن غاية ما يبذل السخي من ماله أن يعطيه بيده، وتنبيهًا على منح الدنيا والآخرة، والمراد بالتثنية باعتبار نعمة الدنيا ونعمة الآخرة، أو باعتبار قوة الثواب وقوة العقاب (¬3). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
مذهب السلف في المراد باليدين
ومذهب سلف الأمة وكبار الأئمة والحنابلة ومن نحا نحوهم أن المراد إثبات صفتين ذاتيتين يسميان يدين يزيدان على النعمة والقدرة، محتجين بأن اللَّه تعالى أثبت لآدم عليه السلام من المزية والإختصاص ما لم يثبت مثله لأبليس بقوله: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} وإلا فكان إبليس يقول: وأنا أيضا خلقتني بيديك، فلا مزية لآدم ولا تشريف. (فإن قيل) (¬1) إنما أضيف ذلك إلى آدم ليوجب له تشريفًا وتعظيمًا على إبليس، ومجرد النسبة في ذلك كاف في التشريف كناقة اللَّه وبيت اللَّه فهذا كاف في التشريف، وإن كانت النوق والبيوت كلها للَّه. فالجواب: ما قالوه إن التشريف بالنسبة إذا تجردت عن إضافة إلى صفة اقتضى مجرد التشريف، فأما النسبة إذا اقترنت بذكر صفة، أوجب ذلك إثبات الصفة التي لولاها ما تمت النسبة. فإن قولنا خلق اللَّه (الخلق) (¬2) بقدرته لما نسب الفعل إلى تعلقه بصفة اللَّه اقتضى ذلك إثبات الصفة، وكذلك أحاط الخلق بعلمه يقتضى إحاطته بصفة هي العلم، فكذلك هنا لما كان ذكر التخصيص مضافًا إلى صفة وجب إثبات تلك الصفة على وجه يليق به سبحانه لا بمعنى العضو والجارحة والجسمية والبعضية والكمية والكيفية تعالى اللَّه عن ذلك. وأيضا لو أراد باليد النعمة لقال: لما خلقت ليدي لأنه خلق لنعمته، لا بنعمته، وأيضا فقدرة اللَّه واحدة، لا تدخلها التثنية والجمع. ¬
قال الإمام البغوي (¬1) في قوله: بيدي: في تحقيق اللَّه التثنية في اليد دليل على أنها ليست بمعنى القدرة والقوة والنعمة وأنهما صفتان من صفات ذاته (¬2). ومن هذا النمط القبضة واليمين في قوله تعالى: {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67]. وفي الصحيحين وغيرهما يقبض اللَّه الأرض يوم القيامة ويطوي السماء بيمينه، ثم يقول: أنا الملك أين ملوك الأرض (¬3). وحديث مسلم: يطوي اللَّه السموات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى (¬4). . . الحديث (¬5). وحديث مسلم أيضًا: "يأخذ اللَّه سمواته وأرضه (بيديه) (¬6) فيقول أنا اللَّه ويبسطها أنا الملك" (¬7). ¬
الكلام على صفة اليدين
وأشار الناظم رحمه للَّه ورضي عنه بقوله: وكلتا يديه بالفواضل (تنضح إلى ما ورد في صحيح مسلم وغيره: "إن المقسطين عند اللَّه يوم القيامة على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا" (¬1). قال النووي (¬2): "هو من أحاديث الصفات إما نؤمن بها، ولا نتكلم بتأويل، ونعتقد أن ظاهرها غير مراد، وأن لها معنى يليق باللَّه تعالى أو تأويل على أن المراد بكونهم على اليمين: على الحالة الحسنة والمنزلة الرفيعة. وقوله: كلتا يديه يمين فيه تنبيه على أنه ليس المراد باليمين الجارحة وأن يديه تعالى بصفة الكمال لا نقص في واحدة منهما لأن الشمال تنقص عن اليمين (¬3). وقال بعضهم قد تكون اليمين بمعنى التبجيل والتعظيم، يقال: فلان عندنا ¬
باليمين، أي بالمحل الجليل ومنه قول الشاعر (¬1): أقول لناقتي إذ بلغتنى ... لقد أصبحت عندي باليمين أي بالمحل الرفيع. وكذلك (¬2) قوله -صلى اللَّه عليه وسلم- في الحديث الصحيح: "يمين اللَّه ملآى لا يغيضها نفقه سحاءَ الليل والنهار أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض، فإنه لم يغض ما في يمينه وعرشه على الماء، وبيده الأخرى القسط يرفع ويخفض" (¬3). وهذه أحاديث كلها صحيحة. ولما خلق اللَّه تعالى آدم ويداه مقبوضتان قال له: اختر أيهما شئت، قال: اخترت يمين ربي وكلتا يدي ربي يمين مباركة (¬4). قال البيهقي: أما المتقدمون من هذه الأمة، فإنهم لم يفسروا هذه الآيات والأحاديث في هذا الباب (¬5). ¬
وكذلك قال في الإستواء على العرش وسائر الصفات الخبرية مع أنه يحكى قول بعض المتاخرين (¬1). وحكى الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية قدس اللَّه روحه في الحموية الكبرى (¬2)؛ عن الإمام المحقق أبي بكر الباقلاني (¬3) المتكلم قال: وهو أفضل المتكلمين المنتسبين إلى أبي حسن الأشعري في كتابه: "الإبانه في أصول الديانة" فإن قال قائل: فما الدليل على أن للَّه وجهًا ويدًا؟ قيل له قوله قوله تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 27]، وقوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75]. فأثبت لنفسه وجهًا ويدًا. فإن قال قائل: فبما أنكرتم أن يكون وجهه ويده جارحه إذا كنتم لا تعقلون وجهًا ويدًا إلا جارحة؟ ¬
نقل من كلام شيخ الإسلام حول ظواهر النصوص المتعلقة بالصفات
قلنا: لا يجب إذا لم نعقل حيًّا عالمًا قادرًا إلَّا جسما أن نقضي نحن وأنتم بذلك على اللَّه سبحانه، وكما لا يجب في كل شيء كان قائمًا بذاته أن يكون جوهرًا لأنا وإياكم لا نجد قائمًا بنفسه في شاهدنا إلا كذلك، قال وكذلك الجواب لهم إن قالوا فيجب أن يكون علمه وحياته وسمعه وبصره وسائر صفاته عرضًا (¬1). انتهى. قال شيخ الإسلام في التدمرية: (¬2) "إذا قال القائل ظاهر النصوص مراد أو غير مراد؟ فالجواب أن لفظ الظاهر فيه إجمال واشتراك، فإن كان القائل يعتقد أن ظاهرها التمثيل بصفات المخلوقين، أو ما هو من خصائصهم، فلا ريب أن هذا غير مراد. ولكن السلف والأئمة لم يكونوا يسمون هذا ظاهرها ولا يرتضون أن يكون ظاهر القرآن والحديث كفرًا وباطلًا، واللَّه تعالى أعلم وأحكم من أن يكون كلامه الذي وصف به نفسه لا يظهر منه إلا ما هو كفر وإضلال والذين يجعلون ظاهرها ذلك يغلطون من وجهين تارة يجعلون المعنى الفاسد ظاهر اللفظ حتى يجعلوه محتاجًا إلى تأويل يخالف الظاهر، ولا يكون كذلك وتارة يردون المعنى الحق الذي هو ظاهر اللفظ لاعتقادهم أنه باطل. ¬
كما قالوا في الحديث القدسي في قوله تعالى: (عبدي جعت فلم تطعمني. .) (¬1). وفي الأثر الآخر: "الحجر الأسود يمين اللَّه في الأرض، فمن صافحه وقبله، فكأنما صافح اللَّه وقبل يمينه" (¬2). وقوله: "قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن" (¬3). فقالوا: قد علم أن ليس في قلوبنا أصابع الحق، فيقال لهم لو أعطيتم النصوص حقها من الدلالة لعلمتم أنها لم تدل إلا على حق. أما الواحد فقوله: الحجر الأسود يمين اللَّه في الأرض فمن صافحه وقبله فكأنما صافح اللَّه وقبل يمينه صريح في أن الحجر ليس هو صفة اللَّه ونفس يمينه لأنه قال: يمين اللَّه في الأرض، وقال: فمن قبله وصافحه فكأنما صافح اللَّه وقبل يمينه. ومعلوم أن المشبه ليس هو المشبه به ففي نفس الحديث بيان أن مستلمه ليس مصافحًا للَّه، وأنه ليس هو نفس يمينه فكيف يجعل ظاهره كفرًا، أو أنه محتاج إلى التأويل. ¬
مع أن هذا الحديث إنما يعرف عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما. وأما الحديث الآخر فهو في الصحيح مفسرًا يقول اللَّه: "عبدي جعت فلم تطعمني، فيقول رب كيف أطعمك وأنت رب العالمين، فيقول: أما علمت أن عبدي فلانًا جاع، فلو أطعمته لوجدت ذلك عندي. عبدي مرضت فلم تعدني، فيقول رب كيف أعودك وأنت رب العالمين؟، فيقول: أما علمت أن عبدي فلانًا مرض فلو عدته لوجدتني عنده". وهذا صريح في أن اللَّه تعالى وتقدس لم يجع ولم يمرض، ولكن جاع عبده ومرض فجعل جوعه جوعه، ومرضه مرضه، مفسرًا ذلك بأنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي، ولو عدته لوجدتني عنده، فلم يبق في الحديث لفظ يحتاج إلى تأويل، وأما قوله: "قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن" فإنه ليس في ظاهره أن القلب متصل بالإصبع، ولا مماس لها، ولا أنها في جوفه، ولا في قول القائل: هذا بين يدى ما يقتضي مباشرته ليديه، وإذا قيل السحاب المسخر بين السماء والأرض لم يقتض أن يكون مماسًا للسماء والأرض، ونظائر هذا كثيرة. ومما يشبه هذا أن جعل اللفظ نظيرًا لما ليس مثله كما قيل في قوله: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75]. فقيل هو مثل قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا} [يس: 71]. فهذا ليس مثل مذا لأنه هنا أضاف الفعل إلى الأيدى فصار شبيهًا بقوله: {مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ} [البقرة: 79]. وهناك أضاف الفعل إليه فقال: {لِمَا خَلَقْتُ} ثم قال {بِيَدَيَّ} وأيضًا فإنه هنا ذكر نفسه المقدسة بصيغة المفرد، وفى اليدين ذكر لفظ التثنية كما في قوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64].
وهناك أضاف الأيدي إلى صيغة الجمع فصار كقوله: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر: 14] وهذا في الجمع نظير قوله: {بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الملك: 1] و {بِيَدِكَ الْخَيْرُ} [آل عمران: 26] في المفرد فاللَّه سبحانه يذكر نفسه تارة بصيغة المفرد، مظهرًا أو مضمرًا، وتارة بصيغة الجمع كقوله تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح: 11] وأمثال ذلك. ولا يذكر نفسه بصيغة التثنية قط، لأن صيغة الجمع تقتضي التعظم الذي يستحقه وربما تدل على معانى أسمائه، وأما صيغة التثنية فتدل على العدد المحصور وهو مقدس عن ذلك فلو قال: (ما منعك أن تسجد لما خلقت يدى) (¬1) كان (¬2) كقوله: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} وهو نظير قوله: {بِيَدِهِ الْمُلْكُ} و {بِيَدِكَ الْخَيْرُ} ولو قال خلقت (بيدي) (¬3) بصيغة الإفراد لكان. . . (¬4) مع دلالة الأحاديث المستفيضة بل المتواترة وإجماع السلف على مثل ما دل عليه القرآن مثل قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "المقسطون عند اللَّه على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين" (¬5) كما تقدم وأمثال ذلك. قال وإن كان القائل يعتقد أن ظاهر النصوص المتنازع في معناها من جنس ظاهر النصوص المتفق على معناها والظاهر هو المراد في الجميع فإن اللَّه تعالى لما أخبر أنه بكل شيء عليم وأنه على كل شيء قدير. واتفق أهل السنة وأئمة المسلمين على أن هذا ظاهره، وأن ظاهر ذلك مراد كان ¬
من المعلوم أنهم لم يريدوا بهذا الظاهر أن يكون علمه كعلمنا، وقدرته كقدرتنا، وكذلك لما اتفقوا على أنه حي حقيقة، عالم حقيقة، قادر حقيقة، لم يكن مرادهم أنه مثل المخلوق الذي هو حي عليم قدير. فكذلك إذا قالوا في قوله: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54]، {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [البينة: 8]، وقوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الفرقان: 59] إنه على ظاهره لم يقتض ذلك أن يكون ظاهره استواء كاستواء المخلوق (¬1) ولا حبًا كحبه ولا رضًا كرضاه. فإن كان المستمع يظن أن ظاهر الصفات يماثل صفات المخلوقين لزمه أن لا يكون شيء من ظاهر ذلك مراد وإن كان يعتقد أن ظاهرها مما يليق بالخالق ويختص به لم يكن له نفي هذا الظاهر ونفي أن يكون مرادًا إلا بدليل يدل على النفي وليس في العقل ولا السمع ما ينفي هذا إلا من جنس ما ينفي به سائر الصفات. فيكون الكلام في الجميع واحدًا. وبيان هذا أن صفاتنا منها ما هي أعيان وأجسام وهى أبعاض لنا كالوجه واليد، ومنها ما هو معان وأعراض وهى قائمة بنا كالسمع والبصر والعلم والكلام والقدرة. ثم من المعلوم أن الرب لما وصف نفسه بأنه حي عليم قدير لم يقل المسلمون إن ظاهر هذا غير مراد لأن مفهوم ذلك في حقه مثل مفهومه في حقنا، فكذلك لما وصف نفسه بأنه خلق آدم بيده، لم يوجب ذلك أن يكون ظاهره غير مراد، لأن مفهوم ذلك في حقه تعالى كمفهومه في حقنا، بل صفة الموصوف تناسبه، فإذا كانت ذاته المقدسة ليست مثل ذوات المخلوقين، فصفاته تعالى كذاته ليست ¬
الكلام على صفة النزول
كصفات المخلوقين، ونسبة صفة المخلوق إليه كنسبة صفة الخالق إليه، وليس المنسوب كالمنسوب، ولا المنسوب إليه كالمنسوب إليه، كما قال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ترون ربكم كما ترون الشمس والقمر" فشبه الرؤية بالروية لا المرئي بالمرئي (¬1). انتهى. ثم أشار الناظم رحمه اللَّه تعالى إلى صفة النزول اللائق بذات اللَّه المقدسة وعظمته المنزهة، فقال: (وقل) أي اعتقد أيها الأثري ودن أيها السني بالنزول الإلهي على حسب ما يليق بذاته العلية، وصفاته الخبرية، كما ثبتت بذلك الأخبار وصحت به الآثار، غير ملتفت لسفساف (¬2) يتشدق (¬3) ولا جهمي يتودق (¬4) ولا ملحد يتزندق. (ينزل) الملك الجبار نزولًا يليق بذاته بلا تشبيه، ولا تكييف، ولا تمثيل، ولا تحريف. و (الجبار): اسم من أسمائه الحسنى: وهو الذي جبر الخلق على ما أراد من أمره (¬5) كذا قيل والحق أنه الذي جبر مفاقر الخلق وكفاهم أسباب المعاش والرزق، ¬
ومنه قولهم: جبرت الكسر إذا أصلحته (¬1). وقيل الجبار: العالي فوق خلقه من قولهم: تجبر النبات إذا طال وعلا (¬2). والجبار في صفة اللَّه تعالى صفة مدح، وفي الخلق صفة ذم، لأنهم تحت القهر والمشيئة فعلى العبد أن لا يتجبر على غيره من عباد اللَّه تعالى -كما في "تحفة العباد في أدلة الأوراد"- للعلامة أبي بكر بن أبي داود (¬3) الحنبلي تلميذ المحقق ابن القيم (¬4) رحمهم اللَّه تعالى، من أعيان المائة الثامنة. وقال ابن الأثير (¬5) في النهاية في أسماء اللَّه تعالى: الجبار: ومعناه الذي يقهر العباد على ما أراد من أمر ونهي، يقال: جبر الخلق وأجبرهم قال وأجبر أكثر، وقيل: هو العلي فوق خلقه وفعال من أبنية المبالغة ومنه قولهم: نخلة جبارة، وهي ¬
نقل نصوص عن السلف حول النزول
العظيمة التي تفوت يد المتناول. وفي حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه: يا أمة الجبار (¬1) وإنما أضافها إلى الجبار دون باقي أسماء اللَّه تعالى لاختصاص الحال التي كانت عليها من اظهار العطر والبخور والتباهي به والتبختر في المشى ومنه الحديث في ذكر النار: حتى يضع الجبار فيها قدمه (¬2). قال ابن الأثير المشهور في تأويله أن المراد بالجبار اللَّه تعالى ويشهد له قوله في الحديث الآخر: حتى يضع فيها رب العزة قدمه (¬3). وفي الحديث: "سبحان ذي الجبروت والملكوت" (¬4) هو فعلوت من الجبر أي القهر (¬5). وقول الناظم (في كل ليلة) أي من الليالي فلا يختص بليلة دون أخرى (بلا كيف) فلا يتوهم أن لنزولة كيفًا. ¬
روى أبو بكر الأثرم (¬1) عن الغضيل بن عياض (¬2) رحمهما اللَّه تعالى قال: ليس لنا أن نتوهم في اللَّه كيف وكيف لأن اللَّه تعالى وصف فأبلغ فقال: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص: 1 - 2]. فلا صفة أبلغ مما وصف به نفسه، وكل هذا النزول والضحك والمباهات كما شاء أن ينزل، وكما شاء أن يضحك فليس لنا أن نتوهم كيف وكيف، وإذا قال لك الجهمي أنا أكفر برب ينزل، فقل أنت أنا أؤمن برب يفعل ما يشاء (¬3). وقال الإمام البخاري (¬4) في كتاب: "خلق أفعال العباد" من صحيحه: (¬5) قال الفضيل بن عياض إذا قال لك الجهمي أنا أكفر برب يزول عن مكانه، فقل أنا أؤمن برب يفعل ما يشاء (¬6). ¬
قال البخاري: وحدث (¬1) يزيد بن هارون (¬2) عن الجهمية فقال: "من زعم أن (الرحمن على العرش استوى) على خلاف (ما يَقِر) (¬3) في قلوب العامة فهو جهمي (¬4). ¬
وروى الخلال (¬1) عن سليمان بن حرب (¬2) (قال) (¬3) سأل بشر بن السري (¬4) حماد بن زيد (¬5) فقال: يا أبا إسماعيل الحديث ينزل اللَّه إلى السماء الدنيا يتحول من مكان إلى مكان فسكت حماد بن زيد ثم قال: هو على عرشه يقرب من خلقه كيف شاء (¬6). قال شيخ الإسلام ابن تيمية -قدس اللَّه روحه- في شرح العقيدة الأصفهانية: (¬7) وهذا هو الذي نقله الأشعري في كتاب المقالات عن أهل السنة والحديث فقال: ويصدقون بالأحاديث التي جاءت عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ويأخذون بالكتاب والسنة (¬8). وقال أبو عثمان النيسابوري (¬9) الملقب بشيخ الإسلام في رسالته المشهورة في ¬
السنة (¬1) "ويثبت أهل الحديث نزول الرب سبحانه وتعالى في كل ليلة إلى السماء الدنيا من غير تشبيه له بنزول المخلوقين، ولا تمثيل، ولا تكييف، بل يثبتون له ما أثبته له رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وينتهون فيه إليه ويمرون الخبر الصحيح الوارد بذكره على ظاهره ويكلون علمه إلى اللَّه تعالى. وكذلك يثبتون ما أنزل اللَّه في كتابه من ذكر المجيء (¬2) والإتيان في ظلل من الغمام والملائكة (¬3). وقال (¬4) سمعت الحاكم أبا عبد اللَّه (¬5) الحافظ يقول: سمعت أبا (زكريا) (¬6) يحيى بن (محمد) (¬7) العنبري يقول: سمعت إبراهيم ¬
ابن أبي طالب (¬1) سمعت أحمد بن سعيد الرباطي (¬2) يقول: حضرت مجلس الأمير عبد اللَّه بن طاهر (¬3) ذات يوم وحضر إسحاق بن إبراهيم (¬4) -يعني ابن راهويه- فسئل عن حديث النزول صحيح هو؟ فقال: نعم فقال بعض قواد عبد اللَّه: يا أبا يعقوب أتزعم أن اللَّه ينزل في كل ليلة؟ قال: نعم. قال: كيف ينزل؟ قال: أثبته فوق حتى أوصف لك النزول. فقال الرجل: أثبته فوق. فقال إسحق، قال اللَّه عز وجل: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر: 22] فقال له الأمير عبد اللَّه بن طاهر: يا أبا يعقوب هذا يوم القيامة. فقال إسحق: أعز اللَّه الأمير من يجيء يوم القيامة من يمنعه اليوم (¬5). وروى بإسناده عن إسحق أيضًا. قال: قال لي الأمير عبد اللَّه ابن طاهر: يا أبا يعقوب هذا الحديث الذي تروونه عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- "ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا" كيف ينزل؟ قال: قلت أعز اللَّه الأمير لا يقال لأمر الرب كيف ينزل، إنما ينزل بلا كيف (¬6). ¬
وروى بإسناده عن عبد اللَّه بن المبارك (¬1) رضي اللَّه عنه أنه سأله سائل عن النزول ليلة النصف من شعبان (¬2) فقال عبد اللَّه: يا ضعيف ليلة النصف وحدها ينزل في كل ليلة، فقال الرجل: يا أبا عبد الرحمن كيف ينزل؟ أليس يخلو ذلك المكان؟ فقال عبد اللَّه بن المبارك: ينزل كيف شاء (¬3). قال أبو عثمان النيسابوري: "فلما صح خبر النزول عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أقر به أهل السنة، وقبلوا الحديث، وأثبتوا النزول على ما قاله رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ولم يعتقدوا تشبيها له بنزول خلقه وعلموا وعرفوا واعتقدوا وتحققوا أن صفات الرب تعالى لا تشبه صفات الخلق، كما أن ذاته لا تشبه ذوات الخلق. سبحانه وتعالى عما تقول المشبهة والمعطلة علوًا كبيرًا" (¬4). وروى الإمام الحافظ البيهقي (¬5) بإسناده عن إسحاق بن راهويه، قال: جمعني أنا وهذا المبتدع -يعني ابن صالح- مجلس الأمير عبد اللَّه بن طاهر فسألني الأمير عن أخبار النزول (فسردتها) (¬6). فقال إبراهيم بن صالح (¬7) كفرت برب ينزل من سماء إلى سماء، ¬
فقلت: آمنت برب يفعل ما يشاء، فرضى عبد اللَّه كلامي وأنكر على إبراهيم (¬1). وقال حرب بن إسماعيل الكرماني (¬2) في كتابه المصنف في مسائل الإمام أحمد وإسحاق قال: مذهب أئمة العلم وأصحاب الأثر المعروفين المقتدى بهم في السنة قال: وأدركت من أدركت من علماء العراق والحجاز والشام عليها، فمن خالف شيئًا منها، أو طعن فيها، أو عاب قائلها، فهو مبتدع، خارج عن الجماعة زائل عن سبيل السنة ومنهج الحق. قال وهو مذهب الإمام أحمد (¬3)، وإسحق بن إبراهيم (¬4) وبقي بن مخلد (¬5)، ¬
وعبد اللَّه بن الزبير الحميدي (¬1)، وسعيد بن منصور (¬2) وغيرهم ممن جالسنا وأخذنا عنهم العلم، فذكر الكلام في الإيمان والقدر والوعيد والإمامة وما أخبر به الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- من أشراط الساعة وأمر البرزخ وغير ذلك. . إلى أن قال واللَّه تعالى يعطي ويمنع وينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا كيف شاء متكلمًا عالمًا تبارك اللَّه أحسن الخالقين (¬3). وقال شيخ الإسلام في التدمرية: "إذا قال لك كيف ينزل ربنا إلى سماء الدنيا؟ قل كيف هو في ذاته؟ فإذا قال أنا لا أعلم كيفيته قيل له ونحن لا نعلم كيفية نزوله إذ العلم بكيفية الصفة يستلزم العلم بكيفية الموصوف، وهو فرع له وتابع له، فكيف تطالبني بكيفية سمعه وبصره وتكليمه واستوائه ونزوله وأنت لا تعلم كيفية ذاته، وإذا كنت تقر بأن له ذاتًا حقيقة ثابتة في نفس الأمر مستوجبة لصفات الكمال لا يماثلها شيء فسمعه وبصره وكلامه ونزوله واستواؤه هو ثابت في نفس الأمر وهو متصف بصفات الكمال التي لا يشابهه فيها سمع المخلوقين وبصرهم وكلامهم ونزولهم واستواؤهم قال وهذا الكلام لازم لهم في العقليات وفي تأويل السمعيات فإن من أثبت شيئًا ونفى شيئًا بالعقل إذا ألزم فيما نفاه من الصفات التي جاء بها الكتاب والسنة نظير ما يلزمه فيما أثبته (ولو) (¬4) طولب بالفرق بين المحذور في هذا ¬
تفسير معنى اسم الله "الواحد"
وهذا لم يجد بينهما فرقًا، ولهذا لا يوجد لنفاة بعض الصفات دون بعض -الذين يوجبون فيما نفوه إما التفويض وإما التأويل المخالف لمقتضى اللفظ- قانون مستقيم. فإذا قيل لهم لم تأولتم هذا وأقررتم هذا، والسؤال فيهما واحد لم يكن لهم جواب صحيح، فهذا تناقضهم في النفي، وكذلك تناقضهم في الإثبات، فإن من تأول النصوص على معنى من المعاني إلى يثبتها بأن صرفوا النص عن مقتضاه إلى معنى آخر لزمهم في المعنى المصروف إليه ما كان يلزمهم في المعنى المصروف عنه فمن تأول محبته ونحوها إلى الإرادة للثواب والعقاب كان ما يلزمه في الإرادة نظير ما يلزمه في نحو الحب" (¬1). (جل الواحد): أبي عظم في وحدانيته وفى الحديث: "ألظوا بياذا الجلال والإكرام" (¬2). وفي الحديث الآخر: "أجلوا اللَّه يغفر لكم" (¬3) أي قولوا يا ذا الجلال والإكرام". وقيل أراد عظموه. وجاء تفسيره في بعض الروايات: أي أسلموا والجليل هو الموصوف بنعوت ¬
الجلال وهو راجع إلى كمال الصفات كما أن الكبير راجع إلى كمال الذات والعظيم راجع إلى كمال الذات والصفات (¬1). والواحد: هو الفرد الذي لم يزل وحده، وقيل هو المعدوم الشريك والنظير، وليس هو كسائر الآحاد من الأجسام المؤلفة إذ كل شيء سواه يدعى واحدا فهو واحد من جهة غير واحد من جهات فإن اللَّه سبحانه الواحد الذي ليس كمثله شيء والواحد الذي لا يثنى من لفظه فلا يقال واحدان (¬2). والفرق بين الواحد والأحد، أن الواحد هو المنفرد بالذات والأحد هو المنفرد بالمعنى لا يشاركه فيها أحد. وإن الواحد في جنس المعدود يفتتح به العدد، وإن الأحد يصلح في الكلام في موضع الجحود، والواحد في موضع إثبات. وأما الوحيد فإنما يوصف به في غالب العرف المنفرد عن أصحابه المنقطع عنهم، فلا ينبغي إطلاقه على اللَّه تعالى (¬3) -كما في تحفة العباد- (¬4). ¬
وقال أيضا في الجليل: المستحق لجميع نعوت الجلال والكمال ومعناه منصرف إلى جلال القدر وعظم الشأن وهو الجليل الذي يصغر دونه كل جليل ويتضع معه كل رفيع (¬1). وقوله: (المتمدح) نعت للواحد وهو الذي يجب أن يمدح. قال في القاموس: "مدحه كمنعه مدحًا، ومدحه أحسن الثناء عليه كمدحه، وامتدحه وتمدحه والمدبح والمدحة والأمدوحة ما يمدح به وممدح كمحمد ممدوح جدًا وتمدح تكلف أن يمدح وافتخر" (¬2). والمراد أن اللَّه الواحد أسبغ على عباده من النعم ما يرجب المدح. وهو لغة الثناء باللسان على الجميل سواء كان اختياريًا أم اضطراريًا على جهة التعظيم والتبجيل. وعرفًا ما يدل على اختصاص الممدوح بنوع من الفصائل فهو أعم من الحمد لأن الحمد مختص بكرنه على الجميل الاختياري، يقال: مدحت زيدًا لحسنه، ولا يقال حمدته لأن الحسن ليس باختياري لزيد. قوله (إلى طبق الدنيا) متعلق بينزل الجبار تعالى وطبق الدنيا أي سماء الدنيا فإن الطبق بفتح الطاء المهملة والموحدة غطاء كل شيء (¬3). وفي الحديث: "للَّه مائة رحمة كل رحمة منها كطباق الأرض" (¬4) -أي كغشائها- (¬5). ¬
معنى: "يمن"
وفيه -أيضًا- "حجابه النور لو كشف طبقه لأحرق بسبحات وجهه كل شيء أدركه بصره" (¬1). قال في النهاية "الطبق كل غطاء لازم على الشيء" (¬2) ولا شك أن السماء غطاء للأرض، وكل سماء فهي غطاء لما تحتها. و (الدنيا): يعني القربية إلى الأرض، يقال دنى دنوا ودناؤه قرب كأدنى. والدنيا نقيض الآخرة. (يمن) أي يعطي ويحسن إلى من لا يستثيبه ولا يطلب الجزاء عليه (¬3) ومن أسمائه تعالى المنان وهو المنعم المعطي من المن وهو العطاء لا من المئة وهو من أبنية المبالغة كالسفاك والوهاب. وفي الحديث أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "ما أحدُ أمنُّ علينا من ابن أبي قحافة" (¬4) يعني الصديق الأعظم رضي اللَّه عنه، أي ما أحدٌ أجودُ بماله وذات يده. ¬
وقد يقع المنان على الذي لا يعطي شيئا إلا منة واعتد به على من أعطاه وهو مذموم لأن المنة تفسد الصنيعة (¬1) وليس هذا مرادًا هنا. وقوله: (بفضله) متحلق بيمن والفضل ضد النقص وجمعه فضول وقد فضل كنصر وعلم والفضيلة الدرجة الرفيعة في الفضل، وفضله تفضيلًا مزاه وتفضل تمزى أو تطول كأفضل عليه (¬2). (فتفرج) أي تكشف وتنشق وتنصدع. (أبواب) جمع باب وهو فرجة في ساتر يتوصل بها من داخل إلى خارج ومن خارج إلى داخل. (السماء وتفتح) تلك الأبواب لنزول المنح منها والرحمة والمغفرة وصعود العمل والدعاء وإجابته. وفيه رد على أهل الفلسفة القائلين بأن الأفلاك لا تقبل الخرق ولا الإلتئام، والقرآن مملؤ بخلاف زعمهم الباطل ونهجهم العاطل، فلا التفات لزعمهم، ولا اشتغال بافكهم. (يقول) الملك الجبار في نزوله إلى سماء الدنيا وتجليه (¬3): (ألا) أداة استفتاح أي للعرض والتحضيض، ومعناهما الطلب، لكن العرض طلب بلين كقوله تعالى: {أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور: 22] وكذا هو هنا. ¬
تفسير لكلمة "الرزق"
(مستغفر) أي طالب غفران ذنوبه. (يلق) مجزوم بحذف الألف في جواب الطب، وفيه ضمير يعود إلى المستغفر. و (غافرًا) مفعول يلقى والجملة خبر المبتدأ الذي هو مستغفر. وإلا (مستمنح) أي مستعط يقال منحه كمنعه وضربه أعطاه والاسم: المنحة بالكسر وهو اسم فاعل مبتدأ كمستغفر. وقوله: (خيرًا) مفعول "مستمنح" (ورزقًا) معطوف عليه. والخير معروف وجمعه خيور كالمال والخيل والكثير الخير كالخير ككيس والأنثى خيرة بهاء (¬1). والرزق: ما ينتفع به المرتزق بحصوله اليه من حلال وهو ما انحلت عنه التبعات، أو حرام وهو ما منع منه شرعًا، إما لصفة في ذاته كالسميات والخمر ومذكى المجوس ونحوهم لأنه في حكم الميتة، وإما لخلل في تحصيله كالربا والغصب ونحو ذلك، فإن كل ذلك رزق لأن اللَّه تعالى يسرقه للحيوان فيتناوله ويتغذى به. وقالت المعتزلة الحرام ليس برزق، وفسروه تارة بمملوك يأكله المالك، وتارة بما لا يمنع من الانتفاع به، وذلك لا يكون إلا حلالا، فيلزمهم على الأول أن ما تأكله الدواب ليس برزق مع ظاهر قوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6] فيكون مصادمًا للقرآن، لأنه يقتضى أن كل دابة مرزوقة مع عدم ملكيتها، ولا ينفعهم زعمهم أن تسمية ما يأكله الدواب رزقًا مبني على تشبهه ¬
بما هو مملوك الإنسان فيأكله فيكون لفظ الرزق مجازًا عما تأكله الدواب فيلزم ألا تكون كل دابة مرزوقة على سبيل الحقيقة لأنا نقول هذا التأويل مخالفًا لظاهر القرآن وهو خلاف المتعارف في اللغة، فلا يرتكب من غير ضرورة، ثم إن تفسيرهم الرزق بذلك ليس بمطرد، ولا منعكس لدخول ملك اللَّه تعالى، وخروج رزق الدواب والعبيد والأماء، ويلزمهم أيضا على التأويلين أن من أكل الحرام طول عمره لم يرزقه اللَّه تعالى أصلًا، وهو خلاف الإجماع الحاصل بين الأمة قبل ظهور المعتزلة أن لا رازق إلا اللَّه، وإن استحق العبد الذم واللوم على كل الحرام، والإضافة إلى اللَّه تعالى معتبرة في مفهوم الرزق، وكل أحد مستوف رزق نفسه حلالًا كان أو حرامًا، ولا يتصور أن لا يأكل الإنسان رزقه أو يأكل غير رزقه، لأن ما قدره اللَّه تعالى غذاء الشخص يجب أن يأكله ويمتنع أن يأكل غيره -فعلى كل حال ما ذهب إليه أهل الاعتزال ضرب من المحال (¬1) واللَّه أعلم. ¬
تفسير لكلمة "قوم"
وجواب ألا مستمنح محذوف، دل عليه جواب ألا مستغفر تقديره "يلق ما نحا" وهو اللَّه، ولذا قال (فامنح) أي فمن كان بهذه المثابة وقام في سجف (¬1) الظلام وصف الأقدام وطلب المنح من الكريم الكلام، فأني أعطه ما طلب وأزيده عما فيه قد رغب. (روى) مأخوذ من روى الحديث يرويه رواية وترواه بمعنى ذلك وهو راوية للمبالغة، وروى الحبل فتله فارتوى وروى من الماء واللبن ونحوهما بكسر الواو كرضي ريا وريا وروى وتروى وارتوا بمعنى (¬2). (ذاك): اسم الإشارة في موضع نصب مفعول روى والمشار إليه النزول المفهوم من قوله، وقل ينزل الجبار. و (قوم): فاعل روى وهم الجماعة من الرجال والنساء معًا أو الرجال خاصة أو يدخله النساء على التبعبة كذا في القاموس (¬3). وقال في النهاية: (¬4) "القوم في الأصل مصدر قام فوصف به الإنسان ثم غلب على الرجال دون النساء. ولهذا قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن نساني الشيطان شيئًا من صلاتي فليسبح القوم، ¬
تفسير لكلمة "قبح"
ولتصفق النساء" (¬1) فقابلهن بهم، وسموا بذلك لأنهم قوامون على النساء بالأمور التي ليس للنساء أن يقمن بها (¬2). ثم وصف القوم الذين رووا أحاديث النزول بأنهم (لا يرد حديثهم) الذي رووه ولا يطعن في خبرهم الذي ذكروه، وذلك لثقتهم وعدالتهم وحفظهم وضبطهم. (ألا) صدر كلامه بحرف التنبيه الدال على مضمون الكلام مما له خطر، وبه عنايه ومزيد تهديد وارتكاب ما فيه الوعيد وهو قوله: (خاب) أي خسر وحرم يقال خاب يخيب خيبة حرم وخيبه اللَّه خسر ولم ينل ما طلب وفي المثل: الهيبة خيبة، ويقال أيضًا: خاب خوبا افتقر والخوبة الجرع، وأرض لم تمطر بين ممطورتين، وأرض لا رعي بها (¬3). وقوله (قوم) فاعل خاب موصوفون بأنهم (كذبوهم) أي كذبوا أولئك القوم الذين لا يرد حديثهم أي نسبوهم إلى الكذب، وهو ضد الصدق. و (قبحوا) أي نسبوهم إلى القبح وهو ضد الحسن وقد قبح يقبح فهو قبيح، وإذا قيل قبحه اللَّه فمعناه أبعده ومنه حديث "لا تقبحوا الوجه" (¬4) أي لا تقولوا قبح اللَّه وجه فلان دكونه بمعنى الإبعاد وقيل لا تنسبوه للقبح ضد الحسن لأن اللَّه صوره وقد أحسن كل شيء خلقه (¬5). ومنه قول سيدنا عمار بن ياسر رضي اللَّه عنه لمن ذكر أم المؤمنين عائشة الصديقة ¬
ذكر أحاديث النزول
رضي اللَّه عنها بسوء "اسكت مقبوحًا مشقوحًا" منبوحًا (¬1) أي مبعدًا. إذا علمت ذلك فاسمع الآن رواة حديث النزول فقد أخرج الإمام أحمد في المسند والترمذي وابن ماجة في سننهما عن عائشة الصديقة رضي اللَّه عنها عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن اللَّه ينزل ليلة النصف من شعبان إلى سماء الدنيا فيغفر لأكثر من عدد شعر غنم بني كلب" (¬2). وأخرج الإمام أحمد في المسند ومسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي اللَّه عنهما عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أن اللَّه تعالى يمهل حتى إذا كان ثلث الليل الأخير نزل إلى سماء الدنيا فينادي هل (من) مستغفر، هل من تائب، هل من سائل، هل من داع، حتى ينفجر الفجر" (¬3). ورواه البخاري ولفظه "ينزل ربنا عز وجل إلى السماء الدنيا". ¬
وفي صحيح البخاري ومسلم وسنن أبي داود والترمذي وغيرهم من حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فاستجيب له، ومن يسألني فأعطيه، ومن يستغفرني فأغفر له" (¬1). وفي بعضها قال: "ينزل اللَّه عز وجل إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يمضي ثلث الليل الأول فيقول: أنا الملك أنا الملك من ذا الذي يدعوني فاستجيب له من ذا الذي يسألني فأعطه من ذا الذي يستغفرني فأغفر له، فلا يزال كذلك حتى يضيء الفجر (¬2). فوصفه الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- بأنه ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا ومذهب السلف إجراء ذلك على ما ورد مؤمنين به على طريق الإجمال منزهين له عن الكيفية والمثال. وقد نقله البيهقي (¬3) وغيره عن الأئمة الأربعة والسفيانين (¬4)، والحمادين (¬5)، والأوزاعي (¬6)، والليث، وغيرهم. ¬
وقدمنا كلام حماد بن زيد لما سئل أيتحول من مكان إلى مكان، فقال: هو على عرشه يقرب من خلقه كيف شاء (¬1). قال العلامة ابن حمدان (¬2) في نهاية المبتدئين: قال التميمي (¬3) في اعتقاد الإمام أحمد في حديث النزول، ولا يجوز عليه الانتقال، ولا الحلول في الأمكنة (¬4). وقال ابن البناء (¬5) في اعتقاد الإمام أحمد -أيضًا- ولا يقال يعني نزوله تعالى بحركة ولا انتقال (¬6). وكذا قال القاضي أبو يعلى (¬7) وقد وصفه النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بالنزول إلى السماء الدنيا والعلو، لا على جهة الانتقال والحركة، كما جازت رؤيته وتجلى للجبل لا على وجه الحركة. وكذا قال الإمام ابن عقيل (¬8) ليس بنزول زوال ولا انتقال ولا كنزولنا. ¬
نقل من كتاب "الروح لابن القيم" حول شأن الروح وأن شأنها مخالف لما هو مشاهد فكذلك صفات الله ومنها النزول
وقال القاضي أيضًا النزول صفة ذاتية فلا نقول نزوله بانتقال. وقال سيدنا الإمام أحمد رضي اللَّه عنه أحاديث الصفات تمر كما جاءت من غير بحث عن معانيها وتخالف ما خطر في المخاطر عند سماعها وننفي التشبيه عن اللَّه تعالى، عند ذكرها مع تصديق النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- والإيمان بها، وكل ما يعقل ويتصور فهو تكييف وتشبيه وهو محال "انتهى" كلام ابن حمدان في نهايته (¬1). وذكر الإمام المحقق شمس الدين ابن القيم في كتابه "الروح": "أن للروح شأنًا آخر غير شأن البدن، قال، وهذا جبريل صلوات اللَّه وسلامه عليه رآه النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وله ستمائة جناح منها جناحان قد سد بهما ما بين المشرق والمغرب (¬2) وكان يدنوا من النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- حتى يضع ركبتيه إلى ركبتيه ويديه على فخذيه (¬3) وما أظنك يتسع بطانك (¬4) أنه كان حينئذ في الملأ الأعلى فوق السموات حيث هو بمستقره، وقد دنا من النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- هذا الدنو فإن التصديق بهذا له قلوب خلقت له، وأهلت لمعرفته، ومن لم يتسع بطانه لهذا فهو ضيق أن يتسع للإيمان بالنزول الإلهي إلى ¬
سماء الدنيا كل ليلة، وهو فوق سماواته على عرشه ليس نوقه شيء البته، بل هو العالي على كل شيء، وعلوه من لوازم ذاته، وكذلك دنوه عشية عرفة من أهل الموقف (¬1). وكذا مجيئه يوم القيامة لمحاسبة خلقه (¬2) واشراق الأرض بنوره (¬3). وكذلك كلما ورد من هذا الباب فهو حق وصدق وهو فوق سمواته على عرشه" (¬4). قال العلامة الطرفي (¬5) في "قواعد وجوب الاستقامة والاعتدال: والمشهور عند أصحاب الإمام أحمد رضي اللَّه عنه أنهم لا يتأولون الصفات التي من جنس الحركة كالمجيء والأتيان والنزول والهبوط والدنو والتدلي كما لا يتأولون غيرها متابعة للسلف الصالح، وكلام السلف في هذا الباب يدل على أنبات المعنى المتنازع فيه. ¬
قال الأوزاعي (¬1) لما سئل عن حديث النزول (يفعل ما يشاء) (¬2) وحكى كلام حماد بن زيد المتقدم (¬3). وذكر كلام إسحق بن راهويه وابن المبارك وغيرهم من السلف (¬4). وقال أهل التأويل العرب تنسب الفعل إلى من أمر به كما تنسبه إلى من فعله وباشره بنفسه كما يقولون: كتب الأمير إلى فلان وقطع يد اللص وضربه وهو لم يباشر شيئًا من ذلك بنفسه ولهذا احتيج للتأكيد فيقولون جاء زيد نفسه، وفعل كذا بنفسه وتقول العرب: أنت ضربت زيدًا لمن لم يضربه ولم يأمر بضربه، إذا كان قد رضى بذلك، قال تعالى: {. . فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ} [البقرة: 91] والمخاطبون بهذا لم كقتلوهم، لكنهم لما رضوا بذلك ووالوا القتلة نسب الفعل إليهم، والمعنى هنا -أن اللَّه تعالى يأمر ملكا بالنزول إلى السماء الدنيا فينادي بأمره تعالى. وقال بعضهم: إن قوله ينزل راجع إلى فعله، لا إلى ذاته المقدسة، فإن النزول كما يكون في الذوات يكون في المعانى والحاصل أن تأويله على وجهين، إما بأن المراد بنزل أمره، أو الملك بأمره، وإما أنه استعارة بمعنى التلطف بالداعين، والإجابة لهم ونحو ذلك كما يقال، نزل البائع في سلعته إذا قارب المشتري بعد مباعدته وأمكنه منها بعد منعه، والمعنى هنا أن العبد في هذا الوقت أقرب إلى رحمة اللَّه منه في غيره من الأوقات، وأنه تعالى يقبل عليهم بالتحنن والعطف في هذا الوقت بما ¬
يلقيه في قلوبهم من التنبيه والتذكر الباعثين لهم على الطاعة. وقد حكى ابن فورك (¬1) أن بعض المشايخ ضبط رواية البخاري بضم أوله على حذف المفعول أي ينزل ملكًا (¬2). ويقويه ما روى النسائي وغيره عن أبي هريرة وأبي سعيد رضي اللَّه عنهما قالا: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن اللَّه عز وجل يمهل حتى يمضى شطر الليل الأول، ثم يأمر مناديا يقول هل من داع يستجاب له، هل من مستغفر يغفر له، هل من سائل يعطى" (¬3). ¬
تعقيب من المحقق على أهل التأويل ونقل كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في الجواب عن تأويلهم
قال القرطبي: صححه أبو محمد عبد الحق (¬1) قال: وهذا يدفع الإشكال ويزيل كل احتمال، والسنة يفسر بعضها بعضا وكذلك الآيات قال: ولا سبيل إلى حمله على صفات الذات المقدسة فإن الحديث فيه التصريح بتجدد النزول واختصاصه ببعض الأوقات والساعات وصفات الرب يجب اتصافها بالقدم وتنزيهها عن الحدوث والتجدد بالزمان وقد قيل كلما لم يكن فكان أو لم يثبت فثبت من أوصافه تعالى فهو من قبيل صفة الأفعال. فعلى هذا النزول والاستواء من صفات الأفعال (¬2) -واللَّه تعالى أعلم. ¬
وقد علم مذهب السلف، وأنه الإيمان بما ورد من غير تكييف ولا حد -واللَّه الموفق (¬1). ¬
مطلب في الإستواء
مطلب في الاستواء وأنه من جملة الصفات الواجب على كل فرد اعتقادها (¬1) تنبيه: لم يذكر الناظم -رحمه اللَّه تعالى- مسألة الاستواء مع أنها من أعظم مسائل المعترك بين أهل السنة وأهل البدع، بل وبين علماء السلف وعلماء الخلف ممن ينتسب إلى المذاهب الأربعة وغيرها من أهل الحق. ولكنه أشار بالتجلي وبالنزول وبقوله فيما يأتي فكلهم يعصي وذو العرش يصفح إلى ما يعلم منه ذلك، ونحن نبرهن عليها على حسب ما يعتقده السلف ونشير إلى ما يذهب إليه الخلف فنقول: قد دلت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية على أن اللَّه عز وجل مستو على عرشه، بائن من خلقه استواء يليق بذاته من غير تكييف، ولا تمثيل، ولا تحريف ولا تعطل، قال تعالى في محكم كتابه العزيز {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (4)} [السجدة: 4]. قال الإمام المحقق ابن القيم (¬2) في كتابه "الجيوش الإسلامية" بعد ذكره هذه الآيات إلى العزيز الرحيم: "تأمل ما في هذه الآيات من الرد على طوائف المعطلين والمشركين فنقوله: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} يتضمن إبطال قول الملاحدة القائلين بقدم العالم، وأنه لم يزل وأن اللَّه تعالى لم يخلقه بقدرته ومشيئته، ومن أثبت منهم وجود الرب جمله لازمًا لذاته أزلًا وأبدًا غير مخلوق كما هو قول ¬
ابن سينا (¬1)، والنصير الطوسي (¬2) وأتباعهما من الملاحدة الجاحدين لما اتفقت عليه الرسل والكتب وشهدت به العقول والفطر، وقوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} يتضمن إبطال قول المعطلة الجهمية ومن نحا نحوهم القائلين ليس على العرش سوى العدم وإن اللَّه تبارك وتعالى ليس مستويًا على عرشه، ولا ترفع إليه الأيدي، ولا يصعد إليه الكلم الطيب، ولا رفع المسيح إليه، ولا عرج برسوله محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- إليه ولا تعرج الملائكة والروح إليه" (¬3). قال شيخ الإسلام ابن تيمية -روح اللَّه روحه-: "وهذا كتاب اللَّه من أوله إلى آخره، وسنة رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- وعامة كلام الصحابة والتابعين وكلام سائر الأئمة مملؤ بما هو نص أو ظاهر في أن اللَّه سبحانه فوق كل شيء، وأنه فوق عرشه مستو عليه استواء يليق بذاته المقدسة كما في قوله تعالى {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] وقوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54]. وهذا مذكور في سبع آيات من القرآن (¬4). فمذهب السلف: الإيمان بذلك جريًا على عادتهم من عدم الخوض في المتشابه ¬
نقل كلام السلف في الإستواء
مع تفويض علمه إلى اللَّه تعالى (¬1). فقد روى اللالكائي (¬2) الحافظ في كتابه "السنة" (¬3) من طريق قرة بن خالد عن الحسن البصري عن أمه عن أم المؤمنين أم سلمة رضي اللَّه عنهما في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] قالت: "الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة والبحث عنه كفر" (¬4). ¬
وهذا له حكم الحديث المرفوع لأن مثله لا يقال من قبل الرأي. وفي لفظ آخر قالت: "الكيف غير معقول، والاستواء غير مجهول، والإقرار به إيمان، والجحود به كفر. وروي أيضًا عن ربيعة (¬1) بن أبي عبد الرحسن شيخ الإمام مالك -المشهور بربيعة الرأي أنه سئل عن قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] فقال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، ومن اللَّه الرسالة وعلى الرسول ¬
البلاغ، وعلينا التصديق (¬1). وروي عن الإمام مالك رضي اللَّه عنه أنه سئل عن الآية فقال الكيف غير معقول، والاستواء غير مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وقال للسائل: أراك رجل سوء (¬2). وسئل الشعبي (¬3) عن الاستواء، فقال: هذا من متشابه القرآن نؤمن به ولا نتعرض لمعناه (¬4). ¬
وسئل الإمام الشافعي (¬1) عن ذلك فقال: آمنت بلا تشبيه، وصدقت بلا تمثيل، واتهمت نفسي في الإدراك، وأمسكت عن الحوض غاية الإمساك (¬2). وسئل الإمام أحمد عن ذلك فأجاب بقوله: استوى كما ذكر لا كما يخطر للبشر (¬3). وقال الخلال (¬4) في كتاب السنة، أخبرني عبيد اللَّه بن حنبل (¬5) أخبرني أبي حنبل (¬6) بن إسحق قال: قال عمي -يعني الإمام أحمد بن حنبل رضي اللَّه عنه-: "نحن نؤمن أن اللَّه على العرش كيف شاء وكما شاء بلا حدود ولا صفة بيلغها واصف، أو يحده حاد، وصفات اللَّه تعالى له ومنه وهو كما وصف نفسه ¬
نقل من كلام الإمام أحمد في الصفات
لا تدركه الأبصار بحد ولا غاية، وهو يدرك الأبصار، وهو عالم الغيب والشهادة وعلام الغيوب (¬1). قال الخلال: وأخبرني علي بن عيسى (¬2) أن حنبلًا حدثهم، قال: سألت أبا عبد اللَّه عن الأحاديث التي تروى أن اللَّه سبحانه ينزل إلى سماء الدنيا وأن اللَّه يرى وأن اللَّه يضع قدمه، وما أشبه هذه الأحاديث؟. فقال أبو عبد اللَّه: نؤمن بها ونصدق بها، ولا نرد منها شيئا، ونعلم أن ما جاء به الرسول حق إذا كانت أسانيد صحاح، ولا نرد على اللَّه قوله، ولا نصفه بأكثر مما وصف به نفسه بلا حد، ولا غاية: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] (¬3). وقال حنبل بن إسحاق عن الإمام أحمد: "ليس كمثله شيء في ذاته كما وصف نفسه قد أجمل اللَّه الصفة لنفسه فعد لنفسه صفة ليس يشبهه شيء، وصفاته غير محدودة ولا معلومة إلا بما وصف به نفسه، قال: فهو سميع بصير بلا حد ولا تقدير ولا يبلغ الواصفون صفته، ولا نتعدى القرآن والحديث فنقول كما قال ونصفه بما وصف نفسه ولا نتعدى ذلك، ولا يبلغ صفته الواصفون، نؤمن بالقرآن كله محكمه ومتشابهه، ولا نزيل عنه صفة من صفاته لشناعة شنعت، وما وصف ¬
به نفسه من كلام ونزول "وخلوه بعبده يوم القيامة ووضعه كنَفَه عليه" (¬1). فهذا كله يدل على أن اللَّه تعالى يرى في الآخرة والتحديد في هذا كله بدعة، والتسليم فيه بغير صفة ولا حد إلا ما وصف به نفسه سميع بصير لم يزل متكلمًا، عالمًا غفورًا عالم الغيب والشهادة، علام الغيوب، فهذه صفات وصف بها نفسه، لا تدفع ولا ترد وهو على العرش، بلا حد كما قال تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54] كيف شاء، المشيئة إليه والاستطاعة إليه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] وهو خالق كل شيء وهو سميع بصير بلا حد ولا تقدير لا نتعدى القرآن ولا الحديث، تعالى اللَّه عما تقول الجهمية والمشبهة. قلت له: والمشبهة ما تقول؟ قال: بصر كبصري، ويد كيدي، وقدم كقدمي فقد شبه اللَّه بخلقه. وكلام الإمام رضي اللَّه عنه في هذا كثير، فإنه أُمتحن بالجهمية وجميع المتقدمين من أصحابه على مثل منهاجه في ذلك، وغن كان بعض المتأخرين منهم ¬
نقل من كلام الإمام أبي حنيفة في إثبات العلو
يدخل في نوع مما أنكره الإمام أحمد على أهل البدع، لكن الرعيل الأول من أصحابه وجميع أئمة أهل الحديث قولهم كقوله (¬1). وقال أبو مطيع الحكم بن عبد اللَّه (¬2) البلخي صاحب الفقه الأكبر سألت أبا حنيفة رضي اللَّه عنه عمن يقول لا أعرف ربي في السماء أو في الأرض فقال قد كفر لأن اللَّه تعالى يقول: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] وعرشه فوق سماواته، فقلت إنه يقول: أقول على العرش استوى، ولكن قال: لا أدري العرش في السماء أو في الأرض فقال: إذا أنكر أنه في السماء فقد كفر (¬3). قال الإمام الحافظ الذهبي (¬4) في كتابه "العرش" (¬5) روى ¬
سياق الأحاديث الدالة على الإستواء
ذلك صاحب "الفاروق" (¬1) بإسناد عن أبي بكر نصير بن يحيى عن الحكم. سمعت (¬2) الإمام القاضي تاج الدين عبد الخالق بن علوان (¬3) قال: سمعت الإمام أبا محمد عبد اللَّه بن أحمد المقدسي يعني موفق الدين ابن قدامة (¬4) مؤلف المغني والمقنع وغيرهما -يقول: "بلغني عن أبي حنيفة رضي اللَّه عنه أنه قال: "من أنكر أن اللَّه تعالى في السماء فقد كفر" (¬5). وأما الأحاديث فمنها قصة المعراج فهي متواترة، ونجاوز النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- السموات سماء سماء حتى انتهى إلى محل سمع فيه صريف الأقلام فقربه ربه وأدناه وفرض عليه خمسين صلاة، وتردد بين اللَّه عز وجل وبين موسى عليه السلام فسأله موسى عليه السلام كم فرض عليك فيخبره فيقول ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف عن أمتك فيصعد إلى ربه فيسأله التخفيف فيحط عنه خمسا إلى أن استقرت الخمس ¬
سياق مذهب السلف في إثبات الإستواء
فأمره موسى بالرجوع ليخفف منها -أيضًا- فقال -صلى اللَّه عليه وسلم- قد استحييت من مراجحة ربي، ولكن أمضى وأتوكل فسمع النداء من العلي الأعلى، قد شفعت نبي وخففت عن عبادي وأمضيت فريضتي لا يبدل القول لدي، هن خمس وهي خمسون الحسنة بعشرة أمثالها (¬1). وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لما خلق اللَّه الخلق كتب في كتابه فهو عنده فوق العرش إن رحمتي تغلب غضبي" (¬2). وفي لفظ كتب في كتابه على نفسه فهو موضوع عنده (إن رحمتي تغلب غضبي) والأحاديث في ذلك كثيرة جدًا. فمذهب السلف إثبات صفة الإستواء بلا كيف. ¬
قال الإمام القرطبي (¬1)، وابن أبي زيد (¬2)، والقاضي عبد الوهاب (¬3)، من المالكية، وجماعات من شيوخ أهل الحديث والفقه والإمام ابن عبد البر (¬4)، (والقاضي أبو بكر) (¬5) (ابن العربي) (¬6)، وابن فورك (¬7)، أنه سبحانه مستو على ¬
العرش (¬1) بذاته، وأطلقوا في بعض الأماكن فوق عرشه. قال القاضي أبو بكر وهو الصحيح الذي أقول به من غير تحديد ولا تمكين ولا مماسة (¬2). قال شيخ الإسلام ابن تيمية -روح اللَّه روحه- "هو سبحانه مستو على عرشه على الوجه الذي يستحقه سبحانه من الصفات اللائقة به تعالى. . قال فإن قال قائل لو كان فوق العرش للزم إما (¬3) أن يكون أكبر من العرش أو أصفر أو مساويا وذلك كله محال ونحو ذلك من الكلام. فهذا لم يفهم من كون اللَّه على العرش إلا ما يثبت للأجسام وهذا اللازم تابع لهذا المفهوم، وأما استواء يليق بجلال اللَّه ويختص به فلا يلزم به شيء من اللوازم الباطلة التي يجب نفيها، كما يلزم سائر الأجسام وحال هذا مثل قول القائل إذا كان للعالم ¬
سياق مذهب الخلف في الإستواء والجواب عنهم
صانع فإما أن يكون جوهرًا أو عرضًا وكلاهما محال إذا لا يعقل موجود إلا كذلك" (¬1) وقدمنا كلامه فيما مر. . . (¬2). وأما مذهب الخلف فحملوا قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] على عدة محامل أشهرها عندهم بمعنى استولى (¬3) فالاستواء (¬4) هو القهر والغلبة، ومعناه الرحمن غلب العرش وقهره، يقال: استوى فلان على الناحية إذا غلب أهلها وقهرهم. قال الشاعر: قد استوى بشر على العراق ... من غير سيف ودم مهراق (¬5) ورد بوجهين: أحدهما: أنه تعالى استولى على الكونين، والجنة والنار وأهلها، فأي فائدة في تخصيص العرش بالذكر ولا يكفي في الجواب أنه تعالى حيث قهر العرش على عظمته واتساعه فغيره أولى لأن الأنسب في مقام التمدح بالعظمة التعميم بالذكر لقهره الأكوان الكلية بأسرها ومن جملتها العرش. ¬
ثانيهما: أن الاستيلاء إنما يكون بعد قهر وغلبة واللَّه تعالى منزه عن ذلك (¬1). وقد سئل الخليل بن أحمد (¬2) إمام أهل اللغة والنحو، هل وجدت في اللغة استوى بمعنى استولى؟ فقال: هذا مما لا تعرفه العرب، ولا هو جار في لغتها وكان السائل له في ذلك بشر المريسي (¬3). وأخرج اللالكائي في السنة عن ابن الأعرابي (¬4) أنه سئل عن معنى استوى، فقال: هو على عرشه كما أخبر، فقيل له: يا أَبا عبد اللَّه معناه استولى، قال: ¬
اسكت لا يقال استولى على الشيء إلا إذا كان له مضاد، فإذا غلب أحدهما قيل استولى" (¬1). وفي رواية أخرى: واللَّه تعالى لا مضاد له، فهو على عرشه كما أخبر (¬2). قال شيخ الإسلام ابن تيمية -قدس اللَّه روحه-: "والقول الفاصل هو ما عليه الأمة الوسط من أن اللَّه مستو على عرشه استواء يليق بجلاله فكما أنه موصوف بالعلم والبصر والقدرة، ولا يثبت لذلك خصائص الأعراض التي للمخلوقين، فكذلك هو فوق عرشه، ولا يثبت لفوقيته خصائص فوقيه (المخلوق) (¬3) على المخلوق تعالى اللَّه عن ذلك" انتهى (¬4). وقال القرطبي: "أظهر الأقوال -وإن كنت لا أقول به ولا اختاره- ما تظاهرت عليه الآي والأخبار والفضلاء الأخيار أن اللَّه سبحانه على عرشه كما أخبر في كتابه ¬
بلا كيف بائن من جميع خلقه هذا جملة مذهب السلف الصالح" انتهى (¬1). وفي قوله رحمه اللَّه: وإن كنت لا أقول به غاية العجب لأنه اعترف بتظافر الآيات القرآنية عليه ودلالة الأخبار النبوية إليه وتعويل السلف الصالح الأخيار عليه فكيف يليق من مثله أن يقول وإن كنت لا أقول به ولا أختاره مع الدلالات القرآنية والأحاديث النبوية وكونه معتقد الرعيل الأول والحزب الذي عليه المعمول، ولعله إنما خاف من دسائس الحساد ووسواس أهل الزيغ والفساد وإفتراء ذوي البدع والإلحاد واللَّه تعالى الموفق. ورضي اللَّه تبارك وتعالى عن الإمام مالك حيث قال: "أو كلما جاءنا رجل أجدل من رجل تركنا ما جاء به جبريل إلى محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- لجدل هؤلاء (¬2) (وكل من هؤلاء مخصوم بمثل ما خصم به الآخر) (¬3). ¬
تتمة: نقل عن الكمال بن الهمام في الإستواء وتعقيب من المحقق عليه
فلم يبق إلا الرجوع لما قاله اللَّه ورسوله والتسليم لهما. تتمة: ذكر الكمال ابن الهمام (¬1) الحنفي بحد أن تكلم على الاستواء بما حاصله: "وجوب الإيمان بأنه استوى على العرش مع نفي التشبيه. وقال وأما كون الاستواء بمعنى الاستيلاء على العرش مع نفي التشبيه فأمر جائز الإرادة، إذ لا دليل على إرادته عينًا فالواجب عين ما ذكرنا، نعم إن خيف على العامة عدم فهمهم الاستواء إلا باتصال ونحوه من لوازم الجسمية فلا بأس بصرف فهمهم إلى الاستهلاء، قال: وعلى نحو ما ذكر كما ورد مما ظاهره الجسمية في الشاهد كالأصبع واليد والقدم، فإن الأصبع واليد صفة له تعالى لا بمعنى الجارحة بل على وجه يليق به وهو سبحانه أعلم به. قال: وقد تؤل اليد والإصبع بالقدرة والقهر، وقد يؤل "اليمين" في قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "الحجر الأسود يمين اللَّه في الأرض" (¬2) على التشريف والإكرام لما ذكرنا من صرف فهم العامة عن الجسمية. قال: وهو ممكن أن يراد ولا يجزم بإرادته على قول أصحابنا أنه من المتشابه وحكم المتشابه انقطاع معرفة المراد منه في هذه الدار، وإلا لكان قد علم" انتهى كلام ابن الهمام (¬3). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
فصل في ذكر الصحابة الكرام وذكر التفاضل بينهم وفيه ذكر أفضلية أبي بكر وعمر رضي الله عنهما والأدلة على ذلك
فصل في ذكر الصحابة الكرام وذكر التفاضل بينهم رضوان اللَّه تعالى عليهم وبدأ الناظم -رضي اللَّه عنه- بذكر التفاضل بينهم رضي اللَّه عنهم فقال: (وقل) بلسانك معتقدًا بجنانك. (إن خير الناس) وأفضلهم من هذه الأمة التي هي خير الأم وأفضل الأمم بشاهد قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110]. فخير الأمم أمة محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-، وأفضل أمة محمد (بعد محمد) -صلى اللَّه عليه وسلم- (وزيراه) تثنية وزير، والضمير يعود على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. قال في القاموس: "الوزير حباء الملك الذي يحمل ثقله ويعينه برأيه وقد استوزره فتوزر له واوزره، وحاله الوزارة بالكسر ويفتح والجمع وزراء وأوزار" انتهى (¬1). وفي نهاية ابن الأثير: "في حديث السقيفة نحن الأمراء وأنتم الوزراء جمع وزير وهو الذي يوازره فيحمل عنه ما حمله من الأثقال، والذي يلتجئ الأمير إلى رأيه وتدبيره، فهو ملجأ له ومفزع" (¬2). وقوله: (قدما) أي في ابتداء الأمر والنبوة فهو مفعول فيه، والمراد بهما أبو بكر وعمر رضي اللَّه عنهما. والإشارة في ذلك إلى حديث أبي سعيد الخدري رضي اللَّه عنه أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "ما من نبي إلا وله وزيران، وزيران من أهل السماء، ووزيران من أهل ¬
الأرض، فأما وزيراي من أهل السماء: فجبريل وميكائيل، وأما وزيراي من أهل الأرض: فأبو بكر وعمر" (¬1). وأخرج الطبراني وأبو نعيم في الحلية عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "إن اللَّه تعالى أيدنى بأربعة وزراء اثنين من أهل السماء: جبريل وميكائيل، واثنين من أهل الأرض: أبو بكر وعمر" (¬2). وأخرج الطبراني أيضًا عن ابن مسعود رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن لكل نبي خاصة من أصحابه، وإن خاصتي من أصحابي أبو بكر وعمر" (¬3). ¬
وأخرج ابن عساكر (¬1) عن أبي ذر رضي اللَّه عنه أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "إن لكل نبي وزيرين، ووزيراي وصاحباي: أبو بكر وعمر" (¬2). ودليل خيريتهما وأفضليتهما على سائر أمة محمد بعد محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-، ما أخرج الشيخان وغيرهما من حدث عمرو بن العاص رضي اللَّه عنه أنه سأل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: أي الناس أحب إليك؟ قال: عائشة. فقلت من الرجال؟ قال: أبوها. فقلت ثم من؟ فقال: عمر بن الخطاب" (¬3). وفي رواية لست أسألك عن أهلك إنما أسألك عن أصحابك. وفي صحيح البخاري عن ابن عمر رضي اللَّه عنهما كنا في زمن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لا نعدل بأبي بكر أحدًا ثم عمر ثم عثمان ثم نترك أصحاب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لا نفاضل بينهم (¬4). ¬
وفي رواية عند أبي داود كنا نقول ورسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- حي: "أفضل أمته بعده أبو بكر ثم عمر ثم عثمان" (¬1). ورواه الطبراني، وزاد فيبلغ ذلك رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فلا ينكره (¬2). وفي صحيح البخاري أيضًا عن محمد بن الحنفية (رحمه اللَّه ورضي عنه) (¬3) قلت لأبي -يعني أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه: أي الناس خير بعد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: أبو بكر، قلت: ثم من؟ قال: عمر، قال: وخشيت أن يقول عثمان، قلت ثم أنت؟ قال: ما أنا إلا واحد من المسلمين" (¬4). وأخرج ابن عساكر عن ابن عمر رضي اللَّه عنهما كنا وفينا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- نفضل أَبا بكر وعمر وعثمان وعليًّا رضي اللَّه عنهم (¬5). وأخرج أيضًا عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه، كنا معشر أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ¬
ونحن متوافرون نقول: أفضل هذه الاُمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم نسكت (¬1). وقد تواترت عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه أنه قال: "خير هذه الأمة بعد نبيها: أبو بكر وعمر" (¬2). وأنه قال: " لا يفضلني أحد على أبي بكر وعمر إلا جلدته حد المفترى" (¬3). وأخرج الترمذي والحاكم عن عمر رضي اللَّه عنه قال: أبو بكر سيدنا وخيرنا وأحبنا إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬4). ¬
تنبيه: أفضل الأمة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبو بكر رضي الله عنه والأدلة على ذلك
وروى ابن عساكر أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه صعد المنبر ثم قال: "ألا إن أفضل هذه الأمة بعد نبينا أبو بكر، فمن قال غير هذا فهو مفتر عليه ما على المفتري" (¬1). تنبيه: أعلم أن أفضل هذه الأمة بالتحقيق أمير المؤمنين خليفة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عبد اللَّه أبو بكر الصديق (¬2) بن عثمان أبو قحافة بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤى بن غالب، يجتمع نسبه مع نسب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في مرة بن كعب. ولقبه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بالعتيق، قيل لجمال وجهه، وقيل لأنه عتيق اللَّه من النار، وأمه أم الخير سلمى بنت صخر ابن عمرو بن كعب بنت عم أَبيه، ماتت هي وأبوه مسلمين رضوان اللَّه عليهما، وكانت وفاة أبي قحافة في خلافة عمر رضي اللَّه عنهما، وهو أول الناس إيمانًا برسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- على قول جموع من أهل العلم. وفي سنن الترمذي من حديث أبي سعيد الخدري أنه قال: قال أبو بكر رضي اللَّه عنه: ألست أول من أسلم، ألست صاحب كذا، ألست صاحب كذا. . . (¬3) الحديث. ¬
وقيل: بل أول من آمن: علي بن أبي طالب -رضي اللَّه عنه- ونقل الحاكم اتفاق المؤرخين عليه (¬1) واستنكر هذا من الحكم (¬2). وقيل: أول من آمن زيد بن حارثة، وقيل: خديجة، وادعى الثعلبي (¬3) الإجماع فيه، وإنما الخلاف فيمن بعدها -وصوبه كثير واستظهره البرماوي (¬4) وغيره. وقيل: أولهم بلال الحبشي رضي اللَّه عنهم أجمعين. ويروى عن الإمام أبي حنيفة أنه قال: "الأورع أن يقال: أول من أسلم من الرجال الأحرار أبو بكر، ومن الصبيان علي، ومن النساء خديجة، ومن الموالي زيد، ومن العبيد بلال. وهذا من أحسن ما قيل لجمعه الأقوال" (¬5). ¬
فالصديق الأعظم رضي اللَّه عنه أفضل الصحابة رضي اللَّه عنهم وخيرهم بإجماع أهل السنة. فقد أجمع الصحابة وأهل السنة والجماعة على أن أفضل الصحابة والناس بعد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أبو بكر رضي اللَّه عنه (¬1)؛ ولي الخلافة بإجماع الصحابة واتفاقهم عليه بعد وفاة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وتوفى وهو ابن ثلاث وستين سنة، وكانت خلافنه سنتين وأربعة أشهر تعجز عشر ليال، وصلى عليه عمر بن الخطاب، ودفن في الحجرة الشريفة مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وغسلته زوجته أسماء بنت عميس بوصية منه رضي اللَّه عنه (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
مطلب في الكلام على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ولايته ووفاته
مطلب في الكلام على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه ثم عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه الذي سماه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بالفاروق (¬1) رضي اللَّه عنه فهو أمير المؤمنين عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزي بن رياح بكسر الراء والياء التحتية فحاء مهملة بن عبد اللَّه بن قرط بضم القاف وسكون الراء فطاء مهملة ابن رزاح بفتح الراء والزاي فحاء مهملة بعد الألف بن عدي بن كعب بن لؤى بن غالب القرشي العدوي، وأمه حنتمة بفتح الحاء المهملة فنون ساكنة فمثناة فوقية مفتوحه فميم فتاء تأنيث بنت هشام بن المغيرة بن عبد اللَّه بن عمر بن مخزوم أخت أبي جهل واسمه عمرو بن هشام فهو خال عمر رضي اللَّه عنه (وكنته) (¬2) أبو حفص كناه بذلك رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يوم بدر (¬3) ولد الأسد. ولقبه بالفاروق لأنه فرق بين الحق والباطل لعبادة اللَّه جهرًا بسبب إسلامه، ولم يعبد جهرًا منذ بعث النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قبل ذلك. ¬
وأخرج ابن سعد (¬1) عن أيوب بن موسى مرسلًا قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن اللَّه جعل الحق على لسان عمر وقلبه، وهو الفاروق فرق بين الحق والباطل" (¬2) فعبد اللَّه جهرًا ولم يعبد جهرًا قبل ذلك (¬3). وقد أخرج البخاري وغيره عن ابن مسعود رضي اللَّه عنه قال: ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر (¬4). وأخرج ابن سعد عنه -أيضًا- قال: كان إسلام عمر فتحًا وكانت هجرته نصرًا وكانت إمامته رحمة ولقد رأيتنا وما نستطع أن نصل إلى البيت حتى أسلم عمر فقاتلهم حتى تركوا سبيلنا (¬5). وقال حذيفة بن اليمان رضي اللَّه عنه لما أسلم عمر كان الإسلام كالرجل المقبل لا يزداد إلا (قربًا) (¬6) ولما قتل كان الإسلام كالرجل المدبر لا يزداد إلا بعدًا (¬7)؛ وكان إسلام أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه في السنة السادسة من البعثة ¬
وعمره يومئذٍ سبع وعشرون سنة وكان إسلامه بعد تسعة وثلاثين رجلًا أو أربعين أو خمسة وأربعين وإحدى عشرة امرأة، ففرح المسلمون بإسلامه وظهر الإسلام بمكة. وقد وردت الأحاديث الكثيرة والأخبار الشهيرة بفضائله. ففي الصحيحين عن سعد بن أبي وقاص رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يا ابن الخطاب والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكًا فجًا (¬1) إلا سلك فجًا غير فجك" (¬2). وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لقد كان فيمن كان قبلكم من الأمم مُحَدَّثون فإن يكن في أمتي أحد فإنه عمر" (¬3) -أي ملهمون. وأخرجه مسلم أيضًا من حديث عائشة رضي اللَّه عنها ولفظه: "قد كان يكون في الأمم مُحَدَّثون فإن يكن في أمتي أحد فعمر بن الخطاب" (¬4). ورواه الترمذي (¬5) وقال: حديث حسن صحيح. قال الإمام سفيان بن عيينة: محدثون مفهمون. ¬
وقال ابن وهب (¬1) تفسير محَدّثون: ملهمون (¬2). وقال أبو بكر الصديق رضي اللَّه عنه: "ما على وجه الأرض أحد أحب إليَّ من عمر" (¬3) أخرجه ابن عساكر. وقيل لأبي بكر رضي اللَّه عنه ماذا تفول لربك وقد وليت عمر؟ قال: "أقول له وليت عليهم خيرهم" أخرجه ابن سعد (¬4). وقال علي رضي اللَّه عنه: "إذا ذكر الصالحون فحي هلا بعمر ما كنا (نبعد) (¬5) أن السكينة تنزل إلا على لسان عمر" أخرجه الطبراني في الأوسط (¬6). وقال ابن مسعود رضي اللَّه عنه: "لو أن علم عمر وضع في كفة ووضع علم أحياء الأرض في كفة لرجح علم عمر، ولقد كانوا يرون أنه ذهب بتسعة أعشار العلم" أخرجه الطبراني في الكبير والحاكم (¬7). ¬
وقال حذيفة رضي اللَّه عنه: "واللَّه ما أعرف رجلًا لا تأخذه في اللَّه لومة لائم إلا عمر" (¬1). وعلى كل حال فأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه بعد الصديق الأعظم أفضل هذه الأمة من غير شك ولا مراء بالنص والإجماع (¬2) خلافًا للشيعة في زعمهم أن أفضل هذه الأمة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه، وخلافًا للراوندية (¬3) في زعمهم أن أفضل الصحابة رضي اللَّه عنهم العباس بن عبد المطلب رضي اللَّه عنه. وأخرج الإمام أحمد والترمذي عن علي. وابن ماجة عنه وعن أبي جحيفة. وأبو يعلى في مسنده، والضياء في المختارة عن أنس. ¬
والطبراني في الأوسط عن جابر وعن أبي سعيد رضي اللَّه عنهم أجمعين أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "هذان سيدا كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين إلا النبيين والمرسلين" (¬1) -يعني أبا بكر وعمر- رضي اللَّه عنهما. وأخرج الحاكم في الكنى وابنى عدي في الكامل والخطيب (¬2) في تاريخه عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "أبو بكر وعمر خير الأولين والآخرين وخير أهل السموات وخير أهل الأرض إلا النبيين والمرسلين" (¬3). ¬
وأخرج الإمام أحمد والترمذي والحاكم وصححه عن عقبة بن عامر والطبراني عن عصمة بن مالك رضي اللَّه عنهما قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لو كان بعدي نبي لكان عمر بن الخطاب" (¬1). وأخرج الإمام أحمد والبزار عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن اللَّه جعل الحق على لسان عمر وقلبه". وأخرجه الطبراني من حديث أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وبلال ومعاوية وعائشة رضي اللَّه عنهم (¬2). ¬
وأخرج الطبراني -أيضًا- والديلمي (¬1) عن الفضل بن عباس رضي اللَّه عنهما قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "الحق بعدي مع عمر حيث كان" (¬2). ¬
وأخرج ابن النجار (¬1) عن عبد اللَّه بن عباس رضي اللَّه عنهما أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "الصدق بعدي مع عمر حيث كان" (¬2). وأخرج الإمام أحمد والترمذي وابن حبان في صحيحه عن أنس. والإمام أحمد -أيضًا- والشيخان عن جابر. والإمام أحمد عن بريدة وعن معاذ بن جبل رضي اللَّه عنهم أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "دخلت الجنة فإذا أنا بقصر من ذهب فقلت لمن هذا القصر؟ قالوا: لشاب من قريش فظننت أني أنا هو. فقلت ومن هو؟ فقالوا: عمر بن الخطاب فلولا ما علمت من غيرتك لدخلته" (¬3). ¬
وأخرج الترمذي والحاكم عن أبي بكر الصديق رضي اللَّه عنه أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "ما طلعت الشمس على رجل خير من عمر" (¬1). وُلِيَ أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه الخلافة بعهد من خليفة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- الصديق الأعظم أبي بكر الصديق رضي اللَّه عنه يوم توفي وذلك يوم الثلائاء لثمان بقيت من جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة (فأقام) (¬2) بالأمر أتم قيام، وكثرت الفتوحات في أيامه. وفي سنة ثلاث وعشرين لما نفر أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه من مني أناخ بالأبطح ثم استلقى ورفع يديه إلى السماء وقال: اللهم كبرت سني وضعفت قوتي وانتشرت رعيتي فاقبضني إليك غير مضيع ولا مفرط فما انسلخ ذو الحجة حتى قتل شهيدًا، وكان قد قال: اللهم ارزقني شهادة في سبيلك واجعل موتي في بلد نبيك، وكان قد قال في خطبته: رأيت كأن ديكًا نقرني نقرة أو نقرتين وإني لأراه حضور أجلي وإن قومًا يأمروني أن استخلف وإن اللَّه لم يكن ليضيع دينه ولا خلافته فإن عجل بي أمر فالخلافة شورى بين هؤلاء الستة الذين توفى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وهو عنهم راضي وقال يشهد عبد اللَّه بن عمر معهم وليس له من الأمر شيء" (¬3). ¬
فأصيب رضي اللَّه عنه يوم الأربعاء لأربع بقيت من ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين ضربه أبو لؤلؤة فيروز عبد المغيرة بن شعبة وكان مجوسيًا وكان قد جاء عمر رضي اللَّه عنه يشتكي كثرة ما جعل عليه المغيرة من الخراج فقال: ما خراجك؟ قال: مائة درهم كل شهر، فقال: ما هو عليك بكثير لكثرة صنائعه ثم إنه حقد عليه فطعنه بخنجر ذي رأسين ونصابه في وسطه ثلاث طعنات لما خرج عمر يوقظ الناس لصلاة الفجر وطعن معه اثني عشر رجلًا مات منهم ستة فألقى عليه رجل من أهل العراق ثوبًا فلما اغتم فيه قتل نفسه فصلى عبد الرحمن بن عوف بالناس صلاة الفجر بعد أن كادت تطلع الشمس بأقصر سورتين وحمل عمر إلى منزله فسقي النبيذ فخرج من جرحه فلم يتبين (¬1) فسقوه اللبن فخرج ثانيًا فقالوا لا بأس عليك فقال إن يكن في القتل بأس فقد قتلت فجعل الناس يثنون عليه فقال: "أما واللَّه وددت أني خرجت منها كفافًا لا علي ولا لي، وإن صحبة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- سلمت لي". ثم عهد إلى الستة وهم عثمان وعلي وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص رضي اللَّه عنهم أجلهم ثلاثة أيام وأمر صهيبًا أن يصلي بالناس في الثلاثة أيام مدة الشورى. ودفن سيدنا عمر رضي اللَّه عنه يوم الأحد، وكسفت الشمس يوم موته (¬2) ¬
الكلام على عثمان بن عفان وبيان ترجيح عثمان على علي رضي الله عنهم
وناحت الجن عليه (¬1)؛ ودفن في الحجرة الشريفة عند صاحبيه بوصية منه وإذن من أم المؤمنين عائشة رضي اللَّه عنها وكان قد أوصى قال: (أوصي الخليفة من بعدي بتقوى اللَّه وأوصيه بالمهاجرين والأنصار وأوصيه بالأمصار خيرًا، وصلى عليه صهيب في المسجد النبوى وخرج الناس يمشون وعبد اللَّه (¬2) أمامهم فسلم عبد اللَّه وقال: عمر يستأذن فقالت عائشة رضي اللَّه عنها: أدخلوه فأدخل فوضع هناك مع صاحبيه أبي بكر الصديق رضي اللَّه عنه وسيد العالم رسول رب العالمين صلوات اللَّه وسلامه عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين (¬3). وقول الناظم قدس اللَّه روحه: (ثم) بعد أبي بكر الصديق وعمر الفاروق اللذين هما وزيرا رسول اللَّه محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- والخليفتان من بعده فالأفضل بعدهما وخير الناس عقبهما عثمان بن عفان بن أبي العاص واسمه الحارث بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف يلتقي نسبه مع نسب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في عبد مناف بن قصي. إشارة إلى الصحيح المعتمد من أن عثمان رضي اللَّه عنه يلي وزيري النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في الفضيلة فأفضل هذه الاُمة بعد نبيها -صلى اللَّه عليه وسلم- أبو بكر الصديق رضي اللَّه عنه ثم عمر الفاروق رضي اللَّه عنه ثم عثمان ذو النورين (الأرجح): من غيره بعد أبي بكر وعمر رضي اللَّه عنهما فأرجح أفعل تفضيل من رجح الميزان يرجح مثلثه رجوحًا ورجحانًا: مال، أي فهو أفضل من غيره بعدهما رضي اللَّه عنه، ثم علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه كما يأتي الكلام عليه. ¬
وهذا قول عامة أهل السنة والجماعة من أهل الحديث والفقه، والكلام من الأثرية والأشعرية والماتريدية وغيرهم (¬1). قال سيدنا الإمام أحمد إمام الأثرية رضي اللَّه عنه: "علي رضي اللَّه عنه رابعهم في الخلافة والتفضيل" وقال: "من فضل عليًا على أبي بكر وعمر أو قدمه عليهما في الفضيلة والإمامة دون النسب فهو رافضى مبتدع فاسق" ذكره القاضي أبو يعلى. قال ابن حمدان في نهاية المبتدئين: "فإن فضله -يعني عليًا- رضي اللَّه عنه على عثمان رضي اللَّه عنه فكذلك- (يعني يكون) (¬2) رافضيًا مبتدعًا فاسقًا. وفي رواية أخرى: أنه لايكون رافضيًا مبتدعًا فاسقًا بتفضيل علي على عثمان رضي اللَّه عنهما. وتبرأ الإمام أحمد رضي اللَّه عنه ممن ضللهم أو أحدًا منهم" (¬3) انتهى. فتفضيل الصديق ثم عمر مجمع عليه بين أهل الحق وأما المفاضلة بين عثمان وعلي فمحل خلاف فالأكثرون ومنهم الإمام أحمد والإمام الشافعي وهو المشهور عن الإمام مالك رضي اللَّه عنهم أن الأفضل بعد أبي بكر وعمر، عثمان رضي اللَّه عنهم ثم علي رضي اللَّه عنه وعنهم أجمعين (¬4). ¬
وجزم الكوفيون ومنهم سفيان الثوري بتفضيل علي على عثمان (¬1). وقيل بالوقف عن التفاضل بينهما وهو رواية عن مالك، فقد حكى أبو بكر المازري (¬2) من المالكية عن المدونة أن مالكًا رضي اللَّه عنه سئل أي الناس أفضل بعد نبيهم فقال: أبو بكر ثم عمر رضي اللَّه عنهما، ثم قال: أو في ذلك شك. فقيل له: وعلي وعثمان رضي اللَّه عنهما؟ فقال: ما أدركت أحدًا ممن اقتدى به يفضل أحدهما على الآخر (¬3). انتهى. وفي قول الإمام مالك: "أو في ذلك شك" يؤيد ما صححناه في "شرح الدرة" (¬4) كغيرنا أن تفضيل أبي بكر وعمر رضي اللَّه عنهما على بقية الأمة قطعي, ¬
نعم حكى القاضي عياض عن الإمام مالك أنه رجع عن التوقف إلى تفضيل عثمان رضي اللَّه عنه قال القرطبي وهو الأصح إن شاء اللَّه تعالى (¬1). وقد نقل التوقف الإمام يوسف بن عبد البر عن جماعة من السلف منهم مالك، ويحيى القطان (¬2) ويحيى بن معين (¬3). قال الإمام يحيى بن معين: "ومن قال أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي اللَّه عنهم وعرف لعلي سابقته وفضله فهو صاحب سنة" (¬4). ونحن نقول لا شك أن من اقتصر على عثمان ولم يعرف لعلي فضله فهو مذموم، ومن ثم يعلم أن حكاية الإجماع على أن عثمان أفضل من علي رضي اللَّه عنهما مدخول (¬5) بل الخلاف في ذلك سابق معلوم. نعم معتمد محققي أهل السنة أن فضيلة الخلفاء الراشدين على ترتيب الخلافة، وهذا منصوص الإمام أحمد وغيره من أئمة الإسلام، لكن التفضيل في طرف الشيخين قطعي على المعتمد، وقيل ظني كما عند الباقلاني وغيره، والتفاضل بين ¬
نسب عثمان وفضائله
عثمان وعلي رضي اللَّه عنهما ظني ومحل خلاف واللَّه ولي الإنصاف (¬1). إذا علمت هذا فاعلم أن عثمان بن عفان رضي اللَّه عنه أمه أروى وأمها أم حكيم البيضاء بنت عبد المطلب عمة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. (وأروى أم عثمان (¬2) بنت) كريز بضم الكاف وفتح الراء فزاي مصغر كرز، وكريز بن ربيع بن حبيب بن عبد شمس، ولد عثمان سادس سنة الفيل، وأسلم قديمًا على يد الصديق الأعظم قبل دخول رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- دار الأرقم، وهاجر الهجرتين إلى الحبشة، وتزوج رقية بنت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قبل البعثة فماتت عنده في الثانية من الهجرة عند رجوع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من غزوة بدر العظمى، فلم يشهد عثمان رضي اللَّه عنه بدرًا لتخلفه بإذن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ليمرض رقية، فجاء البشير (¬3) بنصر البشير (¬4) عند دفنها وضرب له رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بسهمه وأجره ثم زوجه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أختها أم كلثوم وماتت عنده أيضًا سنة تسع من الهجرة. قال العلماء: ولا يعرف أحد تزوج بنتي نبي غيره ولذلك سمي بذي النورين، فهو رضي اللَّه عنه من السابقين الأولين، وأول المهاجرين، وأحد العشرة المشهود لهم بالجنة، واحد الستة الذي توفي رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وهو عنهم راض، وأحد الصحابة الذين جمعوا القرآن في المصحف، وأحد الخلفاء الراشدين، وكان جميلًا صوامًا قوامًا، وكثير التلاوة للقرآن العظيم. ¬
وقد أخرج ابن عدي وابن عساكر عن ابن عمر رضي اللَّه عنهما قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنا لنشبه عثمان بأبينا إبراهيم" (¬1). وابن عدي -أيضًا- عن عائشة رضي اللَّه عنها قالت: "لما زوج النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بنته أم كلثوم لعثمان قال لها: "إن بعلك أشبه الناس بجدك إبراهيم وأبيك محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-" (¬2). وأخرج الشيخان عن عائشة رضي اللَّه عنها أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- جمع ثيابه حين دخل عثمان، وقال: "ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة" (¬3). وأخرج البخاري في صحيحه أن عثمان بن عفان حين حضر أشرف عليهم وقال: أنشدكم اللَّه ولا أنشد إلا أصحاب محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- ألستم تعلمون أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "من جهز جيش العسرة فله الجنة فجهزتهم ألستم تعلمون أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: من حفر بئر رومة فله الجنة فحفرتها، فصدقوه بما قال" (¬4). ¬
وبايع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يوم بيعة الرضوان تحت الشجرة عنه بيساره فكانت يسار رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لعثمان خيرًا من يمين نفسه (¬1). وأخرج الترمذي عن ابن عمر رضي اللَّه عنهما قال: ذكر رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فتنة فقال يقتل (هذا) (¬2) فيها مظلومًا لعثمان. قال الترمذي حديث حسن غريب من هذا الوجه (¬3). وأخرج أبو نعيم عن أمير المؤمنين عمر رضي اللَّه عنه أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "عثمان أحيا أمتي وأكرمها" (¬4). وأخرج عن أبي أمامة مرفوعًا: " (إن) (¬5) أشد هذه الأمة بعد نبيها حياء عثمان بن عفان" (¬6). ¬
استشهاده رضي الله عنه
وأخرج الإمام أحمد والترمذي وابن ماجة والحاكم عن عائشة رضي اللَّه عنها أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال لعثمان: يا عثمان (إن) (¬1) اللَّه وفي لفظ: "لعل اللَّه مقمصك" وفي لفظ "يقمصك قميصًا فإن أرادوك خلعه فلا تخلعه حتى يخلعوه" وفي لفظ "فلا تخلعه حتى تلقاني" (¬2). وأخرج الترمذي عن أبي سهلة قال: سمعت عثمان رضي اللَّه عنه يقول يوم الدار إن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عهد إلىَّ عهدًا فأنا ممتثل له وصابر عليه إن شاء اللَّه، فصبر حتى قتل رضي اللَّه عنه شهيدًا" (¬3). قال الترمذي: "حديث حسن صحيح". واستشهد رضي اللَّه عنه في داره سنة خمس وثلاثين في وسط أيام التشريق، وصلى عليه الزبير وكان أوصى إليه، ودفن في حش كوكب بالبقيع، وهو أول من دفن في حش كوكب، والحش بالحاء المهملة والشين المعجمة البستان، وضم الحاء أجود من كسرها، وكوكب اسم رجل من الأنصار. وكانت مدة خلافته اثنتي عشرة سنة تحجز سبعة عشر يومًا، ومدة حصاره في ¬
داره إلى أن استشهد تسعة وأربعون يومًا وقيل شهران، واستشهد وهو صائم يومئذ، وهذا يؤيد كون ذلك بعد أيام التشريق أو قبلها, فقد قيل كان قتله لثمان عشرة من ذى الحجة أو لسبع عشرة، وقيل لثمان خلون من يوم التروية، وقيل لليلتين بقيتا منه. وقدم في جامع الأصول لابن الأثير (¬1) وفي "الزهر البسام" (¬2) للبرماوي أنه قتل في ثمانية عشر من ذي الحجة (¬3) وله يومئذ من العمر اثنان وثمانون عامًا وقيل تسعون. ويروى أن المصحف الشريف كان منشورًا بين يديه يقرأ فيه فوقعت قطرة من دمه على قوله تعالى: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 137]. وأخرج الحاكم عن الشعبي رحمه اللَّه قال ما سمعت من مراثي عثمان أحسن من قول كعب بن مالك رضي اللَّه عنه: فكف يديه ثم أغلق بابه ... وأيقن أن اللَّه ليس بغافل وقال لأهل الدار لا تقتلوهم ... عفى اللَّه عن كل امرئ لم يقاتل فكيف رأيت اللَّه صب عليهم ... العداوة والبغضاء بعد التواصل وكيف رأيت الخير أدبر بعده ... عن الناس إدبار الرياح الجوافل (¬4) ¬
الكلام على أمير المؤمنين علي رضي الله عنه
قال الناظم رحمه اللَّه ورضي عنه: (ورابعهم): أي رابع الخلفاء الراشدين المتقدم ذكرهم، وهم أبو بكر وعمر وعثمان رضي اللَّه عنهم. (خير البرية): أي الخلق يقال برأه اللَّه يبروه بروا أي خلقه ويجمع على البرايا والبريات، ومن قال إن أصله مهموز من برأ اللَّه الخلق يبرؤهم أي خلقهم ثم ترك الهمز تخفيفًا فجمعه برييات وبريات وبرايا كخطايا، يعني أن الإمام أمير المؤمنين خير الخلق من هذه الأمة (بعدهم) أي بعد أبي بكر وعمر وعثمان رضي اللَّه عنهم. (علي) بن أبي طالب الأنزع البطين (¬1) إمام الهدى و (أبو) (¬2) الحسنين ابن أبي طالب عم (¬3) سيد الكونين، واسمه عبد مناف من غير مين بن عبد المطلب جد إمام المرسلين وخاتم النبيين. واسم عبد المطلب شيبة الحمد (¬4) قاله ابن إسحاق (¬5). ¬
نسبه وفضائله
وقال ابن قتيبة (¬1) اسمه عامر (¬2) ورده ابن عبد البر (¬3) وكنيته أبو الحارث أكبر أولاده، ويكنى أيضًا بأبي البطحاء، وإنما قيل له عبد المطلب لأن عمه المطلب أردفه حين أتي به من عند (خؤولته) من المدينة صغيرًا وكان في هيئة رثة فكان إذا قيل له من هذا؟ قال: عبدي لرثاثة هيئته (¬4) وهو ابن هاشم واسمه عمرو، واسم عبد مناف المغيرة، وإسم قصي زيد وقيل يزيد، واسم كلاب حكيم وقيل عروة -ابن عبد مناف ابن قصي بن كلاب بن مرة بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان، إلى هنا إجماع (¬5) الأمة (¬6) واختلفوا فيما بعد ذلك إلى آدم اختلافًا كثيرًا، واتفقوا على أنه من ولد إسماعيل بن إبراهيم عليهم الصلاة والسلام. يجتمع نسب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب مع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في جده عبد المطلب فهو ابن عمه -صلى اللَّه عليه وسلم- وأم علي رضي اللَّه عنه فاطمة بنت أسد بن هاشم وهي أول هاشمية ولدت هاشميًا في الإسلام، وقد أسلمت وهاجرت. ¬
وقول الناظم رحمه اللَّه تعالى في وصف أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه: (حليف الخير) بالحاء المهملة المفتوحة وكسر اللام كأمير أصله المحالف والمراد به هنا الملازم للخير المواخي له، الذي إذا وجد وجد معه ويفقد بفقدانه، ومنه قول أخت الوليد بن طريف الشاري الخارجي فيه -واسمها الفارعة وقيل فاطمة، وكانت تجيد الثسعر وتسلك طريق الخنساء في مراثيها لأخيها صخر فقالت في أخيها من قصيدة: حليف الندى ما عاش يرضى به الندى ... فإن مات لا يرضى الندى بحليف (¬1) وزيد حليف اللسان حديده (بالخير): وهو ضد الشر، والمال الكثير منه، واسم جامع لكل منتفع به، والكثير الخير يقال له خير ككيس وهي بهاء والجمع أخيار وخيارًا. (منجح): اسم فاعل من نجحت الحاجة وأنجحت وأنجحها اللَّه والنجاح بالفتح الظفر، والنجح بالضم الظفر بالشيء وأنجح زيد صار ذا نجح وهو منجح والجمع مناجيح ومناجح،، وتنجح الحاجة واستنجحها والنجيح الصواب من الرأي ونجح فلان وأنجح إذا أصاب طلبته، وأنجح أمره تيسر وسهل إشارة إلى ما كان عليه من الظفر بالأقران وموالاة أهل الإيمان، والاعتناء بمكارم الأخلاق، ومزيد الكرم بالأرزاق، وتيسر أموره من الظفر والإنجاح، وأنه لكل مغلق من الخير مفتاح، فرضي اللَّه عنه وأرضاه وبوأه غرف الجنان، ومن أولاه من أهل الحق، وقمع من عاداه، وإذ قد عرفت أنه أقرب الخلفاء الراشدين من الرسول نسبًا وأمسهم رحمًا أمًا وأبًا، ¬
فاسمع الآن ما نذكره من مناقبه ومزاياه وما ثبت من فضائله عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وعلى آله وجميع أصحابه ومن والاه. فقد قال سيدنا الإمام أحمد رضي اللَّه عنه: "ما جاء لأحد من الفضائل ما جاء لعلي رضي اللَّه عنه وأرضاه" (¬1). وكذا قال إسماعيل القاضي (¬2) والنسائي (¬3)؛ وأبو علي النيسابوري (¬4): "لم يرد في حق أحد من الصحابة بالأسانيد الحسان أكثر مما جاء في علي رضي اللَّه عنه" (¬5). ¬
قال بعض المحققين سبب ذلك -واللَّه أعلم- أن اللَّه أطلع نبيه -صلى اللَّه عليه وسلم- على ما سيكون بعده مما ابتلى به أمير المؤمنين علي رضي اللَّه عنه وما وقع له من الاختلاف لما آل إليه أمر الخلافة فاقتضى ذلك نصح الأمة بإشهار الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- لتلك الفضائل لتحصل النجاة لمن تمسك به ممن بلغته، ثم لما وقع ذلك الاختلاف والخروج عليه نشر من سمع من الصحابة تلك الفضائل وبثها نصحًا للأمة ثم لما اشتد الخطب واشتغلت طائفة من بني أمية بتنقيصه وسبه حتى على المنابر ووافقهم على ذلك الخوارج اشتغلت جهابذة العلماء والحفاظ من أهل السنة ببث فضائله حتى كثرت نصحًا للأمة ونصرة للحق (¬1). وقد أخرج السلفي (¬2) في "الطيوريات" (¬3) (¬4) عن أبي عبد الرحمن عبد اللَّه بن الإمام أحمد رضي اللَّه عنهما قال: سألت أبي عن علي ومعاوية فقال: "اعلم أن عليًا رضي اللَّه عنه كان كثير الأعداء ففتش (¬5) أعداؤه شيئًا فلم يجدوا فجاؤا إلى رجل قد حاربه وقاتله فناصروه كيادًا منهم له، رضي اللَّه عنه". ¬
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية قدس اللَّه روحه: "الكل مقر بأن معاوية ليس كفوًا لعلي رضي اللَّه عنهما في الخلافة قال ولا يجوز أن يكون معاوية خليفة مع إمكان استخلاف علي رضي اللَّه عنه لسابقته وعلمه ودينه وشجاعته وسائر فضائله فإنها كانت عندهم ظاهرة معروفة كفضل إخوانه أبي بكر وعمر وعثمان رضي اللَّه عنهم، ولم يكن بقى من أهل الشورى غيره وغير سعد لكن سعدًا كان قد أسقط حقه من هذا الأمر فانحصر الأمر في أمير المؤمنين علي وعثمان رضي اللَّه عنهما فلما توفى عثمان لم يبق لها معين إلا علي رضي اللَّه عنه انتهى كلامه ملخصًا (¬1). وقال سيدنا الإمام أحمد رضي اللَّه عنه: "إن عليًا رضوان اللَّه عليه لم تزنه الخلافة ولكن علي زانها" (¬2). وروى الشعبي قال: "دخل أعرابي على علي رضي اللَّه عنه حين أفضت إليه الخلافة فقال: واللَّه يا أمير المؤمنين لقد زنت الخلافة وما زانتك ورفعتها وما رفعتك ولهي كانت أحوج إليك منك إليها" (¬3). قال أبو عبد اللَّه بن بطة (¬4) رحمه اللَّه تعالى: "قد أحسن الأعرابي وصدق فيما قال فإن عليًا ومن تقدمه من الخلفاء رضي اللَّه عنهم زينوا الخلافة وجملوا أمة محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- وأتموا الدين (¬5) وأظهروه، وأسسوا الإسلام وأشهروه". ¬
وأنشد أبو الفرج ابن الجوزي في تبصرته في حق علي رضي اللَّه عنه: ما زانه الملك إذ حواه ... بل كل شيء به يزان جرى ففات الملوك سبقًا ... فليس قدامه عنان نالت يداه ذرى معال ... يعجز عن مثلها العيان (¬1) وهو أخ لرسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بالمواخاة. فأخرج الترمذي عن ابن عمر رضي اللَّه عنهما قال: "لما آخا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بين أصحابه جاءه علي تدمع عيناه فقال له يا رسول اللَّه آخيت بين أصحابك ولم تواخ بيني وبين أحد قال: فسمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول له: "أنت أخي في الدنيا والآخرة" (¬2) حديث حسن. وأخرج أيضًا عن زيد بن أرقم أو أبي شريحة شك شعبة أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "من كنت مولاه فعلي مولاه" (¬3) وقال: حديث حسن. وفي مسند الإمام أحمد والصحيحين وسنن الترمذي وغيرها من حديث سعد ابن أبي وقاص رضي اللَّه عنه أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- خلف علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه في غزوة تبوك فقال: يا رسول اللَّه أتخلفني في النساء والصبيان فقال: ¬
"أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي". ولمسلم: "أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي". وقال سعيد بن المسيب أخبرني بهذا عامر بن سعد عن أبيه قال: فأحببت أن أشافه سعدًا فلقيته فقلت أنت سمعته من رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فوضع أصبعيه على أذنيه فقال: نعم وإلا فاستكًتا" (¬1). وأخرج الترمذي وقال: حسن صحيح من حديث عمران بن الحصين وحديث حبشي بن جنادة أن رسول -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "علي مني وأنا من علي ولا يؤدي عني إلا علي" (¬2). ورواه الإمام أحمد والنسائي وابن ماجة. ¬
وأخرج مسلم عن علي رضي اللَّه عنه قال: "والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إنه لعهد النبي الأمي إليَّ أنه لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق" (¬1). وأخرج الترمذي عن أبي سعيد الخدري رضي اللَّه عنه قال: "كنا نعرف المنافقين ببغضهم عليًا" (¬2). وفي الصحيحين عن سهل (¬3) بن سعد الساعدي وغيره أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال يوم خيبر: "لأعطين الراية غدًا رجلًا يفتح اللَّه على يديه يحب اللَّه ورسوله ويحبه اللَّه ورسوله قال فبات الناس يدوكون ليلتهم -أي يخوضون ويتحدثون أي باتوا ليلتهم في حزر وتخمين يقال داك القوم وقعوا في اختلاط ووقعوا في دوكه ويضم شر وخصومة وتداوكوا تضايقوا في ذلك كما في القاموس أي يتخاصمون (¬4) -أيهم يعطاها فقال أين علي بن أبي طالب؟ فقيل: هو يا رسول اللَّه يشتكى عينيه. قال: فأرسلوا إليه فأتى به فبصق في عينيه ودعا له فبرأ حتى كأن لم يكن به وجع فأعطاه الراية فقال علي: يا رسول اللَّه أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟ قال: انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم ثم ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حق اللَّه عز وجل فيه فواللَّه لأن يهدي اللَّه بك رجلًا واحدًا خير لك من حمر النعم" (¬5). ¬
وفي حديث أبي هريرة عند مسلم قال عمر بن الخطاب: ما أحببت الإمارة إلا يومئذ. قال فتساورت -أي تطاولت لها- رجاء أن أدعى لها قال: فدعى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه فأعطاه إياها وقال إمشي ولا تلتفت حتى يفتح اللَّه عليك قال فسار علي شيئًا ثم وقف ولم يلتفت فصرخ برسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- على فإذا أقاتل الناس؟ قال: قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا اللَّه وأن محمدًا رسول اللَّه فإذا فعلوا فقد منعوا منك دمائهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على اللَّه" (¬1). وفي الصحيحين عن سهل بن سعد الساعدي "أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وجد عليًا مضطجعًا في المسجد وقد سقط رداؤه عن شقه فأصابه تراب فجعل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يمسحه عنه ويقول: قم أبا تراب قم أبا تراب" (¬2). فلذلك كانت هذه الكنية أحب الكنى إليه لأنه -صلى اللَّه عليه وسلم- كناه بها. وقد قال عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه: علي رضي اللَّه عنه أقضانا (¬3) أخرجه ابن سعد. وأخرج الحاكم عن ابن مسعود رضي اللَّه عنه قال: "أقضى أهل المدينة علي" (¬4). ¬
وأخرج ابن سعد عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما قال: "إذا حدثنا الثقة عن علي الفتيا لا نعدوها" (¬1). وأخرج عن سعيد بن المسيب قال كان عمر بن الخطاب يتعوذ باللَّه من معضلة ليس لها أبو حسن" (¬2) -يعني عليًا- رضي اللَّه عنهم. وقال ابن عباس رضي اللَّه عنهما: "كان لعلي ما شئت من ضرس قاطع في العلم وكان له القدم في الإسلام والصهر برسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- والفقه في السنة والنجدة في الحرب والجود في المال" (¬3). وأخرج أحمد وأبو يعلى بسند صحيح عن علي رضي اللَّه عنه قال: "ما رمدت ولا صدعت منذ مسح رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وجهي وتفل في عيني يوم خيبر حين أعطاني الراية" (¬4). ولما بلغه رضي اللَّه عنه افتخار معاوية رضي اللَّه عنه قال لغلامه اكتب ثم أملى عليه: ¬
محمد النبي أخي وصهري ... وحمزة سيد الشهداء عمي وجعفر الذي يمسى ويضحى ... يطير مع الملائكة ابن أمي وبنت محمد سكني وعرسي ... منوط لحمها بدمي ولحمي وسبطا أحمد ابناى منها ... فأيكم له سهم كسهمي سبقتكم إلى الإسلام طرا ... غلامًا ما بلغت أوان حلمي (¬1) قال الحافظ أبو حسن البيهقي (¬2) أن هذا الشعر مما يجب على كل متوان في علي رضي اللَّه عنه (حفظه) (¬3) لتعلم مفاخره في الإسلام. انتهى. ورضي اللَّه عن الإمام الشافعي حيث يقول شعرًا: يا راكبًا قف بالمحصب من منى ... واهتف بساكن خيفها والناهض سحرًا إذا فاض الحجيج إلى منى ... فيضًا كملتطم الفرات الفائض إن كان رفضًا حب آل محمد ... فليشهد الثقلان أني رافضي (¬4) ¬
ولايته الخلافة وما جرى له مع معاوية
وقال أيضًا: قالوا ترفضت قلت كلا ... ما الرفض ديني ولا اعتقادي لكن توليت غير شك ... خير إمام وخير هاد إن كان حب الولي رفضًا ... فإنني لم أرْفَضُ العباد (¬1) ولي الإمام أمير المؤمنين علي الأنزع البطين (¬2) الخلافة بعد أن استشهد عثمان بن عفان، فإنه لما قتل عثمان جاء الناس يهرعون إلى علي فقالوا: نبايعك فمد يدك فلابد للناس من أمير فقال علي: ليس ذلك إليكم إنما ذلك إلى أهل بدر فمن رضي به أهل بدر فهو خليفة، فلم يبق أحد من أهل بدر إلا أتى عليًا فقالوا: ما نرى أحدًا أحق بها منك مد يدك نبايعك فبايعوه (¬3). وهرب مروان وولده، وزعم بعض الناس أن طلحة والزبير إنما بايعا كارهين غير طائعين، ثم خرجا إلى مكة، وأم المؤمنين عائشة بها فأخذاها وخرجا إلى البصرة يطلبون بدم عثمان، فبلغ ذلك عليًا فخرج إلى العراق فلقي طلحة والزبير ومن معهما وهي وقعة الجمل وكانت في جمادى الآخرة سنة ست وثلاثين وقتل بها طلحة والزبير رضي اللَّه عنهما، وبلغت القتلى ثلاثة عشر ألفًا وأقام علي بالبصرة خمس عشرة (¬4) ليلة ثم انصرف إلى الكوفة ثم خرج عليه معاوية ¬
ومن معه من أهل الشام، فبلغ عليًا فسار، فالتقوا بصفين في صفر سنة سبع وثلاثين، ودام القتال بها أيامًا، فرفع أهل الشام المصاحف يدعون إلى ما فيها، مكيدة من عمرو بن العاص (¬1)؛ وكتبوا بينهم كتابًا أن يوافوا رأس الحول بأذرح (¬2) فينظروا في أمر الأمة، فافترق الناس ورجع علي إلى الكوفة ومعاوية إلى الشام (¬3)؛ وبلغت القتلى في تلك الأيام ثلاثين ألفًا. قال القرطبي: "وكان مقام علي ومعاوية بصفين سبعة أشهر. وقيل: تسعة أشهر، وقيل: ثلاثة أشهر، وقيل: بل قتل في ثلاثة أيام ثلاثة وسبعون ألفًا وهي الأيام البيض: ثلاثة عشر، وأربعة عشر، وخمسة عشر، ومن تلك الليالي ليلة الهرير، وهو ¬
الصوت الذي يشبه نباح الكلاب، لأنهم تراموا بالنبل حتى فنيت وتطاعنوا بالرماح حتى اندقت، وتضاربوا بالسيوف حتى انقضت، ثم نزل القوم يمشي بعضهم إلى بعض وقد كسروا جفان سيوفهم، وتضاربوا بما بقي من السيوف، وعمد الحديد، فلا يسمع إلا غمغمة القوم والحديد في السهام، ثم تراموا بالأحجار، ثم جثوا على الركب فتحاثوا بالتراب، ثم تكادموا بالأفواه، وكسفت الشمس (¬1)؛ وثار القتام وارتفع الغبار، وضلت الألوية والرايات، ومرت مواقيت أربع صلوات، لأن القتال كان من بعد صلاة الفجر إلى ما بعد نصف الليل، وكان ذلك في ربيع الأول من سنة سبع وثلاثين، كما في تاريخ سيدنا الإمام أحمد بن حنبل (¬2). وكان مع معاوية من أهل الشام مائة ألف وخمسة وثلاثون ألفًا كما ذكره الزبير ابن بكار (¬3). واستشهد في صفين أبو اليقظان عمار بن ياسر رضي اللَّه عنه وكان مع علي وكان عمر عمار يومئذ ثلاثًا وتسعين عامًا وهو الطيب المطيب (¬4) وكان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال له: "تقتلك الفئة الباغية" رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري ¬
رضي اللَّه عنه عن أبي قتادة رضي اللَّه عنه (¬1). وأخرجه مسلم أيضًا من حديث أم المؤمنين أم سلمة رضي اللَّه عنها (¬2) ومن حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه عند الترمذي (¬3) وغيرهم. وفى صحيح البخاري من حديث أبي سعيد الخدري أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- "جعل ينفض التراب عن عمار وهم يبنون المسجد النبوى ويقول: ويح عمار يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار، قال وجعل عمار يقول: أعوذ باللَّه من الفتن". وفى رواية: "ويح عمار تقتله الفئة الباغية يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار" (¬4) ولم يذكر البخاري هذه الزيادة يعني قوله: تقتله الفئة الباغية، وهى ثابتة صحيحة وهي في صحيح مسلم وغيره وكذلك في بعض نسخ البخاري (¬5) كما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية (¬6) قدس اللَّه روحه وغيره من أهل العلم. قال شيخ الإسلام: "ومن رضي بقتل عمار رضي اللَّه عنه كان حكمه حكمها أي حكم الفئة الباغية التي قتلته (¬7). ويروى أن معاوية تأول أن الذي قتله هو الذي ¬
خروج الخوراج على علي رضي الله عنه
جاء به (إلى منون مقاتله) (¬1) قال فما قتله إلا الذي أخرجه فألزمه عدي رضي اللَّه عنه بقوله: فرسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إذًا قتل حمزة حين أخرجه لقتال المشركين، ولا يخفى ضعف حجة معاوية هذه. ومن ثم قال شيخ الإسلام ابن تيمية قدس اللَّه روحه: "ولا ريب أن قول علي رضي اللَّه عنه هذا هو الصواب وإنما معاوية رضي اللَّه عنه مجتهد مخطئ" (¬2) واللَّه أعلم. ثم خرجت عن طاعة أمير المؤمنين علي رضي اللَّه عنه الخوارج وهم القراء فقالوا كفر علي وكفر معاوية لعدم مناجزة علي قتال معاوية فاعتزلوا عليًا ونزلوا حروراء -قرية بأرض العراق قريبًا من الكوفة- وهم بضعة عشر ألفًا. فأرسل أمير المؤمنين علي رضي اللَّه عنه عبد اللَّه ين عباس رضي اللَّه عنهما فناشدهم اللَّه تعالى أن ارجعوا إلى خليفتكم فبم نقمتم عليه أفي قسمة أو في قضاء؟ قالوا: نخاف أن ندخل في الفتنة قال فلا تعجلوا ضلالة العام مخافة فتنة العام القابل فرجع بعضهم إلى الطاعة وتأخر آخرون، فقالوا: نكون ناحية فإن قبل علي القضية يعني التحيكم قاتلناه على ما قاتلنا عليه أهل الشام بصفين وإن نقضها قاتلنا معه فساروا حتى قطعوا النهر وافترقت منهم فرقة يقتلون الناس فقال أصحابهم ما على هذا فارقنا عليًا. فلما بلغ ذلك عليًا وكان قد تجهز لمعاودة قتال أهل الشام بعد التحيكم وغدر عمرو بن العاص وخدعه لأبي موسى الأشعري من عزل علي وإبقاء معاوية (¬3). ¬
قال علي رضي اللَّه عنه لأصحابه أتسيرون (¬1) إلى عدوكم يعني معاوية ومن معه من أهل الشام أو ترجعون إلى هؤلاء الذين خلفوكم في ديارهم قالوا بل نرجع إليهم. فقال رضي اللَّه عنه: اسطوا عليهم فواللَّه لا يقتل منكم عشرة ولا يفر منهم عشرة فكان كذلك، وأصابوا في القتلى ذا الثدية بعد طلب أمير المؤمنين التماسه فوجدوه على النعت الذي نعته لهم فقال رجل الحمد للَّه الذي أبادهم وأراحنا منهم فقال علي رضي اللَّه عنه: كلا والذي نفسي بيده إن منهم لمن في أصلاب الرجال لم تحمله النساء بعد (¬2). وهؤلاء الذين قال فيهم رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين فقتلها أولى الطائفتين إلى الحق" رواه مسلم في صحيحه (¬3). فقتلهم علي رضي اللَّه عنه وفرح بقتلهم بخلاف وقعة الجمل وغيرها فإنه كان يظهر عليه الحزن والأسف والكآبة، ومن بقايا الخوارج (¬4) القرامطة (¬5) وهم الباطنية (5) والإسماعيلية (5) والدروز (5) والملاحدة (5) وأضرابهم. ¬
سياق أحاديث فيها الإشارة إلى مقتل علي رضي الله عنه
وقد أخرج الإمام أحمد والحاكم بسند صحيح عن عمار بن ياسر رضي اللَّه عنه أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال لعلي: "أشقى الناس رجلان أحيمر ثمود -الذي عقر الناقة- والذي يضربك يا علي على هذه بعني قرنه حتى يبل منه هذه يعني لحيته" (¬1). وقد ورد ذلك أيضًا من حديث علي وصهيب وجابر بن سمرة وغيرهم رضي اللَّه عنهم (¬2). وكان علي رضي اللَّه عنه يقول لأهل العراق عند ضجره منهم وددت أن انبعث أشقاكم فخضب هذه -يعني لحيته- من هذه ووضع يده على مقدمة رأسه" (¬3). ¬
مقتل علي رضي الله عنه
وصح أن عبد اللَّه بن سلام قال لعلي رضي اللَّه عنهما: "لا تقدم العراق فإني أخشى أن يصيبك بها ذباب السيف فقال علي رضي اللَّه عنه: "لقد أخبرني به رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-" (¬1). ولم يزل علي رضي اللَّه عنه في محاربة الأعداء ومنازعة الخصماء إلى أن فتك به أشقى الآخرين عبد الرحمن بن ملجم المرادي اللعين فكمن هو وشبيب بن شجرة الأشجعي بسيفيهما قالة السدة (¬2) التي يخرج منها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه فخرج لصلاة الصبح فبدر شبيب فأخطأه وضربه ابن ملجم على رأسه وقال: الحكم للَّه يا علي لا لك ولا لأصحابك، فقال علي رضي اللَّه عنه: فزت ورب الكعبة لا يفر منكم الكلب، وشد الناس عليه من كل جانب فحمل عليهم ابن ملجم فأفرجوا له فتلقاه المغيرة بن الحارث بن نوفل بن عبد المطب فرمى عليه قطيفة كانت عنده واحتمله وضرب به الأرض وقعد على صدره وقيل الذي فعل ذلك رجل من همدان، وجيء بابن ملجم إلى علي رضي اللَّه عنه فنظر اليه وقال: النفس بالنفس إن أنا مت فاقتلوه كما قتلني وإن سلمت رأيت فيه رأيي، وكان ذلك يوم الحمعة فأقام على الجمعة والسبت وتوفي ليلة الأحد التاسع عشر من شهر رمضان سنة أربعين، وعمره ثلاث وستون سنة (¬3) وغسله ¬
الحسن والحسين وعبد اللَّه بن جعفر رضي اللَّه عنهم وصلى عليه الحسن ودفن بدار الإمارة بالكوفة (¬1). ثم أحضر ابن ملجم وجاء الناس بالنفط والبواري (¬2) وقطعت يداه ورجلاه وكحلت عيناه بمسامير الحديد محماة ثم قطع لسانه، ثم أحرق في قوصرة ولما أرادوا قطع لسانه تمانع تمانعًا شديدًا مع أنه قطعت أعضاؤه ولم يتأوه فقيل له في ذلك فقال لئلا يفوتني من تلاوة القرآن شيء وأنا حي فشقوا شدقه وأخرجوا لسانه فقطعوه (¬3). وكان ابن ملجم لعنه اللَّه قبل ذلك من العباد المعدودين حتى أن عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه كتب إلى بعض عماله أن يوسع دار عبد الرحمن بن ملجم ليعلم الناس الفقه والقرآن. ثم كان من شيعة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وشهد معه صفين ثم آل أمره إلى ما ترى فنسأل اللَّه تعالى حسن الخاتمة في عافية، وعند الخوارج أن ابن ملجم أفضل الأمة وكذلك النصيرية (¬4) يعظمونه. ¬
قال أبو محمد بن حزم: "يقولون إن ابن ملجم أفضل أهل الأرض لأنه خلص روح اللاهوت من ظلمة الجسد وكدره" (¬1). وعند الروافض أنه أشقى الخلق في الآخرة. قلت: وتقدم أنه أشقى الآخرين بنص سيد المرسلين واللَّه تعالى أعلم. "روي لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- خمسمائة حديث وستة وثمانون حديثًا، اتفق الشيخان منها على عشرين حديثًا وانفرد البخاري بتسعة ومسلم بخمسة عشر (¬2) ومناقب أمير المؤمنين علي رضوان اللَّه عليه كثيرة ومآثره شهيرة وفضائله غزيرة، وإنما ذكرنا قطرة من بحر، أو رملة من بر، واللَّه تعالى الموفق. وقول الناظم رحمه اللَّه تعالى: (وإنهم): يعني الخلفاء الأربعة الراشدين المهديين الهادين: أبو بكر الصديق، وعمر الفاروف، وعثمان ذو النورين، وعلي المرتضى الأنزع البطين رضي اللَّه عنهم أجمعين. ¬
تفسير معنى الرهط
وإن (الرهط) بفتح الراء مشددة وسكون الهاء وتحرك: قوم الرجل وقبيلته، ومن ثلاثة إلى عشرة، أو من سبعة إلى عشرة أو ما دون العشرة، وما فيهم امرأة، ولا واحد له من لفظه وجمعه أرهط وأراهيط وأرهاط (¬1) وفي القرآن العزيز: {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ} [النمل: 48]. يعني من ثمود قوم صالح عليه السلام. (لا ريب): أي لا شك ولا تهمة، والريب يطلق ويراد به صرف الدهر، والحاجة، والظنة، والتهمة (¬2) والأخير هو المراد هنا (فيهم) أي في الخلفاء الراشدين والجار والمجرور متعلق بلا ريب أي لا تهمة ولا ريبة ولا شك ولا مظنة أنهم كائنون وصائرون: (على نجب) جمع نجيب هو الكريم الحسيب وناقة نحيب ونجيبة، وقد نجب ككرم نجابة كما في القاموس (¬3). وفي النهاية: "النجيب الفاضل من كل حويان، وقد نجب ينجب نجابة إذا كان فاضلًا نفيسًا في نوعه ومنه الحديث: "إن اللَّه يحب التاجر النجيب" (¬4). أي الفاضل الكريم السخي، وقد تكرر في الحديث ذكر النجيب من الإبل مفردًا ومجموعًا، وهو القوي منها الخفيف السريع" (¬5). و (الفردوس) بالجر بإضافته إلى نجب (¬6) وهو في الأصل البستان الذي فيه الكرم ¬
والأشجار والجمع فراديس، ومنه جنة الفردوس وهو المراد هنا فمن أسماء الجنة الفردوس كما في قوله تعالى: {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون: 10 - 11]. وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا} [الكهف: 107]. قال الإمام المحقق شمس الدين ابن القيم في كتابه "حادي الأرواح إلى منازل الأفراح": "الفردوس اسم يقال على جميع الجنة ويقال على أفضلها وأعلاها كأنه أحق بهذا الاسم من غيره من الجنان". وقال الليث (¬1): الفردوس جنة ذات كروم يقال كرم مفردس أي معرش. وقال الضحاك (¬2): الفردوس الجنة الملتفة بالأشجار وهو اختيار المبرد (¬3) قال: وبهذا سمى باب الفردوس بالشام. وأنشد لجرير (¬4) قوله "شعر": فقلت للركب إذ جد المسير (¬5) بنا ... يا بعد (¬6) بيرين (¬7) من باب الفراديس (¬8) ¬
وقال مجاهد (¬1) الفردوس هو البستان بالرومية (¬2). واختاره الزجاج (¬3) فقال هو بالرومية منقول إلى لفظ العربية قال وحقيقته: البستان الذي يجمع كل ما يكون في البساتين. قال حسان بن ثابت (¬4) رضي اللَّه عنه: وإن ثواب اللَّه كل مخلد ... جنان الفردوس فيها يخلد (¬5) (¬6) وأخرج الإمام أحمد والطيالسي (¬7) والبيهقي عن أبي موسى الأشعري رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "جنان الفردوس أربع جنتان من ذهب حليتهما وآنيتهما وما فيهما، وجنتان من فضة حليتهما وآنيتهما وما فيهما وما بينهم وبين أن يروا ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن" (¬8). ¬
قال البيهقي قوله: "رداء الكبرياء استعارة لصفة الكبرياء والعظمة لأنه بكبريائه لا يراه أحد من خلقه إلا بإذنه، ويؤيده أن الكبرياء ليس من جنس الثياب المحسوسة" (¬1). وأخرج البخاري عن أنس رضي اللَّه عنه قال: أصيب حارثة يوم بدر فجاءت أمه فقالت يا رسول اللَّه قد علمت منزلة حارثة منى فإن يكن في الجنة صبرت وإن يكن غير ذلك ترى ما أصنع، فقال إنها ليست بجنة واحدة بل جنان كثيرة وإنه في الفردوس الأعلى" (¬2). وأخرج الحاكم والبيهقي عن أبي موسى الأشعري رضي اللَّه عنه أنه قال في هذه الآية: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46] "قال جنتان من ذهب للسابقين (¬3) وجنتان من فضة للتابعين" (¬4) وفي لفظ: "وجنتان من ورق لأصحاب اليمين" (¬5). وأخرج الترمذي والحاكم والبيهقي عن عبادة بن الصامت رضي اللَّه عنه أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "إن في الجنة مائة درجة بين كل درجتين كما بين السماء والأرض ¬
والفردوس أعلاها درجة ومن فوقها يكون العرش ومنها تفجر أنهار الجنة الأربعة فإذا سألتم اللَّه فاسئلوه الفردوس" (¬1). وروى نحوه البيهقي من حديث معاذ رضي اللَّه عنه مرفوعًا (¬2) والطبراني والبزار من حديث سمرة بن جندب مرفوعًا (¬3) -أيضًا- والبزار عن العرباض بن سارية مرفوعًا (¬4) أيضًا. وأخرج الطبراني عن أبي أمامة رضي اللَّه عنه عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه قال: "سلوا اللَّه الفردوس فإنها سرة الجنة، وإن أهل الفردوس ليسمعون أطيط العرش" (¬5). وأشعر نظامه (¬6) أن في الجنة نجبًا وهو كذلك. فقد أخرج الترمذي والبيهقي عن بريدة رضي اللَّه عنه أن رجلًا قال يا رسول اللَّه هل في الجنة خيل؟ فقال: "إن يدخلك اللَّه الجنة فلا تشاء أن تركب على فرس من ¬
ياقوتة حمراء تطير بك في الجنة حيث شئت إلا ركبت"، فقال آخر: يا رسول اللَّه هل في الجنة إبل؟ فلم يقل له مثل الذي قال لصاحبه قال: "إن يدخلك اللَّه الجنة يكن لك فيها ما اشتهت نفسك ولذة عينك" (¬1). وروى نحوه أبو نعيم من حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وذكر الجنة فقال: "والفردوس أعلاها سموًا وأوسعها محلة ومنها تفجر أنهار الجنة وعليها يوضع العرش يوم القيامة" فقام إليه رجل فقال يا رسول اللَّه: إني رجل حببت لي الخيل فهل في الجنة خيل؟ قال: "إي والذي نفسى بيده إن في الجنة لخيلًا وإبلًا هفافة (¬2) تزف (¬3) بين خلال ورق الجنة يتزاورن عليها حيث شاءوا"، فقام إليه رجل فقال يا رسول اللَّه: إني حبب إلىَّ الإبل. . وذكر الحديث (¬4). ورواه أبو نعيم من حديث جابر بن نوح (¬5) عن واصل (¬6) به قال إن أهل الجنة ليتزاورون على نجائب بيض كأنها الياقوت (¬7). ¬
من نعيم أهل الجنة ركوب النجب والتزاور بينهم
وقال الإمام عبد اللَّه بن المبارك حدثنا همام (¬1) عن قتادة عن عبد اللَّه بن عمرو رضي اللَّه عنهما قال: "في الجنة عتاق الخيل وكرائم النجائب يركبها أهلها" (¬2). وروى ابن أبي الدنيا (¬3) من حديث (شفي بن ماتع) (¬4) رضي اللَّه عنه أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "إن من نعيم أهل الجنة أنهم يتزاورون على المطايا والنجب وأنهم, يؤتون في الجنة بخيل مسرجة ملجمة لا تروث ولا تبول فيركبونها حتى ينتهوا حيث شاء اللَّه عز وجل" (¬5). . . الحديث. وروى ابن أبي الدنيا -أيضًا- من حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال: "إن أهل الجنة ليتزاورون على العيس الجون (¬6) عليها رحال ملس تثير ماسمها غبار المسك خطام أو زمام أحدها خير من الدنيا وما فيها" (¬7). ¬
ترجمة سعيد بن زيد رضي الله عنه
العيس إبل في بياضها ظلمة خفيفة، والمناسم بنون وسين مهملة جمع منسم وهو باطن خف البعير. ولذا قال الناظم رحمه اللَّه ورضي اللَّه عنه في حق الخلفاء الراشدين وبقية العشرة المبشرين بالجنة من سيد العالمين وخاتم المرسلين صلوات اللَّه وسلامه عليه وعليهم أجمعين في دار الخلد من الفردوس الأعلى (تسرح) أي ترسل حيث شاء راكبها، وفعلها "سرح" كمنع ورجل سرح كفرح: خرج في أموره سهلًا، والحاصل أن هؤلاء العشرة مقطوع لهم بالجنة يتزاورون على النجب في جنة الفردوس. قال الإمام المحقق ابن القيم في كتابه "حادي الأرواح إلى منازل الأفراح": "أهل الجنة يتزاورون فيها ويستزيد بعضهم بعضًا وبذلك تتم لذتهم وسرورهم" "ولهذا قال حارثة للنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وقد سأله "كيف أصبحت يا حارثة" قال: أصبحت مؤمنًا حقًا. قال: "إن لكل حق حقيقة فما حقيقة إيمانك"؟ قال: عزفت نفسي عن الدنيا فأسهرت ليلي وأظمأت نهاري وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزًا وإلى أهل الجنة يتزاورون فيها، وإلى أهل النار يعذبون، وفي لفظ يتعاوون فيها قال -صلى اللَّه عليه وسلم- "عبد نور اللَّه قلبه عرفت فالزم" (¬1). قرله: عزفتُ: بالعين المهملة وبعدها زاى وفاء أي صرفت. ثم إن الناظم رحمه اللَّه تعالى فسر الرهط فقال أحدهم (سعيد) وهو أبو الأعور ¬
ترجمة سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه
سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل بن عبد العزى القرشي العدوي ابن عم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنهما وأمه فاطمة بنت بعجة بن أمية بن خزاعة. أسلم سعيد قديمًا قبل أن يدخل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- دار الأرقم وشهد الشاهد كلها مع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- غير بدر، فإنه كان هو وطلحة بن عبيد اللَّه يطلبان خبر عير قريش، وضرب له النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بسهمه في المغنم والأجر. كان رضي اللَّه عنه آدم طوالًا، أشعر. مات بالعقيق قريبًا من المدينة فحمل إليها ودفن بها سنة إحدى وخمسين وله بضع وسبعون سنة، ويقال إنه مات بالكوفة ودفن بها، روي له عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ثمانية وأربعون حديثًا منها في الصحيحين ثلاثة المتفق عليه منها اثنان، وانفرد البخاري بالثالث. روى عنه عمرو بن حويرث، وعروة بن الزبير، وقيس بن أبي حازم وعباس بن سهل بن سعد (¬1). (و) الثاني أبو إسحاق (سعد) بن أبي وقاص (¬2) واسم أبي وقاص مالك ابن وهيب ويقال أهيب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب يجتمع نسبه مع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في كلاب، القرشي الزهري وأمه حمنة (¬3) بنت ¬
ترجمة عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه
سفيان وقيل بنت أبي سفيان بن عبد شمس بن عبد مناف، أسلم قديمًا على يد أبي بكر الصديق وهو ابن سبع عشرة سنة قال: كنت ثالث الإسلام، وأنا أول من رمى بسهم في سبيل اللَّه، شهد المشاهد كلها مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، كان رضي اللَّه عنه قصيرًا غليظًا ذا هامة شثن (¬1) الأصابع آدم أفطس (¬2) أشعر الجسد، مات في قصره بالعقيق قريبًا من المدينة فحمل على رقاب الرجال إلى المدينة وصلى عليه مروان بن الحكم وهو -أي مروان- يومئذ والي المدينة ودفن بالبقيع سنة خمس وخمسين وقيل سبع وخمسين وله بضع وسبعون سنة، وهو آخر العشرة موتًا، ولاه عمر وعثمان رضي اللَّه عنهم الكوفة روي له عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- مائتان وسبعون حديثًا منها في الصحيحين ثمانية وثلاثون حديثًا اتفقا منها على خمسة عشر وانفرد البخاري بخمسة ومسلم بثمانية عشر، روى عنه عبد اللَّه بن عمر وجابر بن سمرة وعامر ومحمد ومصعب بنوه، وإبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، وابن المسيب، وأبو عثمان النهدي، وقيس بن أبي حازم وغيرهم. (و) الثالث أبو محمد عبد الرحمن (بن عوف) بن عبد الحارث بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب القرشي الزهري يلتقي مع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في كلاب بن مرة كان اسمه في الجاهلية عبد عمرو فسماه النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عبد الرحمن، وأمه الشفاء بنت عوف بن عبد الحارث بن زهرة أسلمت وهاجرت، وأسلم عبد الرحمن قديمًا على يد أبي بكر الصديق رضي اللَّه تعالى عنهما، وهاجر إلى الحبشة الهجرتين، وشهد المشاهد كلها مع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وثبت يوم أحد، وصلى النبي ¬
ترجمة طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه
خلفه في غزوة تبوك وأتم ما فاته، كان طويلًا دقيق البشرة أبيض مشربًا بحمرة ضخم الكفين أقنى (¬1) وقيل كان ساقط الثنيتين أعرج أصيب يوم أحد وجرح عشرين جراحة أو أكثر فأصابه بعضها في رجله فعرج، ولد بعد الفيل بعشر سنين ومات سنة اثنتين وثلاثين ودفن بالبقيع، وله ثنتان وسبعون سنة، وقيل خمس وسبعون سنة. روى له عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- خمسة وستون حديثًا منها في الصحيحين سبعة أحاديث المتفق عليه منها حديثًا وباقيها للبخاري، روى عنه ابن عباس وابنه إبراهيم وبجالة بن عبد وغيرهم (¬2). (و) الرابع أبو محمد (طلحة) بين عبيد اللَّه بن عثمان بن كعب بن سعد بن تيم ابن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب القرشي التميمي يلتقي نسبه مع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- كالصديق في مرة بن كعب وأمه الصعبة بنت عبد اللَّه بن عباد الحضرمي أخت العلا الحضرمي أسلمت، وأسلم طلحة قديمًا على يد أبي بكر الصديق رضي اللَّه عنهما وشهد المشاهد كلها غير بدر لأن النبي كان انفذه هو وسعيد بن زيد -كما تقدم- في ترجمة سعيد، فعادا يوم اللقاء ببدر وضرب له -صلى اللَّه عليه وسلم- كسعيد بسهم في الغنيمة والأجر، ووقى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يوم أحد بيده فشلت أصابعه وجرح يومئذ أربعة وعشرين جراحة، وقيل بل كان فيه خمس وسبعون بين طعنة وضربة ورمية وسماه النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يوم أحد طلحة الخير، وسماه يوم غزوة ذات العشيرة طلحة الفياض ويوم حنين طلحة الجود" (¬3). ¬
ترجمة أبو عبيدة رضي الله عنه
وكان آدم كثير الشعر ليس بالجعد (¬1) القطط (¬2) ولا بالسبط حسن الوجه دقيق العرنين (¬3) لا يغير شعره، قتل رضي اللَّه عنه في وقعة الجمل يوم الخميس لعشر بقين من جمادى الآخرة سنة ست وثلاثين، ويقال إن الذي قتله مروان بن الحكم وقيل أصابه سهم في حلقه، ودفن بالبصرة وله أربع وستون سنة وقيل اثنتان وستون. روي له عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ثمانية وثلاثون حديثًا منها في الصحيحين سبعة المتفق عليه منها حديثان وانفرد البخاري بحديثين ومسلم بثلاثة، وروى عنه السائب ابن يزيد وعبد الرحمن بن عثمان بن عبيد اللَّه التيمي وأبو عثمان النهدي وقيس بن أبي حازم وموسى بن طلحة وغيرهم (¬4). (و) الخامس أمين الأمة أبو عبيدة (عامر) بن عبد اللَّه بن الجراح بن هلال بن أهيب بن ضبة بن الحارث بن (فهو) بن مالك بن النضر بن كنانة القرشي الهذلي يلتقي نسبه مع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في فهر بن مالك، أسلم هو وعثمان بن مظعون بعد ثلاثة عشر رجلًا وهاجر إلى الحبشة الهجرة الثانية وشهد المشاهد كلها مع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ¬
وثبت معه يوم أحد، ونزع الحلقتين اللتين دخلتا في وجه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يوم أحد من حلق المغفر بفيه فوقعت ثنيتاه كان طوالًا معروق الوجه أي قليل لحم الوجه خفيف اللحية، مات في طاعون عمواس بالأردن سنة ثماني عشرة ودفن بغوربيسان، وقبره يزار ويتبرك به (¬1) وصلى عليه معاذ بن جبل وهو ابن ثمان وخمسين سنة، روي له عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- خمسة عشر حديثًا لم يخرج له البخاري في صحيحه شيئًا. ولا أخرج له مسلم إلا في حديث العنبر من رواية أبي الزبير عن جابر بن عبد اللَّه رضي اللَّه عنهم وهو قوله: يعني قول أبي عبيدة رضي اللَّه عنه: "نحن رسل رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وهو معنى تام فسموه حديثًا (¬2). ¬
ترجمة الزبير بن العوام رضي الله عنه
روى عن أبي عبيدة رضي اللَّه عنه جابر بن عبد اللَّه وأبو أمامة الباهلي وأبو ثعلبة الخشني وشهر بن جندب وغيرهم (¬1). (و) السادس أبو عبد اللَّه (الزبير) (¬2) بضم الزاي وكسر الموحدة فتحتية ساكنة فراء ابن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب بن مرة القرشي الأسدي وأمه صفية رضي اللَّه عنها بنت عبد المطب عمة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أسلمت وأسلم هو قديمًا على يد أبي بكر الصديق رضي اللَّه عنهما وهو ابن ستة (¬3) عشر سنة، فعذبه عمه بالدخان ليترك الإسلام فلم يفعل (¬4). وهاجر إلى الحبشة الهجرتين وشهد مع الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- المشاهد كلها وهو أول من سل سيفًا في سبيل اللَّه من هذه الأمة، وثبت مع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يوم أحد وكان رضي اللَّه ¬
عنه أبيض طويلًا ويقال لم يكن بالطويل ولا بالقصير، يميل إلى الخفة في اللحم، ويقال: كان أسمر خفيف العارضين قتله عمير بن جرموز بضم الجيم وسكون الراء وضم الميم فواو ساكنة فزاي بسفوان -بفتح السين المهملة وفتح الفاء والواو فألف ساكنة فنون- من أرض البصرة سنة ست وثلاثين وله أربع وستون سنة، ودفن بوادي السباع ثم حول إلى البصرة وقبره مشهور بها، يلتقي نسبه مع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في قصي. روي له عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ثمانية وثلاثون حديثًا منها في الصحيحين تسعة المتفق عليها منها حديثان وباقيها للبخاري روى عنه ابناه عبد اللَّه وعروة وغيرهما. وقول الناظم رحمه اللَّه تعالى: (الممدح): أي المتصف بالخصال التي يمدح بها ويحمد عليها إشارة إلى كثرة مناقبه، وغزور مزاياه، منها قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن لكل نبي حواريًا وإن حواري الزبير بن العوام" رواه الترمذي من حديث أمير المؤمنين علي رضي اللَّه عنه، قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح (¬1). ورواه البخاري ومسلم والترمذي أيضًا من حديث جابر بن عبد اللَّه رضي اللَّه عنهما (¬2). وجمع له رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أبويه فقال: "فداك أبي وأمي" (¬3) متفق عليه من حديث عبد اللَّه بن الزبير عن أبيه رضي اللَّه عنهما. ¬
الأحاديث الواردة في بشارة العشرة بالجنة
وأخرج الترمذي عن هشام بن عروة قال: أوصى الزبير إلى ابنه عبد اللَّه رضي اللَّه عنهما صبيحة يوم الجمل فقال: "ما مني عضو إلا وقد جرح مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- حتى انتهى ذلك مني إلى الفرج" (¬1) وقال الترمذي هذا حديث حسن غريب. (فهؤلاء الستة نفر الذين أشار إليهم الناظم رحمه اللَّه تعالى بأنهم: (على نجب الفردوس في الخلد تسرح) أفضل الصحابة رضي اللَّه عنهم بعد الخلفاء الراشدين، والخلفاء الراشدون) (¬2) وهؤلاء الستة هم المبشرون بالجنة: ففي حديث عبد الرحمن بن عوف رضي اللَّه عنه عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه قال: "أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلي في الجنة، وطلحة في الجنة، والزبير في الجنة، وعبد الرحمن بن عوف في الجنة، وسعد بن أبي وقاص في الجنة، وسعيد ابن زيد في الجنة، وأبو عبيدة بن الجراح في الجنة" (¬3) رواه الترمذي. وأخرج أبو داود والترمذي -أيضًا- عن سعيد بن زيد رضي اللَّه عنه قال: سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "أبو بكر في الجنة وعمر في الجنة. . " الحديث، وسكت عن العاشر فقالوا: ومن هو العاشر؟ قال سعيد بن زيد -يعني نفسه- ثم قال سعيد بن زيد رضي اللَّه عنه لمشهد رجل منهم مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يغبر فيه وجهه خير من عمل أحدكم ولو عُمِّرَ عُمْرَ نوح ثم قال فالشقي من أبغضهم والسعيد من أحبهم. ولفظ الترمذي: "أشهد على التسعة أنهم في الجنة ولو شهدت على العاشر لم آثم فقيل له من التسعة؟ فذكرهم وقيل من العاشر؟ فتلكأ هُنَيّة (¬4) ثم قال: أنا. ¬
الأحاديث الواردة في فضائل بقية العشرة
وفى رواية عند الترمذي من حديث سعيد بن زيد رضي اللَّه عنه أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "عشرة في الجنة فعد التسعة وسكت عن العاشر، فقال القوم: ننشدك اللَّه يا أبا الأعور من العاشر؟ قال: نشدتموني باللَّه أبو الأعور في الجنة" (¬1). أبو الأعور هو سعيد كما تقدم. وأخرج الترمذي عن عقبة بن علقمة اليشكري قال: سمعت علي بن أبي طالب يقول: سمعت أذني من رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (وهو يقول) (¬2): "طلحة والزبير جاراي في الجنة" (¬3). وفي صحيح مسلم وسنن الترمذي عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان على حراء هو وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير رضي اللَّه عنهم فتحركت الصخرة فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- اهدأ فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد". وفي رواية أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان على جبل حراء فتحرك فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أسكن حراء فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد وعليه النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وأبو بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وسعد ابن أبي وقاص، زاد في رواية بعد عثمان وعلي (¬4). ¬
وفى صحيح البخاري وسنن أبي داود والترمذي من حديث أنس رضي اللَّه عنه أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- صعد أُحدًا وأبو بكر وعمر وعثمان فرجف بهم فقال: "اثبت أحد" أراه ضربه برجله "فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان". وفى لفظ: "فما عليك إلا نبى أو صديق أو شهيد" (¬1). وأخرج الترمذي عن جابر رضي اللَّه عنه قال: سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "من سره أن ينظر إلى شهيد يمشي على وجه الأرض فلينظر إلى طلحة بن عبيد اللَّه" (¬2). وأخرج الترمذي -أيضًا- من حديث الزبير بن العوام رضي اللَّه عنه قال: سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول يوم أحد: "أوجب طلحة" (¬3) وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. ومعنى أوجب أي وجبت له الجنة (¬4). وأخرج الترمذي -أيضًا- عن موسى بن طلحة قال: دخلت على معاوية فقال: ألا أبشرك قلت بلى قال: سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "طلحة ممن قضى نحبه" (¬5). ¬
وأخرج البخاري ومسلم والترمذي عن سعيد بن المسيب رحمه اللَّه تعالى قال: سمعت سعد بن أبي وقاص يقول: "جمع لي رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (أبويه) (¬1) يوم أحد" (¬2). وأخرجوا من حديث علي رضي اللَّه عنه قال: ما سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يفدي أحدًا غير سعد بن أبي وقاص سمعته يوم أحد يقول: "ارم فداك أبي وأمي". وفي رواية: "ما سمعت رسول اللَّه جمع أبويه لأحد إلا لسعد بن مالك" (¬3) الحديث. وتقدم أن أبا وقاص اسمه مالك. وفي صحيح البخاري عن سعد رضي اللَّه عنه قال: "رأيتنى وأنا ثالث الإسلام وما أسلم أحد إلا في اليوم الذي أسلمت فيه، ولقد مكثت سبعة أيام وإني ثالث الإسلام" (¬4). ¬
وفي الترمذي من حديث جابر رضي اللَّه عنه قال: كنت جالسًا مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فأقبل سعد إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "هذا خالي فليرني امرؤ خاله" (¬1). وروى مسلم والترمذي وغيرهما من حديث سعد قال: "حلفت أم سعد أن لا تكلمه أبدًا حتى يكفر بدينه، ولا تأكل ولا تشرب، قالت زعمت أن اللَّه وصاك بوالديك فأنا أمك وأنا آمرك بهذا قال: فمكثت ثلاثًا حتى غشي عليها من الجهد، فقام ابن لها يقال له عمارة فسقاها فجعلت تدعو على سعد وفي رواية فكانوا إذا أرادوا أن يطعموها شجروا (¬2) فاها ثم أوجروها (¬3). وفي رواية قالت أم سعد: أليس قد أمر اللَّه بالبر واللَّه لا أطعم طعامًا، ولا أشرب شرابًا حتى أموت أو تكفر فكانوا إذا أرادوا أن يطعموها شجروا فاها فنزلت هذه الآية: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ. .} [العنكبوت: 8]. ¬
قال الترمذي: حديث حسن صحيح (¬1). وكان سعد مجاب الدعوة. وأخرج الترمذي عن سعد رضي اللَّه عنه أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "اللهم استجب لسعد إذا دعاك" (¬2). وفي الصحيحين وغيرهما عن سعد بن أبي وقاص رضي اللَّه عنه أنه قال: "إني لأول رجل من العرب رمى بسهم في سبيل اللَّه" (¬3). وفي رواية للترمذي: "إني لأول رجل أهراق دمًا في سبيل اللَّه" وقال حديث حسن صحيح. وأخرج البخاري في صحيحه عن قيس بن أبي حازم قال: سمعت سعيد بن زيد بن عمرو في مسجد الكوفة يقول: "واللَّه لقد رأيتني وإن عمر لموثقي على الإسلام أنا وأخته -يعني زوجة سعيد- قبل أن يسلم عمر (¬4) يشير إلى أسبقيته إلى الإسلام -رضي اللَّه عنه-. ¬
وفي الترمذي من حديث عائشة رضي اللَّه عنها أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يقول لنسائه: "إن أمركن مما يهمني من بعدي ولن يصبر عليكن إلا الصابرون الصديقون" قالت عائشة -يعني المتصدقين-. ثم قالت عائشة رضي اللَّه عنها لأبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف سقى اللَّه أباك من سلسبيل الجنة. وكان ابن عوف تصدق على أمهات المؤمنين بحديقة بيعت بأربعين ألفًا وقال حديث حسن صحيح (¬1). وأخرج الترمذي أيضًا -عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أن عبد الرحمن بن عوف رضي اللَّه عنه أوصى بحديقة لأمهات المؤمنين بيعت بأربعمائة ألف (¬2) وقال حديث حسن غريب. وفي الصحيحين وغيرهما من حديث أنس رضي اللَّه عنه أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "إن لكل أمة أمينًا وإن أميننا أيتها الأمة أبو عبيدة بن الجراح" (¬3). وفي مسلم أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: أخذ بيد أبي عبيدة فقال: "هذا أمين هذه الأمة" وزاد رزين (¬4): وفيه نزل: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ. .} [المجادلة: 22] الآية. ¬
وكان قتل أباه وهو من جملة أساري بدر بيده لما سمع منه في رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ما يكره ونهاه فلم ينته" (¬1). وفي الصحيحين وغيرهما عن حذيفة بن اليمان رضي اللَّه عنه قال: "جاء أهل نجران إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فقالوا يا رسول اللَّه إبعث إلينا رجلًا أمينًا، فقال: لأبعثن إليكم رجلًا أمينًا حقَّ أمينٍ، فاستشرف لها الناس، قال فبعث أبا عبيدة بن الجراح" (¬2). وفي الترمذي قال: جاء العاقب والسيد إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فقالا: إبعث معنا أمينك (¬3) قال فإني أبعث معكم. . وذكر الحديث وقال حديث حسن صحيح. واللَّه أعلم. إذا علمت ذلك فاعلم أن أهل السنة والجماعة متفقون على أن أفضل هذه الأمة: أبو بكر الصديق ثم عمر الفاروق ثم عثمان ذو النورين ثم علي أمير المؤمين، ثم هؤلاء الستة تكملة العشرة المبشرين بالجنة من سيد العالمين وخاتم النبيين، فأهل بدر، فأهل بيعة الرضوان، فأهل أحد، فباقي الصحابة الكرام رضوان اللَّه عليهم أجمعين (¬4). ¬
فضائل أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها
وبعد ذكر العشرة الكرام المبشرين بالجنة ذكر الناظم رحمه اللَّه تعالى أم المؤمنين عائشة الصديقة بنت الصديق رضي اللَّه عنهما، حبيبة رسول رب العالمين فقال: (وعائش): بحذف هاء التأنيث وإن كان في غير النداء لضرورة النظم ولكثرة ما كان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يخاطبها كذلك في النداء وغيره على طريق الترخيم، فأجرى الناظم ذكرها هنا مجراه، وقد سمع الترخيم في غير النداء كقول امرئ القيس: لنعم الفتى تعشو إلى ضوء ناره ... طريف بن مال ليلة الجوع والخصر (¬1) أي البرد. وهو معطوف على ما قبله أي في جنة الخلد (أم المؤمنين) لقوله تعالى: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ}. وقد تواتر تسمية أزواج النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بأمهات المؤمنين لقوله تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: 6]. عقد النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- على أم المؤمنين عائشة الصديقة رضي اللَّه عنها وهي بنت ست سنين قبل الهجرة بسنتين وقيل بثلاث. وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي اللَّه عنها قالت: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أريتك في المنام ثلاث ليال جاءني بك الملك في سرقة من حرير فيقول هذه امرأتك فاكشف عن وجهك فإذا أنت هي فأقول إن يكن هذا من عند اللَّه يمضه". ورواه البخاري أيضًا ولفظه: "أريتك قبل أن أتزوجك مرتين ورأيت الملك ¬
المفاضلة بين عائشة وخديجة رضي الله عنهن
يحملك في سرقة حرير فقلت له اكشف فكشف، فإذا هى أنت فقلت إن يكن هذا من عند اللَّه يمضه" (¬1). وبنى بالمدينة أول مقدمه في السنة الأولى وهي بنت تسع، ومات عنها وهي بنت ثمان عشرة، وتوفيت بالمدية ودفنت بالبقيع وأوصت أن تدفن ليلًا، وصلى عليها أبو هريرة رضي اللَّه عنه، وكان يومئذ خليفة مروان على المدينة في أيام معاوية ابن أبي سفيان رضي اللَّه عنه وذلك سنة ثمان وخمسين وكان ذلك ليلة الثلاثاء لسبع عشرة خلت من شهر رمضان. فهي رضي اللَّه عنها أفضل نساء النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في العلم والفقه النافع فلها من الفضل في ذلك ما ليس لغيرها من سائر أزواجه -صلى اللَّه عليه وسلم- حتى كان الأكابر من أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ورضي عنهم إذا أشكل عليهم أمر من الدين استفتوها فيجدون علمه عندها وقد وقع الخلاف بين السلف في التفاضل بينها وبين أم المؤمنين خديجة رضي اللَّه عنها. فقدم العلامة ابن حمدان (¬2) في "نهاية المبتدئين في أصول الدين" أن عائشة رضي اللَّه عنها أفضل النساء. وقال الإمام موفق الدين (¬3) أفضل النساء خديجة بنت خويلد رضي اللَّه عنها (¬4). ¬
وقال المحقق ابن القيم في كتابه "جلاء الأفهام" "وقد اختلف في تفضيل خديجة على عائشة على ثلاثة أقوال ثالثها الوقف. قال وسألت شيخنا شيخ الإسلام ابن تيمية قدس اللَّه روحه عنها فقال: اختصت كل واحدة منهما بخاصية؛ خديجة كان تأثيرها في أول الإسلام وموازرة خير الأنام فكانت تسلي رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وتثبته وتبذل دونه مالها فأدركت غرة الإسلام واحتملت الأذى في اللَّه وفي رسوله وكانت نصرتها للرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- في أعظم أوقات الحاجة فلها من النصرة وبذل المال ما ليس لغيرها. فال وعائشة كان تأثيرها في آخر الإسلام فلها من التفقه في الدين وحمل العلم وتبليغه إلى الأمة وانتفاع بنيها بما أدت إليهم من العلم ما ليس لغيرها فلكل منهما خاصية لا توجد بغيرها" (¬1). وقال الإمام المحقق ابن القيم في كتابه "بدائع الفوائد" في المفاضلة ما بين عائشة رضي اللَّه عنها وفاطمة رضي اللَّه عنها إذا حرر (¬2) محل التفضيل لا يستقيم الخلاف لأنه إن أريد بالفضل كثرة الثواب عند اللَّه فذلك أمر لا يطلع عليه إلا بالنص لأنه بحسب تفاضل أعمال القلوب لا بمجرد أعمال الجوارح وكم من عاملين أحدهما أكثر عملًا بجوارحه والآخر أرفع درجة منه في الجنة وإن أريد بالتفاضل من جهة العلم فلا ريب أن أم المؤمنين عائشة رضي اللَّه عنها أعلم وأنفع للأمة وأدت من العلوم ما لم يؤد غيرها واحتاج إلى علمها خواص الأمة وعامتها وإن أريد بالتفاضل شرف الأصل وجلالة النسب فلا ريب أن فاطمة عليها السلام أفضل فإنها بضعة من النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وذلك اختصاص لم يشركها فيه غير أخواتها وإن أريد السيادة ففاطمة رضي ¬
اللَّه عنها سيدة نساء الأمة وإذا تبينت وجوه التفضيل وموارد الفضل وأسبابه صار الكلام بعلم وعدل" (¬1) وانزاح اللغو والمزاح عن أهل الفهم والفضل وباللَّه التوفيق. فعائشة أم المؤمنين رضي اللَّه عنها أفضل بحسب تحملها للعلوم وأحاديث (¬2) النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فإنها أحد المكثرين ونشرها لسنة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ونفعها للأمة فإنها كانت عالمة فقيهة فصيحة فاضلة كثيرة الحديث عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عارفة بأيام العرب وأشعارها وفضائلها ومناقبها كثيرة لا تحصى، ومحبة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لها وتفضيلها على سائر نسائه -صلى اللَّه عليه وسلم- مما لا يخفى وهي أحد المكثرين عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فقد روي لها ألفا حديث ومائتا حديث وعشرة أحاديث منها في الصحيحين ثلاثمائة حديث تعجز ثلاثة أحاديث، المتفق عليه منها مائة وأربعة وسبعون، وانفرد البخاري بأربعة وخمسين ومسلم بتسعة وستين (¬3). وفي الصحيحين وسنن أبي داود والترمذي وغيرهم عن عائشة قالت: قال لي رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يومًا يا عائش "هذا جبريل يقرئك السلام" فقلت: وعليه السلام ورحمة اللَّه وبركاته قالت وهو يرى ما لا أرى" (¬4). وقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة قال: أتى جبريل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: يا رسول اللَّه "هذه خديجة قد أتت معها إناء فيه إدام أو طمام أو شراب فإذا ¬
من خصائص عائشة رضي الله عنها
هى أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها تبارك وتعالى ومني وبشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب" (¬1). وهذه لعمر اللَّه خاصية (¬2) لم تكن لسواها. ومن خصائص عائشة رضي اللَّه عنها أنه لم يتزوج بكرًا غيرها (¬3) وأنها كان ينزل الوحي على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وهو في لحافها (¬4) ولما أنزل اللَّه آية التخيير بدأ بها فخيرها وقال لها "فلا عليك أن لا تعجلى حتى تستأمري أبويك" فقالت: أفي هذا أستأمر أبوي؟ فإني أريد اللَّه ورسوله والدار الآخرة. فاستن بها بقية أزواجه -صلى اللَّه عليه وسلم- ورضي عنهن (¬5). ومن أعظم خصائصها أنها كانت أحب أزواج رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إليه، كما ثبت عنه -صلى اللَّه عليه وسلم- في الصحاح والمسانيد والسنن (¬6). ¬
وقد قال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام" (¬1) رواه البخاري ومسلم وغيرهما. ومن عظيم خصائصها رضي اللَّه عنها أن اللَّه تبارك وتعالى برأها مما رماها به أهل الإفك (¬2) وأنزل في براءتها وحيًا يتلى في محاريب المسلمين وصلواتهم إلى يوم القيامة وشهد لها تعالى بأنها من الطيبات فللَّه (درها) (¬3) من حصان عظمت فضائلها ورزان جلت مناقبها، ومطهرة رسخت قدمها في الدين وفقيهة عظم شأنها عند سائر المسلمين واحتاج لعلمها أئمة الصحابة وشهد لها (أهل) (¬4) الحق بالتقدم والإصابة. وأخرج الترمذي عن أبي موسى الأشعري رضي اللَّه عنه قال: ما أشكل علينا ¬
ترجمة معاوية رضي الله عنه
أصحاب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- حديث قط فسألنا عائشة رضي اللَّه عنها إلا وجدنا عندها منه علمًا" (¬1) قال الترمذي حديث حسن صحيح. وأخرج الترمذي -أيضًا- عن أنس وصححه أن رجلًا نال من عائشة رضي اللَّه عنها عند عمار بن ياسر رضي اللَّه عنه قال: "أغرب مقبوحًا منبوحًا أتؤذي حبيبة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-" (¬2). وأخرج عن عبد اللَّه بن زياد الأسدي قال: سمعت عمار بن ياسر رضي اللَّه عنه يقول: "هى زوجته في الدنيا والآخرة" (¬3) (يعني عائشة رضي اللَّه عنها، قال الترمذي حسن صحيح، ومناقبها) (¬4) ومآثرها كثيرة ومزاياها وفضائلها غزيرة شهيرة فرضي اللَّه عنها وعن سائر أزواج رسول اللَّه الطاهرات أمهات المؤمنين وعن سائر أصحاب رسول اللَّه أجمعين واللَّه تعالى أعلم. وقول الناظم رحمه اللَّه ورضى عنه: (وخالنا معاوية) بن أبي سفيان رضي اللَّه عنهما: إنما سمي معاوية بخال المؤمنين لأنه أخو أم المؤمنين أم حبيبة زوجة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فأطلق عليه خال المؤمنين لأن أخ الأم خال لابنها واسم أم حبيبة على الصحيح رملة بفتح الراء وسكون الميم وقيل اسمها هند والأصح أن اسمها رملة بنت أبي سفيان أخت معاوية بن أبي سفيان واسم أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس ابن عبد مناف القرشي الأموي يلتقي نسبه مع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في عبد مناف، أمير المؤمنين كان هو وأبوه أبو سفيان من مسلمة الفتح ومن المؤلفة قلوبهم، ثم حسن ¬
إسلامهما، وأم معاوية هند بنت عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف أسلمت عام الفتح بعد إسلام زوجها فأقرهما النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- على نكاحهما وكان لها فصاحة وعقل ورزانة. يكنى معاوية بأبي عبد الرحمن وهو أحد كتاب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وقيل إنما كان يكتب للنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- الكتب لا الوحي (¬1). وقد أخرج الترمذي وحسنه عن عبد الرحمن بن أبي عميرة الصحابي رضي اللَّه عنه عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه قال لمعاوية: "اللهم اجعله هاديًا مهديًا" (¬2). وأخرج الإمام أحمد في مسنده عن العرباض بن سارية رضي اللَّه عنه قال: سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "اللهم علم معاوية الكتاب والحساب وقه العذاب" (¬3). وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف والطبراني في الكبير عن عبد الملك بن عمير ¬
قال: قال معاوية ما زلت أطمع في الخلافة منذ قال لي رسول اللَّه "يا معاوية إذا ملكت فأحسن" (¬1). تولى معاوية رضي اللَّه عنه إمارة الشام بعد موت أخيه ويزيد بن أبي سفيان وذلك أن أبا بكر الصديق رضي اللَّه عنه لما بعث الجيوش إلى الشام سنة اثنتي عشرة وكان أمير الأمراء أبا عبيدة بن الجراح رضي اللَّه عنهم وكان من أمراء الأجناد ويزيد بن أبي سفيان. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وكان ويزيد خيرًا من معاوية وأفضل (¬2). فسار معاوية مع أخيه يزيد بن أبي سفيان، فلما مات أخوه ويزيد استخلفه قبل موته على دمشق فأقره عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه ثم أقره عثمان وجمع له عثمان الشام كله فأقام أميرًا عشرين سنة، ولما استشهد أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي اللَّه عنه وأفضت الخلافة إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه بمبايعة المهاجرين والأنصار -كما مر- دخل المغيرة بن شعبة على أمير المؤمنين على ابن أبي طالب فأشار عليه بإبقاء معاوية على إمارة الشام فإنه قال له يا أمير المؤمنين ¬
لك عندي نصيحة. قال وما هي؟ قال: إن أردت أن يستقيم لك الأمر فاستعمل طلحة بن عبيد اللَّه رضي اللَّه عنه على الكوفة والزبير بن العوام رضي اللَّه عنه على البصرة، وابعث إلى معاوية بعهده على الشام حتى تلزمه طاعتك فإذا استقر قرارها رأيت فيه رأيك، فقال علي رضي اللَّه عنه أما طلحة والزبير فأرى رأيي فيهما وأما معاوية فما كنت متخذ المضلين عضدًا ولا واللَّه لا يراني ولا أراه ولا أستعين به ما دام على حاله ولكني أدعوه إلى ما عرفته فإن أجاب وإلا حاكمته إلى اللَّه ورسوله، فانصرف المغيرة مغضبًا وهو يقول: نصحت عليًا في ابن هند مقالة ... فردت فلم يسمع لها الدهر ثانية ويعلم أهل الشام أن قد ملكتهم ... وأم ابن هند عند ذلك هادية فتحكم فيه ما تراه فإنه ... لداهية فارفق به أي داهية فلم يقبل النصح الذي جئته به ... وكانت له تلك النصيحة كافية ويروى أنه عاد إليه في اليوم الثاني فقال يا أمير المؤمنين فكرت فرأيت رأيك هو الصواب فلا تعدل عنه، فلما خرج دخل عبد اللَّه بن عباس على علي رضي اللَّه عنهم فقال له ما قال لك المغيرة؟ فقال: جاءني بالأمس بكذا واليوم بكذا، فقال ابن عباس: أما أمس فقد نصحك ولما لم تقبل غشك. . (¬1). ولم يزل معاوية رضي اللَّه عنه قوليًا إلى أن مات وذلك أربعون سنة منها أربعة أو نحوها في أيام عمر ومدة خلافة عثمان، وخلافة علي وابنه الحسن رضي اللَّه عنهم ¬
وذلك تمام عشرين سنة، ثم خلص له الأمر بتسليم سيدنا الحسن بن أمير المؤمنين علي رضي اللَّه عنهما له ذلك سنة إحدى وأربعين فكان له عشرين سنة أو نحوها خليفة. يروى عن كعب الأحبار رحمه اللَّه تعالى أنه قال: "لن يملك أحد هذه (¬1) الأمة ما ملك معاوية". قال الحافظ الذهبي: توفى كعب الأحبار قبل أن يستخلف (¬2) معاوية وصدق كعب فيما نقله فإن معاوية بقي عشرين سنة لا ينازعه أحد الأمر في الأرض بخلاف غيره ممن بعده فإنه كان لهم مخالف، وخرج عن أمرهم بعض المماليك (¬3). انتهى. ولهذا قال الناظم (أكرم) به من خليفة وإمام وملك مقدم (¬4) همام، وهذه من صيغ التعجب أي ما أكرمه، (ثم امنح) من (¬5) المنحة وهي العطية والهبة. قال في القاموس: "منحه كمنعه وضربه -أعطاه والاسم المنحة بالكسر، ومنحه الناقة جعل له وبرها ولبنها وولدها وهي المنحة والمنيحة واستمنحه طلب عطيته" (¬6). وفى الحديث "المنحة مردودة" (¬7). ¬
وهو أن يعطه ناقة أو شاة ينتفع بلبنها ويعيدها، وكذلك إذا أعطاه ينتفع بوبرها وصوفها زمانًا ثم وردها (¬1). قال الجلال السيوطي: "قد ورد في فضل معاوية رضي اللَّه عنه أحاديث قل ما ثبتت" (¬2) ثم أورد منها ما تقدم. وخرج ابن البناء (¬3) أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "معاوية بن أبي سفيان أحلم أمتي وأجودها" (¬4). وتحقيق القول عند أهل الحق أن معاوية رضي اللَّه عنه لم يكن في أيام على خليفة وإنما كان من الملوك وغاية ما هناك أنه كان مجتهدًا فله أجر الاجتهاد دون الإصابة، وأما بعد موت علي رضي اللَّه عنه وبعد تسليم سيدنا الحسن رضي اللَّه عنه الأمر له فقد صحت خلافته لنزول سيدنا الحسن له عنها فهو خليفة حق عند أهل الحق، وزعم قوم عدم حقية (¬5) خلافة معاوية مطلقًا محتجون (¬6) بأن الحسن رضي اللَّه ¬
عنه لم يسلم الأمر إليه الا لضرورة، لعلم الحسن بأن معاوية لا يسلم الأمر إليه وأنه قاصد للقتال وسفك الدماء إن لم يسلم الحسن إليه، فلم يترك الحسن الأمر (له) (¬1) إلا صونًا لدماء المسلمين وأهل الحق يردون هذا بأن الحسن كان هو الإمام الحق والخليفة الصدق، وقد كان معه من العدة والعدد ما يقاوم من مع معاوية فلم يكن نزوله عن الخلافة وتسليمه الأمر لمعاوية اضطراريًا بل كان اختياريًا كما يدل عليه ما في قصة نزوله له من اشتراطه عليه شروطًا كثيرة فالتزمها ووفى له بأكثرها أو كلها. ومما يدل على صحة ذلك حديث البخاري عن أبي بكرة رضي اللَّه عنه رأيت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- على المنبر والحسن بن علي إلى جنبه وهو يقبل على الناس مرة وعليه أخرى ويقول: "إن ابني هذا سيد ولعل اللَّه أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين". ورواه أبو داود والترمذي والنسائي. وفى رواية الترمذي قال "صعد النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- المنبر فقال: إن ابني هذا سيد يصلح اللَّه به بين فئتين عظيمتين" (¬2) وقال هذا حديث حسن صحيح. وفي رواية أبي داود قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- للحسن بن علي إن ابني هذا سيد وإني لأرجو أن يصلح له بين فئتين من أمتي" (¬3). فهذا مشعر بصحة نزول الحسن لمعاوية عن الخلافة، وإلا لو كان الحسن باقيًا على خلافته بعد نزوله عنها لم يقع بنزوله إصلاح ولم يحمد الحسن على ذلك، ولم يترج النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- مجرد النزول من غير أن يترتب عليه فوائده الشرعية وهو استقلال ¬
المنزول له بالأمر وصحة خلافته ونفاذ تصرفاته، ووجوب طاعته على الكافة وقيامه بأمور المسلمين. وأما ما يستبيحه بعض المبتدعة وجهلة من ينتسب إلى (أهل) (¬1) السنة من سبه ولعنه فله أسوة في ذلك (بالشيخين وعثمان وأكثر الصحابة رضي اللَّه عنهم أجمعين) (¬2). فلا يلتفت لذلك ولا يعول عليه فإنه لم يصدر إلا عن قلوب في الضلال غرقى، وألباب فاسدة حمقى، لا يعبأ اللَّه بهم ولا يبالي بهلاكهم، فخذلهم اللَّه ما أعظم افتراءهم وما أكبر اجتراءهم. مات معاوية رضي اللَّه عنه في شهر رجب بدمشق الشام من سنة ستين وله ثمان وسبعون سنة، وقيل ست وثمانون سنة. ورجح النووي أنه عاش اثنتين وثمانين سنة (¬3) وقال في آخر عمره: "ليتني كنت رجلًا من قريش بذي طوى ولم آل من هذا الأمر شيئًا" (¬4). وكان عنده من آثار النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إزار وقميص وشيء من شعره وأظفاره -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: "كفنوني في قميصه وأدرجوني في إزاره واحشوا منخري وشدقي ومواضع السجود مني بشعره وأظفاره وخلوا بيني وبين أرحم الراحمين" (¬5). وهو من الموصوفين بالدهاء والحلم. ¬
فضائل الأنصار
ولما دخل عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه الشام ورآه قال: "هذا كسرى العرب" (¬1) وكان معاوية نفسه يقول: "أنا أول الملوك" (¬2). روي له عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- مائة حديث وثلاثة وستون حديثًا، اتفق الشيخان من ذلك على أربعة وانفرد البخاري بأربعة ومسلم بخمسة (¬3) واللَّه تعالى الموفق. قال الناظم رحمه اللَّه تعالى: (وأنصاره) جمع ناصر كأصحاب وصحاب (¬4) أو جمع نصير كشريف وأشراف، والضمير في: أنصاره راجع إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. والمراد بهم: الأوس والخزرج وحلفاؤهم ومن والاهم وكانوا قبل ذلك يعرفون بابني قيلة بقاف مفتوحة وتحتانية وهى الأم التي تجمع القبيلتين، فسماهم النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- الأنصار، فصار ذلك علمًا عليه، وأطلق أيضًا على أولادهم وحلفائهم ومواليهم وخصوا بهده المنقبة العظمى لما فازوا به دون غيرهم من القبائل من إيواء النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ومن معه والقيام بأمرهم ومواساتهم بأنفسهم وأموالهم وإيثارهم إياهم في كثير من الأمور على أنفسهم فكان صنيعهم لذلك موجبًا لمعاداتهم لجميع الفرق والقبائل من عرب وعجم. ولهذا قال -صلى اللَّه عليه وسلم- في الأنصار: "لا يحبهم إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق فمن أحبهم أحبه اللَّه ومن أبغضهم أبغضه اللَّه" (¬5) رواه الشيخان وغيرهما من حديث البراء ابن عازب رضي اللَّه عنهما. ¬
وأخرجا أيضًا وغيرهما من حديث أنس قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "آية الإيمان حب الأنصار وآية النفاق بغض الأنصار" (¬1). وفي رواية "آية المنافق بغض الأنصار وآية (المؤمن) (¬2) حب الأنصار". وأخرج الترمذي وقال: حسن صحيح عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "لا يبغض الأنصار أحد يؤمن باللَّه واليوم الآخر" (¬3). ورواه مسلم أيضًا من حديث أبي سعيد مرفوعًا ولفظه: "لا يبغض الأنصار رجل يؤمن باللَّه واليوم الآخر" (¬4). وأخرجه مسلم أيضًا من حديث أبي هريرة (¬5). وفي صحيح البخاري عن غيلان بن جرير قال: قلت لأنس رضي اللَّه عنه: أرأيت اسم الأنصار أكنتم تسمون به أم سماكم اللَّه تبارك وتعالى به؟ قال: بل سمانا اللَّه عز وجل، وقال غيلان كنا ندخل على أنس فيحدثنا بمناقب الأنصار ومشاهدهم ويقبل عليَّ أو على رجل من الأزد ويقول: فعل قومك يوم كذا كذا وكذا" (¬6). قال الحافظ ابن حجر (¬7) في "فتح الباري لشرح البخاري": ¬
أول تلقيب الأنصار بهذا اللقب كان ليلة العقبة لما توافقوا مع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عند عقبة منى في الموسم (¬1) كما في السيرة النبوية. وفي الصحيحين وغيرهما من حديث زيد بن أرقم رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اللهم اغفر للأنصار ولأبناء الأنصار ولأبناء أبناء الأنصار" (¬2). وفي الترمذي أن زيد بن أرقم كتب إلى أنس بن مالك يعزيه فيمن أصيب من أهله وبني عمه يوم الحرة فكتب إليه أني أبشرك ببشرى من اللَّه أني سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "اللهم اغفر للأنصار ولذراري الأنصار ولذراري ذراريهم" (¬3). وفي صحيح مسلم عن أنس أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- "استغفر للأنصار قال وأحسبه قال ولذراري الأنصار ولموالي الأنصار لا أشك فيه" (¬4). وأخرج البخاري عن زيد بن أرقم قال: قالت الأنصار: "يا نبي اللَّه لكل نبي أتباع وإنا قد أتبعناك فادع اللَّه أن يجعل أتباعنا منا فدعا به". وفي رواية فقال: "اللهم اجعل أتباعهم منهم" (¬5). وفي حديث أنس عند الشيخين وغيرهما أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "إن الأنصار كرشي وعيبتي فإن الناس سيكثرون ويقلون فاقبلوا من محسنهم وتجاوزوا" وفي لفظ "واعفوا عن مسيئهم" (¬6). وفي رواية عند البخاري مر أبو بكر والعباس رضي اللَّه عنهما بمجلس من ¬
فضائل المهاجرين
مجالس الأنصار وهم يبكون فقال: ما يبكيكم؟ قالوا: ذكرنا مجلس النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- منا فدخل على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فأخبره قال: فخرج النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وقد عصب على رأسه حاشية برد قال فصعد النبي المنبر ولم يصعده بعد ذلك اليوم -فحمد اللَّه وأثنى عليه ثم قال: "أوصيكم بالأنصار فإنهم كرشي وعيبتي وقد قضوا الذي عليهم وبقي الذي لهم فأقبلوا من محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم" (¬1). قال في النهاية: "قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "كرشي وعيبتي" أراد أنهم بطانته وموضع سره وأمانته، والذي يعتمد عليهم في أموره، واستعار الكرش والعيبة لذلك لأن المجتر يجمع علفه في كرشه، والرجل يضع ثيابه في عيبته وقيل: أراد بالكرش الجماعة أي جماعتي وصحابتي، يقال عليه كرش من الناس أي جماعة، والعرب تكنى عن القلوب والصدور بالعياب لأنها مستودع السرائر كما أن العياب مستودع الثياب" (¬2). وفي القاموس: "والعيبة -أي بفتح العين المهملة وسكون التحتية وفتح الموحدة فهاء تأنيث-: زنبيل من أدم وما يجعل فيه الثياب، ومن الرجل موضع سره" انتهى (¬3). وفضائل الأنصار كثيرة ومناقبهم غزيرة ومآثرهم شهيرة رضي اللَّه عنهم أجمعين. ثم قال الناظم -مشيرًا إلى المهاجرين رضي اللَّه عنهم وأخرهم وإن كانوا مقدمين على الأنصار في الفضيلة لضرورة النظم- (والهاجرون ديارهم) وأموالهم حبًا للَّه ورسوله ولإعلاء كلمة اللَّه ونصرة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. ¬
معنى الهجرة
"والهجرة": الترك، الهجرة إلى الشيء الانتقال إليه عن غيره. وفي الشرع: ترك ما نهى اللَّه عنه. وقد وقعت في الإسلام على وجهين: الأول: الانتقال عن دار الخوف إلى دار الأمن كما في هجرتي الحبشة وابتداء الهجرة من مكة إلى المدينة. الثاني: الهجرة من دار الكفر إلى دار الإيمان، وذلك بعد أن استقر الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- بالمدينة وهاجر إليه من أمكنه ذلك من المسلمين، وكانت الهجرة إذ ذاك مختصة بالانتقال إلى المدينة إلى أن فتحت مكة في الثامن من الهجرة فانقطع الاختصاص، وبقي عموم الانتقال من دار الكفر -لمن قدر عليه- باقيًا" (¬1). وكذا من ديار أهل البدع المضلة، وكل أرض يعجز فيها عن إظهار دين الإسلام وسنة خير الأنام. وأما حديث "لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية" (¬2) يعني لا هجرة من مكة، ولهذا جاء في الحديث: "لا تنقطع الهجرة" (¬3). ¬
والهجرة التي وعد اللَّه عليها الجنة في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة: 111] (¬1). فكان الرجل يأتي النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ويدع أهله وماله، لا يرجع في شيء منه وينقطع بنفسه إلى مهاجره فالمهاجرون (بنصرهم) للَّه تعالى ورسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- وبذلهم نفوسهم النفيسة وخروجهم للَّه تعالى عن ديارهم وأموالهم وأهاليهم لأجل إعلاء كلمة اللَّه في مرضات اللَّه ورسوله إظهار دين اللَّه ونوره الذي أنزله على نبيه -صلى اللَّه عليه وسلم- ففتح اللَّه به أعينًا عميًا وآذانًا صمًا وقلوبًا غلفًا (عن ظلمة النار) وغضب المليك الجبار (زحزحوا) أي ابعدوا من زاح يزيح زيحًا وزيوحًا وزيحانًا بعد وذهب كانزاح وأزحته والزوح ¬
الآيات في فضل المهاجرين
تفريق الإبل وجمعها ضد والزولان والتباعد وأزاح الشيء عن موضعه نحاه، كما في القاموس (¬1). وفي الآية الكريمة: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ (185)} [آل عمران: 185] والزحزحة تكرير الزح وهو الجذب بعجلة يقال زحه إذا نحاه عن موضعه ودفعه وجذبه في عجلة، وزحزحه عنه باعده فتزحزح وهو مزحزح (منه أي مبعد) (¬2) والزحزاح البعيد" (¬3). وقد قال تعالى في التنصيص على فضل المهاجرين والأنصار {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} (¬4): {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 8 - 10]. ففي هذه الآيات من التنصيص على فضلهم ما تثلج به الصدور ويزول غطش (¬5) ¬
تعريف الصحابي والكلام على الصحابة وفضائلهم
الديجور (¬1) فأذل اللَّه من عاداهم وقمع من ناوأهم أو أحدًا منهم، ولهذا قال: (وقل) بلسانك معتقدًا بجنانك (خير قول) من الثناء عليهم بذكر محاسنهم وصدق جهادهم مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وبذل نفوسهم النفيسة في مرضاة اللَّه ورسوله لإعلاء كلمة اللَّه تعالى، فالواجب على كل مؤمن نشر محاسنهم والكف عما فيه شائبة تنقيصهم، والترضي عنهم وهذا لا يختص بأحد منهم دون أحد بل هو عام (في الصحابة) كلهم من السابقين واللاحقين من المهاجرين والأنصار وغيرهم من سائر أصحاب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. والصحابة بالفتح جمع صاحب ولم يجمع فاعل على فعالة إلا هذا والعبارة المشهورة في تعريف الصحابي: من رأى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- مؤمنًا ومات على ذلك، ولو تخلله ردة، أو رآه النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- والأرشق في التعريف: أن يقال: الصحابي من اجتمع بالنبي مؤمنًا ومات على الإيمان (¬2). والمراد بالاجتماع أن يكون يقظة في عالم الشهادة رؤية معتادة غير معجزة حتى ولو رآه بعد موته مكفنًا كأبي ذؤيب (¬3) الشاعر فإنه صحابيًا لكن صحبته حكمية لشرف رؤيته -صلى اللَّه عليه وسلم- وكذا من رآه -صلى اللَّه عليه وسلم- في حياته مغطى أو ملفوفًا بالأولى وقد ¬
ذكر الحافظ الذهبي في تجريده أبا ذؤيب، وذكر أنه حضر سقيفة بني ساعدة وصلى على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ولم يره -يعني حيًا- (¬1). وأما ورقة بن نوفل فمعدود من الصحابة لأنه أدرك النبوة وآمن حين جاءت خديجة بالنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إليه بعد البعثة فآمن به وصدقه فهو من الصحابة وذكر من خبره ما هو مشهور في الصحيح (¬2). واعلم أن الصحابة رضي اللَّه عنهم كلهم عدول (مقبولوا) (¬3) الرواية فلا يسأل عن عدالة أحد منهم بالكتاب والسنة وإجماع المعتبرين من الأمة قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] قيل اتفق المفسرون أن ذلك في الصحابة (¬4) وإن رجح كثير عمومها في أمة محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-، فهم أولى بالدخول في العموم، وكذلك قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143]. ¬
هذا خطاب للموجودين حينئذ (¬1) وقال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ. . .} [الفتح: 29] الآيات. وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري رضي اللَّه عنه: لا تسبوا أصحابى فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبًا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه" (¬2). وهذا وإن ورد على سبب فالعبرة بعموم اللفظ، ولا ينافي ذلك كون الخطاب لأصحابه أيضًا لأن المراد لا يسب غير أصحابي أصحابي ولا يسب بعضهم بعضًا فالمراد النهي عن حصول السب لهم مطلقًا. وقد حكى الإمام ابن عبد البر في مقدمة الإستيعاب إجماع أهل الحق من المسلمين وهم أهل السنة والجماعة أن الصحابة كلهم عدول (¬3). فائدة: قد ذكر غير واحد من الحفاظ عدة الصحابة وأنهم عدة الأنبياء (¬4). فروي عن الإمام الحافظ أبي زرعة الرازي (¬5) واسمه عبيد اللَّه بن عبد الكريم شيخ الإمام مسلم بن الحجاج (¬6) صاحب الصحيح أنهم يزيدون على المائة ألف هذا ¬
على الأصح في النقل عنه كما رواه ابن المديني (¬1) في ذيله على كتاب الصحابة لابن منده (¬2). وروى أنهم مائة ألف وأربعة وعشرون ألفًا ممن روى عنه وسمع منه. قال أبو زرعة قد شهد معه حجة الوداع أربعون ألفًا، وشهد معه تبوك سبعون ألفًا (¬3). وفي مناقب الإمام الشافعي رضي اللَّه عنه للساجي (¬4) أن الشافعي قال: قبض رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- والمسلمون ستون ألفًا ثلاثون ألفًا بالمدينة وثلاثون ألفًا في قبائل العرب (¬5). ثم الذين رووا وبقيت رواياتهم لا يبلغون هذا العدد ولا قريبًا منه، فقد قال الحاكم: "إنه روى عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أربعة آلاف نفس" (¬6). ¬
قال الحافظ الذهبي في التجريد: "ولعل الرواة عنه نحو الألف وخمسمائة لا يبلغون ألفين أبدًا"، ثم قال الذهبي بعد أن ذكر أنه جمع في كتابه هذا ما جرد وكتاب "أسد الغابة" لابن الأثير وأنه زاد عليه من كتب عدة وأن المذكور في كتابي هذا لا يبلغون ثمانية آلاف نفسًا وأكثرهم لا يعرفون" (¬1) انتهى (¬2). وقول الناظم رحمه اللَّه تعالى: (ولاتك): بحذف النون تخفيفًا -كما مر- "طعانًا" مبالغة من الطعن. وفى الحديث: "لا يكون المؤمن طعانًا" (¬3) أي وقاعًا في أعراض الناس بالذم والغيبة والتنقيص والمسبة ونحو ذلك، وهو فعال من طعن فيه وعليه بالقول يطعن بالفتح والضم إذا عابه، ومنه الطعن في النسب. (بعيب): متعلق بطعان. (وتجرح) من الجرح يقال جرحه كمنعه كلمة والاسم الجرح بالضم والجمع جروح، وقل أجراح، والجراح بالكسر جمع جراحة ورجل جريح وامرأة جريح، والجمع جرحى وجرح كمنع النسب كاجترح وجرح فلانًا سبه وشتمه (¬4). وشاهدا (¬5) أسقط عدالته إشارة إلى رد مقالة أهل الضلال والزيغ والوبال، من أهل الرفض ومن نهج منهجهم من أهل الجفاء والبغض، وكيف يكون ذلك وهم أهل الجد والاجتهاد والنصح والرأفة وبذل المعروف لإعلاء كلمة اللَّه وإظهار ما جاء به رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- من الدين المتين والحق المبين. ¬
ومع هذا (فقد نطق الوحي): أي القرآن المنزل على النبي المرسل. (المبين): الواضح الكاشف والمظهر لسائر الأحكام والنصايح والمناقب والمثالب والمآثر والفضائح فنطق (بفضلهم) وبرهن عن حسن قصدهم واستقامة فعلهم. (وفي) سورة (الفتح) الشريفة النازلة على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في السنة السادسة من الهجرة بعد انصرافه من الحديبية وفيها كانت بيعة الرضوان، وكانوا أربعة (¬1) عشر مائة على المشهور. (آي): جمع آية بهمزة ممدودة وتحتية مفتوحة فهاء تأنيث أصلها العلامة وتجمع أيضًا على آيات والآية من القرآن كلام متصل إلى انقطاعه وفي النهاية معنى الآي من كتاب اللَّه تعالى "جماعة حروف وكلمات، من قولهم: خرج القوم بآيتهم أي بجماعتهم لم يدعوا وراءهم شيئًا، قال والآية في غير هذه العلامة" انتهى (¬2). (للصحابة) الكرام رضوان اللَّه عليهم (تمدح): تثني عليهم بتعداد محاسنهم، والمدح هو الثناء باللسان على الجميل مطقًا أي سواء كان اختياريًا كالعلم (¬3) والكرم أو اضطراريًا كالحسن والجمال ولابد أن يكون على جهة التبجيل هذا معنى المدح لغة، ومعناه عرفًا اختصاص الممدوح بنوع من الفضائل والإشارة بذلك لقوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ. .} [الفتح: 29] إلى آخر السورة. وقد أخرج الترمذي عن عبد اللَّه بن مغفل رضي اللَّه عنه قال: سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "ليبلغ الحاضر الغائب اللَّه اللَّه في أصحابي لا تتخذوهم غرضًا ¬
بعدي فمن أحبهم فبحبي أحبهم ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم ومن آذاهم فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى اللَّه ومن آذى اللَّه فيوشك أن يأخذه ومن أخذه اللَّه فيوشك أن لا يفلته" (¬1). وأخرج الترمذي أيضًا من حديث ابن عمر رضي اللَّه عنهما قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إذا رأيتم الذين يسبون أصحابي فقولوا لعنة اللَّه على شركم" (¬2). وأخرج مسلم عن عائشة رضي اللَّه عنها أنها قالت لعروة بن الزبير: "يا ابن أختي أُمروا أن يستغفروا لأصحاب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فسبوهم" (¬3). وأخرج الترمذي من حديث بريدة رضي اللَّه عنه قال: قال لي رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ما من أحد من أصحابي يموت بأرض إلا بعث لهم نورًا وقائدًا يوم القيامة" (¬4). وذكر سعيد بن المسيب رحمه اللَّه تعالى أن عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه قال: سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "سألت ربي عن اختلاف أصحابي من بعدي فأوحى إليّ يا محمد إن أصحابك عندي بمنزلة النجوم في السماء بعضها أقوى من بعض ولكل نور فمن أخذ بشيء مما هم عليه من اختلافهم فهو عندي على هدى" (¬5). ¬
وقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم" (¬1). ذكره ابن الأثير في كتابه "جامع الأصول" (¬2). فالصحابة أولى خلق اللَّه بالإصابة. ويشهد لهذا ما رواه الإمام أحمد وغيره عن ابن مسعود رضي اللَّه عنه قال: "من كان متأسيًا فليتأسى بأصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فإنهم كانوا أبرّ هذه الأمة قلوبًا وأعمقها علمًا وأقلها تكلفًا وأقومها هديًا، وأحسنها حالًا، قوم اختارهم اللَّه لصحبة نبيه وإقامة دينه فاعرفوا لهم فضلهم واتبعوا آثارهم فإنهم كانوا على الهدى المستقيم" (¬3). وروى أبو داود الطيالسي عنه أيضًا قال: "إن اللَّه تعالى نظر في قلوب العباد (فوجد قلب محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- خير قلوب العباد فبعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد) (¬4) بعد قلب محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد فاختارهم لصحبة نبيه ونصرة دينه، فما رآه المسلمون حسنًا فهو عند اللَّه حسن، وما رآه المسلمون قبيحًا ¬
فهو عند اللَّه قبيح" (¬1). فخير قلوب العباد أحق الخلق لإصابة الصواب فكل خير، وإصابة، وحكمة، وعلم، ومعارف، ومكارم، إنما وصلت إلينا وعرفت لدينا من الرعيل الأول، والسرب الذي عليه المعول، فهم الذين نقلوا العلوم والمعارف عن ينبوع الهدى ونبع الاهتداء، وأوصلوها إلينا، فرضوان اللَّه تعالى عليهم أجمعين. وأخرج الإمام أحمد والترمذي عن حذيفة رضي اللَّه عنه قال كنا عند رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- جلوسًا فقال: "إني لا أدري ما قدر بقائي فيكم فاقتدوا باللذين من بعدي وأشار إلى أبي بكر وعمر وتمسكوا (بعهد) (¬2) عمار وما حدثكم ابن مسعود فصدقوه". وفي رواية "تمسكوا بعهد ابن أم عبد واهتدوا بهدى عمار" (¬3). وأخرج الإمام أحمد والترمذي وأبو داود وابن ماجه. وقال الترمذي حسن صحيح عن العرباض بن سارية رضي اللَّه عنه أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ¬
قال له: "وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة" (¬1). ورواه أبو نعيم وقال: حديث جيد صحيح، فدل الحديث على أن سنة الخلفاء الراشدين مكتبة كاتباع سنته -صلى اللَّه عليه وسلم- بخلاف غيرهم من ولاة الأمور. والخلفاء الراشدون هم: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي اللَّه عنهم فإن في حديث سفينة رضي اللَّه عنه: "الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تكون ملكًا". صححه الإمام أحمد وغيره، ورواه أبو داود والترمذي والنسائي (¬2). وقد قدمنا أن الثلاثين سنة إنما تمت بمدة خلافة الحسن بن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه وذلك أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه توفي في شهر رمضان سنة أربعين من الهجرة والأكثرون على أن وفاته في سابع ¬
عشرة كما مر ووفاة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ثاني عشر ربيع الأول فبينهما دون الثلاثين بنحو ستة أشهر. وأخرج أبو يعلى الموصلي عن أنس رضي اللَّه عنه مرفوعًا: "مثل أصحابى مثل الملح في الطعام لا يصلح الطعام إلا بالملح" (¬1) إذا علمت ذلك فيجب حب كل الصحابة رضوان اللَّه عليهم والكف عما جرى بينهم كتابة وقراءة واقراء وسماعًا وتسميعًا -كما في نهاية المبتدئين للعلامة ابن حمدان. ويجب ذكر محاسنهم والترضي عنهم والمحبة لهم وترك التحامل على أحد منهم واعتقاد الحذر لهم وإنما فعلوا ما فعلوا باجتهاد سائغ لا يوجب كفرًا، ولا فسقًا، بل ربما يثابون عليه لأنه اجتهاد سائغ ثم قال: وقيل المصيب أمير المؤمنين على ومن قاتله فخطأوه معفو عنه. وكان الإمام أحمد بن حنبل رضي اللَّه عنه ينكر على من خاض ويسلم أحاديث الفضائل، وقد تبرأ رضي اللَّه عنه ممن ضللهم أو كفرهم، وقال: السكوت عما جرى بينهم أي أولى وأحرى. . . " (¬2). تنبيه: الصواب وقوع التفاضل بين الصحابة الكرام رضي اللَّه عنهم أجمعين، فأفضلهم باعتبار الأفراد -كما مر- أبو بكر ثم عمر ثم عثمان وعلي رضي اللَّه عنهم ثم بقية العشرة -كما مر-. وأما باعتبار الأصناف فأفضلهم الخلفاء الأربعة ثم الستة الباقين من العشرة، ثم ¬
بقية البدريين، ثم أهل بيعة الرضوان بالحديبية -في المختار- ثم بقية أصحاب أحد (¬1). وفي نص القرآن تفضيل السابقين الأولين. ولما سئل شيخ الإسلام ابن تيمية روح اللَّه روحه عن المفاضلة بين العباس وبلال رضي اللَّه عنهما قال: "بلال وأمثاله من السابقين الأولين أفضل من العباس وأمثاله من التابعين لهم بإحسان" قال: "لأنه قيد التابعين بشرط "الإحسان" قال: "والسابقون الأولون هم الذين اتفقوا من قبل الفتح وقاتلوا، وهم الذين آمنوا وهاجروا قبل بيعة الرضوان وصلح الحديبية في أصح قوله العلماء، وقال: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ. . .} [الحديد: 10] الآية. والفتح هو صلح الحديبية على الأرجح وفيها نزلت: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح: 1] باتفاق. وقيل للنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أفتح هو؟ فقال: نعم، قال ولهذا قدم النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في إمارة غزوة مؤتة مولاه زيد بن حارثة على جعفر بن أبي طالب رضي اللَّه عنه وهو ابن عمه وكلاهما من السابقين لكن زيد أسبق" انتهى. قلت: ومن فضل العباس على نحو بلال فلعله أراد بالقرابة والنسب ونصاعة العنصر والحسب، واللَّه تعالى الموفق. تتمة: إنما خص الناظم رحمه اللَّه ورضي عنه آيات الفتح بالذكر في مدح ¬
الصحابة رضي اللَّه عنهم أجمعين دون قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ. . .} [آل عمران: 110] الآية {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143] و {يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} [التحريم: 8] و {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح: 18] مع أنها في الفتح فيحتمل إرادته لها أيضًا. وقوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة: 100] وقوله: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 64] وقوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 8 - 9]. لعظيم ما اشتملت عليه من المعاني البديعة والمآثر الرفيعة والمزايا العظيمة، والمناقب الجسيمة، فإن قوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} [الفتح: 29] جملة مبنية للمشهود به في قوله: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [الفتح: 28] إلى قوله: {شَهِيدًا} ففيها ثناء عظيم على رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- ثم ثنى بالثناء على أصحابه بقوله: {وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}. كما قال تعالى في الآية الأخرى {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة: 54].
فوصفهم سبحانه بالشدة والغلظة على الكفار وبالرحمة والبر والعطف على المؤمنين والذلة والخضوع لهم ثم أثنى عليهم بكثرة الأعمال مع الإخلاص التام وسعة الرجاء في فضل اللَّه ورحمته وبابتغائهم فضله ورضوانه وبأن آثار ذلك الإخلاص وغيره من أعمالهم الصالحة ظهرت على وجوههم حتى أن من نظر إليهم بهره حسن سمتهم وهديهم. ومن ثم قال الإمام مالك بن أنس رضي اللَّه عنه: "بلغني أن النصارى كانوا إذا رأوا الصحابة الذين فتحوا الشام يقولون واللَّه لهؤلاء خير من الحواريين فيما بلغنا" (¬1). ثم ذكر أنه تعالى نوه بذكرهم في الكتب السابقة والأمم السالفة فقال: {ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ} أي فراخه {فَآزَرَهُ} أي أشده وقواه {فَاسْتَغْلَظَ} شب وطال {فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ} جمع ساق {يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ} أي يعجبهم قوته وغلظه وحسن منظره فكذلك أصحاب محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- آزروه وأيدوه ونصروه، فهم معه كالشطاء مع الزرع" (¬2). {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} من هذه الآية الكريمة أخذ الإمام مالك رضي اللَّه عنه -في رواية عنه- بكفر الروافض الذين يبغضون الصحابة قال لأن الصحابة يغيضونهم ومن غاضه الصحابة فهو كافر (¬3)؛ وهو مأخذ دقيق يشهد له ظاهر الآية. ومن ثم وافقه الإمام الشافعي رضي اللَّه عنه على القول بكفرهم كجماعة من الأئمة. وقد قال الإمام أبو زرعة (الرازي) (¬4) إذا رأيت الرجل ينتقص أحدًا من أصحاب ¬
رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فاعلم أنه زنديق، وذلك أن الرسول حق والقرآن حق وما جاء به حق، وما أدى إلينا ذلك كله إلا الصحابة، فمن جرحهم إنما أراد إبطال الكتاب والسنة فيكون الجرح يه أليق، والحكم عليه بالزندقة والكذب والعناد أقوم وأحق" (¬1). وقال أبو محمد بن حزم: "الصحابة كلهم من أهل الجنة قطعًا قال اللَّه تعالى: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد: 10]. وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء: 101]. فثبت أن جميعهم من أهل الجنة، وأن لا يدخل أحد منهم النار؛ لأنهم المخاطبون بالآية الأولى التي أثبتت لكل منهم الحسنى وهي الجنة فلا يتوهم أن التقييد بالإنفاق والقتال فيها وبالإحسان في الذين اتبعوهم بإحسان يخرج من لم يتصف منهم بذلك لأن تلك القيود خرجت مخرج الغالب فلا مفهوم لها على أن المراد من اتصف بذلك ولو بالقوة أو العزم (¬2). ¬
بداية الكلام على التابعين
خاتمة: صحبة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- رتبة عظيمة ومزية فخيمة لا يعادلها شيء حتى جاء عنه -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه قال: "إن اللَّه اختار أصحابي على الثقلين سوى النبيين والمرسلين" (¬1). ومن ثم لما سئل الإمام عبد اللَّه بن المبارك (¬2) مع فخامته وجلالته وسعة علمه وفضله أيما أفضل معاوية أو عمر بن عبد العزيز فقال: للغبار الذي دخل أنف فرس معاوية مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- خير من عمر بن عبد العزيز كذا كذا مرة" (¬3). أشار الإمام عبد اللَّه بن المبارك رضي اللَّه عنه بذلك إلى أن فضيلة صحبته -صلى اللَّه عليه وسلم- ورؤيته لا يعدلها شيء وإن جل، وباللَّه التوفيق. ثم قال الناظم رحمه اللَّه تعالى: (ومن) بفتح الميم اسم موصول معطوف على قوله: وأنصاره والمهاجرون ديارهم بنصرهم عن ظلمة النار زحزحوا، أي والذين بعدهم أي بعد الصحابة الكرام رضي اللَّه عنهم من المهاجرين والأنصار، وكذلك من كان منهم وجاء بعدهم أي بعد السابقين الأولين من الصحابة فإنهم عن ظلمة النار زحزحوا بفضيلة الصحبة لما قدمنا عن ابن حزم لأنه تعالى وعد كلًا منهم الحسنى، وكذا التابعون والصحابة من المهاجرين والأنصار من سائر الفرق. (يحسن) متعلق بالتابعين (ما) اسم موصول بمعنى الذي، أي بحسن الذي (حذوا)؛ أي اقتفوا والعائد محذوف تقديره حذوه ويجوز أن تكون "ما" موصولًا ¬
تنبيه على أبيات زادها ابن البناء الحنبلي على أصل القصيدة
حرفيًا أي بحسن حذوهم باقتفائهم (¬1) وتتبع آثارهم والتأسي بقالهم وحالهم، ومنه حديث: "لتركبن سنن من كان قبلكم حذو النعل بالنعل" (¬2) أي تعملون مثل أعمالم كما تقطع أحد النعلين على قدر النعل الأخرى. وفي القاموس: "حذا حذو زيد فعل فعله، واحتذى مثاله اقتدى به" انتهى (¬3). أي اقتفوا آثارهم وفعلوا (فعلهم) أي فعل الصحابة رضي اللَّه عنهم (قولًا) باللسان (وفعلًا) بالجوارح والأركان واعتقادًا بالجنان (فأفلحوا) أي فازوا وظفروا بمقصودهم ونجوا وتنعموا في جنان الخلد ورضى معبودهم وتقدم معنى الفلاح في أول المنظومة فراجعه (¬4). تنبيه: هذه الثلاثة أبيات وأولها قوله: "وعائش أم المؤمنين". وثانيها: "وأنصاره والهاجرون (¬5) ديارهم". وثالثها: "ومن بعدهم والتابعون. . . ": ليست من كلام الناظم الذي هو الإمام الحافظ أبو بكر بن أبي داود. ¬
تنبيهان
بل من كلام العلامة المحقق ابن البناء من أئمة علمائنا، نعم زحزحت أنا البيت الأخير منها لما بعد عن (¬1) قول الناظم رحمه اللَّه تعالى: "وقل خير قول. . . " إلى آخره لأجل ذكر التابعين بعد الفراغ من ذكر الصحابة المكرمين رضي اللَّه عنهم أجمعين، على أنه يحتمل إرادته بالتابعين -للأنصار والمهاجرين السابقين الذين آمنوا من قبل الفتح وأنفقوا وقاتلوا، فيكون التابعون لهم بإحسان هم- الصحابة الذين جاءوا من بمد غزوة الحديبية، لكن لبعد هذا المدرك على كثير من الأفهام لم أجعله معول شرحي. تنبيهان: الأول: ابن البناء (¬2) الناظم الثلاثة أبيات هو أبو (¬3) علي الحسن بن أحمد بن عبد اللَّه بن البناء (¬4) البغدادي الحنبلي الإمام المحدث الفقيه الأصولي الواعظ صاحب التصانيف، شيخ الإسلام، ولد سنة ست وتسعين وثلاثمائة وتفقه أولًا على أبي طاهر العبادي ثم على القاضي أبي يعلى محمد بن الحسين بن (¬5) الفراء الإمام، وابن البناء من قدماء أصحابه، وحضر عند (¬6) علي بن أبي موسى وناظر في مجلسه وتفقه أيضًا على أبي الفضل التميمي وغيره وسمع منه الحديث خلق كثير وقرأ عليه الحافظ الحميدي كثيرًا، حدث عنه ولداه أبو غالب أحمد ويحيى، ودرس الفقه كثيرًا وأفتى زمانًا طويلًا، وكان (رقيق) (¬7) البدن، جيد القريحة، وقد صنف في زمان شيخه ¬
التنبيه الثاني في كلام على التابعين
الإمام أبي يعلى في المعتقدات وغيرها، وكتب له خطه عليها بالإصابة والاستحسان وتزيد تصانيفه على ثلاثمائة مصنف، وذكر عنه أنه قال صنفت خمسمائة مصنف، وكان طاهر الأخلاق، حسن الوجه والشيبة، محبًا لأهل العلم مكرمًا لهم، توفى رحمه اللَّه ورضي عنه ليلة السبت خاص رجب سنة إحدى وسبعين وأربعمائة وصلي عليه في الجامعين جامع القصر، وجامع المنصور، وكان الجمع فيهما متوفرًا جدًا وأم الناس في الصلاة عليه أبو محمد التميمي وتبعه خلق كثير وعالم عظيم ودفن بباب حرب رحمه اللَّه تعالى. ومن شعره: إذا غيبت أشباحنا كان بيننا ... رسائل صدق في الضمير تراسل وأرواحنا في كل شرق ومغرب ... تلاقي بإخلاص الوداد تواصل وثم أمور لو تحققت بعضها ... لكنت لنا بالعمر فيها تقابل وكم غائب والقلب منه سالم ... وكم زائر في القلب منه بلابل فلا تجز عن يومًا إذا غاب صاحب ... أمين فما غاب الصديق المجامل (¬1) الثاني: التابعون للصحابة رضي اللَّه عنهم بإحسان (¬2) هم أحق وأجدر بعد الصحابة بالفضل والإتقان والتقديم على غيرهم من سائر أهل الإسلام والإيمان من أمة نبينا محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- سيد ولد عدنان. وتعريف التابعي: هو كل من صحب الصحابي صحبة متعارفة ومطلقة مخصوص بالتابع بإحسان. وقال للواحد تابع وتابعي، ولابد في التابعي من زيادة على ما تعتبر به الصحبة في الصحابي كما تقدم لأن للصحبة خصوصية لا توجد لغيرها، وللتابعين طبقات ¬
بالنسبة إلى من اجتمع بعشرة أو ثلاثة من الصحابة، وبالعلم والزهد وغير ذلك (¬1). وقد اختلف في أفضل التابعين فقال سيدنا الإمام أحمد وغيره من أهل العلم "أفضل التابعين سعيد بن المسيب" (¬2). وقال قوم: أفضل التابعين أويس بن عامر ويقال عمرو وكنيته أبو عمرو وهو القرني، واستدلوا له بحديث: "خير التابعين أويس رواه الحاكم عن علي بن أبي طالب (¬3) عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. ¬
وفي صحيح مسلم: "إن خير التابعين رجل يقال له أويس بن عامر وله والدة وكان به بياض فمروه فليستغفر لكم" (¬1). قال النووي: "هو أويس بن عامر كذا رواه مسلم وهو مشهور" (¬2). وقال ابن ماكولا (¬3): ويقال "أويس بن عمرو" (¬4) وهو القرني بفتح القاف والراء وهو بطن من مراد وهو قرن بن ردبان، وغلطوا من نسبه إلى قرن المنازل الجبل المعروف ميقات أهل نجد في الإحرام" (¬5). وفي الحديث طلب الدعاء والاستغفار من أهل الصلاح وإن كان الطالب أفضل من المطلوب منه لأنه قد يوجد في المفضول ما لا يوجد في الفاضل (¬6). فإن قيل كيف استجاز الإمام أحمد رضي اللَّه عنه ومن نحى نحوه تفضيل ¬
سعيد ابن المسيب على سائر التابعين مع وجود النص الصريح بالنقل الصحيح في تفضيل أويس رحمه اللَّه، مع أن مذهب الإمام أحمد أن لا يقدم على مقبول الأخبار شيئًا؟ فالجواب أن مراد سيدنا الإمام أحمد رضي اللَّه عنه وأضرابه أفضلية سعيد بن المسيب رحمه اللَّه تعالى في العلوم الشرعية كالتفسير والحدث والفقه ونفع الأمة بذلك، وبما بلغه عن الصحابة الكرام عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فإن سيدًا هو الإمام الحافظ الثقة المأمون حتى قيل فيه: "أعلم أمة محمد بدين محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- سعيد بن المسيب رضي اللَّه عنه" (¬1). والدليل على أفضلية التابعين على غيرهم بعد الصحابة رضي اللَّه عنهم قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم" رواه البخاري ومسلم وغيرهما من حديث عمران بن حصين رضي اللَّه عنهما قال عمران: "فلا أدرى أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة ثم إن بعدهم قومًا يشهدون ولا يستشهدون ويخونون ولا يؤتمونون وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السمن "زاد في رواية: "ويحلفون ولا يستحلفون" (¬2). وأخرج الترمذي من حديث جابر بن عبد اللَّه رضي اللَّه عنهما أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "لا تمس النار مسلمًا رآني أو رأى من رآني" (¬3). قال الإمام المحقق ابن القيم في أول كتابه "أعلام الموقعين" "ألقى الصحابة الكرام ¬
رضي اللَّه عنهم إلى التابعين ما تلقوه من مشكاة النبوة خالصًا صافيًا، وكان سندهم عن نبيهم -صلى اللَّه عليه وسلم- عن جبريل عن رب العالمين سندًا صحيحًا عاليًا، وقالوا هذا عهد نبينا إلينا وقد عهدناه إليكم، وهذه وصية ربنا وفرضه علينا وهي وصيته وفرضه عليكم، فجرى التابعون لهم وإحسان على منهاجهم واقتفوا آثار صراطهم المستقيم" (¬1). ثم بعد التابعين أتباع التابعين. ثم جاءت الأئمة من القرن الرابع المفضل في إحدى الروايتين كما ثبت في الصحيح من حديث أبي سعيد وابن مسعود وأبي هريرة وعائشة وعمران بن حصين رضوان اللَّه عليهم أجمعين من قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "خير الناس قرني. . . " (¬2) الحديث. والقرن أهل زمان واحد متقارب اشتركوا في أمر من الأمور المقصودة، والأصح أنه لا يضبط بمدة، فقرنه -صلى اللَّه عليه وسلم- هم أصحابه وكانت مدتهم من المبعث إلى آخر من مات من أصحابه وهو أبو الطفيل مائة وعشرين سنة، وقرن التابعين من نحو مائة إلى سبعين سنة، وقرن أتباع التابعين من ثم إلى حدود العشرين ومائتين. وفي هذا الوقت ظهرت البدع ظهورًا فاشيًا وأطلقت المعتزلة ألسنتها وأظهرت الجهمية نحلتها ورفعت الفلاسقة رؤوسها، وحررت الباطنية والقرامطة دروسها، وامتحن أئمة الدين وعلماء المسلمين ليقولوا بخلق القرآن وكان المقصود الأعظم منهم إمامنا الإمام أحمد بن حنبل عليه الرحمة والرضوان فقام بأمر السنة أتم قيام، وعاضده على ذلك أئمة نبلاء أعلام وحفاظ لدين الإسلام فخام، شكر اللَّه سعيهم ¬
وثبتنا على نهجهم، وظهر مصداق قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ثم يفشوا الكذب" كما في رواية (¬1) واللَّه تعالى أعلم (¬2) (¬3). * * * ¬
فصل في الكلام على القدر
فصل في الكلام على القدر قال في النهاية: "قد تكرر في الحديث ذكر القدر وهو: عبارة عما قضاه اللَّه وحكم به من الأمور. وقال في القضاء إنه الفصل والحكم، وقد تكرر في الحديث ذكر القضاء أيضًا، وأصله القطع والفصل يقال قضى يقضي قضاء فهو قاض إذا حكم وفصل وقضاء الشيء إحكامه وإمضاؤه والفراغ منه فيكون بمعنى الخلق" (¬1). قال الناظم رحمه اللَّه تعالى: (وبالقدر) وهو الأمر الذي قضاه اللَّه وحكم به من الأمور وهو مصدر قدر، يقدر قدرًا، وقد تسكن داله، وأل في القدر والقضاء عرض عن المضاف إليه أبي بقدر اللَّه. وعرفه الماتريدية: "أنه تحديد اللَّه تعالى أزلًا كل مخلوق بحده الذي يوجد به من حسن وقبيح ونفع وضر وما يحويه من زمان ومكان وما يترتب عليه من طاعة وعصيان وثواب وعقاب وغفران" (¬2). وعند الأشاعرة: إيجاد اللَّه تعالى الأشياء على قدر مخصوص، وتقدير معين في ذواتها وأحوالها طبق ما سبق به العلم وجرى به القلم" (¬3). قال الخطابي (¬4): "قد يحسب كثير من الناس أن معنى القدر من اللَّه والقضاء: معنى الإجبار والقهر للعبد على ما قضاه اللَّه (¬5) وقدره ويتوهم أن قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فحج ¬
آدم موسى" من هذا الوجه وليس كذلك وإنما معناه الإخبار عن تقدم علم اللَّه تعالى بما يكون من فعل العباد واكتسابهم وصدورها عن تقدير منه تعالى وخلق لها خيرها وشرها، قال والقدر اسم لما صدر مقدرًا عن فعل القادر. ولذا قال الناظم: (المقدور) أي المصادر عن المعبود تعالى مقدرًا محكمًا، كالهدم والنشر والقبض أسماء لما صدر عن فعل الهادم والناشر والقابض يقال: قدرت الشيء وقدرت خفيفه وثقيله بمعنى واحد والقضاء معناه في هذا الخلق كقوله تعالى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت: 12] أي خلقهن وإذا كان الأمر كذلك فقد بقي على العباد من وراء علم اللَّه تعالى فيهم أفعالهم واكتسابهم ومباشرتهم تلك الأمور وملابستهم إياها عن قصد وتعمد وتقديم إرادة واختيار والحجة إنما تلزمهم بها واللائمة تلحقهم عليها. قال الخطابي: وجماع القول في هذا أنهما أمران لا ينفك أحدهما عن الآخر لأن أحدهما بمنزلة الأساس والآخر بمنزلة البناء فمن رام الفصل بينهما فقد رام هدم البناء ونقضه وإنما كان موضع الحجة لآدم على موسى عليهما السلام أن اللَّه تعالى كان قد علم من آدم أنه يتناول من الشجرة ويأكل منها فكيف يمكنه أن يرد علم اللَّه فيه ويبطله بعد ذلك، وبيان هذا في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30] فأخبر قبل كون آدم إنما خلقه للأرض وأنه لا يتركه في الجنة حتى ينقله عنها إليها وإنما كان تناوله سببًا لهبوطه إلى الأرض التي خلق لها ليكون فيها خليفة واليًا على من فيها فإنما أدلى (¬1) آدم بالحجة على موسى لهذا المعنى ودفع لائمة موسى عليه السلام عن نفسه ولذلك قال: أتلومني على أمر قد قدره اللَّه عليَّ من قبل أن يخلقني. قال: فقول موسى عليه السلام وإن كان في النفوس منه شبهة وفي ظاهره متعلق لاحتجاجه بالسبب الذي جعل إمارة لخروجه من الجنة، فقول آدم عليه السلام في تعلقه بالسبب الذي هو بمنزلة الأصل ¬
أرجح وأقوى، والفلج قد يقع من المعارضة بالترجيح كما يقع بالبرهان الذي لا معارض له (¬1) انتهى. قلت والحديث الذي احتج فيه آدم على موسى عليهما السلام صحيح متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه وروى أيضًا بإسناد جيد من حديث ابن عمر رضي اللَّه عنهما ولفظ الحديث: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن موسى قال: يا رب أرنا آدم الذي أخرجنا من الجنة بخطيئته فقال موسى يا آدم أنت أبو البشر خلقك اللَّه بيده، ونفخ فيك من روحه وأسجد لك ملائكته لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة؟ فقال له آدم: أنت موسى الذي اصطفاك اللَّه بكلامه وكتب لك التوراة بيده فكم تجد فيها مكتوبًا وعصى آدم ربه فغوى قبل أن أخلق؟ قال بأربعين سنة. قال: أتلومني على أمر قد قدر عليَّ قبل أن أخلق بأربعين سنة، قال: فحج آدم موسى" (¬2). قال شيخ الإسلام ابن تيمية روح اللَّه روحه: ظن طوائف في هذا الحديث أن آدم احتج بالقدر على الذنب وأنه حج موسى بذلك -فطائفة من هؤلاء يدعون التحقيق والعرفان يحتجون بالقدر على الذنوب مستدلين بهذا الحديث، وطائفة أخرى يقولون الاحتجاج به سائغ في الآخرة لا في الدنيا. وأخرى تقول هو حجة للخاصة المشاهدين للقدر دون العامة، وطائفة أخرى كذبت بالحديث كأبي علي الجبائي أحد أئمة الاعتزال ومن نحى منحاه. وطائفة تأولته تأويلات فاسدة مثل قول بعضهم: إنما حجه لأنه كان قد تاب، ¬
وقول آخر لأنه كان أباه والابن لا يلوم أباه، وقول آخر إن الذنب في شريعته واللوم في أخرى. قال: وكل هذا تعريج عن مقصود الحديث لأن موسى عليه السلام قال لآدم عليه السلام لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة؟ فلامه على المصيبة التي حصلت بسبب فعله لا لأجل كونها ذنبًا، ولهذا احتج آدم عليه بالقدر، وأما كونه لأجل الذنب كما يظنه كثير من الناس فليس بمراد بالحديث، فإن آدم عليه السلام كان قد تاب من الذنب، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، ولا يجوز لوم التائب باتفاق الناس، قال ولأن آدم عليه السلام احتج بالقدر، وليس لأحد أن يحتج بالقدر على الذنب باتفاق المسلمين، وسائر أهل الملل وسائر العقلاء" (¬1). وقال شيخ الإسلام في كتابه "الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان": هذا الحديث قد ضلت به طائفتان: طائفة كذبت به لما ظنوا أن يقتضي رفع الذم والعقاب عمن عصى اللَّه تعالى لأجل القدر. وطائفة شر من هؤلاء جعلوه حجة لأهل الحقيقة الذين شهدوه أو الذين لا يرون أن لهم فعلًا وذكر نحو ما قدمنا من الطوائف، ثم قال: "وكل هذا باطل ولكن وجه الحديث: أن موسى عليه السلام لم يلم أباه إلا لأجل المصيبة التي لحقتهم من أجل أكله من الشجرة فقال: لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة؟ لم يلمه لمجرد كونه أذنب ذنبًا وتاب منه فإن موسى عليه السلام يعلم أن التائب من الذنب لا يلام ولو كان آدم عليه السلام بعتقد رفع الملام عنه لأجل القدر لم يقل: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23]. ¬
والمكلف مأمور عند المصائب أن يصبر ويسلم وعند الذنوب أن يستغفر ويتوب" (¬1). إذا علمت هذا (فأيقن): أي أعلم علمًا جازمًا لا ريب فيه ولا شك يعتريه، والجار والمجرور الذي هو قوله: (وبالقدر المقدور) متعلق بأيقن. قال في القاموس: "اليقين إزاحة الشك" (¬2). (فإنه) أي الإيقان بالقدر المقدر والإيمان به (دعامة) قال في القاموس: "الدعمة والدعامة بكسرتين: عماد البيت، والخشب المنصوب للعريش والدعامة بالفتح: الشرط" (¬3) أي عمود (عقد الدين) الذي ينبني عليه، وشرطه الذي يعول عليه، والجمع: دعم ودعائم، و (أل) في الدين للعهد أي دين اللَّه الذي بعث اللَّه به رسوله محمدًا -صلى اللَّه عليه وسلم- وأنزل به كتابه وتقدم تعريف الدين في أول المنظومة وهو الوضع الإلهي السائق لذوي العقول باختيارهم المحمود إلى ما هو خير لهم، بالذات (والدين): الذي هو دين الإسلام: (أفبح): أي واسع لا حرج فيه. قال في القاموس: "بحر أفيح وفياح بيّن الفيح واسع والفيحاء الواسعة من الدور" (¬4). وفي حديث أم زرع: (وبيتها فياح) (¬5) أي واسع هكذا رواه عبيد مشددًا وصوب غيره التخفيف. ¬
تنبيهات
وفي الحديث: "اتخذ ربك في الجنة واديًا أفيح من مسك" (¬1). قال في النهاية: "كل موضع واسع يقال له أفيح، وروضة فيحاء" (¬2). تنبيهات: الأول: أعلم أن القدر عند السلف: ما سبق به العلم القديم وجرى به القلم العظيم مما هو كائن إلى الأبد، وأنه عز وجل قدر مقادير الخلائق وما يكون من الأشياء قبل أن تكون في الأزل، وعلم تعالى أنها ستقع في أوقات معلومة عنده، وعلى صفات مخصوصة فهي تقع حسب ما قدرها. قال شيخ الإسلام ابن تيمية قدس اللَّه روحه: "علم اللَّه السابق محيط بالأشياء على ما هي عليه ولا محو فيه ولا تغيير، ولا زيادة ولا نقص فإنه تعالى يعلم ما كان وما يكون وما لا يكون لو كان كيف كان يكون". ¬
الثاني: درجات الإيمان بالقدر
قال: "وأما ما جرى به القلم في اللوح المحفوظ فهل يقع فيه محو وإثبات على قولين للعلماء". قال: "وأما الصحف التي بيد الملائكة فيحصل فيها المحو والإثبات". الثاني: الإيمان بالقدر على درجتين: إحداهما: الإيمان بأن اللَّه تعالى سبق في علمه ما يعمله العباد من خير وشر وطاعة ومعصية قبل خلقهم وإيجادهم ومن هو منهم من أهل الجنة، ومن أهل النار، وأعد لهم الثواب والعقاب جزاء لأعمالهم قبل خلقهم وتكوينهم وأنه كتب ذلك وأحصاه وأن أعمال العباد تجري على ما سبق في علمه وكتابه. الثانية: أن اللَّه تعالى خلق أفعال العباد كلها من الكفر والإيمان والطاعة والعصيان، وشاءها منهم، فهذه الدرجة يثبتها أهل السنة والجماعة وينكرها القدرية (¬1). والدرجة الأولى أثبتها القدرية أيضًا ونفاها غلاتهم كمعبد الجهني الذي سئل ابن عمر رضي اللَّه عنهما عن مقالته: وهي أن لا قدر وأن الأمر أنف (¬2) فقال: إذا لقيت (¬3) أولئك فأخبرهم أني برئ متهم وأنهم براء مني والذي يحلف به عبد اللَّه بن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهبًا فأنفقه ما قبل منه حتى يؤمن بالقدر" رواه مسلم في صحيحه (¬4) (¬5). ¬
الثالث: أول من تكلم في القدر
قال الحافظ ابن رجب (¬1): "الذي سئل ابن عمر رضي اللَّه عنهما عن مقالتهم معبد الجهني وعمرو بن عبيد وغيرهما، وقد قال كثير من السلف: "ناظروا القدرية بالعلم فإن أقروا به خصموا وإن جحدوه فقد كفروا" يريدون أن من أنكر العلم القديم السابق بأفعال العباد وأن اللَّه تعالى قسمهم قبل خلقهم إلى شقي وسعيد وكتب ذلك عنده في كتاب حفيظ فقد كذب بالقرآن فيكفر بذلك. وإن أقروا بذلك وأنكروا أن اللَّه خلق أفعال عباده (¬2) وشاءها وأرادها منهم إرادة كونية قدرية فقد خصموا لأن ما أقروا به حجة عليهم فيما أنكروه وفي تكفير هؤلاء نزاع مشهور بين العلماء وأما من أنكر العلم القديم فقد نص الإمامان الشافعي وأحمد رضي اللَّه عنهما على تكفيره وكذلك غيرهما من أئمة الإسلام" (¬3). الثالث: أول من تكلم في القدر معبد بن عبد اللَّه بن عويمر الجهني وكان أولًا يجلس إلى الحسن البصري ثم سلك أهل البصرة مسلك معبد لما رأوا عمرو بن عبيد ينتحله كما قال السمعاني (¬4). ¬
فرق القدرية
وبعض الأشعرية وغيرهم. قال شيخ الإسلام ابن تيمية طيب اللَّه ثراه في كتابه "شرح الإيمان": "أول من ابتدعه بالعراق رجل من أهل البصرة يقال له سيسويه بمهملتين بينهما تحتية من أبناء المجوس وتلقاه عنه معبد الجهني" (¬1). وذكر العلامة الطوفي (¬2) في شرح تائية شيخ الإسلام أن اسمه "سوسن" بواو بين المهملتين فنون، ثم معبد الجهني وأخذ غيلان عن معبد (¬3) ويقال أول ما حدث في الحجاز لما احترقت الكعبة (¬4) فقال رجل احترقت بقدر اللَّه فق الآخر: لم يقدر اللَّه هذا (¬5). قال شيخ الإسلام قدس اللَّه روحه: "لم يكن على عهد الخلفاء الراشدين أحد ينكر القدر فلما ابتدع هؤلاء التكذيب بالقدر رده عليهم من بقي من الصحابة كعبد اللَّه بن عمر وعبد اللَّه بن عباس وواثلة بن الأسقع رضي اللَّه عنهم وكان أكثره بالبصرة والشام وقليل منه بالحجاز (فأكثر السلف الكلام في هؤلاء القدرية) (¬6). ولهذا قال وكيع بن الجراح: القدرية يقولون: الأمر مستقبل وأن اللَّه لم يقدر الكتابة والأعمال، والمرجئة يقولون: القول يجزي عن العمل والجهمية يقولون: ¬
التصديق يجزي عن القول والعمل. قال وكيع: هو كله كفر" (¬1). قال شيخ الإسلام: "ولكن لما اشتهر الكلام في القدر ودخل فيه كثير من أهل النظر والعبادة صار جمهور القدرية يقرون بتقدم العلم وإنما ينكرون عموم المشيئة والخلق. وعن عمرو بن عبيد في إنكار الكتاب المتقدم والسعادة روايتان (¬2). وقد علمت مما مر أن القدرية فرقتان: الأولى: تنكر سبق علم اللَّه بالأشياء قبل وجودها وتزعم أن اللَّه تعالى لم يقدر الأمور أزلًا ولم يتقدم علمه بها وإنما يأتنفها علمًا حال وقوعها وكانوا يقولون إن اللَّه تعالى أمر العباد ونهاهم وهو لا يعلم من يطيعه ممن يعصيه ولا من يدخل الجنة ممن يدخل النار، حتى فعلوا ذلك فعلمه بعد ما فعلوه، ولهذا قال: الأمر أنف أي مستأنف، هذا مع قوله تعالى (¬3): {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49] وهو تعالى يعلم قبل أن يخلق الأشياء كلها (ما) (¬4) سيكون، وهو كخلق بمشيئته فهو يعلمه ويريده ود إرادته تعالى قائمة بنفسه وقال تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحج: 70]. قال ابن عباس رضي اللَّه عنهما: "إن اللَّه تعالى خلق الخلق وعلم ما هم عاملون ثم قال لعلمه كن كتابًا فكان كتابًا ثم أنزل تصديق ذلك في هذه الآية وفي الآية ¬
الأخرى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد: 22] (¬1). قال العلماء والفرقة المنكرة لهذا انقرضوا وهم الذين كفرهم الأئمة مالك والشافعي وأحمد وغيرهم رضي اللَّه عنهم (¬2). ومما احتج به الإمام أحمد عليهم قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ. .} [الأحزاب: 7] الآية. قال هذه حجة على القدرية. قال الإمام المحقق ابن القيم في "البدائع": "أراد القدرية المنكرة للعلم بالأشياء قبل كونها وهم غلاتهم الذين كفرهم السلف" (¬3). قال القرطبي: "وقد انقرض هذا المذهب فلا يعرف أحد ينسب إليه من المتأخرين" (¬4). الفرقة الثانية من فرقتي القدرية: المُقِرّون بالعلم: قال الحافظ ابن حجر في شرح البخاري: "القدرية اليوم مطبقون على أن اللَّه تعالى عالم بأفعال العباد قبل وقوعها، وإنما خالفوا السلف في زعمهم بأن أفعال العباد مقدورة لهم وواقعة منهم على جهة الاستقلال، وهو مع كونه مذهبًا باطلًا أخف (¬5) من المذهب الأول". ¬
قال: "والمتأخرون منهم أنكروا تعلق الإرادة بأفعال العباد فرارًا من تعلق القديم بالمحدث" (¬1). قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وأما هؤلاء -يعني الفرقة الثانية- فإنهم مبتدعون ضالون لكنهم ليسوا بمنزلة أولئك". قال: "وفي هؤلاء خلق كثير من العلماء والعباد كتب عنهم وأخرج الشيخان لجماعة منهم، لكن من كان داعية لم يخرجوا له، وهذا مذهب فقهاء أهل الحديث كالإمام أحمد وغيره" (¬2). (من كان داعية) (¬3) إلى بدعة فإنه يستحق العقوبة لدفع ضرره عن الناس، وإن كان في الباطن مجتهدًا، فأقل عقوبته أن يهجر فلا يكون له مرتبة في الدين، فلا يؤخذ عنه العلم ولا يستقضى ولا تقبل شهادته ونحو ذلك. ولهذا لم يخرج أصحاب الصحيح لمن كان داعية، ولكن رووا هم وسائر أهل العلم عن كثير ممن كان يرى رأي القدرية والمرجئة والخوارج والشيعة، ولهذا قال سيدنا الإمام أحمد: "لو تركنا الرواية عن القدرية لتركنا أكثر أهل البصرة" (¬4). قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "هذا لأن مسألة خلق أفعال العباد وإرادة الكائنات مسألة مشكلة، ولهذا القدرية من المعتزلة وغيرهم أخطأوا فيها" (¬5) وقد أفرط القدرية غاية التفريض بحيث إنهم نفوا أن يكون اللَّه تعالى خالقًا لأفعال عباده مع قوله تعالى: ¬
التنبيه الرابع: في بعض ما ورد في ذم القدرية
{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96] فأثبتوا خالقًا غيره مستقلًا بالخلق والأمر دونه تعالى اللَّه عن ذلك" (¬1). الرابع: في بعض ما ورد في ذم طائفة القدرية. قد قدمنا كلام عبد اللَّه بن عمر رضي اللَّه عنهما وتبريه منهم وأنهم لو كان لأحدهم مثل أحد ذهبًا فأنفقه ما قبل اللَّه تعالى منه حتى يؤمن بالقدر. وساق حديث جبريل عليه السلام وفيه: "وتؤمن بالقدر خيره وشره" زاد في رواية "حلوه ومره" رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي (¬2). وروى الطبراني في الأوسط عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما مرفوعًا: "القدر نظام التوحيد فمن وحد اللَّه وآمن بالقدر فقد استمسك بالعروة الوثقى" (¬3). (وأخرج) (¬4) أبو نعيم في الحلية عن ابن عمر رضي اللَّه عنهما مرفوعًا: "القدر سر اللَّه" (¬5). ¬
وفي الجامع الكبير (¬1) عن الحارث (¬2) قال: جاء رجل إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه فقال: يا أمير المؤمنين أخبرني عن القدر؟ قال: سر اللَّه خفي عليك فلا تفشه، قال: أخبرني عن القدر؟ قال: طريق مظلم لا تسلكه. قال: أخبرني عن القدر؟ قال: بحر عميق لا تلجه. قال: يا أمير المؤمنين أخبرني عن القدر؟. . . إلى أن قال: أيها السائل تقول: لا حول ولا قوة إلا بمن؟ قال: إلَّا باللَّه العلي العظيم، قال: أفتعلم ما في تفسيرها؟ قال: تعلمنى مما علمك اللَّه يا أمير المؤمنين. قال: إن تفسيرها لا يقدر على طاعة اللَّه ولا تكون له قوة في معصية اللَّه في الأمرين جميعًا إلا باللَّه، أيها السائل ألك مع اللَّه مشيئة أو فوق اللَّه مشيئة أو دون اللَّه مشيئة فإن قلت إن لك دون اللَّه مشيئة اكتفيت بها عن مشيئة اللَّه، وإن زعمت أن لك فوق اللَّه مشيئة فقد ادعيت أن قوتك ومشيئتك غالبتان على قوة اللَّه ومشيئته، وإن زعمت أن لك مع اللَّه مشيئة فقد ادعيت مع اللَّه شركاء في مشيئته. . " الخبر (¬3). وقد أخرج أبو داود في سننه والحاكم في مستدركه عن ابن عمر رضي اللَّه عنهما أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "القدرية مجوس هذه الأمة" (¬4). ¬
ورواه الترمذي وحسنه وصححه الحكم. قال الحافظ ابن حجر: رجاله رجال الصحيحين، وصحح سنده الحافظ أبو الحسن بن القطان القابسي (¬1) فهو صحيح على شرط مسلم. ¬
وأما ذكر الحافظ أبي الفرج له في الموضوعات (¬1) من حديث أبي هريرة فقد تعقب عليه وأن جعفر بن الحارث الذي أعله به قد وثقه ابن عدي فقال: لم أر في أحاديثه حديثًا منكرًا أرجو أنه لا بأس به، وقال البخاري حفظه سيء يكتب حديثه والحديث ورد بهذا اللفظ من حديث حذيفة أخرجه أبو داود (¬2) وجابر بن عبد اللَّه. أخرجه ابن ماجة (¬3) وعبد اللَّه بن عمر أخرجه الإمام أحمد (¬4) والبخاري في تاريخه (¬5) والطبراني في الأوسط (¬6) واللالكائي في السنة (¬7) بأسانيد بعضها على شرط الصحيح، وسهل بن (سعد) (¬8) أخرجه الطبراني في الأوسط واللالكائي أيضًا (¬9) وأنس أخرجه الطبراني (¬10) وابن عباس أخرجه اللالكائي (¬11) وورد عن عمر موقوفًا أخرجه اللالكائي (¬12) فهؤلاء الصحابة رضي اللَّه عنهم روى هذا الحديث ¬
عنهم "فلا أقل من أن يكون حسنًا فضلًا عن أن يكون صحيحًا" (¬1). وقد روى الطبراني في الكبير وابن حبان في صحيحه والحاكم وقال: صحيح الإسناد، وقال الحافظ المنذري: لا أعرف له علة عن أم المؤمنين عائشة الصديقة رضي اللَّه عنها أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "ستة لعنتهم ولعنهم كل نبي مجاب الزائد في كتاب اللَّه عز وجل والمكذب بقدر اللَّه والمتسلط على أمتي بالجبروت ليذل من أعز اللَّه، ويعز من أذل اللَّه والمستحل حرمة اللَّه والمستحل من عترتي ما حرم اللَّه، والتارك للسنة" (¬2). ¬
وفي حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه مرفوعًا: تكونون قدرية ثم تكونون زنادقة ثم تكونون مجوسًا، وإن لكل أمة مجوسًا وإن مجوس أمتى المكذبة بالقدر فإن مرضوا فلا تعودوهم وإن ماتوا فلا تشهدوهم ولا تتبعوا لهم جنازة" (¬1). قال أبو سليمان الخطابي: "إنما جعلهم مجوسًا لمضاهات مذهبهم مذهب المجوس في قولهم بالأصلين وهما النور والظلمة زعمون الخير من فعل النور والشر من فعل الظمة، فصاروا ثنوية. وكذلك القدرية يضيفون الخير إلى اللَّه والشر إلى غيره، واللَّه تعالى خالق الأمرين معًا" (¬2). وكذا قال ابن الأثير في جامع الأصول: "القدرية في إجمع أهل السنة والجماعة هم الذين يقولون إن الخبر من اللَّه والشر من الإنسان وإن اللَّه لا يريد أفعال العصاة، وسموا بذلك لأنهم أثبتوا للعبد قدرة توجد الفعل بانفرادها واستقلالها دون اللَّه تعالى، ونفوا أن تكون الأشياء بقدر اللَّه وقضاه، وقال: وهؤلاء مع ضلالتهم ¬
يضيفون الاسم إلى مخالفهم من أهل الهدي فيقولون أنتم القدرية حين تجعلون الأشياء جارية بقدر من اللَّه فأنتم أولى بهذا الاسم منا لأنكم تثبتون القدر ونحن ننفيه ومثبته أحق بالنسبة إليه من نافيه، فأنتم الداخلون تحت وعيد الحديث دوننا، فأجابهم أهل الحق بأنكلم أولى بذلك لأنكلم تثبتون القدر لأنفسكم ونحن ننفيه عن أنفسنا ومثبت الشيء لنفسه أولى بالنسبة إليه ممن نفاء عن نفسه، وأيضًا هذا الحديث يبطل ما قالوه فإنه عليه الصلاة والسلام قال: "القدرية مجوس هذه الأمة" ومعنى ذلك ليس إلا مشابهتهم للمجوس في مذهبهم وقولهم بالأصلين وهما النور والظلمة" (¬1) انتهى. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية روح اللَّه روحه: "من توهم من القدرية (¬2) أو من غيره بن نقل عنهم أن الطاعة من اللَّه والمعصية من العبد فجاهل بمذهبهم فإن هذا لم يقله أحد من علماء القدرية ولا يمكن أن يقولوه فإن أصل قولهم أن فعل العبد للطاعة كفعله للمعصية كلتاهما فعله بقدرة تحصل له من غير أن يخصه اللَّه تعالى بإرادة خلقها فيه تختص بأحدهما ولا قوة جعلها فيه تختص بأحدهما فمن احتج منهم بقوله تعالى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء: 79] على مذهبهم كان جاهلًا بمذهبهم (¬3) وكانت الآية الكريمة حجة عليهم لا لهم لأنه تعالى قال: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} وعندهم ليس الحسنات المفعولة ولا السيئات المفعولة من عند اللَّه بل كلاهما من العبد واللَّه سبحانه وتعالى ذكر هذه الآية الكريمة ردًا على من يقول الحسنة من اللَّه والسينة من العبد قال ¬
تتمة: في الكلام على فرقة الجبرية المقابلة لفرقة القدرية
ولم يقل أحد من الناس إن الحسنة المفعولة من اللَّه والسيئة المفعولة من العبد" (¬1) واللَّه تعالى أعلم. تتمة: قابلت طائفة القدرية الطائفة المسماة بالجبرية وهم الذين يزعمون أنه لا فعل للعبد أصلًا وأن حركاته بمنزلة حركات الجمادات لا قدرة له عليها ولا قصد ولا اختيار فأثبتوا أن اللَّه تعالى خالق كل شيء ومليكه وربه وهذا جيد حسن، لكن أساؤا بنفي تأثير الأسباب والحكم في الجماد والحيوان وبإنكارهم أن يكون للحيوان من الإنسان أو غيره فعل يفعله بقدرته واختياره وحقيقة قول هؤلاء ترجيح أحد المتماثلين بلا مرجح وحدوث الحوادث بلا سبب أصلًا. قال شيخ الإسلام قدس اللَّه روحه: "قابل القدرية قوم من العلماء والعباد وأهل الكلام والتصوف فأثبتوا القدر وآمنوا بأن اللَّه خالق كل شيء ربه ومليكه وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وهذا حسن لكنهم قصروا في الأمر والنهي والوعد والوعيد وأفرطوا (حتى غلا بهم الأمر) (¬2) إلى الإلحاد فصاروا من جنس المشركين الذي قالوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 148]. ثم قال: فأولئك القدرية وإن كانوا يشبهون المجوس من حيث أنهم أثبتوا فاعلًا لما اعتقدوه شرًا غير اللَّه سبحانه فهؤلاء شابهوا المشركين الذين قالوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ}. فالمشركون شر من المجوس لأن المجوس يقرون بالجزية باتفاق المسلمين حتى ذهب بعض العلماء إلى حل نسائهم وطعامهم، وأما المشركون فاتفقت الأمة على تحريم نكاح نسائهم، ومذهب الإمام أحمد في المشهور عنه والإمام الشافعي ¬
وغيرهما أنهم لا يقرون بالجزية، فجمهور العلماء على أن مشركي العرب لا يقرون بالجزية. والمقصود أن من أثبت القدر واحتج به على إبطال النهي والأمر فهو شر ممن أثبت الأمر والنهي ولم يثبت القدر. قال شيخ الإسلام: هذا متفق عليه بين المسلمين وغيرهم من أهل الملل، بل من جمع الخلق فإن من احتج بالقدر وشهد الربوبية العامة لجميع المخلوقات ولم يفرق بين الأمور والمحظور، والمؤمن والكافر، وأهل الطاعة وأهل المعصية لم يؤمن بأحد الرسل ولا بشيء من الكتب وكان عنده آدم وإبليس سواء، وهذا الضلال قد كثر في كثير من أهل التصوف والزهد والعبادة ولا سيما إذا قرنوا به توحيد أهل الكلام المثبتين للقدر والمشيئة من غير إثبات المحبة والبغض والرضى والسخط، الذين يقولون التوحيد هو توحيد الربوبية، وأما الإلهية فهي عندهم القدرة على الاختراع، وعندهم مجرد الإقرار بأن اللَّه تعالى رب كل شيء كاف، وهؤلاء يدعون التحقيق والفناء في التوحيد، ويقولون إن هذا نهاية المعرفة، وإن صاحب هذا المقام لا يستحسن حسنة ولا يستقبح سيئة لشهوده الربوبية العامة والقيومية الشاملة. وهذا الموضع وقع فيه من الشيوخ الكبار من شاء اللَّه، ولا حول ولا قوة إلا باللَّه، وغاية توحيد هؤلاء توحيد المشركين الذين كانوا يعبدون الأوثان ويقرون أن اللَّه تعالى خالقهم وخالق السموات والأرض ومن فيهن وبيده ملكوت كل شيء فكانوا مقرين بالقدر وهو معروف عنهم (¬1) في النظم والنثر، ومع هذا فلما لم يكونوا يعبدون اللَّه تعالى وحده لا شريك له بل عبدوا غيره كانوا مشركين شرًا من اليهود والنصارى فمن كان غاية توحيده ومنتهى تحقيقه هذا التوحيد كان توحيده توحيد المشركين. ¬
قال شيخ الإسلام: "وهذا المقام مقام وأي مقام زلت فيه أقدام وضلت فيه أفهام، وبدل فيه دين الإسلام والتبس فيه أهل التوحيد بعباد الأصنام على من يزعم نهاية المعرفة والتحقيق والكلام، ومعلوم عند كل من يؤمن باللَّه ورسوله أن الشيعة والمعتزلة والقدرية المثبتين للأمر والنهي والوعد والوعيد خير ممن يسوى بين المؤمن والكافر والبر والفاجر، والنبي الصادق، والمتنبئ الكاذب وأولياء اللَّه وأعدائه، بل هم أحق من المعتزلة بالذم. كما قال أبو محمد الخلال (¬1) في كتاب "السنة" عن المروذي (¬2) قال قلت لأبي عبد اللَّه -يعني الإمام أحمد- رضي اللَّه عنه: رجل يقول إن اللَّه أجبر العباد على المعاصي فقال: (هذا لا نقول) (¬3) وأنكر ذلك، وقال: {يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [المدثر: 31]. وأنكر سفيان الثوري أيضًا على من يقول (جبر) (¬4) وقال إن اللَّه تعالى جبل العباد. وقال المروذي أراد قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لأشج عبد القيس: "إن فيك لخلقين يحبهما اللَّه تعالى؛ الحلم والأناة" فقال: أخلقين تخلقت بهما أم خلقين جبلت عليهما؟ ¬
فقال: "بل خلقين جبلت عليهما" فقال: الحمد للَّه الذي جبلني على خلقين يحبهما" (¬1). وقال الأوزاعي (¬2): "ما أعرف للجبر أصلًا من القرآن ولا السنة فأهاب أن أقول ذلك ولكن القضاء والقدر والخلق والجبل فهذا يعرف في القرآن والحديث". قال شيخ الإسلام: "أدخل الخلال وغيره من علماء الإسلام القائلين بالجبر في مسمى القدرية وإن كانوا لا يحتجون بالقدر على المعاصى فكيف بمن يحتج به على المعاصى، ويدخل في ذم أهل الحلم ممن يحتج بالقدر على إسقاط الأمر والنهي أعظم مما يدخل فيه المنكر له فإن ضلال هذا أعظم وأكثر". قال شيخ الإسلام: "ولهذا قرنت القدرية يعني الجبرية بالمرجئة في كلام غير واحد من السلف، فالقدري إن احتج بالقدر كان عونًا للمرجيء وإن كذّب به كان هو والمرجيء متقابلان هذا يبالغ في التشديد حتى يجعل العبد لا يستعين باللَّه على فعل ما أمره يه وترك ما نهاه عنه، وهؤلاء القدرية حقيقة -كما مر- والمرجيء يبالغ في الناحية الأخرى ومن المعلوم أن من أسقط الأمر والنهي الذي بعث اللَّه بهما رسله وأنزل بهما كتبه فهو كافر باتفاق المسلمين واليهود والنصارى، بل قول هؤلاء متناقض لا يمكن أحدًا منهم أن يعيش به ولا تقوم به مصلحة أحد من الخلق ولا يتعاشر عليه (اثنان) (¬3). ¬
فإن القدر إن كان حجة فهو حجة لكل أحد وإلا فليس هو حجة لأحد فمتى أساء إنسان لآخر بأخذ ماله أو إفساد عياله فلامه أو ذمه أو طلب عقوبته أبطل الاحتجاج بالقدر" (¬1). قال شيخ الإسلام قدس اللَّه روحه: "ومن ادعى أن العارف إذا شهد الإرادة سقط عنه الأمر والنهي كان هذا من الكفر الذي لا يرضاه أحد بل هو ممتنع في الحقل محال في الشرع" (¬2). وقال تلميذه المحقق ابن القيم في كتابه "شرح منازل السائرين": "مشهد أصحاب الجبر الذي يشهدون أنهم مجبورون على أفعالهم وأنها واقعة بغير قدرتهم واختيارهم، بل لا يشهدون أنها أفعالهم البتة ويقولون إن أحده غير فاعل في الحقيقة ولا قادر وأن الفاعل فيه غيره والمحرك له سواه، وأنه آلة محضة وحركاته بمنزلة هبوب الرياح وحركات الأشجار، وإذا أنكرت عليهم أفعالهم احتجوا بالقدر وحملوا ذنوبهم عليه، وقد يغلون (¬3) في ذلك حتى يروا أفعالهم كلها طاعات خيرها وشرها لموافقتها المشيئة والقدر ويقولون كما إن موافقة الأمر طاعة فموافقة المشيئة طاعة". قال: "وهؤلاء شر من القدرية النفاة، وأشد عداوة للَّه، ومناقضة لكتبه ورسله ودينه، حتى أن من هؤلاء من يعتذر عن إبليس لعنه اللَّه ويتوجع له، ويقيم عذره بجهده وينسب ربه تعالى وتقدس إلى ظلمه بلسان الحال و (القال) (¬4) ويقولون ما ¬
ذنبه وقد صان وجهه عن السجود لغير خالقه وقد وافق حكمه ومشيئته فيه وإرادته منه، ثم كيف يمكنه السجود وهو الذي منعه منه وحال بينه وبينه، وهل كان في ترك سجوده لغير اللَّه إلا محسنًا لكن إذا كان المحب قليل حظ فما حسناته إلا ذنوب" (¬1). قال المحقق ابن القيم: "وهؤلاء أعداء اللَّه حقًا وأولياء إبليس وأحبابه وإخوانه". قال: "وإذا ناح منهم نائح على إبليس رأيت من البكاء والحنين أمرًا عجبًا ورأيت من تظلم الأقدار واتهام الجبار ما يبدو على فلتات ألسنتهم وصفحات وجوههم وتسمع من أحدهم التظلم والتوجع ما تسمعه من الخصم المغلوب (¬2) الحاجز عن خصمه. قال: فهؤلاء الذين قال فيهم شيخ الإسلام ابن تيمية في تائيته: وتدعى خصوم اللَّه يوم معادهم ... إلى النار طرا فرقة القدرية (¬3) يعني الجبرية. وتقدم أن شيخ الإسلام ذكر أن بدعة القدرية النفاة كانت في أواخر عصر الصحابة رضي اللَّه عنهم (¬4). قال: "وأما بدعة هؤلاء المحتجين بالقدر فلم يعرف لها إمام ولم تعرف بها طائفة من طوائف المسلمين معروفة" (¬5). ¬
بيان أن الفرقة الممدوحة أهل السنة الذين هم وسط بين الجبرية والقدرية
قال: "وإنما كثر ذلك في المتأخرين وسموا هذه حقيقة وجعلوا الحقيقة تعارض الشريعة ولم يميزوا بين الحقيقة الشرعية التي تتضمن تحقيق أحوال القلوب كالإخلاص والصبر وبين الحقيقة الكونية القدرية التي نؤمن بها ولا نحتج بها على المعاصي ويزعم بعض هؤلاء أن الخضر عليه السلام إنما سقط عنه التكليف لأنه شهد الإرادة" (¬1). (ومن مثل هذه الخرافات) (¬2) وهذه المقالة من أشنع المقالات وأفظع البدع المحدثات والمحتج على معاص اللَّه تعالى بالقدر زنديق وخارج عن ربقة التوفيق وعادم التحقيق فإن الباري جل شأنه أرسل الرسل عليهم السلام بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطل المفاسد وتقليلها وفي الاحتجاج بالمعاصي على القدر عكس ما جاءت به الرسل من تعظيم النهي والأمر. واللَّه تعالى أعلم (¬3). فإن قلت قد ذكرت طائفتي (¬4) القدرية النافية والمثبتة (¬5) بالذم فما الممدوح بعدهما؟ قلنا: الممدوح أهل السنة والجماعة الذين هم الوسط ما بين الإفراط والتفريط فلم يفرطوا تفريط القدرية النفاة ولم يفرطوا إفراط الجبرية المحتجين بالقدر على معاصي اللَّه، فمذهب أهل السنة كافة من السلف الأثرية والخلف الأشعرية ¬
الخلاف في كسب العبد
والماتريدية (¬1) أن جميع أنواع الطاعات المعاصي والكفر والفساد وكل عمل وفعل وقول واقع بقضاء اللَّه وقدره وهو تعالى خالق ذلك كله لا خالق سواه فأفعال العباد مخلوقة للَّه تعالى خيرها وشرها حسنها وقبيحها والعبد غير مجبور على أفعاله بل هو قادر عليها بإقدار اللَّه تعالى له على ذلك. فهذا القدر باتفاق طوائف أهل السنة (الثلاثة) (¬2). ثم اختلفوا فقال الأشعري ومن وافقه العبد مكتسب فأثبت للعبد كسبًا ومعناه أن العبد قادر على فعله وإن كانت قدرته لا تأثير لها في ذلك كما مر. قال شيخ الإسلام روح اللَّه روحه: هذا قول الأشعري ومن وافقه من المثبتة للقدر من الفقهاء وطوائف من أهل السنة من أصحاب مالك والشافعي وأحمد حيث لا يثبتون في المخلوقات قوى ولا طبائع ويقولون إن اللَّه تعالى فعل عند الأسباب لا بها ويقولون إن قدرة العبد لا تأثير لها في الفعل ويقول الأشعري إن اللَّه تعالى فاعل فعل العبد وإن عمل العبد ليس فعلًا للعبد بل كسب له". قال شيخ الإسلام: "وهذا قول من ينكر الأسباب والقوى التي في الأجسام وينكر تاثير القدرة التي للعبد التي يكون بها الفعل ويقول لا أثر لقدرة العبد أصلًا في فعله، نعم الأشعري يثبت للعبد قدرة محدثة واختيارًا، ويقول إن الفعل كسب للعبد مع قوله لا تأثير لقدرة العبد في إيجاد المقدور، وهو مقام دقيق حتى قال بعض أهل التحقيق: إن هذا الكسب الذي أثبته الأشعري غير معقول ولذا قال جمهور ¬
العقلاء ثلاثة أشياء لا حقيقة لها طفرة النظام (¬1) وأحوال أبي هاشم (¬2) وكسب الأشعرى (¬3). وذلك لأنه يلزم منه أن لا يكون فرق بين القادر والعاجز، إذ مجرد الاقتران لا اختصاص له بالقدرة، فإن فعل العبد يقارن حياته وعلمه وإراداته وغير ذلك من صفاته فإذ لم يكن للقدرة تأثير إلا مجرد الاقتران فلا فرق بين القدرة وغيرها (¬4) فإن الكسب المذكور هنا في كلام الأشعري هو ما اصطلح عليه المتكلمون وهو ما وقع ¬
من الفاعل مقارنًا لقدرة محدثة واختيار، وقيل هو ما وجد بقدرة محدثة في المكتسب. وقال ابن حمدان في نهاية المبتدئين: "الكسب هو ما خلقه اللَّه في محل قدرة المتكسب على وفق إرادته في كسبه". قال شيخ الإسلام رحمه اللَّه تعالى: "فسر المتكلمون الكسب بما قارن القدرة المحدثة في محلها قال ومجرد المقارنة لا يميز القدرة عن غيرها فإن الفعل يقارن العلم والإرادة وغير ذلك قالوا والقدرة هي التمكن من التصرف وقيل سلامة البنية". وقال شيخ الإسلام أيضًا فيما كتبه على حسن إرادة اللَّه تعالى: "الكسب عند القائل به عبارة عن اقتران المقدور بالقدرة الحادثة، والخلق هو المقدور بالقدرة القديمة" (¬1). ومن الأشعرية من يقول: قدرة العبد مؤثرة في صفة الفعل لا في أصله كأبي بكر الباقلاني ومن وافقه. قال شيخ الإسلام: "ومذهب الأشعري في هذه المسألة (¬2) يقرب من مذهب الجبرية الجهمية فإنه يحكي عن الجهم بن صفوان وغلاة أتباعه أنهم سلبوا العبد قدرته واختياره حتى قال بعضهم: إن حركته كحركة الأشجار بالرياح. قال شيخ الإسلام: إن الجهم كان يقول: لا أثر لقدرة العبد أصلًا في فعله، وكان يثبت مشيئة اللَّه تعالى، وينكر أن يكون له حكمة ورحمة وينكر أن يكون للعبد فعل أو قدرة مؤثرة. قال وحكي عنه أنه كان خرج إلى الجذمى ويقول: أرحم ¬
الراحمين يفعل هذا إنكارًا لأن يكن له تعالى رحمة يتصف بها سبحانه زعمًا منه أنه ليس له إلا مشيئة محضة لا اختصاص لها بحكمة بل يرجح أحد المتماثلين بلا مرجح (¬1). هذا وأما مذهب السلف الصالح المثبتون للقدر من جميع الطوائف فإنهم يقولون إن العبد فاعل لفعله حقيقة وإن له قدرة حقيقة واستطاعة حقيقة ولا ينكرون تأثير الأسباب الطبيعية بل يقرون بما دل عليه الشرع والعقل من أن اللَّه تعالى ينبت النبات بالماء وأن اللَّه يخلق السحاب بالرياح وينزل الماء بالسحاب، ولا يقولون القوى والطبائع الموجودة في المخلوقات لا تأثير لها أثرًا لفظًا ومعنى من تأثير الأسباب في مسباتها واللَّه تعالى خالق السبب والمسبب. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية الأعمال والأقوال والطاعات والمعاصي من العبد بمعنى أنها قائمة به وحاصلة بمشيئته وقدرته وهو المتصف بها والمتحرك بها ويعود حكمها عليه وهي من اللَّه تعالى بمعنى أنه خلقها قائمة بالعبد وجعلها عملًا له وكسبًا، فهي من اللَّه مخلوقة له، ومن العبد صفة قائمة به واقعة بقدرته وكسبه كما إذا قلنا هذه الثمرة من الشجرة، وهذا الزرع من الأرض بمعنى أنه حدث منها ومن اللَّه بمعنى أنه خلقه منها فالحوادث تضاف إلى خالقها باعتبار وإلى أسبابها باعتبار (¬2). والحاصل أن مذهب السلف ومحققي أهل السنة أن اللَّه تعالى خلق قدرة العبد وإرادته وفعله وأن العبد فاعل لفعله حقيقة ومحدث لفعله واللَّه تعالى هو الذي جعله فاعلًا محدثًا له قال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان: 30]، فأثبت مشيئة العبد وأخبر أنها لا تكون إلا بمشيئته تعالى. ¬
وهذا صريح قول أهل السنة في إثبات مشيئة العبد وأنها لا تكون إلا بمشيئة الرب. قال شيخ الإسلام: "هذا قول جمهور أهل السنة من جميع الطوائف وهو قول كثير من أصحاب الأشعري كأبي إسحاق الإسفرائيني (¬1) والجويني (¬2) وغيرهما: فيقولون العبد فاعل لفعله حقيقة وله قدرة واختيار وقدرته مؤثرة في مقدورها كما تؤثر القوى والطبائع والأسباب كما دل على ذلك الشرع والعقل قال تعالى: {فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} [الأعراف: 57]، وقد أثبت للعبد استطاعة فقال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]، وقال: {هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} [فصلت: 15]، وقال: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} [الأحقاف: 25]، وقال: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} [الحجر: 22]، وفي القرآن من هذا ما لا يحصى إلا بكلفة، وقد ذكرت في شرح الدرة المسماة (¬3) (بلوامع الأنوار) ما يشفي ويكفى (¬4). ¬
فصل في ذكر بعض أمهات السمعيات
فصل في ذكر بعض أمهات السمعيات ذكر الناظم رحمه اللَّه ورضي عنه أنموذجًا من السمعيات في منظومته ليستدل بما ذكر على كل ما شاع واشتهر فقال: (ولا): ناهية (تنكرن): فعل مضارع مبني على الفتح لأنه مؤكد بالنون الخفيفة في محل جزم بلا الناهية و (جهلًا): مفعول لأجله أي لأجل الجهل وقلة الحلم والفضل الملكين المسميين (نكيرًا ومنكرًا) مفعول لا تنكرن وهما الملكان اللذان ينزلان على الميت في قبره يسألانه عن ربه ومعتقده، فالإيمان بذلك واجب شرعًا لثبوته عن النبي المعصوم -صلى اللَّه عليه وسلم- في عدة أخبار يبلغ مجموعها مبلغ التواتر وقد استنبط ذلك واستدل عليه بقوله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم: 27]. وأخرج الشيخان من حديث البراء بن عازب رضي اللَّه عنهما عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال في قوله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ. . .} نزلت في عذاب القبر. زاد مسلم: يقال له من ربك؟ فيقول: اللَّه ربى ونبي محمد فذلك قوله: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ}. وفي رواية للبخاري: إذا قعد المؤمن في قبره أتى ثم شهد أن لا إله إلا اللَّه وأن محمدًا رسول اللَّه فذلك قوله: {يُثَبِّتُ اللَّهُ} (¬1) الآية. ¬
وفي سنن أبي داود من حدث البراء مرفوعًا: يأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: ما هذا الرجل؟ الذي بعث فيكم فيقول هو رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فيقولون له: وما يدريك؟ فيقول: قرأت كتاب اللَّه فآمنت به وصدقت فينادي مناد من السماء أن صدق عبدي فافرشوه من الجنة وافتحوا له بابًا إلى الحنة وألبسوه من الجنة ويفسح له فيه مد بصره"، وقال في الكافر: فيأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري. . . إلى أن قال فينادى مناد من السماء أن كذب عبدي فافرشوه من النار، وافتحوا له بابًا إلى النار، قال: فيأتيه من حرها وسمومها ويضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه" (¬1). وفي الصحيحين من حديث أنس رضي اللَّه عنه أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه إنه ليسمع قرع نعالهم أتاه ملكان فيقعدانه فيقولون ما كنت تقول في هذا الرجل لمحمد -صلى اللَّه عليه وسلم-، فأما المؤمن فيقول: أشهد أنه عبد اللَّه ورسوله فيقال له انظر إلى مقعدك من النار وقد أبدلك اللَّه مقعدًا من الجنة قال فيراهما جميعًا -يعني المقعدين-. قال قتادة ذكر لنا أنه يفسح له في قبره. وقال المنافق والكافر فيقال له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول: لا أدري كنت أقول ما يقول الناس فيقال لا دريت ولا تليت ويضرب بمطراق من حديد فربة فيصيح صيحة يسمعه من يليه غير الثقلين". ورواه أبو داود وزاد: "إن المؤمن يقال له ما كنت تعبد؟ فإن هداه اللَّه قال: كنت أعبد اللَّه فقال: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول: هو عبد اللَّه ورسوله فما يسئل عن شيء غير هذا". ¬
وزاد أيضًا- فيقول: دعوني حتى أبشر أهلي فيقال له: اسكن. وذكر الكافر أنه يسئل عما كان يعبد ثم عن هذا الرجل" (¬1). وفي الصحيحين أيضًا عن أسماء بنت الصديق رضي اللَّه عنهما أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال في خطبته يوم كسفت الشمس: "ولقد أوحي إليّ أنكم تفتنون في قبوركم مثل أو قريبًا (¬2) من فتنة الدجال يؤتى أحدكم فيقال له ما علمك بهذا الرجل؟ فأما المؤمن أو الموقن فيقول محمد رسول اللَّه جاءنا بالبينات والهدى فأجبنا وآمنا واتبعنا فيقال له: نم صالحًا فقد علمنا إن كنت لمؤمنًا، وأما النافق والمرتاب فيقول: لا أدري سمعت الناس يقولون شيئًا فقلته" (¬3). وأخرجه الإمام أحمد بلفظ: "ولقد رأيتكم تفتنون في قبوركم يسئل الرجل ما كنت تقول وما كنت تعبد؟ " (¬4). وروى أيضًا من حديث أبي هرووة رضي اللَّه عنه أخرجه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجة وابن حبان في صحيحه وأخرجه الطبراني أيضًا وفيه: "أتاه منكر ونكير أعينهما مثل قدور النحاس وأنيابهما مثل صياصي البقر -أي قرونها- وأصواتهما مثل الرعد القاصف" (¬5). ¬
وروي أيضًا من حديث جابر رضي اللَّه عنه أخرجه الإمام أحمد (¬1)؛ ومن حديث أبي سعيد رضي اللَّه عنه أخرجه الإمام أحمد أيضًا (¬2). ومن حديث أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه أخرجه أبو بكر الخلال في كتاب السنة وفيه: أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال له: "كيف أنت يا عمر إذا كنت من الأرض في أربعة أذرع في ذراعين ورأيت منكرًا ونكيرًا قلت: يا رسول اللَّه وما منكر ونكير قال: فتانا القبر يبحثان الأرض يأنيابهما ويطآن في أشعارهما أصواتهما كالرعد القاصف وأبصارهما كالبرق الخاطف ومعهما مرزبة لو اجتمع عليها أهل منى لم يطيقوا رفعها هي أيسر عليهما من عصاي هذه قلت: يا رسول اللَّه وأنا على حالي هذه؟ قال: نعم. فقلت: إذًا أكفيكهما". زاد في رواية: فامتحناك فإن التويت ضرباك بها ضربة صرت رمادًا" (¬3). وأخرجه الإسماعيلي من وجه آخر (¬4). وروي أيضًا من حديث عبد اللَّه بن عمرو بن العاص رضي اللَّه عنهما أخرجه الإمام أحمد وابن حبان في صحيحه وفيه فقال عمر رضي اللَّه عنه: "أترد علينا ¬
تنبيهات
عقولنا يا رسول اللَّه؟ فقال -صلى اللَّه عليه وسلم-: نعم كهيئتكم اليوم فقال عمر رضي اللَّه عنه بفيه الحجر" (¬1). تنبيهات: الأول: قد علمت أن اسم الملكين منكر ونكير وقد نص على ذلك الإمام أحمد رضي اللَّه عنه (¬2). قال الحكيم الترمذي (¬3): "وإنما سميا فتاني القبر لأن في سؤالهما انتهارًا وفي خلفهما صعوبة قال: وسميا منكرًا ونكيرًا لأن خلقهما لا يشبه خلق الآدميين ولا خلق الملائكة ولا خلق البهائم ولا خلق الهوام بل مما خلق بديع وليس في خلقهما أنس للناظرين إليهما جعلهما اللَّه تعالى تكرمة للمؤمن لتثبته وتبصره، وهتكًا لستر المنافق في البرزخ من قبل أن يبعث" (¬4). ¬
قال الجلال السيوطي: "وهذا يدل على أن الاسم: "منكر" بفتح الكاف وهو المجزوم به في القاموس" (¬1). قلت: وكذا في نهاية ابن الأثير -قال: - "ومنكر ونكير أسماء الملكين مفعل وفعيل" (¬2). وذكر ابن يونس (¬3) من الشافعية أن اسم ملكي (¬4) المؤمن مبشر وبشير. (¬5) قلت: وهذا يحتاج إلى دليل مأثور وأنى به فإنه ليس في الأحاديث سوى منكر ونكير. قال الإمام المحقق ابن القيم في كتابه "الروح": "قال كثير من المعتزلة لا يجوز تسمية ملائكة اللَّه تعالى بمنكر ونكير وإنما المنكر ما يبدو من تلجلجه أي الميت إذا سئل والنكير تقريع الملكين له" (¬6). قلت: فلهذا فال الناظم: (ولا تنكرن) ووصف المنكر لذلك بالحهل. وقد قال الإمام أحمد: "نؤمن بعذاب القبر وبمنكر ونكير فروجع في منكر ونكير فقال: هكذا هو" (¬7) -يعني أنهما منكر ونكير-. ¬
بيان عذاب القبر على الروح والبدن
وأيضًا قصد الناظم بما ذكر الإشارة إلى إثبات عذاب القبر وأن الإيمان به واجب وكذا الإيمان بمنكر ونكير. قال أبو المعالي (¬1) من علمائنا: "وعذاب القبر وإحياء الموتى في قبورهم ومسآءلة منكر ونكير لهم ثابت وواجب القول به وأنه يعذب بعد أن ترد الروح إليه فعذاب القبر حق وحكمة وعدل على الجسم والروح يشتركان فيه كما اشتركا في المعصية وإن كان نعيم كان كذلك على الجسم والروح فيشتركان في النعيم كما اشتركا في الطاعة خلافًا للمعتزلة في إنكارهم عذاب القبر ومسألة منكر ونكير لإعادة الأرواح في القبور. خلافًا لابن جرير في قوله يعذب في قبره من غير أن ترد الروح إليه ويحس بالألم وإن كان غير حي (¬2). وقد مر في صحيح الأخبار ما يرد هذا وأمثاله من سائر طوائف أهل الإنكار وباللَّه التوفيق. ¬
التنبيه الثاني جاء في رواية سؤال ملكين وفي أخرى سؤال واحد وفي رواية سؤال ثلاثة، بيان الجمع بينها
الثاني: جاء في رواية سؤال ملكين (¬1) كما مر وفي أخرى سؤال واحد وفي رواية سؤال ثلاثة، وفي أخرى سؤال أربعة. قال القرطبي: "لا تعارض بين الملكين والواحد بل ذلك بالنسبة إلى الأشخاص فرب شخص يأتيه اثنان معًا فيسألانه معًا عند انصراف الناس ليكون: أهول في حقه وأشد بحسب ما اقترف من الآثام وآخر يأتيانه قبل انصراف الناس عنه تخفيفًا عليه لحصول أنسه بالناس، وآخر يأتيه ملك واحد فيكون أخف عليه وأقل من المراجعة لما قدمه من العمل الصالح". قال: "ويحتمل أن يأتي اثنان ويكون السائل أحدهما وإن اشتركا في الإتيان". فتحمل رواية الاختصار على ذلك الواحد على هذا (¬2). وصوبه الجلال السيوطي في كتابه "شرح الصدور" (¬3) فإن ذكر الملكين هو الموجود في غالب الأحاديث. وقد ذكر بعض العلماء أن الملائكة الذين ينزلون على الميت في قبره أربعة منكر ونكير وناكور ورومان. وإلى هذا أشار الحافظ جلال الدين السيوطي في أرجوزته: التثبيت في التبييت" (¬4) بقوله رحمه اللَّه تعالى: ¬
اختلاف الأحاديث في كيفية السؤال والجواب عن ذلك
وقد أتى في مرسل مضعف ... أن السؤال من ثلاثة لفي (¬1) أو أربع أولئك الأثنان ... والحقوا ناكور مع رومان (¬2) وقد اختلفت الأحاديث في كيفية السؤال. وأجاب القرطبي عن ذلك أنه يختلف باختلاف الأشخاص فمنهم من يسأل عن بعض اعتقاداته ومنهم من يسأل عن كلها، ويحتمل أن يكون الاقتصار على بعضها من بعض الرواة وأتى غيره بالحديث تامًا (¬3) وصوب هذا السيوطي لاتقاق أكثر الأحاديث عليه (¬4). نعم يؤخذ منها خصوصًا من رواية أبي داود عن أنس فما يسأل عن شيء بعدها. وعند ابن مردويه: "فما يسأل عن شيء غيرها أنه لا يسأل عن شيء من التكليفات غير الاعتقاد خاصة. وصرح به في رواية البيهقي من طريق عكرمة عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما ¬
ورود بعض الآثار في فتنة الموتى في قبورهم سبعا واستحباب الإطعام عنهم في تلك الأيام، وتعليق من المحقق على ذلك
في قوله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [إبراهيم: 27] قال الشهادة يسألون عنها في قبورهم بعد موتهم قيل لعكرمة ما هو؟ قال: يسألون عن الإيمان بمحمد -صلى اللَّه عليه وسلم- وأمر التوحيد" (¬1). وقد ذكر السيوطي وغيره أنه ورد في رواية عن أنس أن الميت يسأل في المجلس الواحد ثلاث مرات وباقي الروايات ساكتة عن ذلك فتحمل على ذلك أو يختلف الحال بالنسبة إلى بعض الأشخاص (¬2). وعن طاووس (¬3) رحمه اللَّه تعالى: "أن الموتى يسألون سبعة أيام" (¬4). وكذا جاء عن مجاهد (¬5) "أن الموتى يفتنون في قبورهم سبعًا وأنهم كانوا يستحبون أن يطعم عن الأموات تلك الأيام" (¬6) رواه الإمام أحمد في الزهد وأبو نعيم في الحلية بإسناد صحيح إلا أنه مرسل. ¬
وروى من وجه متصل أيضًا وحكمه الرفع لأنه ليس للرأي (¬1) فيه مجال، وقد ذكر كل ذلك ورواه الحافظ ابن رجب في كتابه "أهوال القبور" (¬2). وذكر عن مجاهد أيضًا "أن الأرواح تمكث في قبورها سبعة أيام" (¬3). وقد روى عن عبيد بن عمير (¬4) فيما أخرجه عنه ابن جريج "إن المؤمن يفتن سبعة أيام والمنافق يفتن أربعين يومًا" (¬5). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
التنبيه الثالث: وجوب الإيمان بعذاب القبر ونعيمة وما ورد فيه وورد عذاب القبر في القرآن
الثالث: عذاب القبر ونعيمه وفتنته والسؤال ولواحق ذلك: من كون القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار واجب الاعتقاد ويأتي في كلام الناظم (¬1) رحمه اللَّه تعالى. وقد نبه هنا بما ذكره من وجوب الإقرار وعدم الإنكار بالملكين اللذين هما منكر ونكير على ما يشبه ذلك ويلحق به مما جاء في القرآن أو حديث البشير النذير. وقد ذكر اللَّه تعالى عذاب القبر في القرآن العظيم في عدة آيات منها قوله تعالى: {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ. . .} إلى قوله: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ} [الواقعة: 83 - 95]. ذكر الحافظ ابن رجب في أهوال القبور عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: تلا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- هذه الآيات قال: "إذا كان عند الموت قيل له هذا فإن كان من أصحاب اليمين أحب لقاء اللَّه وأحب اللَّه لقاءه، وإن كان من أصحاب الشمال كره (لقاء اللَّه وكره اللَّه لقاءه) (¬2). وأخرج الإمام أحمد أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "من أحب لقاء اللَّه أحب اللَّه لقاءه ومن كره لقاء اللَّه كره اللَّه لقاءه فأكب القوم يبكون قال ما يبكيكم؟ قالوا إنا نكره الموت قال: "ليس ذلك ولكنه إذا حضر فأما إن كان من المقربين فروح وريحان وجنة نعيم فإذا بشر بذلك أحب لقاء اللَّه واللَّه للقائه أحب، وأما إن كان من ¬
المكذبين الضالين فنزل من حميم وتصلية جحيم فإذا بشر بذلك كره لقاء اللَّه واللَّه للقائه أكره" (¬1). وقال المحقق ابن القيم في كتابه "الروح" من المواضع التي ذكر نعيم القبر وعذابه في القرآن المجيد قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ. .} [الأنعام: 93]. وهذا خطاب لهم عند الموت قطعًا. وقد أخبرت الملائكة وهم الصادقون أنهم حينئذ يجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على اللَّه غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون ولو تأخر عنهم ذلك إلى انقضاء الدنيا لما صح أن يقال لهم اليوم تجزون عذاب الهون ومنها قوله تعالى في آل فرعون: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا} [غافر: 46] فذكر عذاب الدارين (¬2) صرحًا لا يحتمل غيره. ومنها قوله تعالى: {فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} (¬3) [الطور: 45 - 46]. ¬
وأخرج الترمذي عن علي رضي اللَّه عنه أنه قال: "ما زلنا في شك من عذاب القبر حتى نزلت: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2) كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} [التكاثر: 1 - 4] (¬1). وقال ابن مسعود رضي اللَّه عنه: "المعيشة الضنك هي عذاب القبر إذا مات الكافر أجلس في قبره فيقال له من ربك؟ وما دينك؟ فيقول: لا أدرى فيضيق عليه قبره ثم قرأ (¬2) ابن مسعود رضي اللَّه عنه: {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} [طه: 124] (¬3). وقال البراء بن عازب رضي اللَّه عنهما في قوله تعالى: {عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ} [الطور: 47] عذاب القبر" (¬4). وروى عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ. .} [السجدة: 21] عذاب القبر" (¬5). ¬
التنبيه الرابع: ذم من أنكر منكر ونكير والرد على الملاحدة في إنكار عذاب القبر
وكذا قال قتادة (¬1) والربيع بن أنس (¬2) في قوله تعالى: {سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ} [التوبة: 101] إحداهما في الدنيا والأخرى عذاب القبر" (¬3). قال الحافظ ابن رجب وغيره من الحفاظ قد تواترت الأحاديث عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في عذاب القبر (¬4). ففي الصحيحين من حديث عائشة قالت: سألت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن عذاب القبر قال: "نعم عذاب القبر حق" (¬5). وقد ذكرت في كتابي "البحور الزاخرة" (¬6) ثم في "لوامع الأنوار" (¬7) من ذلك ما يكفي ويشفي. الرابع: ففي كلام الناظم رحمه اللَّه تعالى تنبيه وإشارة إلى ذم من أنكر أمر منكر ونكير (وخدمتهما) (¬8) من سؤالهما الموتى ومتعلقات ذلك وأن إنكار ذلك ¬
جهل وسفه لثبوته عن المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى مع عدم استحالة ذلك عقلًا وأنكرت الملاحدة والزنادقة عذاب القبر وضيقه وسعته، وكونه حفرة من حفر النار، أو روضة من رياض الجنة، وأنكروا جلوس الميت في قبره، قالوا وقد وضعنا على صدر الميت زئبقًا ثم كشفنا عليه فوجدناه بحاله، قالوا ولم نجد فيه ملائكة يضربون الموتى بمطارق الحديد، ولا حيات ولا عقارب، ولا نيرانًا وأجلبوا (¬1) وأجنبوا (¬2) من مثل هذه (الوساوس) (¬3) والترهات، والحوادس والتشكيكات، وقال إخوانهم من أهل البدع والضلال والإفك والاعتزال: كل حديث يخالف مقتضى العقول نقطع بتخطئة ناقله، وأكثر أهل الاعتزال والبدع والضلال من مثل هذا الهذيان والزور والبهتان، وقد تصدى لرد مقالاتهم وكشف ضلالاتهم أئمة الدين من العلماء المحققين والفضلاء المدققين، وأقاموا الحجج والبراهين على قمع المفترين وقلع عين الشاكين منهم المحقق ابن القيم شمس الدين في كتابه "الروح" (¬4) فأجاب عن شبههم بعدة أجوبة. منها أن الرسل عليهم الصلاة والسلام لم تخبر بما تحيله العقول بل أخبارهم قسمان: أحدهما ما يشهد العقل والفطرة السليمة به. والثاني ما لا تدركه العقول بمجردها كالغيوب التي أخبروا بها عن تفاصيل البرزخ واليوم الآخر والثواب والعقاب فلا يكون خبرهم محالًا في العقول أصلًا ¬
فتأتي الأنبياء عليهم السلام بمحارات العقول، لا بمحالاتها، فكل ما يظن أن العقل يحيله فلا خلو من أحد أمرين: إما خطأ في النقل أو خبل في العقل فتكون شبهة خيالية ظن صاحبها أنها أمر عقلي صريح، والحال أنه خيال وهمي غير صحيح، كما قال تعالى: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ} الآية [سبأ: 6]. وأما الذين في قلوبهم زيغ فلا يزدادون إلا رجسًا إلى رجسهم. ومنها أن اللَّه تعالى جعل الدور ثلاثًا؛ دار الدنيا ودار البرزخ ودار القرار وجعل لكل دار أحكامًا تختص بها، وركب هذا الإنسان من بدن ونفس وجعل أحكام الدنيا على الأبدان والأرواح تبع لها، ولهذا جعلت أحكام الشريعة مرتبة على ما يظهر من حركات الإنسان والجوارح وإن أضمرت النفوس خلافه فالعقوبات الدنيوية تقع على البدن الظاهر وتتألم الروح بالتبعية، وجعلت أحكام البرزخ على الأروح والأبدان تبع لها فكما تبعت الأرواح الأبدان في أحكام الدنيا فتألمت بألمها والتذت براحتها ولذاتها، وكانت الأبدان هي المباشرة لأسباب النعيم والعذاب فكذلك تبعت الأبدان الأرواح في نعيمها وعذابها وكان العذاب والنعيم على الروح ولها بالأصالة والأبدان تابعة للأرواح في ذلك عكس دار الدنيا فإذا كان يوم حشر الأجساد وقيام الناس من قبورهم لدار القرار والمعاد صار الحكم من النعيم والعذاب وغيرهما على الأرواح والأجساد باديًا ظاهرًا أصلًا فما أخبر به الرسول من عذاب القبر ونعيمه من هذ القبيل فإذا ظهر للفهم السليم طابق العقل المستقيم. فالنار التي في القبر ليست من جنس نار الدنيا فيشاهدها من شاهد نار الدنيا وإنما هي من نار الآخرة فهي وإن كانت أشد من نار الدنيا إلا إن شدتها على من هي له وعليه دون من مسها من أهل الدنيا بل ربما دفن الميتان في قبر واحد فيكون
أحدهما في روضة ونعيم والآخر في حفرة وعذاب أليم وفي قدرة الحكيم المالك أعظم وأعجب من ذلك وإن كان الضالون لا يشعرون حتى أنه تعالى يحدث في هذا الدار ما يدل على ذلك بل وأعجب من ذلك، فهذا جبريل عليه السلام كان ينزل على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ويتمثل له رجلًا فيكلمه بكلام يسمعه ومن إلى جنب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لا يراه ولا يسمع كلامه وكذلك غيره من الأنبياء وكانت الملائكة تضرب الكفار بالسياط وتضرب رقابهم وتصيح بهم والمسلمون معهم لا يرونهم ولا يسمعون كلامهم. والحق جل شأنه حجب ابن آدم عن كثير مما يحدث في الأرض فكان جبريل يدارس النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- القرآن والحاضرون لا يسمعونه، وكيف يستنكر من عرف اللَّه وأقر بقدرته أن يحدث حوادث يصرف عنها أبصار خلقه وأسماعهم حكمة منه ورحمة بهم لأنهم لا يطيقون رؤيتها وسماعها فالعبد أضعف بصرًا وسمعًا من أن يثبت لمشاهدة عذاب القبر وقد أشهد اللَّه تعالى ذلك بعض عباده فغشي عليهم ولم ينتفعوا بالعيش زمانًا وبعضهم كشف قناع قلبه فمات. . . وسر المسألة أن توسعة القبر وضيقه وإضاءته وخضرته وناره وحياته وعقاربه ليس من جنس المعهود في هذا العالم والمولى الحكيم إنما أشهد عباده هذه الدار وما كان فيها ومنها، وأما ما كان من أمر الآخرة فقد أسبل اللَّه عليه الغطا ليكون الإقرار به والإيمان سببًا لسعادتهم ولو كشف عنه الغطا لكان مشاهدًا عيانًا وفاتت نتيجة الإيمان بالغيب وما يترتب على ذلك من جزيل الثواب (¬1). والحاصل أن كلما أخبر به الصادق المصدوق وجب الإيمان به وقد تواتر عنه ¬
ذلك ولم تحله العقول بل هو داخل في حيز الإمكان وما كان كذلك فانكاره إلحاد. ولهذا قال سيدنا الإمام أحمد رضي اللَّه عنه: "عذاب القبر حق لا ينكره إلا ضال مضل" (¬1). وقال حنبل قلت لأبي عبد اللَّه في عذاب القبر فقال: "هذه أحاديث صحاح نؤمن بها ونقر بها كلما جاء عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إسناد جيد أقررنا به إذا لم نقر بما جاء به الرسول ودفعناه ورددناه رددنا على اللَّه أمره قال اللَّه تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر: 7] قلت وعذاب القبر حق. قال: حق يعذبون في القبور، قال حنبل: وسمعت أبا عبد اللَّه يقول: نؤمن بعذاب القبر وبمنكر ونكير وما يروى في عذاب القبر" (¬2). "قلت: هذه اللفظة نقول منكر ونكير هكذا ونقول ملكين؟ قال: منكر ونكير قلت: يقولون ليس في حديث منكر ونكير. قال: هو هكذا -يعني إنه ثابت منكر ونكير" (¬3). قال المحقق ابن القيم في الروح: "وأما أئمة أهل البدع والضلال كأبي هذيل العلاف (¬4) وبشر المريسي (¬5) ومن وافقهما (من) (¬6) خرج عن سمة الإيمان فإنه يعذب ¬
ذكر الكلام على الحوض
بين النفختين، قالا والمسألة في القبر إنما تقع في ذلك الوقت. وأما أبو على الجبائي (¬1) وابنه أبو هاشم (¬2) والبلخي (¬3) فأثبتوا عذاب القبر لكنهم نفوه عن المؤمنين وأثبتوه لأصحاب التخليد من الكفار والفساق على أصولهم (¬4) واللَّه تعالى الموفق. ثم أشار الناظم إلى إثبات حوض المصطفى -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: (ولا) تنكرن أيضًا جهلًا وعنادًا وسفهًا وإلحادًا (الحوض) وأل فيه للعهد وبدلًا عن الإضافة أي حوض النبي المصطفى نبينا محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- فإنه حق ثابت بإجماع أهل الحق وسنده من الكتاب قوله تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر: 1]. وفي السنة ما هو مشهور بل متواتر، قال الحافظ جلال الدين السيوطي في كتابه "البدور السافرة" (¬5) ورد ذكر الحوض من رواية بضعة وخمسين صحابيًا منهم الخلفاء الأربعة الراشدون وحفاظ الصحابة المكثرون وغيرهم (¬6) رضوان اللَّه عليهم أجمعين". ¬
قال القرطبي في "تذكرته": "لا يخطر ببالك أو يذهب وهمك إلى أن الحوض يكون على وجه هذه الأرض وإنما يكون وجوده على الأرض المبدلة على (مسافة) (¬1) الأقطار الآتي ذكرها في المواضع التي تكون بدلًا من هذه الأرض وهى أرض بيضاء كالفضة لم يسفك عليها دم ولم يظلم على ظهرها أحد قط" (¬2). وقد أخرج الشيخان وغيرهما من حديث عبد اللَّه بن عمرو بن العاص رضي اللَّه عنهما قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "حوضي مسيرة شهر ماؤه أبيض من اللبن وريحه أطيب من المسك وكيزانه كنجوم السماء من شرب منه لا يظمأ أبدًا". وفي رواية: "حوضي مسيرة شهر وزواياه سوا وماؤه أبيض من الورق" وهو في الصحيحين أيضًا (¬3). وأخرج الإمام أحمد بسند صحيح وابن حبان في صحيحه واللفظ للإمام أحمد عن أبي أمامة أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "إن اللَّه وعدني أن يدخل من أمتي سبعين ألفًا بغير حساب" فقال يزيد بن الأخنس: واللَّه ما أولئك في أمتك إلا كالذباب الأصهب في الذباب. فقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "قد وعدني سبعين ألفًا مع كل ألف سبعين ألفًا وزاد في ثلاث حثيات" قال: فما سعة حوضك يا رسول اللَّه؟ قال: "كما بين ¬
عدن إلى عمان وأوسع وأوسع" يشير بيده قال فيه مثعبان -أي بضم الميم والعين المهملة بينهما مثلثة وآخره موحدة هو مسيل الماء- (¬1) من ذهب وفضة قال فما حوضك يا نبي اللَّه؟ قال: "أشد بياضًا من اللبن وأحلى من العسل وأطيب رائحة من المسك من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها ولم يسود وجهه أبدًا" (¬2). وروى ابن أبي عاصم (¬3) وغيره من حديث أبي بن كعب أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قيل له ما الحوض؟ قال: "والذي نفسي بيده إن شرابه أبيض من اللبن وأحلى من العسل وأبرد من الثلج وأطيب ريحًا من المسك وآنيته أكثر عددًا من النجوم لا يشرب منه إنسان فيظمأ أبدًا ولا يصرف عنه إنسان فيروى أبدًا" (¬4). ففى هذا الحديث إن من لم يشرب من حوض النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من أمته لا يزال متصفا بالظمأ أبدا، وروى نحوه البزار والطبراني من حديث أنس رضي اللَّه عنه ¬
تنبيهات
مرفوعًا وفيه: "من شرب منه شربة لم يظمأ أبدًا ومن لم يشرب منه لم يرو أبدًا" (¬1) وأخرج الطبراني أيضًا نحوه في الأوسط من حديث أبي سعيد الخدري رضي اللَّه عنه مرفوعًا (¬2). وفي ذلك عدة أحاديث. واللَّه أعلم. تنبيهات: الأول: اختلفت الروايات في تحديد الحوض وتقديره اختلافًا كثيرًا ففي حديث عبد اللَّه ابن عمرو بن العاص أنه مسيرة شهر وزواياه سواء وفي رواية عند الإمام أحمد أنه كما بين عدن وعمان. وفي رواية في الصحيحين ما بين صنعاء والمدينة، وفي رواية لهما أيضًا ما بين المدينة وعمان، وفي رواية ما بين أيلة ومكة، وعند ابن ماجة ما بين المدينة إلى بيت المقدس، وفي رواية ما بين جربا وأذرح. قال في القاموس: "جربا قرية بجنب أذرح وغلط من قال بينهما ثلاثة أيام، وإنما الوهم من رواة الحديث من إسقاط زيادة ذكرها الدارقطنى وهي "ما بين ناحيتي حوضي كما بين المدينة وجربا وأذرح" (¬3) انتهى. وفي رواية ما بين أيلة وصنعاء اليمن وهو في الصحيحين قال في جامع الأصول عن كون حوضه -صلى اللَّه عليه وسلم- ما بين جنبيه كما بين جربا وأذرح، رواه البخاري ومسلم وأبو داود (¬4). ¬
قال بعض الرواة: هما قريتان في الشام بينهما مسيرة ثلاث ليال (¬1)، وفي لفظ ثلاثة أيام. وقدمنا ما فيه آنفًا، وفي مسلم والترمذي مثل ما بين عدن إلى عمان البلقاء. . . قال بعض العلماء: "وهذا الاختلاف والاضطراب لا يوجب الضعف لأنه من اختلاف التقدير والتحديد لا من الاختلاف في الرواية لأن ذلك لم يقع في حديث واحد فيعد (اضطرابًا) (¬2) وإنما جاء في أحاديث مختلفة من غير واحد من الصحابة وقد سعموه في مواطن متعددة وكان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-يمثل لكل قوم الحوض بحسب ما يعلم المتكلم ويفهم السائل وبحسب ما يسنح له -صلى اللَّه عليه وسلم- من العبارة ويحدد الحوض بحسب ما يفهم الحاضرون من الإشارة" (¬3). قال الحافظ ابن حجر: هذا الاختلاف المتباعد الذي يزيد تارة على ثلاثين يومًا وينقص إلى ثلاثة أيام لا يصلح أن يكون من ضرب المثل في التقدير لأنه إنما يكون فيما يتقارب" (¬4). ورد عليه بأن رواية ثلاثة أيام اعترف هو نفسه بأنها غلط فلا يتوجه الاعتراض بها (¬5). ¬
التنبيه الثاني: هل الحوض بعد الصراط أو قبله والخلاف في ذلك
وقال النووي: "ليس في ذكر المسافة القليلة ما يدفع المسافة الكثيرة فالأكثر ثابت بالحديث الصحيح فلا معارضة" (¬1). وقال بعضهم يحمل القصير على العرض والطويل على الطول. قلت ويرد هذا رواية: "زواياه سواء" كما في الصحيحين وأوضح من هذا ما في رواية: "طوله وعرضه سواء". وقال بعضهم بل سبب الاختلاف ملاحظة سرعة السير وعدمها فقد عهد في الناس من يقطع مسافة عشرة أيام في ثلاثة أيام وعكسه وأكثر من ذلك وأقل (¬2). والمقصود أنه حوض عظيم متسع كبير جدًا له زوايا وأباريق وأواني كثيرة جدًا ماؤه أبيض من اللبن وأحلى من العسل وأذكى من المسك يشرب منه المؤمنون فلا يظمأون بعد ذلك أبدًا. وباللَّه التوفيق. الثاني: قال القرطبي: "ذهب صاحب "القوت" (¬3) إلى أن الحوض بعد الصراط قال والصحيح أنه قبله وكذا قال الغزالى (¬4) ذهب بعض السلف إلى أن الحوض يورد بعد الصراط وهو غلط من قائله (¬5). ¬
قال القرطبي والمعنى يقتضي تقديم الحوض على الصراط فإن الناس يخرجون من قبورهم عطاشًا فناسب تقديمه لحاجة الناس إليه (¬1). قال ابن عباس رضي اللَّه عنهما سئل رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الوقوف بين يدي اللَّه تعالى هل فيه ماء؟ قال إي والذي نفسي بيده إن فيه لماء وإن أولياء اللَّه ليردون إلى حياض الأنبياء عليهم السلام" (¬2). ورجح القاضي عياض أن الحوض بعد الصراط (¬3). وقال العلامة ابن حمدان في نهاية المبتدئين: "يشرب المؤمنون من (حرض النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-) (¬4) قبل دخول الجنة وبعد جواز الصراط" انتهى. ¬
وقال الحافظ ابن حجر: "ظاهر الأحاديث أن الحوض بجانب الجنة لينصب فيه الماء من النهر الذي داخلها فلو كان قبل الصراط لحالت النار بينه وبين الماء الذي يصب من الكوثر فيه". قال: "وأما ما أورد عليه من أن جماعة يدفعون عن الحوض بعد أن يروه ويذهب بهم إلى النار. فجوابه: أنهم يقربون من الحوض بحيث يرونه ويرون (¬1) فيدفعون في النار قبل أن يخلصوا من بقية الصراط" (¬2). وقال القرطبي في تذكرته: "الصحيح أن للنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- حوضين أحدهما في الموقف قبل الصراط والثاني في الجنة وكلاهما يسمى كوثرًا والكوثر في كلام العرب الخير الكثير" (¬3). قال الجلال السيوطي وقد ورد التصريح في حديث صحيح عند الحاكم وغيره بأن الحوض بعد الصراط (¬4). ¬
فإن قيل إذا خلصوا من الموقف دخلوا الجنة فلم يحتاجوا إلى الشرب منه فالجواب: بل يحتاجون إلى ذلك لأنهم إذا خلصوا حبسوا هناك لأجل مظالم عليهم فيما بينهم فكان الشرب في موقف القصاص لأجل ما يلقونه من العتاب والخلاص ويحتمل الجمع بأن يقع الشرب من الحوض قبل الصراط لقوم وتأخيره بعده لآخرين بحسب ما عليهم من الذنوب والأوزار، حتى يهذبوا منها على الصراط ولعل هذا أقوى" (¬1) انتهى. قال العلامة الشيخ مرعي (¬2) في "بهجته": "وهذا في غاية التحقيق جامع للقولين وهو دقيق" وباللَّه التوفيق (¬3). ¬
التنبيه الثالث: إنكار المعتزله للحوض
الثالث: خالفت المعتزلة فلم تقر بإثبات الحوض مع ثبوته بالسنة بالصحيحة الصريحة بل وبظاهر القرآن ففي صحيح البخاري من حديث همام عن قتادة عن أنس ابن مالك رضي اللَّه عنه أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "بينا أنا أسير في الجنة إذ أنا بنهر حافتاه قباب اللؤلؤ المجوف فقلت ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر الذي أعطاك ربك قال فضرب الملك بيده فإذا طينه مسك أذفر" (¬1). وفي صحيح مسلم عنه مرفوعًا: "الكوثر نهر في الجنة وعدنيه ربي عز وجل" (¬2). وفي حادي الأرواح للمحقق ابن القيم قدس اللَّه روحه عن أنس رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "دخلت الجنة فإذا بنهر يجري حافتاه خيام اللؤلؤ فضربت بيدي إلى ما يجري فيه من الماء فإذا أنا بمسك أذفر فقلت لمن هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر الذي أعطاك اللَّه عز وجل" (¬3). وفي سنن الترمذي عن عبد اللَّه بن عمر رضي اللَّه عنهما قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "الكوثر نهر في الجنة حافتاه من ذهب ومجراه على الدر والياقوت تربته أطيب من المسك وماؤه أحلى من العسل وأبيض من الثلج" (¬4). قال الترمذي: "حديث حسن صحيح". ¬
تعليق من المحقق في حكم من أنكر سنة صحيحة عالما بذلك
إذا علمت هذا مع ما قدمناه من الأحاديث الصحيحة بالألفاظ الصريحة فمن خالف في الحوض ولم يقر بإثباته فهو مبتدع ولم نكفره لأن ثبوته بالقرآن فيه احتمال وليس بصريح. وأما قوله تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر: 1] ففيه اختلاف هل هو الحوض أو الخير الكثير أو النهر الذي في الجنة كما قدمنا (¬1). نعم الحوض ثابت بالسنة المتواترة وظاهر الكتاب وإجماع أهل الحق فمنكره زائغ عن الصواب مستحق للطرد عنه وكفى بذلك خزي وعذاب (¬2). ¬
بيان أنه يذاد عن الحوض أهل البدع والضلال
وفي حديث أبي برزة رضي اللَّه عنه وقد سئل أسمعت رسول اللَّه يذكر في الحوض شيئًا؟ قال أبو برزة رضي اللَّه عنه: "لا مرة ولا مرتين ولا ثلاثًا ولا أربعًا ولا خمسًا فمن كذّب به فلا سقاه اللَّه منه" (¬1). ومن ثم قال العلماء رضي اللَّه عنهم: "إن ممن يذاد عن حوض النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- جنس المفترين على اللَّه وعلى رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- الكذب المحدثين في الدين ما ليس منه من الخوارج والروافض والجهمية وسائر أصحاب الأهواء المخلة، والبدع المضلة، وكذا المسرفون من الظلمة المفرطون في الظلم والجور وطمس الحق، وكذا المتهتكون (¬2) في ارتكاب المناهي، والمعلنون في اقتراف المعاصي. . . " (¬3). ففي صحيح مسلم من حديث أنس رضي اللَّه عنه: "هل تدرون ما الكوثر؟ هو نهر أعطانيه ربي في الجنة عليه خير كثير ترد عليه أمتي يوم القيامة آنيته عدد الكواكب يختلج (¬4) العبد منهم فأقول يا رب إنه من أمتي (فيقول) (¬5) إنك لا تدري ما أحدث بعدك" (¬6). وفي صحيح مسلم أيضًا من حديث حذيفة بن اليمان رضي اللَّه عنه أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "ليردن على الحوض أقوام فيختلجون دوني فأقول ربي أصحابي رب ¬
أصحابي فيقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك" (¬1). وأخرج الإمام أحمد والطبراني والبزار عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "أنا فرطكم على الحوض فمن ورد أفلح ويجاء بأقوام فيؤخذ بهم ذات الشمال فأقول يا رب يا رب فيقال ما زالوا بعدك مرتدين على أعقابهم" (¬2). وأخرج الحكيم (¬3) في نوادر الأصول عن عثمان بن مظعون رضي اللَّه عنه عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه قال: "يا عثمان لا ترغب عن سنتي فمن رغب عن سنتي ثم مات قبل أن يتوب ضربت الملائكة وجهه عن حوضي يوم القيامة" (¬4). وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "يرد عليّ يوم القيامة رهط من أصحابي -أو قال من أمتي- فَيُحَلأون عن الحوض فأقول يا رب أصحابي (فيقول إنه) لا علم لك ما أحدثوا بعدك إنهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى" (¬5). وفي رواية: "فيجلون". ¬
قال في جامع الأصول: "اختلجوا": استلبوا وأخذوا بسرعة". وقوله: فيحلأون: يعني مبنيًا للمفعول: أي يدفعون عن الماء ويطردون عن وروده، إذا كان بالحاء المهملة ومن رواه بالجيم فهو من الجلاء وهو النفي عن الوطن وهو راجع إلى الطرد" (¬1). وفي رواية عند البخاري أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "بينا أنا قائم على الحوض إذا زمرة حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم فقال: هلم. قلت: إلى أين؟ قال: إلى النار واللَّه. قلت: ما شأنهم؟. قال: إنهم ارتدوا على أدبارهم القهقهرى. ثم إذا زمرة أخرى حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم فقال لهم: هلم. قلت: إلى أين؟ قال: إلى النار واللَّه. قلت: ما شأنهم؟ قال: إنهم ارتدوا على أدبارهم فلا أراه يخلص منهم إلا مثل همل (¬2) النعم" (¬3). وفي الصحيحين من حديث أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي اللَّه عنهما قالت، قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إني على الحوض انتظر من يرد عليّ منكم وسيؤخذ أُناس دوني فأقول يارب مني ومن أمتي فيقال هل شعرت ما عملوا بعدك واللَّه ما برحوا يرجعون على أعقابهم" (¬4) ورواه الشيخان -أيضًا- من حديث أبي سعيد الخدري رضي اللَّه عنه وزاد: "فأقول سحقًا سحقًا لمن بدل بعدي" (¬5). ¬
التنبيه الرابع: لكل نبي حوض
قال القرطبي رحمه اللَّه قال علماؤنا: "كل من ارتد عن دين اللَّه أو أحدث فيه ما لا يرضاه اللَّه ولم يأذن به فهو من المطرودين عن الحوض وأشدهم طردًا من خالف جماعة المسلمين كالخوارج والروافض والمعتزلة على اختلاف فرقهم فهؤلاء كلهم مبدلون، ثم الطرد قد يكون في حال ويقربون بمد المغفرة إن كان التبديل في الأعمال ولم يكن في العقائد قال: وقد يقال إن أهل الكبائر يردون ويشربون وإذا دخلوا النار بعد ذلك لم يعذبوا بالعطش (¬1) انتهى. فأهل البدع مطرودون عن حوض النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ومردودون عن الشرب منه واللَّه أعلم. الرابع: جاء في الأخبار أن لكل نبي حوضًا. فأخرج الترمذي من حديث سمرة بن جندب رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن لكل نبي حوضًا ترده أمته وإنهم يتباهون أيهم أكثر واردة (¬2) وإنى أرجو أن أكون أكثرهم واردة" (¬3). وورد في بعض الأخبار "أن لكل نبي حوضًا إلا صالحًا عليه السلام فإن حوضه ضرع ناقته" (¬4). وباللَّه التوفيق ولا تنكرن جهلًا وعنادًا (الميزان) الذي توزن به الحسنات والسيئات لأنه حق ثابت بالكتاب والسنة وإجماع أهل الحق. أما الكتاب فقوله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ ¬
شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء: 47]. وقوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ} [القارعة: 6 - 11]. وقوله تعالى: {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} [الأعراف: 9]. وفي صدر الآية: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ} [الأعراف: 8]. وأما السنة فبلغت مبلغ التواتر وسنذكر طرفًا منها قريبًا. وأما الإجماع فأجمع أكابر محققي هذه الأمة من أهل السنة (¬1) بأن الإيمان بثبوت الوزن والميزان حق واجب وفرض لازب (¬2) لثبوته بالسماع وعدم استحالة ذلك عقلًا (¬3). ¬
وهو من مراتب المعاد الواجب اعتقادها على جميع العباد وهي البعث والنشور ثم (¬1) القيام لرب العالمين ثم العرض ثم تطاير الصحف وأخذها باليمين والشمال ثم السؤال والحساب ثم الميزان. قال علماؤنا كغيرهم: نؤمن لأن بالميزان الذي توزن به الحسنات والسيئات حق قالوا وله لسان وكفتان توزن به صحائف الأعمال. قال العلامة الشيخ مرعي (¬2) في بهجته: "الصحيح أن المراد بالميزان الميزان الحقيقى لا مجرد العدل خلافًا لبعضهم" (¬3). وقال أبو المعالى (¬4) من علمائنا في عقيدته: "واللَّه تعالى يضع ميزانًا يوم القيامة توزن به الصحائف التي تكون فيها أعمال العباد مكتوبة، قال: وله كفتان إحداهما للحسنات وهي تهوي إلى الجنة والأخرى للسيئات وهي تهوي إلى النار، ويجعل رجحان طاعاته علامة على أنه من أهل الجنة وخفتها علامة لشقوته خلافًا لأهل الاعتزال في إنكارهم الميزان، قالوا لا يجوز أن ينصب ميزان أصلًا، قالوا لأن الأعمال أعراض إن أمكن إعادتها لم يمكن وزنها ولأنها مملومة للَّه فوزنها عبثًا. وأجاب بعض أهل الكلام عن كون الأعراض لا توزن بأنه قد ورد في الحديث أن كتب الأعمال هي التي توزن وحينئذ فلا إشكال. وعن الثاني على تقدير كون أفعال اللَّه تعالى معللة بالأعراض لعل في الوزن حكمة لا نطع عليها وعدم اطلاعنا على الحكمة لا يوجب العبث" (¬5) انتهى. ¬
وأقول: نهج المعتزلة مباين لنهج الرسول فإن اللَّه تعالى قادر على تجسيم الأعراض والإتيان بها في أحسن صورة وأقبح صورة وهذا غير محال في العقل وقد ثبت به النقل فوجب إعتقاده والمصير إليه كما ستقف على طرف مما ورد من ذلك واللَّه أعلم. ولكون (¬1) الإيمان بالميزان ذي الكفتين واللسان من معتقدات أهل السنة وإنكاره من شعار أهل الاعتزال. قال الناظم رحمه اللَّه تعالى: (إنك) أيها المستمع لنظامي المتفهم لمنطوق كلامي: (تنصح): بضم المثناة الفوقية وفتح الصاد المهملة بينهما نون ساكنة مبنيًا للمفعول والنصيحة كلمة يعبر بها عن جملة هي إرادة الخير للمنصوح له وليس يمكن أن يعبر عن (هذا) (¬2) المعنى بكلمة واحدة تجمع معناه غيرها. وأصل النصح في اللغة الخلوص. يقال نصحته ونصحت له، ومعنى نصيحة اللَّه تعالى صحة الاعتقاد في وحدانيته وإخلاص النية في عبادته، والنصيحة لكتاب اللَّه ¬
الأحاديث والآثار الواردة في الميزان
تعالى: هو التصديق به والعمل بما فيه، ونصيحة الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-: التصديق بنبوته ورسالته والانقياد لما أمر به والانكفاف عما نهى عنه ونصيحة الأئمة: أن يطاعوا في الحق ولا يرى الخروج عليهم ولو جاروا. ونصيحة عامة المسلمين: إرشادهم إلى مصالحهم وبيان ما يجب عليهم وإيضاح معتقدهم على نهج السلف، ومجانبة الخوض فيما لا تدركه عقولهم من غوامض العلوم (¬1). إذا عرفت هذا فألق لبك لما أذكره لك من الأخبار وأتحفك به من الآثار. فأخرج الشيخان من حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند اللَّه جناح بعوضه" ثم قرأ: {فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} (¬2) [الكهف: 105]. وأخرج البيهقي في البعث عن ابن عمر عن عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنهما في حديث سؤال جبريل عن الإيمان فال: يا محمد ما الإيمان؟ قال: أن تؤمن باللَّه وملائكته وكتبه ورسله (وتؤمن بالجنة والنار والميزان وتؤمن بالبعث بعد الموت) (¬3) وتؤمن بالقدر خيره وشره قال: فإذا فعلت هذا فأنا مؤمن؟ قال: نعم. قال: صدقت" (¬4). ¬
وأخرج الحاكم وصححه وقال على شرط مسلم عن سلمان الفارسي رضي اللَّه عنه عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "يوضع الميزان يوم القيامة فلو وزن فيه السموات والأرض لوسعهن فتقول الملائكة يا رب لمن يزن هذا فيقول لمن شئت من خلقي فتقول الملائكة سبحانك ما عبدناك حق عبادتك ويوضع الصراط مثل حد الموس فتقول الملائكة من تجيز على هذا؟ فيقول من شئت من خلقي فيقولون سبحانك ما عبدناك حق عبادتك" (¬1). وأخرجه الإمام عبد اللَّه بن المبارك في "الزهد" (¬2) والآجري في "الشريعة" (¬3) عن سلمان موقوفًا. وأخرج أبو الشيخ ابن حيان (¬4) عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما قال: "الميزان له لسان وكفتان" (¬5). وأخرج ابن جرير (¬6) في تفسيره وابن أبي الدنيا (¬7) عن حذيفة رضي اللَّه عنه قال: "صاحب الموازين يوم القيامة جبريل عليه السلام" (¬8). ¬
وقال الحسن البصري (¬1) رحمه اللَّه تعالى: "هو ميزان له لسان وكفتان وهو بيد جبريل عليه السلام" (¬2). وأخرج ابن مردويه (¬3) في تفسيره عن عائشة رضي اللَّه عنها قالت: سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "خلق اللَّه كفتي الميزان مثل السماء والأرض. فقالت الملائكة: يا ربنا لمن تزن بهذه؟. قال: أزن به من شئت، وخلق اللَّه الصراط كحد السيف فقالت الملائكة: يا ربنا من تجيز على هذا؟ قال: أجيز عليه من شئت" (¬4). وروى أن داود عليه السلام سأل ربه أن يريه الميزان فلما رآه غشى عليه فلما أفاق قال إلهي من ذا الذي يقدر يملأ كفة حسناته؟ فقال إذا رضيت عن عبدي ملأتها بتمرة" (¬5). ذكره البزار (¬6) والثعلبي (¬7). وقال عبد اللَّه بن سلام رضي اللَّه عنه: "إن ميزان رب العالمين ينصب للجن ¬
والإنس يستقبل به العرش إحدى كفتيه على الجنة والأخرى على جهنم لو وضعت السموات والأرض في إحداهما لوسعتهن، وجبريل عليه السلام آخذ بعموده ينظر إلى لسانه" (¬1). ففي هذا أن أعمال الجن توزن كما توزن أعمال الإنس، وكذلك ارتضاه الأئمة (¬2) قاله العلامة الشيخ مرعي في "بهجته" (¬3). قال القرطبي في "تذكرته": المتقون توضع حسانهم في الكفة النيرة وصغايرهم في الكفة الأخرى فلا يجعل اللَّه لتلك الصغائر وزنا وتثقل الكفة النيرة حتى لا ترتفع وترفع المظلمة ارتفاع الفارغة الخالية". قال: وأما الكفار فيوضع كفرهم وأوزارهم في الكفة المظلمة وإن كان لهم أعمال بر، وضعت في الكفة الأخرى فلا تقاومها إظهارًا لفضل المتقين وذل الكافرين" (¬4). وأخرج البزار والبيهقي في البعث عن أنس بن مالك رضي اللَّه عنه عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "يؤتى بابن آدم يوم القيامة فيوقف بين كفتي الميزان يوكل به ملك، فإن ثقل ¬
ميزانه نادى الملك بصوت يسمع الخلائق: سعد فلان بن فلان، سعادة لا يشقى بعدها أبدًا، وإن خفت موازينة (¬1) نادى الملك بصوت يسمع الخلائق: ألا شقي فلان بن فلان شقاوة لا يسعد بعدها أبدًا" (¬2). وأخرج ابن أبي حاتم (¬3) عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما قال: "يحاسب الناس يوم القيامة فمن كانت حسناته أكثر من سيئاته بواحدة دخل الجنة، ومن كانت سيئاته أكثر من حسناته بواحدة دخل النار، قال: وإن الميزان تخف بمثقال حبة وترجح، ومن استوت حسناته وسيئاته كان من أصحاب الأعراف فوقفوا على الصراط (¬4). وأخرج البزار بسند حسن عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الروح الأمين قال: (قال الرب تبارك وتعالى) (¬5): يؤتى بسيئات العبد وحسناته ¬
فيقتص بعضها ببعض فإن بقيت له حسنة واحدة وسع اللَّه له في الجنة (¬1). وأخرج الحاكم والبيهقي والآجري عن عائشة -رضي اللَّه عنها- قالت: قلت يا رسول اللَّه هل تذكرون أهليكم يوم القيامة؟ قال: "أما في ثلاث مواطن فلا يذكر أحد أحدًا: حيث يوضع الميزان حتى يعلم أيثقل ميزانه أو يخف، وحيث تطاير الكتب حتى يعلم أين يقع كتابه في يمينه أو شماله أو من وراء ظهره، وحيث يوضع الصراط حتى يعلم ينجو أم لا ينجو" (¬2). ورواه الآجري أيضًا عنها -رضي اللَّه عنها- بلفظ: "قلت يا رسول اللَّه هل يذكر الحبيب حبيبه يوم القيامة؟ قال: " أما عند ثلاث فلا" وذكر الميزان والكتب والثالث حين يخرج عنق من النار فيقول ذلك العنق: وكلت بثلاثة وكلت بالذي دعى مع اللَّه إلها آخر، ووكلت بكل جبار عنيد، وبكل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب (¬3). ¬
فوائد: إحداها: أخرج الإمام أحمد في الزهد من طريق رباح بن زيد عن أبي الجراح عن رجل يقال له خازم أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- نزل عليه جبريل وعنده رجل يبكي، فقال من هذا؟ قال: فلان. قال جبريل عليه السلام إنا نزن أعمال بني آدم كلها إلا البكاء، فإن اللَّه يطفي بالدمعة بحورًا من نيران جهنم" (¬1). وأخرج البيهقي عن مسلم بن يسار (¬2) قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ما اغرورقت عين بمائها الا حرم اللَّه سائر ذلك الجسد على النار، ولا سالت قطرة: على خدها فيرهق ذلك الوجه قتر ولا ذلة، ولو أن باكيًا بكى في أمة من الأمم رحموا، وما من شيء إلا له مقدار وميزان إلا الدمعة فإنها يطفأ بها بحار من النار" (¬3). الثانية: أخرج الترمذي وحسنه من حديث أنس بن مالك قال: سألت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أن يشفع لي يوم القيامة فقال: "أنا فاعل إن شاء اللَّه. قلت: فأين أطلبك؟ قال: أول ما تطلبني على الصراط. قلت: فإن لم القك على الصراط؟ قال: فاطلبني عند الميزان، قلت: فإن لم القك عند الميزان؟ قال: فاطلبني عند الحوض، ¬
فأني لا أخطئ هذه الثلاثة مواطن" (¬1) ورواه البيهقي في الشعب وغيره. الثالثة: أخرج أبو داود والترمذي وصححه وابن حبان عن أبي الدرداء رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ما من شيء أثقل في الميزان من خلق حسن" (¬2). وأخرج أبو نعيم عن ابن عمر رضي اللَّه عنهما قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- من قضى لأخيه حاجة كنت واقفا عند ميزانه، فإن رجح وإلا شفعت له" (¬3). وأخرج البزار والطبراني وأبو يعلى وابن أبي الدنيا والبيهقي بسند حسن عن أنس رضي اللَّه عنه قال: لقي رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أبا ذر فقال: "يا أبا ذر ألا أدلك على خصلتين هما خفيفتان على الظهر، وأثقل في الميزان من غيرهما. قال: بلى يا رسول اللَّه، قال: عليك بحسن الخلق، وطول الصمت، فوالذي نفسي بيده ما عمل الخلائق بمثلهما" (¬4). ¬
الرابعة: أخرج الأصبهاني (¬1) عن الليث بن سعد (¬2) -رحمه اللَّه تعالى- قال: قال عيسى بن مريم عليه السلام: "أمة محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- أثقل الناس في الميزان ذلت ألسنتهم بكلمة ثقلت (¬3) على من كان قبلهم، لا إله إلا اللَّه" (¬4). وأخرج أبو داود والترمذي وصححه والنسائي وابن حبان عن ابن عمرو رضي اللَّه عنهما عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "خصلتان لا يحافظ عليهما عبد مسلم إلا دخل الجنة هما يسير ومن يعمل بهما قليل يسبح في دبر كل صلاة عشرًا ويحمد عشرًا، ويكبر عشرًا، فذلك خمسون ومائة (باللسان) (¬5) وألف وخمسمائة في الميزان، ويكبر أربعًا وثلاثين إذا أخذ مضجعه، ويسبح ثلاثًا وثلاثين ويحمد ثلاثًا وثلاثين، فذلك مائة باللسان، وألف في الميزان وأيكم يعمل في اليوم والليلة ألفين وخمسمائة سيئة" (¬6). ¬
وأخرج النسائي والحاكم وصححه عن أبي سلمى قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- "بخ بخ (¬1) لخمس ما أثقلهن في الميزان: لا إله إلا اللَّه، واللَّه أكبر، وسبحان اللَّه، والحمد للَّه، والولد الصالح يتوفى للمرء فيحتسبه" (¬2). وأخرج مثله الإمام أحمد من حديث (أبي أمامة) (¬3) والبزار من حديث ثوبان (¬4) والطبراني في الأوسط من حديث سفينة رضي اللَّه عنهم، ولفظ الطبراني "وفرط صالح للرجل" (¬5) وهو أعم من الولد. ¬
وأخرج الحاكم عن (أبي الأزهر) (¬1) الأنماري -رضي اللَّه عنه- قال: كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إذا أخذ مضجعه قال: "اللهم اغفر لي، واخسئ شيطاني، وفك رهاني، وثقل ميزاني، واجعلني في الندى (¬2) الأعلى" (¬3). وأخرج ابن عبد البر (¬4) في فضل العلم بسنده عن إبراهيم النخعي (¬5) قال: "يجاء بعمل الرجل فيوضع في كفة ميزانه يوم القيامة فيخف، فيجاء بشيء مثل الغمام فيوضع في كفة ميزانه فيرجح، فيقال له: أتدري ما هذا؟ فيقول: لا، فيقال له: هذا فضل العلم الذي كنت تحدثه الناس" (¬6). وأخرج ابن المبارك (¬7) نحوه عن حماد بن أبي سليمان (¬8) قال: "يجيء رجل ¬
يوم القيامة فيرى عمله محتقرًا فبينما هو كذلك إذ جاءه مثل السحاب حتى يقع في ميزانه، فيقال: هذا ما كنت تعلم الناس من خير (فورث بعدك) (¬1) فأجرت فيه" (¬2). الخامسة: وهي من تتمة ما قبلها: أخرج البزار والحاكم عن ابن عمر رضي اللَّه عنهما أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "إن نوحًا عليه السلام لما حضرته الوفاة دعا ابنيه، فقال: آمركما بلا إله إلا اللَّه، فإن السموات والأرض وما فيهما لو وضعت في كفة الميزان، ووضعت لا إله إلا اللَّه في الكفة الأخرى كانت أرجح منهما" (¬3). وأخرج أبو يعلى (¬4)؛ وابن حبان (¬5)؛ والحاكم، وصححه عن أبي سعيد الخدري -رضي اللَّه عنه- عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: قال موسى يا رب علمني شيئًا ¬
تنبيهات
أذكرك وأدعوك به، قال: قل يا موسىى "لا إله إلا اللَّه"، قال: كل عبادك يقول هذا، قال: يا موسى لو أن السموات السبع وعامرهن غيري، والأرضين السبع في كفة، ولا إله إلا اللَّه في كفه، مالت بهن لا إله إلا اللَّه" (¬1). وأخرج الطبراني عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "والذي نفسي بيده لو جئ بالسموات والأرض ومن فيهن، وما بينهن، وما تحتهن، فوضعت في كفة الميزان، ووضعت شهادة أن لا إله الا اللَّه في الكفة الأخرى، لرجحت بهن" (¬2). واللَّه تعالى أعلم. تنبيهات: الأول: الأصح الأشهر أنه ميزان واحد لجميع الأمم ولجميع الأعمال كفتاه كأطباق السموات والأرض (¬3) كما مر. ¬
وقيل لكل أمة ميزان (¬1). وقال الحسن البصري: "لكل واحد من المكلفين ميزان" (¬2). واستظهر بعضهم (¬3) إثبات موازين يوم القيامة، لا ميزان واحد لظاهر قوله عز وجل: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ} [الأنبياء: 47]. وقوله: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} [الأعراف: 8]. وقال: "لا يبعد على هذا أن يكون لأعمال القلوب ميزان، ولأفعال الجوارح ميزان، ولما يتعلق بالقول ميزان" (¬4). ورد هذا ابن عطية (¬5) وقال: "الناس على خلافه وإنما لكل واحد وزن مختص به والميزان واحد" (¬6). ¬
الثاني: الخلاف في الموزون
وقال بعضهم: إنما جمع الموازين في الآية الكريمة لكثرة من توزن أعمالهم، وهو حسن (¬1) وباللَّه التوفيق. الثاني: اختلف في الموزون (¬2) فقيل العبد مع عمله، وقيل الموزون نفس الأعمال، فتصور الأعمال الصالحات بصور حسنة نورانية ثم تطرح في كفة النور، وهي اليمنى المعدة للحسنات فتثقل بفضل اللَّه سبحانه، وتصور الأعمال السيئة بصور قبيحة ظلمانية، ثم تطرح في الكفة المظلمة، وهي الشمال المعدة للسيئات فتخف بعدل اللَّه كما في الحديث وتقدم. فادعاء امتناع قلب الحقائق في مقام خرق العادات غير ملتفت إليه كما لا يخفى وتقدمت الإشارة إليه، وقيل: إن اللَّه تعالى يخلق أجسامًا على عدد تلك الأعمال من غير قلب لها (¬3). والصحيح أن الموزون صحف الأعمال. وصححه إمام المغرب ابن عبد البر (¬4)؛ والقرطبي (¬5)؛ وأبو المعالي في عقيدته. وقال العلامة ابن حمدان (¬6) في "نهاية المبتدئين": والميزان الذي توزن به الحسنات والسيئات نص عليه أي الإمام أحمد رضي اللَّه عنه ذكره أبو الفضل التميمي" (¬7). ¬
قال: "وإن له لسانًا وكفتين توزن به صحائف الأعمال". وقال ابن عقيل: (¬1) "توزن فيه أعمال العباد بمعنى أنهم يعرفون مقاديرها عند رجحانه ونقصانه، قال: ويحتمل أن يكون المطروح فيه الصحف لتعذر بقاء الأعمال، وصوبه الشيخ مرعي في بهجته وذهب إليه جمهور المفسرين (¬2). وقد سئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عما يوزن يوم القيامة، فقال: الصحف (¬3). ذكره الفخر الرازي (¬4) وغيره. وحكاه ابن عطية عن أبي (¬5) المعالي (¬6). يؤيد ذلك ما رواه الترمذي وحسنه، وابن ماجة، وابن حبان في صحيحه، والحاكم وصححه، والبيهقي عن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص رضي اللَّه عنهما أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "إن اللَّه يستخلص رجلًا من أمتي" وفي لفظ: "يصاح برجل من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة فينشر له تسعة وتسعون سجلًا، كل سجل منها مثل مد البصر، فيقول: أتنكر من هذا شيئًا؟ أظلمك كتبتي الحافظون؟ فيقول: لا يارب، فيقول: أفلك عذر أو حسنة؟ فيقول: لا يارب، فيقول اللَّه: ¬
بلى إن لك عندنا حسنة، وإنه لا ظلم عليك اليوم فتخرج بطاقة فيها: أشهد أن لا إله إلا اللَّه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، فيقول احضر وزنك، فيقول: يارب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات، فيقال: إنك لا تظلم، فتوضع السجلات في كفة، والبطاقة في كفة، فطاشت السجلات وثقلت البطاقة فلا يثقل مع اسم اللَّه شيء" (¬1). فثبت بهذا الحديث الصحيح أن الموزون صحائف الأعمال كما صوبه العلامة الشيخ مرعي في بهجته، وهو الحق (¬2). ومثله ما أخرجه سيدنا الإمام أحمد في مسنده بسند حسن عن ابن عمرو أيضًا -رضي اللَّه عنهما- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "توضع الموازين يوم القيامة فيؤتى بالرجل فيوضع في كفة ويوضع ما أحصى عليه في كفة فتمايل به الميزان، فيبعث به إلى النار، فإذا أدبر به إذا صايح يصيح من عند الرحمن لا تعجلوا، لا تعجلوا، فإنه قد بقي له فيؤتى ببطاقة فيها لا إله الا اللَّه، فتوضع مع الرجل في كفته حتى تميل به الميزان" (¬3). ¬
فإن قيل: قد صرح في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه أن الوزن لنفس بدن الآدمي حيث قال: "إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند اللَّه جناح بعوضة" وتقدم (¬1). فالجواب: أن هذا ضربه النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- مثلا للذي يغتر ببعض الأجسام فهو كناية عن عدم الاكتراث بالأجسام، فإن اللَّه لا ينظر للأجسام والأموال، وإنما ينظر للقلوب والأعمال، فكم من جسم وسيم، وهو عند اللَّه من أصحاب الجحيم، وكم من حقير دميم، وهو من أهل القرب والنعيم (¬2). ¬
الثالث: القول بأن الإيمان لا يوزن والرد عليه
الثالث: زعم النسفي (¬1) في بحر الكلام: أن الإيمان لا يوزن لأنه لا ضد له يوضع في الكفة الأخرى، إذ ضده الكفر، والإيمان والكفر لا يجتمعان في الواحد (¬2). قلت: ويرد هذا ما قدمناه من وزن كلمة الإخلاص، وهي لا إله إلا اللَّه وهي أس الإيمان. وانتصر كل من الحكيم الترمذي، والقرطبي لما ذكره النسفي، وأجاب الحكيم الترمذي عن كلمة الإخلاص بأنها إنما تكون إيمانًا أول مرة، وبعد ذلك تكون من حسناته، قال: ويدل عليه قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "بلى إن لك عندنا حسنة ولم يقل إن لك عندنا إيمانًا". وقد سئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن لا إله إلا اللَّه من الحسنات هي فقال: "من أعظم الحسنات" رواه البيهقي وغيره (¬3). ¬
التنبيه الرابع: هل الوزن في الآخرة كالوزن في الدنيا؟
قلت: وفيه نظر لا يخفي لأنه ينظر إلى أن الإيمان مجرد التصديق و (هو) (¬1) خلاف مذهب السلف، فإن الأعمال من الإيمان كما يأتي تحريره. فإن قيل ما الحكمة في الوزن مع إحاطة علم اللَّه بكل شيء حتى خائنة الأعين وما تخفي الصدور؟ فالجواب الحكمة في ذلك تعريف اللَّه عبادة ما لهم عنده من الجزاء من خير أو شر قاله الثعلبي. واختار العلامة الشيخ مرعي أن الحكمة إظهار العدل وبيان الفضل حيث إنه يزن مثاقيل الذر من خير أو شر: {وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 40] (¬2). الرابع: ظواهر الآثار وأقوال العماء أن كيفية الوزن في الآخرة خفة، وثقلًا كالدنيا ما ثقل نزل إلى أسفل ثم يرفع إلى عليين وما خف طاش إلى أعلى ثم نزل إلى سجين. وبه صرح جموع منهم القرطبي في تذكرته (¬3). وقد أخرج البيهقي في شعب الإيمان من طريق السدي (¬4) الصغير عن ¬
الكلبي (¬1) عن أبي صالح (¬2) عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما قال: "الميزان له لسان وكفتان توزن فيه الحسنات والسيئات، فيؤتى بالحسنات في أحسن صورة فتوضع في كفة الميزان فتثقل على السيئات فتؤخذ فتوضع في الجنة عند منازله، ثم يقال للمؤمن: الحق بعملك فينطلق إلى الجنة فيعرف منازله بعمله، ويؤتى بالسيئات في أقبح صورة فتوضع في كفة الميزان فتخف والباطل خفيف، فتوضع في جهنم إلى منازله منها، ويقال: الحق بعملك إلى النار فيأتى النار فيعرف منازله بعمله وما أعد اللَّه له فيها من ألوان العذاب". قال ابن عباس رضي اللَّه عنهما: "فلهم أعرف بمنازلهم في الجنة والنار بعملهم من القوم ينصرفون يوم الجمعة راجعين إلى منازلهم" (¬3). ففي كلام ابن عباس رضي اللَّه عنه التصريح بما ذكرنا (¬4). وزعم بعض المتأخرين أن صفة الوزن تخالف الصفة المعهودة في الدنيا فعمل المؤمن إذا رجح صعد (وأسفلت) (¬5) سيئاته والكافر تسفل كفته لخلو الأخرى عن ¬
التنبيه الخامس: هل الميزان خاص كأهل الإيمان أو عام لسائر الناس؟
الحسنات واستدل لما قال بقول ذي العزة والجلال {وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10]. والجواب عن الآية الكريمة عدم صحة الاستدلال لأن الرفع يكون بعد الوزن، وثقل الميزان كما قدمنا. وزعم قوم أن صفة الوزن: أن توضع أعمال العباد في الميزان دفعة واحدة الحسنات في كفة النور، وهي عن يمين العرش جهة الجنة والسيئات في كفة الظلمة وهي عن يساره جهة النار، قال: ويخلق اللَّه تعالى لكل إنسان علمًا ضروريًا يدرك به خفة أعماله وثقلها. قلت: وهذا يشبه قول المعتزلة. وقيل: علامة الرجحان عمود نور يقوم من كفة الحسنات حتى يكسو كفة السيئات، وعلامة الخفة عمود ظلمة يقوم من كفة السيئات حتى يكسو كفة الحسنات لكل واحد، وهذا من جنس ما قبله (¬1). والصواب ما قدمنا واللَّه تعالى أعلم. الخامس: اختلف في الميزان، هل هو خاص بأهل الإيمان، أو عام لسائر أهل الأديان. استدل للأول بظاهر قوله تعالى {فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف: 105]. وأجاب عنه من يقول بالعموم -وهو المقبول- بأنه مجاز عن عدم الاعتداد بهم، ¬
وقد قال تعالى: {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104) أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} [المؤمنون: 103 - 105]. فهذه الآيات في الكفار وتقدم في الحديث. وأما الكفار فيوضع كفرهم وأوزارهم في الكفة المظلمة، وإن كان لهم أعمال بر وضعت في الكفة الأخرى فلا تقاومها. نعم ذكر القرطبي أن الميزان لا يكون في حق كل أحد فإن الذين يدخلون الجنة بغير حساب لا ينصب لهم ميزان، وكذلك من يعجل به إلى النار بغير حساب وهم المذكورون في قوله تعالى {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ} [الرحمن: 41] الآية (¬1). قال الجلال السيوطي في البدور السافرة: "وهذا الذي قاله القرطبي حسن يجمع بين القولين والآيتين، فالفريق الذي يعجل بهم هم الذين لا يقام لهم وزن وبقيت الكفار ينصب لهم الميزان". قال الجلال: "ويحتمل تخصيص الكفار المذكورين بالمنافقين لأنهم هم الذين بيقون في المسلمين، وأهل الكتاب الذين لم يبدلوا بعد لحوق كل أمة بما كانت تعبد كما تقدم في حديث التجلي (¬2). وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها". وذكر الغزالي أن السبعين ألفًا الذين يدخلون الجنة بغير حساب، لا ينصب لهم ميزان، ولا يأخذون صحفًا، وإنما هي براءات مكتوبة هذه براءة فلان ابن ¬
تتمة: في ذكر الصحف، والصراط والحساب ثبوت الصحف بالكتاب والسنة والإجماع
فلان (¬1). واللَّه ولي الإحسان (¬2). تتمة: لم يذكر الناظم -رحمه اللَّه تعالى- الصحف ونشرها وأخذها باليمين والشمال، ولا ذكر الصراط ولا الحساب وذلك أنه إنما يشير إلى أمهات مسائل اشتهر فيها خلاف أهل البدع من المعتزلة وغيرهم مما لا يحسن إغفاله في العقائد الدينية، مع أن مما أنكرته المعتزلة أيضًا الصحف، فزعمت المعتزلة أنه عبث مع ثبوتها -كالصراط- بالكتاب والسنة وإجماع أهل الحق. أما الكتاب فعدة آيات منها قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَى سَعِيرًا (12)} [الإنشفاق: 7 - 12]. وفي الآية الأخرى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَه إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ. .} إلى قوله {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَالَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ} [الحاقة: 19 - 25]. وقال تعالى: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء: 13 - 14]. وقال: {وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ} [التكوير: 10]. ¬
ومعنى طائره: عمله (¬1). وقال مقاتل والكلبي: خيره وشره معه لا يفارقه (¬2). وقال الثعلبى في قوله تعالى: {وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ} [التكوير: 10] أي التي فيها أعمال بني آدم نشرت للحساب، وإنما يؤتى بالصحف إلزامًا للعباد، ورفعًا للجدل والعناد، وأنكرته المعتزلة زعما منهم أنه عبث. وجواب أهل الكلام لهم أفعال اللَّه ليست معللة بالغرض، وعلى تقدير التسليم فلعل في الكتاب حكمة لا نطلع عليها وعدم اطلاعنا عليها لا يوجب العبث. وقد علمت أن من حكمة ذلك إلزام العباد، وقطع معاذيرهم ورفع الجدال مع إعادة الذكر وإحصاء ما في الصحف وتعدادها على العبد وليعلم العبد أنه ما فرط في الكتاب من شيء فيقولون: {يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: 49] (¬3). وأما السنة: فقد أخرج العقيلي (¬4) من حديث أنس رضي اللَّه عنه عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "الكتب كلها تحت العرش فإذا كان يوم القيامة يبعث اللَّه ريحًا فتطيرها بالأيمان والشمائل أول خط فيها {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء: 14] (¬5). ¬
قال قتادة: (¬1) "سيقرأ يومئذ من لم يكن قارئًا في الدنيا" (¬2). وفي سنن الترمذي وحسنه وصحيح ابن حبان والبيهقي والبزار وابن أبي حاتم عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه عنه -صلى اللَّه عليه وسلم- في قوله تعالى: {يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} [الإسراء: 71]. قال: "يدعى الرجل فيعطى كتابه بيمينه ويمد له في جسمه ستون ذراعًا ويبيض وجهه ويجعل على رأسه تاج من لؤلؤ يتلألأ فينطلق إلى أصحابه فيرونه من بعيد فيقولون: اللهم ائتنا بهذا وبارك لنا في هذا حتى يأتيهم فيقول: أبشروا فإن لكل واحد منكم مثل هذا، وأما الكافر فيسود وجهه، ويمد في جسمه ستون ذراعًا ويجعل على رأسه تاج من نار فيراه أصحابه من بعيد فيقولون: اللهم إنا نعوذ بك من هذا، اللهم لا تأتنا بهذا فيأتيهم فيقولون: اللهم اخزه، فيقول: أبعدكم اللَّه فإن لكل رجل منكم مثل هذا" (¬3). وأخرج الترمذي عن أبي هريرة أيضًا رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات فأما عرضتان ¬
فجدال ومعاذير (¬1) فعند ذلك تطير الصحف في الأيدي فآخذ بيمينه وآخذ بشماله" (¬2). وأخرج نحوه ابن ماجة من حديث أبي موسى الأشعري -رضي اللَّه عنه- مرفوعًا قال: "وأما الثالثة فتطاير الصحف في الأيدى، فآخذ بيمينه وآخذ بشماله" (¬3). وأخرجه البيهقي من حديث ابن مسعود -رضي اللَّه عنه- مرفوعًا قال: "وأما العرضة الثالثة فتطاير الكتب في الأيمان والشمائل" (¬4). قال الحكيم الترمذي: "الجدال للأعداء يجادلون لأنهم لا يعرفون ربهم فيظنون أنهم إذا جادلوه نجوا وقامت حجتهم، والمعاذير للَّه تعالى يعتذر إلى آدم وإلى أنبيائه ويقيم حجته عندهم على الأعداء ثم يبعث بهم إلى النار. والعرضة الثانية للمؤمنين، وهو العرض الأكبر يخلو بهم فيعاتب من (يريد) (¬5) ¬
عتابه في تلك الخلوات حتى يذوق وبال الحياء والخجل، ثم يغفر لهم ويرضى عنهم" (¬1). فوائد: الأولى: قال الإمام الجليل سعيد بن المسيب: (¬2) "الذي يأخذ كتابه بشماله تلوي يده خلف ظهره ثم يعطى كتابه" (¬3). وقيل: "تنزع من صدره إلى خلف ظهره" (¬4). وقال مجاهد (¬5) في قوله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ} [الإنشقاق: 10] قال تجعل شماله وراء ظهره فيأخذ بها كتابه" (¬6). الثانية: الذي يأخذ كتابه بشماله إما كافر، وإما (فاسقًا) (¬7) فإن كان كافرًا أعطي كتابه بشماله من وراء ظهره، بأن تخلع يده أو تدخل من صدره أو تلوى. وإن كان مؤمنًا عاصيًا يعطى كتابه بشماله من أمامه، وأما المؤمن الطائع فيعطى كتابه بيمينه من أمامه (¬8). ¬
الكلام على الصراط
الثالثة: ورد أن أول من يأخذ كتابه بيمينه من هذه الأمة: أبو سلمة ابن عبد الأسد (¬1) واسمه عبد اللَّه المخزومي القرشي بن عمة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- برة بنت عبد المطب، "وهو أول من يدخل الجنة من هذه الأمة (¬2)؛ وهو أول من هاجر من مكة هو وزوجته أم المؤمنين أم سلمة إلى الحبشة (¬3)، وشهد بدرًا، وكان أخا النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وأخا حمزة بن عبد المطلب من الرضاعة أرضعتهم ثويبة مولاة أبي لهب، وشهد الشاهد إلى أن مات بالمدينة سنة أربع (¬4). وروي أن أول من يأخذ كتابه بشماله: الأسود أخو أبي سلمة المذكور، روي أنه يمد يده ليأخذ كتابه فيجذبه ملك فيخلع يده، فيأخذه بشماله من وراء ظهره (¬5) واللَّه تعالى أعلم. وأما الصراط فهو حق ثابت بلا شطاط. ¬
قال العلماء: الصراط في اللغة الطريق الواضح ومنه قول جرير (¬1): أمير المؤمنين على صراط ... إذا اعوج الموارد مستقيم (¬2) وهو بالصاد والسين المهملتين، وبالزاي (على) (¬3) نزاع في إخلاصها ومضارعتها بين الصاد والزاي (¬4). وفي الشرع: جسر ممدود على متن جهنم يرده الأولون والآخرون، فهو قنطرة جهنم بين الجنة والنار وخلق من حين خلقت جهنم (¬5). قال القرطبي في "تذكرته": في الآخرة صراطان: أحدهما مجاز لأهل المحشر كلهم ثقيلهم وخفيفهم. إلا من دخل الجنة بغير حساب. وإلا من يلتقط عنق من النار. فإذا خلص من خلص من هذا الصراط الأكبر المذكور، ولا يخلص عنه إلا المؤمنون الذين علم اللَّه تعالى منهم أن القصاص لا يستنفذ حسناتهم حبسوا على صراط خاص لهم، ولا روجع إلى النار من هؤلاء أحد إن شاء اللَّه تعالى لأنهم قد عبروا الصراط الأول المضروب على متن جهنم الذي يسقط عنه فيها من أوبقته ذنوبه، وزادت على حسناته جرائحه وعيوبه. . " (¬6). ¬
فقد أخرج البخاري والإسماعيلي (¬1) في مشيخته واللفظ له عن أبي سعيد الخدري رضي اللَّه عنه عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في هذه الآية: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر: 47] قال: "يخلص المؤمنون من النار فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنار فيقتص بعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا حتى إذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة، فوالذي نفس محمد بيده لأحدهم أهدى بمنزله في الجنة منه بمنزله في الدنيا" (¬2). قال قتادة: "كان يقال: ما يشبه بهم إلا أهل الجمعة انصرفوا من جمعتهم" (¬3). قال القرطبي: "هذا في حق من لم يدخل النار من عصاة الموحدين أما من دخلها ثم أخرج منها، فإنهم لا يحبسون بل إذا أخرجوا أبقوا على أنهار الجنة" (¬4). وقال (¬5) في "الفتح" في قوله: "يخلص المؤمنون من النار" ينجون من السقوط فيها بمجاوزة الصراط فيها. ¬
قال: "واختلف في القنطرة المذكورة فقيل هي من تتمة الصراط وهي طرفه الذي يلي الجنة وقيل إنها صراط آخر وبه جزم القرطبي" (¬1). واختار الجلال السيوطي في "البدور السافرة" أنه طرف الصراط الذي يلي الجنة للأحاديث (¬2) واللَّه أعلم إذا علمت هذا، فقد قال العلماء رضي اللَّه عنهم ورحمهم: الصراط أدق من الشعرة وأحدّ من السيف وأحمى من الجمرة، لما رواه للطبراني بإسناد حسن عن عبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه عنه قال: "يوضع الصراط على سواء جهنم مثل حد السيف المرهف مدحضة -أي مزلقة مزلة- أي لا تثبت عليه قدم بل تزل عنه إلا من يثبته اللَّه تعالى، عليه كلاليب من نار يختطف بها فممسك يهوي فيها (¬3) ويستبقون عليه بأعمالهم فمنهم من شده (¬4) كالبرق، فذلك الذي لا ينشب أن ينجو، ومنهم من شده كالريح، ومنهم من شده كالفرس الجواد، ومنهم من شده كهرولة الرجل، ثم كمشي الرجل، وآخر من يدخل الجنة رجل قد لوحته (¬5) النار فيقول اللَّه له: سل ¬
وتمن، فإذا فرغ، قال: لك ما سألت ومثله معه" (¬1). وأخرج الإمام أحمد من حديث عائشة رضي اللَّه عنها قالت: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لجهنم جسر أدق من الشعرة وأحدّ من السيف عليه كلاليب (¬2) وحسك (¬3) تأخذ من شاء اللَّه، والناس عليه كالطرف، وكالبرق، وكالريح، وكأجاويد الخيل، والركاب، والملائكة يقولون: رب سلم سلم، فناج مسلم، ومخدوش مسلم، ومكور في النار على وجهه" (¬4). وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد رضي اللَّه عنه قال: "بلغني أن الجسر (أدق) (¬5) من الشعر وأحدّ من السيف (¬6). ¬
تنبيهات
وأخرج ابن ماجة عنه نحوه مرفوعًا (¬1). وأخرج ابن عساكر (¬2) عن الفضيل بن عياض (¬3) -رحمه اللَّه تعالى- قال: "بلغنا أن الصراط مسيرة خمس عشرة ألف سنة خمسة آلاف صعود، وخمسة آلاف هبوط، وخمسة آلاف مستوى أدق من الشعرة وأحدّ من السيف على متن جهنم، لا يجوز عليه إلا ضامر مهزول من خشية اللَّه تعالى" (¬4). والأخبار والآثار في ذلك كثيرة جدًا، واللَّه تعالى أعلم. تنبيهات: الأول: اتفقت الكلمة على إثبات الصراط في الجملة، لكن أهل الحق يثبتونه على ظاهر ما ورد من كونه جسرًا ممدودًا على متن جهنم أحدّ من السيف وأدق من الشعرة، وأحمى من الجمرة. وأنكره أكثر المعتزلة كالقاضي عبد الجبار (¬5) المعتزلي وكثير من أتباعه (¬6)، زعمًا منهم: أنه لا يمكن عبوره، وإن أمكن ففيه تعذيب، ولا عذاب على المؤمنين والصلحاء يوم القيامة، وإنما يراد به طريق الجنة المشار إليه بقوله تعالى: {سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} [محمد: 5 - 6]. ¬
وطريق النار المشار إليه بقوله تعالى: {فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} [الصافات: 23]. ومنهم من حمله على الأدلة الواضحة والمباحات، أو الأعمال الردية ليسأل عنها ويؤاخذ بها (¬1). وكل هذا هذيان وخرافات وبهتان، لوجوب حمل النصوص على حقائقها الظاهرة، وليس العبور على الصراط بأعجب من المشي على الماء (¬2) أو الطيران في الهواء أو الوقوف فيه (¬3). وقد أجاب -صلى اللَّه عليه وسلم- عن سؤال حشر الكافر على وجهه، بأن القدرة صالحة لذلك (¬4). وأنكر العلامة القرافي (¬5) كون الصراط أدق من الشعرة، وأحد من ¬
السيف (¬1) وسبقه إلى ذلك شيخه الإمام العز بن عبد السلام (¬2) وهما ¬
التنبيه الثاني: هل الصراط مخلوق الآن؟
محجوجان بثبوت الأخبار الصحيحة بالألفاظ الصريحة في ذلك، فوجب حملها على ظاهرها كما ثبت ذلك في الصحاح والمسانيد والسنن مما لا يحصى إلا بكلفة من أنه جسر مضروب على متن جهنم يمر عليه جميع الخلائق وهم في جوازه متفاوتون كما مر -واللَّه تعالى الموفق. الثاني: الحق أن الصراط مخلوق الآن. ونقل بعض العلماء (¬1) عن بعض أهل التحقيق أنه يجوز أن يخلقه اللَّه تعالى حين يضرب على متن جهنم، ويجوز أن يكون خلقه حين خلق جهنم، ونحوه في كلام القاضي عياض (¬2). الثالث: من الخرافات الباردة، زعم من زعم أن ماهية الصراط شعرة من شعر جفون مالك خازن النار. فهو كلام تنبؤ عنه الأفهام وتمجه الأوهام وإن نقله مثل الحافظ برهان الدين الحلبي (¬3) فلا يلتفت إليه ولا يعول عليه واللَّه أعلم (¬4). ¬
فصل في ذكر الحساب وتقرير المعاد والرد على من أنكره
فصل في حساب الناس وذكر دخول طائفة من عصاة الأمة النار وخروجهم منها إما برحمة الكريم الغفار، وإما بشفاعة النبي المختار -صلى اللَّه عليه وسلم- وإما بغير ذلك (¬1). اعلم أولًا أن المعاد الجسماني حق واقع وصدق صادع، دل عليه النقل الصحيح والنص الصحيح، ولم يمنعه العقل، ولم يحله فوجب الإيمان بموجبه، وهو أن اللَّه يبعث الموتى من القبور بأن يجمع أجزاءهم الأصلية ويعيد الأرواح إليها، لقوله تعالى: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس: 79]. والآيات القرآنية في ذلك كثيرة جدًا، والأحاديث النبوية طافحة به، فلا جرم لا ينكره إلا كافر ملحد، وزنديق قد عتى وتمرد، وعدم التوفيق. وقد أنكره الطبايعيون (¬2)، والدهرية (¬3)، والملحدة، ويرد إنكارهم النقل ¬
الصريح والعقل الصحيح على ما بينه أهل التحقيق والترجيح. وأنكرت الفلاسفة المعاد الجسماني، بناء منهم على امتناع إعادة المعدوم بعينه (¬1). وأما المعتزلة فوافقوا أهل الحق (¬2) على المعاد الجسماني، بناء منهم على أن المعدوم عندهم شيء فلو لم يقولوا به لأحالوه لأن المعدوم قبل الوجود عندهم قابل للوجود، فكذلك إذا انعدم بعد الوجود. وعند أهل السنة: المعدوم نفي محض، وهم مع ذلك قائلون بجواز إعادته، وللمتكلمين في جواز إعادة الأعراض قولان: جواز إعادتها وهو الحق، لأنه تعالى على كل شيء قدير. والثاني: قول الفلاسفة ومن وافقهم من المعتزلة كأبي الحسين البصري (¬3)، والخوارزمي (¬4)؛ والكرامية (¬5). فالمعاد الجسماني واجب الاعتقاد، ومنكره من أهل الكفر والإلحاد. قال الإمام المحقق ابن القيم في كتابه "الروح" كشيخه شيخ الإسلام وغيرهما ¬
من علماء الحق الأعلام: "معاد الأبدان متفق عليه بين المسلمين واليهود والنصارى" (¬1). وكذا قال الجلال الدواني: (¬2) "معاد الأبدان بإجماع أهل الملل، وبشهادة نصوص القرآن بحيث لا يقبل التأويل" (¬3). وقد أخرج ابن جرير (¬4)؛ وابن المنذر (¬5)، و"ابن أبي حاتم" (¬6)، والإسماعيلي (¬7) في معجمه، والحافظ الضياء (¬8) في المختارة، وابن مردويه (¬9)، والبيهقي (¬10) في البعث والنشور عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما قال: جاء العاص ¬
ابن وائل إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بعظم حائل ففته بيده فقال يا محمد يحيي اللَّه هذا بعد ما أرم؟ قال: نعم يبعث اللَّه هذا ثم يميتك ثم يحييك ثم يدخلك نار جهنم". فنزلت الآيات من آخر يس: {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ} [يس: 77 - 83] إلى آخر السورة (¬1). فهذا نص صريح في الحشر الجسماني، يقلع عرف التأويل بالكلية من قلوب أهل التواني. ولذا قال الفخر الرازي (¬2) "الإنصاف أنه لا يمكن الجمع بين الإيمان بما جاء به النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وبين نفي الحشر الجسماني". وكذا لا يمكن القول بقدم العالم، كما يقول الفلاسفة، وبين الحشر الجسماني. والنشور: يرادف البعث. والحشر لغة: الجمع، والمراد به جمع أجزاء الإنسان بعد التفرق، ثم إحياء الأبدان بعد موتها فيعيد جميع العباد، ويعيدهم بعد إيجادهم بجميع أجزائهم الأصلية وهى التي من شأنها البقاء من أول العمر إلى آخره ويسوقهم إلى محشرهم لفصل القضاء، فكل هذا حق ثابت بالكتاب والسنة وإجماع أهل الحق (¬3). ¬
ففي البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عباس -رضي اللَّه عنهما- قال: سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يخطب على المنبر يقول: "إنكم ملاقوا اللَّه حفاة عراة غرلا {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 104] (¬1). ومثله في الصحيحين أيضًا من حديث عائشة رضي اللَّه عنها (¬2). ومثله أيضًا من حديث أم سلمة أخرجه الطبراني في الأوسط بسند صحيح وفيه: فقالت أم سلمة رضي اللَّه عنها فقلت يا رسول اللَّه واسوأتاه ينظر بعضنا إلى بعض؟ فقال: شغل الناس، فقلت: ما شغلهم؟ قال: نشر الصحائف فيها مثاقيل الذر ومثاقيل الخردل" (¬3). وروي مثله عن أم المؤمنين سودة بنت زمعة -رضي اللَّه عنها-: "شغل الناس {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس: 37]. رواه الطبراني أيضًا ورواته ثقات (¬4). ¬
والحاصل أن إعادة الأجسام حق يجب الإيمان به ثم هذه الإعادة هل هي للعدم المحض، أو التفريق المحض؟ والمشهور أنه جمع متفرق، والأصح أنه إيجاد بعد عدم. وقد نص عليه علماء السنة، وكذا المعتزلة، وهو مذهب أهل التحقيق وباللَّه التوفيق (¬1). فينفخ إسرافيل في الصور (¬2) نفخة البعث والنشور كما جاء في الكتاب العزيز المكنون: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ} [يس: 51]. وقوله تعالى: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر: 68]. وقوله تعالى: {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ} [المدثر: 8 - 10]. وقوله تعالى: {وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ. . .} الآيه [ق: 41 - 42]. قال المفسرون: المنادي هو إسرافيل عليه السلام ينفخ في الصور وينادي أيتها العظام البالية الأوصال والأوصال المتقطعة واللحوم المتمزقة، والشعور المتفرقة إن اللَّه يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء (¬3) وقيل ينفخ إسرافيل وينادي جبريل (¬4). ¬
قال جماعة من المفسرين المكان القريب: صخرة بيت المقدس (¬1). وأخرج الشيخان من حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ما بين النفختين -أي نفخة الصعق، ونفخة البعث أربعون، قيل أربعون يومًا؟ قال أبو هريرة أبيت قيل أربعون شهرًا؟ قال: أبيت. قيل أربعون سنة؟ قال أبيت، ثم ينزل من السماء ماء فينبتون كما ينبت البقل، وليس من الإنسان شيء إلا يبلى إلا عظم واحد وهو عجب الذنب منه يركب الخلق يوم القيامة". وفي رواية لمسلم: إن في الإنسان عظمًا لا تأكه الأرض أبدًا فيه (يركب) (¬2) الخلق يوم القيامة، قالوا: أي عظم هو يا رسول اللَّه؟ قال: عجب الذنب" ورواه مالك وأبو داود والنسائي باختصار (¬3). وروى نحوه الإمام أحمد وابن حبان من حديث أبي سعيد مرفوعًا: قيل وما هو يا رسول اللَّه؟ قال: "مثل حبة خردل منه تنبتون" (¬4). ¬
وفي تفسير الثعلبي (¬1)، وابن عطية (¬2) عن أبي هريرة وابن عباس -رضي اللَّه عنهم-: "إذا مات الناس كلهم في النفخة الأولى أمطر عليهم أربعين عامًا كمني الرجال من تحت العرش يدعى ماء (الحيوان) (¬3) فينبتون من قبورهم بذلك المطر كما ينبت الزرع من الماء حتى إذا استكملت أجسادهم نفخ فيهم الروح ثم يلقى عليهم نومة فينامون في قبورهم، فإذا نفخ في الصور النفخة الثانية قاموا وهم يجدون طعم النوم في أعينهم كما يجده النائم إذا استيقظ من نومه فعند ذلك يقولون {يَاوَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} [يس: 52] (¬4). وفي الصحيحين من حديث أنس -رضي اللَّه عنه- أن رجلًا قال: يا رسول اللَّه، قال اللَّه تعالى: {الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ} [الفرقان: 34] أيحشر الكافر على وجهه؟ قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أليس الذي أمشاه على الرجلين في الدنيا قادرًا على أن يمشيه على وجهه". قال قتادة حين بلغه: بلى وعزة ربنا (¬5). ¬
ثم يقف الناس على أرض "قد مدها اللَّه كما يمد الأديم العكاظي" (¬1) "فهم في ضيق مقامهم فيها كضيق سهام اجتمعت في كنانتها، فالسعيد يومئذ من يجد لقدمه مقامًا، وأكثر الأقدام يومئذ بعضها على بعض (¬2) لأن اللَّه يجمع في ذلك اليوم الأولين والآخرين، ويوم الوقوف أهوال عظيمة وكربات جسيمة تذيب الأكباد وتذهل المراضع وتشيب الأولاد (¬3) وهو حق ثابت ورد به الكتاب والسنة، وانعقد عليه الإجماع وهو يوم القيامة لقيام الناس من قبورهم فيقومون لرب العالمين. ¬
ففي صحيح مسلم عن ابن عمر رضي اللَّه عنهما مرفوعًا في قوله تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين: 6] قال: "يقوم أحدهم في رشحه إلى نصف أذنيه (¬1) قال ابن عمر -رضي اللَّه عنه-: "يقومون مائة سنة" (¬2). ويروى عن كعب (¬3): "يقومون ثلاثمائة سنة" (¬4) وروى أبو يعلى بإسناد صحيح، وابن حبان في صحيحه عن أبي هريرة -رضى اللَّه عنه- عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "يوم يقوم الناس لرب العالمين مقدار نصف يوم من خمسين ألف سنة فيهون ذلك على المؤمن كتدلي الشمس للغروب إلى أن تغرب" (¬5). ¬
وروى الإمام أحمد وأبو يعلى وابن حبان في صحيحه عن أبي سعيد الخدري رضي اللَّه عنه عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه قال: "يومًا كان مقداره خمسين ألف سنة" فقيل ما أطول هذا اليوم، قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "والذي نفسي بيده إنه ليخفف على المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة" (¬1). وقيل: مقدار الوقوف ألف سنة كما رواه الطبراني من حديث ابن عمر مرفوعًا ولفظه: "أما مقام الناس بين يدى رب العالمين فألف سنة لا يؤذن لهم" (¬2). وأخرج البيهقي عنه مرفوعًا: "يمكثون ألف عام في الظلمة يوم القيامة لا يكلمون" (¬3). وروى ابن أبي الدنيا والطبراني من طرق أحدها صحيح والحاكم، وقال صحيح الإسناد عن ابن مسعود رضي اللَّه عنه عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "يجمع اللَّه الأولين والآخرين لميقات يوم معلوم قيامًا أربعين سنة شاخصة أبصارهم ينتظرون فصل القضاء. . ." (¬4) الحديث. ¬
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- مرفوعًا: "يعرق الناس يوم القيامة حتى يذهب عرقهم في الأرض سبعين ذراعًا ويلجمهم حتي يبلغ آذانهم. وفي بعض ألفاظ الصحيح: "سبعين باعًا" (¬1). وفي مسلم عن المقداد رضي اللَّه عنه، قال: سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "إذا كان يوم القيامة أدنيت الشمس من العباد حتى تكون قدر ميل أو ميلين قال: فتصهرهم الشمس فيكونون في العرق كقدر أعمالهم منهم من يأخذه إلى عقبيه، ومنهم من يأخذه إلى حقويه، ومنهم من يلجمه إلجامًا" (¬2). قال ابن مسعود -رضي اللَّه عنه-: "الأرض كلها نار يوم القيامة، والجنة من ورائها كواعبها وأكوابها، والذي نفس عبد اللَّه بيده إن الرجل ليفيض عرقًا حتى (يسيح) (¬3) في الأرض قامته ثم يرتفع حتى يبلغ أنفه وما مسه الحساب، قالوا مم ذاك يا أبا عبد الرحمن، قال: مما يرى الناس" (¬4). ¬
رواه الطبراني بإسناد جيد قوي. وروى الطبراني عن ابن مسعود رضي اللَّه عنه أيضًا مرفوعًا: "إن الرجل ليلجمه العرق يوم القيامة فيقول: يا رب أرحني ولو إلى النار". ورواه أبو يعلى وابن حبان بلفظ: "إن الكافر ليلجمه العرق" (¬1). وأخرج الحاكم وصححه عن جابر -رضي اللَّه عنه- مرفوعًا: " (إن العرق) (¬2) ليلزم المرء في الموقف حتى يقول: يا رب إرسالك بي إلى النار أهون عليَّ مما أجد، وهو يعلم ما فيها من شدة العذاب" (¬3). ثم يقع الحساب والفصل بين العباد بشفاعة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- التي هى لفصل القضاء، وهي الشفاعة العظمى التي يتدافعها ذوو (العزم) (¬4) من الأنبياء من آدم إلى نوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام إلى أن تنتهى إلى نبينا -صلى اللَّه عليه وسلم- فيقول أنا لها ¬
وهي المقام المحمود الذي يحمده عليه الأولون والآخرون، وهي تعم جميع أهل الموقف لأجل إراحتهم من ألم الوقوف والشروع في الحساب، وأحاديثها بلغت التواتر (¬1). وهذه الشفاعة مجمع عليها لم ينكرها أحد ممن يقول بالحشر من هذه الأمة، إذ هي للإراحة من طول الوقوف. ثم الحساب: مصدر حاسب وحسب الشيء يحسبه بالضم إذا عده وهو معنى قول من قال الحساب لغة: العد. واصطلاحًا: توقيف اللَّه عباده قبل الإنصراف من المحشر على أعمالهم خيرًا كانت أو شرًا تفضيلًا. قال الثعالبي: الحساب (¬2) تعريف اللَّه عز وجل الخلائق مقادير الجزاء على أعمالهم (وتذكيره إياهم) (¬3) ما قد نسوه من ذلك كما دل عليه قوله تعالى: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} [المجادلة: 6]. ¬
فيكلم اللَّه تعالى عباده في شأن أعمالهم، وما لها من الثواب وما عليها من العقاب (¬1) كما ورد ذلك في السنة (الصحيحة المريحة) (¬2) ومحكم الكتاب. قال القرطبي كغيره من أهل العلم: إن اللَّه سبحانه يكلم المسلمين عند الحساب من غير ترجمان (¬3) إكرامًا لهم ولا يكلم الكافرين، بل تحاسبهم الملائكة إهانة لهم وتمييزًا لأهل الكرامة (¬4) فإذا خلصوا من الحساب وصاروا إما إلى الجنة وإما إلى النار وهي -يعني النار- (¬5) دار الكفار بالأصالة. وربما دخلها طوائف من المسلمين من أهل المعاصي وكبائر الذنوب فيعذبون فيها بذنوبهم، ثم تدركهم رحمة أرحم الراحمين وشفاعة النبيين (والصدقين) (¬6) فيخرجون منها. . . والى هذا أشار الناظم بقوله: (وقل) (¬7) أيها المؤمن بالقرآن وبالنبي المصطفى سيد ولد عدنان، وبما جاء به من الشريعة الواضحة البرهان الفاضحة ¬
الأحاديث الواردة في دخول بعض العصاة النار وخروجهم منها بالشفاعة وبرحمة أرحم الراحمين
لأهل الإفك والزيغ والبهتان من سائر الملل والأديان مفصحًا بلسانك ومعتقدًا بجنانك، منقادًا بسائر جوارحك وأركانك (يخرج اللَّه العظيم بفضله) (¬1) العميم وكرمه الجسيم وعفوه الفخيم (من النار) المعهودة التي هى نار جهنم الموقودة (أجسادًا) بعد دخولها فيها وإصابتها من عذابها ما تستحقه منها. كما في صحيح مسلم والحاكم من حديث سمرة بن جندب -رضي اللَّه عنه- أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "إن من أهل النار من تأخذه النار إلى كعبيه ومنهم من تأخذه إلى ركبتيه، ومنهم من تأخذه إلى حجزته (¬2) ومنهم من تأخذه إلى ترقوته" (¬3) (¬4). وفي صحيح مسلم عن جابر -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يدخل قوم النار من هذه الأمة فتحرقهم النار إلا دارت وجوههم ثم يخرجون منها" (¬5). وأخرج مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أما أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون، ولكن ناس ¬
أصابتهم النار بذنوبهم فأماتتهم إماتة حتى إذا كانوا فحمًا أذن بالشفاعة فجيء بهم ضبائر ضبائر". قال في النهاية: "أي جماعات في تفرقة واحدتها ضبارة مثل عمارة وعماير وكل مجتمع ضبارة". وفي رواية أخرى: "فيخرجون ضبارات ضبارات" هو جمع صحة للضبارة والأول جمع تكسير" انتهى (¬1). "فبثوا على أنهار الجنة". وهو معنى قول الناظم: (من الفحم): أي بعد ما صاروا فحمًا، والفحم: محركة وبسكون الحاء المهملة، وكأمير: الجمر الطافي والفحمة واحدته (¬2). (تطرح): أي ترمى وتلقى، يقال طرحه وطرح به كمنعه رماه وأبعده كطرحه واطرحه (¬3) -كما في القاموس- (¬4). (على النهر): متعلق بتطرح (في) جنة (الفردوس): وهذا معنى حديث أبي سعيد الخدري -رضي اللَّه عنه- المذكور: "فجيء بهم ضبائر ضبائر فبثوا على أنهار الجنة (ثم قيل) (¬5) يا أهل الجنة أفيضوا عليهم فينبتون نبات الحبة ¬
في حميل (¬1) السيل" (¬2). وهو المراد بقول الناظم رحمه اللَّه تعالى: (تحيا) تلك الأجساد بعد ما صارت فحمًا وطرحت على النهر الذي هو في جنة الفردوس بإصابة (مائة) أي ماء ذلك النهر لتلك الأجساد، وتنبت تلك الأجساد بسيلان ماء أنهار الجنة عليها كما تنبت (حبة حمل السيل) أي الحبة التي يحملها السيل (إذ جاء) ذلك (¬3) السيل: أي وقت مجيئه. (يطفح): أي يفيض، يقال: طفح الإناء كمنع طفحًا، وطفوحًا امتلأ وارتفع وإناء طفحان يفيض من جوانبه. قوله: (¬4) نبات الحبة: أي بكسر الحاء المهملة: بزر البقول والرياحين ونحوها. وأما ما تفتح حاؤه فهو ما يبذر، ذكره الحافظ المنذري (¬5). وقوله: (في حميل السيل) يعني بفتح الحاء المهملة وكسر الميم هو الزبد وما يقبله على شاطئه ومثله الغثاء. قال: في النهاية: "الغثاء بالضم والمد ما يجيء فرق السيل مما يحمله من الزبد والوسخ وغيره". ¬
قال: وفي كتاب مسلم "كما تنبت الغثاة" يريد ما احتمله السيل من البزورات ومنه حديث الحسن: "هذا الغشاء الذي كنا نحدث عنه" يريد أراذل الناس وسقطهم" (¬1). وأخرج البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري -رضي اللَّه عنه- أيضًا- عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "حتى إذا خلص المؤمنون من النار فوالذي نفسي بيده ما من أحد منكم بأشد مناشدة للَّه تعالى في استيفاء الحق من المؤمنين للَّه تعالى يوم القيامة لإخوانهم الذين في النار يقولون ربنا كانوا يصومون ويصلون معنا ويحجون، فيقال لهم أخرجوا من عرفتم فتحرم صورهم على النار فيخرجون خلقًا كثيرًا قد أخذت النار أنصاف ساقية وإلى ركبتيه فيقولون: ربنا ما بقى فيها أحد مما أمرتنا به فيقول: ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من خير فأخرجوه فيخرجون خلقًا كثيرًا، ثم يقولون ربنا لم نذر ممن أمرتنا به، فيقول: ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار. . ." الحديث. ثم "مثقال ذرة". وكان أبو سعيد يقول: إن لم تصدقوني بهذا الحديث فاقرأوا إن شئتم {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 40]. فيقول اللَّه تعالى: شفعت الملائكة وشفع النبيون وشفع المؤمنون ولم يبق إلا أرحم الراحمين، فيقبض قبضة من النار فيخرج بها قومًا لم يعملوا خيرًا قط قد عادوا حمما فيلقيهم في نهر في أفواه الجنة يقال له نهر الحياة فيخرجون ¬
كما تخرج الحبة في حمل السيل (¬1) (¬2). قال الحافظ ابن رجب (¬3) في كتابه "صفة النار" (¬4) المراد بقوله -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يعملوا خيرًا قط من أعمال الجوار وإن كان أصل التوحيد معهم، ولهذا جاء في حديث الذي أمر أهله أن يحرقوه بعد موته بالنار أنه لم يعمل خيرًا قط غير التوحيد. أخرجه الإمام أحمد من حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- مرفوعًا" (¬5). وأخرج الحاكم بسند صحيح من حديث أبي سعيد الخدري أيضًا -رضي اللَّه عنه- عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. . . وفيه: "ومنهم من أخذته (أي النار) إلى عنقه ولم تغش الوجوه" قال: "فيستخرجونهم فيطرحون في ماء الحياة، قيل: يا نبي اللَّه وما ماء الحياة؟ قال: غسل أهل الجنة فينبتون فيها كما تنبت الزرعة في غثاء السيل ثم يشفع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في كل من كان يشهد أن لا إله إلا اللَّه مخلصًا فيستخرجونهم منها ثم يتحنن اللَّه سبحانه برحمته على من فيها فما يترك فيها عبدًا في قلبه مثقال ذرة من الإيمان إلا أخرجه منها" (¬6). ¬
وأخرجاه في الصحيحين عنه مرفوعًا ولفظه: "يدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، ثم يقول اللَّه عز وجل: أخرجوا من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان فيخرجون منها قد اسودوا فيلقون في نهر الحياء أو الحياة بالشك من الإمام مالك فينبتون كما تنبت الحبة في جانب السيل، ألم تر أنها تخرج صفراء ملوية" (¬1). هذا لفظ البخاري. ولفظ مسلم: "فيخرجون منها حممًا قد امتحشوا" (¬2) -أي احترقوا والمحش احتراق الجلد وظهور العظم- كما في النهاية. (¬3). ويروى: "امتحشوا بضم المثناة فوق مبنيًا لما لم يسم فاعله" (¬4). وفي الصحيحين أيضًا من حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "يجمع اللَّه الناس يوم القيامة. . ." الحديث وفيه: "حتى إذا فرغ تعالى من القضاء بين العباد، وأراد أن يخرج برحمته من أراد من أهل النار أمر الملائكة أن يخرجوا من النار من كان لا يشرك باللَّه شيئًا ممن دخل النار يعرفونهم بأثر السجود تأكل النار من ابن آدم إلا أثر السجود، حرم اللَّه على النار أن تأكل أثر السجود فيخرجون من النار قد امتحشوا فيصب عليهم ماء الحياة فينبتون فيه كما تنبت الحبة في حميل السيل" (¬5). ¬
وظاهر ما قدمنا من الأخبار الصحيحة والآثار الصريحة على أن هؤلاء يموتون حقيقة وتفارق أرواحهم أجسادهم، ويدل له أيضًا ما أخرجه البزار عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- مرفوعًا: "إن أدنى أهل الجنة حظًا أو نصيبًا قوم يخرجهم اللَّه تعالى من النار فيرتاح لهم الرب تبارك وتعالى وذلك أنهم كانوا لا يشركون باللَّه شيئًا فينبذون بالعراء فينبتون كما ينبت البقل حتى إذا دخلت الأرواح أجسادهم فيقولون ربنا (كما) (¬1) أخرجتنا من النار ورجعت الأرواح إلى أجسادنا فاصرف وجوهنا عن النار فيصرف وجوههم عن النار" (¬2). قال القرطبي -رحمه اللَّه تعالى-: في قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فأماتهم اللَّه إماتة، هذه الموتة للعصاة موتة حقيقية لأنه أكدها بالمصدر وذلك تكريمًا لهم حتى لا يحسوا بالعذاب" قال: فإن قيل فأي فائدة حينئذ في إدخالهم النار وهم لا يحسون بالعذاب؟. فالجواب يجوز أن يدخلهم تأديبًا لهم وإن لم يذوقوا فيها العذاب ويكون صرف نعيم الجنة عنهم مدة كونهم فيها عقوبة لهم كالمحبوسين في السجن فإن السجن عقوبة لهم، وإن لم يكن من غل ولا قيد، قال: ويحتمل أنهم يعذبون أولًا وبعد ذلك يموتون ويختلف حالهم في طول التعذيب بحسب جرائمهم وآثامهم ويجوز أن يكونوا متألمين حالة موتهم غير أن آلامهم أخف من آلام الكفار (لأن آلام) (¬3) الكفار المعذبين وهم موتى أخف من عذابهم وهم أحياء دليله قوله تعالى: {وَحَاقَ ¬
تنبيه في الإشارة إلى مذهب المعتزلة والخوراج وقولهم بخلود أهل المعاصي في النار وإنكارهم الشفاعة والرد عليهم
بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ. . .} إلى قوله: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 45 - 46]. فأخبر أن عذابهم إذا بعثوا أشد من عذابهم وهم موتى (¬1). وقال في "مطامح الأفهام" (¬2): "يجوز أن يريد بالإماتة المذكورة أنه أنامهم وقد سمى اللَّه تعالى النوم وفاة (¬3) لأن فيه نوعًا من إعدام الحس وفي الحديث المرفوع: "إذا أدخل اللَّه الموحدين النار أماتهم فيها فإذا أراد أن يخرجهم منها أمسهم العذاب تلك الساعة" (¬4). والمختار ما ذكره القرطبي (¬5) من كون الإماته حقيقة أن يكونوا عذبوا قبل الإماتة حتى ماتوا من ألم العذاب لطفًا بهم ورحمة (¬6) واللَّه أعلم. تنبيه: أشار الناظم رحمه اللَّه تعالى بقوله: "وقل يخرج اللَّه العظيم بفضله من ¬
النار. . ." إلخ إلى خلاف الخوارج والمعتزلة. فالخوارج يكفرون عصاة الأمة. والمعتزلة يقولون بخروجهم من الإسلام وعدم دخولهم في الكفر فيثبتون منزلة بين منزلتي الإيمان والكفر، ومع ذلك يخلدونهم في النار إذا لم يتوبوا فعند الخوارج والمعتزلة جميعًا أن من دخل النار لا يخرج منها أبدًا، بل كل من دخلها يخلد فيها أبد الآباد محتجين بظاهر قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} [البقرة: 48]. وبقوله تعالى: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر: 18]. فزعموا أن كل من دخل جهنم يخلد فيها لأنه إما كافر، أو صاحب كبيرة مات بلا توبة، هذا رأيهم ورأي من وافقهم وهو فاسد ومذهب مبطل معاند ترده الأخبار الصحيحة والآثار الصريحة وإجماع أهل الحق أيدهما اللَّه تعالى رحمة للخلق. وأجابوا عن الآية الكريمة أن المراد بقوله تعالى: {لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} الكفار للآيات الواردة والأخبار الثابتة في الشفاعة. قال القاضي البيضاوي: (¬1) "تمسكت المعتزلة بهذه الآية على نفي الشفاعة لأهل الكبائر، وأجيب بأنها مخصوصة بالكفار، ويؤيد هذا أن سياق الخطاب معهم، والآية نزلت ردًا لما كانت اليهود تزعم أن آباءهم تشفع لهم" انتهى (¬2). وأجابوا أيضًا عن قوله تعالى: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ} أن ¬
المراد بالظالمين الكفار، فإن الظالم على الإطلاق هو الكافر. وزعمت (¬1) المعتزلة أيضًا في قوله تعالى: {إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} [آل عمران: 192]، {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28]. {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم: 26] ومن أخزاه اللَّه لا يرتضيه، ومن ارتضاه لا يخزيه، قال تعالى: {يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ. . .} [التحريم: 8]. والجواب عن الآية الأولى ما قال سيدنا أنس بن مالك -رضي اللَّه عنه- خادم رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- معنى (من تدخل): من تخلد" (¬2). وقال قتادة: "تدخل مقلوب تخلد ولا نقول كما قالت أهل حرورا (¬3) -يعني الخوارج-" (¬4). فعلى هذا قوله: {فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} على باب من الهلاك أي أهلكته وأبعدته ومقته. ¬
ولهذا قال سعيد بن المسيب: "الآية جاءت خاصة في قوم لا يخرجون من النار" (¬1). دليله قوله تعالى في الآية الأخرى: {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} أي الكفار، وإن سلم أن الآية في عصاة الموحدين، فالمراد بالخزي: الحياء، يقال: خزي خزاية إذا استحى فهو خزيان وامرأة خزيا فخزى المؤمنين يومئذ استحياؤهم من دخول النار، ودار البوار مع أهل الشرك والكفار ثم يخرجون بشفاعة النبي الكريم ورحمة الرؤوف الرحيم (¬2). وفي النصرة لا يستلزم نفي الشفاعة لأنها طلب مع خضوع والنصرة ربما تنبني بالمدافعة والممانعة (والاستعلا) (¬3) على أننا نقول لا يسلم لهم زعمهم أن الفاسق غير مرضي مطلقا بل هو مرضي من جهة الإيمان والعمل الصالح وإن كان مبغوضًا من جهة الذنوب والعصيان وارتكاب القبائح، بخلاف الكافر فإنه ليس بمرضى مطلقًا لعدم الأساس الذي تنبني عليه الحسنات والاعتداد بالكمالات وهو الإيمان (¬4). والحاصل أن من الواجب اعتقاده أن اللَّه تعالى يخرج من النار بفضله وبشفاعة أنبيائه وأهل القرب منه كل موحد وإن كان فاسقًا ولو لم يتب خلافًا للخوارج والمعتزلة (¬5) واللَّه أعلم. ¬
فصل في الشفاعة وأنواعها وإثباتها بالبرهان
فصل في الشفاعة وأنواعها وإثباتها بالبرهان القطعي ولما ذكر الناظم -رحمه اللَّه تعالى- أن من الواجب اعتقاد خروج من يدخل النار من عصاة الموحدين منها ناسب ذكر شفاعة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في عصاة أمته وأهل الكبائر منهم فقال: (و) قل بلسانك معتقدًا بجنانك (إن رسول اللَّه) -صلى اللَّه عليه وسلم- والرسول: إنسان أوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه، فإن لم يؤمر بتبليغه فهو نبي فقط، فإذًا كل رسول نبي بلا عكس (¬1). ورسل اللَّه صلوات اللَّه وسلامه عليهم على ما في حديث أبي ذر -رضي اللَّه عنه- عند ابن حبان في صحيحه: ثلاثمائة وثلاثة عشر أولهم آدم عليه السلام وخاتمهم نبينا محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- وعليهم أجمعين. وأما الأنبياء فمائة ألف نبي وأربعة وعشرون ألفا (¬2). ¬
وقد اعترض جماعة من الحفاظ على ابن حبان لإدخاله هذا الحديث في صحيحه. واللَّه أعلم. (للخلق): جميعًا. . . (¬1) الجار والمجرور متعلق بقوله: (شافع) الشفاعة العامة التي هي لفصل القضاء كما تقدم. والشفاعة لغة: الوسيلة والطلب. وشرعًا: سؤال الخير للغير. كذا عرفها بعضهم، والأليق أنها مشتقة من الشفع ضد الوتر فكأنَّ الشافع ضم سؤاله إلى سؤال المشفوع له من شفع يشفع بفتح العين المهملة شفاعة فهو شافع وشفيع، والمشفع بكسر الفاء الذي يقبل الشفاعة، فالشفاعة التي هى لعموم الخلق هي الشفاعة العظمى التي يشفع فيها لأهل الموقف حتى يقضى بينهم بعد أن يتدافعها الأنبياء أصحاب الشرائع آدم إلى نوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام. ¬
وقد وردت من عدة أوجه عن جماعة من الصحابة -رضي اللَّه عنهم- عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- منهم: أبو بكر وأنس وأبو هريرة وابن عباس وابن عمر وحذيفة وعقبة بن عامر وأبي سعيد الخدري وسلمان الفارس -رضي اللَّه عنهم- فهؤلاء ورد أمر الشفاعة في أحاديثهم مطولًا، وورد أيضًا مختصرًا من حديث أبي بن كعب وعبادة ابن الصامت وجابر بن عبد اللَّه، وعبد اللَّه بن سلام وغيرهم رضوان اللَّه عليهم أجمعين (¬1). فشفاعة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من السمعيات وردت بها الأخبار وصحت بها الآثار حتى بلغت مبلغ التواتر وانعقد عليها إجماع أهل الحق من السلف الصالح قبل ظهور المبتدعة، لكن تقدم أن هذه الشفاعة التي هى لفصل القضاء وإراحة الخلق من طول الوقوف مجمع عليها (¬2). وقد ثبت للنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- الاختصاص بعدة شفاعات سواها منها: أنه يشفع -صلى اللَّه عليه وسلم- لقوم من أمته أن يدخلهم الجنة بغير حساب وقد روى حديث هذه الشفاعة مسلم في صحيحه (¬3). ¬
وجزم بالاختصاص جماعة فهم القاضي عياض والنووى والجلال السيوطي وغيرهم (¬1). ¬
ومنها شفاعته -صلى اللَّه عليه وسلم- في قوم استوجبوا النار بأعمالهم، فيشفع فيهم فلا يدخلونها، وقد جزم جماعة بعدم اختصاصه بها، إذ لم يرد نص صريح والأصل عدمه. نعم جزم الحافظ السيوطي في "أنموذج اللبيب" (¬1) أنها من خصائصه. ومنها شفاعته -صلى اللَّه عليه وسلم- في رفع درجات أناس في الجنة، وهذه لا تنكرها المعتزلة كالأولى. ومنها شفاعته في إخراج عموم أمته من النار حتى لا يبقى منهم أحد، ذكره غير واحد من العلماء (¬2). وكذا يشفع لجماعة من صلحاء المسلمين ليتجاوز عنهم في تقصيرهم في الطاعات كما ذكره القزويني (¬3) في كتابه المسمى بالعروة الوثقى. وباللَّه التوفيق. تنبيه: الشفاعة التي تنكرها المعتزلة وتجحدها هى فيمن استحق النار من المؤمنين أن لا يدخلها وفيمن دخلها منهم أن يخرج منها، لزعمهم أن انفاذ الوعيد واجب عليه تعالى فكذّبت المبتدعة بشفاعة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ونفتها مع ثبوت أدلتها وتظافر حججها مما ربما يعسر إحصاؤه ويتعذر استقصاؤه. ¬
وقد أخرج البخاري عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- أنه خطب فقال: "سيكون في هذه الأمة قوم يكذّبون بالرجم، وبالدجال، ويكذّبون بطلوع الشمس من مغربها، ويكذبون بعذاب القبر، ويكذبون بالشفاعة، ويكذبون بقوم يخرجون من النار بعد ما امتحشوا" (¬1). وأخرح سعيد بن منصور (¬2) والبيهقي وهناد (¬3) عن أنس -رضي اللَّه عنه- قال: "من كذّب بالشفاعة فلا نصيب له فيها، ومن كذب بالحوض فليس له فيه نصيب". (¬4). ¬
وأخرج البيهقي عنه أيضًا -رضي اللَّه عنه- أنه قيل له: إن قومًا يكذّبون بالشفاعة قال: "لا تجالسوا أولئك" (¬1). وأخرج عنه أيضًا قال: "يخرج قوم من النار ولا نكذب بها -أي الشفاعة- كما يكذّب بها أهل حرورا -يعني الخوارج-" (¬2). وأخرج البيهقي أيضًا عن شبيب بن فضالة المكي (¬3) قال ذكروا عند عمران بن حصين الشفاعة (¬4) فقال رجل يا أبا نجيد إنكم تحدثوننا أحاديث لم نجد لها أصلًا في ¬
القرآن، فغضب عمران، وقال للرجل أقرأت القرآن؟ قال: نعم، قال: فهل وجدت صلاة العشاء أربعًا، وصلاة المغرب ثلاثًا، والغداة ركعتين، والظهر أربعًا، والعصر أربعًا؟ قال: لا، فقال فعمن أخذتم هذا ألستم عنا أخذتموه، وأخذناه عن نبي اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وفي كل أربعين درهمًا درهم، وفي كل كذا شاة، وفي كل كذا بعير، أوجدتم في القرآن هذا؟ قال: لا، قال: ووجدتم في القرآن {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] أوجدتم طوفوا سبعًا، واركعوا ركعتين، خلف المقام، أوجدتم هذا في القرآن؟ عمن اخذتموه؟ ألستم أخذتموه عنا وأخذناه عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، قال: بلى، قال: أوجدتم في القرآن "لا جلب (¬1) ولا جنب (¬2) ولا شغار (¬3) في الإسلام؟ قالوا: لا. قال: فإن اللَّه تعالى قال في كتابه {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]، وإنّا قد أخذنا عن نبي اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أشياء ¬
لم يكن لكم بها علم" (¬1). وفي صحيح مسلم عن عبد اللَّه بن عمرو -رضي اللَّه عنهما- أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- تلى قول اللَّه عز وجل في إبراهيم: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [إبراهيم: 36]. وقول عيسى: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 118] فرفع يديه وقال: "أمتي أمتي ثم بكى فقال اللَّه تعالى يا جبريل اذهب إلى محمد فقل له: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسؤك" (¬2). وأخرج البزار والطبراني في الأوسط وأبو نعيم بسند حسن عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي اللَّه عنه- أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "اشفع لأمتي حتى ينادي ربي تبارك وتعالى أرضيت يا محمد؟ فأقول أي رب رضيت" (¬3). ¬
وأخرج الترمذي وابن ماجة والحاكم وصححه وابن حبان في صحيحه والبيهقي والطبراني عن عوف بن مالك الأشجعي -رضي اللَّه عنه- عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "إن ربي خيرني بين أن يدخل نصف أمتي الجنة". وفي لفظ: "ثلثي أمتي الجنة بغير حساب، ولا عذاب وبين الشفاعة لأمتي فأخترت الشفاعة، قال وهي لكل مسلم" (¬1). وروى نحوه الإمام أحمد والطبراني والبزار بسند جيد من حديث معاذ بن جبل -رضي اللَّه عنه- وفيه "وعلمت أنها أوسع لهم وهي لمن مات لا يشرك باللَّه شيئًا" (¬2). ¬
وأخرج الطبراني مثله من حديث أنس -رضي اللَّه عنه- (¬1). وروى نحوه الإمام أحمد والطبراني أيضًا والبيهقي بسند صحيح من حديث ابن عمر -رضي اللَّه عنهما- وفيه: "فاخترت الشفاعة لأنها أعم وأكفأ أترونها للمتقين، ولكنها للمذنبين الخطائين المتلوثين" (¬2). وأخرج الإمام أحمد والبيهقي والطبراني في الأوسط عن بريدة -رضي اللَّه عنه- قال: سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "إني أشفع يوم القيامة لأكثر مما على وجه الأرض من حجر ومدر" (¬3). وأخرجه الطبراني أيضًا في الأوسط من حديث (أنيس) الأنصاري بلفظ: ¬
"لأكثر مما على وجه الأرض من حجر ومدر" (¬1). وأخرج البخاري عن عمران بن حصين -رضي اللَّه عنه- عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "يخرج قوم من النار بشفاعة محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- ويدخلون الجنة ويسمون الجهنميين" (¬2). وأخرج البخاري ومسلم من حديث جابر -رضي اللَّه عنه- قال: سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "إن اللَّه يخرج قومًا من النار بالشفاعة فيدخلهم الجنة" (¬3). وأخرج أبو داود والترمذي والحاكم والبيهقي وصححوه عن أنس بن مالك -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "شفاعتى لأهل الكبائر من أمتي" (¬4). ¬
وأخرج الطبراني عن عبد اللَّه بن بسر -رضي اللَّه عنه- أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "شفاعتي في أمتي للمذنبين المثقلين" (¬1). والطبراني أيضًا وأبو نعيم عن أبي أمامة -رضي اللَّه عنه- أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "نعم الرجل أنا لشرار أمتي، قيل: كيف يا رسول اللَّه؟ قال: أما شرار أمتي فيدخلهم اللَّه الجنة بشفاعتي، وأما خيارهم فيدخلهم الجنة بأعمالهم" (¬2). وعن ابن عباس -رضي اللَّه عنهما- أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي". قال ابن عباس -رضي اللَّه عنهما-: "السابق بالخيرات يدخل الجنة بغير حساب، والمقتصد يدخل الجنة برحمة اللَّه، والظالم لنفسه وأهل الأعراف يدخلون الجنة بشفاعة محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-" (¬3). ¬
وفي أوسط الطبراني عن ابن عمر -رضي اللَّه عنهما- مرفوعًا: "إني ادخرت شفاعتى لأهل الكبائر من أمتي" (¬1). وفي الكبير عن أم سلمة -رضي اللَّه عنها- قالت: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أعملي ولا تتكلي فإن شفاعتى للهالكين من أمتي" (¬2). وأخرج الترمذي والحاكم والبيهقي عن جابر -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي". قال جابر -رضي اللَّه عنه-: "من زادت حسناته على سيئاته فذاك الذي يدخل الجنة بغير حساب، ومن استوت حسناته وسيئاته فذاك الذي يحاسب حسابًا يسيرًا ثم يدخل الجنة؛ وإنما شفاعة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لمن أوبق نفسه وأغلق ظهره" (¬3). ¬
وأخرج (¬1) عن أنس -رضي اللَّه عنه- قال: قلنا يا رسول اللَّه لمن تشفع؟ قال: "لأهل الكبائر من أمتي وأهل العظائم وأهل الدماء" (¬2). وأخرج عن كعب بن عجرة مرفوعًا: "شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي" (¬3). وأخرج عن طاووس قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي" (¬4). قال البيهقي: هذا مرسل حسن يشهد لكون هذه اللفظة شائعة. وأخرج ابن أبي عاصم عن أنس مرفوعًا "ما زلت أشفع إلى ربي ويشفعني، وأشفع ويشفعني حتى أقول أي رب شفعني فيمن قال لا إله إلا اللَّه فيقول هذا ليس لك يا محمد، ولا لأحد وهذه لي وعزتي وجلالي ورحمتي لا أدع في النار أحدًا يقول لا إله إلا اللَّه" (¬5). ¬
وأخرج الطبراني في الكبير، والبيهقي عن ابن مسعود -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ليدخلن الجنة قوم من المسلمين قد عذبوا في النار برحمة اللَّه وشفاعة الشافعين" (¬1). وأخرج الإمام أحمد والبيهقي من حديث حذيفة نحوه (¬2). وقال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أنا أول شافع وأول مشفع" رواه عنه أبو هريرة أخرجه مسلم (¬3). وجابر بن عبد اللَّه أخرجه البيهقي (¬4). ¬
وعبد اللَّه بن سلام أخرجه البيهقي (¬1). وغير هؤلاء من الصحابة -رضوان اللَّه عليهم-. فيشفع يوم القيامة سائر الرسل والأنبياء والملائكة عليهم السلام والصحابة والشهداء والصديقون وهم العلماء والأولياء على اختلاف مراتبهم ومقاماتهم عند ربهم يشفعون (وبقدر جاههم ودرجاتهم) (¬2). يشفعون لثبوت الأخبار وترادف الآثار وهو أمر جائز فوجب تصديقه والقول بموجبه. وقد أخرج الطبراني في الأوسط عن أنس -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يشفع اللَّه آدم يوم القيامة من جميع ذريته في مائة ألف ألف وعشرة الآف ألف" (¬3). وأخرج ابن أبي عاصم والأصبهاني عن أبي أمامة مرفوعًا "يجاء بالعالم والعابد فيقال للعابد أدخل الحنة، ويقال للعالم قف حتى تشفع للناس" (¬4). ¬
ورواه البيهقي من حديث جابر وزاد في آخره: "بما كنت أحسنت أدبهم" (¬1). وأخرج الديلمي من حديث ابن عمر مرفوعًا: "يقال للعالم أشفع في تلامذتك ولو بلغ عددهم نجوم السماء" (¬2). وأخرج أبو داود وابن حبان عن أبي الدرداء -رضي اللَّه عنه- (¬3) سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "الشهيد يشفع في سبعين من أهل بيته" (¬4). وأخرج نحوه الإمام أحمد والطبراني من حديث عبادة بن الصامت -رضي اللَّه عنه- (¬5). ¬
والترمذي وابن ماجة من حديث (المقدام) (¬1) بن معديكرب (¬2). وأخرج البزار والبيهقي بسند صحيح عن أنس -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن الرجل ليشفع في الرجل والرجلين والثلاثة يوم القيامة" (¬3). وأخرج الترمذي والحاكم وصححاه والبيهقي عن عبد اللَّه بن أبي الجدعاء -رضي اللَّه عنه- قال: سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "ليدخلن الجنة بشفاعة رجل من أمتي أكثر من بني تميم، قالوا: سواك يا رسول اللَّه، قال: سواي" (¬4). قال الفريابي (¬5) يقال: إنه عثمان بن عفان -رضي اللَّه عنه- (¬6). ¬
وأخرج الإمام أحمد، والطبراني، والبيهقي بسند صحيح عن أبي أمامة -رضي اللَّه عنه- أنه سمع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "ليدخلن الجنة بشفاعة رجل ليس بنبي (¬1) مثل الحيين ربيعة ومضر" زاد في رواية: "بشفاعة رجل من أمتي" (¬2). وأخرج الترمذي وحسنه والبيهقي عن أبي سعيد الخدري -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن من أمتي لرجالًا يشفع الرجل منهم في الفئام من الناس فيدخلون الجنة بشفاعته ويشفع الرجل منهم للقبيلة فيدخلون الجنة بشفاعته ويشفع الرجل منهم (للرجل) (¬3) وأهل بيته فيدخلون الجنة بشفاعته" (¬4). قوله في الحديث: "الفئام من الناس": "هو بكسر الفاء مهموز الجماعة الكثيرة". وقد تكرر في الحديث كما في النهاية (¬5). وفي القاموس: "الفئام ككتاب الجماعة من الناس لا واحد له من لفظه" (¬6). ¬
وأخرج البزار عن أبي موسى الأشعري -رضي اللَّه عنه- أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "الحاج يشفع في أربعمائة من أهل بيته" (¬1). والحاصل أن للناس شفاعات يوم القيامة عند ربهم بقدر أعمالهم وعلو مراتبهم وقربهم من اللَّه تبارك وتعالى. (والقرآن يشفع (¬2) لأهله) (¬3). والإسلام يشفع لأهله (¬4). والحجر الأسود يشفع لمستلمه (¬5). ¬
ولكن {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء: 28]. {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255]. وقد ورد في هذا الباب ما يزيد على الإسهاب، وقد ذكرنا ما لعله يقلع شروش (¬1) الاختلاج (¬2) من خواطر من أذعن للنصوص النبوية والآثار المصطفوية، ولم يجنح لأهل الزيع والاعوجاج وخلع ربقة التقليد من عنقه ولم يتماد مع هواه وحمقه. فالنصوص متواترة والآثار متظافرة، والعقل الصحيح (لا يحيد عن ذلك) (¬3) والنقل الصريح ناطق بما هنالك. فدع عنك نحلة أهل البدع والضلال وانهج سبيل من اتبع أهل الحق تسلم من الوبال، فإثبات الشفاعة حق لازم وصدق جازم فلا عقل يحيله ولا نقل يزيله، وما ¬
بقية في الكلام على عذاب القبر ونعيمه
كان هذا سبيله فهو الحصن الحصين، وباللَّه التوفيق (¬1). وقول الناظم -رحمه اللَّه تعالى-: (وقل) بلسانك معتقدًا بجنانك (إن عذاب القبر) واحد القبور ويجمع أيضًا جمع قله على أقبر، ويقال لمدفن الموتى مقبر. قال الشاعر: (¬2) لكل أناس مقبر في فنائهم ... فهم ينقصون والقبور تزيد قال القرطبي: اختلف في أول من سن القبر، فقيل الغراب في قصة قتل هابيل، وقد قيل: إن قابيل كان يعرف الدفن، ولكن ترك أخاه استخفافًا به، فبعث اللَّه الغراب ليبحث في الأرض -يعني التراب- على هابيل ليدفنه كذا في التذكرة (¬3). وقيل: إن اللَّه بعث غرابين فاقتتلا فقتل أحدهما الآخر ثم حفر له حفرة فدفنه، ففعل قابيل بأخيه كذلك، فكان ندمه لعدم هدايته أن يفعل كما فعل الغراب فصار الدفن سنة في بني آدم (¬4). وفي التنزيل: {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} [عبس: 21] أي جعل له قبرًا يوارى فيه إكرامًا له، ولم يجعله مما يلقى على وجه الأرض تأكله الطير والعوافي (¬5). (بالحق): الذي يرادف الصدق أو هو أخص منه. قال العلماء: الحق هو الحكم المطابق للواقع وقد يطلق على الأقوال والعقائد ¬
والأديان والمذاهب باعتبار اشتمالها على ذلك ويقابل الباطل. وأما الصدق فقد شاع في الأقوال خاصة ويقابله الكذب، وقد يفرق بينها بأن المطابقة تعتبر في الحق من جانب الواقع، وفي الصدق من جانب الحكم فمعنى صدق الحكم مطابقته الواقع ومعنى حقيته مطابقة الواقع إياه. (يوضح) أي يُظهر ويُكشف ويُبان بيانًا لا خفاء فيه، ولا شك يعتريه تصريحًا بحقية عذاب القبر ونعيمه خلافًا للمعتزلة ومن وافقهم من أهل العناد (¬1) والضلال والإلحاد. وفي بعض النسخ: (وقيل في عذاب القبر حق موضح) والأول أولى. وقد قدمنا عند قول الناظم -رحمه اللَّه تعالى-: ولا تنكرن جهلًا نكيرًا ومنكرًا ما لعله يشفي ويكفي (¬2). ونزيد هنا أن مذهب سلف الأمة وأئمتها أن الميت إذا مات يكون في نعيم أو عذاب وأن ذلك يحصل لروحه وبدنه وأن الروح تبقى بعد مفارقة البدن منعمة أو معذبة، وأنها تتصل بالبدن أحيانًا يحصل له معها النعيم والعذاب كما في كتاب الروح للمحقق ابن القيم (¬3). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -روح اللَّه روحه-: "النعيم والعذاب على النفس والبدن جميعًا باتفاق أهل السنة والجماعة تنعم النفس وتعذب منفردة عن البدن وتنعم وتعذب متصلة بالبدن والبدن متصل بها فيكون النعيم والعذاب عليهما في ¬
هذه الحالة مجتمعين كما يكون للروح منفردة عن البدن. وهل يكون النعيم والعذاب للبدن بدون الروح هذا فيه قولان مشهوران لأهل الحديث وأهل الكلام قال: وفي المسألة أقوال شاذة ليست من أقوال أهل السنة (¬1). . قول من يقول إن النعيم والعذاب لا يكون إلا على الروح وأن البدن لا ينعم ولا يعذب، وهذا قول الفلاسفة المنكرين لمعاد الأبدان وهؤلاء كفار بإجماع المسلمين ويقوله أكثر من المعتزلة وغيرهم من أهل الكلام وإن قالوا بمعاد الأبدان وإنما ينكرون عذاب البدن في البرزخ فقط. ويقولون إن الأرواح هي المنعمة والمعذبة في البرزخ فإذا كان يوم القيامة نعمت الروح والبدن، أو عذبا معا، وهذا قاله طوائف من المسلمين من أهل الكلام والحديث وغيرهم وهو اختيار ابن حزم (¬2) وابن مرة (¬3) فهو (مرجوح لا باطل) (¬4) إلا (¬5) أن صاحبه يقر بعذاب القبر وبالقيامة ويثبت معاد الأبدان والأرواح. والحاصل أن الأقوال الباطلة ثلاثة: الأول: ما تقدم ذكره من قول الفلاسفة. ¬
الثاني: قول من يقول إن الروح بمفردها لا تنعم ولا تعذب، وإنما الروح هي الحياة، وهذا قول طوائف من أهل الكلام من المعتزلة وغيرهم وينكرون أن الروح تبقى بعد فراق البدن وهذا من أبطل الباطل وقد ثبت بالكتاب والسنة واتفاق الأمة أن الروح تبقى بعد فراق البدن وأنها منعمة أو معذبة حتى أن الفلاسفة يقرون بذلك، إلا أنهم ينكرون معاد الأبدان وهؤلاء يقرون بمعاد الأبدان، لكن ينكرون معاد الأرواح ونعيمها وعذابها بدون الأبدان وكلا القولين خطأ وضلال. نعم قول الفلاسفة أبعد عن أقوال أهل الإسلام، وإن كان يرافقهم عليه من يعتقد أنه يتمسك بدين الإسلام، بل من يظن أنه من أهل المعرفة والتصوف والتحقيق والكلام. والثالث: قول من يقول: ليس في البرزخ نعيم ولا عذاب، بل لا يكون ذلك حتى تقوم الساعة الكبرى كما يقوله من يقوله من المعتزلة وغيرهم ممن ينكر عذاب القبر ونعيمه، بناء على أن الروح لا تبقى بعد فراق البدن، وأن البدن لا ينعم ولا يعذب فهؤلاء على بدعة وضلال في أمر البرزخ، إلا أنهم خير من الفلاسفة لإقرارهم بالمعاد والقيامة الكبرى" (¬1). ومذهب أهل الحق أحق وهو مذهب سلف الأمة وسائر الأئمة، واللَّه تعالى الموفق. ¬
فصل في ذكر بعض قبائح أهل البدع والضلال وتماديهم مع الغي وارتكاب المحال
فصل في ذكر بعض قبائح أهل البدع والضلال وتماديهم مع الغي وارتكاب المحال قال الناظم -رحمه اللَّه تعالى- بعد أن بين نهج أهل الحق وسبيل أصحاب الاتباع والصدق، كأنه يقول قد بينا ما يجب اعتقاده مما خالفنا فيه أهل البدع فاحذر أن تقول بقولهم، وتعتقد اعتقادهم، فحيث علمت ذلك فالزم مذهب أهل الحق. (ولا تكفرن) بضم التاء الفوقية وسكون الكاف وكسر الفاء وفتح الراء فهو مؤكد بالنون الخفيقة، أي لا تعتقد تكفير (أهل الصلاة) المعهودة التي هي أحد أركان الإسلام ومباني الدين (¬1). . . (*) (المحرم قتلها) (¬2). والكفر ضد الإيمان وتفتح الكاف كالكفور والكفران بضمها، أي بضم الكاف فيهما. وفي الحديث: "من قال لأخيه يا كافر فقد باء به أحدهما" (¬3). لأنه إما أن يصدق عليه أو يكذب، فإن صدق فهو كافر، وإن كذب عاد الكفر إليه بتكفيره أخاه المسلم. ¬
تفسير كلمة "الكفر"
قال في النهاية: "الكفر صنفان: أحدهما الكفر بأصل الإيمان وهو ضده، والآخر الكفر بفرع من فروع الإسلام فلا يخرج به عن أصل الإيمان". قال: "وقيل الكفر على أربعة أنحا: كفر إنكار بأن لا يعرف اللَّه أصلا ولا يعترف به. وكفر جحود، ككفر إبليس يعرف اللَّه بقلبه ولا يقر بلسانه. وكفر عناد، وهو أن يعترف بقلبه ويعترف بلسانه ولا يدين به حسدًا وبغيًا ككفر أبي جهل وأضرابه. وكفر نفاق، وهو أن يقر بلسانه ولا يعتقد بقلبه. قال الهروي (¬1) سئل الأزهري (¬2) عمن يقول بخلق القرآن أتسميه كافرًا؟ فقال الذي يقوله كفر فأُعيد عليه السؤال ثلاثًا، وهو يقول مثل ما قال، ثم قال في الآخر قد يقول المسلم كفرًا" (¬3). ¬
ومنه حديث ابن عباس -رضي اللَّه عنهما- قيل له: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44]. (قال هم كفرة) (¬1) وليسوا كمن كفر باللَّه واليوم الآخر" (¬2). ومنه حديثه الآخر: "ان الأوس والخزرج ذكروا ما كان منهم في الجاهلية فثار بعضهم إلى بعض بالسبوف فأنزل اللَّه تعالى: {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ} [آل عمران: 101] ولم يكن ذلك على الكفر باللَّه، ولكن على (تغطيتهم) (¬3) ما كانوا عليه من الألفة والمودة" (¬4). ومنه حديث ابن مسعود -رضي اللَّه عنه-: "إذا قال الرجل للرجل أنت لي عدو، فقد كفر أحدهما بالإسلام" (¬5) أراد كفر نعمته لأن اللَّه ألف بين قلوبهم فأصبحوا بنعمته إخوانًا فمن لم يعرفها فقد كفرها (¬6). وفي الحديث الآخر: أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "اطلعت على النار فرأيت أكثر أهلها النساء لكفرهن، قيل أيكفرن باللَّه؟ قال: لا ولكن يكفرن الإحسان ويكفرن العشير" (¬7) ¬
مذهب المعتزلة والخوارج من أهل الذنوب وبيان مذهب أهل السنة
أي يجحدن إحسان أزواجهن" (¬1). و (الأحاديث) (¬2) في المعنى كثيرة جدًا واللَّه أعلم* (¬3). (وإن عصوا) بارتكاب الذنوب كبيرها وصغيرها ولو كانت تلك الذنوب (¬4) (و) المعاصي قتل النفوس (¬5) تعمدًا، خلافًا للخوارج والمعتزلة. قال الحافظ العلامة شمس الدين محمد بن عبد الهادي الحنبلي (¬6) من بني قدامة في مناقب شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية -قدس اللَّه روحه-: "أول خلاف حدث في الملة في الفاسق الملي هل هو كافر أو مؤمن؟ فقال الخوارج إنه كافر. وقالت الجماعة إنه مؤمن. ¬
وقالت طائفة المعتزلة هو لا مؤمن، ولا كافر، منزلة بين المنزلتين وخلدوه في النار، واعتزلوا حلقة الحسن البصري وأصحابه فسموا معتزلة" (¬1). وأما أهل السنة فلم يخرجوه من الإسلام، ولم يحكموا عليه بالخلود في النار، وإنما هو مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته، وهو في مشيئة اللَّه تعالى (¬2). والخوارج يكفرون كل مرتكب لذنب ولو صغيرة، لأن عندهم كل ذنب كبيرة نظرًا لعظمة من عصي. وكل كبيرة كفر، فصاحب الذنب عندهم يخرج من الإيمان ويدخل (في) (¬3) الكفر ويخلد في النار، قالوا لأنه لا يخلد في النار إلا الكفار، وعندهم من دخل النار لا يخرج منها أبدًا، وطريقة المعتزلة أن مرتكب الكبيرة خرج من الإيمان ولا يدخل في الكفر، فهو في منزلة بين الكفر والإيمان، ومع ذلك يخلدونه في النار مع قولهم: إن مرتكبي الكبائر لسيوا بكفار، فوافقوا الخوارج في خلود مرتكبي الكبائر في النار وخالفوهم بقولهم: إنهم ليسوا بكفار ودخول النار عندهم جميعًا مشترط حيث لم يتوبوا قبل معاينة الموت. والمعتزلة (من أول فرقة من فرق أهل الضلال) (¬4) بعد الخوارج أسسوا قواعد ¬
الخلاف لما ورد به ظاهر السنة وجرى عليه السلف الصالح من الصحابة والتابعين لهم بإحسان -رضي اللَّه عنهم- في باب العقائد. . وذلك أن رئيسهم واصل بن عطاء أبا حذيفة المعروف بالغزال المعتزلي مولى بني منبه، وقيل مولى بني مخزوم كان أحد البلغاء المتكلمين يجلس في حلقة الحسن البصري، وكانت الخوارج قد أظهرت القول بكفر مرتكبي الكبيرة، فقال واصل: إن مرتكب الكبيرة ليس بمؤمن ولا كافر، فأثبت منزلة بين منزلتين وألف كتابه: "المنزلة بين المنزلتين". فقال له الحسن البصري -رحمه اللَّه تعالى-: اعتزل عنا فسموا المعتزلة (¬1). وهم يسمون أنفسهم أصحاب العدل والتوحيد لقولهم بوجوب الثواب للمطيع والعقاب على العاصي على اللَّه تعالى. والتوحيد يعنون به نفي (¬2) الصفات القديمة عنه تعالى (¬3). وفي تاريخ ابن خلكان (¬4) ذكر السمعاني (¬5) في كتاب الأنساب في ترجمة المعتزلي (¬6) أن واصل بن عطاء كان يجلس إلى الحسن البصري -رحمه اللَّه تعالى- فلما ظهر الاختلاف فقالت الخوارج بتكفير مرتكبي الكبائر، وقالت الجماعة بأنهم ¬
مؤمنون وإن فسقوا بالكبائر فخرج واصل بن عطاء عن الفريقين وقال: إن الفاسق من هذه الأمة لا مؤمن ولا كافر، منزلة بين منزلتين فطرده الحسن من مجلسه فاعتزل عنه وجلس إليه عمرو بن عبيد فقيل لهما ولأتباعهما (معتزلون) (¬1). وذكر ابن خلكان في تاريخه أيضًا في ترجمة قتادة بن دعامة السدوسي البصري الأكمه وكان تابعيا عالمًا كبيرًا -قال: إنه دخل مسجد البصرة فإذا بعمرو بن عبيد ونفر قد اعتزلوا من حلقة الحسن البصري وحلقوا وارتفعت أصواتهم فأمهم وهو يظن أنها حلقة الحسن فلما صار معهم عرف أنها ليست هي فقال: إنما هؤلاء المعتزلة ثم قام عنهم فمنذ يومئذ سموا المعتزلة (¬2). إذا علمت ما قررنا فالحق مذهب أهل الحق من أهل السنة والجماعة أن مرتكبي الكبائر في مشيئة اللَّه تعالى وعفوه لأن أصل الإيمان من التصديق باللَّه والمعرفة والإذعان موجود، فإذا مات مرتكب الكبيرة مصرًا على ذنبه فأمره مفوض إلى ربه وسعة رحمته (¬3). (فكلهم): أي العباد إلا من عصمه اللَّه من المرسلين والأنبياء عليهم الصلاة والسلام أو حفظه من خواص الأولياء. (يعصى): من العصيان خلاف الطاعة، يقال عصاه يعصيه عصيًا ومعصية وعاصاه فهو عاص، والمعصية تشمل الكبائر والصغائر. ¬
فما فيه حد في الدنيا أو وعيد في الآخرة فهو كبيرة. وزاد شيخ الإسلام: "أو ورد في ارتكاب المعصية وعيد بنفى إيمان (أو لعن) (¬1) " (¬2). وقيل: ما لحق صاحبها وعيد شديد بنص كتاب أو سنة، وما عدا ذلك فهو من الصغائر. (وذو): أي صاحب. (العرش): العظيم الذي هو أعظم المخلوقات وهو العالى عليها من جميع الجوانب. (يصفح): من الصفح وهو الإعراض عن المؤاخذة. وفي حديث أم المؤمنين عائشة الصديقة تصف أباها -رضي اللَّه عنهما-: "صفوح عن الجاهلين" (¬3): أي كثير الصفح والعفو والتجاوز عنهم. ومنه: "الصفوح" في صفة اللَّه تعالى (¬4) وهو العفو عن ذنوب العباد المعرض ¬
عن عقوبتهم تكرمًا. كما في نهاية ابن الأثير (¬1) فالمولى الكبير يغفر الذنب الكبير، ولا يؤاخذ بالتقصير. وقد ورد في الكتاب والسنة ما يؤيد ما ذهب إليه أهل الحق وأجمعوا عليه من الحق والصدق. كقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} الآية (¬2) [البقرة: 178]. وفي ذلك يقول: "فمن عفي له من أخيه شيء" فأثبت له أخوة الإيمان (¬3). وقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} [التحريم: 8]. وقوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا. . .} [الحجرات: 9 - 10] إلى قوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}. وفي الصحيحين عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من حديث عبادة بن الصامت -رضي اللَّه عنه- أنه قال وحوله عصابة من أصحابه: "بايعوني على أن لا تشركوا باللَّه شيئًا ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا أولادكم ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم ولا تعصوني في معروف فمن وفّي منكم فأجره على اللَّه ومن أصاب من ذلك شيئًا. . . (¬4) فعوقب به في الدنيا فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئًا ¬
ثم ستره اللَّه فهو إلى اللَّه إن شاء عفى عنه وإن شاء عاقبه". قال: فبايعناه على ذلك (¬1). وقال -صلى اللَّه عليه وسلم- فيما يرويه عن ربه تعالى: "ابن آدم لو لقيتنى بقراب (¬2) الأرض خطايا ثم أتيتني لا تشرك بي شيئًا لأتيتك (¬3) بقرابها مغفرة" (¬4) أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح. وأخرجه الطبراني من حديث ابن عباس -رضي اللَّه عنهما- (¬5) وأبو عوانة (¬6) في مسنده من حديث أبي ذر. ¬
ورواه أيضًا الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي ذر (¬1). وأخرج مسلم في صحيحه عن أبي ذر عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "يقول اللَّه تعالى: من تقرب مني شبرًا تقربت منه ذراعًا، ومن تقرب مني ذراعًا تقربت منه باعًا، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة، ومن لقيني بقراب الأرض خطيئة لا يشرك بي شيئا لقيته بقرابها مغفرة" (¬2). وأخرج الإمام أحمد من رواية أخشن السدوسي قال: دخلت على أنس -رضي اللَّه عنه- فقال: سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "والذي نفسي بيده لو أخطأتم حتى تملأ خطاياكم ما بين السماء والأرض ثم استغفرتم اللَّه لغفر لكم" (¬3). ¬
وقال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "من مات لا يشرك باللَّه شيئًا دخل الجنة" (¬1). وقال: "من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا اللَّه دخل الجنة" (¬2). وقال: "إن اللَّه حرم على النار من قال لا إله إلا اللَّه يبتغي بذلك وجه اللَّه" (¬3). فالتوحيد أعظم أسباب المغفرة كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48]. فدلت الآية مع حديث أنس أن من جاء مع التوحيد بملء الأرض خطايا لقيه اللَّه بملئها مغفرة مع مشيئة اللَّه تعالى فإن شاء غفر له وإن شاء وأخذه بذنبه ثم كان عاقبته أن لا يخلد في النار، بل يخرج منها ثم يدخل الجنة. قال بعض المحققين الموحد لا يلقى في النار، كما يلقى الكفار، ولا يبقى فيها كما تبقى الكفار (¬4). ¬
فدل الكتاب والسنة واتفاق الفرقة الناجية على أنه لا يخلد في النار أحد من أهل التوحيد. وأما قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا} [النساء: 93]. ونظائر أمثالها من نصوص الوعيد كقوله تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [الجن: 23] (¬1). وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 10]. وكذا ما ورد من السنة كقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ (¬2) بها خالدًا مخلدًا في نار جهنم" (¬3). ونظائره كثيرة. فحمله قوم على المستحل فيكون كافرًا. وأما من فعل هذه الأفعال من غير استحلال لم يلحقه وعيد الخلود وإن لحقه وعيد الدخول، وقد أنكر سيدنا الإمام أحمد -رضي اللَّه عنه- هذا القول وقال: لو ¬
استحل ذلك ولم يفعله كان كافرا والنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إنما قال من فعل كذا وكذا. وقالت فرقة أخرى الاستدلال بنصوص الوعيد هذه مبني على ثبوت العموم، قالوا: وليس في اللغة ألفاظ عامة وقصدوا بذلك تعطيل هذه الأدلة عن استدلال الخوارج والمعتزلة بها، لكن ذلك يستلزم تعطيل جملة الشرع فردوا باطلًا بأبطل منه وأبطلوا بدعة بأقبح منها، فكانوا كمن رام أن يبني قصرًا فهدم مصرًا. وقالت فرقة أخرى في الكلام إضمار فمنهم من قال بإضمار الشرط أي فجزاؤه كذا إن جازاه أو إن شاء. ومنهم من قال بإضمار الاستثناء والتقدير: فجزاؤه كذلك إلا أن يعفو. وقالت فرقة أخرى هذا وعيد واخلاف الوعيد لا يذم بل يمدح فيجوز على اللَّه إخلاف الوعيد لا إخلاف الوعد. والفرق بينهما أن الوعيد حقه فإخلافه عفو وهبة وإسقاط ذلك منه من موجبات كرمه وجوده وإحسانه وامتنانه. والوعد أوجبه على نفسه بموعده واللَّه لا يخلف الميعاد. ولهذا مدح به كعب (¬1) بن زهير -رضي اللَّه عنه- رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- حيث قال: ¬
نبئت أن رسول اللَّه أوعدني ... والعفو عند رسول اللَّه مأمول (¬1). و (¬2) كان قد تناظر في هذه المسألة أبو عمرو بن العلاء (¬3) أحد القراء السبعة وعمرو بن عبيد المعتزلي رفيق واصل بن عطاء فقال عمرو بن عبيد: يا أبا عمرو لا يخلف اللَّه وعده وقد قال تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ} [النساء: 93] فقال أبو عمرو: ويحك يا عمرو من العجمة أتيت إن العرب لا تعد إخلاف الوعيد ذمًا، بل جودًا وكرمًا، أما سمعت قول الشاعر (¬4): ولا يرهب ابن العم ما عشت صولتي ... ولا أختتي (¬5) من صولة المتهددِ وإني إن أوعدته أو وعدته ... لمخلف إيعادي ومنجز موعدي ¬
وعلى كل حال فقد قام الدليل على ذكر الموانع من إنفاذ الوعيد بعضها بالإجماع وبعضها بالنص، فالتوبة مانعة بالإجماع. والتوحيد مانع بالنصوص المتواترة التي لا مدفع لها والحسنات العظيمة الماحية مانعة، والمصائب المكفرة مانعة، وإقامة الحدود في الدنيا من الموانع بالنص فلا تعطل هذه النصوص وأضعاف (أضعاف) (¬1) أضعافها. فلا بد من إعمال النصوص من الجانبين. ومن ثم قامت الموازنة بين الحسنات والسيئات اعتبارًا لمقتضى العقاب ومنعه إعمالًا لأرجحها، وعلى هذا بناء مصالح الدارين ومفاسدهما، وبناء الأحكام الشرعية، والأحكام القدرية وهو مقتضى الحكمة السارية في الوجود، وبه ارتباط الأسباب ومسبباتها خلفًا وأمرًا، وقد جعل اللَّه تعالى لكل ضد ضدا يدافعه ومانعًا يمانعه، ويكون الحكم للأغلب منهما حكمة باهرة" (¬2). وقدرة قاهرة، تحير في مجاري تصاريفها العقول، وتعجز عن الإحاطة بتعاريفها النقول. والحاصل واللَّه تعالى أعلم: كون المذنب الملي وإن كثرت ذنوبه وعظمت خطاياه في مشيئة مولاه إن شاء عافاه (¬3). وعلى كل حال القول بخلود أهل التوحيد في النار يعد من المحن والوبال، وهو من شعار أهل البدع والضلال، والصواب اجتناب اعتقاده وعدم الالتفات إلى من ¬
تمادى في جهله وعناده والتعويل على مذهب أهل الحق ووجوب اعتقاده وباللَّه التوفيق (¬1). ¬
فصل في الكلام على الإيمان وبيان تبيان أقوال الناس فيه وترجيح المستحق للرجحان بالدليل الثابت وإقامة البرهان
فصل في الكلام على الإيمان وبيان تباين أقوال الناس فيه وترجيح المستحق للرجحان بالدليل الثابت وإقامة البرهان قال الناظم -رحمه اللَّه تعالى- معتمدًا مذهب السلف الصالح من الصحابة -رضي اللَّه عنهم- والتابعين لهم بإحسان: (وقل) بلسانك معتقدًا بجنانك مذعنًا بأركانك (إنما) أداة حصر. (الإيمان): وهو لغة التصديق واصطلاحًا: تصديق الرسول فيما جاء به عن ربه. وهذا القدر متفق عليه ثم وقع الاختلاف هل يشترط مع ذلك مزيد أمر من جهة إبداء هذا التصديق باللسان المعبر عما في القلب إذْ التصديق من أفعال القلوب، أو من جهة العمل بما صدق به من ذلك كفعل المأمورات وترك المحظورات، وهذا هو الذي اشتهر من مذهب السلف (¬1) ولذا قال: الإيمان عند السلف ومن نحا منحاهم من الخلف: (قول) باللسان فمن لم يقر وينطق بلسانه مع القدرة لا يسمى مصدقًا، فليس هو إذًا بمؤمن كما اتفق على ذلك سلف الأمة من الصحابة والتابعين لهم بإحسان. (ونية): أي قصد إذْ النية هى القصد أي عقد بالجنان فمن تكلم بكلمة التوحيد غير جازم بها بقلبه إما مع الشك (والتردد) (¬2) وإما مع اعتقاده خلاف ما شهد به فهو منافق، وليس بمؤمن خلافًا للكرامية الزاعمين بأن الإيمان هو القول الظاهر ¬
فعندهم الإيمان مجرد الكلمة، وإن لم يكن معتقدًا لها بقلبه، وإذا كان مصدقًا بقلبه غير ناطق بلسانه مع القدرة فهو غير مؤمن أيضًا عند سلف الأمة خلافا للجهمية ومن وافقهم من المتكلمة. قال اللَّه تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 8]. فنفى تعالى الإيمان عن المنافقين وهذا يرد مذهب الكرامية فإن المنافق ليس بمؤمن وقد ضل من سماه مؤمنًا، وكذلك من قام بقلبه علم وتصديق وهو يجحد الرسول وما جاء به ويعاديه كاليهود وغيرهم ممن سماه اللَّه كافرًا ولم يسمهم مؤمنين قط ولا دخلوا في شيء من أحكام الإيمان فهم كفار خلافًا للجهمية ومن وافقهم في زعمهم أنهم إذا كان العلم في قلوبهم فهم مؤمنون كاملوا الإيمان حتى زعموا أن إيمانهم كإيمان النبيين والصديقين. وفي الآيات القرآنية والأحاديث النبوية ما يقلع شروش (¬1) هذا الضلال ويقمع رؤوس هذا الوبال ممن اتبع هواه وخالف مولاه. كقوله تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا. . .} الآية [النمل: 14]. {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة: 146]. {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} [البقرة: 89]. إلى غير ذلك من الآيات الصريحة والأخبار الصحيحة. ¬
(وفعل): بالأركان وهذا هو اللفظ الوارد عن السلف ولذا قال -رحمه اللَّه-: (على قول النبي) -صلى اللَّه عليه وسلم- (مصرح) به بالرفع صفة لفعل وما قبله من القول والنية. قال البخاري في صحيحه: "الإيمان قول وعمل" (¬1). قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري بشرح البخاري: "هذا هو اللفظ الوارد عن السلف الذين أطلقوا ذلك". وقد روى مرفوعًا (¬2). قال: والمراد بالقول: النطق بالشهادتين، وأما العمل فالمراد به ما هو من عمل القلب والجوارح ليدخل الاعتقادات (¬3) والعبادات ومراد من أدخل ذلك في تعريف الإيمان ومن نفاه، إنما هو بالنظر إلى ما عند اللَّه تعالى فالسلف قالوا: هو اعتقاد بالقلب، ونطق باللسان، وعمل بالأركان. وأرادوا بذلك أن الأعمال شرط في كماله ومن هنا نشأ عنهم (¬4) القول بزيادة ¬
الإيمان ونقصه كما يأتي بعد هذا. والمرجئة (¬1) قالوا: هو اعتقاد ونطق فقط. والكرامية (¬2) قالوا: هو نطق به فقط. والمعتزلة (¬3) قالوا: هو العمل والنطق والاعتقاد كالسلف (¬4). والفرق بين المعتزلة وبين السلف: أن المعتزلة جعلوا الأعمال شرطًا في صحته والسلف جعلوها شرطًا في كماله وهذا بالنظر إلى ما عند اللَّه تعالى أما بالنظر إلى ما عندنا فالإيمان هو الإقرار فقط، فمن أقر أجريت عليه الأحكام في الدنيا ولم يحكم عليه بكفر إلا إن بإقرن بإقراره فعل يدل على كفره كالسجود للصنم، فإن كان ¬
الفعل لا يدل على الكفر كالفسق: فمن أطلق عليه الإيمان فبالنظر إلى إقراره ومن نفى عنه الإيمان فبالنظر إلى كماله، ومن أطلق عليه الكفر فبالنظر إلى أنه فعل فعل الكافر، ومن نفاه عنه فبالنظر إلى حقيقته. وأما المعتزلة فأثبتت الواسطة كما مر فقالوا: الفاسق لا مؤمن ولا كافر" (¬1). انتهى. وقال الحافظ ابن رجب (¬2) في "شرح الأربعين" وغيره: "المشهور عن السلف وأهل الحديث أن الإيمان قول وعمل ونية وأن الأعمال كلها داخلة في مسمى الإيمان" (¬3). وفي كتاب الأم للإمام الشافعي -رضي اللَّه عنه- في باب النية: كان الإجماع من الصحابة والتابعين ومن بعدهم ومن أدركناهم يقولون: "الإيمان قول وعمل ونية ولا يجزئ واحد من الثلاثة إلا بالآخر" (¬4). قال الحافظ ابن رجب: "انكر السلف على من أخرج الأعمال عن الإيمان إنكارًا شديدًا، وممن أنكر ذلك على قائله وجعله محدثًا: سعيد (¬5) بن جبير، ¬
وميمون (¬1) بن مهران، وقتادة (¬2)؛ وأيوب السختياني (¬3)؛ والنخعي (¬4)، والزهري (¬5)؛ ويحيى بن (أبي) كثير (¬6) وغيرهم" (¬7). وقال الثوري: (¬8) "هو رأى محدث أدركنا الناس على غيره" (¬9). وقال الأوزاعي: (¬10) "كان من مضى من السلف لا يفرقون بين الإيمان والعمل فمن استكملهما استكمل الإيمان، ومن لم يستكملهما لم يستكمل ¬
الإيمان" ذكره البخاري في صحيحه (¬1). وقد دل على دخول الأعمال في الإيمان قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال: 2 - 4]. وفي الصحيحين من حديث ابن عباس -رضي اللَّه عنهما- عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه قال لوفد عبد القيس: "آمركم بأربع: الإيمان باللَّه، وهل تدرون ما الإيمان باللَّه؟ شهاده أن لا إله إلا اللَّه وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وأن تعطوا من المغانم الخمس" (¬2). وفي الصحيحين أيضًا من حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا اللَّه، وأدناها ¬
إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان" (¬1). قال شيخ الإسلام -روح اللَّه روحه-: قال (أبو القاسم) (¬2) الأنصاري شيخ الشهرستاني في شرح الإرشاد لأبي المعالى (¬3) بعد أن ذكر قول أصحابه الأشاعرة من أن الإيمان مجرد التصديق. وذهب أهل الأثر إلى أن الإيمان جميع الطاعات فرضها ونفلها وعبروا عنه بأنه: إتيان ما أمر اللَّه فرضًا ونفلًا والانتهاء عما نهى عنه تحريمًا وأدبًا، قال: وبهذا كان يقول أبو علي الثقفي (¬4) من متقدمي أصحابنا وأبو العباس القلانسي (¬5). ¬
وقد مال إلى هذا المذهب أبو عبد اللَّه بن مجاهد (¬1) وهذا قول مالك بن أنس (¬2) إمام دار الهجرة ومعظم أئمة السلف -رضي اللَّه عنهم- فكانوا يقولون: الإيمان معرفة بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالأركان" (¬3). زاد بعض السلف من أهل السنة: واتباع السنة لأن العمل لا يكون محبوبًا للَّه تعالى إلا بذلك. كما قال سهل بن عبد اللَّه التستري (¬4): "الإيمان قول وعمل ونية وسنة لأن الإيمان إن كان قولًا بلا عمل فهو كفر، وإذا كان قولًا وعملًا بلا نية فهو نفاق، وإذا كان قولًا وعملًا ونية بلا سنة فهو بدعة" (¬5). قال شيخ الإسلام -روح اللَّه روحه-: "الإيمان الذي أصله في القلب لابد فيه من شيئين: تصديق القلب وإقراره ومعرفته، ويقال لهذا قول القلب، فإذا كان في القلب معرفة وإرادة سرى ذلك إلى البدن بالضرورة فلا يمكن أن يتخلف البدن عما يريده القلب، ولهذا قال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ألا وإن في الجسد مضغة ¬
إذا صلحت صلح لها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد ألا وهي القلب" (¬1). وقال أبو هريرة -رضي اللَّه عنه-: "القلب ملك والأعضاء جنوده" (¬2). قال شيخ الإسلام: "لابد في الإيمان القلبي من حب اللَّه ورسوله وأن يكون اللَّه ورسوله أحب إليه مما سراهما، والمحبة تستلزم إرادة والإرادة التامة مع القدرة تستلزم الفعل فيمتنع أن يكون الإنسان محبًا للَّه ورسوله مريدًا لما يحبه اللَّه ورسوله إرادة جازمة مع قدرته على ذلك وهو لا يفعله. فإذا لم يتكلم بالإيمان مع قدرته دل على أنه ليس في قلبه الإيمان الواجب الذي فرضه اللَّه عليه. ومن هنا يظهر خطأ قول جهم ومن وافقه حيث ظنوا أن الإيمان مجرد تصديق القلب وعمله ثم جعلوا إيمان القلب هو الإيمان وظنوا أنه قد يكون الإنسان مؤمنا كامل الإيمان بقلبه، وهو مع هذا يسب اللَّه ورسوله ويعادي أولياء اللَّه ويوالي أعداء اللَّه ويقتل الأنبياء ويهدم المساجد ويهين المصاحف ويكرم الكفار ويهين المؤمنين. قالوا: وهذه كلها معاصي لا تنافي الإيمان الذي في القلب، بل يفعل هذا وهو عند اللَّه مؤمن في الباطن. ¬
قالوا: وإنما تثبت له في الدنيا أحكام الكافر، لأن هذه الأقوال والأفعال أمارة على الكفر فيحكم بالظاهر، كما يحكم بالإقرار والشهود، وإن كان الباطن قد يكون بخلاف ما أقر به وشهد الشهود به. فإذا أورد عليهم الكتاب والسنة والإجماع على أن الواحد من هؤلاء كافر في نفس الأمر معذبًا في الآخرة. قالوا: هذا دليل على انتفاء التصديق، والعلم من قلبه والكفر عندهم شيء واحد وهو الجهل، والإيمان شيء واحد وهو العلم. وربما قالوا: الكفر تكذيب القلب والإيمان تصديقه فإنهم متنازعون، هل تصديق القلب شيء غير العلم أو هو هو (¬1). قال شيخ الإسلام: "وهذا القول مع أنه أفسد قول قيل في الإيمان، فقد ذهب إليه كثير من أهل الكلام، قال وقد كَفَّرَ السلف كوكيع (¬2) بن الجراح والإمام أحمد وأبي عبيد (¬3) وغيرهم -رضي اللَّه عنهم- من يقول بهذا القول". وقالوا: إبليس كافر بنص القرآن، وإنما كفره باستكباره وامتناعه من السجود لآدم لا لكونه كذب خبرًا، وكذلك فرعون وقومه، قال اللَّه تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 14]. وقال موسى عليه السلام لفرعون: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَافِرْعَوْنُ مَثْبُورًا} [الإسراء: 102]. ¬
فموسى هو الصادق المصدوق يقول لفرعون؛ لقد علمت ما أنزل هؤلاء يعني الآيات البينات إلا رب السموات والأرض بصائر. فدل على أن فرعون كان عالمًا بأن اللَّه تعالى أنزل هذه الآيات، وهو من أكثر خلق اللَّه عنادًا وبغيًا وفسادًا لفساد إرادته وقصده لا لعدم علمه" (¬1). قال شيخ الإسلام وهؤلاء غلطوا في أصلين: أحدهما: أنهم ظنوا أن الإيمان مجرد تصديق وعلم فقط ليس معه عمل وحال وحركة وإرادة ومحبة وخشية، وهذا من أعظم غلط المرجئة مطلقًا، فإن أعمال القلوب التي يسميها بعض الصوفية أحوالًا ومقامات أو منازل السائرين إلى اللَّه أو مقامات العارفين أو غير ذلك كلما فيها مما فرضه اللَّه ورسوله فهو في الإيمان الواجب وكل ما فيه مما أحبه اللَّه ورسوله، ولم يفرضه فهو من الإيمان المستحب. فالأول: لابد لكل مؤمن منه ومن اقتصر عليه فهو من الأبرار أصحاب اليمين. والثاني: للمقربين السابقين. والأصل الثاني: الذي غلطوا فيه: ظنهم أن كل من حكم الشارع أنه كافر مخلد في النار، فإنما ذاك لأنه لم يكن في قلبه شيء من العلم والتصديق. وهذا أمر خالفوا فيه الحس والعقل والشرع وما أجمع عليه طوائف بني آدم السليمي الفطرة وجماهير النظار فإن الإنسان قد يعرف الحق مع غيره ومع هذا يجحد ذلك لحسده إياه أو لطلب علوه عليه أو لهوى النفس، ويحمله ذلك على أن يعتدى عليه ويرد ما يقول بكل طريق وهو في قلبه يعلم أن الحق معه وعامة من كذب الرسل علموا أن الحق معهم وأنهم صادقون لكن الحسد وإرادة العلو والرياسة ¬
وحبهم لما هم عليهم والفهم لما ارتكبوا أوجب لهم التكذيب والمعاداة لهم" (¬1). فإن قلت: إذا كان الإيمان المطلق يتناول جميع ما أمر اللَّه به ورسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- فمتى ذهب بعض ذلك بطل الإيمان فيلزم تكفير أهل المعاصي كما هو قول الخوارج، أو تخليدهم في النار وسلبهم اسم الإيمان بالكلية كما هو قول المعتزلة، وكلا القولين باطل خبيث وهو شر من قول المرجئة، فإن من المرجئة جماعة من العباد والعلماء المذكورين عند (الأمة) (¬2) بخير. وأما الخوارج والمعتزلة فأهل السنة من جميع الطوائف مطبقين على ذمهم. فالجواب: أولًا ينبغى أن يعرف أن القول الذي لم يوافق الخوارج والمعتزلة عليه أحد من أهل السنة، هو القول بتخليد أهل الكبائر في النار فإن هذا القول من البدع المشهورة. وقد اتفق الصحابة والتابعون لهم بإحسان وسائر أئمة المسلمين على أنه لا يخلد في النار أحد ممن في قلبه مثقال ذرة من إيمان، واتفقوا على أن نبينا -صلى اللَّه عليه وسلم- يشفع فيمن يأذن اللَّه له بالشفاعة فيهم من عصاة الموحدين وأهل الكبائر من أمته" (¬3) كما تقدم (¬4). "ومن بدع الخوارج الخارجة تكفيرهم المسلم بالذنب. وسلب المعتزلة عنه اسم الإيمان فهو عندهم ليس بمسلم ولا كافر كما تقدم (¬5). ¬
وهذه بدع قبيحة مخالفة للسنة والصحابة والتابعين لهم ولأئمة السلف من أهل السنة والجماعة، والحق مذهب أهل الحق أنه مؤمن ناقص الإيمان فهو مؤمن، بإيمانه فاسق بمعصيته فلا يعطى الاسم المطلق من الإيمان ولا يسلب مطلق الاسم". "وأما (¬1) قول القائل إن الإيمان إذا ذهب بعضه ذهب كله فممنوع، وهذا مع كونه باطلًا فاسدًا ممنوعًا فهو الأصل الذي تفرعت منه البدع في الإيمان فإنهم ظنوا أنه متى ذهب بعضه ذهب كله. ثم قالت الخوارج والمعتزلة: الإيمان هو مجموع ما أمر اللَّه به ورسوله وهو الإيمان المطلق -كما قاله أهل الحديث- قالوا: فإذا ذهب شيء منه لم يبق مع صاحبه من الإيمان شيء فيخلد في النار. وقالت المرجئة على اختلاف فرقهم لا يذهب من الإيمان شيء لا بارتكاب الكبائر ولا بترك الواجبات الظاهرة إذ لو ذهب منه شيء لم يبق منه شيء فيكون شيئًا واحدًا يستوى فيه -عندهم- البر والفاجر" (¬2). ومذهب أهل الحق من السلف ومن وافقهم: أن الإيمان يتفاضل فيزيد وينقص. ولذا قال الناظم -رحمه اللَّه تعالى-: (وينقص): أي الإيمان يعني إيمان العبد المؤمن. (طورًا): أي حالًا ومرة ويجمع الطور على أطوار. ¬
قال في القاموس: الطور: التارة (¬1). وفي حديث سطيح: (¬2) "فإن ذاك الدهر أطوار دهارير" (¬3). قال في النهاية: "الأطوار: الحالات المختلفة والتارات والحدود واحدها طور أي مرة ملك ومرة هلك ومرة بؤس ومرة نعم" (¬4). (بالمعاصي): جمع معصية وهي ما يذم مرتكبها من كبيرة وصغيرة. (وتارة): أي مرة ونوبة، قال في القاموس: التارة: المرة ترك همزها لكثرة الاستعمال والجمع تير" (¬5). (بطاعته): أي العبد المؤمن من ذكر وأنثى. (ينمو): أي يزيد، يقال نمى الشيء ينمو نموًا زاد وارتفع وكثر. (وفي الوزن): أي الميزان. (يرجح): ويثقل لزيادته بالطاعات. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه شرح الإيمان والإسلام، مذهب أهل السنة والحديث على أن الإيمان يتفاضل وجمهورهم يقول: يزيد وينقص. ومنهم من يقول: يزيد ولا يقول ينقص. كما يروى عن الإمام مالك في إحدى الروايتين. ¬
ومنهم من يقتصر على القول بأنه يتفاضل كالإمام عبد اللَّه بن المبارك. وقد ثبت لفظ الزيادة والنقصان في الإيمان عن الصحابة -رضي اللَّه عنهم- ولم يعلم لهم فيه مخالف منهم، وقد نطق القرآن بالزيادة في الإيمان في عدة آيات كقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال: 2]. قال شيخ الإسلام: "وهذا يجده المؤمن إذا تليت عليه الآيات ازداد قلبه بفهم القرآن ومعرفة معانية من علم الإيمان ما لم يكن حتى كأنه لم يسمع الآية إلا حينئذ ويحصل في قلبه من الرغبة في الخير والرهبة من الشر ما لم يكن فيزداد علمه باللَّه ومحبته لطاعته وهذا زيادة الإيمان. وقال تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173]. فهذه الزيادة عند (تخويفهم) (¬1) بالعدو لم يكن عند آية نزلت فازدادوا يقينًا وتوكلًا على اللَّه وثباتًا على الجهاد وتوحيدًا بأن لا يخافوا المخلوق بل خافون اللَّه الخالق وحده. وقال تعالى: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا} [التوبة: 124]. وهذه الزيادة ليست مجرد التصديق بأن اللَّه أنزلها بل زادتهم بحسب مقتضاها فإن كانت أمرًا بالجهاد وغيره ازدادوا رغبة فيه، وإن كانت نهيًا عن شيء انتهوا عنه فكرهوه. ولهذا قال: {وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} والاستبشار غير مجرد التصديق. ¬
وقال تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} [المدثر: 31]. وهذه نزلت لما رجع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- هو وأصحابه من الحديبية فجعل السكينة موجبة لزيادة الإيمان، والسكينة هي الطمأنينة في القلب (¬1). وقوله تعالى: {يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن: 11] هداه لقلبه زيادة في إيمانه، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد: 17] وقال تعالى: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف: 13]. وقد روي من وجوه كثيرة شهيرة عن حماد بن سلمة (¬2) عن أبي جعفر (¬3) عن جده عمير (¬4) بن حبيب الخطمي -وهو من الصحابة رضي اللَّه عنهم- أنه قال: "الإيمان يزيد وينقص، قيل: وما زيادته ونقصانه؟ قال: إذا ذكرنا اللَّه تعالى ووحدناه وسبحناه فتلك زيادته وإذ غفلنا ونسينا فذاك نقصانه" (¬5). ¬
وكذا قال أبو الدرداء -رضي اللَّه عنه-: "الإيمان يزيد وينقص" (¬1). وروى سيدنا الإمام أحمد ثنا يزيد ثنا جرير في عثمان قال: سمعت أشياخنا أو بعض أشياخنا أن أبا الدرداء قال: "إن من فقه العبد أن يتعاهد إيمانه وما نقص منه، ومن فقه العبد أن يعلم أنه يزداد إيمانه أم ينقص وأن من فقه العبد أن يعلم نزغات الشيطان أنى يأتيه" (¬2). ¬
وروى إسماعيل بن عياش عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- أنه قال: "الإيمان يزيد وينقص" (¬1). وروى الإمام أحمد عن (ذر) (¬2) قال: "كان عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- يقول لأصحابه: "هلموا نزداد إيمانًا فيذكرون اللَّه عز وجل" (¬3). وقال أبو عبيد (¬4) في "الغريب" في حديث علي -رضي اللَّه عنه-: إن الإيمان يبدو لمظة في القلب كلما ازداد الإيمان ازدادت اللمظة" (¬5). ¬
قال الأصمعي (¬1): "اللمظة مثل النكتة أو نحوها" (¬2). وفي نهاية ابن الأثير في حديث علي: "الايمان يبدو في القلوب لمظة" اللمظة بالضم مثل النكتة من البياض ومنه فرس ألمظ إذا كان بجحفلته بياض يسير" (¬3). والجحفلة بتقديم الجيم على الحاء المهملة للخيل بمنزلة الشفة وهي خاصة بالخيل والبغال والحمير (¬4). وروى الإمام أحمد عن عبد اللَّه بن عكيم قال: سمعت ابن مسعود يقول في دعائه: "اللهم زدنا وإيمانًا ويقينًا وفقهًا" (¬5) وصح عن عمار بن ياسر أنه قال: "ثلاث من كن فيه فقد استكمل الإيمان: ¬
إنصاف من نفسه، والإنفاق من الإقتار، وبذل السلام للعالم". ذكره البخاري في صحيحه. (¬1). وقال ابن عمر وجندب بن عبد اللَّه وغيرهما من الصحابة تعلمنا الإيمان ثم تعلمنا القرآن فأزددنا إيمانًا" (¬2). والآثار في هذا كثيرة جدًا -كما قال شيخ الإسلام روح اللَّه روحه- رواها المصنفون لآثار الصحابة في هذا الباب (¬3) قال: (¬4) وزيادة الإيمان من وجوه منها الإجمال والتفصيل فيما أمروا به فإنه وإن وجب على جميع الخلق الإيمان باللَّه ¬
ورسوله، ووجب على كل أمة التزام ما يأمر (¬1) به رسولهم مجملًا، فمعلوم أنه لم يجب في أول الأمر ما وجب بعد نزول القرآن كله ولا يجب على كل عبد من الإيمان المفصل مما أخبر به الرسول ما يجب على من بلغه خبره فمن عرف القرآن والسنن ومعانيهما لزمه من الإيمان المفصل بذلك ما لم يلزم غيره. ولو آمن الشخص باللَّه والرسول باطنًا وظاهرًا ثم مات قبل أن يعرف شرائع الدين مات مؤمنًا بما وجب عليه من الإيمان وليس ما وجب عليه وما وقع منه مثل إيمان من عرف الشرائع فآمن بها وعمل بها بل إيمان هذا أكمل وجوبًا ووقوعًا. وأما قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3]. فالمراد في (¬2) التشريع بالأمر والنهي لا أن كل واحد من الأمة وجب عليه ما يجب على سائر الأمة وأنه فعل ذلك، بل الناس متفاضلون في الإيمان أعظم تفاضل. ومنها الإجمال والتفصيل فيما وقع منهم فمن طلب علم التفصيل وعمل به فإيمانه أكمل ممن عرف ما يجب عليه والتزم به وأقر به ولم يعمل بذلك كله، وهذا الشخص المقر المقصر في العمل إنْ اعترف بذنبه وكان خائفًا من عقوبة ربه على ترك العمل أكمل إيمانًا ممن لم طب معرفة ما أمر به الرسول، ولا عمل بذلك ولا هو خائف أن يعاقب، بل هو في غفلة عن تفصيل ما جاء به الرسول مع أنه مقر بنبوته باطنًا وظاهرًا، فكل ما علم القلب بما جاء به الرسول فصدقه وما أمر به فالتزمه كان ذلك زيادة في إيمانه على من لم يحصل له ذلك، وإن كان معه إقرار عام وإلزام. وكذلك من عرف أسماء اللَّه تعالى ومعانيها فآمن بها، كان إيمانه أكمل ممن لم ¬
يعرف تلك الأسماء، بل آمن بها إيمانًا مجملًا أو عرف بعضها. وكلما ازداد الإنسان معرفة بأسماء اللَّه تعالى وصفات وآياته كان إيمانه أكمل. ومنها أن العلم والتصديق يكون بعضه أقوى من بعض وأثبت وأبعد عن الشك والريب وهذا أمر مشهود لكل ذي لب كما أن الحس الظاهر بالشيء الواحد مثل رؤية الناس الهلال وإن اشتركوا فيها فبعضهم تكون رؤيته أتم من بعض وكذلك سماع الصوت وشم الرائحة الواحدة وذوق النوع الواحد من الطعام، فكذلك معرفة القلب وتصديقه يتفاضل أعظم من ذلك من وجوه متعدده. (والمعاني) (¬1) التي يؤمن بها من معاني أسماء اللَّه تعالى وكلامه يتفاضل الناس في معرفة ذلك أعظم من تفاضلهم في معرفة غيرها. ومنها أن التصديق المستلزم لعمل القلب أكمل من التصديق الذي لا يستلزم عمله. فالعلم الذي يعمل به صاحبه أكمل من العلم الذي لا يعمل به فهذا علمه أوجب له محبة اللَّه تعالى وخشيته والرغبة فيما عنده من الرضوان والنعيم والجنة والهرب من النار. والذي لم يعمل بعلمه لم يوجب له ذلك مع أن كلًا منهما يعلم أن اللَّه حق والرسول حق والجنة حق والنار حق، فعلم الأول أكمل لأن قوة المسبب تدل على قوة السبب. وقد نشأت هذه الأمور عن العلم، فالعلم بالمحبوب يستلزم طلبه، والعلم بالمخوف ¬
يستلزم الهرب منه، فإذا لم يحصل اللازم دل على ضعف الملزوم. ولهذا قال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ليس "المخبر" (¬1) كالمعاين (¬2) فإن موسى عليه السلام لما أخبره ربه أنّ قومه عبدوا العجل لم يلق الألواح، فلما رآهم عاكفين على عبادته ألقاها. وليس ذلك لشك موسى في خبر اللَّه لكن المخبر وإن جزم بصدق الخبر فقد لا يتصور المخبر به في نفسه كما يتصوره إذا عاينه، ولهذا جعلوا اليقين ثلاثة أنواع: علم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين. ومنها أن الأعمال الظاهرة والباطنة من الإيمان والناس يتفاضلون في ذلك عيانًا (¬3). وعلى كل حال الناس متفاضلون في الإيمان تفاضلًا ظاهرًا لا يخفى على ذي حس وعلم. ولهذا كان ما عليه سلف الأمة وجل الأئمة: أن الإيمان: قول وعمل ونية يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية. قال الإمام عبد البر (¬4) في التمهيد: "أجمع أهل الفقه والحديث على أن الإيمان ¬
قول وعمل ولا عمل إلا بنية قال: والإيمان عندهم يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، والطاعات كلها عندهم إيمان إلا ما ذكر عن أبي حنيفة (¬1) وأصحابه فإنهم ذهبوا إلى أن الطاعات لا تسمى إيمانًا، قالوا إنما الإيمان التصديق والإقرار ومنهم من زاد المعرفة" (¬2) وذكر ما احتجوا به إلى أن قال: "وأما سائر الفقهاء من أهل الرأي والآثار بالحجاز والعراق والشام ومصر منهم مالك (¬3)؛ والليث (¬4) بن سعد، وسفيان (¬5) الثوري، والأوزاعي (¬6)؛ والشافعي (¬7)؛ وأحمد بن حنبل (¬8)، وإسحاق (¬9) بن راهويه، وأبو عبيد (¬10) القاسم بن سلام، وداود بن علي الظاهري (¬11)؛ والطبري (¬12) ومن سلك سبيلهم قالوا: الإيمان قول وعمل، قول باللسان وهو الإقرار، واعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح مع الإخلاص بالنية الصادقة. ¬
وقالوا: كل ما يطاع اللَّه به من فريضة ونافلة فهو من الإيمان، قالوا: والإيمان يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي. قال: وأهل الذنوب عندهم مؤمنون غير مستكملى الإيمان -كما مر- ألا ترى إلى قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن" (¬1) الحديث: يريد مستكمل الإيمان ولم يرد به نفى جميع الإيمان عن فاعل ذلك بدليل الإجماع على توريث الزاني والسارق وشارب الخمر، إذا صلوا إلى القبلة وانتحلوا دعوة المسلمين من قراباتهم المؤمنين الذين ليسوا بتلك الأحوال" (¬2). ثم قال: وعلى أن الإيمان يزيد وينقص يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية جماعة أهل الآثار والفقهاء أهل الفتيا في الأمصار. قال: "وهذا مذهب الجماعة من أهل الحديث والحمد للَّه" (¬3). ثم رد على المرجئة وعلى الخوارج والمعتزلة بالموارثة وبحديث عبادة بن الصامت "من أصاب من ذلك شيئًا فعوقب به في الدنيا فهو كفارة له" (¬4). وقال: الإيمان مراتب بعضها فوق بعض فليس ناقص الإيمان ككامله، قال اللَّه تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ ¬
زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال: 2] إلى قوله: {حَقًّا} أي هم المؤمنون حقًا. ومنه قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في عدة أحاديث: "أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا" رواه الإمام أحمد وأبو داود وابن حبان والحاكم من حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- (¬1). وروى الترمذي وابن حبان عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا وخياركم خياركم لنسائهم" (¬2) إلي غير ذلك من الأحاديث. ومعلوم أن هذا لا يكون أكمل حتى يكون غيره أنقص منه وقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أوثق عرى الإيمان الحب في اللَّه" رواه الطبراني من حديث ابن عباس -رضي اللَّه عنهما- (¬3). ¬
وقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا إيمان لمن لا أمانة له" (¬1). فهذه الأحاديث تدل على أن بعض الإيمان أوثق وأكمل من بعض" (¬2). وكذلك ذكر أبو عمر الطلمنكي (¬3) إجماع أهل السنة على أن الإيمان قول وعمل ونية (¬4). قال شيخ الإسلام: "ولما صنف الفخر الرازي (¬5) " مناقب الإمام الشافعي -رضي اللَّه عنه- ذكر قوله في الإيمان: أنه إقرار باللسان وعقد بالجنان وعمل بالأركان (¬6) كقول الصحابة والتابعين. ¬
(استشكل قول الشافعي جدًا لأنه كان فد انعقد في نفسه شبهة) (¬1) أهل البدع في الإيمان من الخوارج والمعتزلة والجهمية والكرامية وسائر المرجئة وهو أن الشيء المركب إذا زال بعض أجزائه لزم زواله كله". قال شيخ الإسلام: "لكن الرازي لم يذكر إلا ظاهر شبهتهم". وأجاب شيخ الإسلام -قدس اللَّه روحه-: بأنه يسلم له أن الهيئة الاجتماعية لم تبق مجتمعه كما كانت لكن لا يلزم من زوال بعضها زوال سائر أجزائها" (¬2). -يعني كبدن الإنسان إذا ذهب منه أصبع أو يد أو رجل ونحو ذلك لم يخرج عن كونه إنسانًا بالاتفاق، وإنما يقال له إنسان ناقص- (¬3). والشافعي كسائر السلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان والأئمة المقتدى بهم يقولون: إن الذنب يقدح في كمال الإيمان، ولهذا نفى الشارع الإيمان عن هؤلاء كالزاني والسارق وشارب الحمر ونحوهم، فإن ذلك المجموع الذي هو الإيمان الكامل لم يبق مجموعًا مع الذنوب لكن يقولون: بقى (¬4) بعضه إما أصله، وإما أكثره وإما غير ذلك فيعود الكلام إلى أنه يذهب بعضه ويبقى بعضه. ¬
ولهذا كانت المرجئة تنفر من لفظ النقص أعظم من نفورها من لفظ الزيادة، لأنهم يزعمون أنه إذا نقص لزم ذهابه كله عندهم إن كان متبعضًا متعددًا عند من يقول بذلك وهم الخوارج والمعتزلة. وأما الجهمية فهو واحد عندهم، فلا يقبل التعدد فيثبتون واحدًا لا حقيقة له كما قالوا مثل ذلك في وحدانية الرب عز وجل ووحدانية صفاته عند من أثبتها منهم. والأصل الذي أوقعهم في هذا اعتقادهم أنه لا يجتمع في الإنسان بعض الكفر وبعض الإيمان أو ما هو كفر وما هو إيمان. وزعموا أن هذا متفق عليه بين المسلمين كما ذكر ذلك أبو حسن الأشعري وغيره من النظار (¬1). ولأجل اعتقادهم هذا الإجماع وقعوا فيما هو مخالف للإجماع الحقيقي إجماع السلف الذي ذكره غير واحد من الأئمة، بل وصرح غير واحد بكفر من قال بقول جهم في الإيمان (¬2). قال شيخ الإسلام: وقد قال لي بعضهم مرة الإيمان من حيث هو إيمان لا يقبل الزيادة والنقصان فقلت له: قولك من حيث هو كقولك (الإنسان) (¬3) من حيث (هو) (3) إنسان، و (الحيوان) (3) من حيث (هو) (3) حيوان و (الوجود) (3) من حيث هو وجود فتثبت (¬4) لهذه المسميات وجودًا مطلقًا عن جميع القيود والصفات ¬
وهذا لا حقيقة له في الخارج وإنما هو شيء يقدره الإنسان في ذهنه كما يقدر موجودًا لا قديمًا ولا حادثًا ولا قائما بنفسه ولا بغيره والماهيات من حيث هي هي شيء يقدر في الأذهان لا في العيان. وهكذا تقدير إيمان لا يتصف به مؤمن بل هو مجرد عن كل قيد، بل ما تم إيمان في الخارج إلا مع المؤمنين كما لا (¬1) ثم إنسانية في الخارج إلا ما أتصف بها الإنسان. فكل إنسان له إنسانية تخصه، وكل مؤمن له إيمان يخصه فإنسانية زيد تشبه إنسانية عمرو، وليست هي هي والاشتراك إنما هو في أمر كلي مطلق يوجد في الأذهان دون الأعيان، فلا وجود له في الخارج إلا في ضمن أفراده، فإذا قيل إيمان زيد مثل إيمان عمرو فإيمان كل واحد يخصه، وذلك الإيمان يقبل الزيادة والنقصان، ومن نفى التفاضل تصور في نفسه إيمانًا مطلقًا كما يتصور إنسانًا مطلقًا، ووجودًا مطلقًا عن جميع الصفات المعينة له ثم يظن أن هذا هو الإيمان الموجود في الناس، وذلك لا يقبل التفاضل بل لا يقبل في نفسه التعدد إذْ هو تصور معين قائم في نفس متصوره. ولهذا يظن كثير من هؤلاء أن الأمور المشتركة في شيء واحد هي واحدة في الشخص والعين حتى انتهى الأمر بطائفة من علمائهم علمًا وعبادة إلى أن جعلوا الوجود كذلك فتصوروا أن الموجودات مشتركة في مسمى الوجود وتصوروا هذا في أنفسهم فظنوه في الخارج كما هو في أنفسهم ثم ظنوا أنه اللَّه تعالى اللَّه عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا". فجعلوا رب العالمين هو هذا الوجود الذي لا يوجد قط إلا في نفس متصوره لا ¬
يكون في الخارج أبدًا وهكذا كثير من الفلاسفة تصوروا (¬1) أعدادًا مجرده وحقائق مجرده ويسمونها المثل الأفلاطونية وزمانًا مجردًا عن الحركة والمتحرك، وبعدًا مجردًا عن الأجسام وصفاتها ثم ظنوا وجود ذلك في الخارج". قال: "وهؤلاء كلهم اشتبه عليهم ما في أذهانهم بما في الأعيان" (¬2). وتولد من هذا بدع ومفاسد كثيرة واللَّه المستعان. قال الحافظ ابن حجر في شرح البخاري: "ذهب السلف إلى أن الإيمان يزيد وينقص وأنكر ذلك أكثر المتكلمين". قال الإمام النووي: "والأظهر المختار أن التصديق يزيد وينقص بكثرة النظر ووضوح الأدلة، ولهذا كان إيمان الصديق أقوى من إيمان غيره بحيث لا تعتريه الشبهة (¬3) ". قال (¬4) (ويؤيده) أن كل واحد يعلم أن ما في قلبه يتفاضل حتى أنه يكون في بعض الأحيان أعظم يقينًا وإخلاصًا وتوكلًا منه في بعضها، وكذلك في التصديق والمعرفة بحسب ظهور البراهين وكثرتها". وما نقل عن السلف يعني أن الإيمان يزيد وينقص صرح به عبد الرزاق (¬5) في ¬
مصنفه عن سفيان الثوري (¬1)؛ ومالك بن أنس (¬2)؛ والأوزاعي (¬3)؛ وابن جريج (¬4)؛ ومعمر (¬5)؛ وغيرهم وهؤلاء فقهاء الأمصار في عصرهم. وكذا نقله أبو القاسم اللآلكائي (¬6) في كتاب السنة عن الشافعي (¬7)، وأحمد (¬8) بن حنبل، وإسحاق بن راهويه (¬9)؛ وأبي عبيد (¬10)؛ وغيرهم من الأئمة (¬11). و (يروى) (¬12) بسند صحيح عن البخاري (¬13) قال: لقيت أكثر من ألف ¬
رجل من العلماء بالأمصار فما رأيت أحدًا منهم يختلف في أن الإيمان قول وعمل ويزيد وينقص (¬1) وأطنب ابن أبي حاتم (¬2) واللآلكائي في نقل ذلك بالأسانيد عن جمع كثير من الصحاية والتابعين وكل من يدور عليه الإجماع من الأئمة (¬3)، وحكاه فضيل بن عياض (¬4)، ووكيع (¬5)، عن أهل السنة" (¬6). وقد روى الإمام أحمد في المسند من حديث معاذ بن جبل مرفوعًا: "الإيمان يزيد وينقص" (¬7). وأخرجه الديلمي في "مسند الفردوس" من حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- مرفوعًا أيضًا (¬8). ¬
الكلام على الخوارج
وتقدم ما نقلناه من الآثار عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة الدين من أهل السنة والجماعة المعتبرين وأئمة الحدث وأعلام علماء الصوفية أهل المعرفة والتمكين بأن الإيمان قول باللسان وعقد بالجنان وعمل بالأركان يزيد بالطاعة ويضعف بالعصيان واللَّه ولي الإحسان (¬1). ولما ذكر الناظم -رحمه اللَّه تعالى- الإيمان وأنه قول وفعل ونية وأنه يزيد وينقص بعد نهيه عن القول بتكفير أهل الصلاة وإن اقترفوا كبائر الذنوب أردف ذلك بالنهي عن اعتقاد رأى الخوارج فقال: (ولا تعتقد) بجنانك. . . (¬2) (رأى الخوارج): جمع خارج وأصلهم الذين خرجوا على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وفارقوه ¬
بسبب التحكيم كما مر وكانوا اثنى عشر ألفًا فأرسل إليهم ابن عباس -رضي اللَّه عنهما- فجادلهم ووعظهم فرجع بعضهم وأصر على المخالفة آخرون. وقد ثبت عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه قال: "تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين يقتلها أولى الطائفتين بالحق" (¬1) فقتلهم أمير المؤمنين علي -رضي اللَّه عنه- وطائفته وقال -صلى اللَّه عليه وسلم- في حق الخوارج المارقين: "يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم، يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية أينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرًا عند اللَّه تعالى لمن قتلهم يوم القيامة" (¬2). وقد روى مسلم أحاديثهم في صحيحه من عشرة أوجه (¬3). واتفق الصحابة -رضي اللَّه عنهم- على قتالهم وفرح علي بقتالهم وأخبر أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أمره به (¬4). ولما قيل له -رضي اللَّه عنه-: الحمد للَّه الذي أراح (¬5) منهم العباد قال: كلا والذي نفسي بيده إن منهم لفي أصلاب الرجال، وإن منهم لمن يكون مع الدجال (¬6). ¬
ولقبح سيرتهم وخبث سريرتهم قال الناظم -رحمه اللَّه تعالى-: (إنه) أي رأي الخوارج الذي هو اعتقادهم الخارج. (مقالٌ): شنيع ورأى فظيع (لمن) أي لكل (¬1) إنسان. (يهواه): ويميل إلى صريحه وفحواه وينحو منحاه. (يرديه): في مهاوى هواه (ويفضحه) في الآخرة عند مولاه، ولا ينفعه ما ألحمه (¬2) وأسداه وينكشف ستره ويظهر مغطاه ولا ينفعه الندم عند زلة القدم ولا قوله يا ويلتاه. وهؤلاء تشعبوا إلى (سبع) (¬3) فرق مارقة وهم أشد إلحادًا من الزنادقة. الأولى: المحكمة الذين خرجوا على أمير المؤمنين -علي رضي اللَّه عنه- عند التحكيم وكفروه وهم أثنا عشر ألف كما مر ومن رأيهم أنه من نصب من قريش وغيرهم وعدل فهو إمام، ولم يوجبوا نصب الإمام واعتقدوا كفر عثمان بن عفان وأكثر الصحابة -رضي اللَّه عنهم أجمعين- واعتقدوا كفر كل مرتكب معصية. الثانية: البيهسية: وهم اتباع (أبي) (¬4) بيهس (واسمه) (¬5) الهيصم، زعموا ¬
أن الإيمان هو العلم باللَّه تعالى وما جاء به الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- فمن وقع فيما لا يعرف أهو حلال أم حرام فهو كافر لوجوب الفحص عنه وقيل لا حتى يرجع إلى الإمام فيحده وما لا حد فيه فمغفور، وقيل إذا كفر الإمام كفرت الرعية حاضرًا كان أو غائبًا، والأطفال كآبائهم إيمانًا، وكفرًا". الثالثة: الأزارقة أتباع نافع بن عبد اللَّه بن الأزرق الخارجي اللعين، وقد خرج معه قوم من البصرة والأهواز وغيرهما من بلدان فارس وغيرها وعظمت شوكتهم وتملكوا الأمصار وكانت له آراء ومذاهب دانوا بها معه منها: أنه كفر عليًا -رضي اللَّه عنه- بسبب التحكيم وزعم أن قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ. . .} [البقرة: 204] نزل (¬1) في حق علي -رضي اللَّه عنه- وزعم أنه نزل في حق عبد الرحمن بن ملجم -قبحه اللَّه- {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} [البقرة: 207]. ومنها: أنه كفر من لم يقل برأيه واستحل دمه وكفر القعدة عن القتال وتبرأ ممن قعد عنه. ومنها: أن من ارتكب كبيرة خرج من الإسلام وكان مخلدًا في النار مع سائر الكفار، وأستدل لذلك بكفر إبليس، وقال ما ارتكب إلا كبيرة حيث أمر بالسجود فامتنع، وإلا فهو عارف بوحدانية اللَّه تعالى. وحرم التقية وجوز قتل (أولاد) (¬2) المخالفين ونسائهم، وقال لا حد للقذف، ولا للزنا حكى عنه خالد بن خداش قال: لما تفرقت آراء الخوارج ومذاهبهم، أقام نافع بن الأزرق بسوق الأهواز يتعرض الناس وكان متشككًا في ذلك، فقالت له ¬
امرأة إن كنت كفرت بعد إيمانك وشككت فدع نحلتك ودعوتك، وإن كنت خرجت من الكفر للإيمان فاقتل الكفار حيث لقيتهم، تعنى المسلمين المخالفين لمذهبه وأثخن في النساء والصبيان كما (¬1) قال نوح: {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح: 26] فقبل قولها وبسط سيفه فقتل الرجال والنساء، فإذا وطئ بلدًا كان ذلك دأبه حتى يجيبه أهلها فيضع عليهم الجباية والخراج. . . واشتدت شوكته وفشى عماله في السواد فارتاع لذلك أهل البصرة فمشوا إلى الأحنف بن قيس وشكوا إليه أمرهم، وقالوا ليس بيننا وبين القوم إلا ليلتان، فقال لهم الأحنف: إن سيرتهم في مصركم إن ظفروا بكم مثل سيرتهم في سواكم فخذوا في جهاد عدوكم وحرضهم الأحنف فاجتمع إليه زهاء عشرة آلاف في السلاح فأمر عليهم مسلم (بن عبيس) (¬2) وكان شجاعًا دينا فخرج فلما صار بموضع يعرف بدولاب خرج إليه نافع بن الأزرق ومعه نحو ستمائة نفر فاقتتلوا قتالًا شديدًا فقتل في المعركة ابن عبيس (¬3) وهو أمير على أهل (¬4) البصرة وقتل نافع بن الأزرق أيضًا، فعجب الناس من قتل الأميرين، ثم أمر غيرهما وعاد القتال، فانهزم البصريون وتبعهم الخوارج فألقوا نفوسهم في دجيل (¬5) فغرق منهم خلق كثير أكثرهم من الأزد وفي ذلك يقول شاعر الأزارقة: ¬
يرى من جاء ينظر في دجيل ... شيوخ الأزد طافية لحاها (¬1) فقلق أهل البصرة لذلك، ودخل الرعب في قلوبهم من الخوارج فبينما هم كذلك إذ ورد المهلب بن أبي صفرة متوجهًا إلى خراسان وقد كتب له عبد اللَّه بن الزبير رضي اللَّه عنهما عهده يها فلما مر بالبصرة قال الأحنف لوجوه أهل البصرة، واللَّه ما للخوارج غير المهلب فكلموه في ذلك فقال: هذا عهدي على خراسان وما كنت لأدع أمر أمير المؤمنين يعني عبد اللَّه بن الزبير فاتفق أهل البصرة مع الأحنف على أن يفتعلوا كتابًا على ابن الزبير يأمره بقتال الخوارج فكتبوه وفيه: أما بعد فإن الحسن بن عبد اللَّه كتب إليَّ يخبرني أن الخوارج أصابوا جندًا من المسلمين وأنهم أقبلوا نحو البصرة، وكنت كتبت عهدك على خراسان ووجهتك، وقد رأيت أن تبتدئ بقتال الخوارج، فإن الأجر فيه أعظم من مسيرك إلى خراسان، فلما قرأ المهلب الكتاب قال: واللَّه ما أسير إليهم حتى يجعل لي ما غلبت عليه وتقووني من بيت المال وانتخب من رجالكم وفرسانكم من شئت، فأجابوه إلا طائفة منهم من بني مسمع فحقد عليهم المهلب، وسار إلى الخوارج فكان عليهم أشد من كل من قاتلهم وبلغ ابن الزبير افتعال الكتاب فلم يقل شيئًا، وأقره على ذلك، وقتل المهلب أميرهم عبد اللَّه بن الماخور وكسر شوكتهم بعد وقائع يشيب لها الرضيع وخدائع يحتار فيها ذو الرأي البديع ومصارع يلين لها الصلد (¬2) المنيع، واللَّه المستعان. ¬
الرابعة: من فرق الخوارج: النجدية أتباع كدة بن عامر (الحنفي) (¬1) ومن رأيهم (أنه) (¬2) لا حاجة إلى الإمام ويجوز نصبه ووافقوا الأزارقة على التكفير. الخامسة: (الأصفرية) (¬3) وهم أتباع زياد بن الأصفر خالفوا الأزارقة في تكفير القعدة، وفي منع الحد على الزنا وفي قتل أولاد الكفار. وقالوا: المعصية الموجبة للحد لا يدعى صاحبها إلا بها، وما لا حد فيه لعظمه (كترك) (¬4) الصوم كفر ويزوجون المؤمنة من الكافر في دار التقية دون العلانية. السادسة: الأباضية أتباع عبد اللَّه بن أباض، قالوا مخالفونا كفار غير مشركين تجوز مناكحتهم وتقبل شهادة مخالفيهم عليهم، ومرتكب الكبيرة موحد غير مؤمن، والاستطاعة قبل الفعل ومخلوق العبد مخلوق للَّه تعالى، ومرتكب الكبائر كافر كفر نعمة لا كفر ملة وكفروا عليًا وأكثر الصحابة، ثم افترقوا أربع فرق: * الحفصية أتباع أبي حفص بن أبي المقدام: زادوا أن بين الإيمان والشرك معرفة اللَّه، فمن كفر بأمر سوى الشرك أو بارتكاب كبيرة فكافر لا مشرك. * واليزيدية: زعموا أن سيبعث نبي من العجم بكتاب يكتب من السماء وتترك شريعة محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى ملة الصابئة وعندهم كل ذنب شرك. ¬
* والحارثية: أتباع أبي الحارث الأباضي، خالفوا في العذر والاستطاعة قبل الفعل. * وفرقة رابعة منهم قالوا: بطاعة لا يراد بها اللَّه. السابعة: من فرق الخوارج: العجاردة: أتباع عبد الرحمن بن عجرد زادوا على النجدية وجوب دعوة الطفل إلى الإسلام إذا بلغ وأطفال المشركين في النار وتتشعب هذه الفرقة إلى إحدى عشر (¬1) فرقة. وقد ذكرتهم في شرح الدرة: "لوامع الأنوار" (¬2) واللَّه ولى الأسرار، وجميع فرق الخوارج مارقة وللدين القويم مفارقة إلا من أتبع هداه وصادم هواه واللَّه أعلم. تنبيه: هذا البيت والذي بعده في الكلام على المرجئة (¬3) يليان بيت: ولا تكفرن أهل الصلاة. . . إلخ. على ما في طبقات الأصحاب (¬4) للعليمي (¬5) ولكن في النسخة التي كنا ¬
شرحناها أولا كما ذكرناها (¬1) وكنت رأيت القصيدة على ما شرحنا في مجموع من خط العلامة الشيخ موسى الحجاوي (¬2) الحنبلي صاحب "الإقناع" رحمه اللَّه تعالى فلذلك اعتمدتها. ¬
الكلام على المرجئة
ثم قال الناظم -رحمه اللَّه تعالى-: (ولا تك) بحذف النون تخفيفًا -كما مر أول القصيدة- واسمها ضمير يرجع للمخاطب و (مرجئا) خبرها. والمرجئة: هم الذين يرجئون الأعمال عن النية والاعتقاد أي يؤخرونها فلذلك سموا المرجئة من الإرجاء وهو التأخير، أو لأنهم يقولون: لا يضر مع الإيمان معصية، كما لا ينفع مع الكفر طاعة، لأن الإيمان عندهم هو التصديق والقول. وعند الجهمية: مجرد التصديق. وعند الكرامية: مجرد قول اللسان فقط كما مر، وربما سمى متكلموا المرجئة وفقهاؤهم الأعمال إيمانًا مجازًا لأن العمل ثمرة الإيمان ومقتصاه ولأنها دليل عليه ويقولون في قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "الإيمان بضع وستون أو بضع وسبعون شعبة أفضلها قول لا إله إلا اللَّه وأدناها إماطة الأذى عن الطريق" (¬1): هذا مجاز. قال شيخ الإسلام -روح اللَّه روحه- في كتابه شرح الإيمان والإسلام: المرجئة ثلاثة أصناف: الأول الذين يقولون الإيمان مجرد ما في القلب. ثم من هؤلاء من يدخل فيه أعمال القلوب وهم أكثر فرق المرجئة كما ذكر أبو الحسن الأشعري أقوالهم في كتابه (¬2) وذكر فرقًا كثيرة يطول ذكرهم ومنهم من لا يدخلها كالجهم بن صفوان ومن اتبعه كا (الصالحي) (¬3) (وهذا ¬
الذي نصره هو وأكثر أصحابه) (¬1). الثاني: من يقول هو مجرد قول اللسان، وهذا لا يعرف لأحد قبل الكرامية. الثالث: تصديق القلب وقول اللسان، وهذا هو المشهور عن أهل الفقه والعبادة منهم" (¬2) قال شيخ الإسلام: "وهؤلاء غلطوا من وجوه: أحدها: ظنهم أن الإيمان الذي فرضه اللَّه على العباد متماثل في حق العباد وعليهم وأن ما وجب على شخص يجب مثله على كل شخص، وليس الأمر كذلك، بل ذلك يتفاوت ويتفاضل أشد تفاوت وتفاضل -كما تقدمت الإشارة إلى ذلك. فالإيمان الواجب متنوع ليس شيئًا واحدًا في حق جميع الناس. الثاني: من غلط المرجئة: ظنهم أن ما في القلب من الإيمان ليس إلا التصديق فقط دون أعمال القلوب -كما تقدم عن جهمية المرجئة. الثالث: ظنهم أن الإيمان الذي في القلب يكون تامًا بدون شيء من الأعمال، ¬
ولهذا يجعلون الأعمال ثمرة الإيمان ومقتضاه بمنزلة السبب مع المسبب ولا يجعلونها لازمة له. والتحقيق أن إيمان القلب التام يستلزم العمل الظاهر بحسبه لا محالة ويمتنع أن يقوم كالقلب إيمان تام بدون عمل ظاهر" (¬1). قال شيخ الإسلام -روح اللَّه روحه- (¬2): "ولهذا صاروا يقدرون مسائل يمتنع وفوعها لعدم تحقق الارتباط الذي بين البدن والقلب مثل قولهم: رجل في قلبه من الإيمان مثل ما في قلب أبي بكر وعمر -رضي اللَّه عنهما- وهو لا يسجد للَّه تعالى سجدة ولا يصوم رمضان ويزنى بأمه وأخته ويشرب الخمر نهار رمضان، فيزعمون أن هذا مؤمن تام الإيمان فيبقى سائر المؤمنين ينكرون ذلك غاية الإنكار" (¬3) ويعدون مثل هذا أنه يلعب بدينه ويهزأ بإيمانه. ولهذا قال الناظم -رحمه اللَّه تعالى: (ولا تك مرجئا لعوبًا بدينه) ولعوب من أبنية المبالغة. أي كثير اللعب واللعب ضد الجد. وفي الحديث: "لا يأخذن أحدكم متاع أخيه لاعبًا جادًا" (¬4) أي يأخذه ولا ¬
يريد سرقته ولكن يريد إدخال الهم والغيط عليه فهو لاعب في السرقة جاد في الأذية (¬1). قال سيدنا الإمام أحمد -رضي اللَّه عنه-: ثنا (خالد) (¬2) بن حيان، ثنا معقل ابن عبيد اللَّه (العبسى) (¬3) قال قدم علينا سالم الأفطس (¬4) بالإرجاء فنفر منه أصحابنا نفورًا شديدًا، منهم: ميمون بن مهران (¬5)؛ وعبد الكريم بن مالك (¬6) فإنه عاهد اللَّه أن لا يأويه وإياه سقف بيت إلا المسجد، قال معقل: فحججت فدخلت ¬
على عطاء بن أبي رباح (¬1) في نفر من أصحابي وهو يقرأ: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا} [يوسف: 110] (¬2). قلت: إن لنا حاجة فأخل لنا ففعل (فأخبرته) بالإرجاء وأن ناسًا أتوا به وأن الصلاة والزكاة ليستا من الدين، قال أوليس اللَّه يقول: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5] فالصلاة والزكاة من الدين، وذكر من أقوالهم وزعموا أنهم انتحلوك فتبرأ منهم. . . . وكذلك نافع (¬3) تبرأ منهم، وكذلك الزهري (¬4)، فقال (¬5) سبحان اللَّه قد أخذ الناس في هذه الخصومات، قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن" (¬6). ¬
والجميع تبرأوا منهم وقالوا: "ليس إيمان من أطاع اللَّه تعالى كإيمان من عصاه" (¬1). قال شيخ الإسلام (روح اللَّه روحه) (¬2): "المرجئة كلهم يقولون: الصلاة والزكاة ليستا من الإيمان وأما من الحدين فحكي عن بعضهم أنه يقول: ليستا من الدين ولا نفرق بين الإيمان والدين". قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وهذا المعروف من أقوالهم (¬3) ولم أر في كتاب أحد منهم أنه قال إن الأعمال ليست من الدين بل يقولون: ليست من الإيمان". (وكذلك) (¬4) حكى أبو عبيد (¬5) عمن ناظره منهم فإن أبا عبيد وغيره يحتجون بأن الأعمال من الدين فذكر قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3]. أنها نزلت في حجة الوداع فأخبر تعالى أنه أكمل الدين في آخر الإسلام في حجة ¬
النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال وزعم هؤلاء أنه كان كاملًا قبل ذلك بعشرين سنة من أول ما نزل عليه الوحي بمكة حين دعى الناس إلى الإقرار، قال حتى لقد اضطر بعضهم حين أدخلت عليه الحجة إلى أن قال: إن الإيمان ليس بجميع الدين، ولكن الدين ثلاثة أجزاء فالإيمان جزء والفرائض جزء والنوافل جزء. قال شيخ الإسلام: "هذا هو مذهب القوم". قال أبو عبيد: "وهذا غير ما نطق به الكتاب ألا تسمع إلى قوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19] {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85] {وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]. فأخبر أن الإسلام هو الدين برمته، وهؤلاء يزعمون أنه ثلث الدين" (¬1). ولما كان الإمام أحمد، وكذا أبو ثور (¬2) ونحوهما قد عرفوا قول المرجئة وهو قولهم: إن الإيمان لا يذهب بعضه ويبقى بعضه، فلا يكون ذا عدد اثنين أو ثلاثة فإنه إذا كان ذا عدد أمكن ذهاب بعضه وبقاء بعضه بل لا يكون إلا شيئًا واحدًا، قال لهم الإمام أحمد: من زعم أن الإيمان الإقرار فما يقول في المعرفة هل يحتاج إلى المعرفة مع الإقرار وهل يحتاج أن يكون مصدقًا بما عرف فإن زعم أنه يحتاج إلى المعرفة مع الإقرار فقد أقر أنه من اثنين وإن قال إنه يحتاج أن يكون مقرًا ومصدقًا بما عرف (¬3) فهو من ثلاثة أشياء وإن جحدو قال: لا يحتاج إلى المعرفة والتصديق فقد ¬
قال قولًا عظيمًا. قال: ولا أحسب أحدًا يدفع المعرفة والتصديق وكذلك العمل مع هذه الأشياء" (¬1) انتهى. قال شيخ الإسلام: "قالت الجهمية: الإيمان شيء واحد في القلب، وقالت الكرامية: هو شيء واحد على اللسان، كل ذلك فرار من تبعيض الإيمان وتعدده فالزمهم أبو ثور بما اجتمع عليه فقهاء المرجئة من أنه تصديق وعمل ولم يكن بلغة قول متكلميهم وجهميتهم، أو أنه بلغه ذلك ولم يعد خلافهم خلافًا. ولهذا دخل في إرجاء الفقهاء جماعة هم عند الأئمة أهل علم ودين، ولم يكفر أحد من السلف أحدًا من مرجئة الفقهاء، بل جعلوا هذا من بدع الأقوال والأفعال، لا من بدع العقائد، فإن كثيرًا من النزاع فيها لفظي" (¬2). ولم يثبت المدح إلا على إيمان معه عمل لا على إيمان خال من العمل كما جاء عن عطاء. فإذا اعترفوا أن الذم والعقاب واقع في ترك العمل كان بعد ذلك نزاعهم لا فائدة فيه، بل يكون لفظيًا مع أنهم مخطئون في اللفظ مخالفون للكتاب والسنة وإن قالوا إنه لا يضره ترك العمل، فهذا كفر صريح كما قاله شيخ الإسلام وهو ظاهر لا وقفة فيه. قال -قدس اللَّه روحه-: وبعض الناس يحكي هذا عنهم وأنهم يقولون: "إن اللَّه ¬
فرض على العباد فرائض ولم يرد منهم أن يعملوها، ولا يضرهم تركها، قال: وهذا قد يكون قول الغالية الذين يقولون: لا يدخل النار من أهل التوحيد أحد، لكن ما علمت معينًا أحكي عنه هذا القول, وإنما الناس يحكونه في الكتب ولا يعينون قائله، وقد يكون من لا خلاق له من الفساق والمنافقين يقولون: لا يضر مع الإيمان ذنب أو مع التوحيد وبعض كلام الرادين على المرجئة وصفهم بهذا انتهى" (¬1). وهذا مشهور عنهم فإنهم يقولون: كما لا ينفع مع الكفر طاعة، لا يضر مع الإيمان معصية. وأما إذا اعتقدوا أنهم مؤاخذون بترك المأمور وارتكاب المحظور فالخلف (¬2) معهم بحسب اللفظ فقط نعم اللفظ المطابق للكتاب والسنة هو الصواب، فليس لأحد أن يقول بخلافه ولاسيما وقد صار ذلك ذريعة إلى بدع أهل الكلام من أهل الإرجاء وغيرهم (و) (¬3) إلى ظهور الفسوق فصار ذلك الخطأ اليسير في اللفظ سببا لخطأ عظيم في العقائد والأعمال. فلهذا عظم القول في ذم الإرجاء حتى قال إبراهيم (¬4) النخعي "لفتنتهم يعني المرجئة أخوف على هذه الأمة من فتنة الأزارقة" (¬5) يعني الخوارج ¬
الذين تقدم ذكرهم (¬1). ولهذا الناظم قرن الطائفتين وعطف المرجئة على الخوارج. وقال الزهري: (¬2) "ما ابتدع في الإسلام بدعة أضر على أصله من الإرجاء" (¬3). وقال الأوزاعي: (¬4) "كان يحيى بن أبي كثير (¬5)؛ وقتادة (¬6) يقولان: ليس شيء من الأهواء أخوف عندهم على الأمة من الإرجاء" (¬7). وقال شريك (¬8) القاضي: "المرجئة أخبث قوم حسبك بالرافضة خبثًا، ولكن المرجئة يكذبون على اللَّه" (¬9). ¬
وقال سفيان الثوري: (¬1) "تركت المرجئة الإسلام أرق من ثوب سابري" (¬2). ولهذا قال الناظم -رحمه اللَّه تعالى-: (ألا): أداة استفتاح وتفيد التحقيق لما بعدها لتركبها من الهمزة ولا، وهمزة الاستفهام إذا دخلت على النفي أفادت التحقيق كما في القاموس وغيره. و (إنما): أداه حصر، (المرجي): بياء النسبه إلى طائفه من المرجئه وترك الهمز للوزن أو هو لغة والحق الثاني. قال في القاموس: "أرجأ الأمر أخره والناقة دنا نتاجها والصايد لم يصب شيئًا وترك الهمز لغة في الكل". وقوله تعالى: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ} [التوبة: 106] أي مؤخرون حتى ينزل اللَّه فيهم ما يريد. ¬
حاصل الأقوال في الإيمان
قال في القاموس: ومنه سميت المرجئة وإذا لم تهمز فرجل مرجي بالتشديد، وإذا همزت فرجل مرجئ كمرجع لا مرج كمعط وهم المرجئة بالهمز والمرجية بالياء مخففة" (¬1). (بالدين): القويم والإيمان المستقيم. (يمزح): من مزح كمنع مزحًا والمزاحة ومزاحا بضمها دعب ولعب والدعابة بالضم اللعب وداعبه مازحه، وذلك لأن حاصل قول غلاة المرجئة: أنه كما لا ينفع مع الكفر طاعة، لا يضر مع الإيمان معصية، وهذا قول خبيث ينقض عرى الإسلام، وهو سلم لترك الصلاة ومنع الزكاة والحج وترك الصيام وذريعة لمعاطاة الزنا واللواطة وسائر الآثار، ولا يرتاب ذو لب أن هذا مزاح بالدين ولعب، ومن نهج هذا المنهج فهو على شفا جرف هار وهو لسيرة أهل الكفر والإلحاد أقرب منه لسيرة الأبرار. وحاصل ما لأهل الإسلام في الإيمان خمسة أقوال: الأول: هو ما عليه المعول مذهب سلف الأمة وخالص الأئمة: أنه عقد بالجنان، وقول باللسان، وعمل بالأركان، يزيد بالطاعة، وينقص بالعصيان -كما تقدم ذلك بالنص والبرهان- فهو مركب من الثلاثة. والثاني والثالث والرابع: أن الإيمان بسيط لا مركب فهذه الثلاثة مذاهب: الأول: منها التصديق وحده، وهو قول الجهم بن صفوان ومن وافقه من الأشاعرة وغيرهم. ¬
تنبيه: هل القول بقبول الإيمان للزياده والنقصان مختص بمذهب السلف أو يعم من قال أنه قال التصديق فقط؟
الثاني: القول وحده، وهو مذهب الكرامية. الثالث: العمل وحده وعزاه الكرماني (¬1) في شرح البخاري للمعتزلة -ولعله قول لبعضهم- وأما مذهب المعتزلة فقد قدمنا أنه كمذهب السلف إلا أنهم يخرجون مرتكبي الكبائر من الإيمان، من ترك مأمور، أو معاطاة محظور ويخلدونه إذا مات على كبيرته في النار، فهذا مذهب إمامهم واصل بن عطاء (¬2)؛ وعمرو بن عبيد (¬3)، والجبائي (¬4) وغيرهم وهو من شر مذاهب أهل البدع (¬5). الخامس: قول المرجئة وهو مركب ثنائي من التصديق والقول باللسان فقط. تنبيه: هل القول بقبول الإيمان للزيادة والنقصان مختص بمذهب السلف ومن تبعهم ممن يدخل الأعمال فيه من الحلف كالقلانسي (¬6) وغيره من الأشاعرة أو يعم مذهب من قال إنه التصديق فقط؟ الحق كما قاله الإمام النووي (¬7) وغيره وجماعة من محقق علماء الكلام أن الزيادة والنقصان تدخل الإيمان، ولو قيل إنه التصديق والإذعان (¬8) لأن التصديق ¬
تتمة: من الاستثناء في الإيمان
القلبي يزيد وينقص أيضًا بكثرة النظر ووضوح البرهان وعدم ذلك، وما اعترض على هذا القول من أنه متى قبل ذلك كان شكًا مدفوع بأن مراتب اليقين متفاوته مع أنها لا شك معها وفي القرآن العظيم ما حكى عن خليله إبراهيم عليه وعلى نبينا وسائر الأنبياء أفضل الصلاة وأتم التسليم: {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260]. وتقدمت قصة موسى الكليم لما رأى قومه عاكفين على عبادة العجل مع ما كان أخبره اللَّه تعالى به من ذلك فحصل له من الغضب وإلقاء الألواح وأخذه بلحية أخيه هارون عليه السلام ورأسه ما لم يحصل له بإخبار اللَّه تعالى مع جزمه وتيقنه صدق الخبر ووقوع المخبر عنه بخبر من لا يبقي في القلب أدنى شك ولا ريبة، وباللَّه التوفيق (¬1). تتمة: مذهب السلف ومن وافقهم من الأشعرية جواز الاستثناء في الإيمان يقول الإنسان: أنا مؤمن إن شاء اللَّه خلافًا لمن يمنعه كالجهمية والمرجئة (¬2). وخلافًا لمن يوجبه كابن كلاب (¬3). ومن وافقه والقول بجواز الاستثناء مذهب أصحاب الحديث كالثوري وابن عيينة وأكثر علماء الكوفة. ¬
التحذير من أهل الرأي والكلام المحدث وأهل البدع
ويحيى بن سعيد القطان فيما يرويه عن علماء البصرة وهو مذهب الإمام أحمد وغيره من علماء السنة فإنهم يستثنون في الإيمان وهذا متواتر عنهم لأن الإيمان عندهم يتضمن فحل جميع الواجبات فلا يشهدون لأنفسهم بذلك كما لا يشهدون لها بالبر والتقوى من غير شك في إيمانهم كما هو منصوص الشافعي وأحمد -رضي اللَّه عنهما- خلافًا لأبي حنيفة -رضي اللَّه عنهم أجمعين- (¬1). ثم قال الناظم -رحمه اللَّه تعالى-: " (ولا تك من قوم) يعم أهل الاعتزال وأهل الرفض والوبال وأهل الكلام المحدث الذي ذمه وأهله السلف وبدعوا الذاهبين إليه والمعولين عليه. والحاصل أن الناظم أراد كل من اكتفى بالمعقول (¬2) عن المنقول ومال إلى ما أصَّله الفلاسفة ونحوهم عما جاء به الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- ولهذا قال: (تَلَهَّوا) أي تلاعبوا (بدينهم) الذي أمروا به من ربهم وجاء به نبيهم. ¬
واللهو: هو اللعب، يقال لهوت بالشيء الهو لهوا وتلهيت به إذا لعبت به وتشاغلت وغفلت به عن غيره والهاه عن كذا أشغله، ولهيت عن الشيء بالكسر الهى بالفتح لهيًا إذا سلوت عنه. ومن هذا قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إذا استأثر اللَّه بشئ فاله عنه" (¬1) أي أتركه وأعرض عنه ولا تتعرض له. وتلاعب مثل هولاء بدينهم أن يحدثوا له أصولا ويرتبوا له أبوابًا وفصولًا معتمدين على قواعد تعدوها وآراء اعتمدها زاعمين أنهم إنما يهتدون إلى الصواب بالعقول لا بالمنقول، وبابتداع الأصوال لا بقول الرسول. وقد قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه-: "إن أصحاب الرأي أعداء السنن أعيتهم الأحاديث أن يعوها وتفلتت منهم أن يحفظوها فقالوا في الدين برأيهم فضلوا وأضلوا" (¬2). وقال -رضي اللَّه عنه-: أيها الناس اتهموا الرأي في الدين فلقد رأيتني وإني لأرد أمر رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- برأى فاجتهد ولا آلو وذلك يوم أبي جندل" (¬3) -يعني في قصة الحديبية-". ¬
التحذير من الطعن في أهل الحديث ووجوب محبتهم وفيه ذكر فضائل أهل الحديث
وأضل كل رأي وأبطله وأفسده وأعطله الرأي المتضمن لتعطيل أسماء الرب وصفاته وأفعاله بالمقاييس الباطلة التي وضعها أهل البدع والضلالة من الخوارج والمرجئة والجهمية والمعتزلة والرافضة والقدرية ومن ضاهاهم من أهل الكلام حيث استعملوا قياساتهم الفاسدة وآراءهم الباطلة وشبههم الداحضة في رد النصوص الصحيحة، والآيات الصريحة فردوا لأجلها ألفاظ النصوص التي وجدوا السبيل بتكذيب رواتها وتخطئتهم وحرفوا المعاني التي لم يجدوا إلى رد ألفاظها سبيلًا فقابلوا النوع الأول بالتكذيب، والنوع الثاني بالتحريف والتأويل. وإلى الأول أشار الناظم -رحمه اللَّه تعالى- بقوله (فتطعن) أي تقع وتخوض. (في أهل الحديث): أي رواته وناقليه بالأسانيد المقبولة والروايات المنقولة. (وتقدح) في عدالتهم وصدقهم وتنسبهم إلى ما هم بريئون منه من الغلط وعدم ¬
الضبط والكذب والتخليط وعدم الحفظ مع كونهم حفاظًا عدولًا مقبولين (¬1) الرواية معلومين (¬2) العدالة. . وفي الحديث عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا يكون المؤمن طعانًا (¬3) أي وقاعًا في أعراض الناس بالذم والغيبة ونحوهما وهو فعال من طعن فيه وعليه بالقول يطعن بالفتح والضم إذا عابه. . . ". هذا مع قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الجاهلين وإبطال المبطلين وتأويل الغالين". قال مهنا: سألت الإمام أحمد عن هذا الحديث وهو عن معان بن رفاعة عن إبراهيم بن عبد الرحمن العذري فذكره فقلت كأنه كلام موضوع. قال الإمام أحمد: لا هو صحيح، فقلت له سمعته أنت؟ قال من غير واحد، قلت: من؟ قال: حدثني به مسكين إلا أنه يقول عن معان عن القاسم بن عبد الرحمن. ورواه الخلال من حديث معان عن إبراهيم عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. ¬
ورواه الحافظ أبو أحمد بن عدي عن عبد اللَّه البغوى ثنا أبو الربيع الزهراني ثنا حماد بن زيد ثنا بقية بن الوليد ثنا معان بن رفاعة عن إبراهيم ابن عبد الرحمن العذري قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فذكره. وقد روى من حدث أبي هريرة وعبد اللَّه بن عمرو بن العاص وغيرهما من الصحابة -رضي اللَّه عنهم- مرسلًا ومرفوعًا وفي لفظهما: "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين" (¬1). ¬
وقد أعتنى بهذا الحديث الإمام الحافظ ابن عبد البر وحاول تصحيحه واحتج به في أن كل من حمل العلم يعني علم الحديث فهو عدل (¬1). وقال الفضل (¬2) بن أحمد: سمعت الإمام أحمد وقد أقبل أصحاب الحديث بأيديهم المحابر فأوما إليها وقال: هذه سرج الإسلام، يعني المحابر (¬3). وقال الحافظ ابن الجوزي: قال الإمام الشافعي: "لولا المحابر لخطبت الزنادقة ¬
على المنابر (¬1). وقد نص الإمام أحمد على أن أصحاب الحديث هم الطائفة في قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق" (¬2). ونص أيضًا على أنهم الفرقة الناجية في الحديث الآخر (¬3). وكذا قال يزيد بن هارون (¬4). ونص سيدنا الإمام أحمد "على أن للَّه تعالى أبدالًا في الأرض" (¬5). ¬
وقال عنهم: إن لم يكونوا هؤلاء الناس يعني أهل الحديث فلا أدري من الناس (¬1). ¬
ونقل نعيم (¬1) بن طريف عنه -رضي اللَّه عنه- أنه قال في قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا يزال اللَّه تعالى يغرس غرسًا يشغلهم في طاعته. . . " (¬2) قال: هم أصحاب الحديث. وروى البويطي (¬3) عن الإمام الشافعي أنه قال: "عليكم بأصحاب الحديث فإنهم أكثر الناس صوابًا" (¬4). ¬
وقال أيضًا: "ومن كتب الحديث قويت حجته" (¬1). وقال سفيان: "سماع الحديث عز لمن أراد الدنيا ورشاد لمن أراد به الآخرة" (¬2). وقال عبد الملك بن مروان (¬3) للشعبي (¬4): يا شعبي عهدي بك وإنك لغلام في الكتاب فحدثني فما بقى معي شيء إلا وقد مللته سوى الحديث الحسن وأنشد (¬5): ومللت إلا من لقاء محدث ... حسن الحديث يزيدني تعليمًا (¬6) وقال المعافى (¬7) بن زكريا الجريري -وإنما قيل له الجريري لتفقهه على مذهب محمد بن جرير الطبري- في مثل قول عبد الملك: ¬
ولقد سئمت مآربي ... وكان أطيبها الحديث إلا الحديث فإنه ... مثل اسمه أبدا حديث (¬1) ولسنا بصدد ذكر مناقب أهل الحديث فإن مناقبهم شهيرة، ومآثرهم كثيرة، وفضائلهم غزيرة، فمن انتقصهم فهو خسيس ناقص، ومن (بغضهم) (¬2) فهو من حزب إبليس ناكص. كيف وقد دعا لهم النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بقوله: "نضر اللَّه امرءًا سمع منا شيئًا فبلغه كما سمعه فرب مبلغ أوعى من سامع" رواه أصحاب السنن إلا النسائي من حديث ابن مسعود مرفوعًا وحسنه الترمذي (¬3). فدعا لأصحاب الحديث بالنضارة وهى: النعمة والبهجة والحسن فيكون تقديره: جمله اللَّه وزينه (¬4). ¬
قال الخطابي في قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "نضر اللَّه امرءًا" بتشديد الضاد المعجمة وتخفيفها (¬1). ورواه الإمام أحمد (¬2)؛ وابن ماجة (¬3)؛ والطبراني (¬4) من حديث جبير بن مطعم قال: سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قول -بالخيف- خيف منى-: "نضر اللَّه عبدًا سمع مقالتي فحفظها ووعاها وبلغها من لم يسمعها، فرب حامل فقه لا فقه له، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ثلاث لا يغل (¬5) عليهن قلب مؤمن: إخلاص العمل للَّه والنصيحة لأئمة المسلمين ولزوم جماعتهم فإن دعوتهم تحفظ من ورائهم". وفي لفظ رواية الطبراني: "تحيط" (¬6) بياء بعد الحاء وأحد إسنادي الإمام ¬
أحمد فيه حسن (¬1). وقال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اللهم ارحم خلفائي، قلنا: يا رسول اللَّه ومن خلفاؤك؟ قال: الذين يأتون من بعدي يروون أحاديثي ويعلمونها الناس" (¬2) رواه الطبراني في الأوسط عن حديث ابن عباس -رضي اللَّه عنهما-. وفي حديث رواه ابن ماجة عن أبي سعيد -رضي اللَّه عنه-: "سيأتيكم أقوام يطلبون العلم فإذا رأيتموهم فقولوا لهم: مرحبًا بوصية رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬3) (واقنوهم) " (¬4). ¬
وللنجم الغزي الشافعي العامري (¬1) -رحمه اللَّه تعالى-: لقد أوصى النبي الصحب يومًا ... بقوم يسألون العلم عنه إذا جاءوهم أن يكرموهم ... وينبوهم بما سمعوه منه فمن طلب الحديث فجل قدرًا ... ولا يدرك له كنه فكنه (¬2) وللحافظ جلال الدين السيوطي -رحمه اللَّه تعالى-: من كان من أهل الحديث فإنه ... ذو نضرة في وجهه نور يسطع إن النبي دعا بنضرة وجه من ... أدى الحديث كما تحمل واتبع وله أيضًا رحمه اللَّه: إن خفت يوم الحشر من هوله ... ورمت أن تحظى بكل المرام فعش على سنة خير الورى ... مقتفيًا أهل الحديث الكرام هم الألَى ينجون من هوله ... حين يقادون لدار السلام (¬3) وإلى النوع الثاني وهو ما لا يقدرون على الطعن في رواته والتكلم في نقلته من ¬
الحث على التمسك بالسنة وبيان أنها الطريق المستقيم والتحذير من الآراء المخالفة لها
النصوص القرانية والأحاديث الصحيحة الشهيرة التي قد بلغت مبلغ التواتر أو كانت متواترة بالتحريف والتأويل بمقتضى رأيهم: فقال: (ودع) أي: أترك وذر (عنك) غير محتفل به ولا مكترث له، ولا مهتم به، يقال ودع الشيء يدعه ودعا إذا تركه. والنحاة يقولون: إن العرب أماتوا ماضي يدع ومصدره واستغنوا عنه بترك. والنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أفصح العرب وقد استعمله في قوله: "لينتهين (¬1) أقوام عن ودعهم الجمعات أو ليختمن اللَّه على قلوبهم" (¬2). وإنما يحمل قولهم على قلة استعماله فهو شاذ في الاستعمال صحيح في القياس، وقد جاء في غير حديث حتى قرئ به (قوله تعالى) (¬3) {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحى: 3] بالتخفيف (¬4) وشذوذ الاستعمال إنما هو في الماضي منه ومصدره، وأما الأمر فشايع مشهور. (آراء الرجال): الآراء جمع رأي مصدر رأى رأيًا مهموز، وهو التفكر في مبادئ الأمور. ¬
(ونظر) (¬1) عواقبها وعلم ما يؤول إليه من الخطأ والصواب. وأصحاب الرأي عند الفقهاء هم أصحاب القياس والتأويل كأصحاب أبي حنيفة، وأصحاب أبي الحسن الأشعري -رحمهم اللَّه تعالى- (¬2) وهم (ضد أصحاب الظاهر (من) (¬3) داود بن علي الأصبهاني) وأبي محمد بن حزم ومن اتبعهما. وأما أصحاب التأويل فهم ضد أصحابنا من أتباع المأثور والمرور كما جاء عن الشارع مع التفويض (¬4) واعتقاد التنزيه عن التمثيل والتشبيه، فإن اللَّه تعالى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]. وقد أنشد ابن حزم (¬5) رحمه اللَّه لنفسه (¬6): من عذيري من أناس جهلوا ... لم ظنوا أنهم أهل النظر ركبوا الرأي عنادًا فسروا ... في ظلام تاه فيه من غبر ¬
وطريق الرشد نهج مهيع ... مثل ما أبصرت في الأفق القمر وهو الإجماع والنص الذي ... ليس إلا في كتاب أو أثر والرجال جمع رجل والمراد آراء مطلق الناس من ذكر بالغ أو غير بالغ، أو آراء النساء، ولكن لما كان الغالب أن يكون أصحاب الرأي رجالًا خصهم بالذكر (و) دع عنك (قولهم) لا تهتم به ولا تجعله لك مذهبا لأنه عرضة للخطأ وغير مضمون لأصحابه الصواب، ولكن إن كنت تبغي النجاة والفوز بالدرجات العالية والنعيم المقيم (فـ) أتبع (قول رسول اللَّه) -صلى اللَّه عليه وسلم- المعصوم من الزلل والخطأ والمضمون الإصابة في كل ما بلغه لأنه لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى. فهو (أزكى): أفعل تفضيل مأخوذ من زكى يزكو زكاء وزكرا نمى كأزكى أي أطهر وأصفى وأخلص من جميع أقوال الناس وآراءهم لأنه خرج من مشكاة نور الهداية وينبوع عين الفلاح. (وأشرح) أي أبين وأوضح وأوسع وأفسح من مقالات المتحذلقين وآراء المتعمقين وتأويلات المتنطعين فإنهم حرفوا النصوص عن مواضعها وأخرجوها عن معانيها وحقائقها بالرأى المجرد الذي حقيقته زبالة الأذهان ونحاتة الأفكار وعصارة الأوهام ووساوس الصدور وحوادس الخواطر فملأوا به الأوراق سوادًا والقلوب شكوكًا والعلم فسادًا، فكل من له مسكة من علم ودرية من فهم يعلم أن فساد العالم وخرابه إنما نشأ من تقديم الآراء على الوحي والهوى عن النقل، وما استحكم هذان الأصلان الفاسدان في قلب إلا استحكم هلاكه ولا في أمة إلا وفسد أمرها أتم فساد (¬1). ¬
وقد قال سيدنا الإمام أحمد -رضي اللَّه عنه-: رأي فلان ورأي فلان ورأي فلان عندي سواء، وإنما الحجة في الآثار (¬1). وروى ابن عبد البر (¬2) بسنده عن عبد اللَّه الحافظ المتقن ابن الإمام أحمد عن أبيه -رضي اللَّه عنه- (¬3): دين النبي محمد آثار ... نعم المطية للفتى الأخبار لا تعد عن علم الحديث وأهله ... فالرأي ليل والحديث نهار ولربما جهل الفتى طرق الهدى ... والشمس طالعة لها أنوار وقال غيره من أهل العلم (¬4): العلم قال اللَّه قال رسوله ... قال الصحابة ليس خلف فيه ما العلم نصبك للخلاق سفاهة ... بين النصوص ودين رأي فقيه كلا ولا رد النصوص تعمدًا ... حذرًا من التجسيم والتشبيه حاشا النصوص من الذي رميت به ... من فرقة التعطيل والتمويه وقال أبو محمد هبة اللَّه (¬5) بن الحسن الشيرازي -رحمه اللَّه تعالى- (¬6): ¬
عليك بأصحاب الحديث فإنهم ... على منهج للدين ما زال معلمًا وما النور إلا في الحديث وأهله ... إذا ما دجى الليل البهيم وأظلما وأعلى البرايا من إلى السنن اعتزى ... وأغوى البرايا من إلى البدع انتما ومن ترك الآثار قد ضل سعيه ... وهل يترك الآثار من كان مسلما وقال المجد بن أحمد الأربلي (¬1) -رحمه اللَّه تعالى-: إذا شئت أن تتوخى الهدى ... وأن تأتي الحق من بابه فدع كل قول ومن قاله ... لقول النبي وأصحابه فلم ينج من محدثات الأمور ... بغير الحديث وأصحابه (¬2) وقال غيره: أحب الحديث وأصحابه ... وللفوز نفسي لهم راجية وسجاياهم عذبه المجتبى ... وعيشتهم رغدة راضية فإن ما دجت ليلة في الظلام ... فهم أنجم الليلة الداجية وإن ما نجت فرقة في المعاد ... فما هم سوى الفرقة الناجية وقال آخر (¬3): ¬
عليكم بالحديث فليس شيء ... يعادله على كل الجهات نصحت لكم فإن الدين نصح ... ولا أخفي (نصائح) (¬1) واجبات وجدنا في الرواية كل فقه ... وأحكام ومن (كل) (¬2) اللغات (لذكر المسندات جعلت حفظي) (¬3) ... وحفظ العلم خير العائدات أئمته (¬4) النجوم وهل رشيد ... تكلم في النجوم الزاهرات (¬5) وقال الأوزاعي (¬6) عليك بالأثر وإن رفضك الناس وإياك وآراء الرجال وإن زخرفوه لك بالقول، فإن الأمر ينجلي وأنت على طريق مستقيم (¬7). وقد روى الناظم ابن أبي داود رحمهما اللَّه تعالى قال: حدثنا عبد اللَّه بن أحمد ابن حنبل قال: سمعت أبي -رضي اللَّه عنه- يقول: لا تكاد ترى أحدًا نظر في الرأي إلا في قلبه دغل (¬8). ¬
بيان الرأي المذموم والرأي الممدوح
وروي عن الحافظ عبد العظيم المنذري (¬1) قال: أنشدنا أبو الحسن المقدسي (¬2) لنفسه (¬3): أيا نفس بالمأثور عن خير مرسل ... وأصحابه والتابعين تمسكي عساك إذا بالغت في نشر دينه ... بما طاب من نشر له أن تمسكي وخافي غدًا يوم الحساب جهنما ... إذا نفحت نيرانها أن تمسك وأنشد الشيخ أبو طاهر الأصبهاني (¬4) بسنده لبعض الفضلاء (¬5): قناديل دين اللَّه تسعى بحملها ... رجال بهم يحيا حديث محمد هم حملوا الآثار عن كل عالم ... تقي صدوق فاضل متعبد محابرهم زهر تضيئ كأنها ... قناديل حبر ناسك وسط مسجد تساق إلى من كان بالفقه عالمًا ... ومن صنف الأحكام من كل مسند وكم وكم في مدح المأثور من منظوم ومنثور واللَّه ولي الأمور. تنبيه: المذموم من الرأي، هو الذي لا دليل عليه من كتاب ولا سنة ولا قياس جلي، أو كان قياسًا ولو جليًا في مقابلة نص فمذموم أيضًا. ¬
تمسكك بعقيدة السلف المأخوذة من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - فيه سعادتك في الدنيا والآخرة
والحاصل أن الرأي المذموم هو الذي مستنده الحدس والتخمين والخرص والتفكير، فهذا الذي ذمه السلف وعابوه وحذروا منه (وأنبوّة) (¬1) بخلاف الرأي المستند إلى استدلال واستنباط من النص وحده، أو من نص آخر معه في الأحكام فهذا من أحسن فهم النصوص وأدقه وأنفعه، وكل ما ورد عن السلف مما يشعر بمدح الرأي وقبوله فالمراد به هذا، وما يشعر بالذم والتحذير فالمراد به الأول (¬2) واللَّه أعلم. ثم قال الناظم -رحمه اللَّه تعالى- (إذا): ظرف لما يستقبل من الزمان خافض لشرطه منصوب بما في جوابه من فعل وشبهه على المشهور. و (ما): زائدة لمزيد إثبات ما بعدها. (اعتقدت): الاعتقاد هو حكم الذهن الجازم فإن وافق الواقع فهو اعتقاد صحيح، وإن خالف الراقع في نفس الأمر فهو اعتقاد فاسد وحاصل تعريف الاعتقاد: أنه أمر خبري يحتصل متعلقه النقيض عند الذاكر على الفرض والتقدير ثم ينظر فإن طابق هذا الاعتقاد لما في نفس الأمر فهو اعتقاد صحيح وإلا ففاسد، وتقدم في صدر الشرح لهذه المنظومة ما لعله يشفي ويكفي (¬3). (الدهر)؛ أي مد الزمان الطويل والأمد الممدود وهو بفتح الدال المهملة وسكون الهاء وقد تفتح أمد مفعولات اللَّه في الدنيا أو فعله لما قبل الموت. ¬
وزعم الدهرية والمعطة أن الدهر حركات الفلك وأمد العالم ولا شيء عندهم سواه، وهذا خطأ فاحش وكفر عظيم، وإنما الدهر هو الزمان وهو مخلوق من جملة خلق اللَّه تعالى، وغلط من عد من أسمائه تعالى وتقدس (¬1) والجمع أدهر ودهور. (يا صاح): مرخم صاحب وهو شاذ لعدم علميته، ولكنه استعمل كثيرًا. (هذه): الأصول المذكورة في هذه المنظومة فإنه ضمنها جملة صالحة من المسائل الاعتقادية السلفية التي قد خالف فيها أكثر الناس من المعتزلة والقدرية والجبرية والخوارج والروافض والمرجئة والجهمية والفلاسفة والملاحدة ومن نحا نحوهم. وقد أشرنا إلى خلاف كل طائفة من هؤلاء في الأصل الذي خالفوا أهل السلف وأصحاب الأثر فيه فراجعه تظفر بما تريد. ¬
نهاية الكتاب
(فأنت): الفاء في جواب إذا وأنت مبتدأ، كائن. (على خير): ومستمر على هدى لتمسكك بالمأثور واعتقادك ما كان عليه السلف الصالح من الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة الدين المعول عليهم دون رأي فلان ونظر فلان. (تبيت): في خير وأمن مطمئن القلب سالم من شكوك المتكلمة وظنون المتحذلقة وخواطر الملحدة وأفكار النظار، قد اتبعت المأثور واقتفيت الرعيل الأول، والصدر الذي عليه المعول والرب المشكور. (وتصبح): في أمن وأمان (واطمأنينة) (¬1) صدر وعرفان لا تستفزك الأشكال الفلسفية ولا القواعد الاعتزالية ولا الخواطر السالمية، ولا المقدمات الكلامية، قد ألجأت ظهرك وأسندته إلى ركن وثيق، وأدخلت قلبك في حصن حصين سالم من الدخل والضيق، وجعلت معولك على الكتاب والسنة وما كان عليه السلف الصالح والتابعون لهم بإحسان من أهل العلم والتحقيق واعتقدت أن النجاة كل النجاة في اقتفاء آثارهم والتعويل على أخبارهم، دون ما اعتمده كل متحذلق وملحد وزنديق، فإن من لم يسلم لم يسلم ومن لم يقتف السلف لم يربح ولم يغنم. واللَّه سبحانه وتعالى أعلم. جاء في نسخة الأصل ما يلي: قال شيخنا الشيخ محمد السفاريني فرغت من تعليقه بعون اللَّه تعالى وتوفيقه نهار السبت لعشر بقيت من شعبان من شهور سنة ألف ومائة و (ست) (¬2) وسبعين من الهجرة النبوية على صاحبها الصلاة والسلام. ¬
تاريخ الفراغ من كتابته
ووافق الفراغ من كتابة هذه النسخة نهار الثلاثاء لأربع ليال خلون من ذى القعدة الذي هو من شهور سنة ألف ومائة و (ست) (¬1) وسبعين على يد أحقر الورى وأذل الفقراء الراجي لعفو ربه العلي الفقير عيسى القدومي الحنبلي عامله اللَّه بلطفه الخفي والجلي إنه على ذلك قدير وبالإجابة جدير. ثم ذكر بعد ذلك فائدة تتعلق بعدد الأنبياء والرسل والكتب. ثم ذكر نقولًا من كلام شيخ الإسلام -رحمه اللَّه-. ثم قال: فائدة في ذكر سند شيخنا الشيخ محمد السفاريني لمنظومة الإمام العلامة عبد اللَّه أبي بكر بن أبي داود هذه التي شرحها قال: أنبأني كل واحد من مشايخي الثلاثة: الشيخ عبد القادر التغلبي مفتى السادة الحنابلة وقدوتهم في عصره ومصره، وفي سائر بلاد الإسلام والشيخ عبد الغني العارف ابن الشيخ إسماعيل الشهير بالنابلسي والشيخ عبد الرحمن المجلد المعمر كلهم عن الشيخ الإمام عبد الباقي الحنبلي الأثري مفتي السادة الحنابلة بدمشق المحمية، قال: أنا الشيخ حجازي الواعظ عن ابن أركماس عن الحافظ ابن حجر العسقلاني شارح البخاري عن أبي إسحاق إبراهيم البعلي عن أبي العباس أحمد بن أبي طالب الحجار أخبرنا ابن عمر الأموي أخبرنا أبو الفتوح الهمذاني أخبرنا أبو محمد السمعاني قال: أخبرنى والدي عن أبي بكر بن أبي داود السجستاني لنفسه: تمسك بحبل اللَّه واتبع الهدى ... ولا تك بدعيًا لعلك تفلح . . . إلى آخر القصيدة في العقيدة وهو سندي فإني أخذتها عن شيخي شارحها وهو أخذها عن مشايخه الذين ذكرهم. ¬
والحمد للَّه على ذلك. وجاء في آخر النسخة "ظ": تم وكمل والحمد للَّه رب العالمين وصلى اللَّه على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. قال مؤلفها رحمه اللَّه تعالى نجز بعون اللَّه تعالى وتوفيقه نهار السبت لعشر بقيت من شعبان من شهور سنة ألف ومائة و (ست) وسبعين من الهجرة النبوية على صاحبها الصلاة والسلام. وقد تمم كتابة هذا الشرح الحسن المبارك أحقر العباد وأحوجهم إليه يوم التناد المسيء المخطئ مصطفى بن محمود بن معروف الشطي غفر اللَّه له ولوالديه ولكل المسلمين أجمعين. ليلة الأربعاء ثالث عشر صفر الخير سنة 1232 هـ. ثم قال: فائدة في ذكر سندي لمنظومة الإمام عبد اللَّه أبي بكر بن أبي داود هذه التي شرحتها. ثم ذكر السند -كما مر- في النسخة الأولى. ثم ذكر القصيدة كاملة.
ثبت المصادر
ثبت المصادر [أ] 1 - الإبانة عن أصول الديانة: لأبي الحسن الأشعري - طبع الجامعة الإسلامية 1405 هـ 2 - الإبانة عن شريعة الفرق الناجية ومجانبة الفرق المدمومة تأليف أبي عبد الله عبيد الله بن بطة الحنبلي، تحقيق/ رضا بن نعسان معطي - دار الراية، الرياض، الطبعة الأولى 1409 هـ 3 - أبجد العلوم الوشي المرقوم في بيان أحوال العلوم: تأليف / صديق بن حسن القنوجي 4 - إبطال التأويلات لأخبار الصفات: تصنيف القاضي أبي يعلى محمد الحسين بن محمد بن الفراء، تحقيق ودراسة / أبي عبد الله محمد بن حمد الحمود النجدي، الكويت الطبعة الأولى 1410 هـ. 5 - ابن قيم الجوزية حياته وآثاره: تأليف / بكر بن عبد الله أبو زيد، مطابع دار الهلال، الرياض الطبعة الأولى 1400 هـ. 6 - الإتجاهات الفكرية المعاصرة وموقف الإسلام منها: تأليف / د. جمعة الخولي، الطبعة الأولى 1407 هـ 7 - الإتقان في علوم القرآن: جلال الدين عبد الرحمن السيوطي، تحقيق / محمد أبي الفضل إبراهيم، القاهرة، الطبعة الأولى 1387 هـ 8 - إثبات صفة العلو: موفق الدين بن قدامة المقدسي، تحقيق / بدر البدر، الكويت ط 1 - 1406 هـ.
9 - إثبات عذاب القبر: البيهقي، تحقيق / د. شرف محمود القضاه، دار الفرقان، الأردن عثمان، ط 1 - 1403 هـ 10 - إجماع الجيوش الإسلامية: لابن القيم، تحقيق / د. عواد المعتق، ط 1 - 1408 هـ 11 - الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان: الأمير علاء الدين الفارسي، بعناية كمال يوسف الحوت، الطبعة الأولى 1407 هـ دار الكتب العلمية، بيروت. نسخة أخرى بتحقيق / شعيب الأرناؤط - الطبعة الأولى، مؤسسة الرسالة بيروت 1407 هـ. 12 - الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم الأندلسي تحقيق / الشيخ أحمد شكر الطبعة الأولى 1400 هـ - دار الآفاق الجديدة بيروت. 13 - أخلاق أهل القرآن: محمد بن الحسين الآجري، تحقيق محمد عمرو بن عبد اللطف، دار الكتب العلمية بيروت، ط 1 - 1406 هـ 14 - أخبار أبي حنيفة وأصحابه: تأليف / أبي عبد الله حسين بن علي الصيمري، دار الكتاب العربي - بيروت الطبعة الثانية، 1396 هـ. 15 - أخبار مكة وما جاء فيها: تأليف / أبي الوليد محمد بن عبد الله الأزرقي، مكة المكرمة، الطبعة الرابعة 1403 هـ.
16 - أخبار مكة في قديم الدهر وحديثة: تصنيف أبو عبد الله محمد بن إسحاق الفاكهي، دراسة وتحقيق / عبد الملك بن عبد الله بن دهيش، مكة المكرمة، الطبعة الأولى 1407 هـ 17 - أخبار النحويين البصريين: صنعة / أبي سعيد الحسن بن عبد الله السيرافي، تحقيق / د. محمد إبراهيم البنا - الطبعة الأولى 1405 هـ 18 - الآداب الشرعية والمنح المرعية: لابن مفلح المقدسي - مطابع المنار 1348 هـ 19 - الأدب المفرد: للإمام أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري: الطبعة الثانية 1379 هـ القاهرة - نشره قصي محب الدين. 20 - آداب الشافعي ومناقبه: للإمام / أبي محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي، تحقيق وتعليق / الشيخ عبد الغني عبد الخالق. 21 - إرشاد طلاب الحقائق إلى معرفة سنن خير الخلائق: تأليف / محيي الدين أبي بكر يحيى الدمشقي، تحقيق. عبد الباري فتح الله السليى - دار البشائر الإسلامية، بيروت - الطبعة الأولى 1408 هـ 22 - الأربعون حديثًا: أبو بكر محمد الآجري، تحقيق / بدر بن عبد الله البدر، مكتب المعلا، الكويت، الطبعة الأولى 1408 هـ 23 - الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد: لإمام الحرمين الجويني، تحقيق / د. محمد يوسف موسى، علي عبد المنعم الحميد، القاهرة 1369 هـ.
24 - إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السيل: تخريج محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، ط 1 - 1399 هـ 25 - إسبال الكساء على النساء: جلال الدين السيوطي، بيروت، دار الكتب العلمية - الطبعة الأولى 1405 هـ 26 - الإستيعاب في معرفة الأصحاب: لأبي عمر يوسف بن عبد البر، مطبوع مع الإصابة تحقيق / طه محمد الزيني، الناشر مكتبة الكليات الأزهرية، ط 1 سنه 1369 هـ 27 - أسد الغابة في معرفة الصحابة: لعز الدين بن الأثير الجزري، تحقيق / محمد إبراهيم البناء وآخرين - دار الشعب، القاهرة 1390 هـ 28 - الأسرار المرفوعة في الأخبار الموضوعة: تأليف / نور الدين علي بن محمد القاري، تحقيق / محمد بن لطفي الصباغ، المكتب الإسلامي، بيروت - الطبعة الثانية 1406 هـ 29 - الأسماء والصفات: أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي، مصورة عن الطبعة الأولى دار الكتب العلمية، بيروت 1405 هـ 30 - الإصابة في تمييز الصحابة: ابن حجر العسقلاني ومعه الاستيعاب لابن عبد البر - الطبعة الأولى، مكتبة: الكليات الأزهرية 1396 هـ 31 - أصول مذهب الإمام أحمد: تأليف: د. / عبد المحسن التركي دراسة أصولية مقارنة، القاهرة - الطبعة الثانية 1397 هـ
32 - أصول الدين: تأليف / أبي منصور عبد القاهر البغدادي، دار الكتب العلمية، بيروت الطبعة الثالث 1406 هـ 33 - أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن: تأليف / محمد الأمين بن محمد المختار الشنقيطي، الرياض 1403 هـ 34 - الاعتصام: تأليف / أبي إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد الشاطبي، تعريف محمد رشيد رضا، القاهرة ط 1 - 1332 هـ 35 - : الإعتقاد والهداية إلى سبيل الرشاد: البيهقي، تحقيق أحمد عصام الكاتب، ط 1 - 1401 هـ 36 - اعتقادات فرق المسلمين والمشركين: تأليف / فخر الدين الرازي، مراجعة علي سامي النشار - دار الكتب العلمية، بيروت 1402 هـ 37 - الأعلام: خير الدين الزركلي، دار العلم للملايين، بيروت - الطبعة الخامسة 1408 هـ 38 - إعلام الموقعين عن رب العالمين: تأليف / شمس الدين أبي عبد الله محمد بن أبي بكر، (ابن القيم) تعليق طه عبد الرؤوف سعد، القاهرة 1388 هـ 39 - أعيان القرن الثالث عشر في الفكر والسياسة والاجتماع: تأليف / خليل مردم بك، علق عليه / عدنان مردم بك، بيروت الطبعة الثانية 1397 هـ
40 - أقاويل الثقات في تأويل الأسماء والصفات: مرعي بن يوسف الكرمي الحنبلي، تحقيق / شعيب الأرناؤط، مؤسسة الرسالة بيروت، ط 1 - 1406 هـ 41 - اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم: تأليف / أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، تحقيق / د. ناصر عبد الكريم العقل، الرياض الطبعة الأولى 1404 هـ 42 - آكام المرجان في أحكام الجان: تأليف / أبي عبد الله محمد بن عبد الله الشبلي، ضبط / أحمد عبد السلام، دار الكتب العلمية، بيروت - الطبعة الأولى 1408 هـ 83 - الإكمال في رفع الارتياب عن المؤتلف والمختلف والكنى والأنساب: تأليف / الحافظ ابن ماكولا. 44 - الأنساب: تأليف / أبي سعد عبد الكريم السمعاني، تصحيح / عبد الرحمن بن يحيى اليماني، حيدرآباد، الهند، الطبعة الأولى 1382 هـ. 45 - الإنصاف فيما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به: أبو بكر بن الطيب الباقلاني البصري تحقيق / عماد الدين أحمد حيدر، بيروت الطبعة الأولى 1407 هـ 46 - الأوائل: لابن أبي عاصم الشيباني، تحقيق / محمد بن ناصر العجمي، دار الخلفاء بالكويت الطبعة الأولى 1405 هـ 47 - الأوائل: للحافظ أبي القاسم سليمان الطبراني، تحقيق / محمد شكور أمرير بيروت الطبعة الأولى 1403 هـ
[ب]
48 - أهوال القبور وأحوال أهلها من النشور: تأليف / عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الدمشقي / تحقيق محمد السعيد زغلول، دار الكتب العلمية، بيروت - الطبعة الأولى 1405 هـ 49 - الأيمان: لأبي عيد القاسم بن سلام، تحقيق / ناصر الدين الألباني، دار الأرقم الكويت. 50 - إيضاح المكنون في الديل علي كشف الطنون: إسماعيل باشا البغدادي، مكتبة المثني بغداد. 51 - الإيمان: ابن أبي شيبة، تحقيق الألباني، دار الأرقم، الكويت. 52 - الإيمان: ابن تيمية، المجلد السابع من مجموع الفتاوى - نسخة أخرى طبع المكتب الإسلامي - ط 3، 1403 هـ. 53 - الإيمان: لابن منده، تحقيق د / علي ناصر فقيهي، الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، ط 1 - 1401 هـ. [ب] 54 - الباعث الحثيث اختصار علوم الحديث: للحافظ ابن كثير، تأليف / أحمد محمد شاكر، دار الكتب العلمية بيروت، 1370 هـ. 55 - الباعث على إنكار البدع والحوادث: تأليف / أبي محمد عبد الرحمن المعروف بأبي شامه، مطبعة النهضة مكة المكرمة، الطبعة الثانية 1401 هـ.
56 - البحور الزاخرة: تأليف / محمد بن أحمد السفاريني الحنبلي، الهند بومباي - الطبعة الأولى 1341 هـ. 57 - بدائع الفوائد: تأليف / أبي عبد الله محمد بن أبي بكر بن القيم، تصحيح / إدارة الطاعة المنيرية. 58 - البداية والنهاية في التاريخ: ابن كثير، القاهرة، ط 1 - 1348 هـ 59 - البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع: تأليف / محمد بن علي الشوكاني، بيروت، دار المعرفة - الطبعة الأولى 1348 هـ. 60 - البدعة وأثرها السيء في الأمة: تأليف / سليم الهلالي، عثمان الأردن - الطبعة الأولى 1404 هـ. 61 - البدع والنهي عنها: محمد بن وضاح القرطبي، تحقيق/ محمد أحمد دهمان 62 - البدور السافرة في أمور الآخرة: تأليف / جلال الدين السيوطي، تحقيق / مصطفى عاشور، مكتبة القرآن للطباعة، القاهرة: 1410 هـ. 63 - البرهان في بيان القرآن: لابن قدامة المقدسي، طبع ضمن مجلة البحوث العلمية، العدد التاسع عشر، تحقيق / د. سعود الفنيسان - إصدار دار الإفتاء بالرياض.
64 - البرهان في علوم القرآن: بدر الدين محمد الزركشي، تحقيق / محمد أبي الفضل إبراهيم الطبعة الثانية. 65 - البرهان في معرفة عقائد أهل الأديان: لأبي الفضل عباس بن منصور الحنبلي، تحقيق / د. بسام علي العموش، مكتبة المنار الأردن - الطبعة الأولى 1408 هـ. 66 - البعث: ابن أبي داود، تحقيق / أبي إسحاق الحويني الأثري، دار الكتاب العربي، بيروت، ط 1 - 1408 هـ. 67 - البعث والنشور: البيهقي، تحقيق عامر أحمد حيدر، مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت، ط 1 - 1406 هـ. 68 - بغية المرتاد في الرد على المتفلسفة والقرامطة والباطنية: تأليف / أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، تحقيق / د. موسى سليمان الدويش - الطبعة الأولى 1408 هـ. 69 - بغية الملتمس في تاريخ رجال أهل الأندلس: تأليف / أحمد بن يحيى بن أحمد بن عميرة الضبي. 70 - بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية أو نقض تأسيس الجهمية: تأليف / أحمد بن تيمية تصحيح محمد بن عبد الرحمن بن قاسم، مكة المكرمة - الطبعة الأولى 1391 هـ. 71 - البيان والتبيين: تأليف / أبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ تحقيق وشرح / عبد السلام محمد هارون، مكتبة الخانجي، مصر- الطبعة الرابعة 1395 هـ.
[ت]
72 - البيان والتحصيل: تأليف / أبي الوليد بن رشيد القرطبي، تحقيق / د. محمد صبحي، بيروت، 1404 هـ. [ت] 73 - تاج العروس: للسيد / محمد مرتضى الحسيني الزبيدي، تحقيق / عبد الستار أحمد فراج مطبعة الحكومة بالكويت 1391 هـ. 74 - تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام: تأليف / شمس الدين محمد الذهبي، تحقيق الدكتور عمر عبد السلام تدمري بيروت - الطبعة الثانية 1409 هـ. 75 - تاريخ بغداد: للخطيب البغدادي، الناشر دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان. 76 - تاريخ الخلفاء: تأليف / الإمام الحافظ جلال الدين عبد الرحمن السيوطي، تحقيق/ محمد محيي الدين عبد الحميد، القاهرة - الطبعة الرابعة 1389 هـ. 77 - تاريخ الطبري - تاريخ الرسل والملوك: محمد بن جرير الطبري، تحقيق / أبي الفضل محمد إبراهيم الطبعة الرابعة - دار المعارف بمصر. 78 - تاريخ عحائب الآثار في التراجم والأخبار: تأليف / عبد الرحمن الجبرتي، بيروت - الطبعة الثانية 1398 هـ. 79 - تاريخ علماء الأندلس: تأليف / ابن الفرضي أبي الوليد عبد الله بن محمد بن يوسف الأزدي
80 - تاريخ العلماء النحويين من البصريين والكوفيين وغيرهم: للقاضي أبي المحاسن الفضل بن محمد بن مسعر التنوخي المعري، تحقيق / د. عبد الفتاح محمد الحلو. 81 - تأويل مختلف الحديث في الرد على أعداء أهل الحديث: تأليف / ابن قتيبة الدينوري- دار الكتاب العربي، بيروت. 82 - التاريخ الكبير: للبخاري- دار الكتب العلمية، مصور عن الطبعة الأولى في الهند. 83 - التبصرة: تصنيف / أبي الفرج بن الجوزي البغدادي، بروت دار الكتب العلمية - الطبعة الأولى 1406 هـ. 84 - التبصير في الدين: تأليف / أبي المظفر الأسفرائيني، علق عليه محمد زاهد الكوثري مطبعة الأنوار - الطبعة الأولى 1359 هـ. 85 - تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الإمام أبي الحسن الأشعري: لابن عساكر، دار الكتاب العربي، بيروت - طبعة مصورة 1399 هـ. 86 - تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد: بقلم / محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت - الطبعة الثالثة 1398 هـ. 87 - تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي: محمد بن عبد الرحمن المباركفوري، الطبعة الثَّانية 1383 هـ القاهرة، الناشر المكتبة السلفية بالمدينة المنورة. 88 - تحفة الأشراف لمعرفة الأطراف: جمال الدين المزي، نشر الدار القيمة بمباي، الهند، 1384 هـ.
89 - تحفة الجلساء برؤية الله للنساء: جلال الدين السيوطي، دار الكتب العلمية بيروت - الطبعة الأولى 1405 هـ. 90 - تحقيق البرهان في إثبات حقيقة الميزان: تأليف / مرعي الحنبلي المقدسي، تحقيق / سليمان صالح الخزي، مطبعة المدني، مصر - الطبعة الأولى 1409 هـ. 91 - تجريد أسماء الصحابة: تأليف / الحافظ شمس الدين أبي عبد الله الذهبي، دار المعرفة بيروت. 92 - التخويف من النار والتعريف بحال دار البوار: تأليف / أبي الفرج زين الدين عبد الرحمن بن رجب الدمشقي، دار الرشيد - بيروت - الطبعة الأولى 1403 هـ. 93 - تدريب الراوي شرح تقريب النواوي: جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر، تحقيق / عبد الوهاب عبد اللطيف القاهرة - الطبعة الأولى 1379 هـ. 94 - التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة: تأليف / شمس الدين أبي عبد الله محمد بن أحمد القرطبي، تحقيق / أحمد حجازي السقا، القاهرة 1400 هـ. 95 - تدكرة الحفاظ: شمس الدين الذهبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت. 96 - ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك: تأليف / القاضي عياض بن موسى بن عياض السبتي، المغرب - الطبعة الثانية 1403 هـ.
97 - الترغب والترهيب من الحديث الشريف: تأليف / ذكي الدين عبد العظيم المنذري، علق عليه / محمد خليل هراس، مصر مكتبة الجمهورية 1389 هـ. 98 - تعظيم قدرة الصلاة: محمد بن نصر المروزي، تحقيق / د. عبد الرحمن عبد الجبار الفريوائي - الطبعة الأولى 1406 هـ 99 - تفسير ابن كثير: عماد الدين إسماعيل بن كثير ومعه معالم التنزيل للبغوي، مطبعة المنار، مصر، ط 1 - 1343 هـ. 100 - تفسير البغوي - معالم التنزيل-: الحسين بن مسعود أبو محمد البغوي، مطبعة المنار - الطبعة الأولى 1408 هـ. 101 - تفسير البيضاوي المسمى أنوار التنزيل وأسرار التأويل: تأليف / ناصر الدين أبي سعيد البيضاوي، بيروت، الطبعة الأولى 1408 هـ. 102 - تفسير القرآن: للإمام عبد الرزاق بن همام الصنعاني، تحقيق د- مصطفى مسلم محمد بيروت، الطبعة الأولى 1410 هـ. 103 - التفسير الكبير للفخر الرازي: المطبعة البهية المصرية 1357 هـ. 104 - تغليق التعليق: ابن حجر العسقلاني، تحقيق / سعيد عبد الرحمن القزقي، المكتب الإسلامي، ط 1 - 1405 هـ.
105 - تفسير مجاهد: أبو حجاج مجاهد بن جبر المخزومي، تحقيق / عبد الرحمن الطاهر السورتي قطر- الطبعة الأولى 1396 هـ. 106 - تفسير النسائي: للإمام أبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي، تحقيق / سيد الجليمي، صبرى الشافعي، القاهرة - الطبعة الأولى 1410 هـ. 107 - تقريب التهذيب: لابن حجر العسقلاني، دار نشر الكتب الإسلامية، باكستان، ط 1 - 1393 هـ. 108 - التقييد والإيضاح لشرح مقدمة ابن الصلاح: تأليف / زين الدين عبد الرحيم العراقي، دار الحديث للطباعة والنشر، بيروت الطبعة الثانية 1405 هـ. 109 - تلقيح فهوم أهل الأثر في عيون التاريخ والسير: تأليف / عبد الرحمن بن الجوزي، باكستان. 110 - التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد: أبو عمر يوسف بن عبد البر، تحقيق سعيد عزب وآخرين، ط 1 - 1402 هـ. 111 - تنبيه ذوي الألباب السليمة عن الوقوع في الألفاظ المبتدعة الوخيمة: نأليف الشيخ / سليمان بن سحمان، مطبعة المنار، مصر- الطبعة الأولى 1343 هـ. 112 - التنبيهات السنية على العقدة الواسطة: تأليف / عبد العزيز الناصر الرشيد، جدة، دار الرشيد للنشر والطباعة. 113 - تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأخبار الشنيعة الموضوعة: تأليف / أبي الحسن علي بن محمد الكناني، تحقيق / عبد الوهاب عبد
اللطيف، عبد الله محمد الصديق، مصر- الطبعة الأولى 1375 هـ. 114 - تهذيب الأسماء واللغات: تأليف / أبي ذكريا محيي الدين النووي، بيروت. 115 - تهذيب تاريخ دمشق الكبير: أبو القاسم علي الشافعي، تهذيب / عبد القادر بدران بيروت الطبعة الثانية 1399 هـ. 116 - تهذيب سنن أبي داود: لابن القيم، تحقيق / محمد حامد الفقي، أحمد محمد شاكر، القاهرة 1366 هـ. 117 - تهذيب الكمال في أسماء الرجال: للمزي - نسخة كاملة مصورة نشر دار المأمون للتراث 1402 هـ. نسخة أخرى مطبوعة من جزء 1 - 15 لم تكمل، بتحقيق / د. بشار معروف، ط 1 مؤسسة الرسالة. 118 - توالي التأسيس في مناقب محمد بن إدريس: للحافظ: ابن حجر العسقلاني، تحقيق / أبي الفداء عبد الله القاضي، بيروت - الطبعة الأولى 1406 هـ 119 - التوحيد وإثبات صفة الرب عزَّ وجلَّ: ابن خزيمة، راجحه وعلق عليه محمد خليل هراس - الطبعة الثانية دار الفكر 1393 هـ. نسخة أخرى تحقيق د. عبد العزيز بن إبراهيم الشهوان، دار الرشد الرياض، ط 1، 1408 هـ. 120 - توضح المقاصد وتصحيح القواعد شرح نونية ابن القيم: تأليف / أحمد بن إبراهيم بن عيسى الشرقي، دمشق - الطبعة الأولى 1382 هـ.
[ث]
121 - تيسير العزيز الحميد في شرح كتب التوحيد: تأليف / سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب، بيروت، الطبعة الثالثة 1397 هـ. [ث] 122 - الثقات: تأليف / محمد بن حبان البستي، حيدرآباد، الهند - الطبعة الأولى 1393 هـ. 123 - ثبات العقيدة الإسلامية أمام التحديات: تأليف / عبد الله الغنيمان. [ج] 124 - جامع الأصول من أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ابن الأثير الجرزي، تحقيق وتخريج / عبد القادر الأرناؤوط، مطبعة الملاح، دمشق، ط 1 - 1391 هـ. نسخة أخرى بتصحيح / محمد حامد الفقي، ط 1 - 1368 مطبعة أنصار السنة المحمدية بمصر. 125 - جامع بيان العلم وفضله: ابن عبد البر القرطبي، دار الكتب العلمية، بيروت، 1398 هـ. 126 - جامع البيان عن تأويل القرآن: لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري، مطبعة الحلبى القاهرة ط 3 - 1388 هـ 127 - الجامع الصحيح: أبو عيسى بن سورة الترمذي، مطبعة الحلبي القاهرة - الطبعة الثانية 1398 هـ.
128 - الجامع الصغير: للسيوطي، دار الفكر، بيروت، ط 1 - 1401 هـ. 129 - جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثًا من جوامع الكلم: تأليف / زين الدين أبي الفرج بن رجب الحنبلي، مطبعة الكيلاني بمصر 1392 هـ. 130 - الجامع في السنن والآداب: ابن أبي زيد القيرواني، تحقيق / محمد أبو الأجفان، مؤسسة الرسالة، ط 1 - 1402 هـ. 131 - الجامع لأحكام القرآن: القرطبي، دار إحياء التراث العربي. 132 - الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع: الخطيب البغدادي، تحقيق / د. محمود الطحان، مكتبة المعارف الرياض، ط 1 - 1403 هـ. 133 - الجامع لشعب الإيمان: تأليف / أبي بكر أحمد البيهقي، تحقيق / د. عبد العلي حامد، الدار السلفية، بومباي، الهند - الطبعة الأولى 1406 هـ. نسخة أخرى بتحقيق محمد السعيد بن بسيوني زغلول، دار الكتب العلمية بيروت، ط 1 - 1410 هـ. 134 - الجامع من المقدمات: تأليف / أبي الوليد محمد بن رشد المالكي، تحقيق / د. المختار بن طاهر التليلي، بيروت - الطبعة الأولى 1405 هـ.
135 - جذوة المقتبس في ذكر ولاة الأندلس: تأليف / الحميدي أبي عبد الله محمد بن أبي نصر فتوح بن عبد الله الأزدي. 136 - الجرح والتعديل: لابن أبي حاتم الرازي، دار الكتب العلمية، بيروت - الطبعة الأولى 1371 هـ. 137 - جزء الحسن بن عرفة العبدي: تحقيق / عبد الرحمن عبد الجبار الفريوائي، الكويت - الطبعة الأولى 1406 هـ 138 - جمع الجوامع أو الجامع الكبير: جلال الدين عبد الرحمن السيوطي، مصورة عن مخطوطة دار الكتب المصرية. 139 - جمع الشتيت في شرح أبيات التثبيت: محمد بن إسماعيل الصغاني، تصحيح / حسن محمد المشاط، مكتبة دار الإيمان المدينة المنورة - الطبعة الثالثة 1404 هـ. 140 - جلاء الأفهام: تأليف / أبي عبد الله محمد الزرعي المعروف بابن قيم الجوزية تحقيق / طه يوسف شاهين، وكالة المطبوعات، الكويت، الطبعة الثانية 1401 هـ. 141 - الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح: لشيخ الإسلام ابن تيمية. 142 - الجواهر المضية في طبقات الحنيفة: تأليف / عبد القادر بن محمد القرشي، تحقيق / د. عبد الفتاح محمد الحلو 1398 هـ.
[ح]
[ح] 143 - حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح: ابن قيم الجوزية، مطبعة المدني، 1398 هـ. 144 - حاشية الدرة المضيئة في عقد الفرقة المرضية: تأليف / الشيخ عبد الرحمن بن قاسم، مطبعة الحكومة بمكة المكرمة 1364 هـ. 145 - حاضر العالم الإسلامي: لوثروب الأمريكي، تعليق الأمير شكيب أرسلان - دار الفكر العربي بدون تاريخ. 146 - الحبائك في أخبار الملائك: تأليف / جلال الدين عبد الرحمن السيوطي، تحقيق / أبي هاجر محمد السعيد بن البسيوني، بيروت - الطبعة الأولى 1405 هـ. 147 - حسن المحاظة في تاريخ مصر والقاهرة: للحافظ جلال الدين عبد الرحمن السيوطي، تحقيق / محمد أبي الفضل إبراهيم الطبعة الأولى 1387 هـ. 148 - الحطة في ذكر الصحاح الستة: أبو الطيب السيد صديق حسن القنوجي، دار الكتب العلمية، بيروت الطبعة الأولى 1405 هـ. 149 - حلية الأولياء وطبقات الأصفياء: لأبي نعيم الأصبهاني، دار الكتاب العربي - الطبعة الثالثة 1400 هـ. 150 - الحماسة: تأليف / أبي تمام حبيب بن أوس الطائي، تحقيق / عبد الله بن عبد الرحيم عسيلان، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الرياض 1401 هـ.
[خ]
151 - الحوادث والبدع: أبو بكر محمد بن الوليد الطرطوشي، تحقيق / محمد الطالبي دار الأصفهاني وشركاه، جدة. [خ] 152 - خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب: تأليف / عبد القادر بن عمر البغدادي، تحقيق وشرح / عبد السلام محمد هارون، مطابع الهيئة المصرية العامة للكتاب - الطبعة الثانية. 153 - الخصائص الكبرى: تأليف / أبي الفضل جلال الدين عبد الرحمن أبي بكر السيوطي، بيروت 1320 هـ. 154 - خطط الشام: محمد كرد علي، مكتبة النوري دمشق، ط 3 - 1403 هـ. 155 - خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر: للمحبي، دار صادر، بيروت. 156 - خلق أفعال العباد: محمد بن إسماعيل البخاري، تحقيق بدر البدر، الكويت، ط 1 - 1405 هـ. [د] 157 - الدارس في تاريخ المدارس: تأليف / عبد القادر محمد الدمشقي، تحقيق / جعفر الحسيني، الناشر / مكتبة الثقافة الدينية - المركز الإسلامي للطباعة بالقاهرة. 158 - درء تعارض العقل والنقل: تأليف / ابن تيمية، تحقيق / د. محمد رشاد سالم، الرياض - الطبعة الأولى 1399 هـ.
159 - دراسة عن الفرق في تاريخ المسلمين الخوارج والشيعة: تأليف / د. أحمد محمد جلي، مطابع الفرزدق، الرياض- الطبعة الثانية 1408 هـ. 160 - دراسة حديث "نضر الله امرءًا سمع مقالتي" رواية ودراية: بقلم / عبد المحسن بن حمد العباد، المدينة المنورة الطبعة الأولى 1401 هـ. 161 - الدر المنثور في التفسير بالمأثور: السيوطي، دار الفكر، بيروت، ط 1 - 1403 هـ. 162 - الدره فيما يجب اعتقاده: تأليف / أبي محمد علي بن حزم، دراسة: وتحقيق / د. أحمد بن ناصر الحمد، د. سعيد عبد الرحمن القزقي، مكتبة المدني، مصر الطبعة الأولى 1408 هـ 163 - الدرر السنية في الأجوبة النجدية: جمع عبد الرحمن بن قاسم النجدي، دار العربية، بيروت - الطبعة الثالثة 1398 هـ. 1 - الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة: تأليف / أحمد بن حجر العسقلاني، تحقيق / محمد سيد جاد الحق - القاهرة، مطبعة المدني 1385 هـ. 165 - دلائل النبوة لأبي نعيم: تحقيق محمد رواس قلعجي، حلب ط 1 - 1390 هـ. 166 - دلائل النبوة: للبيهقي، تحقيق / د. عبد العاطي قلعجي، دار الكتب العلمية بيروت، ط 1 - 1405 هـ. 167 - دليل مخطوطات السيوطي وأماكن وجودها: إعداد / أحمد الخازندار ومحمد الشيباني، الكويت - الطبعة الأولى 1403 هـ.
[ذ]
168 - ديوان امرئ القيس: تحقيق / محمد أبي الفضل إبراهيم، دار المعارف - الطبعة الرابعة. 169 - ديوان حسّان بن ثابت: تحقيق وتعليق / د. وليد عرفات 170 - ديوان طرفة بن العبد: تحقيق / المحامي فوزي عطوي 171 - ديوان كعب بن الزهير: جمع / أبي سعيد السكري، شرح ودراسة / د. مفيد قميحة دار الشواف للطباعة، الرياض- الطبعة الأولى 1410 هـ. [ذ] 172 - الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة: تأليف / أبي الحسن علي بن بسام الشنتريني، تحقيق / د. إحسان عباس. 173 - الذيل على طبقات الحنابلة: ابن رجب الحنبلي، مطبعة السنة المحمدية، ط 1 - 1372 هـ. [ر] 174 - الرحلة في طلب الحديث: للخطب البغدادي أبي بكر أحمد بن ثابت، تحقيق / نور الدين عتر دمشق - الطبعة الأولى 1395 هـ. 175 - رد الإمام الدارمي عثمان بن سيد على بشر المريسي العنيد: تصحيح / محمد حامد الفقي، دار الكتب العلمية، بيروت الطبعة الأولى 1358 هـ.
[ز]
176 - الرد على الجهمية: الدرامي، تحقيق بدر البدر، الكويت ط 1 - 1405 هـ. 177 - رسالة ابن أبي زيد القيرواني: نظمها / أحمد بن مشرف الأحسائي، مكة المكرمة 1395 هـ. 178 - الرسالة التدمرية: تأليف / ابن تيمية، طبعت في مصر ضمن مجموع النفائس بدون تاريخ. 179 - رسالة وجوب العمل بالسنة وكفر من أنكرها: تأليف / عبد العزيز بن عبد الله بن باز، مطابع الإشعاع التجارية الرياض 1400 هـ 180 - الرسالة المستطرفة لبيان مشهور كتب السنة المشرفة: محمد بن جعفر الكتاني، ط 4 - 1406 هـ. 181 - الروح: لابن القيم، تحقيق محمد إسكندر، بيروت، ط 1 - 1402 هـ. 182 - الروض البسام بترتيب وتخريج فوائد تمام: تصنيف / أبي سليمان جاسم الدورسري، بيروت - الطبعة الأولى 1408 هـ [ز] 183 - زاد المسير في علم التفسير: تأليف / أبي الفرج جمال الدين عبد الرحمن البغدادي، المكتب الإسلامي، بيروت - الطبعة الرابعة 1407 هـ. 184 - زاد المعاد في هدي خير العباد: ابن قيم الجوزية، تحقيق وتخريج / عبد القادر الأرناؤط، مؤسسة الرسالة، ط 2 - 1402 هـ.
[س]
185 - الزهد: الإمام أحمد بن جنبل، دار الكتب العلمية بيروت، 1398 هـ. 186 - الزهد: لابن المبارك، حققه حبيب الرحمن الأعظمى، دار الكتب العلمية، بيروت. 187 - الزهد: تأليف / وكيع بن الجراح، تحقيق / عبد الرحمن عبد الجبار الفريوائي - الطبعة الأولى 1404 هـ. 188 - الزهد: تأليف / هناد بن السرى الكوفي، تحقيق / عبد الرحمن بن عبد الجبار الفريوائي، الكويت - الطبعة الأولى 1406 هـ. 189 - الزيارة من أجوبة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: راجعه وعلق عليه سيف الدين الكاتب، 1400 هـ. [س] 190 - السحب الوابلة على ضرائح الحنابلة: للشيخ / محمد بن عبد الله بن حميد النجدي الحنبلي - الطبعة الأولى 1409 هـ. 191 - سرح العيون في شرح رسالة ابن زيدون: تأليف / جمال الدين بن نباتة المصري، تحقيق / محمد أبي الفضل إبراهيم. 192 - سلسلة الأحاديث الصحيحة: محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، ط 2 - 1399 هـ. 193 - سلسلة الأحادث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيء في الأمة: تخريج / محمد ناصر الدين الألباني، بيروت - الطبعة الرابعة 1398 هـ.
194 - سلك الدرر في أعيان القرن الثاني عشر: أبو الفضل محمد المرادي، دار البشائر الإسلامية، بيروت - الطبعة الثالثة 1408 هـ. 195 - سنن ابن ماجة: تحقيق / محمد فؤاد عبد الباقي، مطبعة الحلبي وشركاه، القاهرة، ط 1 - 1395 هـ. 196 - سنن أبي داود: سليمان بن الأشعث السجستاني، إعداد وتعليق / عزت الدعاس، حمْص، ط 1 - 1388 هـ. 197 - سنن الدارقطني: تأليف / علي بن عمر الدراقطني، تحقيق / عبد الله هاشم المدني، القاهرة. 198 - سنن الدارمي: بعناية / عبد الله هاشم يماني، القاهرة ط 1 - 1386 هـ. 199 - السنن الكبرى: للبيهقي، مصورة عن الطبعة الأولى، دار المعرفة، بيروت. 200 - سنن النسائي: الحلبي وشركاه، القاهرة، ط 1 - 1383 هـ. 201 - السنة: عبد الله بن أحمد بن جنبل: 1 - ط 1 - 1349 هـ المطبعة السلفية بمكة المكرمة. 2 - طبعة أخرى بتحقيق /د. محمد سعيد القحطاني ط 1 - 1406 هـ دار ابن القيم.
[ش]
202 - السنة: لابن أبي عاصم، تخريج / محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، ط 1 - 1400 هـ. 203 - السنة: لمحمد بن نصر المروزي، دار الثقافة الإسلامية، الرياض، ط 1 204 - سير أعلام النبلاء: للذهبي، تحقيق / شعيب الأرناؤط وآخرين، مؤسسة الرسالة، ط 1 - 1401 هـ. 205 - سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم -: لابن هشام، مراجعة وتعليق / محمد خليل هراس، القاهرة، بدون تاريخ. [ش] 206 - شأن الدعاء: لأبي سليمان حمد بن محمد الخطابي، تحقيق / أحمد يوسف الدقاق بيروت الطبعة الأولى 1404 هـ. 207 - شجرة النور الزكية في طبقات المالكية: تأليف / محمد بن محمد مخلوف، دار الكتب العربي، بيروت، طبعة جديدة عن الطبعة الأولى 1349 هـ. 208 - شذرات الذهب في أخبار من ذهب: عبد الحي بن العماد الحنبلي، دار الآفاق الجديدة، بيروت. 209 - شرح ابن دقيق العيد على الأربعين حديثًا النووية: نأليف / أبي الفتح الشهير بابن دقيق العيد، تصحيح / طه محمد الزيني، القاهرة.
210 - شرح ابن عقيل: بهاء الدين عبد الله بن عقيل العقيلي المصري الهمداني، تحقيق / محمد محيي الدين عبد الحميد، الطبعة الخامسة عشر، القاهرة، 1386 هـ. 211 - شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة: هبة الله الحسن الطبري اللالكائي، تحقيق / د. أحمد سعد حمدان، ط 1 - 1402 هـ، دار طيبة الرياض. 212 - شرح حديث النزول: لابن تيمية، تأليف / شيخ الإسلام ابن تيمية، المكتب الإسلامي، بيروت، 1420 هـ 213 - شرح ديوان جرير: تأليف / محمد إسماعيل عبد الله الصاوي 214 - شرح السنة: البغوي - تحقيق / شعيب الأرناؤط، المكتب الإسلامي، ط 1 - 1390 هـ. 215 - شرح الشيخ قاسم بن عيسى القروي على متن الرسالة: لابن أبي زيد القيرواني، مصر - الطبعة الأولى 1332 هـ. 216 - شرح الصدور بشرح حال الموتى والقبور: تأليف / جلال الدين عبد الرحمن السيوطي، تصحيح / جماعة من العلماء، بيروت - الطبعة الأولى 1404 هـ. 217 - شرح العقائد النسفية: تأليف / مسعود بن عمر التفتازاني، مكتبة المثنى بغداد 218 - شرح العقيدة الأصفهانية: لابن تيمية، أبي العباس تقي الدين أحمد بن عبد الحليم، قدم له / حسنين محمد مخلوف.
219 - شرح العقيدة الطحاوية: لابن أبي العز، تخريج / الشيخ ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي بيروت - الطبعة الرابعة 1391 هـ. 220 - شرح العقيدة الواسطة: شيخ الإسلام ابن تيمية، تأليف / محمد خليل هراس، مراجعة عبد الرازق عفيفي، مؤسسة الكويت للطباعة، المدينة المنورة - الطبعة الرابعة. 221 - شرح العقيدة الواسطة: تأليف / د. صالح بن فوزان الفوزان، الرياض الطبعة الرابعة 1407 هـ. 222 - شرح الشفاء في شمائل صاحب الإصطفاء - صلى الله عليه وسلم -: تأليف / نور الدين القاري، تحقيق. / حسنين محمد مخلوف - مطبعة المدني، القاهرة: 1398 هـ. 223 - شرح الفقه الأكبر: الماتريدي، بمناية عبد الله بن إبراهيم الأنصاري، المكتبة العصرية، بيروت. 224 - شرح الفقه الأكبر: الملا علي القاري الحنفي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1 - 1404 هـ. 225 - شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري: تأليف الشيح / عبد الله محمد الغنيان، مطبعة المدني، القاهرة الطبعة الأولى 1405 هـ. 226 - شرح الكوكب المنير: تأليف / محمد بن أحمد الحنبلي، تحقيق / د. محمد الزحيلي، د. نزية حماد دمشق 1405 هـ.
227 - شرح ألفية العراقي المسماة بالتبصرة والتذكرة: تأليف / عبد الرحيم بن الحسين العراقي - الطبعة الأولى 1354 هـ. 228 - شرح المقاصد: تأليف / مسعود بن عمر بن عبد الله، تحقيق / د. عبد الرحمن بن عميرة مطبعة دار التأليف، القاهرة. 229 - شرح نخبة الفكر (في مصطلح أهل الأثر): تأليف / أحمد بن علي الشهير بابن حجر العسقلاني، عصر 1353 هـ. 230 - الشرح والإبانة عن أصول السنة والديانة (الإبانة الصغرى): ابن بطة العكبري تحقيق وتعليق / د. رضا بن نعسان معطي ط 1 - 1402 هـ. 231 - شرف أصحاب الحديث: للخطيب البغدادي، تأليف / أبي بكر أحمد بن ثابت، تحقيق / نور الدين عتر، دمشق - الطبعة الأولى 1395 هـ. 232 - الشريعة: محمد بن الحسين الآجري، تحقيق / محمد حامد الفقي، مصورة عن المطبعة الأولى، دار الكتب العلمية، بيروت. 233 - الشفا بتعريف حقوق المصطفى: القاضي عياض اليحصبي، تحقيق محمد أمين قرة على وآخرين، الناشر مكتبة الفلابي، مؤسسة علوم القرآن، دمشق. 234 - شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمه والتعليل: تأليف / ابن القيم الجوزية، القاهرة
[ص]
[ص] 235 - الصحاح: تأليف / إسماعيل بن حماد الجوهري، تحقيق / أحمد عبد الغفور عطار، بيروت - الطبعة الثانية، 1399 هـ. 236 - صحيح ابن خزيمة: لأبي بكر محمد بن إسحاق النيسابوري، تحقيق / د. محمد مصطفى الأعظمي، المكتب الإسلامي، بيروت 1391 هـ. 237 - صحيح الجامع الصغير: تخريج وتحقيق / محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي ط 1 - 1388 هـ. 238 - صحيح سنن ابن ماجة: ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، ط 1 - 1407 هـ. 239 - صحيح سنن النسائي باختصار السند: تأليف / محمد ناصر الدين الألباني، بيروت - الطبعة الأولى 1408 هـ. 240 - صحيح سنن النسائي باختصار السند: صحيح أحاديثه / محمد ناصر الدين الألباني، علق عليه / زهير الشاويش، بيروت - الطبعة الأولى 1409 هـ. 241 - صحيح مسلم بشرح النووي: المطبعة المصرية 1349 هـ. 242 - صحيح مسلم: تحقيق / محمد فؤاد عبد الباقي، الحلبي وشركاه، القاهرة، ط 1 - 1374 هـ.
243 - صريح السنة: محمد بن جرير الطبري، تحقيق / بدر بن يوسف المعتوق، دار الخلفاء، الكويت، ط 1 - 1405 هـ. 244 - الصفات: الدارقطني، تحقيق / عبد الله الغنيمان، مكتبة الدار بالمدينة المنورة، ط 1 - 1402 هـ. 245 - الصفات الألهية بين السلف والحلف: تأليف / عبد الرحمن الوكيل، طباعة مؤسسة قرطبة، القاهرة 246 - الصفدية: تأليف / أبي العباس تقي الدين بن تيمية، تحقيق / د. محمد رشاد سالم - الطبعة الثانية 1406 هـ. 247 - صفة الجنة: لابي نعيم، تحقيق / علي رضا عبد الله، دار المأمون للتراث ط 1 - 1406 هـ. 248 - صفة الصفوة: تأليف / جمال الدين أبي الفرج ابن الجوزي، تحقيق / محمود فاخوري، خرج أحاديثها / د. محمد رواس قلعجي، دار المعرفة بيروت - الطبعة الثانية 1399 هـ. 249 - كتاب الصلة: تأليف / ابن بشكوال أبي القسم خلف بن عبد الملك. 250 - كتاب الصمت وآداب اللسان: تأليف / أبي يكر عبد الله البغدادي، دراسة / نجم عبد الرحمن خلف، بيروت - الطبعة الأولى 1406 هـ.
[ض]
251 - الصواعق المحرقة: تأليف / أحمد بن حجر المكي، علق عليه / عبد الوهاب عبد اللطيف مصر - الطبعة الثانية 1385 هـ. 252 - الصواعق المرسلة على الجمهية والمعطلة: تأليف / شمس الدين أبي عبد الله محمد الشهير بابن قيم الجوزية تحقيق / د. علي محمد الدخيل الله، الرياض - الطبعة الأولى 1408 هـ. 253 - صون المنطق: تأليف / جلال الدين السيوطي، تعليق / علي سامي النشار القاهرة 1366 هـ [ض] 254 - الضعفاء الكبير: تأليف / أبي جعفر محمد بن عمر العقيلي، تحقيق / عبد المعطي أمين قلعجي، بيروت - الطبعة الأولى 1404 هـ. 255 - ضعيف الجامع الصغير وزيادته (الفتح الكبير): تأليف / محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت - الطبعة الثانية 1399 هـ. 256 - ضعيف سنن ابن ماجة: تأليف / محمد ناصر الدين الألباني، تعليق / زهير الشاويش بيروت - الطبعة الأولى 1408 هـ. 257 - الضوء اللامع لأهل القرن التاسع: تأليف / محمد بن عبد الرحمن السخاوي، بيروت. [ط] 258 - طبقات الشافعية: تأليف / أبي بكر أحمد بن محمد الدمشقي (ابن قاضي شهبة)، تصحيح / د. عبد العليم خان، الهند - الطبعة الأولى 1398 هـ.
[ع]
259 - طبقات الشافعية الكبرى: تأليف / أبي نصر عبد الوهاب السبكي، تحقيق / محمود محمد الطناحي - عبد الفتاح الحلو - الطبعة الأولى 1383 هـ. 260 - الطبقات الكبرى: لابن سعد، دار صادر بيروت. 261 - طبقات النحويين واللغويين: لأبي بكر محمد بن الحسن الزبيدي الأندلسي، تحقيق / محمد أبي الفضل إبراهيم -. دار المعارف - الطبعة الثانية. [ع] 262 - العاقبة في ذكر الموت والآخرة: تأليف / أبي محمد عبد الحق الإشبيلي، تحقيق / خضر محمد خضر مكتبة دار الأقصى، الكويت - الطبعة الأولى 1406 هـ. 263 - العبر في خبر من غبر: تأليف / الحافظ الذهبي، تحقيق / أبي هاجر محمد زغلول، بيروت الطبعة الأولى 1405 هـ. 264 - كتاب العظمة: تأليف / أبي الشيخ الأصبهاني، دراسة / رضا الله بن محمد إدريس كفوري، دار العاصمة، الرياض 1408 هـ. 265 - العقائد النسفة: لعمر بن محمد النسفي، ضمن مجمع مهمات المتون - المطبعة الرابعة 1369 هـ.
266 - عقيدة الحافظ عبد الغني المقدسي: تحقيق / عبد الله بن محمد البصيري، دار الإفتاء، ط 1 - 1411 هـ. 267 - عقيدة السلف أصحاب الحديث: إسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني، تحقيق / بدر البدر، الدار السلفية، الكويت، ط 1 - 1404 هـ. 268 - عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية: د / صالح بن عبد الله العبود، الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة ط 1 - 1408 هـ 269 - العقيدة الطحاوية: تعليق / عبد العزيز بن عبد الله بن باز، مكتبة الصديق للنشر والتوزيع. 270 - العقيدة النظامية في الأركان الإسلامية: تأليف / أبي المعالي عبد الملك الجويني، تقديم وتعليق / د. أحمد حجازي. السقا، مصر- الطبعة الأولى 1398 هـ. 271 - العلو للعلي الغفار في صحيح الأخبار وسقيمها: تأليف / الحافظ شمس الدين محمد الذهبي، تصحيح / عبد الرحمن محمد عثمان، القاهرة - الطبعة الثانية 1388 هـ. 272 - عمدة التحقيق في التقليد والتدقيق: تأليف / محمد سعيد الباني، المكتب الإسلامي، دمشق 1401 هـ. 273 - عمل اليوم والليلة: النسائي، تحقيق / د. فاروق حماده، ط 1 - 1401 هـ. 274 - العواصم من القواصم: تأليف / أبي بكر بن العربي المالكي، تحقيق / محب الدين الخطيب علق عليه / محمود مهدي الاستانبولي، القاهرة - الطبعة الأولى 1405 هـ.
[غ]
275 - العقود الدرية في مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية: تأليف / أبي عبد الله محمد بن عبد الهادي، تحقيق / محمد حامد الفقي، القاهرة: 1356 هـ. 276 - العين والأثر في عقائد أهل الأثر: تأليف / عبد الباقي المواهبي الحنبلي، تحقيق / عصام رواس قلعجي مراجعة / عبد العزيز رباح، دمشق - الطبعة الأولى 1407 هـ. 277 - عيون الأنباء في طبقات الأطباء: تأليف / ابن أبي أصيبعه، بيروت 1398 هـ. [غ] 278 - غذاء الألباب لشرح منظومة الآداب: تأليف / محمد السفاريني الحنبلي، نشر مؤسسة قرطبة، مصور عن الطبعة الأولى بمكة المكرمة 1393 هـ. 279 - غريب الحديث: تأليف / أبي عبيد القاسم بن سلام الهروي، إشراف / د. محمد عبد المعيد خان، طبعة مصورة 1396 هـ. 280 - الغنية فهرست شيوخ القاضي عياض: تحقيق / ماهر زهير جرار، بيروت - الطبعة الأولى 1402 هـ. 281 - الغيب المنسجم في شرح لامية العجم: تأليف / الشيخ صلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي، بيروت - الطبعة الأولى 1395 هـ. [ف] 282 - الفتاوى: تأليف أبي إسحاق إبراهيم الشاطبي، جمعها وحققها / محمد أبو الأجفان - الطبعة الأولى 1405 هـ.
283 - الفتاوى الكبرى: لابن تيمية أبي العباس تقي الدين أحمد بن عبد الحليم، قدم له وعرف به / حسنين محمد مخلوف، بيروت، بدون تاريخ. 284 - فتاوى وتنبيهات ونصائح: الشيخ / عبد العزيز بن عبد الله بن باز، القاهرة - الطبعة الأُولى 1409 هـ. 285 - فتح الباري بشرح صحيح البخاري: ابن حجر العسقلاني، تحقيق / محمد فؤاد عبد الباقي - المطبعة السلفية، ط 2، 1400 هـ. 286 - فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير: تأليف / محمد بن علي الشوكاني، مصر- الطبعة الثانية 1383 هـ. 287 - فتح المغيث شرح ألفية الحديث: للعراقي، تأليف / شمس الدين محمد عبد الرحمن السخاوي، ضبط وتحقيق / عبد الرحمن محمد عثمان، مطبعة العاصمة بالقاهرة، الطبعة الثانية 1388 هـ 288 - الفتن والملاحم وهو النهاية من تاريخ الحافظ عماد الدين بن كثير: تصحيح / إسماعيل الأنصاري، مؤسسة النور، الرياض - الطبعة الأولى 1388 هـ. 289 - الفتوحات الربانية على الأذكار النواوية: تأليف / محمد بن علان المكي، بيروت. 290 - الفتوى الحموية الكبرى: تأليف / ابن تيمية، ضمن مجموع النفائس، طبعت في مصر بدون تاريخ. 2 - الفردوس بمأثور الخطاب: تأليف / أبي شجاع شيرويه بن شهردار الهمداني الملقب "الكيا" تحقيق / السعيد بن بسيوني زغلول، بيروت - الطبعة الأولى 1406 هـ.
292 - الفرقان بين أولياء الرحمن وأولاء الشيطان: تأليف / شيخ الإسلام ابن تيمية، المكتب الإسلامي، بيروت الطبعة الخامسة 1401 هـ. 293 - الفرق بين الفرق: تأليف / عبد القاهر بن طاهر بن محمد التيمي، تحقيق / محمد محيي الدين عبد الحميد، بيروت. 294 - كتاب الفروع: تأليف / شمس الدين المقدسي أبي عبد الله بن مفلح، تصحيح / أبي الحسن علي بن سليمان الحنبلي، أشرف على مراجعتها / عبد اللطيف محمد السبكي، عالم الكتب، بيروت - الطبعة الثالثة. 295 - الفصل في الملل والأهواء والنحل: تأليف / أبي محمد علي الظاهري (ابن حزم) تحقيق / د. محمد إبراهيم نصر، د. عبد الرحمن عميرة، شركة عكاظ، الرياض، الطبعة الأولى 1402 هـ 296 - فضائل الصحابة: تأليف / أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل، تحقيق / وصي الله بن محمد عباس بيروت - الطبعة الأولى 1403 هـ. 297 - الفقيه والمتفقه: الخطيب البغدادي، تحقيق إسماعيل الأنصاري، دار الكتب العلمية بيروت - ط 2 - 1402 هـ. 298 - الفوائد في اختصار المقاصد المسمى بالقواعد الصغرى: تأليف / أبي محمد عبد العزيز بن عبد السلام الشافعي، تحقيق / د. جلال الدين عبد الرحمن، مصر، القاهرة - الطبعة الأولى 1409 هـ.
[ق]
299 - الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة: تأليف / محمد بن علي الشوكاني تحقيق / عبد الرحمن بن يحيى اليماني، بيروت - الطبعة الثانية 1392 هـ. 300 - فوات الوفيات والذيل عليها: تأليف / محمد بن شاكر الكتبي، تحقيق / د. إحسان عباس، دار صادر، بيروت 1393 هـ. 301 - فهرس الفهارس والإثبات معجم المعاجم والمشيخات والمسلسلات: تأليف / عبد الحي بن عبد الكبير الكتاني، باعتناء / د. إحسان عباس، بيروت - الطبعة الثانية 1402 هـ. 302 - الفهرست: تأليف / أبي الفرج محمد الوراق (ابن النديم) تحقيق / رضا تجدد، مصر. 303 - فيصل التفرقة بين الإيمان والزندقة: تأليف / أبي حامد محمد الغزالي، ضمن مجموع القصور العوالي نشر مكتبة الجندي، مصر. 304 - فيض القدير شرح الجامع الصغير: تأليف / المناوي، بيروت - الطبعة الثانية 1391 هـ. [ق] 305 - قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة. تأليف / شيخ الإسلام ابن تيمية، دار العربية للنشر، بيروت، 1390 هـ. 306 - قطر الندى وبل الصدى: تصنيف / أبي محمد عبد الله جمال الدين بن هشام الأنصاري، تعليق / محمد محيي الدين عبد الحميد، م. السعادة بمصر- الطبعة التاسعة 1377 هـ.
[ك]
307 - قطف الأزهار المتناثرة في الأخبار المتواترة: جلال الدين السيوطي، تحقيق الشيخ خليل محيي الدين الميس المكتب الإسلامي، ط 1 - 1405 هـ. 308 - القلائد الجوهرية في تاريخ الصالحية: تأليف / محمد بن طولون الصالحي، تحقيق / محمد أحمد دهمان الطبعة الثانية 1401 هـ. 309 - القواعد الكبرى "قواعد الأحكام في مصالح الأنام": تأليف / أبي محمد عز الدين بن عبد السلام، القاهرة - الطبعة الأولى 1353 هـ. 310 - القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى: بقلم / محمد صالح العثيمين، محرم 1406 هـ. [ك] 311 - الكاشف في معرفة من له رواية في الكتب الستة: للإمام الذهبي، تحقيق / عزت على عطية، موسى محمد الموشى، القاهرة - الطبعة الأولى 1392 هـ. 312 - الكامل: تأليف / الإمام أبي العباس محمد بن يزيد المبرد، تحقيق وتعليق / محمد أحمد الدالي، بيروت - الطبعة الأولى 1406 هـ. 313 - الكامل في التاريخ لابن الأثير: علق عليه نخبة من العلماء، الناشر دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الثالثة 1400 هـ 394 - الكامل في ضعفاء الرجال: تأليف / أبي أحمد عبد الله بن عدي الجرجاني، تحقيق / لجنة من المختصين بإشراف الناشر، بيروت - الطبعة الأولى 1404 هـ.
[ل]
315 - الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل: تأليف / أبي القاسم جار الله الزمخشري، تحقيق / محمد الصادق قمحاوي، مصر- الطبعة الأخيرة 1392 هـ. 316 - كشف الأستار عن زوائد البزار على كتب الستة: تأليف / نور الدين علي الهيثمي، تحقيق / حبيب الرحمن الأعظمي، بيروت - الطبعة الثانية 1404 هـ. 317 - كشف الخفاء ومزيل الألباس عما اشتهر من الأحاديث على لسان الناس: تأليف / إسماعيل بن محمد العجلوني الجراحي، تصحيح / أحمد القلاش. 318 - كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون: تأليف / مصطفى بن عبد الله حاجي خليفة، بيروت. 319 - الكشف عن حقيقة الصوفية: تأليف / محمود عبد الرؤوف، دار الصحابة، بيروت، ط 1 - 1408 هـ. 320 - الكفاية في علم الرواية: تأليف / أبي بكر أحمد بن ثابت "الخطيب البغدادي" المكتبة العلمية. 321 - كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال: علاء الدين علي المتقي الهندي، - نشر وتوزيع / مكتبة التراث الإسلامي مؤسسة الرسالة، بيروت. 322 - الكواكب الدرية لشرح الدرة المضية في عقد أهل الفرقة المرضية: محمد عبد العزيز بن مانع، الهند 1336 هـ. [ل] 323 - اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة: تأليف / جلال الدين عبد الرحمن السيوطي، بيروت - الطبعة الثالثة 1401 هـ.
[م]
324 - اللباب في تهذيب الأنساب: تأليف / ابن الأثير الجزري، دار صادر بيروت 1400 هـ. 325 - لقط اللآلئ المتناثرة في الأحاديث المتواترة: 235 - تصنيف / أبي الفيض محمد مرتضى الزبيدي، دراسة وتحقيق / محمد عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت - الطبعة الأولى 1405 هـ. 326 - لسان العرب: لابن منظور جمال الدين محمد بن مكرم الأنصاري. 327 - لسان الميزان: تأليف / أبي الفضل أحمد بن علي العسقلاني بيروت - الطبعة الثانية 1390 هـ. 328 - لمعة الاعتقاد الهادي إلى سبيل الرشاد: تأليف / أبي محمد عبد الله المقدسي "ابن قدامة" تعليق / بدر عبد الله البدر، الدار السلفية، الكويت الطبعة الأولى 1406 هـ. 329 - لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية لشرح الدرة المضية في عقد الفرقة المرضية: تأليف / محمد بن أحمد السفاريني 1380 هـ. [م] 230 - مجالس العلماء: لأبي القاسم عبد الرحمن بن إسحاق الزجاجي، تحقيق / عبد السلام هارون، القاهرة - الطبعة الثالثة 1403 هـ. 331 - المجتبى: لأبي بكر محمد بن الحسن بن دريد -الطبعة الرابعة في الهند تحت إشراف دائرة المعارف العثمانية 1400 هـ.
332 - المجددون في الإسلام من القرن الأول إلى الرابع عشر: تأليف / عبد المتعال الصعيدي - الطبعة الثانية 1382 هـ. 333 - مجمع الزوائد ومنبع الفوائد: نور الدين الهيثمي، دار الكتاب العربي بيروت، ط 3 - 1402 هـ. 334 - مجمع اللغة: لأبي الحسين أحمد بن فارس بن زكريا اللغوي دراسة وتحقيق / زهير عبد المحسن سلطان - بيروت، الطبعة الأولى 1404 هـ 335 - المجموع شرح المهذب: تأليف / أبي زكريا محيي الدين بن شرف النووي، دار الفكر، بيروت. 336 - مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية: جمع وترتيب / عبد الرحمن بن محمد بن قاسم الحنبلي وابنه محمد، بيروت - الطبعة الأولى 1398 هـ. 337 - مجموعة الرسائل والمسائل النجدية: لبعض علماء نجد، دار العاصمة، الرياض، ط 2 - 1409 هـ. 338 - مجموعة الرسائل الكبرى: تأليف / أبي العباس أحمد بن تيمية، القاهرة 1385 هـ. 339 - المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث: تأليف / أبي موسى محمد الأصفهاني، تحقيق / عبد الكريم العزباوي مطبعة دار المدني، جدة - الطبعة الأولى 1406 هـ. 340 - المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز: للقاضي / أبي محمد عبد الحق الأندلسي، تحقيق / المجلس العلمي بفاس، المغرب - الطبعة الثانية 1403 هـ.
341 - مختصر تاريخ دمشق: تأليف / محمد بن مكرم بن منظور، تحقيق / روحية النحاس- رياض مراد - محمد الحافظ، دار الفكر للطباعة والنشر دمشق - الطبعة الأولى 1404 هـ. 342 - مخصتر سنن أبي داود: للحافظ المنذري، تحقيق / محمد حامد الفقي- أحمد محمد شاكر القاهرة، 1366 هـ. 343 - مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة: تأليف / ابن القيم الجوزية، اختصره / محمد بن الموصلي، مكتبة الرياض الحديثة. 344 - مختصر طبقات الحنابلة: تأليف / الشيح: محمد جميل بن عمر البغدادي المعروف بابن شطي، دراسة / فواز أحمد زمرلي، بيروت - الطبعة الأولى 1406 هـ. 345 - مختصر العلو للعلي الغفار: تأليف / الحافظ الذهبي، تحقيق / محمد ناصر الدين الألباني المكتب الإسلامي، دمشق - الطبعة الأولى 1401 هـ. 346 - مختصر الفتاوى المصرية: تأليف / أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، اختصره / بدر الدين أبو عبد الله حمد الشهير بابن اسبا سبلا، راجعه / أحمد حمدي إمام، القاهرة 1400 هـ 347 - مختصر قيام الليل: تأليف / أبي عبد الله محمد بن نصر المروزي، اختصره / أحمد بن علي المقريزي، باكستان - الطبعة الأولى 1402 هـ.
348 - مختصر لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية: شرح الدرة المضية في عقد الفرقة المرضية: تأليف / العلامة محمد بن علي بن سلوم، تحقيق / محمد زهرى النجار دار الكتب العلمية، بيروت 1403 هـ. 349 - مدارك السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين: لاين القيم، تحقيق / محمد حامد الفقي، دار الكتاب العربي، بيروت 1392 هـ. 350 - المدخل إلى السنن الكبرى: أبو بكر البيهقي، دراسة / محمد ضياء الأعظمي، دار الخلفاء للكتاب الإسلامي، حولي، الكويت. 351 - المدخل إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل: تأليف / عبد القادر بن بدران الدمشقي، تصحيح / د. عبد الله بن عبد المحسن التركي، مؤسسة الرسالة، بيروت - الطبعة الثانية 1401 هـ. 352 - المدونة الكبرى: للإمام مالك بن أنس الأصبحي، رواية الإمام سحنون بن سعيد التنوخي عن الإمام عبد الرحمن بن قاسم، دار الفكر، بيروت - الطبعة الثانية 1400 هـ. 353 - مذاهب فكرية معاصرة: تأليف / محمد قطب، دار العلم للطباعة والنشر، جدة - الطبعة الأولى 1403 هـ. 354 - مذكرة أُصول الفقه: تأليف / محمد الأمين الشنقيطي، جدة.
355 - مرويات أي مخنف في تاريخ الطبري: تأليف / يحيى إبراهيم اليحيى، دار العاصمة الرياض- الطبعة الأولى 1410 هـ 356 - مسائل الإمام أحمد بن حنبل: رواية / إسحاق بن إبراهيم النيسابوري، تحقيق / زهير الشاويش المكتب الإسلامي، بيروت 1400 هـ. 357 - مسائل الإمام أحمد: تأليف / أبي داود سليمان الأشعث السجستاني، مقدمة تصدير التعريف به بقلم / محمد رشيد رضا دار المعرفة - بيروت. 358 - مسائل الإمام أحمد: رواية ابنة / عبد الله بن أحمد، تحقيق / زهير الشاويش، المكتب الإسلامي، بيروت - الطبعة الأولى 1401 هـ. 359 - المسايرة في العقائد المنجية في الآخرة، ومعها شرح المسامرة: لكمال الدين بن أبي شريف، تصحيح وضبط / احتشام الحق، طبع ونشر / دائرة المعارف الإسلامية، بكستان. 360 - المستدرك على الصحيحين: تأليف / أبي عبد الله الحاكم النيسابوري، دار الكتاب العربي، بيروت. 361 - مسند الإمام الشافعي: ترتيب محمد عابد السندي، تصحيح / يوسف علي الحسني، عزت العطار الحسيني، دار الكتب العلمية، بيروت - مصور عن الطبعة الأولى 1370 هـ. 362 - مسند الإمام أحمد بن حنبل: دار صادر بيروت.
363 - مسند الحميدي: أبو بكر عبد الله الزبير الحميدي، حققه وعلق عليه / حبيب الرحمن الأعظمي، دار الباز / عباس أحمد الباز، مكة المكرمة. 364 - مسند أبي داود الطيالسي: الهند، حيدر أباد - الطبعة الأولى 1321 هـ. 365 - مسند الشهاب: أبو عبد الله محمد القضاعي، تحقيق / حمدي عبد المجيد السلفي مؤسسة الرسالة بيروت - الطبعة الأولى 1405 هـ. 366 - مسند - أم المؤمنين - عائشة رضي الله عنها: تأليف / أبي بكر عبد الله السجستاني، دراسة وتحقيق / عبد الغفور عبد الحق حسين، الكويت - الطبعة الأولى 1405 هـ. 367 - مسند أبي عوانة: أبو عوانة يعقوب بن إسحاق، الناشر: دار المعرفة، بيروت. 368 - مسند أبي يعلى الموصلي: تأليف / أحمد بن علي التميمي، تحقيق / حسين سليم أسد، دمشق - الطبعة الأولى 1404 هـ. 369 - مشكاة المصابيح: تأليف / محمد بن عبد الله التبريزي، تحقيق / محمد ناصر الدين الألباني المكتب الإسلامي بيروت - الطبعة الثانية 1399 هـ. 370 - مشكل الآثار: تأليف / أبي جعفر الطحاوي، دار صادر، بيروت - الطبعة الأولى 1333 هـ.
371 - مصباح الزجاجة: في زوائد ابن ماجة للبوصيري، بتحقيق / محمد المتقي الكشناوي، الدار العربية، بيروت - الطبعة الأولى 1403 هـ. 372 - المصباح المنير: في غريب الشرح الكبير للرافعي، تأليف / أحمد بن محمد بن علي المقري الفيومي، المطبعة الأميرية بالقاهرة - الطبعة الخامسة 1342 هـ. 373 - الكتاب المصنف في الأحاديث والآثار: تأليف / أبي بكر بن أبي شيبة، تحقيق / عبد الخالق الأفغاني، بومباي الهند - الطبعة الثانية 1399 هـ. 374 - المصنف: تأليف / عبد الرازق الصنعاني، تحقيق / حبيب الرحمن الأعظمي، المجلس الإسلامي، بيروت - الطبعة الأولى 1390 هـ. 375 - المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية: تأليف / ابن حجر أحمد بن علي العسقلاني، تحقيق / حبيب الرحمن الأعظمي. 376 - معارج القبول شرح سلم الوصول إلى علم الأصول: تأليف / حافظ بن أحمد الحكمي، قدم له / أحمد بن حافظ الحكمي المطبعة السلفية، القاهرة - الطبعة الثالثة 1404 هـ. 377 - المعارف: لابن قتيبة أبي محمد عبد الله بن مسلم، حققة / د. ثروت عكاشة، دار المعارف، مصر- الطبعة الثانية 1383 هـ. 378 - معالم السنن: لأبي سليمان الخطابي، تحقيق / محمد حامد الفقي- أحمد محمد شاكر، القاهرة 1366 هـ.
379 - معاني القرآن واعرابه: تأليف / أبي إسحاق إبراهيم السري "الزجاج" شرح وتحقيق / د. عبد الجليل عبده شلبي، عالم الكتب، بيروت - الطبعة الأولى 1408 هـ. 380 - المعجم: تأليف / محمد بن عبد الله بن أبي بكر القضاعي، المعروف بابن الأبار. 381 - معجم بلدان فلسطين: محمد محمد شراب، دار المأمون للتراث، دمشق، ط 1 - 1407 هـ. 382 - معجم البلدان: تأليف / شهاب الدين أبي عبد الله ياقوت بن عبد الله الحموي البغدادي دار صادر بيروت، 1397 هـ. 383 - المعجم الصغير للطبراني: أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني، تصحيح / عبد الرحمن محمد عثمان، الناشر المكتبة السلفية، المدينة المنورة 1388 هـ. 384 - المعجم الأوسط: للحافظ الطبراني، تحقيق / د. محمود الطحان، الناشر دار المعارف الرياض - الطبعة الأولى 1405 هـ. 385 - المعجم الكبير: للطبراني، تحقيق / عبد المجيد السلفي، الدار العربية للطباعة - الطبعة الأولى 1398 هـ. 386 - معجم الشيوخ: تصنيف / شمس الدين محمد بن أحمد الذهبي، تحقيق / د. محمد الحبيب الهيله - الطبعة الأولى 1408 هـ.
387 - المعجم المختص بالمحدثين: تصنيف / شمس الدين محمد بن أحمد الذهبي، تحقيق / محمد الحبيب الهيله - بيروت - الطبعة الأولى 1408 هـ. 388 - المعجم في أسامي شيوخ أبي بكر الإسماعيلي: لأبي بكر أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي، تحقيق / د. زياد محمد منصور، مكتبة العلوم والحكم، المدينة المنورة - الطبعة الأولى 1410 هـ. 389 - معجم المؤلفين: تأليف / عمر رضا كحالة، دمشق 1376 هـ. 390 - معجم مقاييس اللغة: لأبي الحسين أحمد بن فارس، تحقيق وضبط / عبد السلام محمد هارون، مطبعة مصطفى الحلبي، مصر - الطبعة الثانية 1389 هـ. 391 - المعجم الوسيط: إخراج وإشراف / مجموعة من العلماء، دار المعارف، مصر - الطبعة الثانية 1393 هـ. 392 - معرفة الثقات: للإمام / أبي الحسن أحمد بن عبد الله بن صالح العجلي الكوفي بترتيب الإمامين / نور الدين أبي الحسن علي بن أبي بكر بن سليمان الهيثمي، وتقي الدين أبي الحسن علي بن عبد الكافي السبكي، دراسة وتحقيق / عبد العليم عبد العظيم، المدينة المنورة الطبعة الأولى 1405 هـ. 393 - معرفة الصحابة: أبو نعيم الأصبهاني أحمد بن عبد الله بن أحمد الأصبهاني، تحقيق / د. محمد راضي عثمان - الطبعة الأولى 1408 هـ.
394 - معرفة علوم الحديث: تصنيف / أبي عبد الله محمد بن عبد الله النيسابوري، تصحيح د. معظم حسين، دار لكتب العلمية، بيروت - الطبعة الثانية 1397 هـ. 395 - معرفة القراء الكبار على الطبقات والأعصار: تأليف / شمس الدين أبي عبد الله الذهبي، تحقيق / بشار عواد معروف، شعيب الأرناؤوط، صالح مهدي عباس، بيروت - الطبعة الأولى 1404 هـ 396 - المعرفة والتاريخ: أبو يوسف يعقوب البسوي، رواية / عبد الله بن جعفر النحوي تحقيق / د. أكرم ضياء العمري، مؤسسة الرسالة بيروت - الطبعة الثانية 1401 هـ. 397 - المغرب في ترتيب المعرب: تأليف / أبي الفتح ناصر الدين المطرزي، تحقيق / محمود فاخوري عبد الحميد مختار. 398 - المُغرب في حُلي المَغْرب: لابن سعيد الأندلسي، تحقيق / د. شوقي ضيف، دار المعارف بمصر، ط 3 - 1389 هـ. 399 - المغني عن حمل الأسفار في تخريج ما في الإحياء من الأخبار: للحافظ العراقي، مطبع في حاشية إحياء علوم الدين، للغزالي دار المعرفة بيروت. 400 - مغني اللبيب عن كتب الأعاريب: لجمال الدين بن هشام الأنصاري، تحقيق وتعليق/ د. مازن المبارك، محمد علي أحمد عبد الله، راجعه / سعيد الأفغاني، بيورت - الطبعة الخامسة 1399 هـ. 401 - المغني لابن قدامة: مطبوعات المنار، بمصر- الطبعة الثانية 1346 هـ.
452 - المغني في الضعفاء: نأليف / شمس الدين محمد بن أحمد الذهبي، تحقيق / نور الدين عتر بيروت - الطبعة الأولى 1391 هـ. 403 - مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسنة: تأليف / جلال الدين السيوطي، مطابع الرشيد، المدينة المنورة - الطبعة الثالثة 1399 هـ. 404 - مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة: تأليف / ابن القيم الجوزية، تصحيح / محمود حسن ربيع، مصر الطبعة الثالثة 1399 هـ. 405 - مفتاح السعادة ومصباح السيادة في موضوعات العلوم: تأليف / أحمد بن مصطفى، مراجعة وتحقيق / كامل كامل بكري، عبد الوهاب أبو النور، القاهرة. 406 - المفسرون بين التأويل والإثبات في آيات الصفات: تأليف / محمد المغراوي، دار طيبة الرياض - الطبعة الأولى 1405 هـ. 407 - المفضليات: تحقيق وشرح / أحمد محمد شاكر، عبد السلام محمد هارون، الناشر / دار المعارف القاهرة - الطبعة السادسة 21 شوال 1383 هـ. 408 - المقاصد الحسنة في الأحاديث المشتهرة: تأليف / محمد عبد الرحمن السخاوي، تحقيق / محمد عثمان الخشب بيروت - الطبعة الأولى 1405 هـ. 409 - مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين: تأليف / أبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري، تحقيق / محمد محيي الدين عبد الحميد، القاهرة - الطبعة الثانية 1389 هـ.
410 - مقدمة ابن الصلاح ومحاسن الاصطلاح: تحقيق / د. عائشة عبد الرحمن (بنت الشاطيء) مطبعة دار الكتب بالقاهرة 1394 هـ. 411 - مقدمة تاريخ العلامة ابن خلدون: بيروت 1402 هـ. 412 - مقدمة في مصطلح الحديث: تأليف / محمد ناصر الدين الألباني. 413 - المقصد العلي في زوائد أبي يعلى الموصلي: نور الدين الهيثمي، تحقيق / د. نايف الدعيس، جدة الطبعة الأولى 1402 هـ. 414 - مكارم الأخلاق: تأليف / الطبراني، تحقيق / د. فاروق حمادة، الدار البيضاء المغرب - الطبعة الثالثة. 415 - الملل والنحل: تأليف / أبي الفتح محمد عبد الكريم الشهرستاني، تحقيق / عبد العزيز الوكيل، القاهرة 1388 هـ. 416 - المنار المنيف في الصحيح والضعيف: تأليف / أبي عبد الله محمد الدمشقي المعروف بابن القيم الجوزية تحقيق / عبد الفتاح أبو غدة. 417 - مناقب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب: تأليف / أبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزي، تحقيق / د. زينب إبراهيم القاروط، بيروت، دار الكتب العلمية.
418 - مناقب الإمام أحمد بن حنبل: تأليف / أبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزي، حققه / د. عبد الله بن عبد المحسن التركي، تصحيح / د. على محمد عمر، مصر- الطبعة الأولى 1399 هـ. 419 - مناقب الشافعي: لأبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي، تحقيق / السيد أحمد صقر دار النصر للطباعة، مصر، القاهرة - الطبعة الأولى 1391 هـ. 420 - مناقب الإمام الشافعي: تأليف / الإمام فخر الدين الرازي محمد بن عمر بن الحسين، تحقيق / د. أحمد حجازي السقا، القاهرة - الطبعة الأولى 1406 هـ. 421 - منال الطالب في شرح طوال الغرائب: نأليف / أبي السعادات المبارك ابن الأثير، تحقيق / د. محمود محمد الطناحي، القاهرة. 422 - منتخبات التواريخ لدمشق: تأليف / محمد أديب الحصني، قدم له / د. كمال سليمان الصليبي بيروت - الطبعة الأولى 1399 هـ. 423 - المنتخب: لعبد بن حميد، تحقيق / مصطفى بن العدوي، دار الأرقم، بيروت ط 1 - 1405 هـ. 424 - المنتظم في تاريخ الملوك والأمم: لابن الجوزي، دائرة المعارف العثمانية الطبعة الأولى 1357 هـ.
425 - منحة المعبود في ترتيب مسند الطيالسي أبي داود ومعه التعليق المحمود على منحة المعبود: تأليف / أحمد عبد الرحمن البنا، القاهرة - الطبعة الأولى 1372 هـ. 426 - منزلة السنة في التشريع الإسلامي: تأليف / محمد أمان بن علي الجامي، المكتب الإسلامي، بيروت - الطبعة الأولى 1400 هـ. 427 - المنقذ من الضلال: تأليف / أبي حامد الغزالي، تحقيق / د. جميل صليبا، د. كامل عياد، دار الأندلس للطباعة، بيروت - الطبعة الحادية عشر. 428 - منهاج السنة النبوية: لابن تيمية أبي العباس تقي الدين أحمد بن عبد الحليم، تحقيق / د. محمد رشاد سالم، الرياض - الطبعة الأولى 1406 هـ. 429 - المنهاج في شعب الإيمان: تأليف / أبي عبد الله الحسين الحليمي، تحقيق / حلمي محمد فوده الطبعة الأولى 1399 هـ. 430 - المنهج الأحمد في تراجم أصحاب الإمام أحمد: تأليف / أبي اليمن مجير الدين عبد الرحمن العليمي، تحقيق / محمد محيي الدين عبد الحميد، تعليق / عادل نويهض، عالم الكتب بيروت - الطبعة الأولى 1403 هـ. 431 - نهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات: محمد الأمين الشنقيطي - مطبوعات الجامعة الإسلامية، بالمدينة المنورة 1401 هـ.
432 - المنهل العذب المورود شرح سنن الإمام أبي داود: تأليف / الشيخ محمود محمد خطاب السبكي، الناشر المكتبة الإسلامية، بدون تاريخ. 433 - موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان: تأليف / نور الدين علي الهيثمي، تحقيق / محمد عبد الرزاق حمزة القاهرة، بدون تاريخ. 434 - المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار: تأليف / تقي الدين أبي العباس المقريزي. 435 - المواقف في علم الكلام: تأليف / عبد الرحمن بن أحمد الإيجي، بيروت. 436 - الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب المعاصرة: مطبعة سفير، الرياض - الطبعة الثانية 1409 هـ. 437 - الموضوعات: تأليف / أبي الفرج عبد الرحمن بن علي بن الجوزي، تحقيق / عبد الرحمن محمد عثمان - الطبعة الأولى 1386 هـ. 438 - الموطأ: مالك بن أنس، تصحيح / محمد فؤاد عبد الباقي، القاهرة - الطبعة الأولى 1370 هـ. 439 - ميزان الاعتدال في نقد الرجال: أبو عبد الله محمد الذهبي تحقيق / علي محمد الجاوي- الطبعة الأولى 1382 هـ.
[ن]
[ن] 440 - النبوات: تأليف / أبي العباس أحمد بن تيمية، دار الكتب العلمية، بيروت 1402 هـ. 441 - نزهة الألباء في طبقات الأدباء: لأبي البركات كمال الدين عبد الرحمن بن محمد الأنباري، تحقيق / محمد أبي الفضل إبراهيم، القاهرة 1386 هـ. 442 - نسب قريش: لأبي عبد الله المصعب بن عبد الله بن المصعب الزبيري، تصحيح وتعليق / أ. ليفي بروفنيسال، دار المعارف مصر - الطبعة الثانية. 443 - النعت الكامل لأصحاب الإمام أحمد بن حنبل: تأليف / محمد كمال الدين العامري، تحقيق / محمد مطيع الحافظ، نزار أباظة، دمشق، 1402 هـ. 444 - نفثات صدر المكمد، وفرة عين المسعد - بشرح ثلاثيات مسند الإمام أحمد: تأليف / محمد السفاريني الحنبلي، المكتب الإسلامي، دمشق الطبعة الأولى 1380 هـ. 445 - نفخ الطيب من غصن الأندلس الرطيب: تأليف / الشيخ أحمد بن محمد المقرئ التلمساني، تحقيق / إحسان عباس، دار صادر بيروت، 1388 هـ. 446 - النهاية في غريب الحديث والأثر: أبو السعادات المبارك الجزري ابن الأثير، تحقيق / طاهر الزاوي، محمود محمد الطناحي.
[و]
447 - نهاية الأقدام في علم الكلام: للشهرستاني، تصحيح الفرد جيوم، بدون تاريخ. 448 - نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار من أحاديث سيد الأخيار - صلى الله عليه وسلم -: تأليف / محمد بن علي الشوكاني، حققه / طه عبد الرؤوف سعد، مصطفى محمد الهواري 1398 هـ. [و] 449 - الوافي بالوفيات: تأليف / صلاح الدين خليل الصفدي، باعتناء / هلموت ريتر، الطبعة الثانية 1381 هـ. 450 - وجوب الأخذ بحديث الآحاد في العقيدة: محمد ناصر الدين الألباني. 451 - الوسائل إلى معرفة الأوائل: تأليف / جلال الدين عبد الرحمن السيوطي، تحقيق إبراهيم العدوي، د. علي محمد عمر، دار نافع للطباعة. 452 - الوفاء بأحوال المصطفى: تأليف / أبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزي، تحقيق / مصطفى عبد الواحد مطبعة السعادة بمصر - الطبعة الأولى 1386 هـ. 453 - وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان: تأليف / أبي العباس شمس الدين بن خلكان، تحقيق / د. إحسان عباس، دار صادر بيروت 1398 هـ. [هـ] 454 - هدية العارفين في أسماء المؤلفين وآثار المصنفين: تأليف / إسماعيل باشا البغدادي، تركيا استانبول، 1371 هـ.