لمحات في الثقافة الإسلامية

عمر عودة الخطيب

مقدمة

مقدمة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الهدى محمد وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه، وسلك سبيله، واتبع سنته، وجاهد في الله حق جهاده ... وبعد: فهذه "لمحات في الثقافة الإسلامية" ترمي إلى تزويدنا بثقافة نافعة عن إسلامنا، تؤدي إلى ترسيخ مبادئه، والإيمان بمثله وفهم نظمه، ورد الشبهات عنه، وإحباط المكائد التي تحاك ضده من أعدائه -وبخاصة في المضمار الفكري والثقافي- ومؤامرات أعداء الإسلام ودسائسهم في الماضي والحاضر، تعمل بدأب وإصرار لتحقيق هدف خطير وهو: فك ارتباط المسلمين بإسلامهم، وإعاقة الدعوة إلى استئناف حياة إسلامية، في مجتمع متماسك متين تحكمه عقيدة الإسلام وشريعته ونظامه الفريد..؛ فإذا انتهت جهود هؤلاء الأعداء

الماكرين -التي ما زالت منذ قرون- إلى النجاح، أصبح الطريق أمامهم مفتوحًا لافتراس المسلمين بالمبادئ المنحرفة، والنظم الضالة، والروابط الزائفة، ثم القضاء نهائيًّا على الوجود الإسلامي الحق، الذي يخشون إقامته، وترهبهم يقظته، ويجدون فيه الخطر الكبير على حضارتهم المادية الفاسدة، ومحاولتهم السيطرة على مقدارت البشر ومستقبلهم.. والحديث في الثقافة الإسلامية أثير لنفس المسلم حبيب إليها؛ فهو وثيق الصلة بالعقل والقلب والفكر والشعور، مرتبط أتم ارتباط بالماضي الزاهر، والحاضر القلق، والمستقبل المنشود.. إنه -في أقرب أهدافه الكثيرة- يزود العقول بالحقائق الناصعة عن هذا الدين وسط ضباب كثيف من أباطيل الخصوم، ويربي فيها ملكة النقد الصحيح التي تقوم المبادئ والنظم والمذاهب التقويم السليم، وتميز -في نزعات الفكر والسلوك- بين الغث والسمين؛ فتأخذ النافع الخير، وتطرح الضار الفاسد، ملتزمة في ذلك التوجيه النبوي الكريم: "الحكمة ضالة المؤمن فحيث وجدها فهو أحق بها" 1 وليست جولة هذه الثقافة في آفاق المعرفة العقلية لونًا من رياضة الذهن، أو ضربًا من الاستزادة من المعارف، أو فنًا من القول المنمق والأسلوب الممتع الجميل؛ فتلك كلها غايات تأتي تبعًا لا قصدًا، وهي متوافرة في طائفة كثيرة من العلوم والفنون، أما الحديث في الثقافة الإسلامية فإنه يتجازو حدود المعرفة العقلية البحتة، لينفذ إلى القلب فيحرك المشاعر، ويفجر في روح المؤمن تلك الطاقة الحية العالية، التي تشده شدًّا محكم الأواصر إلى عقيدته الحقة النيرة، وشريعته الكاملة القويمة، تتعمق فيه روح الولاء لأمته الرائدة القائدة التي أكرمها الله بهذه الرسالة الهادية.. وحين يتلاقى العقل والقلب، والفكر والشعور، على فهم الإسلام،

_ 1 رواه الترميذي في باب العلم.

ووعي قضيته، والولاء لأمته، والتفاعل مع مبادئه ونظمه.. وحين يكون ذلك الفهم والوعي والولاء والتفاعل عميقًا قويًّا شاملًا؛ فلا بد أن تنبثق من ذلك روح جديدة تتسم بالإيمان الصادق، والعمل المنتج، والعزيمة القوية، وبذلك تتجدد ثقة المسلمين بمهمتهم القيادية الكبرى، وتتلاشى عوامل الانهزام الفكري والنفسي، وتزول أعراض ذلك المرض العضال من الشعور بالنقص، وشيوع الضعف والخور، والإخلاد إلى الراحة، والاستكانة إلى المتاع العاجل، والتعلق بالأهواء والشهوات، والخضوع لسلطة الأقوياء، والانبهار بحضارة الأعداء.. وتتقد -من جديد- جذوة الكفاح الصامد لنشر الدعوة، ومواجهة التحدي، وقيادة الركب الحضاري النير الذي فتح العقول والقلوب، ورفع لواء الكرامة والعدالة والحرية، وبسط راية العلم والمعرفة والسلام في أرجاء المعمورة.. ذلك هو الأمل الذي نرجو أن يحققه الحديث في الثقافة الإسلامية في كل جوانبها المشرقة الوضيئة، ومع مصادرها الحية الوفيرة، ومنهجها المتكامل القويم، وتوجيهها السوي السليم، وبنائها شخصية الفرد والمجتمع، وتحريرها الإنسان من ركام الجهل والتخلف والضياع، وتطهيرها لروحه ونفسه وضميره من دنس الشر والانحراف والفساد.. وهو أمل حمل القائمين على "الكليات والمعاهد العلمية" بالمملكة العربية السعودية وغيرها من الجامعات والكليات على تقرير تدريس مادة "الثقافة الإسلامية" فلقيت هذه الخطوة الطيبة المشكورة ما كان منتظرًا من تجاوب الطلاب معها تجاوبًا كبيرًا؛ ذلك أن شبابنا هم -في الحقيقة- موضع هذا الأمل الكبير، والغرس الطيب لذلك المستقبل المنشود.. وقد تجلى هذا التجاوب في الإقبال على البحث في الثقافة الإسلامية؛ جمعًا لمصادرها وقراءة لمراجعها، ودرسًا لموضوعاتها، وحماسةً طيبةً مبرورةً في ذلك كله.. أعدت هذه الفصول استجابة لمطلب ملح، وتلبيةً لرغبة صادقة.. وهي لا تعدو أن تكون -بحق- صُوىً تدل على الطريق وترشد إليه.. ولا غنى

للباحث في الثقافة الإسلامية عن الجوع إلى مصادرها الأصلية في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وتتبع موضوعاتها -بصبر وأناة- في أمهات الكتب التي ألفها سلفنا الصالح -أجزل الله ثوابهم-، كما لا بد من دراسة ما كتبه أعلام الفكر الإسلامي في هذا العصر من كتب ورسائل، في أمور العقيدة والعبادة والأخلاق والتشريع والنظم، وما عقدوه من موازنات وافية بين الإسلام والمذاهب الفكرية والاجتماعية الأخرى.. ولدى الباحث -بحمد الله- رصيد طيب من هذه الكتب القيمة الغنية بالفكر الرصين، والبحث العميق، والتوجيه الطيب، وهي عامرة كذلك بحرارة الدعوى وروح الإخلاص، تشهد لمؤلفيها بجهادهم الصادق المبرور في هذا الميدان العظيم.. والله تبارك وتعالى نسأل أن يجعل عملنا خالصًا لوجهه فهو حسبنا ونعم الوكيل.. عمر عودة الخطيب الرياض 15 صفر 1392هـ

الفصل الأول: في المدلول العام للثقافة

الفصل الأول: في المدلول العام للثقافة الثقافة في حياة الأمم المفاهيم الأساسية ... الثقافة في حياة الأمم المفاهيم الأساسية: 1- في حياة كل أمة مفاهيم أساسية تحرص عليها، وتعمل على ترسيخها، وتعميق إدراكها في شئونها الفكرية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها ذلك من أمور الحياة. وتسعى كل أمة سعيًا حقيقيًّا دائبًا على أن تكون مفاهيمها واضحة الدلالة في ذاتها، مراعية الجانب لدى أبنائها، واسعة الانتشار والتداول لدى غيرها، وتتخذ لتحقيق ذلك وسائل شتى: فتؤلف الكتب، وتعقد المؤتمرات، وتقوم بالدراسات، وتصدر النشرات، وتضع مناهج التربية والتعليم، وتستخدم -بوجه عام- كل وسائل الإعلام والتوجيه لتوضيح هذه المفاهيم وشرحها، وبيان أسسها وخصائصها، وتفصيل وجوه النفع فيها. إن هذه المفاهيم الأساسية، وما ينبثق عنها ويتعلق بها، هي في حقيقتها: ما يمكن أن يطلق عليه -بشكل عام- ثقافة الأمة أو حضارتها، مع الأخذ بعين الاعتبار ما بين الثقافة والحضارة من فروق يدل عليها تطور الكلمتين في اللغة العربية واللغات الأخرى. كما سنفصل ذلك فيما بعد. 2- وأكثر ما يتهم به قادة الفكر والثقافة المؤمنون بمفاهيم أمتهم، الدائبون

لنشرها، هو نقلها من حيز النظر المجرد إلى الواقع البشري الحي، ووصل حياة الناس بها، بحيث تكون مصدر فكرهم وشعورهم، وطابع سلوكهم، وسمة حياتهم العملية. ومن هنا يخرج مدلول الثقافة عن قصد المعرفة المجردة إلى المعرفة الهادفة. أو بتعبير آخر: عن المعرفة الساكنة التي لا تتجاوز حدود العمل الذهني، إلى المعرفة المحركة التي تحدث تفاعلًا موجهًا واضح التأثير مع تطلعات الفرد والجماعة. ولعل خير ما يجلي هذه الفكرة؛ ما ذكره "أحمد بن محمد بن عبد ربه الأندلسي" في وصف العلم والأدب فقال: "فإنهما القطبان اللذان عليهما مدار الدين والدنيا، وفرق ما بين الإنسان وسائر الحيوان، وما بين الطبيعة الملكية، والطبيعة البهيمية، وهما مادة العقل وسراج البدن، ونور القلب وعماد الروح، وقد جعل الله بلطيف قدرته، وعظيم سلطانه، بعض الأشياء عمدًا لبعض ومتولدًا من بعض؛ فإجالة الوهم فيما تدركه الحواس تبعث خواطر الذكر، وخواطر الذكر تنبه روية الفكر، وروية الفكر تثير مكامن الإرادة، والإرادة تحكم أسباب العمل؛ فكل شيء يقوم في العقل ويمثل في الوهم يكون ذكرًا، ثم فكرًا، ثم إرادة، ثم عملًا"1. 3- وإذا كان لا بد لهذه المفاهيم الأساسية من مرتكزات منطقية وأصول علمية؛ فإن الأمم التي تعوزها هذه المرتكزات والأصول لمفاهيمها؛ تحاول أن تعوض هذا النقص الخطير باتخاذ أسلوب الافتراض والتخمين. وقد تلجأ أحيانًا إلى ضروب من المغالطات الخفية، والمرتكزات الوهمية حين تنعدم لديها الحقائق الأصلية، وتفقد قواعد اليقين العلمي الراسخ، وتحاول أن تحيط مفاهيمها الناقصة التي لا تستند إلى أدلة مقبولة بهالةٍ من التمجيد والتزيين تلفت إليها الأنظار؛ فترمقها مبهورة بظواهرها.

_ 1 العقد الفريد ج2 ص206

غافلة عن حقيقتها، ويحجبها الفريق اللامع المصنوع بكثير من المهارة عن النظرة النافذة العميقة التي تقومها التقويم الصحيح. 4- وليس يعرف في تاريخ الأمم -ماضيها وحاضرها- أن واحدة منها أهملت في نشر ثقافتها، أو تركتها تذوب في ثقافة غيرها، أو تتلاشى في عقول أبنائها؛ لتحل محلها ثقافات أخرى طارئة غريبة..؛ ذلك أن الثقافة -في حقيقتها- هي الصورة الحية للأمة؛ فهي التي تحدد ملامح شخصيتها وقوام وجودها، وهي التي تضبط سيرها في الحياة، وتحدد اتجاهها فيها. إنها عقيدتها التي تؤمن بها، ومبادؤها التي تحرص عليها، ونظمها التي تعمل على التزامها، وتراثها الذي تخشى عليه الضياع والاندثار، وفكرها الذي تود له الذيوع والانتشار..؛ فإذا اهتزت هذه الصورة، أو اضطربت ملامحها، أو طمسها الركام المتكاثف فوقها؛ لم يكن للأمة -بسبب ذلك- شخصية تميزها، أو سمات تنفرد بها؛ بل تصبح تبعًا لغيرها، حتى تنتهي إلى الاضمحلال، وتؤول إلى الزوال، وتلك هي الكارثة التي تخشى كل أمة حية أن تحل بها، فتمحق وجودها، وتطمس حياتها.

الثقافة والتغيرات الطارئة

الثقافة والتغيرات الطارئة: 1- إن هذا هو شأن الثقافة في حياة الأمة في أحوالها المعتادة المألوفة، وسيرها مع حركة الحياة في خطاها الرتيبة؛ شأنها في ذلك شأن الجو الطبيعي في صفاء سمائه، وإشراق شمسه، وحركة الرياح فيه، ومستوى درجة حرارته، وفق الفصل الذي يكون.. غير أن الأحوال المعتادة لا تبقى دائمًا في نطاق المألوف؛ بل تتعرض في مناسبات ملحوظة أو غير ملحوظة إلى التغير، وقد يبلغ هذا التغير درجة لا يبقى معها من المعتاد المألوف شيء؛ فتتبدل الأوضاع وتأتي على صورة جديدة غير متوقعة أو معروفة.

وهنا تصبح خطى الحياة الرتيبة خطى متسارعة منتظمة، أو قلقة مضطربة لا توازن فيها ولا انتظام. وحتى تكون الصورة أكثر وضوحًا في الذهن لتجلية هذه الحقيقة عن أثر الثقافة وخطرها في حياة الأمة حين تكون في غير الجو المعتاد، والمناخ المألوف: أو في ما يمكن أن نطلق عليه حالة التغيرات العاصفة..؛ فإن علينا أن نتصور هبوب ريح عاتية، وانتشار سحب كثيفة، تتلبد معها السماء، وتحتجب الشمس، وتنهمر الأمطار قوية غزيرة؛ فتشكل سيلًا رابيًا قد يتحول إلى فيضان شديد في فصل ليس مألوفًا فيه أن يقع مثل هذا التغير الكلي الذي يحمل الإنسان على أن يسائل نفسه عن الفصل الذي يعيش فيه بسبب اختلاف ما يرى، وتنافيه تنافيًا تامًّا عن طبيعة المناخ المألوف لديه. 2- في ضوء هذه الصورة يمكن أن نلحظ التشابه بين الثقافة والمناخ، وأثرهما على الأمة من حيث الجو الطبيعي والإلف المعتاد في سير الحياة وفق الخطى الرتيبة المعروفة، وما يعرض للثقافة والمناخ معًا من تغير وتبدل، وغيبة للمألوف، عندما تختفي رتابة الحركة وتفقد الاتزان والتناسق والانسجام.. ولا يكاد هذا التشابه بين الثقافة والمناخ يختلف إلا في الأمور التالية: أ- عودة المناخ بعد التغير إلى حالته الطبيعية المألوفة؛ فيتلاشى الضباب، وتهدأ الريح وتشرق الشمس، ويغيض ماء الفيضان، وليس الأمر كذلك في الثقافة؛ فلا بد أن يترك التغيير آثاره العميقة التي يطول مكثها، وقد يعسر التغلب عليها. ولا شك أن ضباب الفكر لا يمكن أن يتلاشى سريعًا من سماء الثقافة، وكذلك الحال في عصف التيارات الغريبة الوافدة، وما يترافق معها من طوفان الانحراف، وما تخلفه من رواسب آسنة مؤذية في مفاهيم الأمة وأخلاقها وطابع حياتها. ب- تستطيع الأمة أن تعالج على المدى القريب أو البعيد آثار الكوارث الطبيعية

مهما كانت شديدة ثقيلة..؛ فهي تعمل وتبذل وتبادر إلى بناء ما تهدم، وإصلاح ما فسد، وبث الحركة فيما أصابه العطب.. وتقوى إذا حدث وصبرت على إزالة جميع الآثار الضارة وطمس الرواسب المؤذية. وليس الأمر في الثقافة على هذا النحو تمامًا، فإن بناء ما تصدع، وإصلاح ما فسد، وتحريك ما توقف، وبث روح الحركة السوية المتزنة في الحياة الفكرية والاجتماعية بعد التغير الناجم عن الحركة القلقة الملتوية المضطربة.. إن كل ذلك يحتاج إلى جهد كبير وبذل سخي وعمل متواصل.. ولا بد أن يفوق -أضعافًا مضاعفة- جهد الأمة وبذلها وعملها وكل ما تنفقه من أجل التغلب على نتائج أشد كوارث الطبيعة وأضخمها وأعنفها. ج- وليس من شك في أن قدرة الأمة على ذلك محفوفة بكثير من الصعاب، بسبب عمق القضايا المعنوية وتعقدها، ووفرة ما تتصل به من شئون وأوضاع، وهي كلها شئون حيوية، وأوضاع أساسية، يعد إهمال أمرها كارثة كبيرة، كما يؤدي خطأ علاجها، في أي جانب أساسي من جوانبها مدعاةً إلى سلسة أطول من الأخطاء؛ ثم إن البون شاسع جدًّا بين علاج المشكلات المادية والمشكلات المعنوية من حيث كنهها الذاتي، وطبيعة كل منها وخصائصها المتمايزة، ومن حيث إمكان الإصلاح ويسره وطواعيته ثم مدى بلوغ نتائجه. إزاء هذا لا بد من الإلحاح على بيان خطر الثقافة في حياة الأمم، وأثرها البالغ في وجودها، ولا مناص لأي باحث يتصدى لعلاج هذه القضايا من أن يحاول -أقصى ما وسعه الجهد وبكل وسيلة ميسورة لديه- إثارة الإحساس بهذه القضية، ودفعها إلى بؤرة التوتر الذهني والطاقة العملية؛ حتى لا يكون وعي القضية الثقافية، والتصدي لعلاج مشكلاتها دون مستوى ما ينبغي لها -على مختلف فئات الأمة- من تعمق في الفهم، واستيعاب للقضية، وإحاطة بمشكلاتها، وجدٍّ في علاجها، وبحث عن الخطة المثلى في حلها.

3- وإذا حاولنا أن نتجاوز الإطار العام الذي يصدق على أمم شتى، وأن نضع قضية ثقافتنا في ميزان التحليل، وفق ما سلف لنخرج بتقويم دقيق صحيح..؛ فإنه لا غنى لنا عن الإشارة إلى ملاحظة مهمة ينبغي أن توضع في موضعها الصحيح وهي: أن الهروب من المشكلات لا ينفي وقوعها، ثم إن محاولة العزلة لا يقضي أبدًا تسرب هذه التيارات إلينا..؛ بَلْهَ إن العزلة نفسها ليست ممكنة في هذا العصر، والذي تلاقت الأمم فيه بوسائل كثيرة من الاتصال، والذي أصحبت التيارات الثقافية فيه كالتيارات الهوائية على حد سواء؛ أضف إلى ذلك أن هذا العصر قد فرض علينا أن نتلاقى مع غيرنا من الأمم والشعوب في عدد من ساحات العمل المشترك بتأثير مقتضيات دولية وإنسانية وشئون حيوية كبرى تخص وجودنا وقضيانا نفسها. ثم إن فترة الانطواء التي جرت في العالم الإسلامي حقبة قصيرة من الزمن لم تكن فترة خصب وازدهار، وإن كانت فترة تماسك وصمود؛ لا يوصف بالقوة والحركة إن لم يوسم بالضعف والجمود؛ ولكن لم يكن ينتظر لها أن تستمر وتطول، إزاء حدة ما يحيط بها من عواصف عاتية وتيارات شديدة.. "لقد كانت الفترة التي عاشت فيها بعض الأقطار الإسلامية بعيدة عن الحضارة الحديثة بخيرها وشرها، زاهدة في مرافقها وأساليبها، منطوية على نفسها. لقد كانت هذه الفترة قصيرة مضطربة، مهددة بالغزو الحضاري والثقافي من الخارج، وموجات هذه المدينة العاتية التي تتغلغل إلى الجذور والأعماق، وتذهب بالقيم والمفاهيم ومبادئ الأخلاق، ويشك كل عاقل -عرف قوة نفوذ هذه الحضارة وسعته، وعرف ضعف هذه الأقطار الروحي والمادي، وفقدها ما يقاوم هذه الحضارة من إيمان وقوة شخصية وثقة- يشك في بقاء هذه الأقطار في سلخها وحصارها المدني والثقافي والاجتماعي، ويشك في طول هذه الفترة؛ لأنها -مع وجود هذا الضعف في الشخصية والفقر في القوة

المعنوية- غير صالحة للطول والامتداد؛ فضلًا عن البقاء والاستمرار"1.

_ 1 أبو الحسن الندوي: "الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية في الأقطار الإسلامية" ص15

أمتنا على مفترق الطرق

أمتنا على مفترق الطرق: 1- إن أمتنا اليوم على مفترق طرق شتى، تتربص بها قوى الشر في كل منعطف وزاوية، تحاول -كما حاولت من قبل- أن تقوض رسالتها، وتطوي رايتها، وتطفئ مشاعلها، بوسائل لم يختلف الحديث منها كثيرًا عن القديم، وإن كان أقسى ما نواجهه منها أنها استطاعت أن تحتل بعض المواقع الرئيسية في الحصن الشامخ؛ لتتابع منها حربها الضارية وهدفها الرهيب.. وإن وعي أمتنا لهذه الحقيقة، وإدراكها لطبيعة المعركة؛ يحتم عليها أن تكون أكثر إصرارًا على سلوك سبيل الإسلام وحده في التربية والتشريع والحكم، وأقوى اعتصامًا بحبل الله، وأوفى اتباعًا لهداه، في بناء الفرد وإنشاء المجتمع بلبنات الفكر والثقافة والاقتصاد والخلق والتوجيه.. {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ، يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 2. 2- ولا بد للمسلم في عصرنا الحاضر الذي ازدحمت فيه التيارات الفكرية، والنظم الاجتماعية، من أن يعرف طريقه ويحدد وجهته، ويدرك ما يحيط به من اتجاهات؛ لتكون خطاه في هذه الحياة على أقوم السبل، وأوضح المناهج، وينأى في رحلة العمر عن العبث والضياع، وحتى لا يضطر -وقد قطع في سيره التائه أشواطًا- أن يعود القههرى، وينقض

_ 2 المائدة: 15-16

ما أبرم، ويرجع من حيث انطلق، إذا أتيح له أن ينجو من الانزلاق الخطير، ويسلم من الانهيار وسوء المصير.. إن المسلم بحاجة ماسة -إزاء هذه الظاهرة- إلى مزيد من دفقات النور، تقتبس -وضاءة ساطعة- من الينبوع الأصيل الزاخر الذي يبدد ظلمات قرون طويلة من الجاهلية التي صنعها مردة الشر وجنود الشيطان.. وأفاض بعدها على الإنسانية من أنوار هدايته الربانية دعوة خيرة، ومثلًا عاليةً، وحضارةً زاهرة، وأمدَّ الحياة بروح جديدة قوامها التوحيد ومبناها الإخلاص وشعارها عقيدة والتزام..؛ فالتأم الشمل المشتت، وتحرر العقل المقيد وتطهر الضمير الملوث، واكتشف الإنسان -بوحي من هذه الدعوة وهدىً من هذه الروح- جوهره النبيل، ومعدنه الأصيل، وفطرته الطيبة، وأدرك أن له في هذا الوجود مهمة عظيمة، ورسالة جليلة، عليه أن يدأب لتحقيقها، ويسعى بصبر وثبات لأدائها، ويعد نفسه إعدادًا ملائمًا للقيام بها. تلك هي "الخلافة في الأرض" إقامةً لحكم الله، وتطبيقًا لشريعته، لإرشاد من ضل وغوى، وإنقاذ من انحرف وهوى، وتحرير من استعبدته الأهواء، واستبد به طواغيت الأرض، فشوهوا فطرته، وأفسدوا عقيدته وأذلوا كرامته، وجعلوا منه مطيةً سهلةً لمطامعهم، وساقوه سوق السوائم إلى مذبح رغباتهم وشهواتهم. قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ} 1. وقال سبحانه: {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} 2.

_ 1 الأنعام: "165" 2 يونس: "14"

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الدنيا حلوةٌ خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون" 1. 3- لقد كان مولد الإسلام في أرض الطهر والنور، وفي رحاب بيت الله الحرام، إعلانًا جديدًا وأخيرًا لمولد الإنسان الذي أراد له بارئه أن يحمل أعباء الخلافة في الأرض بصدق وإخلاص، ويهب لها -برضى وتصميم- ما حباه الله به من فكر وعزيمة وعمل؛ بحيث تكون طاقاته كلها في خدمة هذه الغاية السامية، بناءً وتشييدًا، ودعمًا وتأييدًا ورعايةً دائمةً لها، وذودًا صارمًا عنها، ولا يتم ذلك إلا حين تكون هي محور حركته ونشاطه، تملأ عليه وجوده، وتتوهج في ضميره توهج اللهب، وتسري في عروقه سريان الدم.. يحياها عقيدة صافية مبرأة من نوازع الشك والشرك، والانحراف والرياء، وعبادة خالصة خاشعة، طاعة لله وقربى إليه، وتحليًا بأكرم الأخلاق وأنبل الصفات.. وهذه هي العناصر الأساسية التي تجعل منه النموذج الأمثل، الذي يدعو إلى فكرته حالُه، قبل أن يدعو مقالُه.. 4- إن رسالة الإسلام -في أصولها وفروعها- بناءٌ متكاملٌ يتلاءم كل التلاؤم مع فطرة الإنسان الطيبة، واستعداده للخير، ولدى المسلمين اليوم هذا الرصيد الضخم الذي يجب أن يتحول إلى تفاعل منتج بين العقيدة والسلوك والعمل، ويصاغ -في الإطار النفسي والفكري والخلقي- التزامًا كاملًا للمنهج الرباني، واحتكامًا تامًا إلى مقاييس الإسلام وسعيًا دائبًا إلى الغاية الأساسية وهي إرضاء الله تبارك وتعالى، وأداء الأمانة التي حملهم الله إياها، وتبليغ الرسالة التي ندبهم لها.. قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ

_ 1 أخرجه مسلم

أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} 1 فإذا صحت العقيدة، وصدق الاتباع؛ تحققت الاستجابة الصحيحة لنداء الله عز وجل في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} 2 وذلك وحده هو سبيل تحقيق وعد الله تبارك وتعالى في أن يعيش المؤمنون على هذه الأرض أعزةً أحرارًا.. كرماء سعداء، تسودهم المحبة، ويعمهم الخير، وترفرف فوق ربوعهم ألوية السلام.. وقال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً} 3 وقال عز وجل: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} 4. 5- بهذا المنهج الرباني وحده، يستطيع المسلمون أن يواجهوا تحديات الحضارة المعادية، والثقافات المسمومة، والمفاهيم الدخيلة المغلوطة، وما جاءت به -في فترة سيطرة الاستعمار وعنفوان تسلطه- من مناهج ملتوية في الفكر والاقتصاد، والأخلاق والاجتماع.

_ 1 الأحزاب: 36 2 الأنفال: 24 3 النور: 55 4 القصص: 5

وبهذا المنهج وحده -دون سواه- لا يغيب الجيل الإسلامي اليوم عن معترك الحياة، ولا يحيا على هامشها، أو يسلم نفسه لتيارها؛ تتخطفه مذاهبها، وتلفه أعاصيرها، وتفتك به أدواؤها، ويعبث بفكره وخلقه شياطينها، ويقذفون به في مهاوي الظلام بعيدًا عن ينبوع الحياة الطيبة الكريمة، يتخبط في سيره، وينحرف في اتجاهه، ويجري مكدودًا مرهقًا في تيه طويل وشقاء مرير. وعلى الجيل الإسلامي الذي يجب عليه أن يرفض الوجود الخائر الزائف، الذي لا يليق بالأمة التي ينتمي إليها، أن يدرك أن دعوة الله تبارك وتعالى هي البرهان القوي الساطع على أحقية الوجود الإسلامي الرائد في هذه الحياة، وهي النور المشرق الوضاء الذي يجب أن يعمر الصدور، ويفتح العقول، ويحرك العزائم، لأداء هذه الأمانة للبشر في كل أرض وتحت كل سماء؛ مهما تزاحمت الشدائد، وتكاثف الضباب، وكثرت الصعوبات، وعظمت التضحيات..؛ فهي لكل إنسان الدليل القاطع للعذر، والحجة المزيلة للشبهات؛ تنفذ إلى العقول السليمة فتنكشف أمامها الحقائق واضحةً جليلةً، وإذا انكشفت الحقائق؛ سقطت الشبهات صرعى متهالكة، وانهارت في العقول والقلوب والضمائر وأوضاع الحياة؛ تلك الهياكل النخرة الشوهاء، التي يحاول الشر والباطل -المتمثل في المنطق الجاهلي المتخاذل- أن يقيمها زيغًا في النفوس، وزيفًا في نظم المجتمع وواقع الناس. وبهدي هذه الدعوة وأدلتها القوية في الكون والحياة والناس، وأهدافها السامية في التحرير والتطهير ومطاردتها الباطل، ورد غوائل الفساد، ودحر نوازع العدوان..؛ تنزاح عن الإنسان تلك الرواسب الضالة الكثيفة التي تشده إلى ما يرديه، وتنأى به عما يسعده ويرضيه، وبذلك ينقى المجتمع البشري من أدران الظلم والفوضى، والتمزق والضياع..؛ وبذلك أيضًا يحيا الإنسان حياة السعادة والطهر، والاستقامة والكرامة.. وتلك هي معالم الطريق التي تتحقق بها لبني البشر -أفرادًا وجماعات- قيم الحق والخير، والعدالة والسلام.

الثقافة ومشكلة التعريف

الثقافة ومشكلة التعريف بين المدلولين: اللفظي والفكري في ضوء -ما أسلفنا- من الوصف والتحليل العام لمدلول الثقافة، وطبيعتها وخطرها، وأثرها في حياة الأمة -ما ضيها وحاضرها ومستقبلها- وتجديدها لعلاقتها، وتوجيهها لسلوكها؛ تجيء مشكلة تعريف الثقافة تعريفًا جامعًا مانعًا وهو ما يعبر عنه بالحدِّ1، وتتأكد هذه المشكلة حين يضيق التحديد اللفظي عن استيعاب المضمون الضخم الواسع المتشعب الذي تدل عليه كلمة "ثقافة"؛ فهي كلمة ذات أبعاد كبرى، ودلالات كثيرة، وإيحاءات متعددة، وتعني -في إطارها العام- آفاقًا ومستويات تتعلق بالفكر والسلوك والنظم والعلائق الإنسانية ونحوها؛ وهي آفاق ومستويات يضيق المدلول اللغوي عن ضبطها أو حصرها -أو بتعبير آخر- عن احتوائها؛ فلا بد إذًا من تجاوز النطاق اللغوي -من حيث أصل الكلمة واستعمالاتها- إلى النطاق الفكري العام عند محاولة تعريف الثقافة تعريفًا يشمل جوانبها المتعددة وآفاقها المتنوعة. ولعل من الضروري أن نلم بأصل الكلمة في اللغة وبعض وجوه استعمالها، قبل أن نتقصى ما تدل عليه أو تعنيه في نطاق الفكر والعلوم الإنسانية.

_ 1 انظر في مبحث التعريف وأقسامه والطرق الموصلة إليه كتاب "مناهج البحث عند مفكري الإسلام" تأليف: علي سامي النشار ص41

الثقافة في نطاق اللغة

الثقافة في نطاق اللغة: 1- إن الثقافة -بمدلولها العام الشائع- كلمة جديدة لا تتصل بالمدلول اللغوي الذي ذكرته معاجمنا العربية إلا على ضروب من التأويل والمجاز، لا تستقيم في كل الأحوال التي تستعمل فيها كلمة "ثقافة"؛ فهي تعني في أكثر الاستعمالات اللغوية: "الحذق والفطنة، وسرعة أخذ العلم وفهمه، وتقويم المعوجّ من الأشياء". أ- قال الزمخشري في "أساس البلاغة" في مادة "ثقف": "ثقف القناة، وعض بها الثقاف، وطلبناه فثقفناه في مكان كذا: أي أدركناه. وثقفت العلم أو الصناعة في أوهى مدة: إذا أسرعت أخذه، ومن المجاز: أدَّبه وثقّفه، ولولا تثقيفك وتوقيفك لما كنت شيئًا. وهل تهذبت وتثقفت إلا على يدك". ولو رحنا نتقصى مدلول هذه المادة في المعاجم العربية الأخرى قديمها وحديثها، لما ظفرنا بشيء جديد؛ ذلك أن هذه المعاجم ينقل بعضها عن بعض. ب- قال في "القاموس المحيط": ""ثقف" ككرم وفرح ثقفًا وثقفًا وثقافة: صار حاذقًا خفيفًا فطنًا، وثقفه كسمعه: صادفه أو أخذه أو ظفر به أو أدركه ... وأُثْقِفْتُهُ، أي قُيّضَ لي، وثقفه تثفيفًا: سَوَّاهُ" جـ- وفي مختار الصحاح -للرازي-: ثقف الرجل من باب ظرف صار حاذقًا خفيفًا ... وثقف

من باب طرب لغة فيه. والثقاف: ما تسوّى به الرماح. وتثقيفها تسويتها، وثقفه من باب فهم صادفه". 2- وقد وردت لفظة "ثقافة" معطوفة على لفظة "صناعة" في مقدمة "طبقات الشعراء" لأبي عبد الله محمد بن سلام الجُمَحي "232هـ". فقال1: "وللشعر صناعة وثقافة يعرفها أهل العلم كسائر أصناف العلم والصناعات؛ منها ما تثقفه العين، ومنها ما تثقفه الأذن، ومنها ما تثقفه اليد، ومنها ما يثقفه اللسان". وقد فهم بعض الباحثين في النقد الأدبي أن لفظة "صناعة" تعني لدى ابن سلام ميزان نقد الشعر فقال: "كان ابن سلام أول من نص على استقلال النقد الأدبي؛ فأفرد الناقد بدور خاص، حين جعل للشعر -أي لنقده والحكم عليه- "صناعة" يتقنها "أهل العلم بها" مثلما أن نقاد الدرهم والدينار يعرف صحيحهما من زائفهما بالمعاينة والنظر. ولعله كان يرد على من يتطاولون إلى الحديث في نقد الشعر من معاصريه وهم لا يملكون ما يسعفهم على ذلك"2. وهنا يبقى السؤال قائمًا حول ما يعنيه ابن سلام من كلمة "ثقافة" التي عطفها على لفظة "صناعة" فإذا كان ينفي الترادف؛ فإن مدلول لفظة "ثقافة" -كما يفهم من كلامه- يعني الحذق والفهم والقدرة، أو ما يمكن أن نعبر عنه بما يسمى "الملكة".. فإذا أضيفت الكلمة إلى الشعر؛ كانت ملكة الشعر.. أي القدرة على فهمه وحذقه ونقده.. وإذا أطلقت دون

_ 1 ابن سلام: "طبقات الشعراء ص 6" 2 الدكتور إحسان عباس: "تاريخ النقد الأدبي عند العرب" ص 78

أن تضاف إلى علم أو فن؛ فليس ثمة ما يمنع أن تدل على ما نطلق عليه اليوم الثقافة العامة؛ فإذا جَعَلَ ابن سلام للشعر ثقافة؛ فإن معنى ذلك أن للنثر ثقافة أيضًا، وهي "الثقافة الأدبية"، وتتسع الدائرة ويتنوع المدلول كلما أضيفت الثقافة إلى علم أو فن خاص؛ كأن نقول: الثقافة الشرعية، والثقافة التاريخية، والثقافة الفلسفية والثقافة الطبية.. ونحو ذلك..؛ فإذا ذكرت اللفظة دون إضافتها إلى شيء؛ فليس لها -على هذا التفسير- إلا التنوع والعموم، وإذا اتصف بها إنسان كانت ملكته في فهم ضروب العلوم والفنون والمعارف ملكة جيدة بوجه عام، وهذا هو ما يدل عليه لفظ "المثقف" في الاصطلاح الشائع في هذا العصر. ويلفت بعض الباحثين النظر إلى أنه لا أثر لهذه الكلمة "الثقافة" في لغة "ابن خلدون" الذي يعتبر المرجع الأول لعلم الاجتماع العربي في العصر الوسيط1. وإذا كان من غير الميسور أن يحصي الباحث كل ألفاظ ابن خلدون في "المقدمة" ليرى إن كان قد استعمل هذا اللفظ أم لا؟ فإن الحقيقة أن ابن خلدون قد تناول في "الباب السادس" من "المقدمة" الكلام على كل أنواع العلوم وأصنافها، والتعليم وطرقه.. وقد عقد واحدًا وستين فصلًا عالج فيها البحث في مختلف أنواع الثقافة في عصره، وإن لم يستعمل لفظة "الثقافة" نفسها كما سلف2. ولعل ابن خلدون كان يعني بما أطلق عليه "الملكة" ما تدل عليه لفظة "الثقافة": ممتزجة بالموهبة؛ فقد ذكر أن "نوع المحفوظ يقرّر اتجاه صاحبه في

_ 1 مالك بن نبي: "مشكلة الثقافة" ص11 2 انظر: "مقدمة ابن خلدون" تحقيق: الدكتور علي عبد الواحد وافي ج3 ص1107 وج4 بكامله.

الأدب أو العلم؛ فالملكة الشعرية تنشأ بحفظ الشعر، وملكة الكتابة بحفظ الأسجاع والترسل، والعلمية بمخالطة العلوم والإدراكات والأبحاث والأنظار، والفقهية بمخالطة الفقه.. إلخ"1. ويقول الباحث -بعد كلامه عن ابن خلدون-: "كما لا نجد الكلمة مستعملة في العصر الأموي والعباسي؛ إذ لا أثر لها في اللغة الأدبية أو اللغة الرسمية والإدارية لذلك العصر؛ فتاريخ هذه الحقبة لم يرو وجود لائحة إدارية خاصة بمنظمة معينة، أو عمل من الأعمال يتصل بالثقافة"2.

_ 1 مقدمة ابن خلدون ج4 ص1304 وانظر في ذلك: "تاريخ النقد الأدبي عند العرب" للدكتور إحسان عباس ص620 2 مالك بن نبي: "مشكلة الثقافة" ص11.

تعريف الأمور المعنوية

تعريف الأمور المعنوية: إن ما يكتنف كلمة الثقافة من صعوبة التعريف الجامع المانع يشبه إلى حدٍ كبير ما يعترض الدارسين من صعوبة تعريف "الأدب"1 و "الشعر" و "الفن" و "الحضارة" و "المدنية" وغير ذلك من المصطلحات التي أصبحت شائعة في هذا العصر بدلالات، لم تكن معروفةً لهذه الكلمات من حيث الأصل والاستعمال من قبل. إن هذه الصعوبة هي: "صعوبة التوفيق إلى حدود منطقية دقيقة لأكثر

_ 1 انظر في تاريخ هذه الكلمة: "تاريخ آداب العرب" تأليف: مصطفى صادق الرافعي ج1 ص20، وانظر: "أصول النقد الأدبي" تأليف: أحمد الشايب فصل "ما الأدب" ص1-31. وانظر: "تذوق الأدب" تأليف: الدكتور محمود ذهني، فصل "معنى الأدب" ص7-20 وانظر: "النقد الأدبي" تأليف: سيد قطب، فصل "العمل الأدبي" ص9-21 وانظر: "قواعد النقد الأدبي" تأليف: لاسل آبر كرمبي، تعريب: الدكتور عوض محمد عوض، فصل "فن الأدب" ص14.

المصطلحات التي تجري على الألسن دون أن تتضح مدلولاتها في أذهان مستعمليها أو يكونوا متفقين على ما بها يعنون من ذلك كلمات: الجمال والشعر والخيال والأدب والمثالية، وغيرها كثير؛ وذلك أن هناك فرقًا واضحًا بين الأشياء الحسية التي يتلقاها الإنسان بحواسه الظاهرة ويجري عليها تجاربه المتنوعة، ويبرئها من التأثير بمزاجه وعواطفه، وبين الأشياء الروحية والمعنوية التي يصعب إخضاعها للتجارب المحدودة، والنواميس الثابتة لتغيرها واتصالها بالطبائع والانفعالات؛ فالأولى يمكن تعريفها بدقة أو قريب من ذلك كالمثلث والجزيرة والأجسام الصلبة والسائلة، والثانية: تجد معانيها مبهمة غير محدودة حتى في البيئة الواحدة بين المشتغلين بها. وقد يحتال بعض الباحثين للخروج من هذا الإبهام؛ فيضع تعاريف عامة تتناول أكثر المعاني الجزئية؛ ولكن ذلك يزيد في غموضها إذ لا يعرف القارئ أي المعاني يراد، وربما كان خيرًا منه ذلك الذي يذكر للكلمة ما يريد لها من معنى في موضوعه، ثم يشير إلى أن لها معاني أخرى في غير هذا المقام"1.

_ 1 أحمد الشايب: "أصول النقد الأدبي" ص16.

الثقافة في اللغات الأجنبية

الثقافة في اللغات الأجنبية: إن المشكلة في تعريف الثقافة ليست مشكلة خاصة بنا بل هي مشكلة الإنسان وعلاقة اللغة بالفكر، وما يطرأ على هذا الفكر من تطور يتجلى في انتقاله من الأمور المحسوسة أو المادية، إلى المفاهيم المجردة والأمور المعنوية. وفي حركته من البسيط إلى المركب وما يطرأ على هذا وذاك من نمو يتزايد أحيانًا حتى يبلغ حد التركيب المعقد، وقد تختفي صورته البسيطة الأولى إزاء ما يتراكم عليه من صور جديدة؛ ومن هنا يحاول الباحثون عند بحث مشكلة التعريف للأمور المعنوية -وهو إطلاق الاسم على شيء ما- أن يتتبعوا أصل التعريف: أي معرفة المدلول الذي كان مرادًا عند بدء إطلاق الاسم على الشيء.. ثم البحث

بعد ذلك فيما طرأ على هذا المدلول من تطور، ومحاولة معرفة العلاقة أو العلاقات الجديدة في ضوء العلاقة الأصلية الأولى، وإذا أعياهم ضبط هذه العلاقات أو حصرها في نطاق الحقيقة اللغوية؛ كان لهم في المجاز سعة وأي سعة1. فما هي صورة مشكلة تعريف الثقافة في اللغات الأجنبية؟ ليس من شك في أن معرفة هذه الصورة وتقصي تاريخها من حيث معرفة الأصل وما طرأ عليه بعد ذلك من تطور حتى أخذ الشكل المألوف سوف يوضح لنا جوانب كثيرة من استعمال كلمة "الثقافة" في الاصطلاح الحديث في لغتنا واللغات الأجنبية؛ وهو اصطلاح يجدر بنا أن ندركه في صدد بيان ما نقصد إليه من توضيح معنى الثقافة الإسلامية في مدلولها الحديث. 1- "إن الثقافة" في اللغات الأجنبية -الفرنسية والإنجليزية والألمانية- يعبر عنها بلفظة "Culture" وتفيد معنى الزراعة والاستنبات. وقد أصبحت كلمة الثقافة في الاصطلاح العرفي في العربية وغيرها تفيد معنى ما يكتسبه الإنسان من ضروب المعرفة النظرية والخبرة العملية، التي تحدد طريقته في التفكير، وموافقة في مختلف طرق الحياة، من أي جهة حصلت تلك المعرفة وتلك الخبرة؛ سواء أكانت من البيئة والمحيط والمدرسة والمهنة أم من طرق أخرى غيرها"2. ولا بد لنا أن نأخذ بمزيد من التفصيل عن دلالة هذه الكلمة "Culture" من حيث أصلها وما طرأ عليها من تطور فيما بعد: أ- كانت هذه الكلمة تدل من حيث الأصل اللاتيني في العصور

_ 1 انظر في "حدي الحقيقة والمجاز" كتاب: "أسرار البلاغة" عبد القاهر الجرجاني ص302 وما بعدها. 2 عن محاضرة للأستاذ محمد المبارك بعنوان "سلطان الثقافة الغربية على الفكر الإسلامي المعاصر".

القديمة والوسيطة على تنمية الأرض ومحصولاتها، ويقال: إن "شيشرون 106_43 ق. م" -الخطيب والسياسي والكاتب الروماني المشهور- كان أول من استعمل هذه الكلمة بمعناها المجازي فسمى الفلسفة "Culture Mentis" أي فلاحة العقل أو تنميته؛ ولكن هذا الاستعمال لم يلق الرواج كثيرًا في اللغة اللاتينية في أول الأمر؛ غير أن الحال قد تغير فيما بعد. ب- ولما كانت اللاتينية أم اللغات الأوربية من إنكليزية وفرنسية وألمانية؛ فقد استعملت كلمة "الثقافة" في أوائل العصور الحديثة -في الإنكليزية والفرنسية- بمدلولها المادي والعقلي، ثم جاء الكتاب الفرنسيون -كفولتير وأقرانه- في القرن الثامن عشر الميلادي؛ فأطلقوا هذه الكلمة دون إضافتها إلى أمر مادي أو معنوي، وغدت بعد ذلك تدل على تنمية العقل والذوق، ثم انتقلت بعد ذلك إلى حصيلة عملية هذه التنمية وهي: المكاسب العقلية والأدبية والذوقية. جـ- أما في الإنكليزية؛ فإن أول نص تستعمل فيه هذه الكلمة -بما يتفق مع ما أسلفنا- إنما يعود -حسب معجم إكسفورد- إلى عام 1805م ولا يزال هذا المفهوم هو المعنى السائد في اللغات الغربية.. ولم ينتقل من الفرنسية إلى الألمانية -بهذا المعنى- إلا في أواخر القرن الثامن عشر. - أخذ معنى هذه الكلمة يتطور عند الفلاسفة وعلماء الاجتماع والمؤرخين، وكان لا بد أن يطرأ عليه بعض التغير خلال تطوره هذا.. وكان أول ما طرأ عليه من تغير هو تحوله من الدلالة على الإنماء الفردي، إلى أحوال المجموعات الإنسانية من الأمم والشعوب، وغدت هذه الكلمة تطلق على مجموعة عناصر الحياة وأشكالها ومظاهرها في مجتمع من المجتمعات،

وقد برز هذا المعنى في القرن التاسع عشر عند المؤرخ والعالم الاجتماعي الألماني "Cuslav-Klemm" الذي يعتبر مؤسس علم "الإنثروبولوجيا" الحديث: أي علم الإنسان الذي يبحث في أصل الجنس البشري وتطوره وأعرافه وعاداته ومعتقداته. 3- ولا تزال كلمة "Culture" تستعمل في الفرنسية والإنكليزية ولغات أخرى بمعنى الثقافة الفردية والثقافة بوجه عام، وكان من الطبيعي إزاء تقدم العلوم الطبيعية والتطبيقات الصناعية أن يعود إليها في هذه العلوم والتطبيقات معناها الأصلي أي عملية إنماء الأشياء المادية كالجراثيم واللآلئ بـ "الزرع" و "التصنيع"1. قال صاحب معجم "المورد"2: في مادة "Culture" هي: حراثة، تهذيب، ثقافة، حضارة، أو مرحلة معينة من مراحل التقدم الحضاري، الاستنبات: زرع البكتريا "الأنسجة الحية" للدراسة العلمية أو للأغراض الطبية.

_ 1 انظر في هذا الموضوع: زريق: "في معركة الحضارة". 2 منير بعلبكي: "المورد" ص238 ط الثالثة.

الثقافة والمجتمع

الثقافة والمجتمع الثقافة ومناحي الدراسة الاجتماعية: يتناول علماء الاجتماع "الثقافة" في دراستهم لطبيعة المجتمع الإنساني من جوانب عدة منها: 1- كونها عنصرًا مهمًا من عناصر التراث الاجتماعي؛ فإلى الثقافة يعود الفضل فيما وصل إليه أفراد المجتمع من مستوى اجتماعي وحضاري، وهي -بما فيها من مفاهيم ومدركات مصطلح عليها في المجتمع- تكسب الجماعة صفات وخواص مميزة؛ تنعكس في فكر أفراد الجماعة وأعمالهم. 2- كونها أبرز العوامل فيما يقع من التغير في المجتمعات الإنسانية؛ فإذا كان التغير في المجتمعات ناتجًا عن تأثير عدد من العوامل المتأصلة في الحياة، كالعوامل الطبيعية و"البيولوجية" و"الديموغرافية" -أي التغير السكاني- فإن تأثير العامل الثقافي -في رأي عدد من علماء الاجتماع- يفوق العوامل الأخرى في التغيير الاجتماعي. 3- في ضوء هذين الجانبين يأخذ معنى الثقافة في الدراسات الاجتماعية ذلك

المنحى الذي يتصل بكل أوجه النشاط الإنساني الذي جاء نتيجةً للاجتماع البشري؛ فهي تشمل في تعريف علماء الاجتماع: أ- ما يتلقاه الفرد عن الجماعة من مظاهر الفنون والعلوم والمعارف والفلسفة والعقائد وما إليها. ب- النماذج المختلفة التي يصب فيها الأفراد سلوكهم وتصرفهم. جـ- الطرق التي يوجدها أي مجتمع لسد حاجاته الأساسية ولتقوم بتنظيم علاقاته الاجتماعية؛ ومن هذا يتضح أن الثقافة في تفسيرهم، هي كل ما يتصل بمقومات الفرد والمجتمع من النواحي الاعتقادية والفكرية والسلوكية والاجتماعية، أو هي كما قال "تيلر Tailer": "ذلك الكل المعقد الذي ينطوي على المعرفة والعقائد والفن والأخلاق والقانون والعرف وغير ذلك من القدرات"1. وإذا كان "تيلر" قد وصف الثقافة بأنها ذلك الكل المعقد، وأدرج "العرف" ضمن المحتوى الثقافي للمجتمع الإنساني؛ فقد رأى "كروبر Kroper" "أن العرف هو عادة نفسية وبيولوجية معًا ارتقت إلى المستوى الاجتماعي وارتبطت بها قيم ثقافية"2 ويرى أن هنالك للمحتوى الثقافي المتفاوت الغنى "ثوابت ثقافية" كالدين والأسرة والحرب وتبادل الأفكار، ويرى أنها بمثابة الأطر "البيوسيكولوجية" -النفسية- لهذا المحتوى الثقافي3. وحول علاقة الثقافة بالدين بوجه خاص يرى بعض الباحثين الغربيين

_ 1 انظر: "علم الاجتماع ومدارسه": الدكتور مصطفى الخشاب ص189. وانظر: "المجتمع الإنساني": الدكتور محمد عبد المنعم نور ص29-31. 2 أصالة الثقافات ص9. 3 انظر المرجع السابق.

"إليوت": أن الثقافة ليست إلا تجسيمًا للدين، ورد بذلك على "أرنولد" الذي عد الثقافة أشمل من الدين1. 4- من هذا التنوع والاختلاف في تحديد علاقة الثقافة بالمجتمع من ناحية، وبالدين من ناحية أخرى؛ يتضح أن تحديد هذه العلاقة في نطاق الدراسات الاجتماعية، وفي مفهوم الدين لدى هؤلاء الباحثين الغربيين لا بد أن ينتهي إلى ما انتهى إليه من تباين في الرأي، وتباعد في الاتجاه.. ويمكن أن نلاحظ هنا أمرين: أ- إن الفكر الغربي بعامة ينظر إلى الدين على أنه قضية ميتافيزيقية تخص الفلسفة؛ كما يعد الدين ظاهرة اجتماعية، ويعالجه كما يعالج أي ظاهرة أخرى من ظواهر المجتمع ومؤسساته، ولا يرى مانعًا -إن لم يجد ذلك ضروريًا- من إخضاع الدين -من حيث كونه قضية فلسفية- للمفاهيم الفكرية الجديدة الناشئة من تطور الدراسات الفلسفية، غير آبهٍ لما ينجم عن ذلك من انهيار العقيدة، ودمار القيم، وضعف سلطان الوازع الديني على النفوس، وأوضاع الحياة.. كما يحرص هذا الفكر الغربي نفسه على أن يفصل الدين عن المجتمع وما يتصل به من نظم وأوضاع، ويحصره بالأمور الروحية فحسب. وعلى هذا فإن تفسير الباحثين الغربيين للثقافة، وتحديد علاقاتها بالمجتمع، من حيث كونها عنصرًا من عناصر تراثه، أو عاملًا من عوامل التغير فيه؛ لا يضع الدين حيث يجب أن يكون من حياة الإنسان باعتباره السلطان النازع الوازع، الذي يضمن تماسك المجتمع، واستقرار نظامه، والتئام أسباب الراحة والطمأنينة فيه، وبكونه خير ضمان لقيام التعامل بين الناس على قواعد العدالة والنصفة،

_ 1 انظر: "وحدة الثقافة والتاريخ في الشعر الحديث" للدكتور أحمد محمد الحوفي ص5

والتعاون المثمر الخير، ولا ينظر هذا الفكر الغربي -الذي سيطرت عليه المادية- إلى الدين من زاوية حقيقته الأصيلة التي تقرر أنه فطرة إنسانية؛ كما أنه ضرورة اجتماعية؛ فهو الذي يؤكد الإيمان بقيمة الفضيلة وكرامة الإنسانية، وليست تداني سلطانه على النفس أي سلطة أو قوة أو نظام1. ب- لقد التبس في أذهان هؤلاء الدين الحق بالأديان الباطلة سواء منها الوثنيات التي عرفتها البشرية في أديان الفرس والإغريق والهنود، والعرب في جاهليتهم، والتي لا تعدو أن تكون ضروبًا من الخيالات والأساطير والأوهام، أو الوثنيات الأخرى التي وجدت نتيجة الانحراف عن عقيدة التوحيد. كما جاء بها موسى وعيسى عليهما السلام؛ هذا الانحراف الخطير الذي نجم عنه ذلك التصور الفاسد لحقيقة العقيدة وأثرها في حياة البشر.. ولقد جهلوا الإسلام، الدين الحق، الذي يسمو بالإنسان عن هذه التصورات الفارغة، التي جاءت بها العقائد الوثنية التي اصطبغت بها ديانة العرب في جاهليتهم، والفرس واليونان والهنود، والتصورات الخرافية التي تحولت إليها -نتيجة التغيير والتزوير- اليهودية والنصرانية. ولو أمعنوا النظر، وطرحوا التعصب، وبحثوا بتجرد كامل في حقيقة الإسلام؛ لعرفوا أنه ليس قضية ميتافيزيقية محضة؛ يستوي في ذلك مع الأديان الباطلة والمحرفة، والفلسفات المختلفة التي تضرب في تيهٍ من الأوهام والجدال العقيم؛ بل هو الدين الذي جاء لينقذ البشرية كلها من الركام الذي كان ينوء بأفكارها

_ 1 انظر كتاب "الدين" للدكتور محمد عبد الله دراز ص91.

وحياتها ويثقلها، ومن التيه الذي كانت أفكارها وحياتها شاردة فيه، ولينشئ لها تصورًا خاصًا متميزًا منفردًا، وحياة أخرى تسير وفق منهج الله القويم.. وإن هذا التصور ليكفل تجمع الشخصية والطاقة في كيان المسلم الفرد والجماعة، وينفي التمزق والانفصام التي تسببها العقائد والتصورات الأخرى1.

_ 1 انظر: "المسألة الاجتماعية بين الإسلام والنظم البشرية" للمؤلف ص24 و "خصائص التصور الإسلامي" لسيد قطب ص22 وص228.

الثقافة وقيم المجتمع

الثقافة وقيم المجتمع: 1- إن ثقافة أي أمة يجب أن تقوم على أساس من القيم التي تسود مجتمعها، وهي قيم وثيقة الصلة بالعقيدة والفكر، والسلوك ونمط الحياة. ووجهة الحركة، وتحديد الهدف؛ كما أنها عماد التراث الروحي والنفسي والاجتماعي، ومحور التاريخ في جوانبه المتعددة، وأبطاله البارزين، ومواقفه الفاصلة.. 2- إذا كان من شأن ثقافة أفراد أي مجتمع أن تكون مصدرًا لتقديم الحلول الناجحة السليمة لكل ما يعترضهم من مشكلات، والوفاء بكل ما يجِدُّ في حياتهم من حاجات..؛ فإن تحقيق ذلك إنما يكون ميسورًا للثقافة إذا كانت قد نمت نموًا صحيحًا في جو القيم الصالحة ومناخها السليم..؛ وإلا كانت الثقافة عاجزةً مشلولة الحركة، عديمة التأثير، ولم تَعْدُ أن تكون لونًا من التعبير الجميل تارة.. أو ضربًا من الفلسفة النظرية في تيه الجدل العقيم تارة أخرى.. وهي معزولة -في الحالين- عن التأثير في المجتمع، وعلاج مشكلاته والوفاء بحاجاته. 3- وعلى هذا فلا بد من أن تكون تعبيرًا حيًّا عن القيم الأساسية التي

تعطي المجتمع ملامحه الصحيحة، وتضبط حركته السديدة، وترسم له وجهته الرشيدة؛ فإذا انعزلت الثقافة عن هذه القيم، ووقع الفصل التام بينهما؛ فإن نتائج ذلك إنما تنعكس على الثقافة والقيم والمجتمع معًا؛ فلا مناص للثقافة بسبب ذلك من الضمور، وللقيم من الخمود، وللمجتمع من الانحطاط؛ إذ لا يتصور أن تنمو الثقافة من غير رِِفْْدٍ يغذوها، أو تحيا القيم إذا لم تأخذ مجالها في التطبيق والواقع؛ أما المجتمع فلا بد أن تتفاقم مشكلاته، وتشتد أزماته، ويصبح عاجزًا عن التحرك المجدي، والإنتاج المثمر حتى تفترسه العلل، وتعصف به الأحداث، ويمزقه الضياع. 4- ومن هنا كان لا بد من أن تأخذ ثقافة أي مجتمع معنى تفاعله الذي يؤكد مدى تقديره واعتزازه للقيم التي يؤمن بها؛ فكما يدل هذا التفاعل مع القيم -من ناحية أخرى- على مدى حرصه على ترسيخها وإغنائها، وجعلها مقياس ما يعمل على بلوغه من تقدم ورقي في كل جوانب الحياة؛ بحيث تكون هذه القيم معيار تقويمه للواقع الذي يحياه، فيحلل بوحي منها هذا الواقع وينقده، ويقر الصالح منه ويطرح الفاسد دون أن تسيطر عليه نزعة الحرص على الجديد إذا كان متصادمًا مع هذه القيم، أو الرغبة في الانفلات من القديم إذا كان منبثقًا عنها، أو غير متصادم معها؛ وبذلك يصوغ المجتمع صورة مسقبله المنشود، وفق ركائز من القيم الأصلية الثابتة، التي تعطيه طابعه المميز وسماته الفريدة. 5- ولا بد لنا هنا من أن نلقي نظرة على قيمنا الإسلامية التي يجب أن تكون ثقافتنا متفاعلة معها أوثق تفاعل وأعمقه، كما يجب أن تكون معيار تقويمنا لواقعنا ونقده، وتمييز عناصره وفرزها في ضوء ما تعطيه هذه القيم لنا من ملامح فريدة لشخصيتنا. ومحور هذه القيم الإسلامية يسمو في حقيقته على الاعتبارات الأرضية كلها،

مهما كان لهذه الاعتبارات من وزن وتأثير، وضغط شديد على الفرد والجماعة، في أي مكان أو زمان؛ ذلك أن الإسلام لا يقيم أي وزن لما تواضع عليه الناس من قيم المادة والقوة، والجنس واللون، والعصبية والثراء، وما إلى ذلك من القيم الأخرى، إذا تجردت هذه القيم عن الإيمان والتقوى.. إنه بذلك يرمي إلى أن ينطلق الإنسان -فكرًا وشعورًا وسلوكًا وواقعًا- من حدود القيم الباطلة المتوارثة، والتي تراكمت في عصور الجاهلية، وأصبحت بسبب البعد عن المنهج الحق أمورًا ذات وزن واعتبار في حياة الناس، ولا يجد الإسلام لبقائها أي مبرر، مهما اكتسبت من قوة السيطرة على النفوس وأوضاع المجتمع، بسبب عنصر الاستمرار التاريخي، أو الإلف والشيوع، أو الملابسات الاجتماعية، والضغط النفسي، أو الأثر التربوي أو غير ذلك. إن الإسلام الذي جاء ليضع معالم الطريق لخير الإنسان وسعادته وتقدمه وأمنه وفلاحه، لا يعرف المساومة والمهادنة في أمر الحق الذي جاء به، وما انبثق عن هذا الحق من قيم جديدة بلغت الذروة في الاحتفال بخير الإنسان والاهتمام بعزته، وتوفير كرامته.. ولقد تنوعت الوسائل والأساليب التي جاءت بها دعوة الإسلام لتقرير هذه القيم وتحقيقها، وجعلها روح سلوك الفرد، وطابع المجتمع، وسمة الحياة الإسلامية. وتعمل دعوة الإسلام على توجيه المؤمنين إلى أن يستمدوا موازينهم من هذه القيم، في تجرد كامل من الملابسات والمواصفات، التي أقامتها في نفوسهم ومجتمعهم الأعراف الخاصة، والمواريث المألوفة، التي لا تتلاءم مع حقيقة الدعوة ومبادئها وأهدافها. ويقتضي الارتفاع إلى مستوى هذه القيم انعتاق الفرد والجماعة -في إيمان وعزيمة وصبر- من جواذب كثيرة، ورواسب ثقيلة، وظروف وارتباطات وموروثات مختلفة إلى الحد الذي يصبح فيه المؤمنون صورة حية صادقة لهذه القيم، ونماذج طيبة صالحة لتطبيقاتها الإنسانية في واقع الحياة..

وفي كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وسيرته وحياة الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أمثلة لا حصر لها من تربية المؤمنين على هذه القيم وتفاعلهم معها وصبغ حياتهم بها وتقريرها وإعلائها لدى الأمم والشعوب التي امتد إليها نور الإسلام، خلال أحقاب طويلة من التاريخ.. من هذه النماذج1: أ- ما قرره القرآن الكريم في سورة "عبس" -في إطار التوجيه والعتاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم- من أن "القيمة الوحيدة التي يرجح بها وزن الناس أو يشيل"، هي قيمة الإيمان والتقوى، وهي منفصلة عن كل ما تعارف عليه الناس من موازين واعتبارات.. وقصة ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مشغولًا بأمر نفرٍ من سادة قريش، يدعوهم إلى الإسلام، ويرجو بدخولهم فيه خيرًا كثيرًا، لما لهم من قوة وجاه، ومال ونفوذ في قومهم -حين جاءه "ابن أم مكتوم" الرجل الفقير الأعمى- يقول: يا رسول الله. أقرئني وعلمني مما علمك الله. فيكره رسول الله صلى الله عليه وسلم من ابن أم مكتوم قطعه لكلامه واهتمامه؛ فيعبس ويعرض.. فينزل القرآن يعاتب الرسول عتابًا شديدًا على موقفه هذا، ويوجهه بعد ذلك إلى "حقيقة هذه الدعوة وكرامتها وعظمتها ورفعتها واستغنائها عن كل أحد، وعن كل سند، وعنايتها فقط بمن يريدها لذاتها؛ كائنًا ما كان وضعه في موازين الدنيا" ... وفي ذلك يقول عز وجل: {عَبَسَ وَتَوَلَّى، أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى، أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى، أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى، فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى، وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى، وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى وَهُوَ يَخْشَى، فَأَنْتَ

_ 1 انظر في ذلك: "في ظلال القرآن" لسيد قطب ج30 ص38-51

عَنْهُ تَلَهَّى، كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ، فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ، فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ، مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ، بِأَيْدِي سَفَرَةٍ، كِرَامٍ بَرَرَةٍ} 1. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن نزلت هذه الآيات يَهشُّ لابن أم مكتوم ويقول له كلما لقيه: "أهلًا بمن عاتبني فيه ربي" وقد استخلفه مرتين بعد الهجرة على المدينة. ب- آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هجرته إلى المدينة بين المهاجرين والأنصار أخوة إيمان وحب وإيثار؛ فربطت هذه الأخوة بين قلوب المؤمنين برباط لا ينفصم؛ لأنها فوق المنافع والمطامع، والعصبيات والأهواء؛ فوضع الإسلام بذلك القيم الجديدة والموازين الفاصلة، التي تتحدد بها علاقات القرب والبعد، ويتعين على أساسها موقف الولاء والعداء، دون أي اعتبار لما تواضع الناس في مجتمع الجاهلية من قيم العصبية أو الجنس أو اللون؛ تلك القيم الجاهلية التي كانت مدعاة إلى تمزيق الشمل، وإثارة الأحقاد، والتي صنفت الناس تصنيفًا يذكي بينهم نار العداوة والبغضاء، وفي ذلك يقول سبحانه -مذكرًا المؤمنين بهذه الأخوة الكريمة التي جمعتهم بعد تفرق، ووحدتهم بعد تمزق، وجعلت منهم إخوانًا متحابين بعد أن كانوا أعداء متناحرين: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} 2. إن هذه الأخوة التي مَنَّ الله بها على عباده المؤمنين آصرة برٍّ وتعاطف،

_ 1 سورة "عبس" 1-16 2 آل عمران: 103

ودعامة تآزر وتناصر؛ كانت إحدى القيم الإسلامية الكبرى التي أنعم الله بها على هذه الأمة، وعمّقت في فكر المؤمن ووجدانه روح الاعتزاز بهذا الإسلام، وشدة الحرص على دعوته، والعمل على ما يقوي كيان المؤمنين بها المنضوين تحت لوائها1. ج- كان زيد بن حارثة مولىً لرسول الله صلى الله عليه وسلم فزوجه بنت خالته زينب بنت جحش الأسدية، كما آخى بينه وبين عمه حمزة بن عبد المطلب، وجعله الأمير الأول في غزوة "مؤتة" يليه ابن عمه جعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحة الأنصاري؛ فجعل بذلك قيمة العقيدة فوق أي قيمة أخرى من قيم النسب والعصبية.. ثم كان آخر عمل من أعماله صلى الله عليه وسلم أن أمَّرَ أسامة بن زيد على جيش لغزو الروم، يضم كثرة من المهاجرين والأنصار؛ فيهم أبو بكر وعمر وغيرهما من كبار الصحابة والسابقين إلى الإسلام، وقد تململ بعض الناس من إمارة أسامة وهو حدث، وفي ذلك قال ابن عمر رضي الله عنهما: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثًا أمّرَ عليهم أسامة بن زيد رضي الله عنهما؛ فطعن بعض الناس في إمارته؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن تطعنوا في إمارته؛ فقد كنتم تطعنون في إمارة أبيه من قبل. وايم الله إن كان لخليقًا للإمارة، وإن كان لمن أحبِّ الناس إلي، وإن هذا لمن أحبِّ الناس إليّ" 2. وقد بادر أبو بكر رضي الله عنه بعد توليه الخلافة إلى إنفاذ بعث أسامة، وسار يودعه بنفسه إلى ظاهر المدينة، وكان أسامة راكبًا فاستحيا أن يشيعه الخليفة راجلًا فقال "يا خليفة رسول الله لتركبَنَّ أو لأنزلنَّ"؛ فقال أبو بكر: "والله لا تنزل ولا أركب. وما عليَّ أن أغبِّر قدميَّ في سبيل الله ساعة" ثم

_ 1 انظر: "المسألة الاجتماعية بين الإسلام والنظم البشرية" للمؤلف ص206 2 أخرجه الشيخان والترمذي

يضرب أبو بكر مثلًا رائعًا في أدب الإسلام ورعاية النظام حين يستأذن أسامة في أن يتخلف عمر بن الخطاب -وهو جندي في الجيش الذي يقوده أسامة- عن الخروج لحاجته إليه بعد أن ولي أعباء الخلافة فيقول لأسامة: "إن رأيت أن تعينني بعمر فافعل" فيأذن أسامة أمير الجيش لعمر في عدم الخروج استجابة لطلب أبي بكر رضي الله عنهم جميعًا. وتمتد هذه الروح حين يلي الخلافة عمر بن الخطاب بعد وفاة أبي بكر -رضي الله عنهما- فيفرض لأسامة نصيبًا أكبر مما يفرض لابنه عبد الله؛ فيسأله ابنه في ذلك فيقول: "يا بني، كان زيد -رضي الله عنه- أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبيك، وكان أسامة أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك؛ فآثرت حب رسول الله صلى الله عليه وسلم على حبي"1.

_ 1 أخرجه الترمذي.

الثقافة والحضارة

الثَّقَافَة وَالحَضَارَة طبيعة العلاقة بين الثقافة والحضارة: 1- يعمد بعض الباحثين إلى إيجاد فواصل بين مدلولي كلمتي: "الثقافة" و "الحضارة" بحيث يجعل الأولى خاصة بالأمور المعنوية، والثانية بالأمور المادية. وقد يكون لهذا ما يبرره؛ غير أن الإلحاح على مثل هذه الفواصل في مدلول كل من الكلمتين إنما يعود -من حيث الأصل- إلى ما يحيط بهما من لَبْسٍِ وغموض في النطاق اللغوي، وجاءت الاستعمالات العامة الدارجة لهما عاملًا يزيد في هذه التفرقة، ويعمق هذه الفواصل. 2- درجت الاستعمالات الشائعة لكلمة "ثقافة" على أنها: التعبير عن الدراسات الأدبية والنظرية والعقلية والفلسفية؛ فكأنها بهذا قد قصرت على ما يتعلق بالأمور المعنوية والروحية، أما كلمة "حضارة" فقد شاع استعمالها -بمختلف صور الاشتقاق- للدلالة على الوسائل والمخترعات والابتكارات التي وصل المجتمع الإنساني بها إلى آفاق بعيدة من الرقي والتنظيم المادي، والرفاه في الحياة، كما يعبر الاستعمال العام لكلمة "حضارة" عن النظم التي يضعها المجتمع لدعم كيانه الاجتماعي، وتحقيق أهدافه في سهولة ويسر.

3- ولعل مما يخفِّفُ من قيمة الفواصل بين مدلولي هاتين الكلمتين: الحضارة والثقافة، محاولة تقصي أصل المعنى اللغوي لهما. وقد أسلفنا القول في أصل معنى "الثقافة" من الناحية اللغوية في العربية وغيرها من اللغات الأجنبية، ثم ألمحنا إلى مدلولها في الدراسات الاجتماعية، وعلاقتها بالمثل الإنسانية للمجتمع. أما أصل المعنى اللغوي للحضارة -بفتح الحاء وكسرها- فهي: الإقامة في الحضر، من مدن وقرى، بخلاف "البداوة" التي هي الإقامة المتنقلة في البوادي. وعلى هذا فأصل دلالتها على الاستقرار الناشئ عن زراعة الأرض. وإذا كانت الزراعة هي سبيل أبناء المجتمع للتطور والتقدم في اكتساب العيش، ثم بناء المدن وتحصيل المعرفة، ثم هي سبب الانتظام الداخلي والتعامل الخارجي؛ فإن أصول المدنية الإنسانية بجوانبها المادية والمعنوية تكون إنما نشأت -كما يرى بعض الباحثين- مع حاجة الإنسان إلى تحصيل قُوتِهِ من الأرض التي سخرها الله له.. بهذا يكون معنى الحضارة -من حيث الأصل- أوسع دلالة من الثقافة؛ لأنه إذا كانت الثقافة هي نتاج المعرفة وتنمية العقول؛ فمن الواضح أنها لم تنشأ إلا بعد الاستقرار الذي تمثل في سكنى المدن والأمصار. وفي هذا يقول ابن خلدون: "إن العلوم إنما تكثر حيث يكثر العمران وتعظم الحضارة، والسبب في ذلك أن تعليم العلم -كما قدمناه- من جملة الصنائع، وقد كنا قدمنا أن الصنائع إنما تكثر في الأمصار، وعلى نسبة عمرانها في الكثرة والقلة والحضارة والترف تكون نسبة الصنائع في الجودة والكثرة؛ لأنه أمر زائد على المعاش؛ فمتى فضلت أعمال أهل العمران عن معاشهم؛ انصرفت إلى ما وراء المعاش من التصرف في خاصية الإنسان، وهي العلوم والصنائع، ومن تشوف بفطرته إلى

العلم ممن نشأ في القرى والأمصار غير المتمدنة فلا يجد فيها التعليم الذي هو صناعي لفقدان الصنائع في أهل البدو -كما قدمنا- ولا بد له من الرحلة في طلبه إلى الأمصار المستبحرة شأن الصنائع كلها"1. 4- من الممكن أن توصف العلاقة بين الحضارة والثقافة بأنها علاقة تلازم، ولا حرج -بسبب هذه العلاقة- من تناوب الكلمتين بحيث يقال: إن حضارة أي مجتمع أو ثقافته؛ إنما تتمثل في القيم والمعاني والنظم التي تنطوي عليها حياته. ولنا -من ناحية أخرى- أن نقول: إن السمة التي تميز أي أمة إنما هي حضارتها أو ثقافتها.

_ 1 مقدمة ابن خلدون: ج3 ص1124 تحقيق: الدكتور علي عبد الواحد وافي.

دلالة الثقافة والحضارة على مفاهيم واحدة

دلالة الثقافة والحضارة على مفاهيم واحدة: ومن هنا نرى أن التفرقة بين الحضارة والثقافة ليست أمرًا لا بد منه؛ وذلك لأن المظاهر الحضارية المادية والمعنوية تتضافر جميعًا في إنشاء النظم الاجتماعية التي تعد "الثقافة" قلبها النابض ولبناتها الأساسية، أضف إلى ذلك أن أحدًا لا يستطيع أن يتجاهل ذلك التجاوب الملحوظ والتفاعل الدائم بين الأمور المعنوية والمادية في المجتمع. وإن مما يؤكد أيضًا علاقة التلازم بين الثقافة والحضارة، وتجاوب ما تدلان عليه من الناحيتين المادية والمعنوية -من غير إلحاح على الفواصل بينهما- أن الحضارة إذا كانت هي التطبيق المادي للتراث الثقافي؛ فهي -من ناحية أخرى- وليدة هذا التراث في البيئة التي تقوم فيها؛ ثم إنها كذلك المرآة التي تعكس لنا مقومات ثقافة المجتمع وخصائصها العامة. من هذا كله ينبغي أن لا نوسع الهوة التي تفصل بين اللفظين، ولا ضير إذا أطلقنا كملتي: ثقافة أو حضارة على مفاهيم واحدة، بحيث نتحرر من الخط

النظري الذي يفصل بينهما، ولا يلزم من وصفنا الحضارة بأنها أعم من الثقافة الإلحاح على إيجاد فاصل في المدلول بينهما من حيث الاستعمال؛ فذلك هو ما وصفناه بالخط النظري الذي لا ينبغي أن يقيم من حيث الإطلاق العام حاجزًا بينهما. وإن كان يُقْبَلُ -في إطار البحث في المصطلحات- الإشارة إلى ما بين هاتين الكلمتين من فروق.

الربط بين الثقافة والحضارة

الربط بين الثقافة والحضارة: ولعل هذا ما حدا ببعض الباحثين -بين يدي بحثه عن الإسلام والحضارة الغربية- إلى بيان المدلول الاصطلاحي لكلمة حضارة. أ- فهي كما يقول: "يطلق الآن -اصطلاحًا- على كل ما ينشئه الإنسان في كل ما يتصل بمختلف جوانبه ونواحيه، عقلًا وخلقًا، مادةً وروحًا، دنيًا ودينًا؛ فهي -في إطلاقها وعمومها- قصة الإنسان في كل ما أنجزه على اختلاف العصور. وتقلب الأزمان، وما صورت به علائقه بالكون وما وراءه، وهي -في تخصيصها بجماعة من الجماعات أو أمة من الأمم- تراث هذه الأمة أو الجماعة على وجه الخصوص الذي يميزها عن غيرها من الجماعات والأمم. وهي بهذا المعنى الاصطلاحي نظير المدنية التي هي في أصل الاستعمال سكنى المدن، والتي تقابل الكلمة الأوربية Civilization والحضارة بهذا المعنى أعم من الثقافة التي تطلق على الجانب الروحي أو الفكري من الحضارة؛ بينما تشمل الحضارة الجانبين الروحي والمادي، أو الفكري والصناعي؛ وكأنما لوحظ فيها أن النشاط البشري في مختلف جوانبه ومواهبه يكون في أرقى حالاته في الحواضر والمدن"1.

_ 1 الدكتور محمد محمد حسين: "الإسلام والحضارة الغربية" ص8

ولسنا نرى أن الباحث هنا قد ألح على الخط النظري الفاصل بين الكلمتين، وإن كان قد أشار -في معرض تحديده للمدلول الاصطلاحي- إلى بعض الفروق، من حيث العموم والخصوص، وهذا أمر لا مندوحة عنه في إطار البحث العلمي في المصطلحات، وقد جرى على هذا عدد من الباحثين في الدراسات الحضارية. مما لا مجال هنا لاستعراض نماذج من دراستهم. ب- لقد أسقط كثير من الباحثين -من ناحية أخرى- هذا الخط النظري الفاصل بين الحضارة والثقافة في معرض الكلام عن إحداهما من حيث الدراسة التطبيقية الهادفة، لا الدراسة النظرية في المصطلحات، وقد جاءت الأوصاف التي أطلقت على "الحضارة" لديهم صالحة لأن تصدق كذلك على الثقافة. فقد عرف أحد الباحثين الحضارة الغربية بقوله: "وكانت هذه الحضارة -بمعناها الواسع- مجموع عقائد ومناهج فكرية، وفلسفات ونظم سياسية واقتصادية، وعلوم طبيعية وعمرانية واجتماعية، وتجارب خاصة مرت بها الشعوب الأوربية التي تزعمت هذه الحضارة في رحلتها الطويلة، وكانت مظهر تقدم العلم البشري وعلوم الطبيعة، وعلم الآلات، والعلوم الرياضية، ومجموع نتائج جهود وعلماء وباحثين عبر القرون، فكانت مزيجًا غريبًا من أجزاء لا يكون الحكم عليها واحدا متشابهًا، وكانت مزيجًا من السليم والسقيم، والصواب والخطأ، في النتائج والأحكام"1. جـ - وقد ألح باحث آخر كثيرًا على التمييز بين الثقافة والعلم. وحذر من الخلط الشائع في التصور والتعبير بينهما، ودعا إلى الربط الوثيق بين الثقافة

_ 1 أبو الحسن الندوي: "موقف العالم الإسلامي تجاه الحضارة الغربية" ص10

والحضارة؛ مؤكدًا على ضرورة تحديد أوضاعنا -في صدد بناء نهضتنا- بطريقين: الأول: سلبية تفصلنا عن رواسب الماضي. الثانية: إيجابية تصلنا بمقتضيات المستقبل. وساق على ذلك أمثلة تؤكد التلازم بين الثقافة والحضارة؛ بل لعل التناوب في التعبير بين الكلمتين كما ورد في معرض التدليل على ضرورة تحديد أوضاع النهضة بالطريقين السلبي والإيجابي، قد جاء تأكيدًا على ما ينبغي أن نتجه إليه من الحرص على الربط في المدلول بين الثقافة والحضارة. فهو يقول: "ولعل هذه النظرية -أي ضرورة تحديد الأوضاع بطريقتين سلبية وإيجابية- قد لوحظ أثرها في الثقافة الغربية في عهد نهضتها؛ إذ كان "توماس الإكويني" ينفيها -ولو عن غير قصد منه- لتكون الأساس الفكري للحضارة الغربية، وما كانت ثورته ضد ابن رشد، وضد القديس أوغسطين إلا مظهرًا للتحديد السلبي، حتى يستطيع تصفية ثقافته مما كان يراه فكرة إسلامية، أو ميراثًا ميتافيزيقيا "للكنيسة البيزنطية". وأتى بعده "ديكارت" بالتحديد الإيجابي الذي رسم للثقافة الغربية طريقها الموضوعي، الذي يبنى على المنهج التجريبي؛ ذلك الطريق الذي هو في الواقع السبب المباشر لتقدم المدنية الحديثة تقدمها المادي. والحضارة الإسلامية نفسها قامت بعملية التحديد هذه من ناحيتها السلبية والإيجابية؛ إلا أن الحضارة الإسلامية قد جاءت بهذين التحديدين مرةً واحدة، وصدرت فيها عن القرآن الكريم الذي نفى الأفكار الجاهلية البالية، ثم رسم طريق الفكرة الإسلامية الصافية، التي تخطط للمستقبل بطريقة إيجابية، وهذا العمل نفسه لازم

اليوم للنهضة الإسلامية"1. وفي ضوء الربط الوثيق بين الثقافة والحضارة -وهو ما يدعو إليه في بحثه- يرى أن الثقافة تصبح نظرية في السلوك، أكثر من أن تكون نظرية في المعرفة؛ وبهذا الربط أيضًا يقاس الفرق الضروري بين الثقافة والعلم، وينتهي إلى ما يؤكد التلازم والربط بين الثقافة والحضارة فيقول: "فالثقافة إذن تتعرف بصورة عملية على أنها: مجموعة من الصفات الخلقية، والقيم الاجتماعية التي يلقاها الفرد منذ ولادته كرأسمال أولي في الوسط الذي ولد فيه؛ والثقافة على هذا هي المحيط الذي يشكل فيه الفرد طباعه وشخصيته. وهذا التعريف الشامل للثقافة هو الذي يحدد مفهومها؛ فهو المحيط الذي يعكس حضارة معينة، والذي يتحرك في نطاقه الإنسان المتحضر؛ وهكذا نرى أن هذا التعريف يضم بين دفتيه فلسفة الإنسان، وفلسفة الجماعة، أي "معطيات" الإنسان و "معطيات" المجتمع، مع أخذنا في الاعتبار ضرورة انسجام هذه المعطيات في كيان واحد، تحدثه عملية التركيب التي تجريها الشرارة الروحية، عندما يؤذن فجر إحدى الحضارات؛ ولكن لا سبيل لعودة الثقافة إلى وظيفتها الحضارية إلا بعد تنظيف الموضوع من الحشو أو الانحراف، الذي أحدثه عدم فهمنا لمفهوم "ثقافة"2. وفي صدد التوجيه نحو حضارة إنسانية وبيان مقاييس الحضارة -وهو بحث تطبيقي هادف- يقول الباحث عن الحضارة بأنها: "مجموع المعارف العلمية والتشاريع والنظم والعادات والآداب التي تمثل الحالة الفكرية والاقتصادية والخلقية والسياسية والفنية، وسائر مظاهر الحياة

_ 1 مالك بن نبي: "شروط النهضة" ص121 2 المرجع السابق ص125

المادية والمعنوية في مرحلة من مراحل التاريخ، وفي بقعة من بقاع الأرض سواء شملت شعبًا أم أكثر"1. ويتضح احتواء الحضارة للجانب الثقافي لديه، وعدم إقامة أي حاجز بينهما في قوله: "إن غاية الحضارة: الارتفاع بالحياة الإنسانية، والحياة الإنسانية معقدة كثيرة الجوانب؛ فإن فيها حياةً فكرية عقلية، وحياةً مادية عمليةً معاشية، وحياة نفسيةً خلقية، وحياةً اجتماعية، إلى جانب الحياة الفردية. والحضارة الصالحة الخيرة هي التي ترتفع بهذه الجوانب كلها وتعدل بينها؛ فلا يظلم جانب منها جانبًا آخر، ولا ينمو واحد ويضمر آخر"2.

_ 1 محمد المبارك: "الفكر الإسلامي الحديث في مواجهة الأفكار الغربية" ص28 2 المرجع السابق ص28

الفصل الثاني: في الثقافة الإسلامية

الفصل الثاني: في الثقافة الإسلامية ركائز الثقافة الإسلامية الحقائق اليقينية الهادية ... ركائز الثقافة الإسلامية 1- الحقائق اليقينية الهادية: إن للإسلام مفاهيم صحيحة سليمة كاملة في كل شأن من شئون الكون والإنسان والحياة، وإذا كانت المفاهيم عن هذه الشئون لدى العقائد المحرفة، ولدى كثير من الفلاسفة والمفكرين وواضعي النظم من البشر تتسم بالغموض والتعقيد تارة، أو يجانبها الصدق والعمق تارة أخرى، أو تصدر عن الفرض والتخمين حينًا، وعلى الأساطير والأوهام حينًا آخر؛ فإنها بذلك لا ترتكز على الحقائق الناصعة الثابتة، ولا تقوم على قواعد يقينية جازمة. أما مفاهيم الإسلام؛ فهي مبرأة من هذه الآفات كلها؛ لأنها ليست منبعثة عن نظرة بشرية محدودة، لا تستوعب ذاتها فضلًا عن أن تستوعب غيرها، وهي تُسَفِّهُ المنطق السطحي، وتهدم الظن والوهم وتعده زرايةً بالعقل، واستهانة بكرامة الإنسان. أما الأساطير التي تصدر عنها تلك العقائد والتصورات فهي -في مفاهيم الإسلام- أشلاء ممزقة ميتة لا يصدقها أو يتعلق بها من أوتي حظًا من نظر وتفكير، وهي سذاجة ضالة مردية لا تليق بحقيقة هذا الإنسان الذي حباه الله العقل، وأرشده إلى دلائل المعرفة الصحيحة، وزوده بوسائل النظر السديد. إن مفاهيم الإسلام منبثقة عن عقيدة ربانية شاملة لا ترتكز إلا على

الحقائق الجلية الثابتة، ولا تقوم إلا على اليقين الجازم، وهي متسمة بالوضوح والصدق والعمق، وتقيم -من حيث الاعتقاد والتفكير- لدى البشر جميعًا.. التصور الصحيح الدقيق المتكامل للكون والإنسان والحياة. إن منهج الإسلام -في ارتكازه على الحقائق اليقينية الهادية- يربط الحقائق المفردة في الكون والحياة ربطًا يصلها بأجل حقيقة وأكبرها وهي العقيدة..؛ وبذلك لا يدع هذه الحقائق المبثوثة أمام العقل الإنساني والشعور والضمير، ضروبًا من المعرفة الجامدة، والمعلومات المجردة، التي لا روح فيها ولا حياة لها -كما تحاول خرافة "المنهج العلمي" أن تصنع- بل يبث منهج الإسلام في هذه المعارف والمعلومات، والحقائق الظاهرة والمضمرة حياة تفتح البصائر، وروحًا توقظ الضمائر، ويزودها بالتأثير العجيب الذي يعمق أوثق أواصر الصلة بين الحقائق الهادية، والعقول المستنيرة، والقلوب المتفتحة للإيمان والخير. "وهذه الوصلة بين القلب البشري وإيقاعات هذا الكون الهائل الجميل.. هذه هي الوصلة التي تجعل للنظر في كتاب الكون والتعرف إليه أثرًا في القلب البشري، وقيمة في الحياة البشرية، هذه هي الوصلة التي يقيمها القرآن بين المعرفة والعلم، وبين الإنسان الذي يعرف ويعلم، وهي التي تهملها مناهج البحث التي يسمونها "علمية" في هذا الزمان؛ فتقطع ما وصل الله من وشيجة بين الناس والكون الذي يعيشون فيه. فالناس قطعة من هذا الكون لا تصح حياتهم ولا تستقيم إلا حين تنبض قلوبهم على نبض هذا الكون، وإلا حين تقوم الصلة وثيقة بين قلوبهم وإيقاعات هذا الكون الكبير"1. وإذا كنا نلح اليوم على هذه المفاهيم الإسلامية، ونلقي المزيد من النور على حقائقها الكبرى؛ فليست الغاية من ذلك توسيع آفاق المعرفة بها فحسب، وتثقيف العقول برصيدها الفكري الضخم.

_ 1 سيد قطب: "في ظلال القرآن" ج26 ص158

إن المعرفة والثقافة وسيلتان لغاية أبعد، وهدف أكبر. وهل ثمة أجلّ وأسمى من أن تستحيل المعرفة إلى طاقة محركة، وقوة دافعة، تصبغ الواقع الإنساني في إطار الضمير والشعور والسلوك بصبغة هذه المفاهيم النقية الخيرة.. وتتمثل في حياة البشر نظامًا وخلقًا، وجهادًا وحكمًا، وقيادة صالحة، تحمل مشاعل الحق والنور لهذه الإنسانية التي وضعتها المفاهيم الضالة المنحرفة على حافة هاوية الدمار الرهيب ... ؛ فينبغي أن تنقلب هذه المفاهيم واقعًا بشريًّا حيًّا، ونماذج إنسانية فعالة حتى لا تكون كالماء المسفوح على قيعان لا تمسكه ولا تنتفع به. وقد أوضح رسول الله صلى الله عليه وسلم العلاقة الوثيقة بين المعرفة والعمل، وضرورة توافر الأمرين معًا في هذا المثل الحي الجميل: عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَثَلُ ما بعثني اللهُ به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير، أصاب أرضًا؛ فكان منها نقيةً قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادبُ أمسكت الماء؛ فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصاب منها طائفة أخرى؛ إنما هي قيعان لا تمسك ماءً ولا تنبتُ كلأً؛ فذلك مَثَلُ من فقهُ في دين الله ونَفَعهُ ما بعثني الله به فَعلِمه وعلَّمه، ومثل مَنْ لم يرفع بذلك رَأسًا، ولم يقبل هُدى الله الذي أُرسلتُ به" 1.

_ 1 رواه الشيخان

المنهج الإلهي الشامل

2- المنهج الإلهي الشامل: إن الثقافة الإسلامية -في حقيقتها- هي هذه المفاهيم الحية الخيرة، المستمدة من العقيدة بمعناها الشامل وآفاقها الواسعة؛ فهي عقيدة التوحيد، ومنهج الحق، وشرعة العدل، وقيم الخير ورسالة الهدى والاستقامة، وهي

أمانة الله تبارك وتعالى، ودستوره الخالد للبشر، وسبيل السعادة الكاملة لهم في الدنيا والآخرة، وهي -بأصولها الكبرى وأهدافها المثلى- المنهج السوي القويم الذي لا تصلح الحياة الإنسانية إلا به، ولا يستقيم أمر البشر إلا بهداه، وهي حق في ذاتها ومصدرها، ووسائلها وغاياتها، عميقة في دلائلها وآثارها، متلائمة أوثق التلاؤم مع فطرة الإنسان وأشواقه وحاجاته. وإن في حياة كل أمة مواقف حاسمة، حين تقف على مفترق طرق مختلفة، ينتهي أحدها بالأمة إلى العزة والمنعة والنصر، ويؤول بها إلى مدارج القوة والكرامة والمجد.. وتؤدي بها السبل الأخرى إلى الذل والضعف والهزيمة، وتقذف بها إلى مهاوي الضياع والتيه والدمار.. وعلى ضوء اتخاذ الموقف الملائم، وحسن الاختيار بسلوك الصراط السوي، تصنع الأمة تاريخها، وتحدد معالم مستقبلها، وتبني صروح أمجادها، أما إذا جانبت الصواب، وانحرفت عن الطريق المستقيم، واستهواها ما في الطرق الملتوية من مظاهر خادعة تميل إليها النفوس، ويغري بها حب الإنسان للدعة والراحة وخفض العيش، وعزوفه عن السير في الطرق الصعبة، واقتحام العقبات، واحتمال الأعباء؛ فإن إيثار السير في هذه السبل -على ما بها من مشوّقات- لا يصل بالأمة إلى ما ينبغي أن تطمح إليه من أهداف كبيرة، وأمجاد رفيعة، ووجود صحيح، إن لم تعرضها للانهيار والانحلال وذل الأبد وسوء المصير. وفي المنهج الإلهي الذي يرسم للبشر خطة السير الصحيح، وسلوك السبيل الأقوم في الحياة؛ لتحقيق أسمى الغايات، وإدراك السعادة الكاملة للأفراد والجماعات بيان لهذه الحقيقة، وتصوير لما ينتظر المنحرفين عن سبيل الحق من تفرق وتمزق وهلاك محتم. قال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} 1.

_ 1 الأنعام: 152

هذا هو المنهج السوي الذي لا تعرج فيه ولا التواء؛ إنه صراط الله المستقيم الذي يجمع في إحكامٍ بالغ وتناسق رائع، بين العقيدة الحقة النيرة، والنظام الكامل للحياة الطيبة، وهو تناسق وإحكام يعمق هذه الصلة الوثيقة بين مقتضى العقيدة وطبيعة النظام؛ بحيث تقوم تشريعات النظام إيمانًا في القلب، ودفعًا في المشاعر، ويقينًا في البصائر، ويقظة في الضمائر.. قبل أن تقوم في أوضاع المجتمع وحياة الناس؛ وبهذا يمتاز المنهج الإسلامي -الذي تتحقق به هذه الصلة وهذا الانسجام بين الفكر والوجدان من جهة وشئون الحياة وأوضاعها من جهة أخرى- عن أي منهج آخر من المناهج الأرضية التي تظل مُسِفَّةً هابطةً مهما ادَّعَتْ من السمو والارتفاع، ما دامت تفقد هذه الصلة الاعتقادية، وحركتها الضخمة الواسعة في النفوس والحياة. هنالك إذن منهج واحد، واضح مستقيم، مأمون العاقبة، مضمون السلامة نيِّر مشرق، لم تخططه في فكر الإنسان وضميره وسلوكه في الحياة فلسفة معقدة ملتوية، أو تجربة ناقصة شوهاء، أو نظرية ليس لها سند من علم ويقين، ولم تفرضه أزمة عارضة في حياة شعب، أو مرحلة عاجلة في تاريخ أمة، أو هدف موقوت لجماعة من البشر؛ فهذه كلها ليست سوى ضروب من النشاط الإنساني المحدود -فرديًا كان أو جماعيًا- لم تتحرر ولن تتحرر من الخضوع لقيود الزمان والمكان، ولم ترتفع -وليس بمقدورها أن ترتفع- عن مستوى التقاليد المألوفة، أو الأعراف الشائعة، أو التراث القومي أو التأثر بنزعة فردية، أو مشكلة اجتماعية، أو فكرة عنصرية أو غير ذلك مما ولَّدته في حياة الناس اعتبارات ضيقة، أو هزات اجتماعية، أو مراحل تاريخية. قد يكون في شيءٍ من هذه وَهْمُ الصلاح بَعْضَ حين لبعض الناس، وفي بيئة دون أخرى؛ ولكنها لا تصلح أبدًا لكل الناس، في كل زمان ومكان وكيف تصلح لقيادة ما هي منقادة إليه، ومصفدة بأغلاله؟ كيف تصلح وهي -في أقل صورها سوءًا وأحسنها مظهرًا- ليست إلا خلاصة فكر قاصر بطبعه

ومصدره وعوامل تكوينه ومدى انطلاقه؛ فهل يسوغ في منطق طبائع الأشياء أن يهيمن نتاج فكر محدود مهما علا -وهو ظاهرة كونية مخلوقة- على الكيان البشري كله، ويرسم له خطة السير في الحياة وهو عاجز عن أن يستوعب بعض أجزاء الكون الواسع الكبير، أو يدرك أسراره العجيبة؛ فضلًا عن عجزه التام -الذي لم يبلغ به الغرور حَدَّ إنكاره- عن التأثير في سنن الكون ونظامه. ولا شك أن هذا المثل القرآني يطامن كبرياء هذا الفكر، وتعاليه الأجوف، ونزوعه إلى ممارسة ما ليس أهلًا له في تعنت وجحود، وجهالة واستكبار. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ، مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} 1. "وإن العقيدة في نظام الإسلام -كما يتجلى ذلك في القرآن الكريم والسنة النبوية- تتصل بجميع أجزاء هذا النظام؛ فهي الأساس التي تبنى عليه نظرته أو نظامه الخلقي، وهي التي تكون الأساس الفكري لعقلية المسلم، والأساس النفسي لسلوكه، ومنها كذلك تنبثق نظرته إلى الحياة الاقتصادية، والحياة السياسية وعلى أساس فلسفتها يبنى نظامها. وخلاصة الأمر أن مضمون العقيدة له تأثير كبير في الحياة الإسلامية؛ سواء الفردية أم الاجتماعية. ويلاحظ أنها تتخلل جميع سور القرآن بلا استثناء، وأنها تتخلل جميع أحكامه الأخلاقية والتشريعية؛ فلا تستطيع أن تعزل قواعد التنظيم الحقوقي الاجتماعي الموجودة في القرآن عن هذا العنصر الإيماني الذي يتخللها ويحيط بها. نعم إنه يمكنك أن تجرد هذه القواعد الحقوقية؛ لكنك تكون قد عطلت الجهاز المتحرك عن حركته وأفقدته روحه وحيويته، وقطعت

_ 1 الحج: 73-74

شرايينه وأعصابه، وأصبح قطعة مفصولة عن أصلها للتحليل والتشريح، لا آلة فعالة من جهاز كبير يعمل. على أساس هذه النظرية سنضع العقيدة في موضعها من نظام الإسلام، وهي اللبنة الأساسية في بنائه، وهي التي تمد ما في أجزائه بالحياة وتحدد اتجاهاتها ومعالمها، وتتضمن العقيدة الحقائق الكبرى التي دعا القرآن إلى الإيمان بها، أو التي وجه الإنسان وأرشده إليها وهي تصور الوجود، وجود الله الخالق، ووجود الكون والإنسان. والصلة بين الله والكون والإنسان، وكذلك الحياة وما وراءها من حياة أخرى أو المصير والجزاء. والنبوة التي هي طريق معرفة هذه الحقائق الكبرى1. ترتكز الثقافة الإسلامية بهذا على المنهج الرباني وحده وتتجلى في الاعتقاد الحق، والتصور الصحيح، وقواعد الأخلاق والسلوك، والقيم والموازين التي تسود المجتمع، ونظم السياسة والاجتماع والاقتصاد.. كما تتمثل هذه الثقافة كذلك في المعرفة بكل جوانبها، وفي قواعد العمل الفكري، والنشاط العلمي، وكل ما شرعه الله تبارك وتعالى لتنظيم الحياة البشرية؛ "فالثقافة الإسلامية شاملة لكل حقوق النشاط الفكري، والواقعي والإنساني، وفيها من القواعد والمناهج والخصائص ما يكفل نمو هذا النشاط وحيويته دائمًا"2.

_ 1 محمد المبارك: "نظام الإسلام، العقيدة والعبادة" ص28. 2 انظر في تفصيل ذلك كتاب "معالم في الطريق" تأليف: سيد قطب، فصل "التصور الإسلامي، والثقافة" ص165-182

رصيد الفطرة الإنسانية الأصلية

رصيد الفطرة الإنسانية الأصلية ... 3- رصيد الفطرة الإنسانية الأصيلة: وترتكز الثقافة الإسلامية على رصيد حي ضخم من الفطرة الإنسانية الأصيلة فهي بذلك تنفذ إلى أعماق النفس الإنسانية التي فطرها الله تبارك وتعالى على الخير؛ فتقيمها على قاعدة الإيمان بالله وحده، والإذعان والرجاء في فضله،

والاحتكام إليه، وبذلك ترتفع بالإنسان إلى أفق العبودية الخالصة التي تتسق مع حقيقته وكرامته، وتنقذه من مواريث الجاهلية، وأوضاعها الباطلة التي تشوه الفطرة، وتهدد الكرامة، ويفقد فيها الإنسان معنى الإنسانية الأصيل فيه. عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كُلُّ مولود يُولَدُ على الفطرة، فأبواه يهوّدَانِه، أو يُنَصِّرانِهِ أو يمجسانه، كما تولد بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء؟ " 1. ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقول الله عز وجل: إني خلقت عبادي حنفاء؛ فجاءتهم الشياطين فاجتالَتْهُمْ عن دينهم، وحرَّمَتْ عليهم ما أحللتُ لهم" 2. وبهذا يتضح أن مفاهيم الإسلام -وهي ثقافته- تتفاعل في النفس الإنسانية مع الفطرة النقية التي لو تركت وأصالتها -من غير محاولة إفسادها وتشويهها- لما انحرفت عن عهد الله، أو زاغت عن هداه، أو ضلت عن سبيله، ولانطلقت في جو الحقائق الناصعة، والبراهين الناطقة، والعظات النافعة، التي تتحرر بها العقول من الأوهام والتعطل، وتطهر بها القلوب من جواذب الانحراف وضغط الأهواء. فإذا كانت موجبات الهداية، وموحيات الإيمان، وأسباب الاستقامة ممتزجةً بكيان الإنسان منذ نشأته، وكان نور الحق مركوزًا في فطرته؛ فإن ثقافة الإسلام إنما ترتكز على هذا الرصيد الكبير النقي في إقامة الوجود الحق الكريم للإنسان، وهي تنفرد بذلك عن أي ثقافة أخرى لا تملك هذا الرصيد، فتهبط بالإنسان من الأفق الرفيع الوضيء، وينأى عن هذه الموجبات والموحيات، ويستغرق في الضلال، وينسلخ من دلائل الحق في نفسه، وفي الكون من

_ 1 رواه الشيخان 2 رواه مسلم

حوله، ويتيه في مسالك الشيطان، وهي مسالك العقيدة الباطلة والفكر المنحرف، والسلوك الفاسد. قال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ، وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا، فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ، سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ، مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} 1. فالفطرة البشرية -كما أنشأها الله عز وجل- محكومة بذلك الناموس الذي تصرفه المشيئة الإلهية، وهو ناموس التوحيد؛ فهي تدركه بطبيعتها؛ لأنه مستقر في صميمها، وهي تتجه وفق مقتضاه، وتتصرف بما يوحي إذا عَرِيَتْ عن التشويه والخلل، ولم تفسد بفعل الأهواء العارضة؛ فإذا سيطر الهوى على الفطرة فنالها بالتشويه والإفساد؛ كان من نتيجة ذلك أن ينحرف الإنسان عن الهدى، وتستغرق نزعات الشيطان، وينسلخ من آيات الله، ويضل سواء السبيل، وينزلق إلى حضيض الضعة، ويهبط إلى عالم الحيوان. وإن من فضل الله تبارك وتعالى على هذا الإنسان أن زوده إلى جانب هذه الفطرة الصافية النقية، بالعقل الواعي الذي من شأنه أن يميز الحق من الباطل، والطيب من الخبيث، وبالعين المبصرة التي تشهد دلائل الهدى في الكون والحياة، وبالأذن المدركة التي تسمع ما يتلى عليها من عظات وتوجيهات.. فمن سلمت فطرته، وتيقظت بصيرته، واستخدم ما أنعم الله عليه من وسائل المشاهدة،

_ 1 الأعراف: 175-178

والمعرفة، فأيقن بالحق، وعرف طريق الاستقامة ومضى فيه؛ كان من المهتدين؛ وإلا كان من الضالين الغافلين الذين ينحدرون إلى درجة السوائم، بل هم أضل سبيلًا. قال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} 1. ذلك هو الفرق الجوهري بين ما ترتكز عليه ثقافة الإسلام من الفطرة التي تسمو بالإنسان، وتضعه على طريق الهدى والخير والاستقامة، وبين الثقافات الأخرى التي لا تقيم وزنًا لهذه الفطرة وموجباتها ومقتضاها، فتهبط بالإنسان ذلك الهبوط المزري بكرامته، المنسلخ عن الحق، المغرق في ظلمات الضلال والفساد، المتقلب في القلق والشقاء والضياع.

_ 1 الأعراف: 179.

خصائص الثقافة الإسلامية

خصائص الثقافة الإسلامية 1- موضع الثقة الكاملة: أ- إن الثقافة الإسلامية بارتكازها على العقيدة ليست من وضع بشر منساق بطبيعته البشرية إلى عوامل الضعف والنقص وضغط المنفعة والعصبية والطبقية؛ بل إن انبثاقها عن المنهج الإلهي يعطيها مطلق الثقة الكاملة بها، ويجعلها موضع الإيمان والتسليم، ويغنيها -من ناحية أخرى- عن الوسائل التي يُلْجَأ إليها لتزيين المفاهيم البشرية الناقصة المحدودة. إن مناط تلك المفاهيم الضالة التمويه على الإنسان والتدليس عليه، وفي ذلك ما فيه من زراية بعقله، واستهانة بكرامته. "وقد اتسمت الحضارة المادية في العهد الأخير بالتدجيل في كل شيء، والتلبيس على الناس، وتسمية الأشياء بغير أسمائها، وتمويه الحقائق، وإطلاق الأسماء البراقة الخلابة للعقول على غير مسمياتها، وبكثرة الاختلاف بين الظاهر والباطن، والأول والآخر، والنظريات العلمية، والتجارب العملية. وهذا شأن الشعارات والفلسفات التي حلت محل الأديان. وسحرت النفوس والعقول، والكلمات التي أحاطت بها هالات التقديس والتمجيد وحل حبها واحترامها في قرارة النفوس، وحبات القلوب، وأصبح

الشك في قدسها، أو النقاش في كرامتها ومكانتها علامة للرجعية، وإنكارًا للبداهة، والمشهود المحسوس، وقد التبس الأمر بذلك على كبار الأذكياء، ونوابغ العلماء؛ فأصبحوا يتغنون بهذه الشعارات والفلسفات، ويدعون إليها في إيمان وحماسة من غير تمحيص لنية أصحابها وإخلاصهم، أو شجاعة في تحديد نجاحها أو إخفاقها في مجال العمل والتطبيق، والمقارنة الصحيحة المحايدة بين ما كسبته الإنسانية والأمم الضعيفة، وبين ما خسرته من سلطان هذه الشعارات وتحت رايتها من السعادة الحقيقية، والحقوق الفطرية، وهذا كله من قوة التدجيل وسحره الذي تفوق فيه "الدجال الأكبر" على جميع الدجالين والمدلسين والمموهين، الذين عرفهم التاريخ البشري. وقد سرت هذه الروحية "الدجلية المدلسة" في هذه الحضارة لسيرها على خط معارض لخط النبوة، والإيمان بالآخرة، والإيمان بالغيب، والإيمان بفاطر الكون، وقدرته المطلقة، واحترام شريعته وتعاليمه، وللاعتماد الزائد على الحواس الظاهرة، والشغف الزائد بما يعود على الإنسان باللذة البدنية، والمنفعة العاجلة والغلبة الظاهرة"1. وإن هذه الثقافات المرتكزة على النظرات البشرية والفلسفات المحدودة والمرتبطة بقيود الزمان والمكان والخاضعة لمؤثرات البيئات والظروف، والمتأثرة بالأزمات النفسية والهزات الاجتماعية، وما ينجم عنها من ردود الفعل التي يبعدها عن العمق والصدق والاتزان.. إن هذه الثقافات -وهذا حالها- إنما تعيش في الحقيقة خارج دائرة الوجدان الإنساني في أصالته ونقائه؛ فهي بعيدة كل البعد عن أي نزعة تحفظ للإنسان مكانته الرفيعة التي أكرمه الله بها، ولا تملك إلا أن تسوق الإنسان بنزعة القوة التي تسيطر بها عليه سيطرة تسلبه بها حريته، أو نزعة الخديعة التي تسلبه

_ 1 أبو الحسن علي الحسني الندوي: "الصراع بين الإيمان والمادية" ص13

بها كرامته، أو بهما معًا كما هو حال كثير من الأمم والشعوب في ظل هذه الفلسفات المادية المنحرفة التي استطاعت أن تتخذ من السلطة منطلقًا لممارسة نزعة القوة والخديعة في آن واحد.. ب- ولعل خير ما يجلي الصورة المقابلة لهذا الوضع المنحرف ما يبينه الإسلام من حقيقة "العبودية" في الإنسان، وهي العبودية التي تقوم على الثقة والطمأنينة واليقين الخالص وحب الله عز وجل والخوف منه ورجائه.. وقد أوضح شيخ الإسلام "ابن تيمية" -رحمه الله تعالى- حقيقة جوانب ذلك في رسالته "العبودية" فهو "ينزع نزعة مثالية في نظريته، نزعة ترد على الإنسانية كرامتها، وتحتفظ للإنسان بمنزلته العليا فوق عالم الكائنات الحية التي لا تطاوله في منزلته، ولا تنازعه في قمته التي وضعه الله فيها بما وضع فيه من عنصر العقل والإدراك، وابتغاء الحق والخير وأهلية التكليف". يقول ابن تيمية: "والقلب خلق يحب الحق ويريده ويطلبه؛ فلما عرضت له إرادة الشر طلب دفع ذلك؛ فإنها تفسد القلب، كما يفسد الزرع بما ينبت فيه من الدغل" ص100 ويقول: "والقلب فقير بالذات إلى الله من جهتين: من جهة العبادة وهي العلة الغائية، ومن جهة الاستعانة والتوكل، وهي العلة الفاعلة؛ فالقلب لا يصلح ولا يفلح، ولا ينعم ولا يسر، ولا يلتذ ولا يطيب ولا يسكن، ولا يطمئن؛ إلا بعبادة ربه وحده، وحبه والإنابة إليه. ولو حصل له كل ما يلتذ به من المخلوقات؛ لم يطمئن ولم يسكن؛ إذ فيه فقر ذاتي إلى ربه بالفطرة من حيث هو معبوده ومحبوبه ومطلوبه" ص108. وهذه النزعة -في الوقت نفسه- ليست نزعة خيالية تهمل الواقع؛ ولكن ترتفع به عن طريق "التسامي" أو "الإبدال" مما لمحه علماء النفس والتربية، وما عرفوا الطريق الحق إليه. "والأنبياء -كما يقول ابن تيمية في كتاب

"النبوات"- قد بعثوا بتكميل الفطرة وتقريرها، لا بتبديلها وتغييرها"1. ج- إن هذه الثقافة التي تقوم على الإيمان بالله والرسول واليوم الآخر.. تنشئ في النفس الإنسانية تلك الثقة المرتكزة على يقظة ذاتية، وحيوية داخلية، تكوّن تلك النزعة الفطرية إلى الاستقامة، وتدفع إلى حسن السلوك، وهي نزعة لا تحتاج إلى محرك خارجي، ولا إلى رقابة خارجية؛ إذ السلطان على الفرد عندئذ هو الاعتقاد الذي يحمله بين جنبيه. والفرق بين المؤمن الذي يحمل في نفسه القوة الدافعة إلى العمل المستقيم، والتعاون مع الناس، وبين القانون الذي يضعه المجتمع ويفرضه بقوة الحراسة وهي القوة التنفيذية. إن الفرق هو أن سلطان القانون وما يصحبه من قوة تنفيذية خارج عن الإنسان، والإنسان في المجتمع الحديث -وهو المجتمع صاحب القانون الوضعي وصاحب السلطة التنفيذية- يعمل بدفع هذه القوة الخارجة عنه، ولو تهاون هذا المجتمع في تطبيق القانون يومًا ما، أو خفت رقابة السلطة التنفيذية؛ فإن الفرد يتهاون بدوره في أداء ما كان يحتم عليه القانون أداءه، وما كانت السلطة التنفيذية ترقبه منه. إن الثقة الكاملة بين الإنسان وما يجب عليه من العمل والسلوك؛ لا بد أن تكون منبثقة من يقين الإنسان بصحة ما يجب عليه، وحُبٍّ صادق له، ورغبة قوية فيه، وحرص تام عليه، وسعادة في أدائه؛ ولكن هذه العناصر والبواعث لا يمكن أن تتحقق للإنسان بعامل الدفع الخارجي؛ بل لا بد لها من العقيدة التي تمزجها جميعًا مزجًا طرائعًا بكيان الإنسان الداخلي، وشعوره الوجداني. من أجل هذا حاول بعض الفلاسفة الأخلاقيين المثاليين في -المجتمع

_ 1 عبد الرحمن الباني: "مقدمة رسالة العبودية لشيخ الإسلام ابن تيمية" ص22. وأرقام الصفحات في النص من رسالة العبودية.

الأوربي في القرن الثاني عشر- أن يضع خلقية ذاتية تقوم على فكرة "أداء الواجب لذات الواجب" وشاعت هذه الخلقية المثالية في الشعب الألماني على الخصوص، وعرفت هذه الفكرة بفكرة "كانت" أو بالواجب الخلقي. ومع أنها خلقية دافعة نحو العمل من ذات الإنسان، دون رعاية القانون الوضعي، وما يصحبه من سلطة تنفيذية؛ فإنها تفترق عن الخلقية الدينية التي يريدها الإسلام للمجتمع الإسلامي، والتي هي أساس لتماسك المجتمع الإسلامي، وتعاون أفراده؛ لأنه مهما كان الأمر فلا يغيب عن أذهاننا أن أساس القوة الخلقية هو الاعتقاد بالله، وإن أساس الخلقية المثالية هو تصور عمل الواجب من الإنسان للإنسانية. وشتان بين قوة تعتمد على الاعتقاد بالله، وأخرى تقوم على تصور الإنسان للإنسانية؛ فالاعتقاد بالله من شأنه أن يبقى ويدوم؛ بينما تطورات الإنسان -مهما كانت- فإنها تخضع للعوامل التي يتأثر بها الإنسان، ويسهل عندئذ أن يتغير تصور الإنسان من لونٍ إلى لونٍ آخر. وإذا كان أي قانون من القوانين لا يستطيع أن يستقل بذاته في أي وقت من الأوقات؛ بل لا بد أن يقترن حتى ينفذ ويصان بثقة الإنسان به، فإن مرتكز هذه الثقة هو مرتكز وجداني أخلاقي، لا تنشئه إلا العقيدة الدينية وحدها، وفي هذا ما يؤكد أن الإيمان وحده هو الذي يستوفي كل هذه الأمور. وينشئ ذلك الشعور الذي يظل يعتمل في قرارة ضمير المؤمن؛ فيحمله على الخير ويردعه عن الشر، ويحدث ذلك التفاعل الإيجابي -الناجم عن الثقة- مع الاستقامة والفضائل، وذلك التفاعل السلبي مع الانحراف والرذائل1.

_ 1 انظر "الإسلام في الواقع الأيديولوجي المعاصر": للدكتور محمد البهي ص42-45. وانظر: "الإسلام يتحدى" تأليف: وحيد الدين خان ص423

كمال تصورها للإنسان والحياة

2- كمال تصورها للإنسان والحياة: أ- تتسم الثقافة الإسلامية من حيث إقامتها التصور الصحيح للإنسان وعلاقته بالحياة بالتوفيق التام بين الوجهتين الروحية والمادية فيه؛ بحيث ينتفي ذلك التناقض الذي أقامته التصورات المنحرفة بينهما، وهو تناقض زرعت بذوره الأولى في الحياة الإنسانية عقيدة الخطيئة الأولى التي جاءت بها النصرانية والتقت فيها من حيث خطأ التصور والاستنتاج مع عقائد أخرى زائفة؛ منها ما هو قديم كالبوذية والبرهمية، أو حديث كالروحية الحديثة. "فالإنسان -حسب العقيدة النصرانية- يتعثر في الخطيئة الموروثة التي ارتكبها آدم وحواء، وعلى هذا تعتبر الحياة كلها -وفي نظر العقيدة على الأقل- واديًا مظلمًا للأحزان.. إنها الميدان الذي تعترك فيه قوتان: الشر المتمثل في الشيطان، والخير المتمثل في المسيح. إن الشيطان يحاول بواسطة التجارب الجسدية أن يسد طريق النفس الإنسانية نحو النور الأزلي، إن النفس ملك المسيح؛ ولكن الجسد ملعب للمؤثرات الشيطانية، وقد يمكن التعبير عن ذلك بوجه آخر: إن عالم المادة شيطاني في أساسه؛ بينما عالم الروح إلهي خير. وإن كل ما في الطبيعة الإنسانية من المادة -أي الجسد كما يؤثر اللاهوت النصراني أن يدعوه- فإنما هو نتيجة مباشرة لزلة آدم، حينما سمع نصيحة الأمير الجهنمي للظلمة والمادة -يعني إبليس- من أجل ذلك كان حتمًا على الإنسان عندهم إذا شاء النجاة أن يلفت قلبه عن عالم اللحم إلى هذا العالم الروحي المقبل؛ حيث تحل الخطيئة البشرية بتضحية المسيح، أي بفداء المسيح"1.

_ 1 محمد أسد: "الإسلام على مفترق الطرق" ص28

ب- وليس التصور الفلسفي للإنسان -كما هو الحال في الفلسفات القديمة والحديثة- خيرًا من هذا التصور النصراني الذي جاءت به الكنيسة. إنه لدى كثير من هذه الفلسفات والنظريات تصور ناقص محدود يتناول الإنسان من بعض جوانبه ويهمل جوانبه الأخرى؛ فهو -مثلًا- يتناول الإنسان من جانب مزاياه العقلية فحسب دون النظر إلى المزايا الأخرى، وقد تعنى بعض التصورات بنواحيه الاجتماعية فقط، وتمهل ما عدا ذلك، كما أن بعض التصورات جاءت بافتراضات عجيبة حول ترتيب الإنسان بين أنواع الأحياء الأخرى وفق ما يسمى بمذهب النشوء والارتقاء؛ وبهذا نجد أن الإنسان لدى جل هذه الفلسفات والنظريات لا يعدو أن يكون حيوانًا ناطقًا تارة، وحيوانًا مدنيًا أو سياسيًا أخرى، أو حيوانًا راقيًا حينًا، أو إنسانًا مثقلًا بالخطيئة وارثًا للغواية حينًا آخر.. ج- "أما الإسلام فإنه لا يعرف الخطيئة الموروثة، ولا يعرف السقوط من طبيعة إلى ما دونها، فلا يحاسب أحدًا بذنب أبيه، ولا تزر وازرة وزر أخرى، وليس مما يدين به المسلم أن يرتد النوع الإنساني إلى ما دون طبيعته؛ ولكنه مما يؤمن به أن ارتفاع الإنسان وهبوطه منوطان بالتكليف، وقوامه الحرية والتبعة؛ فهو بأمانة التكليف قابل للصعود إلى قمة الخليقة، وهو بالتكليف قابل للهبوط إلى أسفل سافلين، وهذه هي الأمانة التي رفعته مقامًا فوق مقام الملائكة، وهبطت به مقامًا إلى زمرة الشياطين"1. إن الإسلام يبطل كل التصورات المنحرفة والمتطرفة والفاسدة عن الإنسان حين يضع الإنسان أمام حقيقته من حيث أصل الخلقة؛ حيث يقول الله تعالى:

_ 1 عباس محمود العقاد: "حقائق الإسلام وأباطيل خصومه" ص77

{فَلْيَنْظُرِ الْأِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ، خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ، يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ لصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} 1. ثم من حيث عناصر التكوين ومراحله، وما ينشأ عليه من الضعف والعجز، ثم ما يوهب من القوة والشباب، وما ينتهي إليه بعد ذلك من انحطاط القوى والعجز والضعف مرة أخرى، وأنه لا بد أن يوافيه الأجل ويسلب نعمة الحياة وفق قدرة الله عز وجل وحكمته، وما اقتضته مشيئته. وفي ذلك يقول عز وجل: {فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مَنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا} 2. فليس لهذا الإنسان أن يتجاوز حقيقته، ويشمخ بأنفه، ويعتد بقوته، ويتباهى بسطوته، ويمتلئ غطرسة وكبرياء، ويغتر بما بين يديه من وسائل وأسباب، ومتع وثروات، وطاقات وأدوات؛ بل عليه أن يعلم أن هذا الكون قد سخره الله له من أجل فائدته ومتاعه، وعمارة هذا الأرض التي يعيش عليها، وفي هذا التسخير تكريم من الله لهذا الإنسان، وتكليف له وتشريف. وخليق بهذا الإنسان أن يعرف منزلته، ويدرك تبعته، ويؤدي وظيفته. وفي ذلك يقول عز وجل: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ

_ 1 الطارق: "5-7" 2 الحج: "5".

مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} 1. وإذا كان هذا الإنسان من حيث الأصل مخلوقًا حقيرًا ذليلًا؛ فإن ما أُسْبِغَ عليه -بفضل الله- من الكرامة والتشريف، منوط بتلك الروح التي أودعها الله فيه، وبتلك المكانة التي رفعه إليها حين جعله خليفة في الأرض، ومعنى هذا أن كرامته وفضيلته إنما تتوقفان على أن لا يُلَوِّثَ روحه باتباع الشيطان وسلوك طرقه، وعلى ألا ينحدر من مرتبة الخلافة المتلازمة مع الخضوع والطاعة إلى حضيض البغي والعصيان. وفي ذلك يقول عز وجل: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} 2. ويقول سبحانه: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} 3. إن تفرد الإنسان في هذا الكون بطبيعته وتركيبه، وفي وظيفته وغاية وجوده، وفي مآله ومصيره؛ هو الذي يقرره التصور الإسلامي عن الإنسان في نصوصه الكثيرة؛ فكلها تقرر أن هذا الإنسان، خلق خلقة فذة خاصة مقصودة، وعينت له وظيفة، وجعلت لوجوده

_ 1 الإسراء: "70". 2 البقرة: "30". 3 البقرة: "38-39".

غاية، وأنه كذلك مبتلى بالحياة مختبر فيها، محاسب في النهاية على سلوكه فيها؛ هذا السلوك الذي يقرر جزاءه ومصيره. ومن الطبيعي أن تقتضي خصائص الإنسان منهجًا للحياة الإنسانية يرعى كل تلك الخصائص والاعتبارات؛ يرعى تفرد الإنسان في طبيعته وتركيبه وتفرده في وظيفته وغاية وجوده وتفرده في مآله ومصيره، كما يرعى تعقده الشديد، وتنوع أوجه نشاطه، وتعقد الارتباطات بينها، ثم يرعى فرديته هذه مع حياته الجماعية. وبعد هذا كله يضمن له أن يزاول وجوه نشاطه كلها، وفق طاقاته كلها، بحيث لا يسحق ولا يكبت، كما لا يسرف ولا يفرط، وبحيث لا يدع طاقة تطغى على طاقة، ولا وظيفة تغطي على وظيفة، ثم في النهاية يسمح لكل فرد بمزاولة فرديته الأصلية مع كونه عضوًا في جماعة، وإن منهج الحياة الوحيد الذي راعى هذه الاعتبارات كلها كان هو المنهج الذي وضعه للإنسان خالقه العليم بتكوينه وفطرته، الخبير بطاقاته ووظائفه، القادر على أن يضع له المنهج الذي يحقق غاية وجوده، ويحقق التوازن في أوجه نشاطه، ويحقق فرديته وجماعيته كذلك. ولقد جاء منهج الإسلام للحياة الإنسانية بتحديد واضح رائع للعلاقة بين الإنسان والحياة؛ فإذا كانت هذه الحياة الدنيا قد خلقت لهذا الإنسان لينتفع بها ويستمتع؛ فليس له أن يقف منها موقفًا سلبيًا ظنًا منه بأنها شيء يجب الاحتراز منه، كما ليس له أن يحرم على نفسه زينتها ونعيمها؛ بل من واجبه أن ينتفع بها ويستخدمها على قدر استطاعته، مع إدراك كامل منه وتمييز دقيق.. للصحيح والفاسد، والحق والباطل، والطيب والخبيث.. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّبًا وَلا تَتَّبِعُوا

خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} 1. وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ، وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ} 2. ومع هذه الدعوى إلى الانتفاع بالحياة؛ يضع التصور الإسلامي أمام الإنسان صورة عن عاقبة هذه الحياة ومآلها، حتى لا تلهيه عن وظيفته، أو تشغله بمفاتنها ومباهجها عن الغاية الحقيقية من وجوده؛ فالحياة الدنيا ظل زائل وعرض حائل، وهي محدودة بأجل مسمّى، ونهايتها هو الموت المحتوم؛ وإنما الشيء الوحيد الذي له البقاء والخلود في هذا العالم الفاني هو الصلاح: صلاح القلب، وصلاح الروح، وصلاح الأعمال3. {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} 4. وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ

_ 1 البقرة: "168". 2 المائدة: "87-88". 3 انظر: "الإسلام ومشكلات الحضارة"، تأليف: سيد قطب. ص43-50، وانظر "الحضارة الإسلامية" تأليف: أبي الأعلى المودودي. ص11-31. 4 لقمان: "33".

ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} 1. وقال: {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} 2. وقال: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى، وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى، ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى، وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} 3.

_ 1 المنافقون: "9". 2 البقرة: "281". 3 النجم: "39-42".

وحدتها المترابطة المتناسقة

3- وحدتها المترابطة المتناسقة: أ- من خصائص الثقافة الإسلامية أنها كلٌّ متَّحد مترابط متناسق، يؤخذ جملة وتفصيلًا دون اصطفاء أو استهواء، أو اعتبار لما يوافق الهوى أو يصادمه؛ فالثقافة الإسلامية بمفاهيمها العامة الشاملة ليست أجزاء متفرقة لا رابطة بينها، تعرض كما تعرض السلع في المتاجر؛ ليختار الإنسان منها ما يلائمه، ويوافق مزاجه، ويدع ما لا يرغب فيه لعدم توافقه مع ذوقه أو لغلاء ثمنه. "إن الاسلام كلٌّ لا يتجزأ؛ فإما أن يؤخذ جملة، وإما أن يترك جملة، أما أن يستفتى الإسلام في صغار الشئون، وأن يهمل في الأسس العامة التي تقوم عليها الحياة والمجتمع؛ فهذا هو الصَّغار الذي لا يجوز لمسلم أن يقبله للإسلام.

إن جواب أي استفتاء عن مشكلة جزئية من مشكلات المجتمعات التي لا تدين بالإسلام، ولا تعترف بشريعته أن يقال: حكِّموا الإسلام أولاً في الحياة كلها، ثم اطلبوا بعد ذلك رأيه في مشكلات الحياة التي ينشئها هو، لا التي أنشأها نظام آخر مناقض للإسلام.. إن الإسلام يربِّي الناس تربية خاصة، ويحكمهم وفق شريعة خاصة، وينظم شئونهم على أسس خاصة، ويخلق مقومات اجتماعية واقتصادية وشعورية خاصة؛ فأولاً طبقوا الإسلام جملة، في نظام الحكم، وفي أسس التشريع، وفي قواعد التربية، ثم انظروا هل تبقى هذه المشكلات التي تسألون عنها، أم تزول من نفسها، أما قبل ذلك فما للإسلام وما لهذه القضايا التي لا يعرفها المجتمع الإسلامي الصحيح؟ "1. ب- إن مناط الأمر في هذه القضية قائم على فهم المعنى الحقيقي الشامل لانتماء الإنسان للإسلام؛ فالانتماء للإسلام يقتضي من المسلم أن يذعن بأن الحاكمية لله عز وجل، وأن حكم الله تبارك وتعالى فوق كل رأي من آراء الأشخاص أو الجماعات، أو الأهواء أو المصالح، ولا يعد هذا الانتماء الإسلامي صحيحًا إذا أصابته التجزئة بسائق المنافع والمصالح والرغبات؛ فالمسلم مطالب بأن يقيد حريته الخاصة، ورغبته الذاتية بقيود الشريعة، حتى يصح أن يوصف بأنه قد سلك صراط الله المستقيم، وصدق في الانتماء لهذا الدين. ولا بد مع الإذعان لحكم الله والتسليم له، وصدق الاتباع لأمره من اليقين الكامل بأحقية هذا النظام الإسلامي، وأنه وحدة النظام الذي يحقق السعادة الكاملة للإنسان في الدنيا والآخرة. قال تعالى:

_ 1 سيد قطب: "دراسات إسلامية" ص88. وانظر فصل "خذوا الإسلام بتمامه" ص86.

{فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} 1. ج- إن وحدة الثقافة الإسلامية المترابطة المتناسقة ترتكز من وجهة نظر الإسلام على أساس منطقي قوي وهو: أن الحقائق لا يمكن أن تكون متناقضة. ولما كان الإسلام قد قدَّم للبشرية الحقائق كاملة. وحسم بذلك كل المنازعات والخلافات التي ثارت حول كثير من قضايا الإنسان والكون والحياة؛ فإنه قد أرسى دعامة الوحدة الفكرية والروحية على قاعدة المنهج الرباني الذي هدم الخرافات والأوهام والتناقضات، برد الأمر في هذه القضايا إلى الله عز وجل. ومن هنا لم يستطع أعداء الإسلام أن ينفذوا إلى كيانه الاعتقادي والفكري والروحي والتشريعي، المرتكز على الوحدة الدينية الأصلية، التي تستجيب لها القلوب، وتنشرح الصدور، وتتفاعل العقول ليهدموه جملة؛ بل لجئوا إلى أسلوب التفريق والتمزيق.. تفريق المسلمين إلى شيع وطوائف وأحزاب، وتمزيق وحدة عقيدتهم ونظامهم، بإثارة الشبهات، ونشر الافتراءات، وتشويه حقيقة الإسلام، بالإلحاح المتواصل على إقصاء الدين عن الحياة، وحصره في نطاق محدود، يسلبه عنصر التأثير والتوجيه والتنظيم لقضايا الإنسان الفكرية والمادية والسياسية والاجتماعية.. قال تعالى في تقرير هذه الوحدة الدينية الأصلية وإقامتها والنهي عن تمزيقها: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا

_ 1 النساء: "65".

فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} 1. وفي كشف دعاة هذا التفريق والتمزيق، وفضح نواياهم الخبيثة الحاقدة، وأساليبهم التي تحركها مصالحهم الذاتية وأهواؤهم الفاسدة.. يقول عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} 2. ويقول سبحانه: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} 3. ويقول: {وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} 4. ويقول: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} 5. د- وتقوم هذه الوحدة المترابطة المتناسقة على أساس خاصة الشمول في العقيدة الإسلامية، وهي خاصة تجعل العقيدة الإسلامية هي وحدة العقيدة

_ 1 الشورى: "13". 2 الأنعام: "159". 3 البقرة: "75". 4 البقرة: "146". 5 البقرة: "109".

المثلى للإنسان، منفردًا ومجتمعًا، وعاملًا لروحه أو عاملًا لجسده، وناظرًا إلى دنياه أو ناظرًا إلى آخرته، ومسالمًا ومحاربًا، ومعطيًا حق نفسه أو معطيًا حق حاكمه وحكومته، وليس يقبل -في منطق هذه العقيدة- أن يطلب الإنسان الدنيا ويغفل عن الآخرة، كما لا يقبل منه كذلك أن يكون سلبيًا تجاه الحياة، وما تقتضيه من عمل وجد وجهاد، بدعوى السمو بالروح وطلب الآخرة، وليس مقبولًا أصلًا -بمنطق هذه العقيدة- أن يصحب الإنسان إسلامه في حالة، ويدعه في حالة أخرى؛ فالعقيدة بالنسبة للمسلم روحه الحية الدائمة، المتحركة في وجدانه وسلوكه وعمله، في جميع حالاته وجميع حالاتها؛ سواء تفرد وحده أو جمعته بالناس أواصر الاجتماع. إن شمول العقيدة في ظواهرها الفردية، وظواهرها الاجتماعية هو المزية الخاصة في العقيدة الإسلامية، وهو المزية التي توحي إلى الإنسان أنه "كلُّ" شامل؛ فيستريح من فصام العقائد التي تشطر السريرة شطرين، ثم تعيا بالجمع بين الشطرين على وفاق. وكما لا يقبل أن ينقسم الإنسان قسمين بين الدنيا والآخرة، أو بين الجسد والروح، أو بين خصائصه الفردية ونزعاته الاجتماعية؛ لأن في هذا الانقسام فصامًا يشق على النفس احتماله، ويدفع الإنسان إلى الحيرة والقلق والاضطراب؛ فكذلك لا بد له إزاء هذا الشقاء من عقيدة تشفيه من آفات هذا الفصام الذي يباعد المسافة بين الروح والجسد، والدنيا والآخرة، والفرد والجماعة. ولن يجد الإنسان هذا الشفاء إلا في عقيدة الإسلام وحدها التي تعصمه من الحيرة والانقسام، ولا تشطر سريرته وحياته أشطارًا مختلفة؛ بل تقيم نفسه ووجوده على ركيزة الوحدة الكاملة في أمر وجدانه وعمله ودنياه وآخرته، ووحدته واجتماعه1.

_ 1 انظر "الإسلام في القرن العشرين": عباس محمود العقاد ص27/ 33.

قال تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} 1.

_ 1 القصص: "77".

بثها روح التميز في الأمة

4- بثها روح التميز في الأمة: أ- ومن خصائص الثقافة الإسلامية بث روح التميز التام لهذه الأمة في القول والعمل والسلوك.. تميزًا ينأى بها نأيًا كاملًا عن التشبه بغيرها من الأمم المخالفة لها في العقيدة والخلق والاتجاه في كل شأن يمس وجودها الفريد، وأوضاعها الاجتماعية وطابع شخصيتها العامة. إن الشعور بالتميز يصون في الأمة مقومات وجودها، وينشئ لها كيانًا راسخًا صلبًا، لا يعتريه التصدع، أو ينفذ إليه الخلل، ما دام هذا الشعور مستندًا إلى الحق والخير والفضيلة، منبثقًا من جوهر العقيدة، وأصولها الثابتة؛ متصلًا بالشريعة وأحكامها بأوثق سبب. وهو -في آثاره الفكرية والنفسية- يعمق ما ينبغي أن يكون عليه المسلم من كراهية للكفر ونفور منه، وتباعد عن خطه المنحرف، وسيره الشاذ. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ، مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ

يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} 1. ففي هاتين الآيتين لفتة تربوية عالية تلح على الفاصل الكبير بين أسلوبين في الخطاب، بينهما في ظاهر اللفظ تشابه؛ لكنهما -في ظلالهما النفسية، وما تنم عنه من نوايا- مختلفان. وقصة ذلك: أن اليهود كانوا يعلنون من الكلام ما فيه تورية، لما يقصدون من التنقيص؛ فإذا أرادوا أن يقولوا: اسمع لنا؛ يقولوا: راعِنا، ويورّون بالرعونة كما قال تعالى: {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا} 2. وكذلك جاءت الأحاديث بالإخبار عنهم بأنهم كانوا إذا سلموا إنما يقولون: السام عليكم "والسام هو الموت". كما ورد أن بعض اليهود كان يأتي النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا لقيه فكلمه قال: أرعني سمعك واسمع غير مسمع. وقد حسب المسلمون أن الأنبياء كانت تفخم بمثل هذا الخطاب. فكان ناس منهم يقولون مثل هذا القول؛ فجاء النهي للمؤمنين عن التشبه باليهود في أقوالهم وأفعالهم، وكره الله للمسلمين أن يقولوا لنبيهم صلى الله عليه وسلم: "راعنا"، وسقطت هذه الكلمة في ميدان التربية الإلهية؛ لا باعتبار حروفها وتركيبها؛ فهي كلمة عربية مثل غيرها من الكلمات؛ ولكن باعتبار صدورها عن اليهود الأشرار المفسدين. وفي هذا نهي قاطع

_ 1 البقرة: "104-105". 2 النساء: "46".

للمسلمين عن التشبه بالكافرين في كل ما يصدر عنهم من قول أو عمل؛ لأن من تشبه بقوم فهو منهم، وكيف يتشبه المسملون بهؤلاء الأعداء؟ من الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين، وهم يطوون صدورهم على أشد العداوة والبغضاء، ولا يضمرون للمؤمنين إلا الحقد والضغينة، ويكرهون -حسدًا واستكبارًا وتعصبًا- أن يختارهم الله لحمل رسالة الحق والخير والسداد، وأن يعدهم لقيادة البشرية، وتحريرها من أغلال الظلم والطغيان.. ب- وقد أفاض شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- في حقيقة التميز ومعناه مبينًا ضرورة المسلم وحاجته إلى هداية الصراط المستقيم، وهو سبيل التميز؛ محذرًا في ذلك من الانحراف إلى طريق المغضوب عليهم أو الضالين، وأوضح أثر التميز في نفس المسلم وسلوكه وأحواله كلها؛ مشيرًا إلى ما تورثه المشاركة من تناسب وتشاكل بين المتشابهين يقود إلى الموافقة في الأخلاق والأعمال. قال: "ثم إن الصراط المستقيم: هي أمور باطنةٌ في القلب: من اعتقادات وإرادات، وأمور ظاهرة ومن أقوال وأفعال قد تكون عبادات. وقد تكون أيضًا عادات في الطعام واللباس والنكاح والمسكن والاجتماع والافتراق والسفر والإقامة والركوب، وغير ذلك. وهذه الأمور الباطنة والظاهرة: بينهما -ولا بد- ارتباط ومناسبة؛ فإن ما يقوم بالقلب من الشعور والحال يوجب أمورًا ظاهرةًً، وما يقوم بالظاهر من سائر الأعمال يوجب للقلب شعورًا وأحوالًا. وقد بعث الله عبده ورسوله محمدًا -صلى الله عليه وسلم- بالحكمة التي هي سنته، وهي الشرعة والمنهاج الذي شرعه له. فكان من هذه الحكمة: أن شرع له من الأعمال والأقوال ما يباين سبيل المغضوب عليهم والضالين، وأمر بمخالفتهم في الهدي الظاهر -وإن لم

يظهر لكثير من الخلق في ذلك مفسدة -لأمور: منها: أن المشاركة في الهدى الظاهر، تورث تناسبًا وتشاكلًا بين المتشابهين يقود إلى الموافقة في الأخلاق والأعمال. وهذا أمر محسوس؛ فإن اللابس لثياب أهل العلم -مثلًا- يجد من نفسه نوع تخلق بأخلاقهم، ويصير طبعه مقتضيًا لذلك إلا أن يمنعه من ذلك مانع. ومنها: أن المخالفة في الهدى الظاهر توجب مباينةً ومفارقةً توجب الانقطاع عن موجبات الغضب، وأسباب الضلال، والانعطاف إلى أهل الهدي والرضوان، وتحقق ما قطع الله من الموالاة بين جنده المفلحين وأعدائه الخاسرين. وكلما كان القلب أتمّ حياة وأعرف بالإسلام الذي هو الإسلام -لست أعني مجرد التوسم به ظاهرًا أو باطنًا بمجرد الاعتقادات التقليدية من حيث الجملة- كان إحساسه بمفارقة اليهود والنصارى باطنًا أو ظاهرًا أتم، وبعده عن أخلاقهم الموجود في بعض المسلمين أشد. ومنها: أن مشاركتهم في الهدى الظاهر توجب الاختلاط الظاهر حتى يرتفع التميز ظاهرًا بين المهديين المرضيين، وبين المغضوب عليهم والضالين؛ إلى غير ذلك من الأسباب الحكمية. هذا إذا لم يكن ذلك الهدى الظاهر إلا مباحًا محضًا لو تجرد عن مشابهتهم؛ فأما إن كان من موجبات كفرهم؛ فإنه يكون شعبة من شعب الكفر. فموافقتهم فيه موافقة في نوع من أنواع ضلالهم ومعاصيهم؛ فهذا أصل ينبغي أن يُتَفَطَّنَ له. والله أعلم"1. وإن المسلمين الذين اختصهم الله برحمته، ومنَّ عليهم بفضله العظيم، فكانوا حملة الأمانة الإلهية، والأمة الوسط الشهداء على الناس؛ مدعوون -دائمًا- إلى أن يلتزموا المنهج الإسلامي الكامل في العقيدة والفكر،

_ 1 اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم لشيخ الإسلام ابن تيمية ص11.

والقول والعمل، والاجتماع والأخلاق، وكل شأن من شئون الحياة.. مدعوون -بحكم هذا المنهج- أن يعتصموا بحبل الله، ويتبعوا هداه، ويعتزوا بشخصيتهم الإسلامية الفريدة التي بها سادوا، وبها يسودون. وهذا هو ما تؤكد الثقافة الإسلامية على بنائه في فكر المسلم، وغرسه في ضميره، وجعله محور حركته واتجاهه، حتى تكون صياغته، وفق مفاهيم هذه الثقافة، صياغةً فريدة تتسم بالتميز التام الذي لا سبيل إليه إلا بالاعتصام بهدى الله، والسير على صراطه المستقيم، ومجانبة سبل المغضوب عليهم والضالين أصحاب الجحيم.

إيجابية في روحها

5- إيجابية في روحها: إن مما تمتاز به الثقافة الإسلامية -وهي مفاهيم دعوة عامة شاملة كاملة- رعايتها الخالصة للروح الإيجابية في الإنسان؛ فهذه الروح التي تبثها هذه الثقافة في الكيان الفكري والنفسي والاجتماعي للمؤمن، ترتفع به عن حدود الذات في مطالبها وأشواقها ورغباتها، إلى أرحب مدى إنساني؛ وبذلك تكون النعمة على المؤمن في الهداية والاستقامة نعمة كبرى، يشع نورها إلى غيره من الباحثين عن الحقيقة، المتطلعين إلى الهداية، المشوقين إلى الاستقامة. ومن حكمة الله عز وجل ورحمته بعباده أن أنعم عليهم بهذا الدين الذي جاء هدى للناس كافة، وسعادة لهم في الدنيا والآخرة، واختار الله لتبليغه ونشره، وبث تعاليمه، وإقامة شرعته: هذا النبي الأمي الكريم الذي كان صفوته من خلقه، وخاتم أنبيائه ورسله؛ فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح للأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وزان التاريخ بمآثر مجد خالد، وآيات بطولة رائعة، ورفع في الدنيا راية الحق، وشاد صروح العدل، وبنى حصون الحرية، واستنقذ الإنسان من وهدة

الضلال، وتيه الفراغ والضياع، ولفتهُ إلى حقيقة فطرته، وجوهر أصالته، وأقامه على النهج السوي، والجادة القويمة، وسار به في معالم نيرة، ومسالك واضحة، ووجَّهَهُ إلى أصح الأهداف وأنبل المقاصد. قال سبحانه: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ، فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} 1. ولقد وعى الإنسان بهذه الهداية رسالته، وأدرك بهذا المنهج ذاته؛ فاستمسك بعروته الوثقى، واعتصم بحبله المتين، وصاغ وفق تعاليمه السمحة حياته في عبودية خالصة، وامتثال كامل.. يحل ما أحلّ الله له، ويحرّم ما حرّم الله عليه، في التزام تام لما رسم من حدود، واتباع كريم لما سنّ من أحكام، وذاق حلاوة الإيمان، واستظل برايته العزيزة وأوى إلى حماه الأمين.. فعز عليه أن يسعد والناس في شقاء، ويطمئن والبشر في قلق، ويروى والخلق في ظمأ قاتل، يجرون وراء السراب؛ فدفعه ما فطر عليه من حب للخير، وما جبل عليه من رحمة أودعها الله فيه، وزادها الإيمان قوة ونماء أن يحمل إلى القلوب زادها، وإلى النفوس ريّها، وأن يزيح عن الأبصار الغشاوة، ثم يقود الخطى على درب السلامة في حب وإيثار، وإنسانية عالية، عميقة الإدراك، مرهفة الشعور، تملك من طاقات العطاء الخيّر، والإحسان الكبير نبعًا ثرًّا لا يَنْفَد، ولايزيده الأخذ منه إلا مزيد فيض، وقوة تفجُّر..

_ 1 البقرة: "151-152".

عن ابن عمرو -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما أهدى المرء المسلم لأخيه هدية أفضل من كلمة حكمة يزيده الله بها هدى، أو يردَّه عن ردى" 1. وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئًا" 2. ب- إن المؤمن منطلق في دعوته إلى الهدى، ونصحه للناس، وبره بهم، من الروح الإيجابية في الإيمان.. هذه الروح التي تأبى أن تكون الهداية مجرد يقظة في فكر الفرد، أو شعور في وجدانه، لا يتجاوز بها صاحبها حدود ذاته، ونطاق نفسه دون أن يؤدي حق هذه النعمة بالدعوة والإرشاد، والقيام بما كلفه الله به من التبليغ الشهادة. إنه يأبى أن يحتجز الخير لنفسه أو لأسرته أو عشيرته أو بني جنسه.. ويوقن أن الأثرة تتناقض مع طابع عقيدته، والسلبية تتنافى مع اتجاه رسالته، ويدرك أن عليه أن يؤدي واجب الشهادة التي قررها الله -تبارك وتعالى- في كتابه الكريم حيث قال: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} 3. وقال: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ} 4.

_ 1 رواه البيهقي. 2 رواه مسلم. 3 البقرة: "143". 4 البقرة: "140".

كما يشعر أنه يحمل على عاتقه تبعات انحراف الناس عن الحق، وسلوكهم درب الشيطان، وانزلاقهم إلى هاوية الضلال، وشعوره هذا يبعث في نفسه الرضا، وفي ضميره الطمأنينة؛ لأنه يسعد بتحقيق ما كلف به من النهوض بمسئولية الخلافة في الأرض، وصون ميراث النبوة الذي حدده -سبحانه وتعالى- بقوله: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} 1. وفي هذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "لأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا خير لك من حمر النعم" 2. ج- إذا كانت هذه الإيجابية -وهي إحدى خصائص دعوة الإسلام وثقافته- تتمثل في دعوة الناس إلى الحق، وحب الخير لهم، والعمل على ما ينجيهم من شقاء العمر، وسوء المنقلب والمصير؛ فإنها -في مداها الأرحب- تطبع المؤمن في أسلوب دعوته بطابع الإحسان والإخلاص، والثبات على المبدأ، والصبر على الأذى، والدأب الذي لا تصرمه الخيبة، ولا يخالطه اليأس مهما بعدت الشقة، وعز المنال، وصعب المسير..؛ لأن الأساس الذي ترتكز عليه هذه الإيجابية، هو التحرر من المطامع وإغرائها، وتقبل المغارم مهما كانت ثقيلة، وقهرُ آفتي الطمع والخوف صفةٌ متلازمة مع منطق الدعوة في التجرد والثبات؛ فعلى المؤمن أن يؤدي واجبه في التبليغ والإرشاد دون أن ينتظر جزاء أو شكورًا؛ بل لقد خشي بعض الصحابة -رضي الله عنهم- أن يكون في ثناء الناس على من يعمل الخير ما يحبط الأجر، أو يخدش قصد العمل. فطمأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- سائله عن هذا ليطمئن نفسًا، وينعم بالًا.

_ 1 النساء: "165". 2 رواه البخاري ومسلم.

عن أبي ذر -رضي الله عنه- قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أرأيت الرجل الذي يعمل العمل من الخير ويحمده الناس عليه؟ قال: "تلك عاجل بشرى المؤمن" 1. والمؤمن لا يعلق عمله على الاستجابة، أو يربطه بالنجاح؛ فهذه أمور لا شأن له بها، ولا يستطيع أن ينالها بمزيد سعيه، ووافر عمله إذا لم تكن مما كتبه الله وقدَّره، وقد نبه الله -سبحانه- نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم إلى هذا في كتابه الكريم ليكون على بصيرة من الأمر. وفي هذا الإرشاد الإلهي درس عظيم للدعاة إلى الله حتى يحذروا الضعف والتردد، ولا يمسهم القنوط إذا لم يجدوا ما يؤملون من نجاح. أو لم يلقوا ممن يريدون الخير لهم إلا الجحود والإعراض، أو الأذى والنكال.. وفي هذا يقول الله عز وجل: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} 2. كما ذكر الله -تبارك- في آيات كثيرة أن مهمة الرسول هي الإرشاد والتبليغ والتذكير فقال سبحانه: {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} 3. وقال: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} 4.

_ 1 رواه مسلم. 2 البقرة: "272". 3 المائدة: "99". 4 المائدة: "92".

وقال: {فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} 1. د- إن الارتفاع إلى مستوى الرسالة، والإخلاص في العمل، ووضوح الغاية، وسلامة القصد، يُزَوِّدُ المؤمن بطاقة عظيمة تحرِّكه للقيام بالواجب، وتهون عليه ما يلقى من المتاعب، وقدوة المسلم في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقد قام بأمر الله يبلغ الدعوة، ويصدع بالحق، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، وينفذ أحكام الإسلام بصدق وأمانة وإخلاص على أكمل الطرق وأتمِّها.. لم يصرفه عن ذلك ما لقي من التحدي والمقاومة والإعراض، ولم توهن السيوف التي سلت في وجهه ووجوه أصحابه من صدق عزيمته وقوة إرادته.. وكان ملاذه الدائم العمل على ما يرضي الله عز وجل، وإن سخط عليه الناس أو نالوه بمساءة وأذى. لقد توجه إلى الله بدعاء خاشع رائع يوم حصبه المشركون في الطائف بالحجارة، وأوصدوا دون دعوته قلوبهم وأسماعهم؛ فقال: "اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، أنت ربي، إلى مَنْ تَكِلُنِي؟ إلى بَعِيدٍ يَتَجَهَّمُنِي؟ أم إلى عدوٍّ ملكتَهُ أمري؟ إن لم يكن بك عليَّ غضبٌ فلا أبالي، ولكنَّ عافيتكَ هي أَوسع لي. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك، أو يحل عليَّ سخطك، لك العتبى حتى تَرْضَى، ولا حول ولا قوة إلا بالله".2

_ 1 آل عمران: "20". 2 رواه الطبراني.

أخلاقية في دعوتها

6- أخلاقية في دعوتها: أ- جاء هذا الإسلام منهج هداية ونور لتصحيح عقيدة البشر، وتهذيب نفوسهم، وتقويم أخلاقهم، وإصلاح مجتمعهم، وتنظيم علاقاتهم، وإشاعة الخير فيما بينهم، ومطاردة الشر والفساد في بيئاتهم، وقطع دابر الفرقة والتناحر بين صفوفهم. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} 1. وفي دعوة الإسلام العامة الشاملة الخالدة روح أخلاقية عالية، تنبثق من جوهر العقيدة، وتشيع في كل عبادة، وترى في كل حكم، وتظهر في كل توجيه، وتلمس في كل تنظيم؛ ولهذا كانت الثقافة الإسلامية دستور الأخلاق، ومنهاج التربية النفسية لرفع الإنسان الذي كرمه الله بتكليفه حمل هذه الرسالة، وأداء هذه الأمانة من حضيض الفساد، وبؤر التمزق والانحراف إلى أوج الصلاح والتماسك والاستقامة. قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} 2. وقد حدد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مهمة بعثته وهو خاتم الأنبياء والمرسلين بهذه الكلمة الرائعة الجامعة: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" 3. وفي هذا دلالة

_ 1 يونس: "57". 2 النحل: "90". 3 رواه البخاري في الأدب، والحاكم، ورواه مالك: "بعثت لأتمم حسن الاخلاق".

كبرى على أن دعوة الإسلام هي وحدها منتهى الخير، وذروة الفضائل، وصفوة الكمال، وخلاصة الأخلاق.. كما أن صاحب هذه الدعوة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان النموذج الأمثل للخلق الرفيع بما حباه ربه من صفات وفضائل تجل عن الوصف، ويضيق عنها البيان، وحسبنا أن نتلوا قول الله -عز وجل- في الثناء على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} 1، لندرك هذا المستوى الكبير من سمو نفسه، ورفعة أخلاقه، ونبل صفاته.. وقد وصفت السيدة عائشة -رضي الله عنها- خلقه بهذا الوصف الجميل: "كان خلقه القرآن"2، وفي هذا تنبيه عظيم، ولفتة ذات دلالة إلى أن أخلاق الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- وهي التطبيق الحي لما في كتاب الله -عز وجل- من فضائل الأخلاق ورفيع الصفات مما يبلغ الغاية في صفاء القلب، ونقاء الضمير، وطهارة النفس، وحسن المعاملة، والصدق والإخلاص في القول والعمل والسلوك. ب- ولما كانت هذه الثقافة تقوم على أصول اعتقادية وتهذيبية وتشريعية تتلاقى جميعًا في منهج تكاملي يصلح من شأن الإنسان، ويعمل على إسعاده في الدنيا والآخرة؛ فإننا نرى أن العنصر الأخلاقي أصيل وواضح في أصول دعوة الإسلام، كما أنه السمة البارزة في سيرة رسولها صلى الله عليه وسلم.. وسيرة الصفوة الرائدة من صحابته رضوان الله عليهم.. وفي هذا التعاون الوثيق والتساند المحكم بين التوجيه والقدوة، والإرشاد والتطبيق، يُشَادُ البناء الأخلاقي على أمتن الأسس، ويبلغ الذروة في القوة والإحكام.. قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} 3.

_ 1 القلم: "4". 2 رواه مسلم. 3 الأحزاب: "21".

ونلمس أثر العنصر في الدعوة الدائمة الملحة إلى الأخلاق الكريمة من أمانة ووفاء، وعدل ورحمة، وبر وإحسان، ووفاء بالوعد، وصيانة للعهد.. والتحذير الدائم من الصفات السيئة كالغدر والخداع، والظلم والاعتداء، والغش والالتواء، وغير ذلك مما تأباه الطباع الكريمة، والنفوس الطيبة. ولا يقف الأمر في هذه الدعوة عند حدود التوجيه والترغيب أو النقد والتحذير؛ بل يتجاوز ذلك إلى التنفيذ والالتزام في التشريع والأحكام؛ لتكون المسئولية الفردية والجماعية أساس الحماية والتطبيق لهذا الجانب الأخلاقي في حياة الأفراد والجماعات، وليكون الروح الحية الفعالة في أعماق ضمائر المؤمنين، والمحور الذي ينتظم سلوكهم في حياتهم الخاصة، وواقعهم الاجتماعي. ولعل الدعوة إلى الاستقامة تحدد معنى هذه الأخلاقية العالية، وترشد إلى الطريق التي تحقق للمؤمنين إنسانيتهم المثلى، وتؤهلهم لحمل هذه الرسالة، وتجعل منهم الأمة الوسط التي اختارها الله؛ لتكون شهيدة على الناس، وهاديةً إلى سواء السبيل، تثبت ببنائها للمعروف، وهدمها للمنكر أنها أهل لتكريم الله لها، واستخلافها في الأرض، وجعلها خير أمة أخرجت للناس. قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُون، نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} 1.

_ 1 فصلت: "30-32".

وقال: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ، أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 1. وقال تبارك وتعالى مخاطبًا نبيه محمدًا -صلى الله عليه وسلم- داعيًا إلى الاستقامة، مبينًا أنها الأمر الإلهي الذي به يصلح كل شأن في الدين والدنيا والآخرة: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْت} 2. وقد كان -صلى الله عليه وسلم- المثل الأعلى في الاستقامة في قوله وعمله وحياته كلها، وكان يأمر بها ويحث عليها، واعتبرها إذا ارتكزت على الإيمان بالله مِلَاكَ دعوة الإسلام: عن أبي عمرو -وقيل أبي عَمْرَة- سفيان بن عبد الله -رضي الله عنه- قال: قلت يا رسول الله: قل لي في الإسلام قولًا لا أسأل عنه أحدًا غيرك، قال: "قل آمنت بالله ثم استقم" 3. ج- ولا شك أن النفس الإنسانية هي مصدر الأخلاق؛ فعنها تصدر الفضائل ومنها تقع الرذائل، وبالتزامها نهج العقيدة، واتباعها سبيل التقوى؛ تتحلى بالخلق الحسن، وتتصف بأنبل الصفات، وبانحرافها عن جادة الإسلام ونأيها عن سبيله القويم؛ تتردى في المهالك، وتغرق في المفاسد والآثام؛ ولذا فقد عرض القرآن الكريم في آيات كثيرة لنفسية الإنسان عرضًا دقيقًا، وصورها في أحوالها المختلفة، حتى يكون

_ 1 الأحقاف: "13-14". 2 هود: "112". 3 رواه مسلم.

المؤمنون على بصيرة من خبايا نفوسهم، ويدركوا مسئولياتهم إزاءها، ويعملوا على تنمية الخير فيها، وتنقية الشر منها، ويتصاعدوا بها إلى آفاق السمو والطهر والنقاء. قال تعالى: {إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا، إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا، وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا، إِلاَّ الْمُصَلِّينَ، الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ، وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ، لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ، وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ، وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ، إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ} 1 ففي هذه الآيات الكريمة تصوير ينبض بالحياة للنفس الإنسانية بما تعانيه من جزع إذا أصابتها الضراء، وما تمارسه من بَطَرٍ إذا مستها النعماء؛ فإذا هي في إحدى حالتيها فريسة القلق الدائم، يمزقها الخوف، ويطبق عليها الهلع.. ثم إذا بها في حالة أخرى مستعلية مستكبرة، ذات أثرة وبطر، يشتد بها الحرص فتجحد النعمة، وتمنع الخير. وهي في الحالين نفس محجوبة عن الخير، بعيدة عن الاستقامة، منحرفة عن الخلق السوي؛ ذلك أنها عاشت في خواء من الإيمان؛ ففقدت الطمأنينة، وجانبت سبيل الرشاد.. وقد استثنى الله -عز وجل- المومنين الذين تمتلئ نفوسهم بالطمأنينة والرضا، فيصبرون على ما يمسهم من ضرر، ويشكرون على ما ينالهم من خير، وحدد ملامح نفوسهم الرضية، وسماتهم الطيبة في العبادة والمعاملة والسلوك؛ فذكر أنهم يؤدون حق ربهم بصلاة دائمة خاشعة، وزكاة معلومة كريمة، وتصديق بيوم الدين، وخوف من عذاب الله.. ثم ذكر -سبحانه- نماذج من أخلاقهم الفاضلة، وختم ذلك ببيان مرتبتهم العالية، وما

_ 1 المعارج: "19-28".

أعد لهم من نعيم وثواب في دار الكرامة والخلود؛ فقال في الثناء على ما فيهم من طهارة وعفة، وصيانة للأمانة، ورعاية للعهد، وأداء للشهادة: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ، إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ، فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ، أُوْلَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ} 1.

_ 1 المعارج: "29-35".

رعايتها للوحدة الإنسانية والمثل العليا

7- رعايتها للوحدة الإنسانية والمثل العليا: أ- إن المعنى الإنساني للثقافة الإسلامية واضح في كل جانب من جوانبها؛ لأنها ثقافة منبثقة عن المفاهيم والمثل الإنسانية العليا في أوسع آفاقها وأسمى أهدفها. ولقد دَرَجَ الباحثون في ثقافات الأمم على تلمس هذا المعنى الإنساني فيما يسود المجتمع البشري من عادات وتقاليد، وضروب المعارف العقلية، ودوائر النشاط الإنساني في شئون السياسة والحقوق والفن، وغير ذلك مما يبذله الإنسان لكي يفهم محيطه ونفسه، ولكي يسيطر بالتعاون مع أمثاله على الطاقات المذخورة في الكون.. وَلَقَدْ حَمَلَ فقدان هذا المعنى الإنساني في الثقافات الوطنية عامةً باحثًا أمريكيًّا "رتشارد ماك كوين" -مستشار وفد الولايات المتحدة في الدورات الأولى والثانية والثالثة للمؤتمر العام لليونسكو- على الدعوة إلى إنشاء نظام إيجابي عالمي يلبي مطامح الشعوب.. مشيرًا إلى أن على هذا النظام أن

يعدل طبائع الشعوب وأوضاعها وعاداتها؛ مستندًا في ذلك إلى المكتسبات العقلية والخلقية، ومبتكرات الأفراد -في الإطار العالمي طبعًا- في ميدان الفكر والعلم والتعبير.. قال في كتاب "أصالة الثقافات" -وهو مجموعة مقالات من مطبوعات اليونسكو- تحت عنوان "موقف الفلسفة تجاه تنوع الثقافات": "يمكن تعريف الثقافات -من ناحية- بكونها أنماطًا ناشئة عن تطور تاريخي -ومن ناحية أخرى- كمجموعة من العادات يعترف بكونها مقبولة في جماعة معينة، كما يمكن متابعة آثارها في كل دوائر النشاط الإنساني كالسياسة والحقوق والفن والدين والمعرفة العقلية بمختلف صورها. إن مثل هذا التعريف لا يتعلق بثقافة وطنية معينة فحسب؛ بل يمكن أن يصدق على جماعة عالمية. وهذا ما يسمح لنا بأن نؤكد أن تنظيم السلام والأمن لا يقتضي توطيد الوضع الراهن، واتخاذ التدابير المؤدية إلى منع الخصومات المسلحة فحسب؛ بل يقتضي إنشاء نظام إيجابي عالمي يلبي بصورة دقيقة مطامح الشعوب؛ ولكن ليس على نظام من هذا النوع -كي يتلاءم على حاجات وموارد الشعوب المختلفة- أن يعكس طبائع الشعوب، أي أوضاعها وعاداتها فحسب؛ بل عليه أن يعدلها أيضًا. ولكي ننشئ هذا النظام العالمي لا بد لنا أولًا من الاستناد إلى المكتسبات العقلية والخلقية وتوطيدها، ومن الضروري كذلك أن نعير انتباهنا لكل مبتكرات الأفراد في ميدان الفكر والعمل والتعبير، وأن ننقدها ببصيرة صافية، وأن نبحث عن الميول والغايات التي تقابلها؛ ذلك أن هذه المبتكرات لا تتعلق بشروط اجتماعية وعوامل سياسية "ملائمة أو معادية" فحسب؛ بل تنشأ آخر الأمر طبقًا لمعاييرها الخاصة، معايير الحكم الخلقي أو الجمالي أو العلمي مثلًا"1.

_ 1 أصالة الثقافات. ص7

وقد صدر في البيان المشترك1 لمجموعة الخبراء المجتمعين بدعوة من اليونسكو لدراسة المشكلات الناشئة عن الاتصالات والعلاقات بين الحضارات في العالم الراهن ما يلي: "إن جامعة عالمية في المثل العليا تنبجس ببطء، ويمكن أن تكون أساسًا للمنظمات السياسية والمبادلات الاقتصادية الدولية؛ فإذا توصلت الأمم إلى أن تتفاهم، حلت الثقة محل الخوف والتوترات، وأصبح من الممكن -في إطار قيم مفهومة ودوافع معروفة- أن يتوصل التعاون الاقتصادي والاتفاق السياسي إلى نهاية موفقة حقيقية؛ أما إذا أغفل هذا الإطار الثقافي، أو حطمته سرعة التبدلات التي تهدد التطور وتكييف القيم؛ فإن التقدم المادي والمصالح الخاصة تكون معرضة هي الأخرى للخطر". ويختم البيان المشترك بالإلحاح على التعاون -في إطار اليونسكو- لتكوين النزعة الإنسانية فيقول: "إن مشكلة التفاهم الدولي هي مشكلة علاقات بين الثقافات؛ فمن هذه العلاقات بين الثقافات يجب أن ينبثق مجتمع عالمي جديد قوامه التفاهم والاحترام المتبادل. وهذا المجتمع يجب أن يأخذ صورة نزعة إنسانية جديدة يتحقق فيها الشمول بالاعتراف بقيم مشتركة تحت شعار تنوع الثقافات". وبعد أن يشير البيان إلى أن مثل هذا المجتمع لا يمكن أن تحققه الأمم بوساطة وزارات للاستعلامات أو إدارات للعلاقات الثقافية يقول: "أما منظمة دولية مثل منظمة اليونسكو؛ فإنها قادرة على أن تدعو جميع

_ 1 أصالة الثقافات ص423 تحت عنوان "إنسانية الغد وتنوع الثقافات". ولم يذكر في البيان تاريخ صدوره ولم يحدد مكان الاجتماع في الترجمة العربية.

قوى التربية والعلم والثقافة إلى تكوين نزعة إنسانية كهذه؛ وذلك بالكشف عن قيم ومعانٍ مشتركة، تحت التعبيرات الخاصة، إن قيام تفاهم دولي ونزعة إنسانية جديدة، هو -من جهة- ضروري لنجاح التلاؤمات السياسية، كما أن هذا التفاهم وهذه النزعة الإنسانية الجديدة هما -من جهة أخرى- عنصران مهمان في مواصلة السعي إلى المعرفة، وفي إنضاج القيم الثقافية، وفي فن الحياة الطيبة.. هذا الفن الذي تعد المؤسسات الاقتصادية والسياسية تحضيرًا له وأساسًا"1 ب- إن الدعوة إلى نظام عالمي يعدل طبائع الشعوب بمكتسباتها العقلية والخلقية -كما ينادي بذلك رتشارد ماك كوين- والمناداة بإنشاء جامعة عالمية في المثل العليا لتكوين النزعة الإنسانية على أيدى قادة التربية والعلم والثقافة برعاية منظمة اليونسكو. إن مثل هذه الدعوة العجيبة التي لا يمكن أن تجد سبيلها إلى التطبيق بحال، والتي تعد ضربًا من أحلام الفلاسفة، تؤكد أن هذه النزعة الإنسانية -وهي إحدى سمات ثقافتنا الإسلامية- تشغل أذهان المفكرين ورجال الثقافة لدى الأمم في عصرنا الحاضر، ويحاولون جاهدين أن يعثروا عليها بعد أن فقدت تمامًا في هذه الحضارة المادية التي عصف تيارها المدمر بكل القيم الخيرة والمثل العليا. إن النزعة الإنسانية لا يمكن أن تتحقق؛ إلا إذا اعتبرت شخصية الإنسان السوية وحدة متماسكة، تبنى على أساس عقيدة واحدة؛ فلا تصدر إلا عنها، ولا تستلهم في الشعور والسلوك سواها، ولا تستهدي في مواجهة الكون والحياة إلا وحيها، ولا ترجع في كل صغيرة وكبيرة إلا إلى توجيهها.."والعقيدة الإسلامية هي المثال الواحد الذي عرفته الإنسانية في تاريخها الطويل في هذا المجال؛ إنها العقيدة التي تتسع فتشمل كل نشاط الإنسان في كل حقول الحياة؛ فلا تقتصر مهمتها على حقل

_ 1 المرجع السابق ص425-426

دون حقل، ولا على اتجاه دون اتجاه. إنها لا تدع ما لقيصر لقيصر، وما لله لله، فما لقيصر؟! وقيصر ذاته في العقيدة الإسلامية كله لله، وما لقيصر حق ليس للفرد من رعاياه. وإنها لا تتولى روح الفرد وتهمل عقله وجسده، أو تتولى شعائره وتهمل شرائعه، أو تتولى ضميره وتهمل سلوكه، وإنها لا تتولاه فردًا وتهمله جماعة، ولا تتولاه في حياته الشخصية وتهمل نظام حكمه أو علاقات دولته؛ إنها الفكرة الكاملة الشاملة التي تمتد خيوطها في الحياة الإنسانية امتداد الشرايين في الكائن الحي وامتداد الأعصاب"1 ج- ثم إن هذه السمة المميزة لثقافتنا في وحدة العقيدة "تطبع كل الأسس والنظم التي جاءت بها حضارتنا؛ فهناك الوحدة في الرسالة، والوحدة في التشريع، والوحدة في الأهداف، والوحدة في الكيان الإنساني العام، والوحدة في وسائل المعيشة وطراز التفكير؛ حتى إن الباحثين في الفنون الإسلامية قد لحظوا وحدة الأسلوب والذوق في أنواعها المختلفة: فقطعة من العاج الأندلسي، وأخرى من النسيج المصري، وثالثة من الخزف الشامي، ورابعة من المعادن الإيرانية، تبدو رغم تنوعها وزخرفتها ذات أسلوب واحد، وطابع واحد"2؛ فلا غرو بعد أن تكون ثقافتنا الإسلامية من بين ثقافات الأمم كلها: "إنسانية النزعة والهدف، عالمية الأفق والرسالة، فالقرآن الذي أعلن وحدة النوع الإنساني رغم تنوع أعراقه ومنابته ومواطنه في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} 3

_ 1 سيد قطب: "السلام العالمي والإسلام" ص9. 2 الدكتور مصطفى السباعي: "من روائع حضارتنا" ص31. 3 الحجرات:"13".

إن القرآن حين أعلن هذه الوحدة الإنسانية العالمية على صعيد الحق والخير والكرامة جعل حضارته عقدًا تنتظم فيه جميع العبقريات للشعوب والأمم التي خفقت فوقها راية الفتوحات الإسلامية؛ ولذلك كانت كل حضارة تستطيع أن تفاخر بالعباقرة من أبناء جنس واحد، وأمة واحدة؛ إلا الحضارة الإسلامية فإنها تفاخر بالعباقرة الذين أقاموا وحدتها من جميع الأمم والشعوب"1 ثم إننا نلحظ التركيز على هذا المعنى الإنساني الخير الذي قامت عليه شريعة الله -تبارك وتعالى- لتحقيق مثل العدل والرحمة ومصالح البشر جميعًا، وسعادتهم الكاملة؛ كلما تعمقنا في فهم هذه الشريعة وأحكامها التي تبني الحق وتدور معه، وتقيم الوجود البشري على الحكم والمصالح العامة والعدل والرحمة وكل المثل الإنسانية العليا. قال الإمام ابن القيم: "إن الشريعة مبناها وأساسها على الحِكَمِ ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، وحكمة كلها؛ فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور.. ومن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث؛ فليست من الشريعة -وإن دخلت فيها بالتأويل- فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه؛ فهي بالحياة والغذاء والدواء والنور والشفاء والعصمة، وكل خير في الوجود فإنما هو مستفاد منها، وحاصل بها، وكل نقص في الوجود فسببه إضاعتها؛ فالشريعة التي بعث الله بها رسوله هي عمود العالم، وقطب الفلاح والسعادة في الدنيا وفي الآخرة"2.

_ 1 الدكتور مصطفى السباعي: "من روائع حضارتنا" ص31. 2 ابن القيم: "إعلام الموقعين" 3 ص1.

الفصل الثالث: الثقافة الإسلامية والقوى المعادية

الفصل الثالث: الثقافة الإسلامية والقوى المعادية معركة الإسلام في الحياة معركة تصحيح شامل دائم ... معركة الإسلام في الحياة معركة تصحيح شامل دائم: 1- من طبيعة الإسلام -عقيدة وحركة- أنه في معركة مستمرة ذات جوانب متعددة.. فهو في معركة مع الانحراف عن التوحيد ترمي إلى تحرير العقول من الشك والشرك، والخرافة والوهم، والجمود على موروثات الباطل، وتقليد الآباء في الضلال، وهو في معركة مع النفوس والضمائر ترمي إلى إقامتها على منهج الفطرة السوي.. في صفائه وطهره، ونقائه ونوره، حتى لا تستبد بها الأهواء، ولا تستغرقها الشهوات، فتشدها إلى تراب الأرض، وتكبلها بأغلال الحياة، وتنأى بها عن السمو إلى أرفع الآفاق. وهو في معركة مع الأوضاع الفاسدة.. في علاقات البشر، وشئون الحكم والتربية، ونظم الاجتماع والاقتصاد، وسائر ضروب النشاط الإنساني. إن الإسلام في معركة عامة شاملة دائمة، ليس القتال إلا بعض صورها ووسائلها، فإذا كانت المشاعر تتجه في بعض المواقف إليه، وإذا كانت النفوس تندفع في بعض المواطن طلبًا لخوض ميادينه، فليس مرد الأمر في ذلك المشاعر الملتهبة أو النفوس المتوثبة، فقد يكون

في ثورة المشاعر والنفوس في غير الموطن المناسب ما يلحق الأذى بالجماعة، ويمكن للعدو من الظفر والانتصار.. إن التصور الصحيح لطبيعة معركة الإسلام لا يدع جانبًا من جوانب الانحراف دون أن يخوض معه أبناء هذه العقيدة صورة من صور المعركة التي تتسم -حينًا- بتقويم الفكر، ورده إلى أصالته، وبنائه على أمتن الأسس وأرسخ الدعائم.. كما تتسم -تارةً- بمطاردة مفاهيم الانحراف، وأوضاع الفساد، لتهذيب النفوس، وتطهير الضمائر، والسمو بالأخلاق، وإصلاح المجتمع، وقطع دابر الفرقة والتناحر بين الصفوف، وإنقاذ البشر من الفوضى والاضطراب، والتشرد في سبلٍ ملتويةٍ لا تؤول بسالكيها إلا إلى الضياع والتمزق والدمار.. إنها معركة تصحيح جذري كامل لما كانت عليه حياة الناس في قبضة الجاهلية وأوضاعها السيئة، وتقاليدها المدمرة، وأحكامها الملتوية.. من ضلال في العقيدة، وانحلال في الخلق، وضياع لمقومات الوجود الإنساني، وعدوان على الضعفاء وهدر للحقوق، وإزهاق للنفوس. 2- وإذا عرف المسلمون أن الإسلام يكلفهم درء الفتنة عن الدين، وحماية الحق من عبث العابثين، واستئصال جذور الشر من حياة البشر، وصيانة قيم الخير في الأرض، وإتاحة الفرصة للبشرية أن تنعم بظلال المبادئ السمحة الخيرة في كل ميدان من ميادين الحياة.. إذا عرفوا ذلك أدركوا بحقٍ أن عليهم أن يكونوا دائمًا على أتم أهبة، وأكمل استعداد، لمقاومة البغي، ومقارعة الظلم، ومنازلة قوى الشر، حتى لا تستذل الرقاب، ولا يشتد ساعد الباطل، ولا ينال من المسلمين عدو مهما كان من دينهم أو كرامتهم أو ديارهم. ولعل هذا هو الفرق العظيم بينهم وبين أعدائهم.. فهم إنما يخوضون معركتهم في سبيل الله، لا يبغون أن

يتملكوا رقاعًا من الأرض، أو يستولوا على مرافق غنية بالثروات، أو يستعمروا شعوبا لتسخيرها لمآرب مادية أو مطامع عدوانية.. فذلك كله في مقياس الإسلام ظلم وعدوان يتنافى مع شريعة الله التي تأبى الاستعمار والاستغلال، وتعمل على سيادة مبادئ العدالة والحرية وكرامة الإنسان. قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفا} 1. وقد بين -سبحانه وتعالى- أن الجهاد في سبيل الله هو التجارة الرابحة التي لا تعدل ربحها مغانم الأرض مهما بلغت، فهي التي تنجي من العذاب الأليم وتؤدي إلى العزة في الدنيا والسعادة في الآخرة، وغفران الذنوب، والفوز برضا الله وثوابه العميم. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ، تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ، وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} 2.

_ 1 النساء: "76". 2 الصف: "10-13".

3- وثمة حقيقة أخرى تلفت إليها معركة الإسلام الدائمة في الحياة، وهي أن الناس اليوم حيارى تائهون تفترسهم ضلالات الجاهلية الجديدة، وتتحكم بهم أباطيل زائفة، وأوضاع ملتوية، ويعانون ترديًا خطيرًا في كل شأن من شئونهم..؛ ذلك لأنهم يفتقدون العقيدة الحقة التي تحفز إلى الخير، وتردع عن الشر، وتعالج مشكلاتهم، وتحسم أزماتهم، وتنبثق عنها النظم السليمة، والأخلاق الكريمة، والحركة الحية الفاعلة.. لا بد لهم من هذه العقيدة التي تنقلهم من حياة الفراغ الفكري، والضياع النفسي، والتمزق الاجتماعي.. إلى حياة أخرى جديدة تملأ عقولهم بالفكر النير، ونفوسهم بالخلق الرضي، ومجتمعهم بالتماسك والنظام. فَمَنْ لهذه العقيدة يحمل أمانتها، ويخوض معركتها. ويرفع رايتها غير أبنائها؟ إن طبيعة رسالتهم، وحقيقة وظيفتهم، توجب عليهم أن لا يكونوا في عزلة عن سير الحياة، فلا يليق بهم أن يعيشوا على هامشها، أو ينأوا عن معركتهم فيها، فثمة اليوم نظم وتيارات، ومذاهب واتجاهات، ينبغي أن نحدد موقفنا منها على هدي من نور الله، وعلى بصيرة من شريعتنا الغراء، فقد كان لنا في الماضي دور كبير خطير، في توجيه الإنسانية، وقيادة ركبها، وتقويم حضارتها، وكانت أسس عقيدتنا. ومبادئ شريعتنا، الحَكَمَ الأول في قبول أو رد معطياتها، فأجازت الصالح منها وتبنته ودعت إليه، وردت الفاسد الضار ونبذته وقضت عليه، وكانت أمتنا -في تفاعلها هذا مع معركة الحياة- تعطي وتأخذ في غير ضعف ولا استخذاء، مارست وظيفتها في الهداية والقيادة والإصلاح دون أن تغير من مفاهيمها؛ لتنطوي في مفاهيم غريبة عنها، أو تبدل من مناهجها لتذوب في مناهج دخيلة عليها، بل كانت شخصيتها المتميزة تعصمها من أن تؤخذ بسحر الجديد مهما بلغ بريقه،

أو تندفع مع التيار مهما بلغت شدته.. لم تقف تائهة مبهورة لا تدري أي طريق تسلك، أو تجمد مأخوذة حائرة لا تعرف ماذا تدع، وماذا تأخذ، بل خاضت معركتها بحزم وصبر وصدق وثبات، ونظرت في حضارات الأمم التي سبقتها أو عاصرتها، فأخذت منها وتركت، وأجازت ومنعت، ورفعت وخفضت من غير تأرجح أو اضطراب، ودون تخبط أو اهتزاز، وبلا جموح أو تفريط، وكانت في مواقفها كلها منسجمة مع المنهج الرباني، محتفظة بمقومات شخصيتها الإسلامية: عقيدة وعبادة، وسلوكًا ونظامًا، فهدت الركب الإنساني إلى الطريق السوي، وحذرته من المزالق، وبصرته بالعثرات، وأنقذته مما كان غارقا فيه من الفوضى والقلق والانهيار. في ضوء هذه الحقيقة ينبغي أن يخوض أبناء هذه العقيدة معركتهم في كل جانب من جوانبها، ليواجهوا ما تُرْمَى به دعوتهم من غزوات، وما يقام في طريقها من عقبات، وما تواجه به من تحديات، معتصمين بجبل الله، واثقين بأحقية مبادئهم، وصحة مقاييسهم، ورائدهم في ذلك اتباع أمر الله، والسعي لما يحبه ويرضاه، ودليلهم تاريخ زاهر وضيء، حافل بالمكرمات، زاخر بالبطولات، وحسبهم في خطة السير، وروعة المنطق، وسمو الهدف قول الله تبارك وتعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ، وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ

وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ، أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} 1.

_ 1 المائدة: "48-50".

معركة تحديات وتبعات

معركة تحديات وتبعات: 1- إن لنا نحن -المسلمين- في هذه الحياة قضية كبرى نخوض على أساس منها معارك متعدد الجوانب، ليس القتال الدامي -كما أسلفنا- إلا أحد جوانبها، وبعض صورها.. وهي معارك مفروضة علينا بضغط من المجتمع الجاهلي والقوى المعادية التي لم ينقطع تحديها عبر العصور، ولا يختلف جوهر التحدي وهدفه من زمن إلى زمن، وإن اختلفت صوره وأشكاله وأسلحته. ومن الواضح أن وجوه معركة التحدي المعاصرة ترمي اليوم كما رمت التحديات في القديم إلى استصال العقيدة الإسلامية، والقضاء على الوجود الإسلامي الصحيح، وتقويض المقومات الأساسية للشخصية الإسلامية؛ ولذا فإن المعركة لصد التحديات، ومقاومة العدوان، وإحباط الأهداف الخطيرة، توجب علينا أن نخوضها من جميع وجوهها وجوانبها.. كما خاضتها أمتنا في فجر الدعوة وفي فترات مضيئة من تاريخها.. مع ملاحظة اختلاف الخطط والأساليب، وصور التحدي وأشكاله، وما يقتضي التصدي له من أهبة تامة، واستعداد كامل، وأخذٍ بالوسائل الناجحة، والأساليب المجدية.

إن الوجوه لمعركتنا اليوم كثيرة منها: السياسي والفكري، ومنها النفسي والخلقي ومنها الاجتماعي والاقتصادي.. ولكل واحد من جوانب هذه المعركة خطط وأسلحة، منها الظاهر والخفي، وبعضها هجومي وآخر دفاعي، تحشد لها منا ومن أعدائنا كل القوى والطاقات، ويجري التسابق لتحقيق الظفر والانتصار، وواضح أن محور كل معركة إنما يستند إلى البناء والهدم.. بناء الكيان الذاتي وتحصينه، وتوفير أسباب القوة والمنعة له، وهدم الكيان المعادي وتقويضه، بالعمل على إضعاف قوته، وتمزيق وحدته. 2- وإن قضيتنا الأساسية الأولى التي دارت وتدور حولها كل المعارك في شتى صورها وأشكالها.. هي أننا منذ أكرمنا الله بالهداية فآمنا بالإسلام عقيدة وعبادة، وتشريعًا ونظامًا، ومنهجًا متكاملًا للحياة، وطريقًا لتحرير الإنسان من طغيان الجاهلية التي أذلت كرامته، وأهدرت إنسانيته.. منذ ذلك الحين هاج الشر وثارت عواصفه، وتحركت قوى الفساد والطغيان؛ لتعمل على كل جبهة وفي كل ميدان وتلاحقت معارك الصراع عبر العصور، وتتابعت موجات الحقد والعدوان عارمة عاتية ترمي -بمكر وغدر وضراوة- إلى تدمير صرح الإسلام بتقويض ركائزه، ودك قواعده، بمختلف الأسلحة، وشتى الأساليب.. حتى يتسنى لها التسلط والاستعباد، والتصرف بأوضاع البشر بمعزل عن المنهج الإلهي.. منهج السعادة الكاملة، والطهر الخالص، والعدالة التامة، والحضارة الخيّرة المثلى.. وقد سجل القرآن الكريم كثيرًا من مواقف الشر والفساد، وصوّر نماذج من بغيهم ومكرهم وأذاهم، ورسم الملامح البارزة لوسائلهم وأهدافهم بهذه الآية الكريمة: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ، وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي

الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} 1 تلك هي قضيتنا الأساسية الأولى، وتلك هي أبعاد المعركة التي نخوضها في الحياة، وهي معركة الوجود الحق عقيدة وفكرًا ومجتمعًا وأمةً.. وحضارةً ونظامًا.. ومعركتنا هذه ليست ميدانها -دائما- ساحات القتال، وليست أسلحتها -في كل الظروف- الحديد والنار، والعدو فيها -أحيانًا- خفي مستور، يتوارى خلف فكرة في سطور، فيزرع في القلوب بذور الانحراف، وينشر في الضمائر ضباب الفساد، ويتسلَّل بذلك إلى أكثر المواقع منعةً وقوةً، ويجردها من روح الصمود ويتركها بعد ذلك هدفًا مكشوفًا للسحق والتدمير.. 3- وإن من حق قضيتنا علينا: أن نكون أولاً في مستواها الرفيع، وجنود معركتها الأوفياء.. إنها معركة الإيمان الذي حقق لهذه الأمة وحدتها، وحدد لها رسالتها، ونظم لها حياتها.. هذا الإيمان الذي تحررت في ظلاله أمم وشعوب، وفتحت دول وأمصار، وعرف الإنسان به نفسه فهذبها بالخلق، وفكره فصقله بالعلم، وروحه فأحياها بالتقوى، فإذا بالمسلم -كما رباه المنهج الإلهي- طاقة حية تخضع لله، وتعيش للحق، وتموج بالنور، وتختفي من وجودها عناصر الشر، وأشباح الضلال، وتنشر في الدنيا مبادئ العدل والمساواة والسلام.. فيجب أن نكون مؤمنين إيمانًا لا يلمع في قلوبنا كلمعان السراب، ولكنه يتفجر منها كما يتفجر من جبهة الشمس نبع النور المشرق الوضاء. إنها معركة فكر.. والفكر البشري قد تقدم اليوم وارتقى، وقطع

_ 1 البقرة: "204-205"

أشواطًا في الكشف والاختراع بعيدة المدى، ولكنه في جموح بعض جوانبه، وغرور طائفة من رجاله، جاوز وظيفته في البناء إلى التخريب حين أقصي من منطلق حركته سنة الله في الكون، وحكمته في الحياة، وفطرته في الإنسان.. فَضَلَّ وتاه.. وأصبح بذلك داءًا قائلاً بدل أن يكون الدواء النافع، وانقلب نارًا محرقة بدل أن يكون النور الساطع.. قال تعالى: {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} 1

_ 1 غافر: "35".

المعركة وأصالة البناء الثقافي

المعركة وأصالة البناء الثقافي: 1- ولا بُدَّ لنا من أن نقيم بناءنا الثقافي على ركيزة الأصالة حتى يكون واضح السِّمَةِ، معروف النسب، موصلًا بعقيدتنا الحقة، ومبادئنا السامية، وشخصيتنا المتميزة، وقيمنا الخالدة.. وأن نقومه تقويمًا عميقًا ونحرره من أخلاط الثقافات المسمومة، ورواسب الغزو الفكري الدخيل.. حتى يكون عطاؤه السخي حقًا خالصًا، وعلمًا نافعًا، وعمرانًا دائمًا، وإبداعًا حضاريًا يسير في ركب الإيمان والحق والعدالة والحرية.. ودعامة الأصالة الثقافية للأمة الإسلامية هي الفهم الصحيح لكتاب الله عز وجل، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والتفقه في الدين، واستيعاب التاريخ الإسلامي، وحل المشكلات المعاصرة للمجتمع الإسلامي من

خلال تحكيم شرع الله -تبارك وتعالى- تحكيمًا كاملاً من غير تأويل تمليه الأهواء، أو تحمل عليه نزعة الانهزام الفكري والنفسي أمام التيارات المعادية الطاغية.. ولا تتحقق هذه الأصالة إلا بالإحاطة الشاملة بالإسلام عقيدة وعبادة وتشريعًا وخلقًا، "وإن أكبر نكبة أصيب بها المسلمون اليوم هي أنه ليس فيهم التفقه في الدين، والتدبر في الكتاب والسنة، وهذا هو الذي زعزع أركان عقائدهم، وجرد أعمالهم عن الروح، وشتت شملهم، وخيب مساعيهم، ودفع حياتهم في الفوضى. لا ريب أن فيهم عددًا كبيرًا يعشقون الإسلام، ولكن الذين يستطيعون فهمه منهم هم نزر يسير. ومن نتائج هذا الجهل والفوضى أن الذين يدَّعون الإسلام ويزعمون أنفسهم مسلمين، يوجد فيهم أشنع ما يكون من أنواع الأوهام، وعقائد الشرك، بل هم يعتنقون مبادئ ونظمًا تدعو صراحة إلى الإلحاد والكفر بالله، ولا يشعرون بأن الإسلام الذي يدَّعُون اتباعه لا يتلاءم أبدًا مع هذه الأفكار، وأن بينه وبينها ما بين السماء والأرض"1 2- وإذا أردنا للأصالة أن تكون مكتملة الوجود في حياتنا الثقافية فلا بد لنا من التفريق -في علاقاتنا مع الغرب- بين الأشياء والأفكار، والتمييز بين المظاهر والحقائق، ووعي الغايات من خلال الوسائل، والحذر من السقوط في وثنية التقدم التي تردى فيها الغربيون، بعد أن جعلوا الدين معزولاً عن الحياة، ووضعوه في أبعد مكان في مؤخرة الأحداث.. فهذا هو التقليد المردي الذي يفقد الأمة الإسلامية أصالتها في الميدان الثقافي. ولسنا نعني "أن المسلمين لا يستطيعون أن يفيدوا

_ 1 انظر: "الإسلام في مواجهة التحديات المعاصرة" تأليف: أبي الأعلى المودودي ص16.

كثيرًا من الغرب وبخاصة في مجالي العلوم والفنون الصناعية؛ ذلك أن اكتساب الأفكار والأساليب العلمية ليس في الحق "تقليدًا" وبالتأكيد ليس في حالة قوم يأمرهم دينهم بطلب العلم حيثما يمكن أن يوجد. إن العلم لا غربي ولا شرقي ذلك أن الاكتشافات العلمية ليست إلا حلقات في سلسلة لا نهاية لها من الجهد العقلي الذي يضم الجنس البشري بكامله. إن كل عالم يبني على الأسس التي يقدمها له أسلافه، سواء كانوا من بني أمته أو من أبناء أمة غيرها، وعملية البناء والإصلاح والتحسين هذه تستمر وتستمر، ومن إنسان إلى إنسان، ومن عصر إلى عصر، ومن مدينة إلى مدينة؛ بحيث إن ما يحققه عصر معين أو مدنية معينة من أعمال علمية جليلة لا يمكن مطلقًا أن يقال إنها تخص أو تعود إلى ذلك العصر أو تلك المدنية"1. وبعد.. فإنّ قضيتنا ليست موجةً عابرة على سطح الحياة، تعبث بها الأنواء ويدفعها مَدُّ الأحداث، ويحسرها بعد ذلك جزرها.. حتى تتكسر على الشاطئ وتضمحل ويطول بها الفناء.. بل روح الحياة، وشعلة الهدى، ومعقد الرجاء، وهي أمانة الله، ودعوته إلى البشر، حملها الجيل المثالي الرائد من الأجداد بقوة وصدق وإخلاص، فنشر رايتها في شرق الأرض وغربها، وخط بالدم الزكي الطاهر حدود هذا العالم الإسلام الكبير.. وجيل أمتنا اليوم مدعو إلى أن يكون أكثر -مما هو عليه- إيمانًا بقضيته، وإحاطة برسالته. ووعيًا لمقوماته، وأشد حرصًا على أن أن يتزود بالإيمان، ويتسلح بالفكر؛ ليخوض المعركة بثقة وعزيمة وثبات، ويطل على الدنيا من جديد، ويقول للتائهين السادرين: هذا هو الطريق {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} 2

_ 1 محمد أسد: "الطريق إلى الإسلام" ص377. 2 الحج: "40".

طبيعة المعركة وصور العداء

طبيعة المعركة وصُوَر العَداء المعركة في ماضيها وحاضرها: 1- حين انبثق نور الدعوة الإسلامية في فجرها الزاهي المشرق لقيت من أعداء الحق عتاة الجاهلية ورءوس الضلال ألوانًا شتى من التكذيب والسخرية، والتحدي والعدوان، فقد أخذتهم العزة بالإثم، وشق على نفوسهم المستكبرة أن تهز هذه الدعوة من القواعد مواريث الباطل، الذي كانوا يرتكزون إليه، ويصدرون في سلطانهم عنه، ويتحكمون باسمه في رقاب العباد، ويعيثون في الأرض الفساد.. فاندفعوا يسومون المؤمنين سوء العذاب، ويشنون عليهم حملات عاتية من البغي والإيذاء، وأغراهم بالتمادي في طغيانهم أنه لم تكن للمسلمين في بدء دعوتهم منعة وقوة وسلطان، فلم يكن ثمة ما يحملهم على أن يطامنوا من كبريائهم وعنفوانهم المغرور، إذ لم تكن للمسلمين آنذاك سلطة مطاعة، أو قوة مرهوبة.. ولكنّ ما شهدوه من صمود المؤمنين وصبرهم وثباتهم جلعهم يدركون أن الإيمان بالله والانضواء تحت راية الاسلام، قد زوَّد هؤلاء المسلمين بقوة عجيبة لا تغلب، وعزيمة خارقة لا تلين.. وروح لا تعبأ بالعدوان، ولا تخضع للطغيان.

لم يكن موكب الهداية يعبأ بما كان يلقى من أعدائه من عنت وشدة وعدوان، ولم يتح أي فرد في هذا الموكب الطاهر العظيم لهؤلاء الأعداء فرصة النيل من دعوته بموقف ضعف أو مهانة واستخذاء، وكانت قوة الإيمان هي تلك الدرع التي تنبو عنها الضربات مهما اشتدت.. بل لقد جعلت الأعداء على مثل اليقين أن معركتهم خاسرة وإن كانوا يملكون من القوى المادية ما يجعلهم أكثر تفوقًا ورجحانًا.. ولكن قوة الإيمان كانت تؤذن الباطل بنهايته، وتنذره باندحاره. فهي -في ميزان القوى- القوة الكبرى التي لا تعرف الهزيمة والضعف والاستسلام ومن شأنها إذا امتلأت بها القلوب وتحركت بها العزائم، أن تلجئ الأعداء إلى الانكفاء والضمور.. فالإيمان في مدِّه الكبير هو وحده صانع البطولات. 2- ثم إن المعركة بين دعوة الإسلام والزائغين عنها المقاومين لها هي معركة دائمة الاحتدام، عنيفة الصراع، مشبوبة الأوار تجري اليوم -كما جرت من قبل- على جبهة واسعة عريضة، والأعداء فيها أصناف شتى، ولهم في الوصول إلى أهدافهم المعادية وسائل متنوعة متعددة، وهم على اختلاف أشكالهم وتعدد أسلحتهم دائبون في الحرب المكشوفة والمستورة، بمكر ودس وتآمر وتصادم، يرمون بحقد ولؤم إلى تحطيم هذه الدعوة، وتمزيق وحدة المسلمين، وصد الناس عن اتباع الهدى، ووقف التيار المشرق الزاخر بالإيمان عن أن يبلغ أهدافه الطيبة الكريمة في حياة البشر. لقد كانوا يعلمون -من قبل- على ما بينهم من تنافر وخلاف إلى غاية واحدة: وهي القضاء على الإسلام، واستئصال شأفة المسلمين، فقد واجه المشركون -مثلاً- دعوة الإسلام بالإعراض والتحدي

والعناد والاستكبار، ولم يكونوا يصدرون في موقفهم ذلك عن أي أثارة من علم، أو مسكة من منطق، بل لم تكن لديهم شبهات يثيرونها، أو مسائل يناورون بها، وكل ما كانوا ينطلقون منه هو اتباع الآباء وتقليد الأجداد، والجمود على هذا الميراث الفاسد والركام التافه من أساطير الجاهلية وطوفان الوثنية. أما موقف أعداء الإسلام من أهل الكتاب -وبخاصة اليهود- فلم يكن من حيث النتيجة يختلف عن موقف المشركين، وإن أخذ جحودهم وإعراضهم صورًا أخرى تتسم بالإفك والتزوير، ونشر الشبهات، وبث المفتريات، وقد كانوا متناسقين في خططهم الماكرة؛ وتشكيكهم وتآمرهم مع المشركين في عدائهم المكشوف، وأسلوبهم الأرعن.. لقد كان الفريقان يصدران عن نزعة واحدة هي الحقد العنيف والعداوة والبغضاء، ويساند بعضهم بعضا، ويتعاونون على الأثم والعداون.. ولم يختلف شأنهم اليوم عما كان عليه موقف من سبقهم من أعداء الأمس، إنهم -وإن تغيرت منهم الأسماء والسمات، والمذاهب والنزعات- الأعداء الألداء لنا ولدعوتنا، لايتفقون -إذا اختلفوا- إلا على حربنا وكراهيتنا، ومحاولة القضاء علينا. 3- ومن وقائع تاريخنا الإسلامي حول طابع العلاقات التي كانت قائمة بين الجماعة الإسلامية في بدء تكوين مجتمعها الفريد، وإقامة دولتها الفاضلة.. أن بعض المسلمين كانوا -انطلاقا من روحهم الطيبة، وسريرتهم الصافية، ووفائهم بعهدهم- ما يزالون مخدوعين بمن كان يعيش بين ظهرانيهم في تلك الفترة من مخالفيهم في الدين من اليهود وغيرهم.. ممن أظهر الموادعة والمسالمة، ودخل في ذمة المؤمنين، ولكن الحقيقة التي كشفت عنها الوقائع فيما بعد، ودلت عليها التجارب التي تشي بما تنطوي عليه النفوس.. أكدت أن هؤلاء المتظاهرين بالود

وحسن التعايش وصدق التعامل، لم يكونوا سوى نماذج سيئة في الدس واللؤم والمكر.. بما قاموا به من ضروب الفتن وحبك الدسائس والمكر الخفي، بل كان لهم في مهمتهم الخبيثة أعوان من المنافقين الذين تظاهروا -كذباً وزورا- بأنهم مؤمنون؛ ليتاح لهم -من خلال تظاهرهم الكاذب- أن يمارسوا مهمة تمزيق الجماعة الإسلامية، وتفريق صفوفها، وهدم دولتها، وصد الناس عن الاستجابة لدعوتها. لم يكن المسلمون جميعا -والأمر ما يزال في أوله- على معرفة تامة بحقيقة هؤلاء الأعداء الحاقدين، الذين يجاورونهم ويعيشون فيما بنيهم، فربما أفضى إليهم بعض المؤمنين بالمودة، أو اتخذ منهم بطانة وأصحابًا اغترارًا بظاهرة حالهم ومعسول كلامهم. إزاء هذا الواقع جاء المنهج الإسلامي يحذر المؤمنين من موالاة هؤلاء الأعداء، واتخاذهم بطانة وأصدقاء.. فهؤلاء لا يصلحون أن يكونوا كذلك، وهم لا يقصرون في أي عمل يسبب للمؤمنين الفتنة والفساد والتشويش، ويتمنون لهم كل عنت ومشقة وسوء.. وإذا لم تظهر علامات البغض والكراهية على ألسنتهم، فإن قلوبهم تتميز غيظا بالحقد على المسلمين لما يرون من ائتلافهم واجتماع كلمتهم.. وصلاح ذات بينهم.. 4- وإن من طبيعة المنحرفين عن المنهج الإلهي، الذي جاءت به دعوة الإسلام هدىً وحقًا ونورًا، أن يقفوا من قواعده الخيرة، ومقاصده السامية، موقف التحدي والعداء، وأن يحاولوا -بكل ما لديهم من وسائل- أن يوقفوا تحركه نحو صدّ غلواء الباطل، وكبح جماح الشر، وتحطيم كبرياء الهوى.. فهذه هي ركائز انحرافهم، وقواعد فسادهم، فإذا تحطمت وانهارت كان وجودهم كله على شفا جرف هارٍ. وكان مآلهم في خاتمة المطاف إلى الهلاك والدمار.. فهم إنما يصدرون -في الحقيقة-

عن نزعة الدفاع عن هذا الوجود الفاسد المتهلهل. وإن كانوا يتخذون لذلك خطة الهجوم، وأسلوب التحدي، ويلتمسون لتحقيق مقاصدهم الخبيثة وسائل الدس والتشكيك، وإثارة الشبهات، وإدارة معارك الجدال الفارغ، والمراء العقيم، ويزعمون -إمعانًا في المكر والتضليل- أنهم رواد الحقيقة.. وأنهم موضوعيون. وأنصار البحث الدقيق، والفكر الحر.. والواقع أنهم ليسوا صادقين فيما يدعون، فهم لا يبحثون عن الحقيقة بل يكابرون فيها، ولا يودون تمحيص الموضوعات وبحثها لمعرفة الحق فيما يتعرضون له من مسائل، أو يثيرونه من قضايا وأمور.. فهم متعصبون لباطلهم، متشبثون بما هم عليه من إفك ووهم وزور. إن هذا المسلك الذي يتسم بالالتواء والمخاتلة، وتشويه الحقائق، وإثارة الشبهات، هو مسلك أعداء هذا الدين في القديم والحديث. وتسجل وقائع التاريخ أن اليهود كانوا -في بدء الدعوة- أول من عمل على بلبلة الأفكار، وتصيد الشبهات، وشن الحملات، لإضعاف الصف المؤمن، وتمزيق وحدته، وصد الناس عن دين الله.. ولعلهم ما يزالون في عصرنا هذا، وراء هذا الغزو الفكري المعادي الذي يتحرك على أيدي المستشرقين والمستغربين لتشويه دعوة الحق، وطمس معالم النور. 5- ثم إن من دأب أعداء الإسلام في كل عصر أن يحاولوا بكل ما في صدورهم من حقد، وما في وسائلهم من كيد، وما في رءوسهم من مكر، أن يقصوا الناس عن الهدى، ويصرفوهم عن الإيمان، ويدفعوهم في مسالك الضلال، وطرق الشر، ومهاوي الرذيلة، ودروب الغواية.. إنهم لا يحقدون على شيء كما يحقدون على هذه العقيدة الحقة النيرة، التي تحرر الفكر والوجدان، وتطهر القلوب، وتزكي النفوس، وتصحح التصورات، وتقوّم الأوضاع وتخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله الواحد الذي لا شريك له، كما تخرج البشر من إسار الطغيان، وجور

النظم الفاسدة، وتشويه العقائد الزائفة.. إلى آفاق الحرية والكرامة، والعدالة والاستقامة. ويعرف أعداء الإسلام أن لا سبيل لهم إلى التسلط والاستبداد، والسيطرة على زمام البشر، والتحكم بأوضاعهم والتفرد بقيادتهم.. بروح متألهة عاتبة، ونزعة جشعة خبيثة.. لا سبيل لهم إلى تحقيق آمالهم المدمرة، وأهدافهم الشريرة ما دام لهذا الإسلام -بعقيدته وتشريعه وأخلاقه ونظمه- وجود قوي، وكيان مكين، ودولة وسلطان. ويدركون أنه الدعوة الكريمة إلى الحياة الطيبة، وأنه رسالة الخلاص والإنقاذ، وسبيل الطمأنينة والسلام. ولما كانوا هم أعداء كل خير، وخصوم كل هذه المثل العالية والقيم الرفيعة. فإنهم يقذفون بكل قوتهم في المعركة التي يديرونها لتحطيم هذا الإسلام، والقضاء على دعوته، وتشويه رسالته، وتدمير قوته، وتمزيق دولته. هذا شأنهم اليوم وذلك هو شأنهم من قبل منذ فجر هذه الدعوة، ولكنهم -وإن أصابوا في هجماتهم بعض النجاح في بعض الفترات- يعلمون علم اليقين أن الإسلام بقوته الذاتية أمنع من أن تنال منه قوتهم مهما بلغت، وأعز من أن يخضع لسلطانهم، أو يتقوض أمام عدوانهم، فهو عقيدة الكفاح الصامد والجهاد الصادق، والحق الذي لا ينهزم. ولكن لا بد لتحقيق ذلك من جنود الإيمان الأوفياء.

صور العداء

صور العداء: نستعرض -فيما يلي- أمثلة من عداء اليهود وغيرهم؛ ذلك العداء الماكر للإسلام، والتآمر الخبيث عليه منذ فجر الدعوة، وإذا كان التاريخ -كما يقال- يعيد نفسه، فإن من الحق أن نقول -ونحن نشهد

اليوم ضروبًا من الغزو الفكري، والعدوان المادي والحرب النفسية، وكثيرًا من التحديات المعاصرة-: "ما أشبه الليلة بالبارحة! ". لقد كان الإسلام من أول عهده هدفًا لهجمات عنيفة قاسية لا تحتملها ديانة من الديانات، هجمات على قلبه وأعصابه لا تعرف الهوادة ولا الرفق ولا ترضى إلا بالفناء. إن الديانات التي فتحت في عصرها الدنيا، وأخضعت الأمم والحضارات قد ذابت وتحللت أمام هجمات أضعف منها بكثير، وفقدت شخصيتها وكيانها، ولكن الإسلام -بالعكس من ذلك- رد هذه الهجمات كلها على أعقابها وكسرها، وظل محافظًا على قوته وشخصيته وعلى مزاياه وروحه. لقد كانت الباطنية بفروعها ومذاهبها المتنوعة خطرًا على روح الإسلام النقية وعقائده الصافية الواضحة، تتهدد وضع الإسلام الحقيقي، وكذلك كانت الغارة الصليبية، ثم هجوم التتار -ذلك الجراد المنتشر- صاعقة نزلت على الإسلام والأمة الإسلامية، وكانت جديرة بأن تقضي على الإسلام وتقصيه من ميدان الحياة ومصاف الأمم الحية، فلو كان غير الإسلام من الديانات للفظ نفسه الأخير وأصبح أسطورة من الأساطير. ولكن الإسلام تحمل كل هذه الصدمات وكل هذه الصواعق، واستطاع أن يعيش رغم كل ذلك وهو يشق طريقه بقوة ويفتح كل يوم -في كل ميدان من ميادين الحياة - فتحًا جديدًا. لقد مُنِيَ عبر تاريخه المديد بما لا حصر له من المؤامرات والدسائس، والتحدي الداخلي والخارجي لمبادئه وأحكامه ودولته ونظامه، وكان -أكثر من مرة- عرضة لتحريفات الغلو في الدين، وتأويلات أهل الجهالة والهوى، وانتحال أهل الفساد والباطل، وتسربت إليه البدع والضلالات والتقاليد الجاهلية والأفكار الوثنية، وهاجمته

موجات الإلحاد والزندقة عبر كثير من الفلسفات الوافدة شرقية وغربية.. ولكنه ظل في موقعه صامدًا راسخًا يرد الهجمات ويصد التحديات ... لقد أبى الإسلام أن يستسلم لهذه الهجمات، وأن يخضع ويستكين لأعدائه، وأبت روح الإسلام أن تنهزم، وأبى ضمير الأمة المسلمة أن يصالح هذه الفتن وأن يتفاهم مع أعداء الإسلام، والمتآمرين ضده. ولكن الأعداء لم يكفوا ولن يكفوا، وما يزالون ماضين إلى هدفهم الخبيث بوسائل جديدة، وأنواع من التحديات، وضروب من المفتريات، يزحفون حتى يسدوا على الناس كل سبيل للحق، أو يفتح الله بابًا من أبواب رحمته فيبعث عليهم من ينكل بهم ويقطع دابر ما يثيرونه من فتن. والجديد في أمرهم أن شرهم لم يعد مقصورًا في هذه الأيام على الكلام، فقد انتقلوا من مرحلة الكلام إلى مرحلة العمل، بعد أن نجحوا في التسرب إلى الحصون التي تحمل قيمنا وراء كثير مما صنعوه من مذاهب باطلة وشعارات زائفة وأسماء ما أنزل الله بها من سلطان. وهم على اختلاف نزعاتهم، وعلى تباين ساداتهم وشياطينهم متعارفون متضامنون، يحمي كبيرهم صغيرهم، ويمهد السابق منهم للاحق، ويتحركون -كما كان المشركون واليهود في فجر الدعوة يتحركون-؛ لتحقيق هدفهم بتخطيط محكم، وتنسيق دقيق، وإحكام للدسائس، وحبك للمؤامرات، حتى يبلغوا ما يرمون إليه من هدمٍ لهذا الدين وإطفاءٍ لنور الله1 {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} 1

_ 1 انظر: "رجال الفكر والدعوة في الإسلام" تأليف: أبي الحسن الندوي ص8. وانظر: "حصوننا مهددة من داخلها" تأليف: الدكتور محمد محمد حسين ص10. 2 التوبة: "22".

1- سلاح الفتنة: أ- لقيت دعوة الإسلام التي جاءت بمنهج الحق والخير للبشر جميعا من المجتمع الجاهلي الذي عملت على تحريره وتطهيره، وإنقاذه من الضلال والفساد، ما لا بد أن يلقاه الحق الذي يواجه الباطل من معارضة واستهتار، وعناد واستكبار، كانت أوضاعه المعوجة الشوهاء التي أقامتها الوثنية وعمقتها العصبية، أكثف حجاب مظلم بين المشركين وبين الإيمان. هذا موقف المشركين، أما اليهود الذين كانوا يعايشون المسلمين في المدينة بعد الهجرة إليها، فقد كان موقفهم من الإسلام أشد كفرًا وأبعد مكرًا، فقد كفروا بالحق الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة، حين كذبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يجدون البشارة به فيما يتلون من كتاب، لقد عزّ عليهم -حسدًا وبغيًا- أن يكون النبي الذي كانوا يقولون للعرب: قد أظلنا زمانه من غير اليهود، وساءهم أن ينزل القرآن بلسان عربي مبين، كانوا يعرفون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو النبي الذي ينتظرون، وأن ما أنزل عليه من الآيات هدى وحق ونور، ولكن غلبت عليهم شقوتهم المتأصلة فيهم، فلم يخرجوا عن أن يكونوا حلقة جديدة في سلسلة الشر والكفر والمكر، سلسلة الضلال والحقد والعدوان الذي عرف به اليهود في أحقاب التاريخ، لم يكفهم أن يكفروا وكل ما حولهم يبعث على الهداية والإيمان، بل اندفعوا -بكل ما عرف عنهم من نوازع الشر وحبائل المكر- يَصُدُّون الناس عن دين الله، ويعملون على إيقاد نار الفتن، وإثارة عوامل الفرقة، وقطع روابط الألفة، وهدم قيم الحق والخير، يبغون -وهم أهل العوج والانحراف- أن يعم الفساد، وتسود البغضاء، وتنتشر الفتن، ويبعد البشر عن سبيل الاستقامة والرشاد. لقد كان هدف هؤلاء الأعداء الحاقدين أن يردوا المؤمنين إلى الكفر بعد

أن أكرمهم الله بالإيمان، وأن يقذفوهم في حضيض التمزق والضياع بعد أن سلكوا سبيلهم إلى تسنم ذُرَى الوحدة والنور، كانوا يريدون لهم أن يظلوا -كما كان شأنهم في الجاهلية- حيارى تائهين، تفترسهم العصبيات، وتفتك بهم العداوات، وتدمرهم الأحقاد والثأرات. ب- إنهم يريدون -وهذا شأنهم في كل عصر- أن يبتعد المسلمون عقيدةً وفكرًا وعملاً وخلقًا، وتربيةً ونظامًا، عن سبيل الله الذي يحقق لهم الوجود الحق، والكيان القوي، والمجد الرفيع، والنصر الكبير، وليس سبيلهم إلى تحقيق ما يريدون من أذى وشر وفساد إلا العمل على فصم عُرَى المودة والإخاء، وإثارة نوازع العداوة والبغضاء؛ ولذا فقد جاءت آيات الوحي الكريم تكشف حقيقتهم، وتفضح حركتهم، وتحذر المؤمنين من مكرهم وشرهم، وتشدهم شدًا محكمًا إلى منهجهم الإلهي، وتربطهم ربطًا وثيقا بمصدر خيرهم وفلاحهم في الدنيا والآخرة، كتاب الله عز وجل، والاعتصام بحبله المتين. قال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ، قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ، وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 1.

_ 1 آل عمران: "98-101".

روي في أسباب نزول قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً} الآية: أنه مر "شاس بن قيس اليهودي" وكان شيخًا قد عمي في الجاهلية، عظيم الكفر، شديد الضغن على المسلمين، شديد الحسد لهم، مَرّ "شاس" هذا على نفرٍ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأوس والخزرج في مجلس قد جمعهم يتحدثون فيه، فغاظه ما رأى من جماعتهم وألفتهم فقال: قد اجتمع ملأ بني قَيْلَة بهذه البلاد -يريد الأوس، والخزرج- بعد الذي كان بينهم، لا والله ما لنا معهم إذا اجتمعوا بها من قرار. فأمر شابًا من اليهود كان معه فقال له: اعمد إليهم، ثم ذكِّرْهُم بيوم بعَاث، وما كان قبله -وهو من حروب الأوس والخزرج في الجاهلية - وقال الشاب: أنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار، ففعل الشاب ما أمره به "شاس" فعند ذلك تكلم القوم فتنازعوا وتفاخروا، حتى تواثب رجلان من الحيين فَتَقَاوَلا، وقال أحدهما لصاحبه: إن شئت والله رددتُها الآن جذعة، أي أثرت الحرب من جديد، وغضب الفريقان وقالا: قد فعلنا، السلاح السلاح. موعدكم الظاهر -وهي حرة في المدينة- فخرجوا إليها، وتلاقى الأوس والخزرج على دعواهم التي كانوا عليها في الجاهلية، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين حتى جاءهم فقال: "يا معشر المسلمين، أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم، بعد أن أكرمكم الله بالإسلام، وقطع به عنكم أمر الجاهلية، وألف بينكم، فترجعون إلى ما كتنم عليه كفارًا؟ الله الله". فعرف القوم عند ذلك أنها نزغة من الشيطان، وكيد من عدوهم، فألقوا السلاح من أيديهم، وبكوا وعانق بعضهم بعضا، ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سامعين مطيعين. فأنزل الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ، وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ

وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 1. 2- حرب الشبهات: أ- يستهدف أعداء الإسلام في كل عصر صرف الناس عن الهدى، وصدهم عن الحق، وإقصاءهم عن سلوك السبيل السوي، وانتظامهم في ركب الإيمان الخالص.. ويسوؤهم دائما أن يستجيب البشر لدعوة الله، ويتبعوا منهجه القويم، ويتخذون لبلوغ أغراضهم السيئة وسائل شتى تصدر عن حقدهم وضلالهم، ويحاولون تحقيق ما يرمون إليه بضروب كثيرة من الدس والتشويه، والتشكيك، ولا يتوانون أبدًا عن خطتهم الماكرة المدمرة في تفريق الصف المؤمن، وتمزيق وحدته، وتوهين قوته، وفك ارتباطه بدعوته. ولقد واجه أعداء الإسلام من اليهود وغيرهم هذه الدعوة الحقة الكريمة في فجر انتشارها بألوان من الشبهات، وأنماط من المفتريات، بغية إشاعة نزعات الشك، وتضليل العقول، وإفساد العقيدة، ونشر الانحراف، وكانت إثارة نزعة الجدال العقيم -في إطار التشويه والتشكيك- وسيلة هؤلاء في محاولتهم الماكرة تحويل المؤمنين عن المنحى الإيجابي المثمر البناء، إلى منحى الفرقة والبلبلة والخلاف، فأثاروا بعض الشبهات حول نسخ بعض الأوامر والتكاليف؛ بغية زعزعة إيمان المسلمين بعقيدتهم وصدهم عنها. ويدعي اليهود حين ينكرون النسخ أنه "يستلزم في زعمهم البداء، وهو

_ 1 آل عمران: "100-101".

الظهور بعد الخفاء، وهم يعنون بذلك: أن النسخ إما أن يكون لغير حكمة، وهذا عبث محال على الله، وإما أن يكون لحكمة ظهرت ولم تكن ظاهرة من قبل، وهذا يستلزم البداء وسبق الجهل، وهو محال على الله تعالى. واستدلالهم هذا فاسد؛ لأن كلًا من حكمة الناسخ وحكمة المنسوخ معلوم لله -تعالى- من قبل، فلم يتجدد علمه بها، وهو -سبحانه- ينقل العباد من حكم إلى حكم؛ لمصلحة معلومة له من قبل بمقتضى حكمته وتصرفه المطلق في ملكه. واليهود أنفسهم يعترفون بأن شريعة موسى ناسخة لما قبلها. وجاء في نصوص التوراة النسخ، كتحريم كثير من الحيوان على بني إسرائيل بعد حله. قال تعالى في إخباره عنهم: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرائيلُ عَلَى نَفْسِهِ} 1 وقال: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} الآية 2. "وثبت في التوراة أن آدم كان يزوج من الأخت، وقد حرم الله ذلك على موسى، وأن موسى أمر بني إسرائيل أن يقتلوا من عبد منهم العجل، ثم أمرهم برفع السيف عنه"3

_ 1 آل عمران: "93". 2 الأنعام: "146". 3 مناع القطان: "مباحث في علوم القرآن" ص199.

ب- هذا وإن النسخ واقع في كل شريعة بالنسبة لما قبلها، وفي الشريعة الواحدة، ولكن النسخ لا يتناول جوهر هذه الشرائع وأصولها فهي متحدة في جملة مراميها في العقيدة والخلق، وقد ذكر الله -عز وجل- أن شرائع النبيين واحدة لا اختلاف بالنسبة لأصولها ومراميها الكلية. فقال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} 1 حتى إذا صقلت النفس الإنسانية بتجارب الأحقاب ونضج العقل البشري جاءت شريعة الإسلام كلية في أكثر أحكامها في شئون الهداية والاجتماع، مخاطبة لكل الأجيال اللاحقة، صالحة لكل زمان ومكان. جاءت هذه الشريعة الإسلامية وفيها ناسخ ومنسوخ، وكانت الأحكام المنسوخة مناسبة في أوقاتها، حتى إذا زال ما يقتضي وجودها جاءت الأحكام المحكمة، ولا يرجع في معرفة النسخ إلا إلى نص صريح، ولا يعتمد فيه على قول لا يستند إلى نقل صحيح ثابت، فليس المجال -في النسخ- مجال اجتهاد بالرأي. جـ- والحكمة في جواز النسخ هي التيسير على الأمة؛ لأن النسخ علاج للجماعة الإسلامية في عصرها الأول، ولم يثبت النسخ قط في الكليات، وإنما جاء في بعض التفصيلات الجزئية، ولذلك جاء النسخ بعد الهجرة عندما أخذ النبي صلى الله عليه وسلم في إنشاء الدولة الإسلامية، ولأن الذي نزل بمكة إنما كان قواعد كلية وهي غير قابلة للنسخ2.

_ 1 الشورى: "13". 3 انظر: "علوم القرآن" تأليف: أحمد عادل كمال ص93.

في ضوء هذه الحقائق النقلية والعقلية يتضح أن دافع اليهود في إثارة مسألة نسخ بعض الأحكام إنما هو الكفر والعناد والتشويه والإفساد؛ إذ ليس في العقل ما يدل على امتناع النسخ في أحكام الله تعالى؛ لأنه -سبحانه- يحكم ما يشاء، ويفعل ما يريد، وقد وقع هذا النسخ في كتبه المتقدمة، وشرائعه الماضية، فهو -عز وجل- أمر إبراهيم -عليه السلام- بذبح ولده ثم نسخ هذا الأمر قبل الفعل، وأمر -جل شأنه- جمهور بني إسرائيل بقتل من عبد العجل منهم ثم رفع عنهم هذا الأمر كيلا يستأصلهم القتل -كما أسلفنا- واليهود الذين أثاروا شبهة النسخ يعترفون بكل هذا، ولكنهم يصدفون عنه تعنتًا وعنادًا واستكبارًا، ومضيًا منهم في المكر بالإسلام وأهله. وهنا يجيء وحي الله -تبارك وتعالى- بالحسم القاطع لكل ما يمكن أن يتسرب إلى العقول من شبهات زائفة، وشكوك باطلة، فيقرر -سبحانه- أن أي نسخ أو تعديل إنما هو لصالح البشر، ولتحقيق خير أكبر، وهو -تبارك وتعالى- خالق الناس ومرسل الرسل ومنزل الآيات، وله وحده الخلق والأمر، وهو المتصرف في خلقه بما يشاء، فيحل ما يشاء، ويحرم ما يشاء، وهو الذي يحكم ما يريد، لا معقب لحكمه، ولا يُسْأَل عما يفعل وهم يُسألون، يأمر بالشيء لما فيه من المصلحة التي يعلمها، ثم ينهى عنه لما يعلمه تعالى، فالطاعة كل الطاعة في امتثال أمره، واتباع رسله. قال تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} 1

_ 1 البقرة: "106-107".

قال الإمام أبو جعفر بن جرير رحمه الله: "وهذا الخير وإن كان خطابًا من الله -تعالى- لنبيه صلى الله عليه وسلم على وجه الخبر عن عظمته، فإنه منه -جل ثناؤه- تكذيب لليهود الذين أنكروا نسخ أحكام التوراة، وجحدوا نبوة عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام؛ لمجيئهما بما جاءا به من عند الله بتغيير ما غَيَّرَ الله من حكم التوراة، فأخبرهم الله أن له ملك السموات والأرض وسلطانها، وأن الخلق أهل مملكته وطاعته، وعليهم السمع والطاعة لأمره ونهيه، وأن له أمرهم بما يشاء، ونهيهم عما يشاء من إقراره وأمره ونهيه". هذا وإن المسلمين كلهم متفقون على جواز النسخ في أحكام الله -تعالى- لما له في ذلك من الحكمة البالغة، وكلهم قال بوقوعه، ومن أمثلة ذلك قضية تحويل القبلة إلى الكعبة عن بيت المقدس، ونسخ مصابرة المسلم لعشرة من الكفرة إلى مصابرة الاثنين، ومن ذلك -أيضا- نسخ وجوب الصدقة قبل مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم وغير ذلك. د- إزاء هذا البيان الحاسم المقرر للحق فإن على المؤمنين أن يكونوا على حذر شديد من مسلك اليهود وغيرهم من أعداء الدين، قطعًا لدابر أي انخداع بهذه الشبهات الكاذبة والمفتريات الباطلة، ولا بد تحقيقًا لهذا الوعي المؤمن والتربية الإسلامية المثلى؛ أن يحذر المؤمنون من توجيه أسئلة للرسول صلى الله عليه وسلم لا تتفق مع الثقة واليقين، وفي هذا استنكار للتشبه بقوم موسى في تعنتهم وطلبهم للبراهين والخوارق، وإعناتهم لرسولهم كلما أمرهم بأمر، أو أبلغهم بتكليف.. فهذا هو طريق التعنت الذي يحاول الكفار من أهل الكتاب أن يدفعوا المسلمين إلى سلوكه، إنه طريق الضلال واستبدال الإيمان بالكفر، وهم يحاولون أن يقودوا المسلمين إلى هذا حسدًا لهم وحقدًا عليهم، ورغبةً في إلحاق الأذى والشر بهم، وإذا

كان هدى الله قد دل المؤمنين على مكمن الخطر، ورباهم على الوعي والحذر، فقد وجههم إزاء ما يكتنف وجودهم المؤمن من تحديات وحملات، إلى الثبات على الإيمان، وأخذ الأمور بروح الصفح والعفو والاحتمال، والمضي في طريق الحق، والإقبال على عبادة الله، وادخار الحسنات، حتى يأتي أمر الله بالفتح والنصر المبين. قال تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ، أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْأِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ، وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} 1 3- الدعاوى الباطلة: أ- إن عقيدة الإسلام هي العقيدة الأصلية الكاملة الشاملة، التي تعلن الوحدة الكبرى للدين، من لدن إبراهيم أبي الأنبياء إلى خاتم رسل الله محمد -صلى الله عليه وسلم-

_ 1 البقرة: "106-110".

لا يخالفها إلا ضالٌّ، ولا ينحرف عنها إلا متعنت، ولا يجحدها إلا ملحد، ولا يكابر فيما جاءت به من حقائق ساطعة وأدلة ناصعة إلا معاند مستكبر.. وقد لقيت هذه الدعوة من المشركين وأهل الكتاب ضروبًا من المعارضة، وصنوفًا من الكراهية والعداء، وإذا كان المشركون من العرب قد قابلوها بالتحدي والجحود والإنكار، حفاظًا على موروثات الجاهلية وتقليدًا فارغًا للآباء.. فقد قابلها أهل الكتاب الذين عاصروها بالشبهات الملتوية، والادعاءات الباطلة، والتشكيك والدس والافتراء.. ويصدر كلا الفريقين في ذلك عن مخالفة لأمر الله ومناوأة لدعوة الحق والهدى، واغترار بالباطل، واتباع للهوى ونزغات الشيطان. وفي كتاب الله -عز وجل- مناقشة لما يدعيه أهل الكتاب من اليهود والنصارى تعنتا بلا دليل من أنهم هم المهتدون، وأن ما هم عليه هو الحق، وأن على محمد -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه أن يتبعوهم؛ ليكونوا من المهتدين.. فقد قال اليهود لرسول -الله صلى الله عليه وسلم: ما الهُدىَ إلا ما نحن عليه فاتبعنا -يا محمد- تَهْتَدِ!، وقال النصارى مثل ذلك، فرد الله -تبارك وتعالى- عليهم دعواهم، وفنَّدَ مزاعمهم، موجهًا رسوله محمدًا -صلى الله عليه وسلم- أن يواجههم جميعا برفض ما يدعون إليه، وإعلان أن المؤمنين يتبعون ملة إبراهيم الذي استقام على التوحيد، وأخلص لله في عقيدته وعبادته، ووفى بعهد ربه فلم يدعُ معه غيره، ولم يشرك به طرفة عين، وتبرأ من كل معبود سواه.. وفي بيان هذه المناقشة وهذا الرد الحاسم يقول عز وجل: {وَقَالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 1. ب - ثم يرشد الله -تبارك وتعالى- عباده المؤمنين إلى دعوة أهل الكتاب إلى الإيمان

_ 1 البقرة: "135".

بهذا الدين الواحد، وإلى الإيمان بما أنزل إليهم بواسطة رسوله محمد -صلى الله عليه وسلم- مفصلاً، وما أَنزل على الأنبياء المتقدمين مجملاً، ونص سبحانه على أعيان من الرسل، وأجمل ذكر بقية الأنبياء، داعيًا إلى عدم التفريق بين أحدٍ منهم، حتى لا يكونوا كمن قال الله فيهم: {وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً، أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً} 1 وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: كان أهل الكتاب يقرأون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا: آمنا بالله وما أنزل الله" 2. فالإيمان بالله وما أنزل على رسوله وأنزل على الأنبياء من قبله، هو المسلك السوي الراشد الذي يجب على عباد الله أن يسلكوه، وهو القاعدة التي تحقق الوحدة الكبرى بين الرسالات جميعًا، وتقيم أمور الناس ونظم الحياة على منهج التوحيد وفي ذلك يقول عز وجل -تعليمًا للمسلمين وإرشادًا لهم إلى محاجة أهل الكتاب: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} 3

_ 1 النساء: "150-151". 2 رواه البخاري. 3 البقرة: "136".

ج- إن سبيل الاستقامة منهج الهداية وطريق الرشاد، إنما هو في ثبات المؤمنين على العقيدة الحقة النيرة التي تسكب في القلوب روح الاعتزاز بالله والثقة به، والاطمئنان إلى نصره وتأييده فإن آمن المخالفون لهم بمثل ما آمنوا به؛ فقد أصابوا الحق واهتدوا إليه، وإن تولوا عن الحق إلى الباطل بعد قيام الحجة عليهم؛ فإنما يشاقون بذلك الأصل الثابت القوي الذي يجب أن يقوم عليه أمر الحياة وشئون البشر، ويلجون في ظلمات الكفر والفساد، ويتيهون في مهاوي الضلالة والشقاء، وسينصر الله المؤمنين عليهم ويظفرهم بهم، مهما كادوا ومكروا، وتآمروا وغدروا.. وسيتولى الله تبارك وتعالى عن رسوله والمؤمنين أمرهم إذا استقام المؤمنون على الطريقة، وجاهدوا في الله حق جهاده. فإن ما هم عليه هو دين الله الحق وصبغته الطيبة.. ومن أحسن صبغة من الله عز وجل، الذي شاء أن تكون شرعة الفطرة آخر رسالاته إلى عباده. قال تعالى: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ} 3 4- الجدال العقيم: أ- كان من وسائل أهل الكتاب من اليهود والنصارى المنحرفين عن ملة إبراهيم دين الفطرة وشرعة التوحيد إثارة الجدال العقيم، والمحاجة الباطلة في حقائق العقيدة، وفي مقدمتها الحقيقة الكبرى الخالدة التي يصدر عنها كل خير، وينبثق من نورها ما ينبغي أن يكون عليه الإنسان من صحة

_ 1 البقرة: "137-138".

صور العداء: في التفكير، واستقامة في الاتجاه، وطهارة في السلوك، وصلاح في العمل.. إنها عقيدة التوحيد التي كان اليهود والنصارى يجادلون المسلمين بها.. كما يجادلهم بها المشركون.. والجدال في وحدانية الله وربوبيته، والمناظرة في الإخلاص له والانقياد لأوامره وترك زواجره على النحو الذي كان يثيره المنحرفون عن منهج الله- لا يرمي إلى تجلية الحقائق وترسيخها في الفكر والضمير؛ وإنما يستهدف التشكيك واللجاج الفارغ، وتعويق المؤمنين عن أداء مهمتهم الكبرى في نشر الهدى والدعوة إلى الحق.. ويرشد الله تبارك وتعالى رسوله -صلى الله عليه وسلم- إلى درء هذه المجادلة الباطلة، وقطع دابر هذه المحاولة الخبيثة، التي لا تؤدي إلا إلى إثارة الريب، واشتغال المسلمين بدفع الشبهات، التي لا يقصد مثيروها بحثًا مخلصًا عن حقيقة لم تتضح لهم، للوصول إلى مزيد من الاقتناع واليقين.. وتوجيه القرآن الكريم في درء هذه المجادلة، منبثق من هذه الحجة القاطعة: وهي أنه لا مجال للجدل في توحيد الله تبارك وتعالى، فهو ربنا وربكم المتصرف فينا وفيكم. ويدعو المؤمنين بعد هذا الرد الحاسم، إلى أن يعلنوا لهؤلاء المنحرفين المجادلين أنهم برآء منهم ومما يعبدون، كما قال تعالى: {وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} 1 كما يدعوهم إلى أن يعلنوا أنهم متجردون لله مخلصون له، لا يشركون به شيئًا ولا يرجون معه أحدًا.. وفي ذلك يقول عز وجل: {قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا

_ 1 يونس: "41".

وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ} 1. ولهذا التوجيه الإلهي لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حسم الجدال مع هؤلاء الضالين أثر بالغ في قطع دابر اللجاج والمحاجة بالباطل، وهو أصيل في المنهج الإلهي الراشد عريق فيه.. ويشير القرآن الكريم إلى ذلك فيما أخبر به عن إبراهيم عليه السلام.. وفي ذلك يقول عز وجل: {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ، وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} 2. ب- ثم يعالج القرآن في الآيات الكريمة صورة أخرى من صور الدعاوى الباطلة التي كان اليهود والنصارى يدعونها، مقررًا أنهم في ذلك كاذبون مفترون.. يجادلون كذلك بالباطل ويكتمون شهادة الحق، ويخالفون الحقيقة الجلية التي يعرفونها، والواقع المشهود الذي لا سبيل إلى إنكاره.. إن القرآن الكريم ينكر عليهم دعواهم أن إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط كانوا على ملتهم: إما اليهودية وإما النصرانية.. وقد أخبر الله تعالى أنهم لم يكونوا هودا ولا نصارى، ولقد كانوا أسبق من اليهودية والنصرانية، والله يشهد بحقيقة دينهم، وأنهم كانوا على الحنيفية الأولى التي لا تشرك بالله شيئًا.. كما قال تعالى: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً

_ 1 البقرة: "139". 2 الأنعام: "80-81".

مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 1 إن هؤلاء الذي يجادلون بالباطل ويكابرون بالحق ظالمون مفترون، يكتمون شهادة الله التي جاءت في كتبهم، ويجحدون ما يعرفون من أنه سيبعث نبي في آخر الزمان دينه الحنيفية السمحاء.. الإسلام.. يجحدون ذلك كفرًا وضلالًا، وتعصبًا وحقدًا، وتجاوزًا على الحق الذي جاءهم من عند الله. قال الحسن البصري: "كانوا يقرءون في كتاب الله الذي أتاهم: أن الدين الإسلام، وأن محمدًا رسول الله، وأن إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط كانوا برآء من اليهودية والنصرانية، فشهدوا لله بذلك، وأقرُّوا على أنفسهم لله، فكتموا شهادة الله عندهم من ذلك". ولكن الله تبارك وتعالى مطلع على ما يخفون من الشهادة التي ائْتُمِنُوا عليها، عليم بما يثيرون من الجدال فيها لتعميتها وتلبيسها، وسيجزيهم على ذلك بما يستحقون ... وليس يغني عن هؤلاء الضالين انتسابهم إلى أولئك الأنبياء الكرام من غير متابعة لهم.. والانقياد مثلهم لأوامر الله.. قال تعالى: {أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ، تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 2

_ 1 آل عمران: "67". 2 البقرة: "140-141".

5- في حادث تحويل القبلة: أ- كان حادث تحويل القبلة من المسجد الأقصى إلى البيت الحرام مثارا لحملة ضجيج وتساؤل واعتراض من الأعداء السفهاء الذين ينفخون في نار الفتنة، ويقودون حملة التشويه والتشكيك، ويحاولون أن يوجدوا في الصف المسلم نزعة البلبلة والانقسام، وأن يوقعوا في روع المؤمنين القلق والاضطراب. ولا عجب أن يرمي هؤلاء السفهاء -بما يطلقون من أقاويل ويشنون من حملات- إلى كل هذا، فهم أعداء هذه الدعوة الخيرة، وخصوم هذه الجماعة المسلمة الكريمة، وهم -يهودا أو مشركين ومنافقين- يتربصون بالمسلمين الدوائر ويقاومون -بحقد ومكر ولؤم- إقامة منهج الله في الأرض. يروى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان -وهو بمكة- يستقبل الصخرة التي في المسجد الأقصى ببيت المقدس في الصلاة، ولكنه كان يحب استقبال الكعبة، ويتمنى لو حول الله القبلة إليها، ومن ثم كان يجمع بين استقبالها واستقبال الصخرة، فيصلي مستقبلا الشمال. فلما هاجر إلى المدينة صلى مستقبلا بيت المقدس لتعذر الجمع بينهما، وبقي على ذلك ستة عشر شهرا أو يزيد ... وقد كان هذا التوجه إلى بيت المقدس -وهو قبلة أهل الكتاب من اليهود والنصارى- سببا في اتخاذ اليهود إياه ذريعة للاستكبار عن الدخول في الإسلام، فقد زعموا أن قبلتهم هي القبلة، وأن دينهم هو الأصل، وأن على محمد ومن معه أن يفيئوا إلى دينهم، لا أن يدعوهم إلى الدخول في الإسلام ... وكان هذا التوجه شاقا على العرب الذين آمنوا؛ لأنهم ألفوا تعظيم الكعبة، وجعلوها قبلتهم قبل مجيء الإسلام ... أما رسول الله صلى الله عليه وسلم

فقد كان يتوجه إلى الله أن يجعل الكعبة هي القبلة؛ لأنها قبلة أبيه إبراهيم ... لقد كان توجه الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى بيت المقدس يعجب اليهود ويسرهم ويتخذونه -كما أسلفنا- حجة لانصرافهم عن الإسلام وتعصبهم لباطلهم.. فلما نزل القرآن الكريم يستجيب لما يعتمل في صدر الرسول -صلى الله عليه وسلم- من رغبة في استقبال البيت الحرام، وولى وجههُ قِبَلَ البيت أنكروا ذلك، وانطلقوا يقودون حملة التشكيك، وقالوا للمسلمين: إذا كنتم في استقبال بيت المقدس على خطأ فقد ضاعت عبادتكم السابقة، وإذا كنتم على صواب فسوف تضيع عبادتكم الآتية، وكانت حملة هؤلاء السفهاء تستهدف الطعن بالإسلام، وإنكار نبوة محمد -صلى الله عليه وسلم- والتشكيك في أن ما جاء به ليس وحيًا من الله يتلقاه. عن البراء بن عازب -رضي الله عنه- قال: أوَّل ما قدم رسول -الله صلى الله عليه وسلم- نزل على أجداده -أو قال أخواله- من الأنصار، وأنه صلى قِبَلَ بيت المقدس ستة عشر شهرًا أو سبعة عشر شهرًا، وكان يعجبه أن تكون قِبْلَتُهُ قِبَلَ البيت، وأنه صلى أول صلاة صلاها صلاة العصر، وصلى معه قوم، فخرج رجل ممن صلى معه، فمر على أهل مسجد وهم راكعون، فقال: أشهد بالله لقد صليت مع رسول -الله صلى الله عليه وسلم- قِبَلَ الكعبة، فداروا كما هم قِبَلَ البيت، وكانت اليهود قد أعجبهم؛ إذ كان يصلي قبل بيت المقدس، فلما ولى وجهه قِبَلَ البيت أنكروا ذلك، فنزلت: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} . فقال السفهاء، وهم اليهود: ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها؟ "1.

_ 1 أخرجه الشيخان ومالك والترمذي.

ب- هذا هو الحادث الذي جاء وحي الله تبارك وتعالى فيه يحسم أقاويل هؤلاء السفهاء، ويرد حملتهم المنكرة، ويعالج آثارها في نفوس المؤمنين، مقررًا في ذلك حقائق في العقيدة والأمة، مبينًا حكمته تعالى في اختيار القبلة التي كانوا عليها، مطمئنًا المسلمين إلى عدم ضياع ثوابهم وفي ذلك ما يملأ قلوبهم بالثقة والرضى واليقين. لقد تساءل أولئك السفهاء عن الأسباب التي حملت المسلمين على الانصراف عن قبلتهم التي كانوا عليها؟ فجاء جواب القرآن على هذا التساؤل: إن المشرق لله والمغرب لله، وهو الذي يَهْدِي من يشاء إلى الصراط المسقيم، فالجهات كلها لله؛ وإنما يجعل الله تعالى للناس قبلة لتكون جامعة لهم في عبادتهم، وما يختاره سبحانه فهو المختار، وهو يرشد إلى الطريق القويم الموصل إلى سعادة الدارين، وفي ذلك يقول عز وجل: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ للهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 1. بعد ذلك يتحدث السياق القرآني عن هذه الأمة الكبيرة، ورسالتها العظمى في الأرض، وخصائصها الفريدة، وشخصيتها الفذة المتميزة، مقررًا أنه سبحانه قد جعل هؤلاء المسلمين -بِهُدَاهُ- عدولاً أخيارًا، وجنَّبَهم مساوئ الإفراط والتفريط، فليسوا من أرباب الغلو في الدين المفرطين، ولا من أرباب التعطيل المفرِّطين، وأعدهم ليكونوا من الأمم في مركز الحكم العدل، الذي يقيم موازين القسط وقيم الحق، وجعل سبحانه رسول الهدى والنور شهيدًا عليهم، فهو المثل الحي والأسوة الحسنة، ويستحق المسلمون ثناء الله عليهم بأنهم الأمة

_ 1 البقرة: "142".

الوسط، وأنهم خير أمة أخرجت للناس باتباع سنته والاقتداء بسيرته والالتزام بشريعته. ج- أما حكمة الله تبارك وتعالى في اختيار القبلة التي كانوا عليها، ثم جاء الأمر بالتحول عنها، فقد كانت اختبارًا للمؤمنين، يظهر به صدق الصادقين وريب المرتابين. وكانت تربيةً عظيمة لهذه الجماعة التي أراد الله لها أن تخلص في عبادتها وصدق اتجاهها، وأن تتخلص من رواسب الجاهلية ووشائجها، وإنه لامتحان عظيم لا يثبت عليه إلا الذين تشبعوا بالإيمان واطمأنت نفوسهم به، وإنها لتربية مثلى على احتمال التبعة، والقيام بأعباء القيادة على أمتن الأسس في الإخلاص والطاعة والتجرد، ومن حكمته سبحانه ورحمته بعباده أنه لم يكن ليضيع ثواب إيمان المسلمين الباعث لهم على اتباع الرسول في الصلاة وفي القبلة، فلو كان تحويل القبلة مما يضيع الإيمان بتفويت ثواب كان قبله لما حوّلها، وفي ذلك بشرى للمؤمنين المتبعين للرسول بأن الله يجزيهم الجزاء الأوفى، وهم أولى الناس برحمته ورأفته. قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} 1. لقد جاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بتحديد دعوة إبراهيم، وإحياء ملته، ولما

_ 1 البقرة: "143".

كانت الكعبة التي بناها إبراهيم عليه السلام أقدم القبلتين، وأول بيت وضع للناس، فقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يرجو أن يوجهه ربه إلى قبلة أبيه إبراهيم، وكان يردد نظره جهة السماء حينًا بعد حين، تطلعًا للوحي بتحويل القبلة إلى الكعبة، وبخاصة بعد ما كثر لجاج اليهود وحجاجهم؛ إذ كانوا يقولون: يخالفنا في ديننا ويتبع قبلتنا!.. ولولا ديننا لم يدرِ أين يستقبل القبلة؟!.. ولقد استجاب الله تبارك وتعالى رجاءه، ووجهه إلى ما يرضيه، وجعله يلي الجهة التي يحبها ويتشوف لها، وأمره أن يولي وجهه شطر المسجد الحرام، وجعل ذلك قبلة له ولأمته في أي وقت، وفي أي مكان، قبلة تجمع هذه الأمة وتوحد بينها على اختلاف مواطنها.. وتعدد أجناسها وألسنتها وألوانها.. فعلى المؤمنين في أي مكان كانوا أن يستقبلوا جهة المسجد الحرام بوجوههم في الصلاة.. وهذا يقتضي أن يصلوا في بقاع الأرض المختلفة إلى سائر الجهات.. وبذلك يتميزون عن النصارى الذين يلتزمون جهة المشرق، واليهود الذين يلتزمون جهة الغرب. وقد أكد سبحانه الأمر باستقبال المسجد الحرام، ووجَّهه إلى المؤمنين بعد أن أمر به نبيه -صلى الله عليه وسلم- وشرفهم بالخطاب بعد خطاب رسوله، لتشتدَّ عزيمتهم وتطمئن قلوبهم، ويواجهوا ما أثاره أعداؤهم من اليهود والمنافقين -من الفتنة بشأن التحويل- بروح الثبات على الحق وصدق الاتباع.. ذلك أن هؤلاء الذين أوتوا الكتاب يعلمون حق العلم أن المسجد الحرام هو بيت الله الأول. الذي رفع قواعده إبراهيم عليه السلام، وأن التولِّي شطره هو الحق المنزَّل من عند الله لا مرية فيه.. ولكنهم -مع هذا- يأبون إلا أن يثيروا الفتنة، ويخدعون المؤمنين، ويقوموا بحملة التشكيك والتشويه.. ولقد افتضح أمرهم وانكشف تآمرهم.. فالله تبارك وتعالى غير غافل عما يعملون، وسوف يجازيهم

على عنادهم وإيقادهم نار الفتنة بين المؤمنين.. وفي ذلك يقول تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} 1. د- إن موقف أهل الكتاب في إثارتهم الفتنة والشكوك، وقولهم ما لا يعتقدون، إنما يصدر عن نزعة عريقة في المكابرة والعناد، ولا تجدي مع هؤلاء حجة ولا يقنع برهان، فهم يعرفون أن التولي شطر المسجد الحرام هو الحق المنزَّل من الله على نبيه -صلى الله عليه وسلم- ولكنهم -كما يعلن الوحي الإلهي لرسول الله- لن يتبعوا قبلته صلفًا وعنادًا مهما أتاهم به من حجج وآيات مقنعة.. وليس من شأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن يتبع قبلتهم، وأن يختار غير ما اختار له ربه وارتضاه وهم في خلاف بينهم أيضًا، وكل منهم متمسك بما هو فيه، قد أعمى التعصب بصيرته، ولذا فليس بعضهم بتابع قبلة بعض.. فلا يتوجه اليهود إلى المشرق، ولا يتوجه النصارى إلى المغرب.. وليس يصح -وقد استبان الحق ووضح موقف أهل الكتاب- أن يتبع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أهواءهم بعد أن جاءه العلم والحق من الله، ولئن وافقهم فيما يريدون -وحاشاه أن يفعل ذلك- فإن هذا هو الظلم والانحراف، الذي لا ينبغي لأحدٍ من المؤمنين أن يقع فيه.

_ 1 البقرة: "144".

وفي ذلك يقول عز وجل: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} 1. ثم يصدر التقرير الإلهي الجازم مؤكدًا مكابرة أهل الكتاب بما يعلمون أنه الحق من الله.. فهم يعرفون النبي -صلى الله عليه وسلم- بما في كتبهم من البشارة به، ومن نعوته وصفاته، ويعرفون أن ما جاء به في شأن القبلة هو الحق الذي أوحى الله به إليه.. يعرفون كل ذلك معرفة يقين لا شبهة فيه كما يعرفون أبناءهم.. ولكنَّ فريقًا منهم يعاندون فيكتمون الحق الذي يعرفون.. ويتوجه الخطاب بعد هذا التقرير والبيان إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- معلنًا أن الحق هو ما أوحى الله به، فلا محل للارتياب والتردد في اتباعه.. وفي هذا إيحاء بالغ للمؤمنين ليعملوا بما أمر الله ويعرضون عن أباطيل الجاحدين وزورهم وبهتانهم، فهم دائمًا دعاة فتنة وعناصر شر وفساد. قال تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ، الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} 2.

_ 1 البقرة: "145". 2 البقرة: "146-147".

نظرة في التاريخ

نظرة في التاريخ أمة لا تذوب: 1- إن أي نظرة تحليلية لفترة من فترات التاريخ ينبغي أن تراعى فيها -من وجهة التفسير الإسلامي للتاريخ- الأمور التالية: أ- التزام نهج العقيدة في القيادة والأمة على السواء. ب- مدى حيازة الأمة للقوة واستعدادها لصيانة كيانها، وصد العدوان عليها، وتعبئة قواها المعنوية والمادية. ج- بنية المجتمع من حيث الوحدة والتماسك، وروح الالتزام بالمبادئ التي تنظم وجوده. د - معرفة واقع الأمة من حيث أداؤها لرسالتها، وتبليغها لدعوتها، ونشر مبادئها في أقطار الأرض وإقامة حضارتها في مواطن الفتح، حيث يعرف إن كانت هذه الأمة في مرحلة مدٍّ أو مرحلة توقف أو مرحلة تأخر وانحسار. 2- ونحن نرى وفق التفسير الإسلامي للتاريخ بشكل مجمل دون خوض

في تفاصيل الوقائع وتلمس شواهدها الجزئية من أحداث التاريخ الإسلامي، أن الأمة الإسلامية قد مرت بفترات قوة وفترات ضعف، فكانت إبان القوة -المنبثقة من التزامها بعقيدتها وتعبئتها لقواها، وصلابة بنية مجتمعها- أمة الفتح المجيد، والانتصار المتلاحق، والمد المشرق والبناء الحضاري الفذ.. وكانت في حالات ضعفها الأمة التي يغزوها أعداؤها، وينتقصون من أطراف دولتها، ويتطاولون عليها، ويحتلون ديارها، ويستبيحون ذمارها، ويستبدون بأبنائها، وينالون منها في كيانها السياسي، ومصادر قوتها، وكنوزها وطاقاتها، بل يبلغون بحقدهم ووحشيتهم مبلغًا فظيعا في القتل وسفك الدماء وتخريب الديار، وتوقيض الأمصار، ودك الحصون والقلاع، ونهب الثروات المادية والحضارية، ولكنهم أبدًا لم يستطيعوا على الرغم من حملات العنف، وحروب التدمير، أن يذيبوا هذه الأمة الإسلامية في عقائدهم ومبادئهم ووجودهم المنحرف، فقد استعصت -حتى في فترات ضعفها- على الذوبان، بل لقد صنعت ما لم يكن بالحسبان، فامتصت -وهي المغلوبة- الغالبين الأقوياء، فذابوا فيها بدل أن تذوب فيهم، فاستطاعت -مثلاً- أن تحوّل المغول الغزاة على مر الأيام إلى مسلمين، واستطاعت أن تؤثر في الصليبيين تأثيرًا بالغًا بحيث يعترف المؤرخون الغربيون أن نهضة أوروبا إنما تعود في حقيقتها إلى ما أفاده الغربيون من الاتصال بالمسلمين في الأندلس وفي الحروب الصليبية، فقد نشر اتصال الغربيين بالمسلمين -خلال هذه الحروب- "قبسا من روح العلم والبحث والتفكير الحر، وكان أبرز العوامل التي جعلت رجال الكنيسة يحاولون استخدام الفلسفة في "العصر المدرسي" للدين، لعلهم يجدون فيها لعقيدتهم سندًا من المنطق، ودعامة من العقل"1

_ 1 انظر: "المسألة الاجتماعية بين الإسلام والنظم البشرية" للمؤلف ص92.

جاذبية المبادئ

جاذبية المبادئ: روى "سير توماس. و. أرنولد Thomas W. Arnold" في كتابه "الدعوة إلى الإسلام" وقائع كثيرة من حالات التحول إلى الإسلام بين الصلبيين، وقال: "ويظهر أن أخلاق صلاح الدين وحياته التي انطوت على البطولة قد أحدثت في أذهان المسيحين في عصره تأثيرًا سحريًّا خاصًّا، حتى إن نفرًا من الفرسان المسيحيين قد بلغ من قوة انجذابهم إليه أن هجروا ديانتهم المسيحية وهجروا قومهم وانضموا إلى المسلمين، وكذلك كانت الحال عندما طرح النصرانية -مثلًا- فارس إنكليزي من فرسان المعبد يدعى "روبرت أوف سانت البانس Robert of s.Albans في سنة 1185"، واعتنق الإسلام ثم تزوج بإحدى حفيدات صلاح الدين. وبعد عامين غزا صلاح الدين فلسطين، وهزم الجيش المسيحي هزيمة منكرة في واقعة حطين، وكان "جوي Guy"ملك بيت المقدس بين الأسرى، وحدث في مساء المعركة أن ترك الملك ستة من فرسانه قد حلت فيهم روح شريرة، وفروا إلى معسكر صلاح الدين حيث أسلموا بمحض إرادتهم"1 وبعد أن يستعرض "توماس أرنولد" حالات التحول من النصارى في الحروب الصليبية إلى الإسلام، ويذكر نماذج عدة منها يعقب على ذلك بقوله: "ولا شك أن هذه الأخبار الْمُبَعثرة تحمل الدليل على أن تحول المسيحيين إلى الإسلام -الذي لم يصلنا عنه أي خبر- كان على نطاق واسع. فمن ذلك ما يقال من أن خمسة وعشرين ألفا من المرتدين عن المسيحية كانوا في مدينة القاهرة حول نهاية القرن الخامس عشر، ولا بد أنه كان هنالك أيضًا كثيرون من هؤلاء المرتدين في مدن الأراضي المقدسة بعد زوال الإمارات اللاتينية في الشرق. ولكن يظهر أن المسلمين الذين أرخوا هذه الفترة قد بلغ من

_ 1 سير توماس أرنولد "الدعوة إلى الإسلام" ص111.

شدة انهماكهم في تسجيل مآثر الأمراء، وتقلبات الدول أنهم لم يوجهوا عنايتهم إلى التغير الديني الذي طرأ على حياة الأفراد المغمورين -وبقدر ما هدانا إليه البحث- فقد كانت ملاحظتهم في تتبع أخبار دخول المسيحيين في الإسلام قليلة"1.

_ 1 المرجع السابق 113.

بين المد والجزر

بين المد والجزر: في ضوء هذه الحقائق يمكن أن نلقي نظرة تحليلية سريعة على فترات التاريخ بما فيها من مد أو توقف أو جزر، وازدهار أو ضمور، حتى فترة الاحتكاك الحاد، خلال القرنين الأخيرين، بين الغرب والإسلام، هذه الفترة التي لا يزال المسلمون يعانون من رواسبها ونتائجها. أ- لقد صاغت القيادة الإسلامية الأولى أبناء هذه العقيدة صياغة فريدة، وربتهم تربية متكاملة، فكانوا صورة دعوتهم الحقة النيرة في فكرهم وسلوكهم وعملهم وجهادهم. كانوا في جهادهم واجتهادهم يصدرون عن المدرسة النبوية في سمو الغاية ونبل الوسيلة، وتوافرت فيهم شروط أهلتهم تأهيلاً عاليًا لحمل الرسالة ونشرها في آفاق المعمورة، وتحقق بفضل الله عز وجل، ثم بصدق إيمانهم، وإخلاص جهادهم ذلك المد الإسلامي الكبير الذي يعد بحق معجزة التاريخ، كانت غايتهم إعلاء كلمة الله، وإقامة شرعته في الأرض ونفاذ أحكامه، ووسيلتهم في ذلك: تربية النفوس على الطاعة وتزكيتها بالعمل الصالح، وأخذها الدائب بالإعداد والاستعداد، ثم العمل المتواصل والكفاح المستمر، لإزالة القوى الطاغية المعادية التي تعيق إقامة دين الله في الأرض.

ب- وكانت القيادة الإسلامية قادرة على إدارة شئون المسلمين وفق شرعة الله عز وجل بما لديها من رعاية تامة لهذه الشريعة، وفهم لها واجتهاد فيها، وقوة استنباط للحكم فيما يعرض في حياة المسلمين، وفي الأمم التي شملها الفتح من قضايا وحوادث ومسائل متجددة، كما كانت لديهم روح الاستفادة من وسائل العلم وقوى الكون لتسخيرها في خير الإنسانية. ج- "ولكن من الأسف، ومن سوء حظ العالم البشري أن تولى هذا المنصب الخطير رجال لم يكونوا له أكفياء، ولم يعدوا له عدة ولم يأخذوا له أهبة، ولم يتلقوا تربية دينية وخلقية كما تلقى الأولون، وكثيرون في عصرهم وجيلهم، ولم يسيغوا تعاليم الإسلام إساغة تليق بقيادة الأمة الإسلامية والاضطلاع بزعامتها، ولم تنق رءوسهم ولا نفوسهم من بقايا التربية القديمة، ولم يكن عندهم من روح الجهاد في سبيل الإسلام، ومن قوة الاجتهاد في المسائل الدينية ما يجعلهم يضطلعون بأعباء الخلافة الإسلامية، وهذا الحكم عام يشمل خلفاء بني أمية وبني العباس، حاشا الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز "م101هـ"، فظهر من ذلك ثلمات في ردم الإسلام لم تسد إلى الآن ووقعت تحريفات في الحياة الإسلامية"1 د- ولقد كان مما وقع في بعض الفترات أن القيادة السياسية حاولت التفلت من رقابة الدين، وإقصاء أهل الدين والعلم عن شئون السياسة والتوجيه، لتنفرد السياسة بالتصرف وفق أهوائها، كما أطلت النزعات الجاهلية برءوسها خلال مظاهر الانحراف عن الأخلاق الإسلامية، وشيوع الفساد، والإخلاد إلى التمتع بملاذ الحياة، كما قل الاحتفال بالعلوم العملية المفيدة، كالعلوم التجريبية والعملية، وظهر الاهتمام بعلوم ما

_ 1 أبو الحسن الندوي: "ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين" ص132.

وراء الطبيعة، والفلسفة اليونانية ونحو ذلك، وقد نجم عن ذلك ضعف حركة الإنتاج العلمي، وضعفت روح النبوغ، كما طرأت في حياة المسلمين ضروب من البدع التي شغلت مكانا واسعا من حياة المسلمين، وصرفتهم عن الالتزام بالدين الحق، كما أبعدتهم عن الاهتمام بشئون الحياة النافعة. هـ- وإنه على الرغم من كل هذا فقد بقي هذا الدين -بفضل الله عز وجل- حيًّا محفوظًا من التحريف والتبديل، وظل المنارة المشرقة التي تهدي الحائرين، وتنعي على المنحرفين تفريطهم، وتثير روح الجهاد، وتدعو إلى فتح باب الاجتهاد، وظل المجتمع -على الرغم مما أصابه- مجتمعًا إسلاميًّا لم تسيطر عليه -بصورة عامة- غير المفاهيم الإسلامية ومرد ذلك إلى طبيعة تكوين المجتمع في الإسلام؛ تلك الطبيعة التي تحفظ روح الوحدة والتماسك، وتجعل ولاء أفراد هذا المجتمع لعقيدتهم. يقول ولفرد كانتول سميث WiLfrsd Contwell Smith في كتابه "الإسلام في التاريخ المعاصر Islam in Modern History" في فصل "الإسلام والتاريخ" ص26-27: "لقد لاحظ الباحثون بروز وضع المجتمع في الإسلام، ومن البيِّن أن المجتمع الإسلامي ذو تماسك ملحوظ، وأن ولاء أعضائه وترابطهم عظيم القدر، وقد أدرك كثيرون أن الجماعة "الإسلامية" ليست مجموعة اجتماعية فحسب، بل مجموعة دينية، وأن "الدين والدولة" أمر واحد إذا استخدمنا تعبيرنا الغربي غير المناسب، إن المجتمع الإسلامي لا يترابط بعضه مع بعض -كالمجتمعات الأخرى- بمجموعة من الولاءات والتقاليد فحسب، وبنظام متقن السبك من القيم والعقائد، ولا هو نتاج مثل أعلى رفيع فحسب، بل إنه ينبض بالحيوية الناجمة عن اقتناع شخصي عميق، اقتناع ديني له حرارته ودلالته في نفس كل

عضو من أعضائه، ونستطيع أن نقول: إن هذا المجتمع -هذه الجماعة- هي التعبير عن المثل الأعلى الديني، مستخدمين كلمة "ديني" بالمعنى الفردي الذي سبق شرحه، وإذا كانت عقيدة ما أو نظام ثيولوجي "قائم على أساس ديني" يمكن أن يكون تعبيرًا عن الصورة العقلية للاعتقاد الشخصي -كما هو الشأن في كثير من الحالات وفي المسيحية بصفة خاصة- فإن النظام الاجتماعي بما يحويه من ألوان النشاط المختلفة هو التعبير -بصورة عملية- عن الاعتقاد الشخصي للمسلم"1 د- صحيح أن الحياة الإسلامية لم تستوِ على الأفق الرفيع الذي كان وقت حياة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وخلفائه الراشدين، ولكنها ظلت -على الرغم من بعض التحريف الذي طرأ- حياة عالية إذا قيست بغيرها مما عرفته الأرض من نظم وقيم وحضارات. لقد اتسع الْمَدُّ الإسلامي في مختلف مرافق الحياة حتى شمل الأرض المعروفة كلها في ذلك الحين "وكان البحر الأبيض المتوسط بعد عصر شارلمان قد أصبح بحرًا عربيًّا، واستطاع العباسيون منذ أوائل القرن الرابع أن يحافظوا على حدودهم الغربية من اعتداء البيزنطيين، وكانت أخبار الانتصارات تقرأ من أعلى المنابر ببغداد"2. ولم يزل ينهض بتأثير كتاب الله تبارك وتعالى وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- بما يبعثان من مقت للشرك والبدع، والجهل والضلال، وأخلاق الجاهلية وعوائدها- رجال لم يخل منهم دور من أدوار التاريخ الإسلامي، يجددون لهذه الأمة أمر دينها، وينفخون فيها روح الجهاد، ويعملون على إقامة المنهج الإسلامي وإقامة الخلافة الراشدة في الأرض، ويمكن أن

_ 1 نقلا عن محمد قطب: "هل نحن مسلمون؟ " ص25. 2 آدم متز: "الحضارة الإسلامية" ج1 ص24.

يقال -بعد هذا الاستعراض السريع- إن الفساد على أي حال ظل جزئي لم يعم المجتمع الإسلامي كله وإن أصاب جانبًا منه، فقد كان معظم المسلمين يعيشون في مفهوم الإسلام ويكيفون به حياتهم، ويعملون على نشر المد الإسلامي في بقاع الأرض، شاعرين بأن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، شاعرين بالاستعلاء الذي يصنعه الإيمان في نفوس المؤمنين، وبالتبعة الكبرى التي يفرضها الإيمان عليهم في ذوات أنفسهم وفي مجتمعهم، وبالإخاء الحقيقي الذي يجمع المؤمنين بعضهم إلى بعض، وبالمودة والتعاون، شاعرين أنهم أمة واحدة. غير أنه على كل حال يمكن التأكيد على أن الفترة المثالية كانت قد انتهت وبدأت فترة عادية من تاريخ الإسلام، وإن كانت -وهي عادية بالنسبة للإسلام- أعلى فترة في تاريخ الأرض1. فإذا ألقينا نظرة عامة على التاريخ وفق تسلسل العصور بعد عصر الراشدين فإننا نلاحظ ما يلي:

_ 1 انظر: "هل نحن مسلمون" محمد قطب ص100 وما بعدها.

في العصر الأموي

في العصر الأموي: ظلت مفاهيم الإسلام في هذا العصر حية قوية في نفوس المسلمين، وكانت العقيدة محور الحياة الإسلامية وإلى هذا السبب يعود عدم توقف حركة الفتح في هذا العصر، وإن كان قد وقع في هذا كسر في المبادئ وبخاصة ما يتعلق بإثارة الروح العصبية، والنعرة ضد الموالي، وبعض ما يتصل بأمور الحكم والمال، ولكن هذا الكسر ظل جزئيًّا لم يعم أفراد المجتمع المسلم. ولقد واجه الأمويون في بلاد العراق كثيرًا من الصعاب في توطيد نفوذهم على أن أهم الأحداث التي شغلت الأمويين انتشار نفوذ الخوارج في أمصار العراق، والحركات العنيفة التي قام بها شيعة الكوفة ومن انضم إليهم من

الموالي، وعلى الرغم من أن عمر بن عبد العزيز -رحمه الله تعالى- رأى -بما عرف عنه من ميل إلى المسالمة- أن يسلك مع الخوارج سياسة اللين، فرحب بالاستماع إلى مآخذهم، لتتاح له الفرصة لإقناعهم بحرصه على التزام جادة الصواب، إلا أن الخوارج لم يقلعوا عن إثارة الصعاب أمام الأمويين في بلاد العراق والجزيرة بعد وفاة عمر بن عبد العزيز، وكانوا يثورون بالأمويين كلما أتيحت لهم الفرصة حتى اشتدت وطأتهم في أواخر عهد بني أمية، وتكاثر عددهم كما تطلعوا إلى الحكم بعد أن كانت غايتهم النجاة بأرواحهم، وانقسموا إلى فرق عدة منه: الأزارقة والصفرية والإباضية وغيرها، واحتدم الخلاف بين الأمويين والشيعة حتى تطور إلى واقعة كربلاء التي قتل فيها الحسين -رضي الله عنه- في العاشر من المحرم سنة 61هـ، وكانت هذه الواقعة سيئة الأثر على المسلمين، فقد أنتجت ضروبا من الشقاق والجدال فيما بينهم، وانتقلت الشيعة من الإطار السياسي إلى الإطار الطائفي بعد أن دخل فيها كثير من السَّبئيَّة -أنصار عبد الله بن سبأ- وصارت فرقًا كثيرة ونحلًا متعددة، وانضم عدد من الموالي إلى فرق الشيعة التي ظهرت آنذاك، وظل الشيعة يتحينون الفرص للخروج على الأمويين حتى تم انتقال الخلافة بعد ذلك إلى العباسيين. ومما يعد في هذا العصر ضلالا كبيرا، وتحريفا خطيرا، وعدولا عن عقيدة الإسلام إلى غيرها من عقائد الكفر الشديد، ما جاء به عبد الله بن سبأ اليهودي، الذي اندس في صفوف المسلمين يؤلب الأمصار على عثمان رضي الله عنه، ثم غلا في شره وفساده، فدعا إلى تأليه علي رضي الله عنه.. "والذي يؤخذ من تاريخه أنه وضع تعاليمًا لهدم الإسلام، وألف جمعية سرية لبث تعاليمه، واتخذ الإسلام ستارًا يستر به نياته، نزل البصرة بعد أن أسلم ونشر فيها دعوته، فطرده واليها، ثم أتى الكوفة فأخرج منها، ثم جاء

مصر فالتف حوله ناس من أهلها، وأشهر تعاليمه: الوصايا والرجعة"1 ومن هذا نرى أن بذور الفتنة، وجذور الشر قد نشأت خلال هذه الفترة -التي اتسمت بالصراع السياسي الحاد- من قبل أعداء الإسلام وبخاصة اليهود.

_ 1 أحمد أمين: "فجر الإسلام" ص269.

في العصر العباسي

في العصر العباسي: لم تكن المدة الطويلة التي قضاها بنو العباس في منصب الخلافة على نمط واحد من ناحية سلطة الخلفاء، وإنما تفاوتت هذه السلطة مما جعل المؤرخين يقسمون مدة الخلافة العباسية إلى عصور: العصر الأول: "132-232هـ". العصر الثاني: "232-590هـ". العصر الثالث: "590-656هـ". وليس من شأننا هنا أن نستعرض بالتفصيل أبرز ما جرى في هذه العصور، فتلك مهمة البحث التاريخي المتخصص، ولكن من الملحوظ أن التفاوت بين هذه العصور كان بعيدًا من جوانب شتى: أ- كانت السلطة خلال العصر الأول قوية وكان الخلفاء يمارسون الحكم، ويخوضون المعارك، ويقودون الجيوش، ويحبون العلم، ويقربون ذويه.. وقد بلغت الثقافة في هذا العصر الذي يطلق عليه الباحثون "العصر الذهبي" شأوا بعيدًا، وقد "صور Professor Nichotson"

النشاط العلمي في العالم الإسلامي تصويرًا دقيقًا يحسن أن نقتبس منه السطور التالية.. قال: "كان جلة الباحثين وطلاب العلم من المسملين يرحلون في حماسة ظاهرة وسط القارات الثلاث "وهي عالم ذلك العصر" ثم يعودون إلى بلادهم كما يعود النحل محملًا بالعسل الشهي، فيجلس هؤلاء الباحثون ليرووا شغف الجماهير التي كانت تنتتظر عودتهم لتلتف حولهم، فينالوا من علومهم ومعارفهم زادًا وفيرًا، وخيرًا عميمًا، كما كان هؤلاء الباحثون يعكفون أحيانًا على تدوين ما جمعوا وما سمعوا، ثم يخرجون للناس كتبًا هي بدوائر المعارف أشبه، مع نظام وبلاغة عذبة، وهذه الكتب هي المصادر الأولى للعلوم الحديثة بأوسع ما تحتمله كلمة العلوم من معنى، وهي مرجع العلماء والباحثين، ومنها يستمدون فنونًا من الثقافة والمعرفة أعمق بكثير مما يظن الناقدون. ومن الطبيعي أن يكون العصر العباسي الأول أنسب العصور ملاءمة للنهضة الثقافية، فمدنية الإسلام بدأت فيه تستقر بعد هدوء حركة التوسع والفتوح التي كانت طابع العصر الأموي، والثقافة تنتشر بين الأمة إذا هدأت، واستقرت أمورها، وانتظم ميزانها الاقتصادي، وجل هذا قد توافر للأمة الإسلامية بعد قيام الدولة العباسية"1. ب- أما العصر العباسي الثاني: فقد ضاعت فيه السلطة من أيدي الخلفاء وانتقلت إلى أيدي الأتراك والبويهيين والسلاجقة فقد كان هؤلاء يسيطرون على الإدارة الحكومية في الداخل والخارج، ويدبرون الشئون العسكرية ويقومون بتدبير المسائل المالية، وقد ضعف الخلفاء أمامهم ضعفًا جعلهم يستأثرون بالنفوذ والسلطان في الدولة، ولقد أطلق المؤرخون على هذا العصر اسم العصر التركي تمييزًا له عن العصر الذي سبقه، والذي كان في أثنائه نفوذ الفرس كبيرًا.

_ 1 انظر "التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية". للدكتور أحمد شلبي ج3 ص213.

ج- أما العصر العباسي الثالث: "فقد ضعف فيه سلاطين السلاجقة وأخذت دولتهم في الانحلال والتفكك فقام بها حكام كثيرون عرفوا بالشاهات والأتابك. استقل كل منهم بجزء من مملكة السلاجقة، فانتهز الخليفة هذه الفرصة وأعلن استقلاله ببغداد وما حولها، وظل الخليفة ومن بعده أولاده يستمتعون باستقلال كامل في هذه المنطقة الصغيرة حتى دهم التتار العالم الإسلامي وهدموا بغداد وقتلوا الخليفة، وأنهوا خلافة بني العباس سنة 656هـ"1. ومما يسجل في العصر العباسي جملة أن الانحراف فيه أخذ جانبين هما: 1- الانحراف الفكري بدخول بعض المفاهيم الغربية على الفكر الإسلامي مما أدى إلى شيوع حركة الزندقة الناتجة عن رواسب الفلسفات النظرية التجريدية لدى اليونان والفرس والهند. 2- استشراء الفساد الخلقي وشيوع الترف والانصراف عن الجد في قصور الخلفاء والأمراء وانعكاس ذلك على المجتمع وبروز آثاره في جوانب من أدب هذا العصر. ولكنه -على أية حال- ظل انعكاسًا ضئيلًا بدليل انتشار الحركة العلمية ونمو الدعوة الإسلامية، وامتداد حركة الفتح -وبخاصة في المشرق- على الرغم مما وقع في أواخر هذا العصر من ضعف الدولة وتجزئة كيانها السياسي الذي أدى إلى سقوطها. على أن مما ينبغي الاهتمام به والالتفات إليه في العصر التركي -في صدد تقويمه تقويمًا صحيحًا -ما تحقق للمسلمين خلاله من مجد حربي، ويعود سببه إلى قوة العقيدة، وتحرك القيادة على أساس منها، كما في "عين جالوت" التي هزم فيها التتار، و"حطين" التي هُزِم فيها الصليبيون. على أنه مما يلاحظ هنا أنه كان هنالك ضعف في الحركة العلمية، ومظاهر

_ 1 المرجع السابق: ص15.

جزر في الروح الفاعلة المحركة لوصل الحياة في كل جوانبها بجوهر العقيدة.. وكانت هذه الظاهرة سائدة في وقت كانت أوروبا تنهل فيه من منابع ثقافة الإسلام وحضارته، لتستمد من ذلك عناصر نهضتها.

الصليبية والغزو الفكري

الصليبية والغزو الفكري: لم يستطع الصليبيون رغم تعاونهم وتآزرهم وحشد كل طاقاتهم، وإعطاء صفة القداسة لمعركتهم أن يتغلبوا على العالم الإسلامي خلال قرن كامل، وبعد أن تمت لهم الغلبة على بعض مواطن فيه احتاجوا إلى قرن آخر لتثبيت نفوذهم، وإقامة دول وكيانات فيه، ولكنهم لم يستطيعوا بعد تجدد حملاتهم في فترة الغزو الاستعماري الحديث التي تلت ما يسمى "بعصر النهضة" والتي بدأت رحلات استكشافية، وانتهت بحملات عسكرية، واحتلال للبلاد، وسيطرة على المسلمين.. لم يستطيعوا -على الرغم من هذا كله- تحقيق هدفهم في القضاء على الوجود الإسلامي وإن كانوا قد استطاعوا إحداث بعض الثغرات فيه: أ- كانت الهجمات المعادية -من قبل- هجمات خارجية حربية، وكانت طبيعة المجتمع الإسلامي آنذاك حية متماسكة، فلم تكن قد جمدت في المسلمين روح العقيدة، كما لم يتوقف النمو العلمي، بيد أنه لما تغير الحال فضعفت روح العقيدة، وتوقف النمو العلمي، أصبحت الهجمات المعادية داخلية وخارجية معًا، عسكرية وفكرية في آن واحد، واستطاع الأعداء بسبب ذلك أن يحتلوا مواقع أكثر وأخطر، وأن يمضوا بخطوات أوسع نحو هدفهم في زعزعة الوجود الإسلامي في نواحٍ شتى.. ب- انتشرت على أثر ذلك أفكار غربية لم يسبق أن ظهرت في أي عصر سبق، وقد لقيت هذه الأفكار المعادية التي صدرت عن أعداء الإسلام من

اليهود وغيرهم قبولاً من صرعى الغزو الفكري من بعض المنتسبين للإسلام، فشاعت على ألسنتهم وبأقلامهم فكرة فصل الدين عن الدولة، وفصله عن الاقتصاد والمجتمع، والمناداة بتحرير المرأة، والدعوة إلى تطوير الإسلام، والقول بالتزام المقاييس غير الإسلامية في الأخلاق. ج- وقد اقترنت مثل هذه الأفكار التي تستهدف الإسلام عقيدة وتشريعًا، ونظامًا وخلقًا، بإثارة طائفة من الشبهات التي لا ترتكز على أي سند علمي، أو برهان منطقي، كما اقترنت بمحاولة وضع نظم الحياة وفق القوانين الغربية، وصوغ الأخلاق وفق المفاهيم الغربية أيضًا، ووقع الفصل كذلك -في إطار التربية ومناهج التعليم- بين الدين والثقافة، وبين الدين والعلم على نحو ما جرى في أوروبا إِبَّان القرون الوسطى وما بعدها. وجرت عملية تزوير خطير في تفسير التاريخ، وتحليل الوقائع التي حلت بالمسلمين في العصر الحديث، والتمست الحلول في غير المنهج الإسلامي، كمحاولة تنظيم الأوضاع السياسية على أسس النظم السياسية الغربية المعاصرة دون تمحيص وتدقيق، وأخذ ما يلائم، ورفض ما لا يصلح، وكمحاولة تنظيم الأوضاع الاقتصادية على أسس من نظريات اقتصاد الغرب أو الشرق، وبذلك سادت النظم الرأسمالية أو الاشتراكية، ووقع ما لا بد أن يقع في ظل هذه الأنظمة من تنازع وعداء.. د- كان لهذا كله أثره الواضح في تمزيق بنية المجتمع الإسلامي، وتفريق صفوف المسلمين وضرب قاعدة الإخاء التي ينبغي أن تسودهم دون أن يفيد المجتمع من نقل التجارب الغربية أو الشرقية في دعم وضعه السياسي أو الاقتصادي. وإن مثل هذا المنحى الخطير في اتباع مناهج الحضارة الغربية قد أتاح لأعداء الإسلام أن ينفذوا إلى الأفكار والنفوس، والأخلاق ونمط

الحياة، من أجل الوصول إلى هدفهم الرئيسي الخطير، وهو أن يستلبوا من نفوس المسلمين عقيدتهم الأساسية التي تقرر أن "الحاكمية المطلقة لله" ولا شك أنه إذا استطاع هؤلاء الأعداء أن يبلغوا هدفهم في تجريد المسلمين من عقيدتهم، فإنهم بذلك يجعلون المسلمين فريسة سهلة لكل ما يضمرون لهم من شر ومكر وعدوان. هـ - إن الغزو الفكري يرمي -مهما حاول أن يتوارى ويستتر وراء دعوات ومفاهيم وشعارات- إلى الانسلاخ التام عن الإسلام، والإجهاز على العقيدة، وقد تطور هذا الغزو -كما يدرك المتتبع لتخطيطه ومساره- من مرحلة إلى مرحلة، فقد بدأ بالتظاهر باحترام الدين، وادعاء الموضوعية، والبروز بالسمة العلمية، ثم انتقل إلى مرحلة إثارة الشبهات عليه، ثم بمزاحمته بالأفكار المتنافية معه، المصادمة لمبادئه، ثم انتهى إلى الكشف عن حقيقة المحاولة وهي القضاء على العقيدة، واستبدالها بالتيار المادي الإلحادي المحض، الذي يقصد إلى الفصل بين الجيل المسلم وبين عقيدة الإسلام وأخلاقه ونظامه، وتدمير كل كيان سياسي أو تنظيم اجتماعي، أو اتجاه خلقي يقوم على أساس مبادئ الإسلام.

الفصل الرابع: خطط المبشرين والمستشرقين

الفصل الرابع: خطط المبشرين والمستشرقين الغزو الاستعماري والتبشير الغزو الفكري: أبعاده ومواجهته ... الغزو الاستعماري والتبشير الغزو الفكري: أبعاده ومواجهته: 1- لقد استطاعت قوى الشر أن تحتل بعض المواقع الرئيسة في هذا الحصن الإسلامي الشامخ، حين حاولت -بالغزو الفكري وبعث الجاهلية بصورة جديدة- أن تفصل بين هذا الجيل وبين إسلامه، مصمِّمَة بذلك على استئصال استمرار الإسلام في المسلمين، والقضاء على أن يكون للإسلام ناس يتحرك بهم إلى أهدافه. وانطلقت هذه القوة التي يجمعها الحقد على الإسلام ويحركها العداء للمسلمين -على ما بينها من تنافر واختلاف- لتحقيق الغرض القديم للجاهلية على مدار الزمن، فاستغلت التدهور الفكري، والاضطراب السياسي، والضعف والتمزق والانقسام، فسيطرت على البلاد الإسلامية وأخضعتها بالقوة والتآمر الماكر لنير استعمارها، وإذا كانت هذه القوى الاستعمارية قد احتلت الأرض، وسلبت الأموال، واستغلت الخيرات، وعاثت في البلاد الفساد، فقد كانت أخطر النتائج التي أعقبت هذا الغزو الصليبي الجديد، تلك التبعية الثقافية، التي بدأت إعجابًا بالمظاهر المدنية، والمبتكرات الصناعية، وتحولت -نتيجة الالتقاء بالغرب والأخذ عنه-

إلى شيوع روح الانهزام الفكري، وضياع روح الاعتزاز بالشخصية الإسلامية، لدى فريق ممن تخرج على أيدي أساطين الاستعمار ووفق خططه ومناهجه، وكان هؤلاء المتخرجون الذي سرعان ما تسلموا من أيدي أساتذتهم ومدربيهم زمام القيادة الثقافية والاجتماعية، أول الداعين إلى هذه التبعية الثقافية، والعاملين على نشرها والترويج لها.. بل لقد فرضوها -بما لهم من سلطة ونفوذ- في البلاد الإسلامية، واستطاع هؤلاء الذين فقدوا كل السمات الأصلية التي تربطهم بعقيدتهم وأمتهم أن يتولوا عن المستعمرين مهمتهم، وينشطوا لتحقيق أغراضهم، فأثاروا حملة التشكيك في مبادئ الإسلام وأوردوا الشبهات حول كثير من أحكامه، وحرصوا على أن يحجبوا الثقافة الإسلامية عن أبناء الإسلام؛ ليظلوا جاهلين بالحقائق الناصعة الكبرى التي جاءت بها رسالة الإسلام، وليتاح لهم -بسبب هذا الجهل بالمقومات الذاتية- أن يغرسوا المثل الغربية المادية والفكر المسموم والثقافة الدخيلة، وانفرد هؤلاء بالتخطيط التربوي ورسم السياسة التعليمية في كثير من البلاد الإسلامية، يحاولون أن يصبغوا الجيل المسلم -بتفكيره وأسلوب حياته- على أساس القوالب الغربية المحضة. وفقد -نتيجة ذلك- المقياس الصحيح والقوي للحكم على الأشياء، فأصبح بعض المسلمين يردد -ببلاهة وضياع شخصيته- كلمات الرجعية والتقدمية والتطور والتجديد، ويحاول أن ينقل التجارب الخاصة بالغرب وحده إلى الجو الإسلامي نقلاً تامًا دون تمحيص أو تمييز.. وانتشر الإلحاد والانهيار الخلقي.. وأخذ التقليد لأعداء الإسلام صوة التشبث التام بأسس الثقافة الغربية والحضارة المادية.. بل لقد بلغ الإسفاف في هذا التقليد حد الذوبان الكامل في بعض تفاهات المجتمع الغربي وأوضاعه التي يشكو هو منها وصح في هؤلاء قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لتتبعن سَنَنَ من قبلكم، شِبرًا بشبرٍ، أو ذراعًا بذراع، حتى لو دخل أحدهم جُحْرَ ضَبٍّ لدخلتموه".

2- وقد كانت لهذا الغزو الفكري آثار بالغة في تأثير الثقافة الغربية على الناشئة المسلمة، ذلك أن الغرب بادر إلى فرض الثقافة الغربية على المسلمين من خلال استيلائه على بلادهم ومصادر ثرواتهم، مما كان معناه أنه لن ينال الرزق في البلاد الإسلامية التي استولى الغربيون عليها إلا من يتلقى التعليم الذي فرضوه، فأقبلت الناشئة على المعاهد الغربية -تحت هذا الضغط الاقتصادي إقبالًا هائلاً، وتعلمت في معاهد الغرب جميع النظريات والمظاهر العلمية التي كانت بروحها وشكلها مناقضة لثقافتنا الإسلامية، وإذا كانت هذه المعاهد قد أخفقت في أن تخرج أبناء المسلمين عن دينهم، وأن تحولهم كفارًا مرتدين، فإنها -من ناحية أخرى- لم تجعل إلا قليلاً من هؤلاء على ولاء وفهم صحيحين للإسلام، من حيث الاعتقاد والفكرة، والنظرة والوجدان، والعلم والسلوك.. فقد نالوا من المسلمين في هذا المجال منالاً كبيرًا، وألحقوا بنا ضررا فادحًا، فقد استأصلوا من عقولنا وقلوبنا جذور ثقافتنا، وغرسوا فيها جذور ثقافتهم. كما فرضوا علينا كذلك نظمهم الاقتصادية من خلال فلسفاتهم ونظمه المادية، وفرضوا علينا قوانينهم أيضًا، ولم يبدلوا بذلك صورة نظامنا الاجتماعي فحسب، بل أحدثوا تغييرات هائلة في تصوراتنا الاجتماعية، كما فرضوا علينا مفاسدهم الخلقية وعاداتهم المتنافرة مع عاداتنا وتقاليدنا، ولم نأخذها كعادات أجنبية، بل نظر إليها بعضنا أنها نماذج للمثل الرفيعة والعادات الراقية.. 3- لقد كان تجاوب فريق منا مع أبعاد هذا الغزو الفكري تجاوبًا إيجابيًا ينطلق من نظرة الضعيف إلى القوي، والمغلوب إلى الغالب، والمنهزم إلى المنتصر، وكان دافع هؤلاء إلى التجاوب -على هذا النحو- أنهم قالوا: لا قِبَلَ لنا بالمقاومة بعد أن غلبنا على أمرنا، واستولى علينا غيرنا، وإننا إذا حاولنا المقاومة بؤنا بالإخفاق والخسران، فلا مناص لنا من أن نستفيد من كل فرصة من فرص الحياة، والمضي مع

ما أسموه ركب النهضة والرقي والتقدم1.. غير أن الغرب لم يستطع أن ينفرد بالتوجيه الفكري والثقافي انفرادًا تامًّا في البلاد الإسلامية، على الرغم مما بذله في سبيل هذا التفرد من مال وسلطة ودهاء وسياسة، وتبشير بالفكر الأوروبي وبالمسيحية، وإلحاح دائم على جعل المسلمين في يأس من حاضرهم ومستقبلهم. فقد وجد مقاومة ومعارضة لاتجاهه وغزوه.. وإذا كانت هذه المقاومة قد اتسمت -في أول الأمر- بطابع التحرر من السيطرة الاستعمارية فقد كانت هذه السمة السياسية ذات قواعد فكرية إسلامية أصيلة، بل كانت بواعثها الأساسية حماية الإسلام من أعدائه، وتقوية صلة المسلمين بدينهم وفهمهم لمبادئه فهمًا يمكنهم من السير في الحياة المعاصرة2.. لقد كان الاستعمار بحملاته العسكرية وغزوه الفكري وسيطرته السياسية والاقتصادية محنة حقًّا للعالم الإسلامي كله، ولكن المسلمين الذين ينتسبون إلى جميع الأجناس والألوان، ويمتدون في رقاعٍ كبيرةٍ من الأرض، لم يجدوا عصمة لهم من هذه المحنة إلا بالإسلام. فلم يلوذوا بكبرياء الجنس، والعنصر واللون، ولم يعتزوا بالأرض والتراب كما صنعت كثير من الأمم التي تعرضت لنكبات اجتياح عاصف من غزوات الأقوياء.. لقد بقي لهذه الأمة الإسلامية دينها الذي يردها إلى مقومات الحياة الحقة الكريمة3. وهذا الاعتصام بالدين الذي سرى تياره في كيان العالم الإسلامي إثر الغزو الفكري الغربي والهجمات الحاقدة التي رمى فيها أعداء الإسلام هذه الأمة الإسلامية عن قوس واحدة، هو

_ 1 انظر: "واقع المسلمين وسبيل النهوض بهم" تأليف: أبي الأعلى المودودي ص176، 182. 2 انظر "الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي" تأليف: الدكتور محمد البهي ص71. 3 انظر "الإسلام في القرن العشرين" تأليف: عباس محمود العقاد ص115.

الذي عمّق في المسلمين فكرة معالجة قضاياهم بروح عقيدتهم الحية الكاملة الشاملة. 4- وقد لفتت فكرة الاعتصام بالإسلام وحده في مواجهة الغزو الأجنبي -عسكريًّا واقتصاديًّا وفكريًّا- أنظار عدد من القادة السياسيين والمفكرين الإسلاميين إلى ضرورة الإلحاح -في إطار التربية والتوجيه- على تجلية الروابط بين المسلمين، والعوامل المشتركة التي تؤلف بينهم، وظهرت في هذا المجال دراسات وبحوث وافية عميقة، وانطلقت اتجاهات سياسية وفكرية في عدد من الأقطار الإسلامية تدعو إلى مواجهة التحديات بجرأة وثبات، وتضع مناهج في التربية والثقافة، والاجتماع والاقتصاد، على قاعدة الالتزام بالإسلام والولاء له، عقيدة وعبادة، وسلوكًا ونظامًا، وروابط وعلاقات، وكيانًا إسلاميًّا واحدًا يتجاوز منطق التجزئة ورواسب الضعف وآفات التخلف، ويطرح في حركته الجديدة -وهي أصيلة في نشأته ووجوده- كل التيارات الوافدة: من قومية وإقليمية، وغيرها من المذاهب المادية الهدَّامة.. وينطلق في معترك الحياة المعاصرة بعقيدة الإسلام ورسالته في المجتمع البشري، وهي رسالة الحضارة الخيرة المثلى، والسلام الشامل للإنسانية على هذه الأرض. ويمكن إجمال هذه الروابط والعوامل المشتركة في1: أ- وحدة العقيدة والمبادئ: وهي تقوم على تصور واحد للوجود والكون، وتوجز في عبارة جامعة هي "لا إله إلا الله محمد رسول الله". ويتفرع عن هذه العقيدة مبادئ ومفاهيم وأفكار وعواطف وتتولد عنها نتائج مهمة كان ولا يزال لها أثر في مجرى تاريخ الشعوب الإسلامية وفي حياتها.

_ 1 انظر تفصيل ذلك -تحليلًا وأمثلة: "المجتمع الإسلامي المعاصر" تأليف: محمد المبارك ص28-32.

ب- وحدة القيم الخلقية: ويتميز المجتمع الإسلامي -في هذا الجانب- بالتوافق المبدئي في تقويم الأعمال من الوجهة الأخلاقية وتحديد الخير والشر، والفضائل والرذائل. ج- العادات: ويشترك أفراد المجتمع الإسلامي -بباعث هذا الاتفاق في التقويم للأعمال والأشياء- في كثير من العادات التي يُحَكِّمون فيها الإسلام تحليلاً وتحريمًا. د- الثقافة: ويشترك المسلمون في عناصر هذه الثقافة الإسلامية الواحدة وأصولها وعناصرها، فهم يدرسون القرآن الكريم والحديث الشريف والعقيدة وأحكام العبادات والمعاملات والأخلاق وسائر تعاليم الإسلام. كما يقرءون كثيرًا من آثار الفكر الإسلامي في مختلف الميادين والعصور في الأدب والتاريخ وتراجم الرجال وسائر جوانب الثقافة الإسلامية. هـ- التاريخ: لما كانت الأحداث التاريخية عاملاً مهمًا في تكوين نفسية الأمة وعواطفها وأفكارها وتوحيد مواقفها؛ فإن المسلمين يشتركون جميعًا في أحداث الإسلام وصفحاته وانتصاراته ونكباته، وتتوحد نظرتهم إلى شخصيات تاريخهم الإسلامي عهوده المختلفة، وفق مقياس الإسلام في ذلك. و التشريع والأحوال الاجتماعية: لقد طبع التشريع الإسلامي -الذي يرجع في أصوله إلى القرآن والسنة- المجتمع الإسلامي في جميع البلاد بطابع واحد. فتشريع الأسرة وتنظيم العلاقات المالية والتجارية بين الناس هو تشريع واحد، ولم يطرأ الخلل على هذه الوحدة التشريعية إلا في القرن الأخير حين بدأت عدد من البلاد الإسلامية تستبدل بالتشريع الإسلامي التشريع الأجنبي، وبقيت بعض البلاد الإسلامية سائرة في طريقها الأول في تنفيذ التشريع الإسلامي.

إن هذه العوامل الفكرية والثقافية والتاريخية والاجتماعية والسياسية أوجدت -عبر الروابط المشتركة بين المسلمين والانسجام في طرق تفكيرهم وأساليب سلوكهم ومظاهر حياتهم- حقيقة "المجتمع الإسلامي" ممثلة في كل واحد من الشعوب الإسلامية، كما أظهرت تميز هذا "العالم الإسلامي" عن العالم الآخر من ديموقراطي غربي، واشتراكي ماركسي، ووثني آسيوي إفريقي1.. وبذلك يظهر -كما يقول "أرنولد توينبي": "إن التقليد الإسلامي في أخوة الإنسان للإنسان هو مثل أعلى يوافق حاجات العصر الاجتماعية، وهو أفضل من التقليد الغربي الذي أدى إلى قيام عشرات الدول الصغيرة ذات السيادة على أساس الاختلاف القومي". ويقول: "ومن المأمول أن يستطيع العالم الإسلامي على كل حال إيقاف انتشار هذا الداء السياسي الغربي "القومية" وذلك عن طريق الشعور الإسلامي القوي بالوحدة"2.

_ 1 انظر المرجع السابق ص32 2 أرنولد توينبي: "الإسلام والغرب والمستقبل" تعريب: الدكتور نبيل صبحي ص28.

الثقافة وهدف العداء

الثقافة وهدف العداء: 1- أصبحت مشكلة الثقافة في البلاد الإسلامية -بسبب التبعية للغرب والانبهار بحضارته والإعجاب بقوته- أبرز المشكلات؛ لما للثقافة من أثر قوي في تحديد اتجاه الأمة وولائها ومعرفة ملامح شخصيتها والحكم على مستقبلها. فالثقافة ليست -في حياة الأمم- علومًا ومعارف وآدابًا وفنونًا فحسب، ولكنها -كما سبق ذكره- مناهج فكر وخلق تصبغ حياة الأمة بصبغتها في شتى ضروب نشاطها، وتتجاوز بشكلٍ عام

إطار الجماعة وحدها؛ لتؤثر في حياة كل فرد تأثيرًا خاصًّا، وتوجه سلوكه توجيهًا معينًا.. وهي -على أي حال- عامل بناء أو عنصر هدم.. فإذا كانت صحيحة سليمة مرتكزة على أسس خيِّرة؛ فإنها ترتفع بالأمة وتنهض بها، وتحقق لها ما تصبو إليه من حرية وكرامة ومجد.. وإن لم تكن كذلك، بل كانت مزيجًا من الأخلاط الغربية الملتمسة من الفكر الغريب المنحرف والتوجيه الفاسد القائم على التخطيط الشرير؛ فإنها تنحدر بالأمة إلى أحط المستويات وتكبلها بالأغلال وتتركها فريسة لكل طامع.. ولهذا تعنى الأمم الحية -كما أسلفنا- بثقافتها وتعمل على حياطتها من عوامل الخلل والضعف، وتسعى جاهدة لترسيخ أسسها وتقوية سلطانها، ومدها بكل أسباب الحياة، وتصل بينها وبين أبنائها بأقوى الأواصر، وتعدها من أولى القضايا التي يعد إهمالها أو التفريط بها خطرًا كبيرًا يهدد حاضرها ومستقبلها. ولقد عني أعداء الإسلام عناية كبيرة بثقافتهم، وسخروها لأهدافهم ومطامعهم وكان تخطيطهم الثقافي متناسقًا كل التناسق مع تخطيطهم العسكري، مدفوعًا بتلك الروح الصليبية الحاقدة التي قذفت بهم من شواطئ أوربا للسيطرة على البلاد الإسلامية، وقهر المسلمين واستعبادهم، وتكشف هذه الواقعة التاريخية عن حقيقة هذا التناسق بين التخطيطين الثقافي والعسكري: "ففي عام 1924م ظفر "رامون لل" بمقابلة من البابا "سلستن الخامس" وقدم له كتابين فيهما خطة للتبشير بين المسلمين في الأكثر، وكانت خطة "رامون لل" ذات شقين، أولهما: أن يتخذ العلم والمدارس وسيلة للتبشير، وثانيتها: أن يُنصَّر المسلمون بالقوة إذا لم تنفع فيهم

الجهود السلمية"1. وقد ذكر "أدوين بلس" الذي ألف كتاب "ملخص تاريخ التبشير" أن "رامون لل" الإسباني هو أول من تولى التبشير بعد أن فشلت الحروب الصليبية في مهمتها؛ فتعلم اللغة العربية بكل مشقة، وجال في بلاد الإسلام وناقش علماء المسلمين في بلاد كثيرة2. 2- إن الغاية لدى أعداء الإسلام واضحة مكشوفة يجاهر بها بعض ساستهم، ورجال الدين والفكر والاقتصاد مجاهرة لا مواربة فيها، كما يحاول بعض هؤلاء أن يكتموا حقيقة أهدافهم بضروبهم من المخاتلة والمراوغة تأخذ طابع الدعاوى العريضة مثل: الرسالة الإنسانية ونشر الحضارة وبث المدنية والنهوض والتقدم ونحو ذلك.. والحقيقة أن الغاية هي القضاء على الإسلام وتمزيق المسلمين واتخاذ كل وسيلة ممكنة لبلوغها، وحول حقيقة هذه الغاية يلتقي كل أعداء الإسلام في جبهة واحدة مهما كانت اختلافاتهم عميقة الجذور، عريقة في التاريخ، لا يتصور معها أي توافق أو لقاء..؛ لأن حقدهم على الإسلام وعداءهم الشديد له وحرصهم على تدميره وتدمير أبنائه يلغي استحالة لقائهم واتفاقهم وتعاونهم، ويجعله ممكنًا ميسورًا، بل أمرًا لا بد من المبادرة إليه، وتذليل الصعوبات التي تعترضه، وبذل كل الجهود لتحقيقه، والإنفاق على ذلك بغير حساب.. ومن هنا نجد دائمًا أن الدول والحركات، والاتجاهات والمبادئ والمذاهب السياسية والاجتماعية ... التي يجمعها عداؤها للإسلام ... تتحول بسرعة عجيبة من كيانات واتجاهات متناقضة متنافرة.. إلى كيان موحد متلاحم البنية متناسق

_ 1 الدكتوران: عمر فروخ ومصطفى الخالدي: "التبشير والاستعمار" ص77. 2 انظر: "الغارة على العالم الإسلامي" تلخيص وتعريب محب الدين الخطيب ومساعد اليافي ص29، 262 وجاء في: "الآداب العربية في القرن التاسع عشر" تأليف: الأب لويس شيخو اليسوعي ج1 ص12 "أن ريمند لل R. Lull "1235-1315" كان من أكبر أنصار اللغات السامية في كلية أوروبا. وهو إسباني ويتبع الرهبانية الفرنسية.

الحركة، حين يتصل الأمر بتحقيق الهدف المشترك وهو النيل من الإسلام والمسلمين. لقد ظهر في عام 1932 كتاب اسمه "التفكير الجديد في أمر الإرساليات" أصدرته لجنة من المبشرين وفيه: أن المبشرين يفرضون على أنفسهم أن يكونوا مستعدين لأن يقبلوا بأمور تخالف العقيدة المسيحية.. "ويرى هذا الكتاب أن جميع المبشرين من بلاد رأسمالية، ولكن هذا يجب ألا يمنعهم من تفهم المذاهب الاقتصادية الأخرى كالاشتراكية والشيوعية. وعليهم أن يطعنوا الرأسمالية إذا كان ذلك يفتح لهم قلوب الخاضعين قهرًا لها، حتى إنه ليس ثمة مانع يمنع مصادقة الشيوعيين أيضًا، وإن كانت الشيوعية عدوة للنصرانية" ويقول "تشارلس واطسون" -في نصحه للمبشرين بالتلون في سبيل تحقيق هدفهم التبشري: "يجب أن يظلوا برآء كالحمام، ولكن هذا لا يمنعهم أيضًا من أن يكونوا حكماء كالحيات"1. 3- وإذا كانت رسالة الرجل الأبيض -وهي عنوان الاستعمار الحديث بجميع صوره وأشكاله النتيجة التي آلت إليها حركة أوروبا في العصر الحديث، فإن هذه النتيجة قد سبقتها مقدمة قبلها وهي حركة الحروب الصليبية، وليست تفهم حركة الاستعمار الحديث -سياسيًّا وعسكريًّا وثقافيًّا واقتصاديًّا- إذا لم تفهم قبلها حق الفهم حركة الحروب الصليبية. ولا نحسب أننا نفهم سر انتقال الدعوة الصليبية إلى ما يسمى برسالة الرجل الأبيض إلا إذا فهمنا أن الرسالة الجديدة جاءت لتحل محل الحركة الصليبية الأولى، كما جاءت لتمتد بها وتستفيد من سوابقها.. فرسالة

_ 1 انظر: "التبشر والاستعمار" ص51-52.

الرجل الأبيض -مبشرًا وطبيبًا ومعلمًا- هي نسخة مكررة من رسالة المحارب الصليبي القديم الذي جاء إلى بلاد المسلمين بكل ما في صدره من حقد وضغينة "وهو يصغي إلى الريح التي تصفر من بعيد؛ من شواطئ رومه ومن شواطئ فرنسا وهو يردد: "إن الله يريدها" أي إن الله هو الذي أراد الحروب الصليبية1.

_ 1 انظر: "التبشير والاستعمار" ص38 وانظر: "لا شيوعية ولا استعمار" تأليف: عباس محمود العقاد ص94-96.

المواقع الثقافية وحملات التشويه

المواقع الثقافية وحملات التشويه: 1- ولقد شهدنا -في هذا العصر- مبلغ حرص الدول الاستعمارية على إنشاء المواقع الثقافية لها في البلاد الإسلامية؛ لتؤدي من خلالها مهمة استعمارية مزدوجة، وذلك بأن تنشر مفاهيمها الخاصة من جهة، وتشوه -من جهة أخرى- المفاهيم الإسلامية الأصيلة في حياة المسلمين، وبخاصة تلك المفاهيم التي يعتبرها المستعمرون من معوقات أهدافهم الاستعمارية البعيدة المدى. إن المفاهيم الخاصة بهم التي يحرصون على غرسها في عقول أبناء المسلمين وتربيتهم عليها، وإنشائهم على التزامها، وصياغتهم للمستقبل على أساس منها، فهي المفاهيم النصرانية المحضة، التي تتراوح بين الغاية القصوى وهي: جعل المسلم نصرانيًّا في عقيدته، وبين ما دون ذلك من الغايات إذا تعذر إدارك الغاية القصوى، وتقوم هذه الغايات الأخرى على محور واحد وهو أن ينفك المسلم عن إسلامه بأي صورة من الصور، بدءًا من عاداته ومظاهر حياته، نهايةًً بعقيدته وتصوراته. جاء في كلمة "شاتليه" عن إرساليات التبشير البروتستانتية: "ولا شك في

أن إرساليات التبشير -من بروتستانتية وكاثوليكية- تعجز عن أن تزحزح العقيدة الإسلامية من نفوس منتحليها، ولا يتم لها ذلك إلا ببث الأفكار التي تتسرب مع اللغات الأورربية، فبنشرها اللغات الإنكليزية والألمانية والهولندية والفرنسية، يتحكك الإسلام بصحف أوروبا، وتتمهد السبل لتقدم إسلامي مادي، وتقضي إرساليات التبشير لبناتها من هدم الفكرة الدينية الإسلامية، التي لن تحفظ لها كيانها وقوتها إلا بعزلتها وانفرادها". ويقول: "ولا ينبغي لنا أن نتوقع من جمهور العالم الإسلامي أن يتخذ له أوضاعًا وخصائص أخرى إذا هو تنازل عن أوضاعه وخصائصه الاجتماعية؛ إذ إن الضعف التدريجي في الاعتقاد بالفكرة الإسلامية، وما يتبع هذا الضعف من الانتفاض والاضمحلال الملازم له سوف يفضي -بعد انتشاره في كل الجهات- إلى انحلال الروح الدينية من أساسها لا إلى نشأتها بشكل آخر. ويدعو أخيرًا إلى أن يكتفي المبشرون من أهدافهم بانحلال الروح الإسلامية لدى المسلمين فيقول: "فلنقتصر إذن على القول بأن سير العالم الإسلامي تدرج نحو انحلال أفكاره الدينية وزوالها. وذلك أمر طبيعي ممكن التحقيق. أما فرض تدرج المسلمين إلى اعتناق المسيحية فخارج عن حد الإمكان"1. 2- ولقد شكا المبشرون في عدد من المؤتمرات التبشيرية من إخفاقهم في تحويل المسلمين إلى النصرانية وقالوا: إنه لا يستجيب أحد من المسلمين للتبشير إلا أحد اثنين: طفل مخطوف من أهله وهو صغير فيربى على

_ 1 انظر: "الغارة على العالم الإسلامي" ص17-20.

النصرانية وهو جاهل بأصل عقيدته، أو رجل معدم لا يجد سبيلًا للعيش إلا الدخول في النصرانية ليحصل على لقمة الخبز ويظل من المشكوك فيه أنه غيَّر عقيدته حقيقة. إزاء هذه الشكوى قام القس "صموئيل زويمر" يقول في نهاية هذا المؤتمر: "إن الخطباء قد أخطئوا أيما خطأ، وإنه ليس الهدف الحقيقي للتبشير هو إدخال المسلمين في النصرانية، وإنما الهدف هو تحويل المسلمين عن التمسك بدينهم، وفي ذلك قد نجحنا نجاحًا باهرًا عن طريق مدارسنا الخاصة. وعن طريق المدارس الحكومية التي تتبع مناهجنا"1. 3- وبدا واضحًا أن الغربيين الحاقدين -من مبشرين ومستشرقين وغيرهم- أدركوا إخفاقهم في تحويل المسلمين إلى نصارى، فلجئوا إلى خطتهم الرامية إلى تشويه المفاهيم الإسلامية بكل وسيلة، وركزوا اهتمامهم على تلوين المسلمين بالنصرانية والمفاهيم الغربية والمادية تلوينًا يبعدهم عن عقيدتهم الإسلامية، ثم يدينهم -فكرًا وخلقًا وولاءً وشعورًا- من الغرب. يقول "جيب" في كتابه "إلى أين يتجه الإسلام؟ " موضحًا موقف التفكير الديني إزاء الثقافة الغربية: "إنه قد يبدو للنظرة الأولى أن الجمهرة العظمى من المسلمين لم تتأثر بمؤثرات دينية أوروبية، وأن التفكير الديني الإسلامي قد ظل وثيق الاتصال بأصوله الدينية التقليدية. ولكن ذلك ليس هو الحقيقة كلها. فالواقع أن التعاليم الدينية ومظاهرها -عند أشد المسلمين محافظة على الدين وتمسكًا به- قد أخذت في التحول ببطء خلال القرن الماضي. فإن دخول عناصر جديدة على الحياة الإسلامية

_ 1 انظر: "معركة التقاليد" تأليف: محمد قطب ص181.

كان يقتضي إبراز بعض تعليمات الدين، وتوجيه عناية أكبر لها، ووضعها في المكان الأول، ووضع تعليمات أخرى في مرتبة غير أساسية، وإذا حدث هذا فمعناه: أن الموازين الدينية والتعاليم الأخلاقية في الإسلام آخذة في التحول، وأن هذا التحول يتجه نحو تقريبه من الموازين الغربية في الأخلاق، التي هي في الوقت نفسه متمثلة في التعاليم الأخلاقية للكنيسة المسيحية1. 4- ولقد شن المبشرون والمستشرقون وغيرهم من أعداء الإسلام حملة شديدة على القرآن الكريم، وكان أول همهم أن يبحثوا لأوروبا عن سلاح غير أسلحة القتال لتخوض المعركة مع هذا الكتاب الذي سيطر على الأمم المختلفة الأجناس والألوان والألسنة، وجعلها أمة واحدة، تعد العربية لسانها، وتعد تاريخ العرب تاريخها، وقد لخص "وليم غيفورد بلغراف" الإنكليزي -الذي سُمّي "الحرباء" بسبب تحوله إلى راهب يسوعي بعد أن كان قسًّا بروتستانتيًّا، ثم عاد بعد ذلك إلى بروتستنتي كما كان -لخص "بلغراف" هذا عداء الغربيين للقرآن في كلمته المشهورة: "متى توارى القرآن ومدينة مكة عن بلاد العرب يمكننا حينئذ أن نرى العربي يتدرج في سبل الحضارة التي لم يبعده عنها إلا محمد وكتابه"2. ويقول أحد المبشرين "جون تاكلي": "يجب أن نستخدم كتابهم -أي: القرآن الكريم- وهو أمضى سلاح في الإسلام، ضد الإسلام نفسه لنقضي عليه تمامًا. يجب أن نُرِي هؤلاء الناس أن الصحيح في القرآن ليس جديدًا، وأن الجديد فيه ليس صحيحًا"3.

_ 1 انظر: "الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر" للدكتور محمد محمد حسين ج2 ص199. 2 انظر: "أباطيل وأسمار" تأليف: محمود محمد شاكر، فصل "وهذا هو تاريخها" يعني الدعوة إلى العامية وهي إحدى وسائل المبشرين والمستشرقين. ص169-194. وانظر: "التبشير والاستعمار" ص35. 3 التبشير والاستعمار ص40.

5- ولقد دعوا في سبيل تحقيق أهدافهم الخبيثة إلى تطوير الإسلام تطويرًا تامًّا، وبثوا فكرة إعادة تفسيره، بحيث يبدو متفقًا مع الحضارة الغربية وغير متعارض معها على الأقل، بدل أن يبدو عدوًا لها أو معارضًا لقيمها وأساليبها. والحضارة الغربية -في حقيقتها- قائمة على الحضارة الرومانية الوثنية "أو لا تزال في واقعها وثنية مادية لا تؤمن بغير القوة". من أجل ذلك نرى فرقًا عظيما بينها وبين الإسلام الذي بني على الروح والأخلاق والمثل العليا، تلك الأسس التي جعلت في الإسلام مناعة ذاتية جبارة، ولا ريب في أن هذه الحقيقة الثمينة قد انكشفت لغلادستون -وزير بريطانيا الأول وأحد موطدي أركان الإمبراطورية في الشرق- حين قال: "ما دام هذا القرآن موجودًا فلن تستطيع أوربا السيطرة على الشرق، ولا أن تكون هي نفسها في أمان"1. إن هذا التطوير الذي انطلقت الدعوة من دوائر المستشرقين والمبشرين في الغرب، إنما يعني في الحقيقة هدم الإسلام ونسف أصوله والقضاء عليه كقوة فاعلة في هذه الأرض تنشر الهدى وتكافح الشر.. ولقد جال هذا الاستعمار جولات خطيرة تحت شعار التطوير والتجديد والتقدم وغير ذلك من الشعارات.. إلى جانب جولاته العسكرية التي تستخدم الحديد والنار.. وكان في جولاته هذه كلها يخوض معركة محاولة اقتلاع الإسلام من الجذور.. وهي معركة أراد بها تشويه تعاليم الإسلام باسم العلم والحضارة والتقدم والتطور، ونشر هذه الصورة المشوهة في قلوب المسلمين، بالإضافة إلى إذلالهم والسيطرة عليهم واحتلال أرضهم.. وإذا كان الاستعمار قد احتاج -كما أسلفنا- إلى جهود مضنية للاستيلاء على العالم الإسلامي، استغرقت قرنًا من الزمان..

_ 1 الدكتور عمر فروخ في حواشي كتاب: "الإسلام على مفترق الطرق" تأليف: محمد أسد ص41.

فقد احتاج إلى قرن آخر لمحاولة تقويض الإسلام من الداخل، من مكمن العقيدة في داخل النفوس.. وهي محاولة ليست سهلة ميسورة، لقوة رسوخ العقيدة في نفوس المسلمين، ومدى مقاومتها للأحداث الرهيبة.. ولكن الاستعمار الصليبي لم ييأس، ووضع الخطط الماكرة لتوهين العقيدة في نفوس المسلمين، واستطاع أن يربي على سمومه الخبيثة هذه أجيالا لا تعرف من الإسلام إلا اسمه، وإلا أنه علاقة بين "العبد وربه" لا صلة لها بالسلوك العملي، ولا علاقة لها بشئون المجتمع وشئون الحياة، أو لا تعرف عنه إلا أنه رجعية وجمود وتأخر، ينبغي الانسلاخ منها للحاق بركب الحياة.. 6- وقد انتشرت هذه الأفكار وراجت هذه المفاهيم في العالم الإسلامي على أيدي طائفة من الكتاب المثقفين والباحثين الذين أوكل إليهم الاستعمار مهمة التوجيه والتأثير، وقيادة الفكر والثقافة وأمور التربية والتعليم.. وكانت الدوائر التبشيرية والاستشراقية هي المحاضن الأساسية التي أنفق عليها المستعمرون نفقات كبيرة، ورصدوا لها أضخم الميزانيات، وزودوها بجيش من الخبراء؛ فأصبحت المؤسسات الثقافية التابعة لهذه الدوائر الاستعمارية الصليبية تضم بين جنباتها مئات الألوف من أبناء العالم الإسلامي في آسيا وإفريقيا. ومما يدل على ذلك ويؤكده -على سبيل المثال لا الحصر: أ- ما صرح به القائد الفرنسي الجنرال "بيير كيللر" في قوله عن المعاهد الفرنسية في لبنان: "فالتربية الوطنية كانت بكاملها تقريبًا في أيدينا، بداية حرب عامي "1914-1918م" كان أكثر من اثنين وخمسين ألف تلميذ يتلقون دروسهم في مدارسنا، وكان بين هؤلاء فتيان وفتيات ينتمون إلى عائلات إسلامية عريقة"1.

_ 1 "القضية العربية في نظر الغرب" ص34 نقلًا عن محمد محمد حسين في كتابه "الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر" ج3 ص266.

إن أهداف الاستعمار من إنشاء المواقع الثقافية له في البلاد الأخرى -وبخاصة البلاد الإسلامية- هو تخريج قادة يستلمون بعد رحيله الذي لا بد أن يقع زمام التوجيه والتخطيط؛ لتحقيق مفاهيمه الاستعمارية، في العقيدة والفكر، والسياسة والاجتماع، وليكونوا مستخلفين من بعده على قومهم في تنفيذ المبادئ التي رباهم عليها، ونشر الثقافة التي تخدم مطامعه وأغراضه، والتي يعطيها -خداعًا وتضليلاً- صيغ العلاقات الطيبة والتفاهم المتبادل.. ب- وقد عبر اللورد لويد -حين كان مندوبًا ساميًا لبريطانيا في مصر- عن هذه الأهداف تعبيرًا صريحًا في خطبته التي ألقاها في كلية "فيكتوريا" بالإسكندرية سنة 1926م حين قال: "لقد أوجد اللورد كرومر شركة وطيدة بين بريطانيا ومصر، وهذه الشركة مهما تغيرت أشكالها لازمة للشريكين، وهذا يجعل استمرارها لا مندوحة عنه، فعلينا أن نقوي كل ما لدينا من وسائل التفاهم المتبادلة بين البريطانيين والمصريين.. وقد كان هذا التفاهم المتبادل غاية لورد كرومر من تأسيس كلية فيكتوريا بوجه عام، ومن تأسيسها في الإسكندرية بوجه خاص، وهي غاية أعتقد أن الكلية تحققها.. وليس من وسيلة لتوطيد هذه الرابطة أفضل من كلية تعلم الشبان من مختلف الأجناس المبادئ البريطانية العليا". وبعد أن أشار إلى أن المدرسة تضم طلبة ينتمون إلى ثمانية أجناس أو تسعة قال: "كل هؤلاء لا يمضي عليهم وقت طويل حتى يتشبعوا بوجهة النظر البريطانية، بفضل العشرة الوثيقة بين المعلمين والتلاميذ، فيصيروا قادرين أن يفهموا أساليبنا ويعطفوا عليها.. ومتى تسنى للجمهور أن يعرف هذه الكلية أكثر مما عرف عنها في الماضي، ينتبه الآباء إلى أن تعليم أولادهم فيها ينمي فيهم من الشعور الإنكليزي ما يكون كافيًا

لجعلهم صلة للتفاهم بين الشرقي والغربي، كما كانت الإسنكدرية في أيام عظمتها في عهد البطالسة"1.

_ 1 محمد محمد حسين "الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر" ص267-268.

مدارس الإرساليات التبشيرية

مدارس الإرساليات التبشيرية: 1- لقد أدرك الغرب المستعمر الزاحف على الشرق المسلم بضراوة وحقد وتعصب أن أكثر الوسائل جدوى وقوة وتأثيرًا؛ لتحقيق غايته هي التركيز على الجانب التربوي والتعليمي. وحول هذا الجانب يقول "هنري جيب": "إن التعليم في مدارس الإرساليات المسيحية إنما هو واسطة إلى غاية فقط، هذه الغاية هي قيادة الناس إلى المسيح، وتعليمهم حتى يصبحوا أفرادًا مسيحيين وشعوبًا مسيحية، ولكن حينما يخطو التعليم وراء هذه الحدود ليصبح غاية في نفسه، وليخرج لنا خيرة علماء الفلك وطبقات الأرض وعلماء النبات وخير الجراحين والأطباء في سبيل الزهو العلمي، فإننا لا نتردد حينئذ في أن نقول: إن رسالةً مثل هذه قد خرجت عن المدى التبشيري المسيحي إلى مدى علماني محض"1. 2- ويرى المبشرون -ومن ورائهم الدوائر الاستعمارية الصليبية- أن المدارس ليست غاية في ذاتها، وأنها لا تعدو أن تكون وسائل بالغة التأثير الذي يستمر حتى يشمل أولئك الذين سيصبحون يومًا ما قادة في أوطانهم2. ومن هنا فقد ركز الغرب اهتمامه على فتح المدارس على كافة المستويات،

_ 1 انظر: "الغارة على العالم الإسلامي" ص17-20. 2 انظر "التبشير والاستعمار" ص66-67.

من رياض الأطفال حتى الجامعات.. بالإضافة إلى التفاته إلى البعثات التي تفد إلى دياره.. ويتضح بذلك أن تنفيذ هذه الوسيلة قد أخذ طابع الاحتواء الكامل لكل أنواع المؤسسات التعليمية والثقافية والتوجيهية، بالإضافة إلى المؤسسات الطبية والمراكز الاجتماعية وغيرها. 3- ويرفض المبشرون في مدارسهم التابعة لإرسالياتهم الأجنبية أن يتقيدوا بالمناهج الرسمية؛ لأن هذا التقيد يفقد مدارسهم صفتها التبشيرية المسيحية ويجعلها في عداد المدارس الوطنية فتبطل الغاية من وجودها، ويتفق المبشرون جميعًا على أن التعليم أفضل الطرق التبشيرية، كما يتفقون على أن المقصود الأول بالتبشير من طريق التعليم هم المسملون، ولهذه الأسباب يعمل المبشرون على استغلال الجهل بين الشعوب الإسلامية لينفذوا من ذلك إلى غاياتهم. كتب "بنيامين ماراي" مقالاً في مجلة العالم الإسلامي -وهي مجلة فرنسية خاصة بأعمال المبشرين الكاثوليك- وكان موضوع المقال: "شمالي نيجيرية ميدان للتبشير" وقد استعرض فيه حالة تلك البلاد وما عليه من التأخر العلمي على الأخص؛ إذ إن الذين يحسنون القراءة والكتابة أو شيئًا من الكتابة لا يتجاوز اثنين ونصف بالمائة، ثم قال: "وهذا يتيح فرصة عظيمة للتعليم التبشيري المسيحي"1. 4- ولقد بدأ المبشرون بإنشاء مدارسهم في البلاد الإسلامية في وقت مبكر جدًّا، فأنشئوا أول مدرسة للبنات في بيروت عام 1830م. وعلى الرغم من أن اهتمامهم قد انصرف أولاً إلى الأطفال والبنات في سن مبكرة، وأنشئوا لهذا الغرض مئات المدارس في البلاد العربية -وبخاصة سورية ولبنان ومصر- كما أنشئوا كذلك ألوفًا من مدارسهم في البلاد الإسلامية

_ 1 المرجع السابق ص70.

الأخرى في إفريقية وآسيا.. فإنهم كانوا يرون أن التعليم العالي لا يقل أهمية عن سائر درجات التعليم؛ لأنه يساعدهم على الوصول إلى الطبقات المثقفة لنشر آرائهم ومفاهيمهم بين هذه الطبقات حتى تتسرب بواسطتهم إلى جميع أفراد المجتمع الإسلامي. وعلى هذا الأساس أنشأ المبشرون البروتستانت كلية في بيروت عام 1862 وأطلقوا عليها "الكلية السورية الإنجيلية"التي أصبحت اليوم "الجامعة الأميركية" في بيروت. ولم يكتفوا ببيروت، بل أرادوا أن يكون ثمة كلية في القاهرة إلى جانب الجامع الأزهر كما أنشئوا كلية "روبرت" في "استانبول"، وأنشأ الفرنسيون كلية لهم في مدينة "لاهور"1. 5- يجدر بنا -نحن المسلمين- أن نعي أبعاد قضيتنا الثقافية في هذا المعترك الكبير.. فهي قضية وجودنا كله، قضية ماضينا وحاضرنا ومستقبلنا، قضية بقائنا أو فنائنا.. وإن أخطر ما نواجهه بصددها: الغفلة عنها، والجهل بها، والتغاضي عن الأخطار المحدقة بها، والتواني عن العمل لها والعناية بها، وترك زمام أمورنا للأيدي الغريبة العدوة ما بين يهودية وصليبية وملحدة -لتفسد العقول وتلوث الضمائر، وتحطم الأخلاق، وتصوغ الأجيال صياغة ضالة منحرفة، تقطع صلتها بعقيدتها وتاريخها وتراثها، ومقوماتها الأصيلة كلها، وتحقق حلمها القديم الذي كانت الحروب الصليبية تعبيرًا صارخًا داميًا له، ثم كان الاستعمار في العصر الحديث صورة تعبيره الآخر الذي اتخذ أشكالاً كثيرة وضم وسائل متعددة.. وإذا تركنا -جانبًا- احتلال الأرض، واستغلال الخيرات، ونهب الثروات، والسيطرة على الإدارة الوطنية في البلاد المحتلة، ونشر الفتن، وإثارة الخلاف، وإشاعة الانقسام بين المسلمين، وتمزيق عرى الوحدة فيما بينهم.

_ 1 انظر المرجع السابق ص77-80.

ولقد رأينا كيف أن "رامون لل"عرض على البابا "سلتين الخامس" في عام 1294م خطته التبشيرية التي تتخذ العلم والمدارس وسيلة للتبشير، فإن لم تفلح فلا بد من تنصير المسلمين بالقوة.. وتحرك التبشير والاستعمار لتحقيق هذا الهدف، تحفزه إلى التخطيط الدائب والعمل المستمر تلك الروح الصليبية الحاقدة، التي نجد نماذج كثيرة من التعبير عنها في أقوال المبشرين والمستشرقين ومكائدهم الكبرى ... يقول القس "صموئيل زويمر" في المؤتمر التبشيري الذي عقد -في أوائل هذا القرن الميلادي- للنظر فيما سماه المؤتمر "كارثة اجتماع المسلمين على رأي واحد": "إن المبشرين المنتشرين على ضفتي النيل وشرقي إفريقيا وبلاد النيجر والكونغو يشكون مر الشكوى من انتشار الإسلام بسرعة في هذه الأنحاء. وبالرغم من أن انتشاره في الهند الهولندية قد لقي الموانع من مجهودات جمعيات التبشير الهولندية والألمانية؛ فهو يتوطد ويثبت هناك لأن المسلمين أخذوا يستبدلون التقاليد الخرافية بعقائد ثابتة قويمة، وفي أمريكا عدد كبير من المسلمين لا يستهان به إذ بلغ "56 ألفًا". وأضاف: "إن الإسلام قد بدأ يتنبه لحقيقة مواقفه ويشعر بحاجته إلى تلافي الخطر.. ولكن إذا نظرنا إلى البلاد التي يحكمها هذا الدين الكبير المخاصم لنا، وإلى البلاد التي يتهددها بحكمه، ظهر لنا أن كل واحدة من هذه البلاد رمز لمشكلة من المشاكل الكبرى.. وعلى كلٍ فالإسلام يحتاج قبل كل شيء إلى المسيح"1.

_ 1 انظر: "يوم الإسلام" تأليف الدكتور: أحمد أمين ص212-213.

المناداة بتحرير المرأة

المناداة بتحرير المرأة: 1- ولقد اهتم المبشرون اهتمامًا كبيرًا بما سموه تحرير المرأة، ولهم في ذلك

نشاط واسع يرمي إلى تخريج جيل من الفتيات المسلمات اللواتي لا يعرفن عن دينهن وتاريخهن شيئًا، ويتعلقن تعلقًا كاملاً بالحياة الغربية التي تتيح لهن أن ينطقن باسم التحرر والمساواة في تيار الفساد والانحلال، ذلك أن المرأة في أوروبا قد تحررت فعلاً.. ولكن من الدين والخلق والكرامة.. وتساوت مع الرجل في العمل الشاق المرهق، واضطرت في المجتمع الغربي المنحل أن تتبذل لتضمن الحصول على لقمة العيش. لقد أراد المبشرون أن يخرجوا المرأة المسلمة عن عقيدتها وخلقها وكرامتها ودعوا إلى تعليمها وفق مناهجهم التربوية الخبيثة لتصبح متحررة من الإسلام، فلا تكون في المستقبل الأم المسلمة التي تغرس في أبنائها بذور العقيدة، وتنشئ فيهم روح الإيمان، وتحفزهم إلى البطولة والجهاد، وبذلك يتحقق لهم هدفهم الخطير الذي لا يفترون عن العمل لبلوغه، وهو القضاء بشتى الوسائل على كل ما يؤدي إلى إنشاء جيل مسلم يحمل رسالة الإسلام من جديد. 2- أدرك المبشرون أن المرأة ذات أثر عميق في التربية فَأَوْلَوْهَا اهتمامًا عظيمًا، وبادروا إلى فتح أول مدرسة تبشيرية للبنات في بيروت عام 1830، ومن ثم فتحوا مدارس كثيرة للبنات في مصر والسودان وسورية، والهند والأفغان.. وقالوا: "إن التبشير يكون أتم حبكًا في مدارس البنات الداخلية، لما يكون فيها من الأحوال المواتية والفرص السانحة، إن المدرسة الداخلية تَفْضُلُ المدرسة الخارجية؛ لأنها تجعل الصلة الشخصية بالطالبات أوثق، ولأنها تنتزعهن من نفوذ بيتية غير مسيحية، ويفرح المبشرون إذا اجتمع في مدارسهم الداخلية بنات من أسر معروفة لأن نفوذ هؤلاء يكون حينئذ في بيتهن أعظم.. وتتكلم المبشرة "أنّا ميليغان" فتقول: "في صفوف كلية البنات في القاهرة بنات آباؤهن "باشاوات"

_ 1 الدكتور محمد محمد حسين: "الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر" ج2 ص199.

و"بكوات"، وليس ثمة مكان آخر يمكن أن يجتمع فيه مثل هذا العدد من البنات المسلمات تحت النفوذ المسيحي، وليس ثمة طريق إلى حصن الإسلام أقصر مسافة من هذه المدرسة". 3- ولم تخلُ مؤتمرات المبشرين فيما أصدرت من قرارت وتوصيات من الإلحاح على تحرير المرأة وتعليم النساء.. فقد جاء في كتاب "الغارة على العالم الإسلامي" الذي صدر في فرنسا قبل نيف وخمسين عامًا ما يؤكد ذلك: جاء في الصفحة 47: "ينبغي للمبشرين ألا يقنطوا إذا رأوا نتيجة تبشيرهم للمسلمين ضعيفة؛ إذ من المحقق أن المسلمين قد نما في قلوبهم الميل الشديد إلى علوم الأوربيين وتحرير النساء". وجاء في صفحتي 88، 89 تقرير عن أعمال وقرارات "مؤتمر لكنو ومؤتمر القاهرة" فقد وضع مؤتمر لكنو التبشيري -الذي عقد سنة 1911م- في برنامجه عدة أمور: أولها: درس الحالة الحاضرة. ثانيها: استنهاض الهمم لتوسيع نطاق تعليم المبشرين والتعليم النسائي. أما لجنة مواصلة أعمال مؤتمر القاهرة الذي عقد سنة 1906 فقد وضعت هي الأخرى برنامجًا يحتوي على مواد منها: المادة السابعة: الارتقاء الاجتماعي والنفسي بين النساء المسلمات2. وحول التركيز على المرأة على أيدي المبشرين يقول "جيب": "إن مدرسة البنات في بيروت هي بؤبؤ عيني. لقد شعرت دائمًا أن

_ 1 الدكتوران عمر فروخ ومصطفى الخالدي: "التبشير والاستعمار" ص86. 2 انظر في ذلك كتاب "جاهلية القرن العشرين" تأليف: محمد قطب ص331.

مستقبل سورية إنما هو بتعليم بناتها ونسائها. لقد بدأت مدرستنا للبنات ولكن ليس لها بعد بناء خاص بها، وها هي قد أثارت اهتمامًا شديدًا في أوساط الجمعيات التبشيرية". من أجل ذلك طلب المبشرون الأمريكيون منذ عام 1870 مبلغ ثلاثين ألف دولار لمدرسة دينية للبنات في بيروت وعللوا طلبهم بقيمة المرأة في الحياة البيتية، وأن تلك المدرسة ستساعد على تنصير سورية في المستقبل1.

_ 1 انظر "التبشير والاستعمار" ص86.

نشر كتب الطعن على الإسلام

نشر كتب الطعن على الإسلام: ومن وسائلهم كذلك نشر الكتب في الطعن على الإسلام وتشويه التاريخ الإسلامي، والدعوة إلى هجر الفصحى ونشر العامية، وكتابتها بالحروف اللاتينية.. ومن أخطر الكتب التي نشروها، وفرضوا تدريسها في مدارسهم التبشيرية الكتاب الذي أسموه: "البحث عن الدين الحقيقي" تأليف: "المنسنيور كولي"1. والذي نال رضا البابا ليون الثالث عشر في عام 1887 وصدر عن اتحاد مؤسسات التعليم المسيحي في باريس، ولا يزال هذا الكتاب يدرس في المدارس المسيحية في الشرق والغرب إلى اليوم.. يطوي الصدور على الأحقاد نحو العرب والمسلمين. وقد جاء فيه على الصفحة 220 ما يلي: "الإسلام -في القرن السابع للميلاد: برز في الشرق عدو جديد، ذلك هو الإسلام الذي أسس على القوة وقام على أشد أنواع التعصب. لقد وضع محمد السَّيفَ في أيدي الذين اتبعوه، وتساهل في أقدس قوانين الأخلاق، ثم سمح لأتباعه بالفجور والسلب، ووعد الذين يهلكون في القتال بالاستمتاع

_ 1 انظر "التبشير والاستمار" ص72.

الدائم بالملذات. وبعد قليل أصبحت آسية الصغرى وإفريقيا وإسبانيا فريسة له، حتى إن إيطالية هددها الخطر، وتناول الاجتياح نصف فرنسا، لقد أصيبت المدنية، ولكن هياج هؤلاء الأشياع "المسلمين" تناول في الأكثر كلاب النصارى ولكن انظر: ها هي النصرانية تضع بسيف "شارل مارتل" سدًّا في وجه سير الإسلام المنتصر عند بواتيه "752م" ثم تعمل الحروب الصليبية على مدى قرنين تقريبًا "1099-1254م" في سبيل الدين، فتدجج أوروبا بالسلاح وتنجي النصرانية. وهكذا تقهقرت قوة الهلال أمام راية الصليب، وانتصر الإنجيل على القرآن وعلى ما فيه من قوانين الأخلاق السهلة"1. ويضيق المجال عن استقصاء المزيد من هذه الوقائع التي تملأ مجلدات ضخمة. والتي لا بد أن تفرد ببحث خاص.. وهي وقائع تلقي على المسلمين تبعات جسامًا، ومزيدًا من الوعي واليقظة.. حتى يكون المسلم -في وعيه وعمق إدراكه- واضح الرؤية نافذ البصيرة مستوفز الشعور، واضح الاتجاه صادق الولاء لعقيدته وأمته..

_ 1 انظر: "المرجع السابق" ص72.

الاستشراق والثقافة الإسلامية

الاستشراق والثقافة الإسلامية بين المادحين والمشوهين: ينقسم المستشرقون في موقفهم من الثقافة الإسلامية إلى فريقين: فهناك طبقة المادحين لها، وطبقة المنتقدين لها المشوهين لسمعتها، ولكن من المؤكد أن الطبقتين معًا كان لهما تأثير واضح على مجرى الفكر الأوربي تجاه الثقافة الإسلامية، ولما كانت أوروبا جملة لم تستطع أن تتحرر من عقدة التعصب النصراني ضد الإسلام، فقد كان ما كتبه المستشرقون المنتقدون المشوِّهون المادة التي ألهبت أُوَار التعصب، وشحنته بمزيد من الحقد والكراهية، ويكاد يضيع ما ذكره المادحون لثقافة الإسلام في غمار ذلك التيار المتعصب الأهوج إن لم يكن له تأثير عكسي من حيث إغراء المتعصبين بمزيدٍ من الطعن والدس والتشويه. "إن أوروبا اكتشفت الفكر الإسلامي في مرحلتين من تاريخها، فكانت في مرحلة القرون الوسطى قبل وبعد توماس الأكويني تريد اكتشاف هذا الفكر وترجمته، من أجل إثراء ثقافتها بالطريقة التي أتاحت لها فعلاً تلك الخطوات التي هَدَتْها إلى حركة النهضة منذ أواخر القرن الخامس عشر. وفي المرحلة العصرية والاستعمارية فإنها تكتشف الفكر الإسلامي مرة

أخرى لا من أجل تعديل ثقافي، بل من أجل تعديل سياسي، لوضع خططها السياسية مطابقةً لما تقتضيه الأوضاع في البلاد الإسلامية من ناحية، ولتيسير هذه الأوضاع طبق ما تقتضيه السياسات في البلاد الإسلامية، لتسيطر على الشعوب الخاضعة فيها لسلطانها"1. ولا بد لنا حتى تكتمل الصورة من الإشارة إلى تاريخ الاستشراق وميدانه ودوافعه وأهدافه ووسائله2.

_ 1 مالك بن نبي: "إنتاج المستشرقين وأثره في الفكر الإسلامي" ص8. 2 انظر بحثا للدكتور مصطفى السباعي بعنوان: "الاستشراق والمستشرقون ما لهم وما عليهم"ص15-30".

تاريخ الاستشراق

تاريخ الاستشراق: لا يعرف بالضبط من هو أول غربي عني بالدراسات الشرقية ولا في أي وقت كان ذلك، ولكن المؤكد أن بعض الرهبان الغربيين قصدوا الأندلس في إبان عظمتها ومجدها وتثقفوا في مدارسها، وترجموا القرآن والكتب العربية إلى لغاتهم، وتتلمذوا على علماء المسلمين في مختلف العلوم، وبخاصة في الفلسفة والطب والرياضيات.. ومن أوائل هؤلاء الرهبان، الراهب الفرنسي "جربرت" الذي انتخب بابا لكنيسة روما عام 999م بعد تعلمه في معاهد الأندلس وعودته إلى بلاده، و"بطرس المحترم 1092م-1156م"و "جيرار دي كريمون 1114-1187م". وبعد أن عاد هؤلاء الرهبان إلى بلادهم نشروا ثقافة العرب ومؤلفات أشهر علمائهم، ثم أسست المعاهد للدراسات العربية أمثال مدرسة "بادوي العربية" وأخذت الأَدْيِرَة والمدارس الغربية تدرس مؤلفات العرب

المترجمة إلى اللاتينية -وهي لغة العلم في جميع بلاد أوروبا يومئذ- واستمرت الجامعات الغربية تعتمد على كتب العرب، وتعتبرها المراجع الأصلية للدراسة قرابة ستة قرون. ويذكر بعض الباحثين أن هذه المحاولات الاستشراقية التي بدأت في وقت مبكر لا تعدو أن تكون فردية أو جماعية محدودة، برزت بشكل أكثر شمولاً في بعض البلاد الأوروبية خلال القرن الثالث عشر الميلادي، ويكاد الدارسون لتاريخ الاستشراق يجمعون على أن انتشاره في أوروبا ظهر بصفة جدية بعد فترة ما يسمى في التاريخ الأوربي "عهد الإصلاح الديني"1. ولم ينقطع منذ ذلك الوقت وجود أفراد درسوا الإسلام واللغة العربية، وترجموا معاني القرآن وبعض الكتب العربية العلمية والأدبية، حتى جاء القرن الثامن عشر -وهو العصر الذي بدأ فيه الغرب في استعمار العالم الإسلامي والاستيلاء على ممتلكاته- فإذا بعدد من علماء الغرب ينبغون في الاستشراق ويصدرون لذلك المجلات في جميع الممالك الغربية، ويغيرون على المخطوطات العربية في البلاد العربية والإسلامية فيشترونها من أصحابها الجهلة، أو يسرقونها من المكتبات العامة التي كانت في نهاية الفوضى، وينقلونها إلى بلادهم ومكتباتهم وإذا بأعداد هائلة من نوادر المخطوطات العربية تنتقل إلى مكتبات أوربا، وقد بلغت في أوائل القرن التاسع عشر مائتين وخمسين ألف مجلد وما زال هذا العدد يتزايد حتى اليوم. "ويعتمد المستشرقون -فيما يعتمدون- على عقد المؤتمرات العامة من وقت لآخر لتنظيم نشاطهم، وأول مؤتمر عقدوه كان في سنة 1783م وما زالت مؤتمراتهم تتكرر حتى اليوم. وفي العصر الحديث تقوم المؤسسات الدينية والسياسية والاقتصادية في

_ 1 انظر: "التفكير الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي" تأليف: الدكتور محمد البهي ص532.

الغرب بما كان يقوم به الملوك والأمراء في الماضي من الإغداق على المستشرقين وحبس الأوقاف والمنح على من يعملون في حقل الاستشراق"1.

_ 1 المرجع السابق ص536.

دوافع الاستشراق

دوافع الاستشراق: إذا كان الاستشراق قد بدأ بدراسة العربية والإسلامية؛ فإن الدافع لذلك لم يكن دافعًا علميًا خالصًا لدى جمهرة المستشرقين؛ لأن من طبيعة الدافع العلمي أن يكون نزيهًا عادلاً، حريصًا على استجلاء الحقيقة بتجرد وصدق وإنصاف، لا تتحكم فيه موروثات أو رواسب ثقيلة مما صنعته البيئة الخاصة، أو أَمْلَتْهُ وقائع تاريخية معينة تتسم بتسجيل فترات الخصومات الدموية والنزاع العدواني. ولكن هذه الشروط التي تجعل دراسة الاستشراق للإسلام وتاريخه واللغة العربية عملاً علميًا صحيحًا؛ ليست متوافرة للمستشرقين الأوربيين الذين اتجهوا للدراسات الإسلامية، ذلك أن موقف الأوروبي من الإسلام ليس "موقف كره في غير مبالاة فحسب، كما هي الحال في موقفه من سائر الأديان والثقافات، بل هو كره عميق الجذور يقوم في الأكثر على صدور من التعصب الشديد. وهذا الكره ليس عقليًّا فحسب، ولكن يصطبغ أيضًا بصبغة عاطفية قوية، فقد لا تتقبل أوروبا تعاليم الفلسفة البوذية أو الهندوكية، ولكنها تحتفظ دائمًا -فيما يتعلق بهذين المذهبين- بموقف عقلي متزن ومبني على التفكير، إلا أنها حال ما تتجه إلى الإسلام يختل التوازن، ويأخذ الميل العاطفي بالتسرب. حتى إن أبرز المستشرقين الأوروبيين جعلوا من أنفسهم فريسة التحزب غير العملي في كتاباتهم عن الإسلام. ويظهر في جميع بحوثهم -على الأكثر- كما لو أن الإسلام لم يمكن أن يعالج على أنه موضوع بحت في البحث

العلمي؛ بل على أنه متهم يقف أمام قضاته، إن بعض المستشرقين يمثلون دور المدعي العام الذي يحاول إثبات الجريمة، وبعضهم يقوم مقام المحامي في الدفاع، فهو مع اقتناعه شخصيًّا بإجرام موكله لا يستطيع أكثر من أن يطلب له مع شيء من الفتور اعتبار الأسباب المخففة. وعلى الجملة فإن طريقة الاستقراء والاستنتاج التي يتبعها أكثر المستشرقين تذكرنا بوقائع دواوين التفتيش، تلك الدواوين التي أنشأتها الكنيسة الكاثوليكية لخصومها في العصور الوسطى، أي إن تلك الطريقة لم يتفق لها أبدًا أن نظرت في القرائن التاريخية بتجرد، ولكنها كانت في كل دعوى تبدأ باستنتاج متفق عليه من قبل، قد أملاه عليها تعصبها لرأيها. ويختار المستشرقون شهودهم حسب الاستنتاج الذي يقصدون إليه مبدئيًّا. وإذا تعذر عليهم الاختيار العرفي للشهود، عمدوا إلى اقتطاع أقسام من الحقيقة التي شهد بها الشهود الحاضرون ثم فصلوها من المتن أو تأولوا الشهادات بروح غير علمي من سوء القصد من غير أن ينسبوا قيمة ما إلى عرض القضية من وجهة نظر الجانب الآخر، أي من قبل المسلمين أنفسهم. وليست نتيجة هذه المحاكمة سوى صورة مشوهة للإسلام وللأمور الإسلامية تواجهنا في جميع ما كتبه مستشرقو أوروبا. وليس ذلك قاصرًا على بلد دون آخر -إنك تجده في إنكلترا وألمانيا، وفي روسيا وفرنسا، وفي إيطاليا وهولنده- وبكلمة واحدة: في كل صقع يتجه المستشرقون فيه بأبصارهم نحو الإسلام، ويظهر أنهم ينتشون بشيء من السرور الخبيث حينما تعرض لهم فرصة -حقيقية أو خيالية- ينالون بها من الإسلام عن طريق النقد"1. ومن هنا نجد أن هنالك دافعًا رئيسيًّا للاستشراق لا يمكن أن يوصف بأنه دافع علمي؛ لأنه لا يحرص على الحقيقة، بل يحاول تشويهها، بباعث من تعصب راسخ عميق الجذور يعود إلى النزعة العدوانية الحاقدة التي دفعت

_ 1 محمد أسد: "الإسلام على مفترق الطرق" ص52-54.

الأوربيين إلى الحروب الصليبية. وتأتي مع هذا الواقع الرئيسي دوافع أخرى فرعية نلحظها في بحوث المستشرقين وميادين عملهم. 1- الدافع الديني التبشيري: إن الدافع الأول للاستشراق عند الغربيين -كما رأينا- هو الدافع الديني، فقد بدأه الرهبان الذين كان يهمهم أن يطعنوا في الإسلام ويحرفوا حقائقه؛ ليثبتوا لجماهيرهم التي تخضع لزعامتهم الدينية أن الإسلام -وقد كان يومئذ الخصم الوحيد للمسيحية في نظر الغربيين- دين لا يستحق الانتشار، وأن المسلمين قوم همج لصوص وسفاكو دماء، يحثهم دينهم على الملذات الجسدية ويبعدهم عن كل سمو روحي وخلقي، ثم اشتدت حاجتهم إلى هذا الهجوم في العصر الحاضر بعد أن رأوا الحضارة الحديثة قد زعزت أسس العقيدة عند الغربيين، وأخذت تشككهم بكل التعاليم التي كانوا يتلقونها عن رجال الدين عندهم فيما مضى، فلم يجدوا خيرًا من تشديد الهجوم على الإسلام لصرف أنظار الغربيين عن نقد ما عندهم من عقيدة وكتب مقدسة، وهم يعلمون ما تركته الفتوحات الإسلامية الأولى ثم الحروب الصليبية ثم الفتوحات العثمانية في أوروبا بعد ذلك في نفوس الغربيين من خوف من قوة الإسلام وكره لأهله، فاستغنوا هذا الجو النفسي وازدادوا نشاطًا في الدراسات الإسلامية. وهنالك الهدف التبشيري الذي لم يناسوه في دراستهم العلمية وهم قبل كل شيء رجال دين، فأخذوا يهدفون إلى تشويه سمعة الإسلام في نفوس رواد ثقافتهم من المسلمين، لإدخال الوهن إلى العقيدة الإسلامية، والتشكيك في التراث الإسلامي والحضارة الإسلامية، وكل ما يتصل بالإسلام من علم وأدب وتراث. ومن العسير حقًّا على أي باحث أن يفرز العمل الاستشراقي عن الهدف

الديني التبشيري في جملة دراسة المستشرقين عن الإسلام، وإذا كان بعضهم يجهر بهذا الهدف بشكل واضح في كل مناسبة تقتضي ذلك، فإن فئة أخرى منهم تجنح إلى أسلوب الدس الخفي، وإخفاء الحقائق، وإبراز الشبهات، وبتر النصوص، وإثارة الشكوك.. في كل ما يتعلق بالدراسات عن الإسلام: عقيدته وأحكامه وتاريخه ورجاله.. يقول "لويس ماسينيون" -وهو أستاذ جامعة فرنسية في باريس والمبشر في قسم الشئون الشرقية في وزارة المستعمرات الفرنسية: "إن الطلاب الشرقيين الذين يأتون إلى فرنسا يجب أن يلونوا بالمدنية المسيحية"1. ويتمنى "ماسينيون" -في إحدى مقالاته أن يعود الاعتقاد الإسلامي في رجوع عيسى ابن مريم فيتفق مع الحادث الثاني للمسيح النصراني.. ويقصد "ماسينيون" بكلمة ثانية أوضح أن يعود المسلمون عن قولهم عيسى ابن مريم إلى القول: عيسى ابن الله -تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا- وفحوى مقال "ماسينيون" كله أنه ما دام لدى المسلمين أخبار برجوع المسيح عيسى ابن مريم، فلماذا لا يكون هذا المسيح الراجع هو المسيح الذي يعتقد به النصارى اليوم؟ وجعل "ماسينيون" هذه الفكرة عمدة دعوته إلى أن يُحْمَلَ المسلمون على ترك دينهم حتى يسهل استعمارهم على أهل الغرب2. وكان "ماسينيون" هذا زعيم الحركة الرامية إلى الكتابة العامية بالحرف اللاتيني تحقيقًا لهدف الحملة الاستعمارية التنصيرية التي ترى أن تقطيع أوصال العرب والمسلمين لا يمكن أن يتم ما دام هنالك لغة واحدة يتكلمها

_ 1 التبشير والاستعمار ص89. 2 انظر: المرجع السابق ص83.

العرب، ويعبر بها العرب والمسلمون من آرائهم، وما دام هنالك حرف عربي يربط حاضر المسلمين إلى تراثهم الماضي، فإذا استطاعوا حمل المسلمين على التخلي عن الحرف العربي وإحلال الحرف اللاتيني مكانه، انقطعت صلة العرب والمسلمين بالقرآن الكريم وبتراثهم الإسلامي وذخائرهم اللغوية والأدبية والتاريخية والفكرية، وحينئذ يصبح العرب "وحدات" لغوية فكرية غير متعارفة، ثم تتنافر هذه الوحدات مع الزمن فيسهل إخضاعها بجهد يسير، ويسهل بعد ذلك صبغهم -على مراحل- بالنصرانية، وجعلهم شعوبًا تابعة للحضارة الغربية، ويتحقق لدى الغربيين ما يؤملون من القضاء على الإسلام والمسلمين. ولقد حاول "ماسينيون" أن يثبت دعوته هذه في المغرب وفي مصر وفي سورية ولبنان خاصة، كما سعى لهذه الغاية أيضًا مستشرقون ومبشرون آخرون، ونقلها وتبناها عدد من تلامذة هؤلاء وأشياعهم وخلفائهم في مصر ولبنان، ولا يزالون حتى يومنا هذا، يحاولون -بوسائل عدة- الترويج لفكرتهم، وجمع الأنصار لها، تحقيقًا لمآرب خبيثة ومقاصد عدائية رهيبة لا تخفى على مسلم واعٍ بصير1. وإذا كان "ماسينيون" وأمثاله من المستشرقين لا يحاولون إخفاء نزعتهم الدينية التبشيرية المعادية للإسلام.. فإن هنالك فريقًا آخر من المستشرقين يعملون على أن تسود بين المسلمين القيم الغربية عن طريق الإشادة بها والانتقاص من القيم الإسلامية، حتى يضل المسلمون عن أنفسهم، ويستسلموا لكل ما يَطْلُعُ به الغرب من قيم ومفاهيم وأخلاق فيتهافتوا عليها وينقادوا إليها. ولعل أبرز هؤلاء المستشرق الإنكليزي "جيب" -الذي كان مستشارًا

_ 1 انظر: المرجع السابق ص224. وانظر حول تطوير الدراسات اللغوية: "حصوننا مهددة من داخلها" تأليف: الدكتور محمد محمد حسين ص277.

لوزارة الخارجية البريطانية ومن كبار محرري دائرة المعارف الإسلامية -فقد جاء في مقدمته للكتاب الذي أصدرته جماعة من المستشرقين المختلفي الأجناس بعنوان: "إلى أين يتجه الإسلام؟ Whither Islam" قوله: "إن مشكلة الإسلام -بالقياس إلى الأوروبيين- لسيت مشكلة أكاديمية خالصة فحسب، فإن لتعاليم الدين الإسلامي من السيطرة على المسلمين في كل تصرفاتهم ما يجعل لها مكانًا بارزًا في أي تخطيط لاتجاهات العالم الإسلامي، فالإسلام ليس مجرد مجموعة من القوانين الدينية، ولكنه حضارة كاملة"1. ويقرر "جيب" بعد ذلك أن هذه السيطرة لتعاليم الإسلام على تصرفات المسلمين لم تظل دائمًا في العصر الحديث وثيقة الصلة بالأصول الدينية، بل يسجل بكثير من التأكيد أن تأثير المسلمين بمفاهيم الغرب قد أصبح ظاهرة واضحة الدلالة على ما اعترى المفاهيم الإسلامية الأصيلة من تحول، فهو يقول: "إنه قد يبدو للنظرة الأولى أن الجمهرة العظمى من المسلمين لم تتأثر بمؤثرات دينية أوروبية، وأن التفكير الديني الإسلامي قد ظل وثيق الصلة بأصوله الدينية التقليدية، ولكن ذلك ليس هو الحقيقة كلها، فالواقع أن التعاليم الدينية ومظاهرها عند أشد المسلمين محافظة على الدين وتمسكًا به قد أخذت في التحول ببطء خلال القرن الماضي"2. ويرى "جيب" أن تأثر المسلمين بالأمور الشكلية والمظاهر الخارجية التي تأخذ لديهم طابع "التجديد" أمر ثانوي لا قيمة له، إذا لم يبلغ حد التغلغل التام والتفاعل الوثيق مع كيان المسلمين الجديد، بحيث لا يقتصر تحول المفاهيم الإسلامية الجديدة -بتأثير الفكر الغربي- على الاقتراب من الموازين المسيحية الغربية، بل يمتزج بها امتزاجًا تامًّا يبلغ حد الذوبان الكامل فيها، وأخذ صورتها

_ 1 انظر: "الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر" تأليف: الدكتور محمد محمد حسين ج2 ص212. 2 انظر: المرجع السابق ص213.

وملامحها. ولا يعبر "جيب" عن أمنيته هذه بوضوح وأسلوب مكشوف، بل يلتمس لذلك تعبيرات لا تستطيع مهما بالغ صاحبها في المداورة واختيار الألفاظ أن تخفي الأمنية التي يطوي عليها صدره، والغاية التي يعمل على بلوغها.. فهو يقول: "والواقع أننا إذا أردنا أن نعرف المقياس الحقيقي للنفوذ الغربي، ولمدى تغلغل الثقافة الغربية في الإسلام، كان علينا أن ننظر إلى ما وراء المظاهر السطحية. علينا أن نبحث عن الآراء الجديدة والحركات المستحدثة التي ابتُكِرَتْ بدافعٍ من التأثير بالأساليب الغربية، بعد أن تهضم وتصبح جزءًا حقيقيًا من كيان هذه الدول الإسلامية، فتتخذ شكلاً يلائم ظروفها"1 2- الدافع الاستعماري: لما انتهت الحروب الصليبية بهزيمة الصليبين لم ييأس الغربيون من العودة إلى احتلال بلاد العرب فبلاد الإسلام، فاتجهوا إلى دراسة هذه البلاد في كل شئونها من عقيدة وعادات وأخلاق وثروات، ليتعرفوا إلى مواطن القوة فيها فيضعفوها، وإلى مواطن الضعف فيغتنموه، ولما تم لهم الاستيلاء العسكري والسيطرة السياسية؛ كان من دوافع تشجيع الاستشراق إضعاف المقاومة الروحية والمعنوية في نفوسنا، وبث الوهن والارتباك في تفكيرنا، وذلك عن طريق التشكيك بفائدة ما في أيدينا من تراث، وما عندنا من عقيدة وقيم إنسانية، فنفقد الثقة بأنفسنا، ونرتمي في أحضان الغرب نستجدي منه المقاييس الأخلاقية والمبادئ العقائدية، وبذلك يتم لهم ما يريدون من خضوعنا لحضارتهم وثقافتهم خضوعًا لا تقوم لنا من بعده قائمة.

_ 1 المرجع السابق ص216.

انظر إليهم كيف يشيعون في بلادنا القوميات التاريخية التي عفى عليها الزمن، واندثرت منذ حمل الغرب رسالة الإسلام، فتوحدت لغتهم وعقيدتهم وبلادهم، وحملوا هذه الرسالة إلى العالم فأقاموا بينهم وبين الشعوب روابط إنسانية وتاريخية وثقافية ازدادوا بها قوة وازدادت الشعوب بها رفعة وهداية، إنهم ما برحوا منذ نصف قرن يحاولون إحياء الفرعونية في مصر، والفينيقية في سوريا ولبنان وفلسطين، والآشورية في العراق وهكذا، ليتسنى لهم تشتيت شملنا كأمة واحدة، وليعوقوا قوة الاندفاع عن عملها في قوتنا وتحررنا وسيادتنا على أرضنا وثروتنا، وعودتنا من جديد إلى قيادة ركب الحضارة، ووحدتنا مع إخوتنا في العقيدة والمثل العليا والتاريخ والمصالح المشتركة. وإذا كان السبب الرئيسي المباشر الذي دعا الأوروبيين إلى الاستشراق هو سبب ديني في الدرجة الأولى-كما أسلفنا- لما تركته الحروب الصليبية في نفوس الأوروبيين من آثار مرة عميقة، فقد أقبل الأوروبيون على الاستشراق ليتسنى لهم تجهيز المبشرين وإرسالهم للعالم الإسلامي، والتقت هنا مصلحة المبشرين مع أهداف الاستعمار -في نطاق حركة الاستشراق- فمكن الاستعمار لهؤلاء المستشرقين المبشرين، واعتمد عليهم في بسط نفوذه في الشرق، كما استطاع المبشرون المستشرقون إقناع زعماء الاستعمار بأن المسيحية ستكون قاعدة الاستعمار الغربي في الشرق، وبذلك سهل الاستعمار لهؤلاء مهمتهم وبسط عليهم حمايته، وزودهم بالمال والسلطان، وهذا هو السبب في أن الاستشراق قام في أول أمره على أكتاف المبشرين والرهبان ثم اتصل بالاستعمار1. 3- الدافع السياسي: وهنالك دافع آخر أخذ يتجلى في عصرنا الحاضر بعد استقلال أكثر الدول

_ 1 انظر: "الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي" تأليف: الدكتور محمد البهي ص533.

العربية والإسلامية، ففي كل سفارة من سفارات الدول الغربية لدى هذه الدول سكرتير أو ملحق ثقافي يحسن اللغة العربية، ليتمكن من الاتصال برجال الفكر والصحافة والسياسة فيتعرف إلى أفكارهم، ويبث فيهم من الاتجاهات السياسية ما تريده دولته، وكثيرًا ما كان لهذا الاتصال أثره الخطير في الماضي حين كان السفراء الغربيون -ولا يزالون في بعض البلاد العربية والإسلامية- يبثون الدسائس للتفرقة بين الدول العربية بعضها مع بعض، وبين الدول العربية والدول الإسلامية، بحجة توجيه النصح وإسداء المعونة بعد أن درسوا تمامًا نفسية كثيرين من المسئولين في تلك البلاد، وعرفوا نواحي الضعف في سياستهم العامة، كما عرفوا الاتجاهات الشعبية الخطيرة على مصالحهم واستعمارهم. 4- الدافع العلمي: ومن المستشرقين نفر قليل جدًّا أقبلوا على الاستشراق بدافع من حب الاطلاع على حضارات الأمم وأديانها وثقافتها ولغاتها، وهؤلاء كانوا أقل من غيرهم خطأ في فهم الإسلام وتراثه؛ لأنهم لم يكونوا يتعمدون الدس والتحريف، فجاءت أبحاثهم أقرب إلى الحق وإلى المنهج العلمي السليم من أبحاث الجمهرة الغالبة من المستشرقين، بل إن منهم من اهتدى إلى الإسلام وآمن برسالته. على أن هؤلاء لا يوجدون إلا حين يكون لهم من الموارد المالية الخاصة ما يمكنهم من الانصراف إلى الاستشراق بأمانة وإخلاص؛ لأن أبحاثهم المجردة عن الهوى، لا تلقى رواجًا، لا عند رجال الدين، ولا عند رجال السياسة، ولا عند عامة الباحثين، ومن ثمة فهي لا تدر عليهم ربحًا ولا مالاً، ولهذا ندر وجود هذه الفئة في أوساط المستشرقين. 5- الدافع التجاري والشخصي: وبجانب هذا كان هناك أسباب تجارية، وأخرى شخصية تتصل بالمزاج

عند بعض الناس الذين تهيأ لهم الفراغ والمال، واتخذوا الاستشراق وسيلة لإشباع رغباتهم الخاصة في السفر أو في الاطلاع على ثقافات العالم القديم. ويبدو أن فريقًا من الناس دخلوا ميدان الاستشراق من باب البحث عن الرزق عندما ضاقت بهم سبل العيش العادية، أو دخلوه هاربين عندما قعدت بهم إمكاناتهم الفكرية عن الوصول إلى مستوى العلماء في العلوم الأخرى، أو دخلوه تخلصًا من مسئولياتهم الدينية المباشرة في مجتمعاتهم المسيحية، أقبل هؤلاء على الاستشراق تبرئة لذمتهم الدينية أمام إخوانهم في الدين، وتغطية لعجزهم الفكري، وأخيرًا بحثًا عن لقمة العيش إذ إن التنافس في هذا المجال أقل منه في غيره من أبواب الرزق"1.

_ 1 انظر في الفقرات: ج. د.هـ: "المستشرقين ما لهم وما عليهم" تأليف الدكتور مصطفى السباعي ص15-30. وانظر: "الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي" تأليف الدكتور محمد البهي. ص533

أهداف الدراسات الاستشراقية

أهداف الدراسات الاستشراقية: من الواضح أن أبرز هدف للمستشرقين من دراساتهم هو: "إضعاف مثل الإسلام وقيمه العليا من جانب، وإثبات تفوق المثل الغربية وعظمتها من جانب آخر، وإظهار أي دعوى للتمسك بالإسلام بمظهر الرجعية والتأخر"1. وغني عن البيان أن هذا الهدف الرئيسي قد أخذ في هذا العصر طابع تيارات فكرية حديثة تتحرك وتنشط في أوساط المسلمين، وهي تيارات نشأت كلها في الغرب، وحملها إلى المسلمين عدد من المستشرقين والمبشرين، بالإضافة إلى فئات أخرى من العرب والمسلمين الذين درسوا في الغرب على أيدي المستشرقين، أو في المؤسسات الثقافية الغربية التي أقامها الغرب في بلاد المسلمين.

_ 1 الدكتور عبد الكريم عثمان: "معالم الثقافة الإسلامية" ص99.

"ونقطة البداية في نشوء هذه المذاهب الفكرية في أوروبا والفاصلة في تاريخها كانت في النهضة العلمية والفكرية التي تولدت باتصال أهل أوربا بالحضارة الإسلامية عن طريق الأندلس وصقلية. وترجمة كتب العلوم والفلسفة إليها. وكانت خسارة البشرية هنا بالضبط في أنهم أخذوا الجانب العقلي والمادي من حضارة المسلمين ولم يأخذوا الجانب العقائدي والروحي الخلقي"1. ومن العجيب حقًّا أن هذه المذاهب الفكرية التي تقوم على اتخاذ العقل وحده أساسًا للحكم على الحقائق كلها الحسية منها والغيبية لم تظل في أوروبا وحدها على الرغم من كل نقائصها الفاضحة، بل كانت في محورها الجوهري المادي، وما برزت من وجوه فكرية وسياسية واقتصادية وأخلاقية وتربوية أول المذاهب الفاسدة اتصالاً بالشعوب الإسلامية وتأثيرًا فيها، وغزوًا للطبقة المثقفة ولقادة الفكر والسياسة في عدد من البلاد الإسلامية، وذلك عن طريق انتقال الثقافة الفرنسية إلى الدولة العثمانية وللمغرب، وإلى مصر في عهد محمد علي، وعن طريق الثقافة الإنكليزية في الهند ومصر والسودان، فقد غزا هذا التيار الشعوب الإسلامية التي كانت قد تردت في دركات التخلف بسبب تشويهها للإسلام، وابتعادها عن كثير من تعاليمه، وعن وعي أهدافه ومقاصده، فتسلل المذهب العقلي العلماني والمادي التجريبي إلى عقول الطبقة المثقفة، والمذهب الوطني الديمقراطي العلماني إلى الطبقة السياسية الحاكمة، وكانت النتيجة إقصاء الإسلام وعزله عن توجيه الحياة الفكرية والثقافية، وإقصاؤه كذلك عن توجيه الحياة السياسية في مفاهيمها وقيمها، وفي اتجاهاتها ومواقفها في الأحداث الداخلية والدولية وفي تشريعاتها ونظمها2. من باعث الحقد والتعصب، ونحو هذا الهدف الخطير في إضعاف الإسلام

_ 1 محمد المبارك: "المجتمع الإسلامي المعاصر" ص109. 2 انظر المرجع السابق 109-113.

وعزله ثم إقصائه عن الحياة والقضاء.. تحرك المستشرقون لتحقيق عدد من الأهداف الدينية والسياسية والعلمية المشبوهة، واتخذوا لذلك نهجًا في التشكيك والمغالطة وتشويه الحقائق والافتراء والتزوير، وهو نهج لا يسلم منه أو من بعضه إلا عدد يسير منهم، كما اتبعوا لبلوغ ما يريدون كل وسيلة تتيح لهم بث سمومهم، ونشر أباطيلهم.. ويمكن تلخيص هذه الأهداف والوسائل فيما يلي: 1- إنكار أن يكون القرآن الكريم كتابًا سماويًّا منزلاً من عند الله عز وجل، وحين يفحم المستشرقون ما ورد فيه من حقائق تاريخية عن الأمم الماضية مما يستحيل صدوره عن أمي مثل محمد -صلى الله عليه وسلم- وتبطل دعواهم ببشرية القرآن الكريم وزعمهم بأنه ليس أكثر من تعبير عن انطباع البيئة العربية في نفس الرسول، حين تبطل دعواهم التافهة هذه، يزعمون ما زعمه المشركون الجاهليون في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أنه استمد هذه المعلومات من أناس كانوا يخبرونه بها، ويتخبطون في ذلك تخبطًا عجيبًا، وحين يفحمهم ما جاء في القرآن من حقائق علمية لم تعرف وتكتشف إلا في هذا العصر يرجعون ذلك إلى ذكاء النبي -صلى الله عليه وسلم- فيقعون في تخبط أشد غرابة من سابقه. وعلى الرغم من أن بعض تلامذة المستشرقين من العرب والمسلمين يقولون عن القرآن الكريم كلامًا يدل على اعتقادهم أنه فكر يتأثر ببيئة عربية معينة1، فإن هنالك عددًا من علماء المسلمين المعاصرين قد أعدوا بحوثًا ودراسات علمية وافية في دحض دعاوى المستشرقين ومزاعمهم

_ 1 انظر في كتاب "في الشعر الجاهلي" للدكتور طه حسين، والردود عليه: "نقض كتاب في الشعر الجاهلي" تأليف: محمد الخضر حسين وفي: "النقد التحليلي لكتاب في الشعر الجاهلي" تأليف: محمد أحمد العمراوي.

الباطلة، وافتراءاتهم المتهافتة1. 2- التشكيك بصحة رسالة النبي -صلى الله عليه وسلم- ومصدرها الإلهي، فجمهورهم ينكر أن يكون الرسول نبيًّا موحى إليه من عند الله -عز وجل- ويتخبطون في تفسير مظاهر الوحي التي كان يراها أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- أحيانًا، وبخاصة السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها. فمن المستشرقين من يرجع ذلك إلى "صرع" كان ينتاب النبي -صلى الله عليه وسلم- حينًا بعد حين، ومنهم من يفسرها بمرض نفسي وهكذا.. كأن الله -عز وجل- لم يرسل نبيًّا قبله حتى يصعب عليهم تفسير الوحي، ولما كانوا كلهم ما بين يهود ومسيحيين يعترفون بأنبياء التوارة، وهم كانوا أقل شأنًا من محمد -صلى الله عليه وسلم- في التاريخ والتأثير والمبادئ التي نادى بها، كان إنكارهم لنبوة النبي -صلى الله عليه وسلم- تعنتًا مبعثه التعصب الديني الذي يملأ نفوس أكثرهم كرهبان وقساوسة ومبشرين2. 3- ويتبع إنكارهم لنبوة الرسول وسماوية القرآن، وإنكارهم أن يكون الإسلام دينًا من عند الله، وإنما هو ملفق -عندهم- من الديانتين اليهودية والمسيحية، وليس لهم في ذلك مستند يؤيده البحث العلمي، وإنما هي ادعاءات تستند على بعض نقاط الالتقاء بين الإسلام والدينين السابقين.

_ 1 انظر في ذلك كتابي: "النبأ العظيم" و"مدخل إلى القرآن الكريم" تأليف الدكتور محمد عبد الله دراز، وانظر: "الظاهرة القرآنية" تأليف: مالك بن نبي. وانظر بصفة خاصة المقدمة التي كتبها: محمود شاكر لهذا الكتاب. وانظر: "القرآن والمبشرون" تأليف: محمد عزة دروزة. 2 الدكتور مصطفى السباعي: "المستشرقون ما لهم وما عليهم"، وانظر في الموضوع: المراجع السابقة في دحض دعاوى المستشرقين عن القرآن وانظر "الرسول صلى الله عليه وسلم" تأليف: سعيد حوى، الجزء الأول والثاني. وانظر: "محمد صلى الله عليه وسلم المثل الكامل" تأليف: محمد أحمد جاد المولى.

ويلاحظ أن المستشرقين اليهود أمثال "جولد تسيهر" و"شاخت" هم أشد حرصًا على ادعاء استمداد الإسلام من اليهودية وتأثيرها فيه، أما المستشرقون المسيحيون فيجرون وراءهم في هذه الدعوى؛ إذ ليس في المسيحية تشريع يستطيعون أن يزعموا تأثر الإسلام به وأخذه منه، وإنما فيها مبادئ أخلاقية زعموا أنها أثرت في الإسلام، ودخلت عليه منها، كان المفروض في الديانات الإلهية أن تتعارض مبادئها الأخلاقية، وكأن الذي أوحى بدين هو غير الذي أوحى بدين آخر، فتعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرًا. والظاهر أن المستشرقين اليهود أقبلوا على الاستشراق لأسباب دينية ترمي إلى التشكيك في قيم الإسلام بدعوى فضل اليهود عليه وأنها هي مصدره الأول، وأسباب سياسية تتصل بخدمة الصهيونية فكرة أولاً ثم دولة ثانيًا1. وحول ما يتعلق بالإسلام يدعي المستشرقون أن المجتمع الإسلامي في صلته بالإسلام لم يكن على نحو قوي إلا فترة قصيرة هي الفترة الأولى التي يطلقون عليها "عهد بدائية المجتمع الإسلامي" التي أوجدت نوعًا من التلازم بين الحياة فيه وتعاليم الإسلام، ويزعمون أنه كلما تطور المجتمع ازدادت الفجوة لأن الإسلام لا يوافق التطور. ومن هنا يسارعون إلى تقرير أن التخلف عن تنفيذ تعاليم الإسلام تمليه الضرورة الاجتماعية تحت ضغط ظروف الحياة المتجددة التي لا يستطيع الإسلام -كما يزعمون- أن يكيفها في تعاليمه، وعلى هذا فإن تطبيق الإسلام في نظرهم إنما يعني العزلة والتخلف. ويرون أن الحل هو في الخضوع -لما يسمونه قانون التطور- ولا يتم ذلك كما ينادون إلا بالسير

_ 1 انظر: "المستشرقون مالهم وما عليهم" للدكتور مصطفى السباعي. وانظر: "الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي" للدكتور محمد البهي ص534.

وفق المثل الغربية والتفاعل معها1. 4- التشكيك في صحة الحديث النبوي الذي اعتمده علماؤنا المحققون، ويتذرع هؤلاء المستشرقون بما دخل على الحديث النبوي من وضع ودس، متجاهلين تلك الجهود التي بذلها علماؤنا لتنقية الحديث الصحيح من غيره، مستندين إلى قواعد بالغة الدقة في التثبت والتحري، مما لم يعهد عندهم في ديانتهم عشر معشاره في التأكد من صحة الكتب المقدسة عندهم2. والذي حملهم على ركوب متن الشطط في دعواهم هذه، ما رأوه في الحديث النبوي الذي اعتمده علماؤنا من ثروة فكرية وتشريعية مدهشة، وهم لا يعتقدون بنبوة الرسول، فادعوا أن هذا لا يعقل أن يصدر كله عن محمد الأمي، بل هو عمل المسلمين خلال القرون الثلاثة الأولى، فالعقدة النفسية عندهم هي عدم تصديقهم بنبوة الرسول، ومنها تنعبث كل تخبطاتهم وأوهامهم. 5- التشكيك بقيمة الفقه الإسلامي الذاتية، ذلك التشريع الهائل الذي لم يجتمع مثله لجميع الأمم في جميع العصور، لقد أسقط في أيديهم حين اطلاعهم على عظمته وهم لا يؤمنون بنبوة الرسول، فلم يجدوا بدًّا من الزعم بأن هذا الفقه العظيم مستمد من الفقه الروماني، أي أنه مستمد منهم -الغربيين- وقد بين علماؤنا الباحثون تهافت هذه الدعوى، وفيما قرره مؤتمر القانون المقارن المنعقد "بلاهاي" من أن الفقه الإسلامي فقه مستقل بذاته وليس مستمدًا من أي فقه آخر، ما يفحم المتعنتين منهم، ويقنع المنصفين الذين لا يبغون غير الحق سبيلاً.

_ 1 انظر: "معالم الثقافة الإسلامية" تأليف: الدكتور عبد الكريم عثمان ص100-101. 2 انظر في مناقشة أفكارهم كتاب "السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي" للدكتور مصطفى السباعي.

6- التشكيك في قدرة اللغة العربية على مسايرة التطور العلمي، لنظل عالة على مصطلحاتهم التي تشعرنا بفضلهم وسلطانهم الأدبي علينا، وتشكيكهم في غنى الأدب العربي، وإظهاره مجدبًا فقيرًا لنتجه إلى آدابهم، وذلك هو الاستعمار الأدبي الذي يبغونه مع الاستعمار العسكري الذي يرتكبونه. "ومن المبشرين نفر يشتغلون بالآداب العربية والعلوم الإسلامية، أو يستخدمون غيرهم في سبيل ذلك، ثم يرمون كلهم بما يكتبون إلى أن يوازنوا بين الآداب العربية والآداب الأجنبية أو بين العلوم الإسلامية والعلوم الغربية -التي يعدونها نصرانية لأن أمم الغرب تدين بالنصرانية- ليخرجوا دائمًا بتفضيل الآداب الغربية على الآداب العربية والإسلامية، وبالتالي إلى إبراز نواحي النشاط الثقافي في الغرب، وتفضيلها على أمثالها في تاريخ العرب والإسلام، وما غايتهم من ذلك إلا تخاذل روحي وشعور بالنقص في نفوس الشرقيين وحملهم من هذا الطريق على الرضا بالخضوع للمدنية المادية الغربية"1. 7- تشكيك المسلمين بقيمة تراثهم الحضاري، بدعوى أن الحضارة الإسلامية منقولة عن حضارة الرومان، ولم يكن العرب والمسلمون إلا نقلة لفلسفة تلك الحضارة وآثارها، لم يكن لهم إبداع فكري ولا ابتكار حضاري، وكان في حضارتهم كل النقائص، وإذا تحدثوا بشيء عن حسناتها -وقليلاً ما يفعلون- يذكرونها على مضض مع انتقاص كبير. 8- إضعاف ثقة المسلمين بتراثهم، وبث روح الشك في كل ما بين أيديهم من قيم وعقيدة ومثل عليا، ليسهل على الاستعمار تشديد وطأته عليهم، ونشر ثقافته الحضارية فيما بينهم، فيكونوا عبيدًا لها، يجرهم حبها إلى حبهم أو إضعاف روح المقاومة في نفوسهم. 9- إضعاف روح الإخاء الإسلامي بين المسلمين في مختلف أقطارهم عن

_ 1 التبشير والاستعمار ص24.

طريق إحياء القوميات التي كانت لهم قبل الإسلام، وإثارة الخلافات والنعرات بين شعوبهم، وكذلك يفعلون في البلاد الإسلامية، ويجهدون لمنع اجتماع شملها ووحدة كلمتها بكل ما في أذهانهم من قدرة على تحريف الحقائق، وتصيد الحوادث الفردية في التاريخ، ليصنعوا منها تاريخًا جديدًا يدعو إلى ما يريدون من منع الوحدة بين البلاد العربية والإسلامية والتفاهم على الحق والخير بين جماهيرها المؤمنة. 10- ومن الإنصاف أن نذكر أن لبعض المستشرقين أهدافًا علمية خالصة لا يقصد منها إلا البحث والتمحيص، ودراسة التراث العربي والإسلامي دراسة تجلو لهم بعض الحقائق الخافية عنهم، وهذا الصنف قليل عدده جدًّا، وهم مع إخلاصهم في البحث والدراسة لا يسلمون من الأخطاء والاستنتاجات البعيدة عن الحق، إما لجهلهم بأساليب اللغة العربية، وإما لجهلهم بالأجواء الإسلامية التاريخية على حقيقتها، فيحبون أن يتصوروها كما يتصورون مجتمعاتهم، ناسين الفروق الطبيعية والنفسية والزمنية التي تفرق بين الأجواء التاريخية التي يدرسونها، وبين الأجواء الحاضرة التي يعيشونها. وهذه الفئة أسلم الفئات الثلاثة في أهدافها، وأقلها خطرًا، إذ سرعان ما يرجعون إلى الحق حين يتبين لهم، ومنهم من يعيش بقلبه وفكره في جو البيئة التي يدرسها، فيأتي بنتائج مع الحق والصدق والواقع، ولكنهم يلقون عنتًا من أصحاب الهدفين السابقين، إذ سرعان ما يتهمونهم بالانحراف عن النهج العلمي، أو الانسياق وراء العاطفة، أو الرغبة في مجاملة المسلمين والتقرب إليهم، كما فعلوا مع "توماس أرنولد" حين أنصف المسلمين في كتابه العظيم: "الدعوة إلى الإسلام" فقد برهن على تسامح المسلمين في جميع العصور مع مخالفيهم في الدين، على عكس مخالفيهم معهم، هذا الكتاب الذي يعتبر من أدق وأوثق المراجع

في تاريخ التسامح الديني في الإسلام، يطعن فيه المستشرقون المتعصبون وبخاصة المبشرين منهم، بأن مؤلفه كان مندفعًا بعاطفة قوية من الحب والعطف على المسلمين، مع أنه لم يذكر فيه حادثة إلا أرجعها إلى مصدرها. ومن هؤلاء من يؤدي بهم البحث الخالص لوجه الحق إلى اعتناق الإسلام والدفاع عنه في أوساط أقوامهم الغربيين، كما فعل المستشرق الفرنسي الفنان "دينيه" الذي عاش في الجزائر، فأعجب بالإسلام وأعلن إسلامه وتسمى باسم: "ناصر الدين دينيه" وألف مع عالم جزائري كتابًا عن سيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وله كتاب "أشعة خاصة بنور الإسلام" بين فيه تحامل قومه على الإسلام ورسوله، وقد توفي هذا المستشرق المسلم في فرنسا، ونقل جثمانه إلى الجزائر ودفن فيها1.

_ 1 انظر: "المستشرقون ما لهم وما عليهم" للدكتور مصطفى السباعي.

وسائل الاستشراق

وسائل الاستشراق: لم يترك المستشرقون وسيلة لنشر أبحاثهم وبث آرائهم إلا سلكوها، ومنها: 1- تأليف الكتب في موضوعات مختلفة عن الإسلام واتجاهاته ورسوله وقرآنه، وفي أكثرها كثير من التحريف المتعمد في نقل النصوص أو ابتسارها وفي فهم الوقائع التاريخية والاستنتاج منها. 2- إرساليات التبشير إلى العالم الإسلامي لتزاول أعمالاً إنسانية في الظاهر كالمستشفيات والجمعيات والمدارس والملاجئ والمياتم، ودور الضيافة كجميعات الشبان المسيحية وأشباهها. 3- إلقاء المحاضرات في الجامعات والجمعيات العلمية، ومن المؤسف أن

أشدهم خطرًا أو عداء للإسلام كانوا يستدعون إلى الجامعات العربية والإسلامية في القاهرة ودمشق وبغداد والرباط وكراتشي ولاهور وعليكرة وغيرها ليتحدثوا عن الإسلام!.. وحول هذه الظاهرة العجيبة في توجيه الدعوة إلى المستشرقين الذين يطعنون في الإسلام لإلقاء بحوثهم التي تتضمن أفكارهم المسمومة ضد الإسلام والمسلمين في البلاد الإسلامية، يقول بعض المفكرين الإسلاميين المعاصرين1: "هذا من تقلبات الدهر وعجائب أمره، لقد مَرَّ على المسيحيين في أوروبا حين من الدهر كانوا يشدون فيه الرحال إلى الأندلس، ليتعلموا كتابهم المقدس -التوراة- من علماء المسلمين. أما الآن فقد انقلب الأمر رأسًا على عقب حيث أصبح المسلمون -واأسفاه- يرجعون إلى أهل الغرب "أوروبا وأمريكا" يسألونهم: ما هو الإسلام، وما هو تاريخه، وما هي حضارته؟ ليس هذا فقط. بل قد أصبحوا يتعلمون اللغة العربية منهم، ويستوردونهم لتدريس التاريخ الإسلامي. وكل ما يكتبونه عن الإسلام والمسلمين لا يجعلونه مادة للدراسة في كلياتهم وجامعاتهم فقط، ولكن يؤمنون به إيمانًا راسخًا مع أنهم -أعني أهل الغرب- قوم لا يسمحون لأحد إذا لم يكن من أتباع دينهم بأن يتدخل فيما يتعلق بدينهم وتاريخهم ولا في أتفه الأمور. لقد نشر اليهود موسوعتهم tewish encyclopaedia وما فيها مقال واحد article كتبه أحد المسيحيين فضلاً عن أن يكتبه أحد من المسلمين، وقد قاموا أنفسهم بترجمة التوراة، ويربئون عن أن يمسوا الترجمة المسيحية. وعلى العكس من هذا فإن علماءهم يكتبون الكتب والمقالات عن الإسلام ويتلقاها المسلمون بكل ترحيب".

_ 1 أبو الأعلى المودودي: "الإسلام في مواجهة التحديات المعاصرة" ص271.

4- عقد المؤتمرات وإصدار المجلات الخاصة ببحوثهم عن الإسلام وتاريخه ونظمه وبلاده وشعوبه، وتقوم على تنظيم هذه المؤتمرات، وإصدار هذه المجلات جمعيات استشراقية في عدد من البلاد الأوروبية. ومن أمثلة ذلك: - في عام 1887م أنشأ الفرنسيون جمعية للمستشرقين ألحقوها بأخرى في عام 1920، وأتبعوا ذلك بإصدار "المجلة الآسيوية". - تألفت في لندن في عام 1823 جمعية لتشجيع الدراسات الشرقية، وقبل الملك أن يكون ولي أمرها، وأصدرت هذه الجميعة "مجلة الجمعية الآسيوية الملكية". - أنشأ الأمريكيون في عام 1842م جمعية باسم "الجمعية الشرقية الأمريكية" وأصدر بهذا الاسم مجلة تعني بالدراسات الاستشراقية. - وأخطر المجالات التي يصدرها المستشرقون الأمريكيون في الوقت الحاضر هي مجلة "العالم الإسلامي The Muslim World" وهي مجلة أنشأها "صموئيل زويمر S.Zweimer" في سنة 1911م وتصدر الآن من "هارتفورد Hartford" بأمريكا. ورئيس تحريرها "كنيث كراج K.Cragg" وطابع هذه المجلة تبشيري سافر. وللمستشرقين الفرنسيين مجلة شبيهة بمجلة "العالم الإسلامي" في روحها واتجاهها العدائي التبشيري واسمها أيضًا1 Le Mond Musulman. 5- إنشاء الموسوعة "دائرة المعارف الإسلامية" وقد أصدروها بعدة لغات، وبدءوا بإصدار طبعة جديدة منها، وقد بدئ بترجمة الطبعة الأولى إلى اللغة العربية، وصدر منها حتى الآن ثلاثة عشر مجلدًا. وفي هذه الموسوعة

_ 1 انظر: "التفكير الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي" تأليف: الدكتور محمد البهي ص535-536.

التي حشد لها كبار المستشرقين وأشدهم عداء للإسلام، قد دس السم في الدسم، وملئت بالأباطيل عن الإسلام وما يتعلق به، ومن المؤسف أنها مرجع لكثير من المثقفين عندنا بحيث يعتبرونها حجة فيما تتكلم به، وهذا من مظاهر الجهل بالثقافة الإسلامية وعقدة النقص عند هؤلاء المثقفين1.

_ 1 انظر المرجع السابق ص536. وانظر "المستشرقون ما لهم وما عليهم" للدكتور مصطفى السباعي.

الفصل الخامس: الثقافة الإسلامية وآفاق الحياة الإنسانية

الفصل الخامس: الثقافة الإسلامية وآفاق الحياة الإنسانية أفق البناء الفكري والخلقي مدخل ... أفق البناء الفكري والخلقي: في ضوء ما أسلفنا من ارتكاز الثقافة الإسلامية على العقيدة الحقة النيرة، والمنهج الرباني الخالص، ورصيد الفطرة الإنسانية الأصيلة.. وما أوضحنا من خصائص الثقافة الإسلامية، وأنها موضع الثقة الكاملة، وأنها بلغت الكمال في تصورها للحياة والإنسان، وبنت في هذه الأمة روح التميز، وكانت إيجابية في روحها، أخلاقية في دعوتها، فريدة في رعايتها للوحدة الإنسانية والمثل العليا. وفي ضوء هذا كله تنطلق هذه الثقافة في الآفاق التي تتسم بكل خير وطهر، واستقامة وصلاح، بحيث لا تدع جانبًا من جوانب حياة الفرد والجماعة والأمة والإنسانية كلها، إلا وتتناوله بالمعالجة الكاملة، والإصلاح الشامل، والتنظيم الفريد، وإقامته على أمتن القواعد، وأرفع المثل، وأسمى الأهداف.

تحرير العقل من التعطل

تحرير العقل من التعطل: 1- إنها تحرر العقل من سلطان الخرافة والوهم، والجمود والتقليد، ومن وسائلها في ترسيخ الحقائق في العقول ودحض منطق الانحراف والضلال تنبيه هذا الإنسان إلى مشاهد هذا الكون، بإثارة نزوعه الفطري الأصيل، نحو التأمل المنتج والتدبر الهادف فيما خلق الله في هذا الكون من مخلوقات تحيط بالإنسان من كل جانب، وتدل بروعة إنشائها ودقة إحكامها، وكمال تناسقها، ووحدة نواميسها على عظمة بارئها، وقدرة مصورها، وفي ذلك أعمق إيحاء وأجل برهان على وحدانية الله تبارك وتعالى، واستحقاقه للعبادة والخضوع والشكر. قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ} 1. ويقول -عز وجل: {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ، إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} 2.

_ 1 الشورى: "29". 2 الشورى: "32-33".

ويقول سبحانه: {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ، وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ، قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ، فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} 1. وملاك الأمر في هذه القضية أن توحيد الله تبارك وتعالى هو مفرق الطريق في حياة الإنسان بين ما يجب أن يكون عليه من رعاية للعمل العقلي السليم، والمنطق السديد الذي يحقق الدقة والنظام، في أخطر شأن من شئون البشر -وهو العقيدة- وبين ما لاينبغي له ولا يليق به من استخفاف بما يحكم به العقل السوي، وما يحمل عليه المنطق الصحيح، وما يؤدي إليه الاستخفاف من اضطراب وفوضى في العقيدة. بسبب الانسياق وراء الخرافات الباطلة والأوهام الزائفة، التي يأباها العقل، ويرفضها المنطق. 2- وإذا كانت النظم التي لا غنى عنها للبشر في حياة صالحة سليمة قويمة، ترتكز في بواعثها ومقوماتها، وروحها وضوابطها على العقيدة التي يؤمن بها الإنسان، ويُحْكَمُ على هذه النظم بالصحة أو بالفساد، وبالنظام أو بالفوضى، في ضوء العقيدة التي تقوم هذه النظم عليها، وتنبعث منها، وتتلاءم مع مقتضاها وتوجيهاتها، فإن من المقطوع به -عقلاً ومنطقًا وتجربة- أن أي نظام اجتماعي أو سياسي، أو اقتصادي أو دولي،

_ 1 "الزخرف: 22-25".

لا يمكن أن يوصف بالصحة والدقة، وتحقيق الطمأنينة والخير، للفرد والجماعة، إذا كان منبثقًا من عقيدة لا ترجح في ميزان العقل، ولا تثبت أمام المنطق السليم، ومن هنا كان توحيد الله تبارك وتعالى هو حقًّا مفرق الطريق بين النظام والفوضى في حياة الإنسان عقيدة وسلوكًا ونظمًا، ذلك أن توحيد الله -عز وجل- هو وحده الذي يحرر العقل الإنساني من التعطل المزري، والانسياق وراء الأهواء والأوهام والخرافات، والأساطير الغامضة الباطلة. إنه ليس في المنهج الإسلامي أوهام وأسرار وخرافات تصطدم مع العقل السليم والمنطق الصحيح، بل لقد جعل هذا المنهج الرباني العقل الإنساني هاديًا إلى الحق، وأمر بالاحتكام إليه في حقائق الوجود، وجعله مناط الفصل في حسم الجدال بين الملحدين والمؤمنين، حول أي قضية يثور النزاع فيها بين الشك واليقين. 3- بهذا المنهج الذي يهدم الخرافة والوهم والتقليد، وينبه العقل للتأمل والتفكير، تسقط كل ضروب الأساطير وأنواع الخرافات مهما اختلفت في مظاهرها وصورها، وتعددت أشكالها بتعدد الأمم والأجناس التي تضمها فترة زمنية معينة، ثم لا يسمح لها بعد ذلك أن تحيا في المجتمع الإسلامي الذي يحرر العقل ويحترمه، ويدعو إلى البحث الدقيق، ويحث على التفكير العميق، ويدفع إلى تقصي الحقائق، ويصون الكيان الفكري من آفات الجهل والخرافة، والوهم والانحراف. قال تعالى في الحث على التفكير والثناء عليه: {كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} 1. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُون} 2.

_ 1 "يونس: 24". 2 "الرعد: 3".

{وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} 1. {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} 2. وقال سبحانه وتعالى في إعلاء شأن العقل والدعوة إلى إعماله في فهم آيات الله، وإدراك دلائل الهداية في الكون والحياة: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون} 3. {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} 4. {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون} 5. {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون} 6. ويقرر هذا المنهج أن الذي يُعْمِلُ عقله فيعلم الحق ويوقن به، هو الإنسان السوي البصير، وأن الجاهل الذي يعطل عقله فلا يعلم ولا يهتدي، هو الأعمى المطموس البصيرة، المشلول الإدارك، كما قال -عز وجل: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} 7.

_ 1 "النحل: 44". 2 "الحشر: 21". 3 "البقرة: 242". 4 "آل عمران: 118". 5 "الأنعام: 151". 6 "يوسف: 2". 7 "الرعد: 19".

الحث على العلم

الحَثّ على العلم: 1- إن هذا التحرير للعقل الذي يفتح المدارك، ويثير التفكير، ويحمل على الاستزادة من العلوم والمعارف، ويفصل فصلاً حاسمًا بين الحقائق والأوهام، ذلك أن الإنسان إنما يفكر ويتقدم في مضمار العلم بالعمل العقلي، فإذا تعطل العقل انحسرت المعرفة، وضمر العلم، وذلك يعقد الإسلام أوثق الأواصر بين الإيمان والفكر، والإيمان والمعرفة والإيمان والتقدم في الميدان العلمي، حين يدعو الإنسان إلى النظر والتأمل والتدبير في خلق السموات والأرض، وبحثه على التفكير في عالم النفس، وفي آفاق الكون، ويرى أن خير عظة توجه إلى الإنسان هو أن يفكر تفكيرًا سليمًا وينظر نظرًا صحيحًا في آيات الله في الأنفس والآفاق. قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} 1. "وفضيلة الإسلام الكبرى أن يفتح للمسلمين أبواب المعرفة، ويحثهم على ولوجها والتقدم فيها، وقبول كل مستحدث من العلوم على تقدم

_ 1 سبأ: "46".

الزمن، وتجدد أدوات الكشف، ووسائل التعليم، وليست فضيلته الكبرى أن يقعدهم عن الطلب، وينهاهم عن التوسع في البحث والنظر؛ لأنهم يعتقدون أنهم حاصلون على جميع العلوم"1. 2- من أجل هذا لا يتصور في ظل منهج الإسلام أي ضرب من ضروب النزاع بين الدين والفكر أو العلم، كمثل ما عرفت أوروبا من نزاع طويل مرير بين العلماء وبين رجال الكنيسة، ذلك النزاع الذي انتهى في بعض أطواره إلى سيطرة نزعة الشك، ثم تفاقمت هذه النزعة حتى انتهت في بعض الحالات إلى هجر الدين أو الإلحاد، وظل الدين -في أوروبا- على أي حال ينظر بتوجس وخيفة وحذر، إلى العمل العقلي، والمسائل العلمية، خلال حقبة طويلة شملت القرون الوسطى، ثم لم ينعقد الوئام بين الدين والعلم فيما يسمى عصر النهضة، وإن فرض الواقع أن ظل رجال الدين في مواقعهم، يتلهون باستعراض صور تاريخهم الذي اتسم بالقسوة والعنف، وممارسة ضروب الاضطهاد والإيذاء للعلماء والمفكرين إلى حد القتل والإحراق، والتعذيب والحرمان، لكل من جاء بآراء ونظريات لم تحظَ منهم بالقبول، بسبب تناقضها مع أوهامهم وخرافاتهم.. ظل رجال الدين هكذا من حيث انطلق العلماء والمفكرون في مضمار البحث والعلم والكشف والاختراع والتربية والنظام، بعيدًا عن استيحاء الدين وسيطرة رجاله، واستغل الماديون منهم تلك العقدة التي شكلها تاريخ النزاع الحاد المرير بين العلماء ورجال الدين، فدعوا إلى إقامة الحياة الإنسانية على المنطق المادي وحده، وأقاموا بنيانهم الفكري والعلمي على غير قاعدة الإيمان، بل لقد جهر بعضهم بالدعوة إلى الإلحاد وإنكار الإيمان بالله، كما يرى ذلك في الفلسفة الماركسية. "إن هذا الصراع بين العلم والكنيسة، وانتصار

_ 1 عباس محمود العقاد: "الفلسفة القرآنية" ص18.

العلم في النهاية على الكنيسة. إن هذا الصراع وهذا الانتصار، وما أعقبه بعد ذلك من اتجاهات جديدة في التاريخ السياسي والفكري، لا يعدو أن يكون حديثًا أوروبيًّا محضًا متعلقًا بطبيعة الكنيسة وسلطتها الكهنوتية، وتحكمها في تفسير المسيحية، وتحديدها لعقائدها، وإعطاء صفة القداسة لما قررته المجامع الكنسية من نصوص. ولذا فإن الخطأ والظلم الفادحين اعتبار هذا الحدث في التاريخ الإنساني كله، فإن هذا يحمل في مدلوله تعميم الظاهرة على التاريخ الإسلامي، وينتهي إلى خطأ أخطر وظلم أكبر وهو: التسوية بين طبيعة المسيحية وطبيعة الإسلام، ثم الحكم عليهما بحكم واحد. ووجه الخطأ والظلم في هذا هو أن ذلك الصراع بين العلم والكنيسة في أوروبا، كان ظاهرة مَرَضِيَّةً خطيرة، قيدت الفكر وعاقت سير العلم، وأخرت النهضة، وأوقفت نمو الحضارة، ولكن لم يكن لهذه الظاهرة المرضية وجود في بنية المجتمع الإسلامي، الذي كان -في تلك الفترة الزمنية وقبلها- في أوج عافيته، منارًا لحرية الفكر، وانتشار العلم، وازدهار الحضارة، ومصدر عافيته دائمًا هو الإسلام، الذي يحض على العلم ويدعو إليه، ولا يعرف تاريخه هذا الصراع العجيب بين العلم والدين"1. 3- إن دعوة المنهج الإسلامي إلى إعمال العقل بتوجيهه الدائم إلى التدبير والتفكير، في كل جوانب الكون والحياة، للتعرف على الحقائق بشمول وعمق؛ هو منهج العلم في أصدق أصوله، وأرسخ قواعده، فهو المنهج الذي يرفع من شأن البحث العلمي الذي يوصل إلى معرفة الحق، ويؤدي إلى الإذعان له، لما يقوم عليه العلم الصحيح من الحجة القوية، والبرهان المقنع، وليس يقبل في هذا المنهج الاعتماد على الظن

_ 1 المسألة الاجتهادية بين الإسلام والنظم البشرية، للمؤلف ص89.

والتخمين طريقًا للوصول إلى المعرفة، وإدراك الحقائق، ولقد دعا القرآن الكريم الضالين المكذبين من المشركين وأهل الكتاب إلى أن يأتوا ببرهان على ما يزعمون إن كانوا صادقين. قال تعالى: {أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَءلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} 1. {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} 2. ويعلي المنهج الإسلامي من قدر العلماء الذين يجعلون علمهم دليلاً إلى عمق الهداية في قلوبهم، وقوة خشيتهم لربهم. قال تعالى: {كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُون} 3. {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} 4. {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} 5. {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} 6.

_ 1 "النمل: 64". 2 "البقرة: 111". 3 "الأعراف: 32". 4 "الزمر: 9". 5 "المجادلة: 11". 6 "فاطر: 28".

{وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ} 1. 4- وإذا كان القرآن الكريم كتاب عقيدة وهداية، فإن خير ما يطلب كانت العقيدة في مجال العلم أن يحث على التفكير، ولا يتضمن حكمًا من الأحكام يشل حركة العقل وتفكيره، أو يحول بينه وبين الاستزادة من العلوم، ما استطاع حيثما استطاع، وكل هذا مكفول للمسلم في كتابه، كما لم يُكْفَلْ قَطٌّ في كتاب من كتب الأديان، وهو بذلك يطابق العلم، أو يوافق العلوم الطبيعية بهذا المعنى الذي تستقيم به العقيدة، ولا تتعرض للنقائض والأظانين، كلما تبدلت القواعد العلمية، أو تتابعت الكشوف بجديد ينقض القديم أو يبطل التخمين2. على أنه ليس لنا أن نتلمس للنصوص القرآنية مصداقًا من النظريات العلمية -حتى ولو كان ظاهر النص يتفق مع النظرية وينطبق- فالنظرية العلمية قابلة دائمًا للانقلاب رأسًا على عقب، كلما اهتدى العلماء إلى فرض جديد، وامتحنوه فوجدوه أقرب إلى تفسير الظواهر الكونية من الفرض القديم، الذي قامت عليه النظرية الأولى، والنص القرآني صادق بذاته، اهتدى العلم إلى الحقيقة التي يقررها أم لم يهتدِ. وفرق ما بين الحقيقة العلمية والنظرية العلمية، فالحقيقة العلمية قابلة للتجربة وثابتة في جميع الأحوال. أما النظرية العلمية فهي قائمة على فرض يفسر ظاهرة كونية أو عدة ظواهر، وهي قابلة للتغيير والتبديل والانقلاب، ومن ثم فلا يحمل القرآن عليها، ولا تحمل هي على القرآن، فلها طريق غير طريق القرآن، ومجال غير مجال القرآن. وتَلمُّس موافقات من النظريات العلمية للنصوص القرآنية هو هزيمة

_ 1 العنكبوت: "43". 2 انظر "الفلسفة القرآنية": عباس محمود العقاد. ص16-18.

لِجِدِّيَّةِ الإيمان بهذا القرآن واليقين بصحة ما جاء فيه، وأنه من لدن حكيم خبير، هزيمةٌ ناشئة من الفتنة بالعلم، وإعطائه أكثر من مجاله الطبيعي الذي لا يصدق ولا يوثق به إلا في دائرته، فلينتبه إلى دبيب الهزيمة من نفسه أنه بتطبيق القرآن على العلم يخدم القرآن ويخدم العقيدة ويثبت الإيمان. إن الإيمان الذي ينتظر كلمة العلم المتقلبة لِيَثْبُتَ لهو إيمان يحتاج إلى إعادة النظر فيه. إن القرآن هو الأصل والنظريات العلمية توافقه أو تخالفه سواء. أما الحقائق العلمية التجريبية الثابتة فمجالها غير مجال القرآن. وقد تركها القرآن للعقل البشري يعمل فيها بكامل حريته، ويصل إلى النتائج التي يصل إليها بتجاربه، ووكل نفسه بتربية هذا العقل على الصحة والاستقامة والسلامة، وتحريره من الوهم والخرافة. كما عمل على إقامة نظام للحياة يكفل لهذا العقل أن يستقيم وأن يتحرر، وأن يعيش في سلام ونشاط. ثم تركه بعد ذلك يعمل في دائرته الخاصة. ويصل إلى الحقائق الجزئية الواقعية بتجاربه. ولم يتعرض لذكر شيء من الحقائق العلمية إلا نادرًا، وما أثبته القرآن أثبته العلم التجريبي من هذه الحقائق، مثل إن الماء أصل الحياة، والعنصر المشترك في جميع الأحياء، ومثل إن جميع الأحياء أزواج حتى النبات الذي يلقح من نفسه، فهو يحتوي على خلايا التذكير والتأنيث"1.

_ 1 سيد قطب: "في ظلال القرآن" ج12، ص17.

السمو بالنفس وتطهير الضمير

السمو بالنفس وتطهير الضمير: 1- إن إصلاح الفرد إصلاحًا يجعله جديرًا بحمل المبادئ الفاضلة، والعمل لتحقيق الأهداف السامية؛ لا يتم ولا يؤدي ثمرته المرجوة إلا إذا مَسَّ الإصلاح -أولاً- نفسه التي بين جنبيه، باعتبارها مصدر السلوك وموطن الشعور، ومبعث الأعمال التي توصف بالخير أو الشر، وتضع الإنسان مع الأخيار المفلحين، أو الأشرار الخائبين، كما قال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} 1. ولذا فإن تربية الضمير من أخطر المهام التي يتعلق بها مصير الإنسان، ويتوقف عليها ضمان سعادة الفرد وتماسك المجتمع، ومن الضروري أن يوضع لها من القواعد والأسس ما يتناسب مع دقة مهمتها وجلال رسالتها؛ لأن أي انحراف في المنطق سيئول في النهاية إلى الضياع والهلاك. وخطر الانحراف في تربية الضمير، أو إهمال تربيته؛ هو في ذلك الامتداد والتوسع الذي يشمل كل جزء من أجزاء النشاط الإنساني. ويؤكد الواقع أنه ليس لأي عامل من عوامل الحركات الإنسانية -مهما

_ 1 الشمس: "7-10".

بلغ من الدقة والتنظيم والإحكام- أثر أقوى وأبلغ وأشد فاعلية في توجيه البشر من الإيمان، وأن كل ما عداه من العوامل التي أحلها البشر محل العقيدة، واعتبروها ذات أثر في حركات الأفراد والجماعات، إنما تتفاوت -من حيث القوة والضعف- بمقدار ما بينها وبين الإيمان من المشابهة، في تمكنها من باطن السريرة وأصل الشعور. إن الإيمان ينشئ في الإنسان ضميرًا واحدًا لا يعتريه ضعفٌ أو انهزام، ولا يتبدل وفق تبدلات الزمان والمكان، ولا يتكيف بحسب البيئة والنظم، ولا يتعطل تحت ضغط الأهواء والشهوات، إنه في يقظة دائمة وتنبه مستمر، يرصد نوازع الشر، ويحذر خداع النفس، ويبين حقيقة الهوى، ويرقب نزغات الشيطان1. 2- ولما كان بين العقيدة والسلوك أوثق ارتباط وأعمقه وأقواه فإن الثقافة الإسلامية بترسيخها العقيدة في النفس الإنسانية إنما تقيم حجر الزاوية في التطهير النفسي من دنس الأهواء ونزغات الشيطان، وتنقي الضمير من شوائب الانحراف والفساد وبذلك تسمو بهذه النفس إلى حب الفضائل من الصدق والوفاء، والكرم والشجاعة، والتضحية والإيثار، ولا شك أن الارتقاء بالنفس عن المستوى المادي القاصر المحدود يترك أطيب الثمرات في السلوك ويتيح للإنسان أن يحيا حياة كريمة طيبة. قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} 2. ومن شأن الثقافة الإسلامية أن تنشئ شخصية ذات مثل أعلى يتصل بالله

_ 1 انظر "المسألة الاجتماعية بين الإسلام والنظم البشرية" للمؤلف ص202. 2 النحل: "97".

تبارك وتعالى خالق الكون ومفيض الخير والرحمة والنعمة. وبذلك يشتق صاحب هذه الشخصية مثاليته من الحق والخير والكمال، وتتجلى مثاليته بطلب الحقيقة أين كانت، والنزوع إلى الكمال، وحب الخير ويبدو في حب الإنسانية جميعًا والعمل في سبيلها.. ولا شك أن سيطرة هذه المثل على النفس توحدها وتربط دوافعها ونوازعها وعاداتها كلها برباط واحد، تحت قيادة واحدة تسير النفس في ظلها موحدة منسجمة، لا نزاع فيها ولا شذوذ ولا نشاز، كما تستمد من هذه المثل كل نزعة خلقية لدى الفرد، وغذاءها وحافزها وموجهها1. 3- "وإن منهج الإسلام يتناول الحياة كلها، ويتولى شئون البشرية كبيرها وصغيرها، وينظم حياة الإنسان لا في الحياة الدنيا وحدها، ولكن كذلك في الدار الآخرة، ولا في عالم الشهادة وحده ولكن كذلك في عالم الغيب المكنون عنها، ولا في المعاملات المادية الظاهرة وحدها ولكن كذلك في أعماق الضمير، ودنيا السرائر والنوايا -فهو مؤسسة ضخمة هائلة شاسعة الأطراف- ولا بد له إذن من جذور وأعماق بهذه السعة والضخامة والعمق والانتشار أيضًا. هذا جانب من سر هذا الدين وطبيعته، يحدد منهجه في بناء نفسه وفي امتداده، ويجعل بناء العقيدة وتمكينها، وشمولها هذه العقيدة واستغراقها لشعاب النفس كلها. ضرورة من ضروريات النشأة الصحيحة، وضمانًا من ضمانات الاحتمال، والتناسق بين الظاهر من الشجرة في الهواء والضارب من جذورها في الأعماق. ومتى استقرت عقيدة "لا إله إلا الله" في أعماقها الغائرة البعيدة،

_ 1 انظر "لمحات في التربية الإسلامية" للدكتور محمد أمين المصري. ص244.

استقر معها في نفس الوقت النظام الذي تتمثل فيه "لا إله إلا الله" وتَعَيَّنَ أنه النظام الوحيد الذي ترتضيه النفوس التي استقرت فيها العقيدة واستسلمت هذه النفوس ابتداءً لهذا النظام، حتى قبل أن تعرض عليها تفصيلاته، وقبل أن تعرض عليها تشريعاته، فالاستسلام ابتداء هو مقتضى الإيمان، وبمثل هذا الاستسلام تلقت النفوس -فيما بعد- تنظيمات الإسلام وتشريعاته بالرضى والقبول، لا تعترض على شيء منه فور صدوره إليها، ولا تتلكأ في تنفيذه بمجرد تلقيها له.. وهكذا أبطلت الخمر، وأبطل الربا، وأبطل الميسر، وأبطلت العادات الجاهلية كلها.. أبطلت بآيات من القرآن، أو كلمات من الرسول -صلى الله عليه وسلم- بينما الحكومات الأرضية تجهد في شيء من هذا كله بقوانينها وتشريعاتها، ونظمها وأوضاعها، وجندها وسلطاتها، ودعايتها وإعلامها، فلا تبلغ أن تضبط الظاهر من المخالفات، بينما المجتمع يعج بالمنهيات والمنكرات"1. 4- إن السمو بالنفس وتربية الضمير -كما جاء بذلك منهج الإسلام- "لا بد أن ينبثق من تصور الإنسان للكون والوجود، الذي يعتمد على أن لهذا الكون إلهًا، وأنه ما من إله غيره خلق الكون وأوجده، وهذا الكون يسير بانتظام مذعنًا لأمر الله ومشيئته، والإنسان جزء من هذا الكون، خلقه الله بطبيعة متميزة لعبادته والانقياد لأمره ولا معنى لحياته إلا أن تكون خالصة العبودية لله، فالغاية البعيدة من مجهودات الإنسان ومساعيه في الدنيا هي ابتغاء وجه الله تعالى ونيل رضاه، وهذا هو المقياس الذي يقاس به في الإسلام كل عمل من أعمال الإنسان ويحكم عليه بالخير أو الشر"2.

_ 1 سيد قطب: "معالم في الطريق" ص22. 2 أبو الأعلى المودودي: "نظام الحياة في الإسلام" ص14.

وقد بين شيخ الإسلام "ابن تيمية" "أن الإنسان على مفترق طريقين لا ثالث لهما: فإما أن يختار العبودية لله، وإما أن يرفض هذه العبودية فيقع لا محالة في عبودية لغير الله ... وهو -كما رأيت- يقيم هذا الجزء من نظريته على الأسس النفسية، والتحليل الدقيق للطبيعة البشرية، فالإنسان لا ينفك عن وصف العبودية؛ لأنه كائن حي ذو حاجات ومطامع، ولأن له قلبًا، فإما أن يكون عبدًا لله، وإلا فهو عبد لغيره، وبتعبير آخر إن لم يرضَ أن يكون عبدًا لله استعبدته حاجاته ومطامعه وأهواؤه وشهواته، وطواغيت الجن والإنس، وما يزينون لبني آدم من معبودات. ومن هذا يتضح أن العبودية لله تحررهم من كل عبودية أخرى شعروا بها أو لم يشعروا، رضوا بها أو سخطوا"1. "ونظرية "ابن تيمية" في "العبودية" هي في الوقت نفسه نظرية في الأخلاق والفضيلة: "وقد بين الله أن عباده المخلصين هم الذين ينجون من السيئات التي زينها الشيطان". ص84 - من رسالة العبودية. "وقال تعالى في حق يوسف: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} 2. فالله يصرف عن عبده ما يسوؤه من الميل إلى الصورة والتعلق بها، ويصرف عنه الفحشاء بإخلاصه لله". ص99 من رسالة العبودية. "ومن كانت عبوديته لله وجهاده في سبيله، فعلمه كله فضيلة وهو لا ينحرف في أي شأن من الشئون إلا عندما يزيغ عن هذه العبودية"3.

_ 1 عبد الرحمن الباني: "مقدمة رسالة العبودية لشيخ الإسلام ابن تيمية" ص6. 2 يوسف: "24". 3 المرجع السابق ص8.

5- ومن منهج الإسلام في السمو بالنفس وتطهير الضمير، ردُّ كل شيء من انفعال الإنسان وحركاته، ونواياه وتطلعاته، وأقواله وأفعاله، إلى الله -عز وجل- فهو الذي يعلم ما في نفوس عباده، وما وراء سلوكهم الظاهري، وما يقولون أو يفعلون.. قال تعالى: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا} 1. فعلى أساس هذه الحقيقة الإيمانية يسمو الإنسان بنفسه إلى الفضائل ومكارم الأخلاق، ويحيا ضميره على اليقظة والخشية، ومراقبة الله -عز وجل- في السر والعلن، وبذلك يظل المؤمن في نجوة من الانزلاق، والوقوع في المعاصي والآثام، ويقيم من ضميره اليقظ ونفسه اللوامة ومراقبة الله -عز وجل- وذكره، حارسًا يرغبه في الخير والاستقامة، ويحذره من الشر والانحراف، فإذا أخطأ أو زلَّ -بسبب ضعفه البشري- فإنه سرعان ما يبادر إلى التوبة والاستغفار، والأوبة إلى الله -عز وجل- بعد أن يقلع عن الذنب، ويندم عليه، ويعزم على عدم العودة إليه. قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} 2. وقد أسهب علماء السلف في تفصيل منهج الإسلام في محاسبة النفس

_ 1 الاسراء: "25". 2 [آل عمران: "135".

ومراقبتها، وفق ما جاء في كتاب الله -عز وجل- وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- وألفوا في ذلك كتبًا عدة، وعقد "الإمام أحمد بن عبد الرحمن بن قدامة المقدسي المتوفى سنة 742هـ "بابًا في المحاسبة والمراقبة في كتابه "مختصر منهاج القاصدين" الذي اختصر فيه كتاب "منهاج القاصدين ومفيد الصادقين" لابن الجوزي. ذكر في هذا الباب أن مناط الأمر في الاستقامة وصلاح النفس، متعلق بشعور الإنسان بخطر حسابه عند ربه في الآخرة. وقال: "وتحقق أرباب البصائر أنهم لا ينجيهم من هذه الأخطار إلا لزوم المحاسبة لأنفسهم، وصدق المراقبة. فمن حاسب نفسه في الدنيا، خفَّ في القيامة حسابه، وحسن منقلبه، ومن أهمل المحاسبة دامت حسراته. فلما علموا أنه لا ينجيهم إلا الطاعة وقد أمرهم الله بالصبر والمرابطة فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا} 1. فرابطوا أنفسهم أولا بالمشارطة، ثم بالمراقبة، ثم بالمحاسبة، ثم بالمعاقبة، ثم بالمجاهدة، ثم بالمعاتبة، فكانت لهم في المرابطة ست مقامات. وأصلها المحاسبة، ولكن كل حساب يكون بعد مشارطة ومراقبة، ويتبعه عند الخسران المعاتبة والمعاقبة"2. ثم شرح كل مقام بما يقتضيه من التحليل الدقيق لنوازع النفوس ورغائبها، والآفات التي تعرض لها، مفصلاً طريقة العلاج، وخطة الإصلاح، حتى تستقيم على التقوى، والتزام ما يرضي الله -عز وجل.

_ 1 آل عمران: "200". 2 ابن قدامة المقدسي: "مختصر منهاج القاصدين" ص289.

أفق البناء الاجتماعي والسياسي

أفق البناء الاجتماعي والسياسي إنشاء المجتمع الفاضل: لا بد لتحقيق المجتمع الفاضل من توافر عناصر عدة تضمن لهذا المجتمع القوة والوحدة، والتماسك والاستمرار، والإسهام في البناء الحضاري الخيِّر للإنسانية جمعاء.. من هذه العناصر: أولا: صياغة الفرد صياغة تقوم على أساس إبراز خصائصه الإنسانية العليا، وتطهيره من أدران الهبوط والإسفاف، والتجافي به عن كل ما يتنافى مع أصالة فطرته، وكمال إنسانيته، والسمو به فكرًا وروحًا وشعورًا وسلوكًا. ثانيا: صياغة المجتمع على أساس إنساني عالمي، يقوم على مبادئ سليمة، وغايات طيبة وأخلاق قويمة، وروابط تحقق الوحدة والتكافل والعدل، وتمنع الفرقة والأثرة والظلم. ثالثًا: إقامة العلاقات بين الفرد والمجتمع على أساس التساند والتوازن بين النزعتين الفردية والجماعية، بحيث لا تطغى نزعة على أخرى، ولا يقع أي تعارض أو تطرف بين النزعتين، أو يجري أي خلل في الحقوق والواجبات. رابعًا: انبثاق النظام الاجتماعي بمعناه الشامل -في جوانبه التربوية والسياسية والاقتصادية والخلقية- من عقيدة حقة واضحة صحيحة، لا لبس

فيها ولا غموض، ولا بد أن تكون هذه العقيدة حية تبعث الحركة والنشاط لدى الفرد والجماعة. ويحقق الإسلام هذه العناصر التي يقوم عليها المجتمع الفاضل على أساس إيجابي وآخر سلبي، تطبيقًا لمنهجه في إقامة المعروف، وهدم المنكر، ويصوغ الفرد والجماعة والعلاقة بينهما، والنظام الذي لا غنى عنه لحياة اجتماعية صحيحة، على أساس عقيدة التوحيد الفطرية السليمة، التي جاءت بالخير والحق، والاستقامة والرشاد، وفق المنهج الإلهي الذي قرره الله تبارك تعالى في كتابه الكريم: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} 1. وتحقق فيما شرع الله -عز وجل- عناصر هذا المجتمع الفاضل على أكمل صورة، وأقوم تربية، وأقوى كيان، بحيث يكون "المجتمع الإسلامي" هو وحده من دون أي مجتمع إنساني آخر "المجتمع الفاضل" المنشود. 1- صياغة الفرد: أ- الفرد هو الإنسان الذي خلقه الله بيديه، ونفخ فيه من روحه، وفضله على كثير من خلقه، وسخر له ما في السموات والأرض، وكرَّمه أعظم تكريم، وخلقه في أحسن تقويم، وأسبغ عليه نعمه ظاهرة وباطنة، وحمَّله الأمانة الغالية، وأكرمه بالفطرة الطيبة وأعده أكمل إعداد وأوفاه، وأمره أن يعبد الله وحده لا شريك له، عبادة خالصة يؤدي بها شكر ربه ويبتغي ثوابه ورضاه. قال تعالى:

_ 1 الشورى: "13".

{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ، مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ، إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} 1. {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ، الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ، فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} 2. ب- إن الإسلام بهذا قد كرم الفرد الإنساني كرامة رائعة ينالها منذ تكوينه جنينًا في بطن أمه، وهي كرامة ينشرها منهج الإسلام على كل فرد من البشر، ذكرًا كان أو أنثى، أبيض أو أسود، ضعيفًا أو قويًّا فقيرًا أو غنيًّا، كما يصون منهج الإسلام دم الإنسان أن يسفك، أو عرضه أن ينتهك، وماله أن يغتصب، ومسكنه أن يقتحم، ونسبه أن يبدل، ووطنه أن يخرج منه أو يزاحم عليه، وضميره أن يتحكم فيه قسرًا، وتعطل حريته خداعًا ومكرًا ... فهو حمى محمي، وفي حرم محرم، ولا يزال كذلك حتى ينتهك هو حرمة نفسه، وينزع بيده هذا الستر المضروب عليه، بارتكاب جريمة ترفع عنه جانبًا من تلك الحصانة، وهو بعد ذلك بريء حتى تثبت جريمته، ولم يكتفِ الإسلام بأن عرف كل فرد حقه نظريًّا في هذه الحصانة الإنسانية، ولكنه أخذ يهيب به أن يدافع عن هذا الحق، وطفق يحرضه أشد التحريض على أن يقاتل دونه وأن يضحي بنفسه في سبيله3. ج- وإذا كانت الكرامة الإنسانية -كما قررها منهج الإسلام- سياجًا لحرمة الإنسان وحصانة له، وحفظًا لحقوقه، فإنها -من ناحية آخرى- روح تحمل الإنسان على أن يعرف في هذا الوجود مكانته

_ 1 الذاريات: "56-58". 2 الانفطار: "6-8". 3 انظر "دراسات إسلامية في العلاقات الاجتماعية والدولية" للدكتور محمد عبد الله دراز ص33.

التي بوأه الله إياها، ووظيفته التي كلفه بها، ويقتضي ذلك منه أن يتحرك وفق خصائص الإنسانية الأصيلة، وفطرته الطيبة النقية، فلا يهبط ولا يسف، ولا يتقاصر عن السمو والارتقاء، بل ينطلق في رحاب الجد والعلم والإنتاج، دون أن يشرب انطلاقه غرور أو ظلم أو كبرياء. د- يقوم التصور الإسلامي للكون والحياة والإنسان على حقيقة أن كل شيء يخضع لله -عز وجل- وينقاد لأمره. {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُون} 1. فالإنسان -وفق التصور- مكلف بحكم ما أودع الله فيه من الفطرة، وما مَيَّزَهُ به من العقل، أن يصبغ حياته كلها وفق مقتضى هذه الحقيقة، بحيث يحقق في حياته معنى الطاعة الكاملة لله، والانقياد التام لأمره، والإذعان لحكمه، فإذا انسجم بكل ملكاته وطاقاته مع هذا اليقين، واتجه بصدق وإخلاص نحو هذه الغاية، كان مؤمنًا حقًّا، والمؤمن هو الفرد الصالح النافع، الذي يحسن إلى نفسه وإلى الناس. قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} 2. {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} 3. ولا بد أن يتم توافق الإنسان وانسجامه الكامل، مع هذه الغاية التي

_ 1 الروم: "26". 2 النساء: "124". 3 لقمان: "22".

قررها المنهج الرباني، بحيث يشمل فكر الإنسان ونيته، وشعوره وإرادته، وسلوكه وحركته، وبذلك يدرك مكانه في هذا الوجود، وعلاقته بهذا الكون، وتقويمه لهذه الحياة، فلا يزلّ ولا يَضِل، ولا تتشعب به السبل، أو تلتوي به المسالك، وبذلك تخلو حياته عن العبث والفراغ. قال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ، فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ} 1. 2- صياغة المجتمع: تنطلق صياغة المنهج الإسلامي للمجتمع من حيث المبادئ والغايات، والروابط والأخلاق، والمثل والتشريعات، من حقيقتين أصيلتين راسختين، تنبثق عنهما وتتحرك بهما، وتتأثر بإيحائهما، وتستنير بهديهما كل المسائل والقضايا المتصلة بالمجتمع على أي مستوى كان، وفي أي زمان ومكان، بحيث لا تقوم مشكلة إلا وتجد الحل الناجع الحاسم، ولا ينشب خلاف إلا وينتهي بالوفاق والوئام، وتسود الطمأنينة ويعم الرخاء وينتشر السلام. قال تعالى: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ، فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} 2.

_ 1 المؤمنون: "115-116". 2 سورة ص: "71-72".

ويقول الرسول -صلى الله عليه وسلم: "أيها الناس: إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم، وآدم من تراب، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، وليس لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أبيض، ولا لأبيض على أحمر فضل إلا بالتقوى" 1. واتحدت مع طبيعة الأصل والنشأة تلك الفطرة التي فطرها الله عليها، وتلك الاستعدادات التي أودعها الله فيهم، فهم من حيث علاقتهم بها في هذه الحياة من متع وزينة، إنما يصدرون عن حب لها وتطلع إليها. قال تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} 2. {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} 3. وهاتان الحقيقتان هما: أ- وحدة الأصل: فالبشر جميعًا ينتسبون إلى أب واحد وأمٍّ واحدة، وإذا اختلفوا جنسًا ولونًا ووطنًا، فلا ينبغي أن يكون اختلافهم الذي

_ 1 متفق عليه. 2 آل عمران: "14". 3 الشمس: "7-10".

اقتضته حكمة الله -عز وجل- لعمارة الأرض بهم، عائقًا عن مشاركتهم الإيجابية في هذه الوظيفة الإنسانية، التي يفرض أداؤها على الوجه الصحيح، التعارف فيما بينهم، والتعاون الخيِّر البنَّاء، وهذا هو المعنى الإنساني الأصيل الذي يقرره منهج الإسلام، وتغذية توجيهاته وقواعده وأحكامه. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} 1. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} 2. وإذا كان الناس قد خلقوا -كما يقرر منهج الإسلام- من نفس واحدة، فإن الوحدة الإنسانية فيما بينهم، متحققة أتم تحقق في خصائصهم الإنسانية، التي أودعها الله فيهم، فهم لا يختلفون من حيث أصل النشأة، فقد خلقهم الله من التراب فاتحدت بذلك طبيعتهم.. ومن شأن وحدة الطبيعة فيهم، أن توجه طاقاتهم لما يحقق النفع والخير لهم. ب- وحدة العقيدة: ومحور هذه الحقيقة هو تلك الصلة التي تجعل البشر جميعًا عبادًا لله -عز وجل- وعقيدة التوحيد هذه تؤكد أن رسل الله -عز

_ 1 النساء: "1". 2 الحجرات: "13".

وجل- قد جاءوا جميعًا بذلك الدين الواحد وهو "الإسلام": {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلام} 1. {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} 2. فهذا هو أساس العقيدة الذي لا يتبدل، أما التشريع الذي ينظم حياة الجماعة فهو الذي يتطور في الرسالات الإلهية على أيدي الرسل، تبعًا لمصلحة البشرية ودرجة نموها وتطور إدراكها، حتى إذا جاء الإسلام في صورته النهائية التي جاء عليها في رسالة محمد -صلى الله عليه وسلم- كان قد احتضن الفكرة الأساسية في دين الله الواحد، واستقى الصالح من المبادئ والتشريعات والنظم في الرسالات السابقة، وأكمل الناقص منها وأتمَّهُ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} 3. وتؤكد الآيات الكريمة في كتاب الله -عز وجل- وحدة العقيدة هذه؛ ببيان أن كل دين كان هو الإسلام في صورة من صوره الموحدة الأصل، وتكشف لنا عن الطبيعة العالمية للإسلام باحتضانه كافة العقائد السماوية قبله، واحترامها واحترام أنبيائها وأتباعها، ومودته للمؤمنين منهم، وسماحته بحرية العبادة حتى إن لم يؤمنوا به، ما لم يقاوموه ويحادوه. في سورة الأعراف ترد قصص نوح وهود وصالح متجاورة، فيرد

_ 1 آل عمران: "19". 2 آل عمران: "85". 3 المائدة: "3" وانظر: "نحو مجتمع إسلامي" تأليف: سيد قطب ص110.

فيها نص واحد على لسان هؤلاء الأنبياء في دعوتهم إلى أقوامهم منذ أقدم الرسالات: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} 1. {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} 2. {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} 3. وفي سورة البقرة دعا على لسان إبراهيم وإسماعيل في أثناء قيامهما ببناء البيت الحرام يقولان فيه: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} 4. وحكاية كذلك عن إبراهيم ويعقوب والأسباط: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ، إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ، وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ

_ 1 الأعراف: "59". 2 الأعراف: "65". 3 الأعراف: "73". 4 البقرة: "128".

مُسْلِمُونَ، أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} 1. وهكذا يتضح أن الرسل جمعيًا جاءوا برسالة واحدة هي عبادة الله وحده بلا شريك، وهي الإسلام في معناه العام، وعلى أساس هذا كان إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط مسلمين. وتبعًا لهذه الحقيقة الكلية يؤمن المسلمون بالرسل جميعًا، ولا يفرقون بينهم، ولا يكرهون دياناتهم، ولا أتباع هذه الديانات، وكل ما يطلبونه منهم أن يؤمنوا هم كذلك بما جاء به محمد -صلى الله عليه وسلم- مصدقًا لما بين أيديهم، فإن لم يستجيبوا، فهم وما يشاءون، وليدعوا المسلمين آمنين يبلغون دعوتهم للعالمين. والإسلام تبعًا لفكرته عن هذه الديانات المختلفة، وتمشيًا مع نزعته العالمية، لا يبت الصلة بينه وبين من لا يؤمنون به ما داموا لا يحاربونه، ولا يمنعون دعوته أن تبلغ الناس، ولا يفسدون في الأرض ولا يعتدون على الضعفاء، بل يفسح للداخلين في سلطانه مجال الحياة كاملاً، ويفسح لمن لا سلطان عليهم مجال التعاون العالمي في الخير والصلاح2. وبهذا يتبيَّن أن المجتمع الذي يصوغه الإسلام، هو المجتمع الذي يقوم على وحدة الأصل ووحدة العقيدة، وما ينبثق من هذه الوحدة من المبادئ السامية والغايات النبيلة، والأخلاق الفاضلة، والضوابط المحكمة، والروابط الوثيقة، التي تجعل من هذا المجتمع الإنساني الكبير

_ 1 البقرة: "130-133". 2 انظر "نحو مجتمع إسلامي" تأليف: سيد قطب. ص111 وما بعدها.

النموذج الذي تتشكل على صورته الفذة الوحدات الاجتماعية الأخرى التي يقتضي العمران البشري قيامها، ضمن حدود مكانية وزمانية معينة، فإذا ما قدمت هذه المجتمعات على جوهر هاتين الحقيقتين، لم تكن الأوضاع الخاصة والأشكال التي تقتضيها الاعتبارات الجغرافية أو السكانية أو الاقتصادية أو غير ذلك من الاعتبارات، عاملاً من عوامل الفرقة والخلاف، بل دعمًا للحقيقتين الأصيلتين وإغناءً لهما، وتطبيقًا لما تقرر أنه من المعاني الإنسانية التي يتحقق بها للبشر الخير والعدل والسلام. 3- التوازن بين الفرد والمجتمع: أ- حين تتم الصياغة للفرد والمجتمع على أساس من حقائق المنهج الإسلامي، الذي لا يقيم أي وزن للنعرات الجنسية، أو العصبيات العنصرية، أو الفروق اللونية، أو الامتيازات الطبقية؛ فإن من الطبيعي أن تنعدم في كيان هذا المجتمع وروحه، آفات التصادم والتنافر بين النزعتين الفردية والجماعية، وبذلك يقوم المجتمع على أسس التوازن الكامل بين مطالب الفرد وحق الجماعة، في جو عامر بالأخوة والود، والحرية والعدالة، والمساواة في الحقوق والواجبات. ب- وإن مما يؤكد هذا التوازن قيامه على وعي المسلم بحق الجماعة، وشعوره بواجب التعاون معها، وتنديده بالنزعات الانعزالية التي تنمي الأثرة والفردية، وتنكمش عن التعاون الاجتماعي، ويعد الإسلام الحافز الاجتماعي لدى الفرد، الذي يحمل على نفع الناس والتعاون معهم، مقياس القرب من الله -عز وجل. قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم:

"الخلق كلهم عيال الله فأَحَبّهُمْ إلى الله أنفعهم لعياله"1. ويعد الإسلام كل عمل اجتماعي نافع عبادة من أفضل العبادات ما دام قصد فاعله الخير لا تصيد الثناء، واكتساب السمعة الزائفة عند الناس. كل عمل يمسح به الإنسان دمعة محزون، أو يخفف به كربة مكروب، أو يضمد به جراح منكوب، أو يسد به رمق محروم، أو يشد به أزر مظلوم، أو يقيل به عثرة مغلوب، أو يقضي به دين غارم مثقل، أو يأخذ بيد فقير متعفف ذي عيال، أو يهدي حائرًا، أو يعلم جاهلاً، أو يؤوي غريبًا، أو يدفع شرًا عن مخلوق، أو أذى عن طريق، أو يسوق نفعًا إلى ذي كبد رطبة، فهو عبادة وقربة إلى الله إذا صحت فيه النية. بمثل هذه الروح يستحث الإسلام كل مسلم -وإن يكن محدود الاستطاعة- أن يؤدي هذه العبادة أو "الضريبة الاجتماعية".. وفي هذه الدائرة الرحبة من أعمال البر العامة التي تشمل الإنسان وغير الإنسان يجد المهتمون بالعبادة، الراغبون في الإكثار منها، والمهتمون بخدمة المجتمع والإحسان إلى الخلق أيضًا ما يشبع نهمهم ويتجاوب مع أشواقهم، بدل أن يحصروا في عبادات "الصوامع" وحدها، وينقطعوا عن ركب الحياة2. ج- وإذا كان الدين الحق هو الذي ينمي في الإنسان روح الشعور بحق الجماعة، والحضارة الخالدة هي التي تحمل أبناءها على الشعور بشعور الجماعة، والأمم الراقية هي التي تغلب الروح الجماعية كل نزعة فردية وانعزالية في أبنائها.. فإن من الحق أن نقرر أن الإسلام يحتل مكان الصدارة بين الديانات التي تدعو إلى التعاون، وتحارب العزلة والانكماش

_ 1 رواه البزار. 2 انظر تفصيل ذلك ونماذج من النصوص الدالة عليه في كتاب "العبادة في الإسلام" تأليف: يوسف القرضاوي. ص56-61.

وتقوي صلة الفرد بالمحيط الذي يعيش فيه عن طريق العبادة والتربية والتشريع1. "ومع كل هذا فقد بدا لبعض المستشرقين أن يصوروا المسلم على أنه ذو نزعة فردية لا تقاوم، لم يعرف معنى رباط التضامن في يوم من الأيام"2 وإن الدين الإسلامي -كما يقول أحد المستشرقين- يحترم النزعة الفردية ويقدسها، ولا يعرف معنى اندماج النفوس وتلاشيها في تنظيم كبير: "فليست الأعمال الجماعية مثل صلاة الجمعة، ووَقْفَة عرفات، وصلاة الأعياد، إلا أعمالاً فردية يؤديها المؤمنون في وقت واحد ومكان واحد، دون أن تتخذ طابع الاحتفالات الموجهة أو المنظمة وفق تنسيق خاص"3. وسوف يلاحظ أي إنسان يحضر صلاة الجماعة للمسلمين، أن هذا القول لا أساس له من الصحة، وسوف لا يرى المؤمنين مبعثرين في غير نظام، يصلي كل واحد من أجل نفسه، أو يحضر كمشاهد، بينما إمامهم يؤدي وحده جوهر الفريضة الدينية؛ وإنما سوف يرى المؤمنين مصطفِّين في نظام جميل، متلاصقين كتفًا إلى كتف، الغني بجانب الفقير، والرئيس بجوار مرءوسه في وضع واحد، واتجاه واحد، ودعاء واحد، كل منهم يدعو للجميع: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} . إنهم جميعًا يطلبون النجاة والفلاح، ليس فقط لمجموعة المصلين، وإنما لجميع عباد الله الصالحين أينما كانوا: "السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين"4.

_ 1 انظر كتاب "أخلاقنا الاجتماعية" للدكتور مصطفى السباعي. ص41. 2 انظر "أخلاق وعادات المسلمين" تأليف جوتييه ص216. 3 انظر "الإسلام" في مجموعة "التاريخ والمؤرخون" تأليف: دودفروا ديمومبين ص739. 4 انظر "مدخل إلى القرآن الكريم" تأليف: الدكتور محمد عبد الله دراز ص110.

د- ويرى بعض المستشرقين -من المنصفين- عكس ما يراه غيرهم من المتعصبين.. بل لقد ألحت فكرة موقف الإسلام من الجماعة، وصياغتها على العقيدة والعوامل الروحية. وفكرة الوحدة.. على واحد من هؤلاء المستشرقين وهو "مونتغمري وات" -عميد قسم الدراسات العربية بجامعة "أدنبرة"- فأصدر كتابًا سماه: "الإسلام والجماعة المتحدة" قال فيه: "إن فكرة الأمة -كما جاء بها الإسلام- هي الفكرة البديعة التي لم يسبق إليها، ولم تزل إلى هذا الزمن ينبوعًا لكل فيض من فيوض الإيمان يدفع بالمسلمين إلى "الوحدة" في "أمة" واحدة، تختفي فيها حواجز الأجناس واللغات وعصبيات النسب والسلالة. وقد تفرد الإسلام بخلق هذه الوحدة بين أتباعه، فاشتملت أمته على أقوام من العرب والفرس والهنود والصينيين والمغول والبربر والسود والبيض، على تباعد الأقطار، وتفاوت المصالح، ولم يخرج من حظيرة هذه الأمة أحد لينشق عليها، ويقطع الصلة بينها"1. هـ- ولقد غابت هذه الحقيقة عن الرأسمالية في الغرب والشيوعية في الشرق، فكان هذا التناقض والتنافر والصدام وهذه الحقيقة ليست أمرًا معقدًا غامضًا. ولكن تجاهلها والانحراف عنها لا بد أن ينتهي إلى التعقيد والغموض ويدفع إلى التخبط والاضطراب، وتلتوي السبل، وتتعرج المسالك، ولا تبلغ بسالكيها إلا إلى متاهات لا حدود لها، وضياع لا اهتداء معه. لقد انحرفت تلك الفلسفات عن هذه الحقيقة التي يقررها الإسلام -انطلاقًا من روح الفطرة الإنسانية- وتجاوزت تلك الفلسفات نهج

_ 1 انظر كتاب "ما يقال عن الإسلام" تأليف: عباس محمود العقاد ص183.

الفطرة السوية، ووقفت عند ظاهرة التعارض السطحي، وتحركت تفلسف التناقض وجنحت إلى طرفيه، فالتزمت إحداها طرف الفردية وفسرت الحياة والمجتمع من خلاله، وصاغت النظام بتأثير منه، والتزمت إحداها الطرف المقابل، وجاءت بتفسير للحياة ونظامٍ لها على النقيض من الآخر، واتسعت شقة الخلاف واحتدم الصراع. أما الإسلام -وهو دين الفطرة- فقد جاء يوفق بقدر ما في طاقة البشر بين النزعتين الأصيلتين: الفردية والجماعية، ويغذيهما معًا، ويجعلهما متساندتين بدلًا من أن تكونا متنازعتين. ولا يعد الإسلام تغذية إحدى النزعتين إساءة إلى الأخرى، أو إسقاطًا لها من الحساب، بل ينظر إليهما معًا. مقررًا حاجة الحياة إليهما بباعث الفطرة التي لا يمكن أن تستقيم بإحداهما دون الأخرى، ولذلك لا يكبت أيًّا منهما، ويلقي على الفرد والجماعة عددًا من المسئوليات والتبعات، لصياغة الفرد والجماعة على أساسٍ من التوازن الدقيق، والتعاون الوثيق1. قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} 2. ويرى الإسلام أن التعاون في المجتمع إنما يقوم على الاختيار بدلًا من الإلزام، وهو ليس قاصرًا على جانب واحد، ولكنه متعدد الجوانب، ويتحقق فيه التوازن والتعادل بين الغنى والفقر، بمعنى انعدام الفجوات القائمة على الشحناء والبغضاء، والحقد والكراهية بين الغني والفقير، ولم تستطع النظم المادية التي تقوم على النزعة الجماعية، وسحق الروح الفردية -بالسطوة والقوة والإلزام- أن تنزع البغضاء والكراهية

_ 1 انظر "المسألة الاجتماعية" للمؤلف ص182 وما بعدها 2 المائدة: "2".

من نفوس الأفراد لتحقيق الروح التعاونية المنتجة في المجتمع، بل إنها -على العكس من ذلك- دمَّرت هذه الروح وقضت عليها؛ حين أقامت العلاقات الاجتماعية، بالتربية السيئة والقهر القانوني على قاعدة الحقد والكراهية والبغضاء، فلم ينعدم التعاون في تلك المجتمعات فحسب، بل اعتبرته تلك الأنظمة آفة من آفات المجتمع؛ لأنه ينبثق من الضمير الذي لم يبلغ الدرجة المطلوبة من الوعي والنضج، وهي تعني بذلك أن يظل الضمير الإنساني مشحونًا بالمقت والحقد ضد الروح الإنسانية، ومحبة الإنسان لأخيه الإنسان، حتى يُعَدَّ لديها واعيًا ناضجًا. ومن هنا يبدو الفرق بين نظرة الإسلام المرتكزة على تربية الضمير بالإيمان والخير والحب والإحسان والتعاون، وبين نظرة هذه النظم المرتكزة على تغذية هذا الضمير بالشر والكراهية، ومقت الإحسان والتعاون.. "وشتان بين إنسان له مستوى الإنسانية في السلوك والتصرف وإنسان آخر يؤمن بقوة العلم، ولا يؤمن بقوة الخلق. يؤمن بقيمة التطور في الصناعة، ولكنه يكفر بهدف الخير ومصلحة المجتمع الإنساني كله"1. 4- العقيدة والنظام الاجتماعي: - إن أي تعايش بين مجموعة من الناس، لا يمكن أن يكون صحيحًا وسليمًا ومنتجًا، إلا إذا قام على ضرب من التوافق بين أفراد هذه المجموعة على دعم الخير وهدم الشر، وإشاعة الحق وإزهاق الباطل، وتقوية كل ما يصلح وينفع، ومقاومة كل ما يفسد ويضر.

_ 1 الدكتور محمد البهي: "الإسلام في الواقع الأيديولوجي المعاصر" ص42.

ولكن هل يكفي أن يتحول هذا التوافق إلى عرف عام، ينتقل بعد ذلك إلى قانون له صفة الإلزام؟ إن الحقيقة أن هذا التوافق -وهو فكر وخلق بحكم طبيعته وهدفه- لا يمكن أن يُعَوَّلَ عليه ويُطمأن إليه، إذا لم يكن مشتقًّا من عقيدة تطبع الجماعة بطابعها، وتصبغها بصبغتها، ولن تبلغ النظم المنبثقة من هذا التوافق الاجتماعي هدف الإلزام الذي لا مناص منه، إذا لم يقم على أساس من الفطرة التي تحب الخير وتكره الشر، وتقبل على الحق وتنأى عن الباطل، وتتفاعل مع مقتضيات الاستقامة، وتتجافى عن جواذب الانحراف، ثم لا بد مع هذا من قيام هذا التوافق على مبدأ الثواب والعقاب، والمسئولية والجزاء، حتى تكون قيم الجماعة مصونة من أن ينالها الضعف أو الفساد، وحتى يكون كيان الجماعة نفسها آمنًا قويًّا سليمًا. ب- وعلى هذا فالعقيدة إذن: هي التي تصون القيم الإنسانية، وتهذب ضمير الفرد، وتقوي فطرته الطبيعية، كما تحتفظ للجماعة قوتها وسلامتها ووحدتها، لأنها "منتهى ما تصل إليه الجماعة لحفظ كيانها، وتحقيق أهدافها الفطرية في قيام حياة اجتماعية، منتطمة متحركة ودائمة، وما دامت العقيدة فإن الجماعة تدوم، فإذا زالت فإن تلك الجماعة تنحل وينقرض وجودها"1. إن أي مجتمع من المجتمعات البشرية لا بد أن يرتكز توافق أفرادها على عقيدة ربانية، توحد أفكارهم ومفاهيمهم ومشاعرهم، وتضبط بها تصرفاتهم وأوضاعهم وسلوكهم، حتى يصح أن يوصف هذا المجتمع بالصلاح والتماسك والثبات والاستقرار. ومن هنا فقد جاء الإسلام

_ 1 علال الفاسي: "دفاع عن الشريعة" ص56.

يبين لنا "أن أساس المجتمع الفاضل عقيدة صالحة، ترفع عن العقول لوثة الوثنية، وانحراف التفكير، وضلال العبادة، وتطهر المجتمع من الزيغ وعبادة الأصنام، وتدعو إلى عبادة الله الواحد الأحد، المستحق للعبادة، والمتفرد بها، وأنه هو الخالق القادر، ليس له كفء ولا مثيل، ولم يلد ولم يولد، وهو الهادي إلى سواء السبيل"1. قال تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} 2. إن هذه العقيدة التي تقرر بأن الدين هو موجة الحياة، وأن الحاكمية فيه لله رب العالمين؛ إذ إن معنى الألوهية لله أن تكون الحاكمية له، فلا أحبار ولا رهبان، يشرعون للناس ما لم يأذن به الله، ولا سيادة للشعب، وإنما هي لله سبحانه وتعالى، والشعب له السلطان في اختيار من ينفذ شرع الله، ولا طبقة تَحْكُم وطبقة تُحْكَم، ولا شخصيات مقدسة فوق القانون، ولا محاكم تختص بطبقة من الحكام دون آخرين، ولا تشريعات تفرق بين جنس وجنس، ولون ولون. والقادة والأحزاب والحكام والشعوب، كلها تخضع للنظام الذي أنزله الله سبحانه وتعالى. ولا يعني هذا تحجر النظم والتشريعات، ولا تقييد البشرية والتضييق عليها، وإنما يعني هذا أن يكون الأساس الذي يقوم عليه التشريع، والأرضية التي ينبثق عنها الحكم، أرضية ثابتة لا تضل، هي من عند الله الخبير العليم، الذي يعلم البشر واتجاهاتهم ودخائل نفوسهم، فوضع لهم الأسس التي تنظم حياتهم، وترك لهم

_ 1 محمد أبو زهرة: "المجتمع الإسلامي في ظل الإسلام" ص17. 2 سورة الإخلاص.

استنباط الأحاكم للفروع والجزئيات بما يحقق المصلحة والسعادة، ويضمن العدالة والطمأنينة1. ج- وإذا كان من مقومات المجتمع الأنظمة التي تنظم علاقات الأفراد، وتشمل الأنظمة التجارية والاقتصادية والمعاملات وأنظمة الأسرة والقضاء والوصايا والميراث والنفقات، وأنظمة الحكم والسياسة والعقوبات وغيرها. فإن هذه الأنظمة تستند -في مجتمع الإسلام- إلى دستور مستمد من كتاب الله تبارك وتعالى، فالقرآن الكريم هو أصل الدستور الذي يوضح القانون العام، وعنه تنبثق كل الأنظمة التي تكون هذا المقوم الأساسي للمجتمع، فتنظم علاقاته، وتسوي أموره، وترفع خصوماته2. إن المجتمع الإسلامي هو المجتمع الذي يطبق فيه الإسلام عقيدة وعبادة وشريعة ونظامًا، وخلقًا وسلوكًا؛ لأن آصرة التجمع الأساسية فيه هي العقيدة التي تقرر أن الحكم لله وحده لا شريك له. قال تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} 3. وحين تكون الحاكمية العليا في مجتمع لله وحده، متمثلة في سيادة الشريعة الإلهية؛ تكون هذه هي الصورة الوحيدة التي يتحرر فيها البشر تحررًا كاملاً وحقيقيًّا من العبودية للبشر، وتكون هذه هي "الحضارة الإنسانية"؛ لأن حضارة الإنسان تقتضي قاعدة أساسية من

_ 1 الدكتور عبد العزيز الخياط: "المجتمع المتكافل في الإسلام" ص14. 2 انظر المرجع السابق ص25. 3 يوسف: "40".

التحرر الحقيقي الكامل للإنسان، ومن الكرامة المطلقة لكل فرد في المجتمع، ولا حرية في الحقيقة، ولا كرامة للإنسان -ممثلاً في كل فرد من أفراده- في مجتمع بعض أربابه يشرعون، وبعضه عبيد يطيعون. والمجتمع الإسلامي هو وحده المجتمع الذي يهيمن عليه إله واحد، ويخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، والعبودية المطلقة لله وحده تتمثل في اتخاذ الله وحده إلهًا، عقيدةً وعبادةً وشريعةً؛ فلا يعتقد المسلم أن الألوهية تكون لأحد غير الله سبحانه، ولا يعتقد أن العبادة تكون لغيره من خلقه، ولا يعتقد أن الحاكمية تكون لأحدٍ من عباده1. وتتمثل حقيقة العبودية لله، واتباع شريعته، والإذعان بالحاكمية لله، بالإيمان الكامل -من ناحية أخرى- بأحقية ما شرعه الله تبارك وتعالى لتنظيم الحياة البشرية من أصول الاعتقاد، وأصول الحكم، وأصول الأخلاق، وأصول المعرفة، وكل تشريع ينظم أوضاع الناس السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها، وكل ما يتعلق بالقيم والموازين التي تسود المجتمع وتنميه وتقويه، وتدفع نشاط كل فرد فيه، لما يرضي الله -عز وجل.

_ 1 انظر: "معالم في الطريق" تأليف سيد قطب. ص105، 107، 108، 123.

روح المسئولية في الدولة والحكم

روح المسئولية في الدَّولة والحُكْم: 1- يضع الإسلام في شئون الدولة والحكم قواعد عامة تنمي شعور الارتباط الوثيق بالله -عز وجل- وتغرس روح التناصح والتآزر، والتعاون على البر والتقوى، والتكافل في المسئولية، باعتبار الحكم تعاقدًا بين الأمة وحاكمها، يتمثل في البيعة على كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- وصالح المؤمنين، وتؤكد هذه المسئولية العامة حين تلزم جميع الأفراد القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ورعاية حدود الله. "وقد عُنِي الإسلام فيما عُنِي بهاتين الخصلتين العظيمتين: إخلاص ولاة الأمور للأمة، وطاعة الأمة لولاة أمورها، فأوجب على الولاة أن يقيموا سياستهم على رعاية الحقوق والمصالح. قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ما من عبد يسترعيه الله رعية فلم يحطها بنصحه إلا لم يجد رائحة الجنة" 1. ثم التفت إلى الرعية فأمرهم بحسن الطاعة. ومن شواهد هذا قوله عليه الصلاة والسلام: "السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره ما لم يؤمر بمعصية فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة" 2.

_ 1 رواه البخاري. وعند مسلم: "ما من أمير يلي أمر المسلمين ثم لا يجهد لهم وينصح إلا لم يدخل معهم الجنة". 2 رواه البخاري ومسلم.

وفي هذا ما يؤكد "أن سعادة الأمة في أيدي رؤسائها، فإذا استقاموا على الطريق، وساسوها برفق وحرص على مصالحها وكرامتها؛ سارت بجانبهم مستقيمة، فلا تلبث أن تنجح في سيرتها، وتظفر ببغيتها"1. 2- وتنبثق مسئولية الدولة في المنهج الإسلامي، من وظيفتها الأساسية في إقامة الإسلام وتمكينه، والقضاء على الشرك والانحراف والفساد، وذلك بسياسة أمور الناس في حدود ما أنزل الله -عز وجل- من الهدى ودين الحق، ورعاية الخير والعدل، وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة حدود الله2. قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} 3. وقال تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} 4. 3- من جوهر هذه الأمور المسئولية الكبرى، وضع عدد من علماء المسلمين طائفة من الواجبات المنوط القيام بها بالحاكم المسلم؛ حتى يعرف حدود مسئوليته، ولا يقصر في أي واجب من هذه الواجبات.

_ 1 محمد الخضر حسين: "رسائل الإصلاح" ص115. 2 انظر "المال والحكم في الإسلام" تأليف: عبد القادر عودة ص95. 3 النور: "55". 4 الحج: "41".

وقد حدَّدَ "الماوردي" عشرة واجبات رأى أن الإمام ملزم بأدائها، وهي تنحصر في واجبين أساسيين هما: إقامة الإسلام، وإدارة شئون الدولة في حدود الإسلام: أما الواجبات فهي1: أحدها: حفظ الدين على الأصول التي أجمع عليها سلف الأمة، فإن زاغ ذو شبهة عنه بَيَّنَ له الحجة، وأوضح له الصواب، وأخذه بما يلزمه من الحقوق والحدود؛ ليكون الدين محروسًا من خلل، والأمة ممنوعة من الزلل. الثاني: تنفيذ الأحكام بين المتشاجرين، وقطع الخصام بينهم حتى تظهر النصفة، فلا يتعدى ظالم، ولا يضعف مظلوم. الثالث: حماية البيضة والذب عن الحوزة؛ ليتصرف الناس في المعايش، وينتشروا في الأسفار آمنين. الرابع: إقامة الحدود؛ لتصان محارم الله تعالى عن الانتهاك، وتحفظ حقوق عباده من إتلاف واستهلاك. الخامس: تحصين الثغور بالعدة المانعة، والقوة الدافعة، حتى لا يظفر الأعداء بغرة ينتهكون بها محرمًا، ويسفكون فيها دمًا لمسلم أو معاهد. السادس: جهاد من عاند الإسلام بعد الدعوة حتى يسلم أو يدخل في الذمة. السابع: جباية الفيء والصدقات على ما أوجبه الشرع نصًا واجتهادًا من غير عسف. الثامن: تقدير العطاء وما يستحق في بيت المال من غير سرف فيه ولا تقصير، ودفعه في وقت لا تقديم فيه ولا تأخير.

_ 1 الماوردي: "الأحكام السلطانية" ص15. وانظر: "معالم الثقافة الإسلامية": تأليف الدكتور عبد الكريم عثمان ص212. وانظر "الإسلام" تأليف: سعيد حوى ج2 ص161.

التاسع: استكفاء الأمناء، وتقليد النصحاء فيما يفوض إليهم من الأعمال، ويكله إليهم من الأموال؛ لتكون الأعمال مضبوطة، والأموال محفوظة. العاشر: أن يباشر بنفسه مشارفة الأمور وتفحص الأحوال؛ ليهتم بسياسة الأمة، وحراسة الملة، ولا يعول على التفويض تشاغلاً بلذة أو عبادة، فقد يخون الأمين، ويغش الناصح. وقال تعالى: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى} 1. فلم يقتصر سبحانه على التفويض دون المباشرة. وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم: "كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته". 4- إن للمسئولية مرحلتين أساسيتين2: الأولى: مرحلة المسئولية قبل القيام بالعمل، وهذه مسئولية تكليف ومطالبة، وهي بالنسبة لكل إنسان نوع من أنواع الكرامة التي أكرم الله بها هذا المخلوق، حين جعله خليفة في الأرض ومكَّنه من التصرف، وأعطاه في الحياة أنواعًا من السلطان والنفوذ، وهي بالنسبة لمن يلي من أمور الناس شيئًا مسئولية تتسع على قدر اتساع سلطة الإنسان، وامتداد قدرته، ولذا فمسئولية الحاكم أكبر من مسئولية المحكوم؛ لأن التكاليف المنوطة به أضخم، ومطالبته بالعمل على ما يحقق للناس مصالحهم أشد من حيث الخطط والمشروعات، وتوفير وسائل الحياة الطيبة الصالحة الكريمة لهم.

_ 1 سورة ص: "26". 2 انظر: "دراسات إسلامية في العلاقات الاجتماعية والدولية" للدكتور محمد عبد الله دراز ص63.

قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} 1. الثانية: مرحلة المسئولية بعد القيام بالعمل، وهذه مسئولية استجواب ومحاسبة، ولما كانت مسئولية الإنسان لا تتوجه عليه إلا في حدود حريته واختياره؛ فإن المسئولية هنا تتوجه على الحاكم في حدود ما كُلِّفَ به، وكانت له القدرة على التصرف فيه، وهي متناسبة مع مركزه في المجتمع، وسلطانه على الناس، ولذلك لا يقبل من الحاكم المسلم أن يزيل المنكر بقلبه ولسانه، بل إن عليه -بما أوتي من السلطة والنفوذ- أن يزيله بيده. ولذلك كانت مسئوليته في هذا الجانب أعلى درجة في سلم المسئولية لدى الناس جميعًا. 5- ويلقي الإسلام على كل إنسان تبعة أعماله الحسنة أو السيئة بصفته الفردية، بحيث لا يترك له أن يأمل أن أحدًا ما سينقذه من تبعة أعماله، أو يحمل عنه خطاياه وذنوبه، ولا يستطيع كذلك أن يسلم من وبال جرائمه، كما لا يحمل وزر جرائم غيره، إن كل شخص في الإسلام منفرد في احتماله العقاب؛ نتيجة لأعماله السيئة، وهو منفرد كذلك في فوزه بالثواب؛ نتيجة لأعماله الصالحة، فعلى كل شخص -وفي مقدمة ذلك ما يلي السلطة والحكم- أن يكون على شعور تام بتبعته الفردية في انتفاعه بالدنيا وتصرفه في شئونها، وعليه كذلك ألا يقضي حياته إلا على شعور تام بأنه هو المسئول عن كل عمل من أعماله.

_ 1 النساء: "58".

قال تعالى: {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} 1. {لَنْ تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} 2. {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} 3. 6- بعد هذا لا بد أن نجيب عن هذا السؤال وهو: إلى من سيكون تقديم الحساب؟ وهنا تختلف وجهة النظر الإسلامية عن غيرها من وجهة نظر المذاهب الفلسفية، وما يتصل بذلك من مناهجها في التربية؛ فبينا ترى بعض هذه المذاهب أن المسئولية هي مسئولية الإنسان أمام ضميره، ولذا فهي تبذل جهودها في تربية الضمير الفردي على ما تراه من نزعات أخلاقية، ترى المذاهب ذات النزعة الاجتماعية أن المسئولية هي أمام الأمة، وتعمل لتحقيق ذلك على تربية الشعور الاجتماعي. أما وجهة النظر الإسلامية: فإنها تقرر أن المسئولية هي أمام الله -عز وجل- وهي منوطة بالتكليف الرباني للإنسان بحمل الأمانة، وأدائها حق أدائها كما قال -عز وجل: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ

_ 1 الأنعام: "164". 2 الممتحنة: "3". 3 فاطر: "18" وانظر "الحضارة الإسلامية" تأليف أبي الأعلى المودودي ص33.

أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} 1. فالأمانة شاملة للقيام بجميع التكاليف والالتزامات التي تلازم الإنسان، باعتباره مؤهلاً بطبيعة ما أودع الله فيه من العقل والإرادة وجميع الخصائص الإنسانية لاحتمالها وأدائها، ولا بد إزاء هذا من أن يكون مسئولاً عن هذا الاحتمال والأداء أمام الله تبارك وتعالى، الذي جعله من بين سائر المخلوقات الكائن المكلف المسئول، فإذا كانت الأمانة تعني الاستقامة في شئون الحياة كلها، من عقيدة وأدب ومعاملة وتكافل وسياسة حكيمة وخلق حسن، ونصح ورعاية وصيانة لكرامات الناس وحرياتهم2، فإن مسئولية الحاكم بهذا مسئولية كبرى أمام الله تبارك وتعالى، فإن رعاها حق رعايتها كان وفيًّا أمينًا، وإلا كان ظالمًا لنفسه بما قَصَّرَ وفرَّط، ولا بد أن يسأل عن ذلك ويحاسب وينال جزاءه العادل. قال تعالى: {وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} 3. وقال: {ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} 4. ويشير بعض الباحثين5 إلى أن القرآن الكريم يضعنا -من حيث المسئولية- أما محكمة الضمير في قلوبنا، ومحكمة البشر من حولنا،

_ 1 الأحزاب: "72". 2 انظر: "أخلاقنا الاجتماعية" للدكتور مصطفى السباعي ص105 و"معالم الثقافة الإسلامية" للدكتور عبد الكريم عثمان ص158. 2 "آل عمران: 25". 3 "البقرة: 281". 5 الدكتور محمد عبد الله دراز في: "دراسات إسلامية في العلاقات الاجتماعية والدولية" ص67.

ومحكمة السماء من فوقنا، ولكل واحدة منها أمانة في أعناقنا.. وقد اشتق هذه الفكرة من تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} 1. فقد جمعت هذه الآية الكريمة في هذه الكلمات القليلة أنواع السلطات القضائية التي ستتولى محاسبتنا: {لا تَخُونُوا اللَّهَ} هذه هي المسئولية الدينية. و {الرَّسُولَ} هذه هي المسئولية أمام الناس {وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ} هذه هي المسئولية الأخلاقية أمام الضمير. وإليكم نصًّا قرآنيًا يؤكد هذا المعنى ويزيده تفصيلاً، ذلك هو قوله تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} 2. {فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ} : هذه هي المحكمة الإلهية. {وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} : هذه هي المحكمة الإنسانية. {فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} : هذه هي محكمة الضمير، نمر أمامها يوم القيامة قبل أن نعرض على المحكمة الإلهية: {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا، اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} 3.

_ 1 الأنفال: "27". 2 التوبة: "105". 3 الإسراء: "13-14".

ويختم الباحث فكرته بقوله: "فهذا هو أدق نظام وأحكمه، وأرقى تكوين وأكمله، وفي هذا صلاح البشرية في ظاهرها وباطنها، وفي سرها وعلانيتها"1. 7- وإذا رجعنا إلى ما روي من سبب نزول قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} 2، فإننا نرى أن بعض الروايات تشير إلى أنها أنزلت في أبي لبابة بن عبد المنذر، حين بعثه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى بني قريظة لينزلوا على حكم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاستشاروه في ذلك فأشار عليهم بذلك، وأشار بيده إلى حلقه أي إنه الذبح، ثم فطن أبو لبابة ورأى أنه قد خان الله ورسوله، فحلف لا يذوق ذواقًا حتى يموت، أو يتوب الله عليه، وانطلق إلى مسجد المدينة فربط نفسه في سارية منه، فمكث كذلك تسعة أيام حتى كان يخر مغشيًّا عليه من الجهد، حتى أنزل الله توبته على رسوله، فجاء الناس يبشرونه بتوبة الله عليه وأرادوا أن يحلوه من السارية، فحلف لا يحله منها إلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيده فحله، فقال: يا رسول الله: إني كنت نذرت أن أنخلع من مالي صدقة. فقال: "يجزيك الثلث أن تصدَّقَ به". وذكر ابن كثير3 آثارًا أخرى وعقب على ذلك بقوله: "والصحيح أن الآية عامة، وإن صح أنها وردت على سبب خاص فالأخذ بعموم اللفظ لا بخصوص السبب عند الجماهير من العلماء". ونقل عن السدي

_ 1 المرجع السابق ص68. 2 الأنفال: "27". 3 تفسير القرآن العظيم: ابن كثير الدمشقي ج3 ص300.

قوله:"إذا خانوا الله والرسول فقد خانوا أماناتهم". ومن هذا يفهم أن مَرَدَّ الأمر إلى مسئولية الإنسان أمام الله -عز جل- وخوفه منه وحده، ولم يكن صنيع أبي لبابة إلا بباعث من شعوره بهذه المسئولية الكبرى، وهو شعور جعله يحس بخطورة ذنبه. الذي لا خلاص منه إلا بتوبة الله عليه. فإذا خلا الإنسان عن هذا الإيمان الذي يدفعه إلى مراقبة الله -عز وجل- وخوفه منه، فلن يضعه على درب الاستقامة، شعوره بمسئوليته أمام ضميره أو أمام الأمة. ولذلك كان "الهتاف الأخير للأمة المؤمنة هو هتاف التقوى، فما تنهض القلوب بهذه الأمانات الثقال إلا وهي متصلة بالله ترقبه وتخشاه، وتتطلع إلى فضله ورضاه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} 1. هذا هو الزاد الذي تتقوى به القلوب في طريق الجهاد، وزاد التقوى الذي يحيي القلوب ويقويها، وزاد الهدى الذي يفرق بين الحق والباطل، وزاد المغفرة الذي يكفر الخطايا، وزاد الأمل في فضل الله العظيم. ذلك يوم تنفد الأزواد، ويوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم"1.

_ 1 الأنفال: "29". 2 سيد قطب: "في ظلال القرآن" ج9 ص95.

الروح الإنسانية في علاقات السلم والحرب

الروح الإنسانية في علاقات السلم والحرب عالمية الإسلام وإنسانيته: 1- يضع الإسلام بارتكازه على عقيدة التوحيد المتسقة مع الفطرة الإنسانية أسس الوحدة الإنسانية القائمة على الحق والعدل، باعتبار الدعوة الإسلامية دعوة للبشرية جمعاء تقيمهم على أساس الوحدانية في العقيدة والعبادة، والأخلاق الفاضلة في السلوك الفردي والجماعي، والعلاقات الإنسانية، فأما الفطرة -وقد أسلفنا الإشارة إليها كركيزة لهذه الثقافة- فهي جلية في قوله عز وجل: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} 1. {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ} 2. وحول دعوة الإسلام العامة التي لم تخصص بمكان أو زمان أو قوم، بل

_ 1 سورة الروم: "30". 2 البقرة: "138".

جاءت رسالةً موجهةً لخير بني الإنسان على اختلاف الأجناس والألوان، إرشادًا لهم إلى الخير، وتحذيرًا لهم من الشر، وتحقيقًا لخيري الدنيا والدين، يقول الله عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} 1. ويقول سبحانه: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خلا فِيهَا نَذِيرٌ} 2. 2- ويمكن إجمال الخصائص التي يجب أن يشتمل عليها الدين؛ ليكون عالميًّا وصالِحًا لكل زمان ومكان في ثلاث: أ- وفاؤه بحاجة الإنسانية جميعًا، فيما يصون وحدتها، ويرعى إنسانيتها، ويحمي أفرادها في العاجل والآجل. ب- تشريعاته التي تضمن قيام الإنسانية كلها في محيط واحد، لا تنزع معه إلى عصبية دم، أو اختلاف لون، أو فرقة جنس. ج- اتساقه مع حقائق الكون وخصائص الوجود، بحيث لا يتعارض مع ما يثبت من حقائق العلم، أو يختلف مع منطق الفكر. فهل تضمنت الدعوة الإسلامية كل ذلك أو قصرت عنه؟ الحق أن كل شيء في الإسلام ينهض بهذه الخصائص ويفي بها. عقيدته التي تؤمن أن الله واحد تحقق وحدة الإنسانية في القصد والسلوك، وهي ترى الله في سعيها، وتخشاه في سرها وعلنها، ولا شيء يصون السلوك

_ 1 سبأ: "28". 3 فاطر: "24".

ويحفظ السعي ويوقظ الضمير مثل معرفة الله {وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى} 1. وهي أيضًا تحصن الفرد من غوائل الهوى ودوافع الشهوة، فيسعى في الأرض يتفكر بخلق السماء، ويتطلع إلى السماء بجميل السعي في الأرض، وهي كذلك تقيم المساواة بين العباد جميعًا؛ فتجعلهم أمام الله سواء، يتفاضلون بالتقوى والعمل الصالح. فتنتفي مع هذه العقيدة عصبية الدم واللون والجنس، وتحيا عصبية الإخاء والإيمان والحب"2. وتفي بهذه الخصائص كذلك عباداته وآداب السلوك والأخلاق والمعاملة فيه؛ بحيث يتضح أن معجزة هذا الدين هي معجزة الحقائق القائمة، والأصول الثابتة، والآيات الباقية، معجزة التفاعل مع هذا الكون والتآخي معه، معجزة الفطرة في بساطتها، والسلوك في اعتداله، والسعي في استقامته، معجزة العدل مع العدو والصديق، والوفاء مع القريب والبعيد، والصدق في الشدة والرخاء، ومعرفة الله في السراء والضراء. وكلها حقائق قائمة ثابتة مع الزمان والمكان يستضيء بها الوجود الإنساني، ويرتبط معها كيانه، كما يستضيء الكون بضوء الشمس، وتنجذب إليها كواكبه ونجومه، حقائق يرحب بها العقل، ويشاركه في الترحيب بها القلب والوجدان.. أفلا تكون تلك هي الرحمة المهداة شريعة العالمين وهداية الرحمن؟ 3.

_ 1 النازعات: "19". 2 محمد الراوي: "الدعوة الإسلامية دعوة عالمية" ص46. 3 انظر: المرجع السابق ص47-50.

مبادئ الإسلام في العلاقات بين الناس

مبادئ الإسلام في العلاقات بين الناس: 1- من روح هذه القواعد وعلى أساس من هذه المبادئ؛ جاء الإسلام

بنظام لعلاقات الناس بعضهم ببعض في حالات السلم والحرب، وفي رأس القواعد في هذا النظام أن الأصل في صلات الدول والشعوب هو السلام، وأن الحرب وإن كانت إحدى الظواهر الطبيعية في حياة البشر؛ إلا أنه لا ينبغي اللجوء إليها في حل المشكلات وحسم المنازعات إلا بوصفها العلاج الحاسم الأخير، الذي تفرضه الضرورة حين تخفق كل الحلول الأخرى في مقاومة الطغيان، ورد العدوان، وإزاحة العقبات التي تحول دون استجابة الناس للهدى ودين الحق طواعيةً واختيارًا دون قسر أو إكراه. وإذا كانت العلاقات قبل الإسلام قائمة على العداوة والبغضاء، والخصومة والشر، وفقدان روح الفضيلة والأخلاق، وتحكيم نزعة القوة والبطش، وانعدام أي رعاية للحق والعدل والسلام؛ فإن الإسلام قد جاء بالمبادئ التي تضمن أسمى تشريع أخلاقي وإنساني في علاقات الدول بعضها ببعض، وهي مبادئ ترتكز على صياغة كرامة الإنسان وحريته، وعلى ضمان العدالة والمساواة له. ولما كانت الأمة الإسلامية هي الأمة التي تحمل مبادئ الحياة العليا. وتحمل أمانة توطيدها وإقرارها في العالم. فقد عنى الإسلام بتربية العنصر الأخلاقي والإنساني لدى كل فرد مسلم، فجاءت مبادئه -في الميدان الدولي- هدمًا لكل مظاهر الفساد والتجاوز على المثل الإنسانية العليا، سواء أكان ذلك فسادًا في العقيدة، أو كان ظلم شعب لآخر، أو استغلال طبقة لأخرى، أو تحكم أمة في أمة، فحيثما كان الفساد فإن الأمة الإسلامية ملزمة بمكافحته وإزالة قواه. وتوفير الحرية والعدالة والكرامة لكل إنسان. 2- ولقد وضع الإسلام للحياة قاعدة أساسية ترتكز على طمأنينة الإنسان واستقراره وتوفير السلام له "ولكن الإسلام مع هذا دين يواجه الواقع

ولا يفر منه، وما دامت في الدنيا نفوس لها أهواء ونوازع ومطامع، وما دام هناك هذا الناموس الذي يطبق على الأفراد والجماعات على السواء، ناموس تنازع البقاء، فلا بد إذن من الاشتباك والحرب، وحين تكون الحرب لردع المعتدي، وكف الظالم، ونصرة الحق، والانتصاف للمظلوم، تكون فضيلة من الفضائل، وتنتج الخير والبركة والسمو للناس، وحين تكون تحيزًا وفسادًا في الأرض، واعتداء على الضعفاء؛ تكون رذيلة اجتماعية، وتنتج السوء والشر والفساد في الناس. ومن هنا جاء الإسلام يقرر هذا الواقع ويصوره فيقول القرآن الكريم: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} 1. كما يقول في آية أخرى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ، الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} 2. وبذلك كانت أولى نظرات الإسلام إلى الحرب أنها ضرورة اجتماعية، أو شر لا بد منه إلا لما يرجى من ورائه من خير"3.

_ 1 البقرة: "251". 2 الحج: "40-41". 3 حسن البنا: "السلام في الإسلام" ص50. وانظر: "منهج القرآن في التربية" تأليف: محمد شديد ص202.

3- فإذا كان لا بد من وقوع الحرب؛ فإن الإسلام -وهو يحيطها بهذا الإطار الفريد- يوجب إعلانها وعدم أخذ الناس بها على حين غرة، تجنبًا للغدر والبدء بالعدوان، كما ينهى عن قتل الشيوخ والأطفال والنساء، ويحذر المحاربين من أي سلوك يقع فيه التجاوز على المبادئ الإنسانية والروح الأخلاقية وكرامة بني الإنسان. قال تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} 1. وقال عز وجل: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} 2. ولم يدع الإسلام الحرب تشتعل وتمتد؛ فتسيطر على النفوس والعقول، وتدفعها في تيارها اللاهب المدمر، وتقذفها في أتون الحقد والكراهية بغير وازع من رحمة، أو رادع من خلق، أو رعاية لحق الإنسان في الحياة، أو حفاظ على نفسه وماله وكرامته وحريته.. بل وضع للحرب أغراضًا لا يصح تجاوزها، وأخلاقًا لا يجوز التفريط بها، وقواعد وأحكامًا لا يقبل من المسلم أن يتعدى حدودها وإلا كان مسئولًا عن ذلك محاسبًا ومعاقبًا عليه.. وبذلك لم يدع الإنسان المحارب الذي يجاهد في سبيل الله لنزعات نفسه، وسلطان هواه، ولم يدع للحرب -بطبيعتها القاسية الضارية- أن توجهه وتتحكم فيه؛ بحيث يباح له في ظروف الحرب أن يظلم ويعتدى، وينفك عن الرحمة، وينخلع من

_ 1 البقرة: "190". 2 البقرة: "194".

الأخلاق.. بل جعل المسلم -في هذه الظروف الطارئة العارضة- الإنسان الذي يوجِّهُ الحرب ويصرف أوضاعها وفق مبادئه السامية، وأغراض الشريعة ومقاصدها، والهدف الكبير في إعلاء كلمة الله، وإقامة دينه في الأرض، وإزالة عوائق الطغيان، ورد غوائل العدوان.. وبذلك أقام الإسلام -بخوف الله عز وجل ومراقبته- في ضمير المجاهد. ذلك الحارس الأمين، الذي يوجه حركته ويضبط سلوكه في ميدان الحرب؛ بحيث يعرف متى يضرب ومتى يتوقف، وما هي الأهداف التي يرميها، والمواطن أو المواضع التي يتفادى المسَّ بها.

أغراض الحرب في الإسلام

أغراض الحرب في الإسلام: ويجعل الإسلام من أغراض الحرب1: 1- رد العدوان والدفاع عن النفس والأهل والمال والوطن والدين، وكانت أول آية من آيات القتال نزلت وفيها الإذن به قول الله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ، الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} 2. وقال عز وجل: {وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ} 3.

_ 1 انظر: "السلام في الإسلام" تأليف حسن البنا ص51. 2 الحج: "39-40". 3 النساء: "75".

وعن سعد بن زيد رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من قُتِلَ دون ماله فهو شهيد، ومن قُتِلَ دون دمه فهو شهيد، ومن قُتِلَ دون دينه فهو شهيد، ومن قُتِلَ دون أهله فهو شهيد" 1. 2- تأمين حرية الدين والاعتقاد للمؤمنين الذين يحاول الكافرون أن يفتنوهم عن دينهم. وفي ذلك يقول عز وجل: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ} 2. 3- حماية الدعوة حتى تبلغ إلى الناس جميعًا ويتحدد موقفهم منها تحديدًا واضحًا، وذلك أن الإسلام رسالة عامة شاملة تنطوي على أفضل مبادئ الحق والخير والعدل، فلا بد أن تزول من طريقها كل عقبة تمنع من إبلاغها، ولا بد أن يعرف موقف كل فرد وكل أمة بعد هذا البلاغ. وعلى ضوء هذا التحديد تكون معاملة الإسلام وأهله للناس، فالمؤمنون إخوانهم، والمعاهدون لهم عهدهم، وأهل الذمة يوفى لهم بذمتهم، والأعداء المحاربون ومن تُخْشَى خيانتهم يُنْبَذُ إليهم، فإن عدلوا عن خصومتهم فبها، وإلا حوربوا جزاء اعتدائهم، حتى لا يكونوا عقبة في طريق دعوة الحق، أو مصدر تهديد وخيانة لأهلها، لا إكراها لهم على قبول الدعوة، ولا محاولة لكسب إيمانهم بالقوة. قال تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} 3.

_ 1 رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه. 2 البقرة: "193". 3 الأنفال: "58".

وقال تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} 1. وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أمرت أن أُقَاتِلَ الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله" 2. 4- تأديب ناكثي العهد من المعاهدين، أو الفئة الباغية على جماعة المؤمنين، التي تتمرد على أمر الله، وتأبى حكم العدل والإصلاح. وفي ذلك يقول عز وجل: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ، أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} 3. ويقول تبارك وتعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى

_ 1 التوبة: "29". 2 رواه الشيخان. 3 التوبة: "12-13".

تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} 1. 5- إغاثة المظلومين من المؤمنين أينما كانوا، والانتصار لهم من الظالمين، وفي ذلك يقول الله عز وجل: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجَرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} 2.

_ 1 الحجرات: "9". 2 الأنفال: "72".

قواعد الإسلام في الحرب

قواعد الإسلام في الحرب: 1- إن الإسلام حين أباح الحرب وحدد أغراضها؛ قد ميز تمييزًا واضحًا بين المحاربين وغير المحاربين، فأمر بألا يقاتل إلا المقاتل، وهو الذي يحضر ميدان القتال، ويستخدم فيه قوته العداونية، كما كفل تشريعه إبعاد ويلات الحرب عن الضعفاء والآمنين، فجاء بالنهي عن قتل النساء والشيوخ والأطفال والمرضى والمعتوهين، وحظر قتال المزارعين في حرثهم، والرهبان في معابدهم، وحرص على حمايتهم من أي ضرر مادي أو نفسي، كما أوجب حصر العمليات الحربية في الأهداف العسكرية وحدها، وذلك بالنهي عن استعمال وسائل التدمير العامة على الأهداف الآمنة. ويستنكر الإسلام كذلك تلك العادة الهمجية التي يشيع استعمالها في

أثناء الحروب، ألا وهي: تعذيب الأعداء ومعاملتهم بالقسوة والخشونة. ثم إننا نجد تعاليم الرسول -صلى الله عليه وسلم- التي كان يوجهها إلى قواد حملاته الحربية زاخرة بنصائحه لهم على التزام النظام وحسن السلوك في قتالهم، ومن بين هذه النصائح: تحذيره المتكرر لهم من السلب والنهب، والقتل غدرًا، والتمثيل بجثث القتلى. 2- ولقد بلغت بالرسول -صلى الله عليه وسلم- دقة تطبيقه لحكم القرآن الذي يأمر بالعفو عن الأعداء متى انتَهَوا عن عدوانهم- أَنْ نَهَى عن تَعَقُّب من يفر منهم من الحرب، فما بالك بمن يلقي سلاحه، ويتقدم إلينا في صراحة بعبارات السلام؟ إن القرآن ليحرم علينا إيذاءه تحريمًا قاطعًا، حتى لو كان ذلك بحجة الشك في صدق إيمانه. قال تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} 1. تلك كلها أدلة ملموسة على أن الإسلام لا يرمي قط إلى القضاء على أعدائه، ولا إلى الاستيلاء عليهم بالقهر، ولكن إلى تَجَنُّب خطرهم. فمتى تحقق هذا الغرض لم يبق للصراع في نظره مبرر؛ لأن هدفه إيجاد العلاقات العامة مع الناس قاطبة2.

_ 1 النساء: "94". 2 انظر "دراسات إسلامية في العلاقات الاجتماعية والدولية" تأليف: الدكتور محمد عبد الله دراز ص143.

الإحسان والتسامح مع المخالفين

الإحسان والتسامح مع المخالفين: 1- يرسم الإسلام بالإشادة بفضل السلام، وطبع النفوس بروح التسامح والإحسان، وحسن معاملة المخالفين، المعالم الكبرى للسلام العالمي، ويضع القواعد وأوفى الضمانات لاستقراره، فهو يدعو إلى حسن الخلق ولين الجانب، والرحمة بالضعيف والتسامح مع القريب والبعيد، وعدم التشفي من المغلوبين، وإيثارهم بالصفح والبر وحسن المعاملة، ويعدُّ أن الأصل في العلائق بين البشر هو التعارف والتعاون، والتخلي عن نزعة العدوان والتجافي عن الظلم والطغيان. ولقد دَعَّمَ الإسلام هذه المبادئ ببث أفضل المشاعر الإنسانية في النفوس من حب الخير للناس جميعًا، والترغيب في الإيثار ولو مع الحاجة. قال تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 1. ويدعو إلى الإحسان في كل شيء حتى في القتل. قال تعالى: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين} 2.

_ 1 الحشر: "9". 2 البقرة: "195".

وقال: {إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} 1. وقال: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَان} 2. 2- ويقيم الإسلام العلاقة بين المسلمين وغيرهم ممن لم يقاتلوا في الدين أو يخرجوا من ديارهم على البر والعدل، والإحسان والتسامح. وفي ذلك يقول عز وجل: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ، إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} 3. "ولا ينفي معنى الترغيب والطلب في الآية أنها جاءت بلفظ {لا يَنْهَاكُمُ اللَّه} . فهذا التعبير قُصِد به نفي ما كان عالقًا بالأذهان -وما لا يزال- أن المخالف في الدين لا يستحق برًّا ولا قسطًا، ولا مودة ولا حسن عشرة. فَبَيَّن الله تعالى أنه لا ينهى المؤمنين عن ذلك مع كل المخالفين لهم، بل مع المحاربين لهم، العادين عليهم"4. 3- بل يرتفع الإسلام بالمسلم إلى ذُرْوَة الإنسانية وأكرم آفاقها حين يأمره بأن يعمل على توفير الأمن للمشرك الخائف، وحمايته وإيصاله إلى بلده ومأمنه. وفي ذلك يقول عز وجل:

_ 1 الكهف: "30". 2 النحل: "90". 3 الممتحنة: "8-9". 4 يوسف القرضاوي: "الحلال والحرام في الإسلام" ص326.

{وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} 1. وأخرج الحاكم "ج3 ص277" عن عبد الله بن عكرمة قال: لما كان يوم الفتح دخل الحارث بن هشام وعبد الله بن ربيعة على أم هانئ بنت أبي طالب -رضي الله عنها- فاستجارا بها فقالا: نحن في جوارك، فأجارتهما، فدخل عليها علي بن أبي طالب فنظر إليهما فشهر عليهما السيف، فتفلت عليهما واعتنقته وقالت: تصنع بي هذا من بين الناس، لَتَبْدَأَنَّ بي قبلهما. فقال: تجيرين المشركين! فخرج. قالت أم هانئ: فأتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقلت: يا رسول الله، ما لقيت من ابن أمي علي، ما كدت أفلت منه، أجرت حَمَوَين لي من المشركين، فانفلت عليهما ليقتلهما. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما كان ذلك له، قد أجرنا من أجرت وأَمَنَّا من أَمَنَّتْ" 2. "وثبت عنه أنه أجار أبا العاص لما أجارته ابنته زينب ثم قال: "يجير على المسلمين أدناهم" وفي حديث آخر: "يجير على المسلمين أدناهم ويرد عليهم أقصاهم" 3. 4- وانطلاقًا من نظرة الإسلام إلى أن العقيدة لا يمكن الإكراه عليها، بل لا بد فيها من الاقتناع والرضا، وأن الاختلاف في الدين لا يحول دون البر والصلة؛ فقد دعا إلى المجادلة بالحسنى وفي حدود الأدب والحجة والإقناع.. فقد أمر الله تبارك وتعالى رسوله محمدًا -صلى الله عليه وسلم- أن يجادل المشركين بالطريقة الحسنة التي تلين عريكتهم في قوله: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ

_ 1التوبة: "6". 2 محمد يوسف الكاندهلوي: "حياة الصحابة" ج1 ص269. 3 محمد بن عبد الوهاب: "مختصر زاد المعاد" ص104.

بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} 1. وأباح مناظرة أهل الكتاب بتلك الطريقة في قوله: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} 2. ومثل هذا من قبيل المناظرة التي تهدف إلى إظهار الحق وإقامة البرهان على صحته، وهي الطريقة التي يشتمل عليها جدل القرآن في هداية الكافرين وإلزام المعاندين"3. ونهى الإسلام عن البذاءة مع المخالفين، وعن سب عقائدهم ولو كانوا وثنيين. قال تعالى: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} 4. وقرر أن أماكن العبادة للديانات الإلهية محترمة يجب الدفاع عنها وحمايتها كحماية مساجد المسلمين. قال تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} 5. وبذلك أوجب الإسلام على الدولة أن تحمي أماكن عبادتهم، وألا تتدخل في عقائدهم، ولا تجور عليهم في حكم، وتسويهم بالمسلمين في الحقوق والواجبات العامة، وأن تصون كرامتهم وحياتهم ومستقبلهم، كما تصون كرامة المسلمين وحياتهم ومستقبلهم.

_ 1 النحل: "125". 2 العنكبوت: "46". 3 مناع القطان: "مباحث في علوم القرآن" ص255. 4 الأنعام: "108". 5 الحج: "40".

5- لا يعرف الإسلام -فيما يضع من قواعد المعاملة مع غير المسلمين- ما يسمى بالحقد الديني، وذلك أن القضية في اختلاف الدين -في ميزان الإسلام- إنما ترجع إلى أن هذا الاختلاف هو من سنن الله تبارك وتعالى في خلقه كما قال عز وجل: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ، إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} 1. ويقول سبحانه -مخاطبًا رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} 2. وعلى هذا فقد أدرك المسلمون أن القرآن الكريم يربيهم بذلك على التسامح وسعة المخالفين لهم والإحسان إليهم، وينهاهم عن أن يحملوا إى كراهية لهم أو حقد عليهم، أو أن ينالوهم بأي إساءة بسبب مخالفتهم لهم في الدين، ما دام مرد هذا الاختلاف إلى سنة الله عز وجل في خلقه. ومن هنا نرى الإسلام يصون حرية الاعتقاد، ويأبى أن يرغم المسلمون أحدًا على ترك دينه واعتناق الإسلام. وفي ذلك يقول عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} 3. وعلى هذا فإن الإسلام يأبى أن يُكْرِه الضمائر، ويعوق حرية العقيدة، بل إنه يقف في وجه من يعترض طريق هذه الحرية، ويعرض الناس للفتنة. وليس معنى ذلك أن هداية مخالفيه لا تهمه، فالحقيقة أنه يحرص على هذه الهداية، ولكنه يرى أن الطريق إليها؛ إنما يتم بالدعوة إلى

_ 1 هود: "118-119". 2 يوسف: "103". 3 يونس: "99".

الحق، ويتسم بالحكمة والإقناع وباللين1، ولذلك فلا موطن في نفوس المسلمين لما يسمى "الحقد الديني"؛ لأن المبدأ الذي يحدد العلاقة بين جماعة المسلمين وبين مخالفيهم هو الذي يطلق عليه -بصفة عامة- اسم "التسامح" وقد تكون هذه التسمية أقل من الحقيقة؛ إذ نلاحظ أن الشعوب التي لا تعتنق الإسلام، وإنما تخضع سلميًّا لتشريعه ودولته لا تتمتع بمبدأ "التسامح" فحسب، بل إن الإسلام يأخذ على عاتقه أن يوفر لها الحريات الكاملة على قدم المساواة مع المسلمين أنفسهم على قاعدة: "لهم ما لنا وعليهم ما علينا" ولا يطلب الإسلام من هؤلاء إلا أن يقفوا منه موقف المسالمة، وعدم صَدِّ الناس عن دين الله، أو الإساءة إلى المسلمين أو إلحاق الضرر والأذى بهم. وبهذا يتضح أن ما زعمه "جون سيمون" في كتابه "حرية الاعتقاد" من أن الحقد الديني لم يتوصل إلى تخفيفه إلا منذ قرن ونصف هو قول لا نصيب له من الصحة؛ لأن الإسلام -وقد جاء منذ أربعة عشر قرنًا- لا يعرف شيئًا من هذا الحقد الديني الذي يقول عنه "جون سيمون": "إن تاريخ العالم كله هو عبارة عن تاريخ الحقد الديني، وهذا الحقد الديني الذي هو أقدم من الحرية يتصاعد إلى أبعد عصور التاريخ"3. إن الإسلام يأبى أن يصبح الدين مفهومًا ضيقًا يتميز بالحقد والعداء، ويبعث على النزاع والشحناء، وينتهي إلى الفتن وسفك الدماء، ولهذا فإن التاريخ الإنساني لا يزال حتى يومنا هذا يقف موقف الإجلال والإكبار لأولئك الذين كانوا أمثلة فذة في التسامح والإحسان. والأمثلة على التسامح وانتفاء ما يسمى الحقد الديني لا حصر لها في تاريخنا، وإن كان هذا الحقد الديني أبرز ظاهرة في تاريخ أوروبا على

_ 1 انظر: "مدخل إلى القرآن الكريم" تأليف: الدكتور محمد عبد الله دراز ص63. 2 انظر: "روح الدين الإسلامي" تأليف: عفيف عبد الفتاح طبارة ص280.

مر العصور حتى يومنا هذا. وحسبنا أن نذكر هنا كيف أن عمر بن الخطاب أعطى أهل بيت المقدس أمانًا على معابدهم وكنائسهم وعقائهم وأموالهم، كما أن السلطان محمد الفاتح أعطى -حين دخل القسطنطينية فاتحًا- لبطريرك المدينة السلطان الداخلي على رعيته من النصارى؛ بحيث لا تتدخل الدولة في عقائدهم ولا في عباداتهم. ويروي التاريخ أن شيخ الإسلام ابن تيمية طلب إلى أمير التتار إطلاق سراح الأسرى، فأجابه الأمير التتاري إلى إطلاق سراح أسرى المسلمين وحدهم دون المسيحيين واليهود فأبى شيخ الإسلام -رحمه الله- ذلك وقال: "لا بد من إطلاق سراح أسرى الذميين من أهل الكتاب، فإنهم أهل ذمتنا، لهم ذمة الله ورسوله. فأطلق الأمير سراحهم جميعًا1.

_ 1 انظر: "أخلاقنا الاجتماعية" تأليف: الدكتور مصطفى السباعي ص91 -100.

الوفاء بالعهود والمواثيق

الوَفَاء بالعُهُودِ والمواثيق: 1- وكما وضع الإسلام للحرب أسمى القواعد العادلة والموازين الإنسانية الفريدة، فقد وضع في حالة السلم نظامًا للعلاقات التي تضمن رعاية السلم العام، وتتيح للناس جميعًا أن يحيوا في حرية وأمن واطمئنان، ومن أبرز قواعد النظام الإسلامي في هذا: الوفاء بالعهود والمواثيق، ويحرص الإسلام في هذا على الالتزام الكامل بها والإخلاص فيها، وحسن النية في رعايتها، ويحذر من نقض العهد بأي صورة من الصور؛ ذلك أن الميثاق الذي يعقده المسلم لا يرتبط به أمام الناس فحسب، بل إنه ينعقد في الوقت نفسه بينه وبين الله تعالى؛ إذ يجعل المسلم ربه شهيدًا وكفيلاً على عقوده والتزاماته، فهو أمر متغلغل في النفوس، متصل أوثق اتصال بعقد الإيمان؛ بحيث لا يبقى لقوة في الأرض أن تحلله منه سواء في ذلك دوافع المنفعة، أو طلب النفوذ، أو زيادة الرخاء، أو المجال الحيوي، أو التوسع الاقتصادي، أو التوازن السياسي أو غير ذلك1. قال تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ

_ 1 انظر: "المرجع السابق" ص147.

تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ، وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} 1. 2- ولقد جعل القرآن الكريم الخروج من فضيلة الوفاء كالخروج من فضيلة الإنسانية كلها حيث قال جل شأنه: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ، الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ، فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ، وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} 2. وقد أوجب القرآن الكريم على المسلمين الوفاء بعهودهم، وذكر أن هذا الوفاء من صفات المؤمنين. فقال عز وجل في ذلك: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} 3. {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا} 4. وارتفع بالوفاء بالعهود والمواثيق إلى ذروة ليس للبشرية بها عهد، ولم

_ 1 النحل: "91-92". 2 الأنفال: "55-58". 3 الإسراء: "34". 4 البقرة: "77".

يُبِحْ نقضها مهما كان السبب، حتى ولو كان لنصرة قوم مسلمين، وفي ذلك يقول -عز وجل: {وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} 1. وقد أوجب القرآن الكريم إتمام العهود لأصحابها الذين استقاموا على عهودهم، ولم يكن غَدْرُ فريق منهم -كما حصل من المشركين غير مرة- سببًا لسقوط العهد للمستقيمين منهم عليه. وفي ذلك يقول -عز وجل: {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} 2.

_ 1 الأنفال: "72". 2 التوبة: "7".

نماذج من الوفاء بالعهود

نماذج من الوفاء بالعهود: وليس يتجلى حرص المسلمين على الوفاء بعهودهم، كما يتجلى في تلك الوقائع التي كان فيها الوفاء بالعهد شاقًّا على النفوس؛ لتجافيه مع عواطفهم القلبية ومشاعرهم الوجدانية، ولكن المسألة في هذا الأمر لا يستجاب فيها لنداء العاطفة، بل يلبي فيها نداء المبدأ الذي اتسمت به شرعة الإسلام، وهو الوفاء بالعهد، ولو تصادم مع ما ترغب فيه النفوس، وتميل إليه المشاعر. 1- قال ابن إسحاق -في ذكر ما جرى عليه أمر قوم من المستضعفين بعد صلح الحديبية:

"فلما قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة أتاه أبو بصير عتبة بن أُسِيد بن جارية، وكان ممن حُبِسَ بمكة، فلما قدم على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كتب فيه أزهر بن عبد عوف بن عبد بن الحارث بن زهرة، والأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب الثقفي إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبعثا رجلاً من بني عامر بن لؤي، ومعه مولى لهم، فقدما على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بكتاب الأزهر والأخنس فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "يا أبا بصير، إنا قد أعطينا هؤلاء القوم ما قد علمتَ، ولا يصلح لنا في ديننا الغدر، وإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجًا ومخرجًا، فانطلق إلى قومك". فقال أبو بصير: يا سول الله، أتردني إلى المشركين يفتنوني في ديني؟ قال: "يا أبا بصير، انطلق فإن الله تعالى سيجعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجًا ومخرجًا" 1. 2- وقد غدر بعض المشركين بصلح الحديبية -وهو المقصود بالعهد عند المسجد الحرام في قول الله عز وجل: {إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ} 2. فلم يبطل النبي -صلى الله عليه وسلم- عهد سائرهم، ولم يقبل عنده قرشيًّا يجيئه في أثناء قيام العهد عملاً بما اتفق عليه المسلمون والمشركون. وفي ذلك يقول أبو رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بعثتني قريش إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فلما رأيت النبي وقع في قلبي الإسلام، فقلت: يا رسول الله لا أرجع إليهم، قال: "إني لا أخيس بالعهد، ولا أحبس البرد، ولكن ارجع إليهم فإن كان في قلبك الذي فيه الآن فارجع". 3- بل روي في الوفاء بالعهد ما هو أكثر من ذلك؛ لأنه عهد آحادٍ في مثل

_ 1 السيرة النبوية: لابن هشام. ج3 ص337. 2 التوبة: "7".

حالة الإكراه. كما جاء في حديث حذيفة بن اليمان حيث قال: "ما منعني أن أشهد بدرًا إلا أنني خرجت أنا وأبي الحُسَيل، فأَخَذَنَا كفار قريش فقالوا: إنكم تريدون محمدًا؟ فقلنا: ما نريده، وما نريد إلا المدينة، فأخذوا منَّا عهد الله وميثاقه لننطلق إلى المدينة ولا نقاتل معه، فأتينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأخبرناه الخبر فقال: "انصرفا نفي لهم بعهدهم ونستعين الله عليهم" 1. 4- كان سهيل بن عمرو يفاوض النبي -صلى الله عليه وسلم- في صلح الحديبية -بينما كان يكتب عهد الهدنة وقبل توقيعه- جاءه أبو جندل بن سهيل يرسف في الأغلال، وقد فرَّ من الكفار، فلما رأى سهيل ابنه قام وأخذ بتلابيبه وقال: يا محمد لقد لجت القضية بيني وبينك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صدقت". فقال أبو جندل: يا معشر المسلمين أَأُرَدُّ إلى المشركين يفتنوني في ديني؟ فلم يغنِ عنه ذلك شيئًا، وردَّه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفقًا للشروط التي اتفق عليها، وإن كان بعدُ لم يوقعها. 5- ولما كان معاوية بن أبي سفيان في أرض الروم، وكان بينه وبينهم أمَدُ، أراد أن يدنو منهم، فإذا انقضى العهد غزاهم فقال له عمرو بن عنبسة: الله أكبر يا معاوية. وفاء لا غدر. لقد سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من كان بينه وبين قوم عهد؛ فلا يحلن عقدة ولا يشدها حتى ينقضي أمرها، أو ينبذ إليهم على سواء". فرجع معاوية بالجيش.

_ 1 انظر: "الفلسفة القرآنية" تأليف: عباس محمود العقاد ص93.

بين وفاء المسلمين وغدر أعدائهم

بين وفاء المسلمين وغدر أعدائهم: 1- في التاريخ الإسلامي وقائع لا تحصى من وفاء المسلمين بعهودهم، وهي صفحات فِخَار تشهد بحرص المسلمين على الوفاء بعهودهم؛ اتباعًا لأمر

_ 1 انظر: "الفلسفة القرآنية" تأليف: عباس محمود العقاد ص93.

ربهم وسنة نبيهم، وفيها دلالة على أن المسلمين كانوا أول من وضع هذه القاعدة الأخلاقية الرفيعة موضع التطبيق، ثقة منهم بأن الوفاء بالعهد في ذاته قوة، فوق أنه عدالة وفضيلة، وهو دعامة أساسية من دعائم السلام. إن العهد في ذاته قوة، والتزامه قوة؛ لأن يؤمن فيه جانب الاعتداء، وأمن الاعتداء يثبت دعائم السلام، والسلام تطمئن فيه الشعوب وتستقر، ولذلك شبه القرآن الكريم من ينقض عهده بحال الحمقاء التي تغزل غزلها، فتحكمه وتقويه، ثم بعد ذلك تنقضه أنكاثًا أي: أجزاء صغيرة متفرقة مشعثة، وذكر أن النكث فيه زَلَل للقدم بعد ثبوتها؛ إذ أنها تثبت بالسلم الذي أوجده العهد، وفي السلم قوة وثبات، والنقض إزالة للأمن وللثبات المستمر والاطمئنان الدائم1. وذلك حيث يقول الله عز وجل: {وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ} 2. ويختم الآيات بقوله: {وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} 3. فهنا يحتم الإسلام الوفاء بالعهد وعدم نقضه، ويحذر من الخديعة والدَّخَل في المواثيق، بغية أن تكون أمة هي أربى من أمة، فهذا العذر الذي يعتذر به الساسة وهو "مصلحة الدولة" لا يعترف به الإسلام، ولا يراه مبررًا

_ 1 انظر "الوحدة الإسلامية" تأليف: محمد زهرة ص320. 2 [النحل: 92] . 3 [النحل: 94] .

للخديعة والدخل في العهود، ولا في نقض المعاهدات والمواثيق، ولم تكن قواعد الإسلام مثلاً نظرية، بل كانت سلوكًا عمليًا في حياة المسلمين وصلاتهم الدولية1. 2- وهنا نتساءل في صدد الموازنة بين موقف الإسلام من هذه الفضيلة وبين موقف غيره، الذي اتسم بالغدر والخيانة ونقض العهود وهدر المواثيق: أين هذا كله مما فعله "ريتشارد قلب الأسد" الذي أمن حامية بيت المقدس من المسلمين على أنفسهم، وعاهدهم على أن يفي لهم بعهده شرط أن يفتحوا الأبواب ويسلموا أنفسهم.. ولما فعلوا ذلك قتلهم جميعًا، ثم أباح المدينة لجيوشه، فلبغ عدة من ذبحه الصليبيون من العجزة والنساء والأطفال سبعين ألفًا. ولكن صلاح الدين الأيوبي -وقد أشربت نفسه بتعاليم الإسلام- لما استعاد بيت المقدس من أيدي الصليبيين بعد 90 سنة من مجزرة الغدر والخيانة ونقض العهد؛ لم يعاملهم بالمثل؛ إذ أنه لما سلمت له الحامية المسيحية أمنهم على حياتهم، وكانوا أكثر من مئة ألف، وسمح لهم بالخروج لقاء مبلغ قليل يدفعه المقتدرون منهم، وأعطاهم مهلة للخروج أربعين يومًا، وأطلق كثيرًا من فقرائهم بغير فدية. وأدى أخوه الملك العادل الفدية عن ألفي رجل منهم، وحين أشير عليه أن يأخذ من البطريرك الصليبي ما حمله من أموال طائلة من البِيَعِ والصخرة والقيامة، رفض ذلك وقال: "لا أغدر به، وفاء بقدر خير من غدر بغدر" وأبى أن يقابل صنيع "ريتشارد" بمثله، بل آسى جرحاهم ومرضاهم وأرسل بالأدوية والأزواد إلى "ريتشارد" نفسه، وأرسل مع الذي أجلاهم عن بيت المقدس، ورحلوا للحاق بقومهم مَن يحميهم، ويوصلهم إلى أماكن الصليبيين في "صور" و "صيدا" بأمان2.

_ 1 انظر: "نحو مجتمع إسلامي" تأليف: سيد قطب ص125. 2 انظر: "من روائع حضارتنا" تأليف الدكتور مصطفى السباعي ص100. وانظر: "مقارنات بين الشريعة الإسلامية والقوانين الوضعية" تأليف: علي علي منصور ص60.

3- ولعل الوقائع التاريخية عن نقض الأوربيين لعهودهم عبر عصور كثيرة تكون خير رد على ما يرجف به أعداء الإسلام ضد مبادئه وتاريخه الفذ في هذا المضمار الناصع. "فالمعروف أن باباوات أوروبا ادعوا لأنفسهم خلال قرون طويلة حق إبرام الإيمان والعهود ونقضها. فالبابا أوريان السادس حرَّم كل الأحلاف والمعاهدات التي تعقد مع أمراء ملحدين. أو أمراء انفصلوا عن كنيسة روما، واعتبر ما عُقِدَ منها باطلاً. وأعفى الملوك والأمراء الموالين للكنيسة الكاثوليكية من هذه المعاهدات. والبابا بولس الثالث صرَّح بأن جميع المعاهدات التي تعقد في المستقبل مع الملحدين باطلة مهما كانت اليمين التي تؤيدها. والبابا جول الثاني أخلى فرديناند الكاثوليكي من معاهدته مع لويس الثاني عشر. ولقد هاجم "جون بدوان" خلال القرن السادس عشر النظرية التي أباحت للبابوات أن يحلوا الملوك والأمراء من اليمين التي توثقت بها المعاهدات"1.

_ 1 علي علي منصور: "مقارنات بين الشريعة الإسلامية والقوانين الوضعية" ص61.

الدعوة إلى الجهاد والإستشهاد

الدعوة إلى الجهاد والاستشهاد: 1- لا بُدَّ حتى يكون المسلم مسلمًا حقًّا أن يكون معنى انتمائه لهذا الدين وثيق الصلة محكم الأواصر بعقيدته الحقة، ومبادئه السامية وتشريعاته العادلة، وجهاده الدائب لإعلاء كلمة الله في الأرض، وإخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده لا شريك له.. كما قال "رِبْعِيُّ بن عامر"1 لرستم -قائد جيش الفرس- حين قال له هذا: ما جاء بكم؟ فقال ربعي: "إن الله ابتعثنا، والله جاء بنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه، فمن قبل ذلك منا قبلنا منه، ورجعنا عنه، وتركناه وأرضه يليها دوننا، ومن أبى قاتلناه أبدًا حتى نفضي إلى موعود الله. قال رستم: وما موعود الله؟ أجاب ربعي:

_ 1 انظر قصة ربعي في الطبري ج3 ص23. وانظر "حياة الصحابة" تأليف: محمد يوسف الكاندهلوي ج4 ص643.

"الجنة لمن مات على قتال من أبى، والظفر لمن بقي". 2- ولا بُدَّ -تثبيتًا لمعنى الانتماء الحق- من أن تكون صلات المؤمن وأواصره بعقيدته ممتدة في حياته كلها.. في واقعه الذي يعيشه، واتجاهاته التي يراها، ومواقفه التي يتخذها، وسبل الحياة التي يسلكها، فهي له المحور الذي لا ينفك عنه، والنبضُ الذي لا يتوقف فيه، بل يمده -فكرًا واعتقادًا وسلوكًا وعملاً- بالنور الهادي إلى سواء السبيل، فلا يضل وبين يديه نور الإيمان، ولا يزيغ ومعه زاد التقوى ولا تتفرق به السبل وأمامه صراط الله المستقيم، يسلك به دروب الرفعة والكرامة، ويبلغ به ذرى العزة والنصر، وكنف الرضى والنعيم، وملاك ذلك كله إنما هو في طاعة الله تبارك وتعالى، وطاعة رسوله -صلى الله عليه وسلم- والإقبال بصدق وجد، وعزيمة وإخلاص، على الالتزام بهذا الإسلام اعتقادًا وعملاً، وسلوكا واتجاها، دينًا ودنيا، وفكرًا ونظامًا، وسياسة راشدة، وعبادة خاشعة، وكفاحًا دائبًا، وجهادًا صادقًا، وتضحية وفداء، ففي هذا الالتزام بالإسلام، والتمسك بمبادئه، والتحلي بأخلاقه، وتحكيم نظامه، والانضواء تحت رايته، برهان جلي على سداد فكر المؤمن وسمو روحه، ويقظة ضميره، وتفتح بصيرته، وقوة عزيمته. 3- لقد جاء وحي الله تبارك وتعالى يهتف بالمؤمنين ليطيعوا الله ورسوله ولا يتولوا عنه وهم يسمعون آياته وكلماته، وجاء التحذير من التولي والإعراض مقترنًا بذكر شر الدواب التي فقدت السمع والنطق والعقل، وتلك صورة ينفر الإنسان من أن ينحدر إليها؛ بحيث يصبح في إعراضه عن الهدى، وتحجر عقله، وطمس قلبه، مثل هذه الدواب التي لا تعي ولا تسمع، ولذلك فقد كان اقتران الدعوة للطاعة، والتحذير من التولي، بهذا المثل الحي، في ذروة العظة والتذكير والتأثير، وفي ذلك يقول سبحانه:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ، وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ، إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ، وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} 1. ويتكرر في سياق الآيات الكريمة بعد أمر المؤمنين بالطاعة أمرهم بالاستجابة لله والرسول في إطار من تذكيرهم بنعمة الله عليهم، حيث يقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ، وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ، وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} 2. 4- إن رسالة الإسلام التي جاء حض المؤمنين على الاستجابة لها هي دعوة الحياة الحقة الحرة الكريمة. أما أنها دعوة الحياة الحقة؛ فلأنها -بمنهجها الراشد القويم- ارتفاع بالإنسان إلى معين الحياة وجوهرها الأصيل، وبذلك يكون المؤمن الذي لبَّى الدعوة واستجاب للنداء مثلاً فريدًا في فقه الحياة وحسن التلاؤم

_ 1 الأنفال: "20-23". 2 الأنفال: "24-26".

معها، وجعلها وسيلة خير؛ لأن نور الإيمان الذي يمتلئ به قلبه هو الذي يجنبه أن يغتر بها، أو يخدع بزخارفها، أو يجعل من نفسه وملكاته تبعًا لأهوائها. ثم إذا كرم الله تبارك وتعالى المؤمن بهذا النور الهادي، تحرر به عقله، وتطهر وجدانه، وصفت سريرته، واستقام خلقه وصح اتجاهه، وصلح عمله، وتلك هي عناصر الكرامة الإنسانية في الحياة. ولكن لا بد لهذا النور الذي ينسكب في القلب والضمير بفضل الله ومنته، فيصنع هذه الحياة الطيبة، من إقبال الإنسان على الطاعات، وتجنب المعاصي، والحذر من مزالق الهوى، وهواجس الشك، ونزغات الشيطان، وهواتف الشك، ومخاطر الغفلات، ولقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو رسول الله المعصوم يقول -كما روى ذلك أنس بن مالك رضي الله عنه: "يا وليّ الإسلام وأهله، ثبتني به حتى ألقاك" 1. وكان يكثر من دعاء ربه بقوله: "اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك" 2. 5- بعد ذلك لا بد من الحذر من أن تتسرب إلى صف الجماعة المؤمنة بواعث الفتن الخطيرة التي تعصف بوجود الأمة وكرامتها وعزتها، وأي فتنة أكبر وأخطر من الإعراض عن تلبية دواعي الحياة الحقة الكريمة، والقعود عن الجهاد في سبيل الله، والتراخي في تغيير المنكر ومقاومة الفساد؟ هذه هي الفتنة التي جاء الأمر الإلهي بتوقيها والحذر منها، وليس يتم هذا

_ 1 رواه الطبراني في الأوسط. 2 رواه الترمذي عن أم سلمة رضي الله عنها بإسناد حسن.

التوقي والحذر إلا باتباع منهج الإسلام الكامل في أوامره ونواهيه، وأحكامه وآدابه، وبيع النفوس رخيصة في سبيل الله، واحتمال ما يلقاه المجاهدون في معارك عقيدتهم من شدة وبلاء، ومحن وإيذاء، إيثارًا لما عند الله، وسعيًا لما يحبه ويرضاه. ولقد جاء وحي الله تبارك وتعالى يذكر المؤمنين الذين أنزلت عليهم آياته بصورة من صور ضعفهم -في فجر الدعوة- قبل أن يوجههم إلى قتال أعدائهم من المشركين، فيصور لهم كيف كانوا وجلين خائفين، يخشون أن تمتد إليهم أيدي أعدائهم بما ينال منهم، ويفرق جمعهم، ثم كيف أكرمهم الله بعد ذلك بالأمن والقوة والنصر، والرزق الطيب والمتاع الكريم. لقد كان ذلك تحولاً ضخمًا في تاريخ هذه الجماعة التي تحمل أمانة الدعوة، فهو انتقال من الضعف إلى القوة، ومن العسر إلى اليسر، ومن الخوف إلى الأمن، ثم من الترقب والحذر، والخشية من الأعداء إلى الإقدام والاندفاع، والنصر الحاسم المبين. قال سبحانه: {فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} 1. 6- ثم إن من شأن هذه الدعوة -بما فيها من نهج التحرير وروح التطهير- أن تواجه الواقع البشري في الأرض بما يصلحه ويقوم اعوجاجه، ويستأصل جذور الفساد والشر فيه، حتى تكون كلمة الله هي العليا، ويذعن الناس لسطان الله، ويقروا بالحاكمية له وحده سبحانه، وليست تتم هذه المواجهة الشاملة إلا بتوافر أسباب القوة، وإعداد العدة، وامتلاك كل الوسائل التي تفضي على جميع القوى الطاغية، المناوئة للخير،

_ 1 الأنفال: "26".

المتصدية للهدى، المتحدية للحق، المتحكمة في رقاب العباد، بأوضاعها الجائرة وسلطانها الفاسد وعقائدها الباطلة ونُظُمِهَا المنحرفة. من أجل هذا كان واجب المسلمين الذين يفرض عليهم دينهم الجهاد في سبيل الله أن يعدوا العدة لأعدائهم بكل ما في طاقتهم من القوة على اختلاف أشكالها وصورها، وتعدد صنوفها وأسبابها، بحيث تكون تحت أيديهم القوة التي تلقي الرعب، وتزرع الرهبة في قلوب أعداء الله وأعدائهم، الذين بدت عداوتهم، واتضحت أهدافهم الخبيثة في كراهيتهم للمسلمين وتبييت الشر لهم، وصد الناس عن دينهم، كما ترهب أولئك الذين يضمرون العداء وإن لم يجاهروا به، ويبيّتون الشر في الخفاء وإن لم تمتد أيديهم به، هؤلاء الذين يعملون في الخفاء فلا يعلم المسلمون حقيقة أمرهم، ولكن الله يعلم سرائرهم وحقائقهم. وحين تكون للمسلمين هذه القوة وهذا الإعداد تقع الرهبة في قلوب أعداء الإسلام على اختلاف أنواعهم، وتعدد وسائلهم فلا يتاح لهم أن يتحركوا بالعدوان ولا يستطيعون أن يقفوا في وجه الدعوة الهادية، أو يحولوا بين الناس وبين الإقبال على دين الله، كما تردعهم هذه القوة عن الظلم والطغيان، وتمنعهم من إقامة العقبات في وجه رسالة الحق وإنقاذ الإنسان، وفي ذلك يقول عز وجل: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ} 1. 7- إن الجهاد في الإسلام هو ذروة سنامه، فبه يتم إقرار الحق في نصابه،

_ 1 الأنفال: "60".

ويرد البغي والطغيان، ويكافح الشر والعدوان، وفي ذلك يقول الله عز وجل: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} 1. وفي سبيل تحقيق هذه الغاية التي اقتضتها سنة الله تبارك وتعالى في دفع الظلم، ورد البغي، وقطع دابر الفساد في الأرض، كانت صبغة الجهاد في الإسلام أنه في سبيل الله، لا في سبيل مغانم يحرزها المقاتلون، أو مواقع يحتلها المحاربون، أو رتب ومراكز يسعى لها من يخوض معارك القتال. وفي ذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله" 2. فالجهاد في سبيل الله إنما هو الإقدام الذي لا يشوبه تردد أو إحجام، وتضحية خالصة تتجرد فيها نفوس المؤمنين من التعلق بالحياة، والإخلاد إلى ما فيها من متاع زائل، وعرض حائل، وصدق في بيع النفس، واندفاع في بذل الروح، طاعة لله وإقبالاً عليه، وحرصًا على ابتغاء ما وعد به المجاهدين الصادقين من الرضى الخالص، والفوز بجنات النعيم. وفي ذلك يقول سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى

_ 1 البقرة: "251". 2 رواه البخاري ومسلم وأحمد في مسنده.

بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ، التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} 1. 8- وليس من شك في أن الدخول في الإسلام والانتماء إليه بيعة مع الله، يعطيها عهدًا صادقًا، وجهادًا خالصًا، وبذلا وفداء، أولئك الصفوة الأبرار من عباد الله، فلا يحتجزون لأنفسهم -وقد ارتضوا هذه الصفقة الكريمة- ذرةً من الحرص على الحياة، أو الرغبة في المال؛ لأن أرواحهم وأموالهم قد بيعت في سبيل الله، فليس عليهم إلا أن يفوا بالعهد، ويمضوا العقد، فيجاهدوا في سبيل الله طيبة نفوسهم، رضية أرواحهم، ويسلكون السبيل القويم الكريم إلى نهايته، فإذا تم لهم النصر فذلك خير كبير أكرمهم الله به، وإذا أدركتهم الشهادة فتلك هي النعمة الكبرى، والغاية التي يسعى لها المجاهدون الصادقون، ولهم في الحالين الجنة التي أعدها الله للأبرار من عباده المخلصين. إن هذه البيعة العظيمة لازمة في عنق كل مؤمن، ومن رحمة الله تبارك وتعالى أنه جعل لهذا البيع ثمنًا وهو الجنة؛ لأنه سبحانه هو واهب الأنفس والأموال وهو مالكها، فكان من فضله عز وجل أنه قبل العِوَض عما يملكه بما تفضل به عباده المطيعين له. ولهذا قال الحسن البصري وقتادة:"بَايَعَهُم والله فأغلى ثمنهم". وروى محمد بن كعب القرظي وغيره أن عبد الله بن رواحة -رضي الله عنه- قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم -يعني ليلة العقبة: اشترط لربك ولنفسك ما شئت.

_ 1 التوبة: "111-112".

فقال: "أشْتَرط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأمواكم" قالوا: فما لنا إذا فعلنا ذلك؟ قال: "الجنة" قالوا: رَبِحَ البيع لا نقيل ولا نستقيل. وفي الصحيحين أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: " وتكفل الله لمن خرج في سبيله، لا يخرجه إلا جهاد في سبيلي، وتصديق برسلي، بأن توفاه أن يدخله الجنة، أو يرجعه إلى منزله الذي خرج منه نائلاً ما نال من أجر أو غنيمة". إن وعد الله تبارك وتعالى في هذا وعد قاطع قديم كتبه على نفسه وأنزله على رسله في التوارة المنزلة على موسى، والإنجيل المنزل على عيسى، والقرآن المنزل على محمد -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين- والله تبارك وتعالى لا يخلف الميعاد فليستبشر من أخلص نفسه وماله لله، وقام بمقتضى هذه البيعة، ووفى بهذا العهد بالفوز العظيم والنعيم المقيم. وليس الجهاد في سبيل الله مجرد اندفاع إلى القتل؛ وإنما هو ذروة العمل الذي ينبثق من روح الإيمان ويصدر عن تمثل المؤمنين بحقيقته، ولذلك جاء نعت هؤلاء الذين اشترى الله منهم أنفسهم وأموالهم.. بأنهم التائبون من ذنوبهم، العابدون المخلصون في عبادتهم، فهم في طاعة دائمة وتوجه صادق إلى الله، وهم يحمدونه دائمًا على نعمه، ويشكرونه في كل حال على فضله، وهم ينفقون عمرهم في الحرص على تقوى الله، فيهاجرون في سبيله، ويصومون ابتغاء مرضاته، ويتفكرون في آياته، ويقيمون الصلاة، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويقومون على حدود الله؛ لتنفيذها في أنفسهم وفي الناس، ومقاومة من يضَيِّعها أو يعتدى عليها. {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ

وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} 1. 9- ثم إن تصور الناس عن الحياة، وتصرفهم تجاه ما تحفل به من شئون وشجون، منبثق أصلًا من تصورهم الاعتقادي لمعنى الحياة والموت، فبينما ينظر المفتونون بالحياة الدنيا، المحجوبون عن هدى الله إلى الحياة على أنها الغاية التي ليس بعدها غاية، فيحرصون عليها ويتشبثون بها، ويتعلقون بمتعها، ويروعهم تصور انقضائها، فيخشون ذكر الموت، ويجزعون أن يصيبهم، أو يدرك عزيزًا عليهم، ويرُدُّونَ -بسبب فساد تصورهم- وقوع الموت وانقضاء الحياة إلى الأسباب الظاهرة، زاعمين أن الجبن والقعود عن القتال يصون الحياة، فإذا لم يجاهدوا ويخوضوا معارك القتال استطاعوا أن يتفادوا وقوع الموت، أو يؤخروا أجله المحتوم. بينما ينظر هؤلاء إلى الحياة والموت تلك النظرة القاصرة الخائرة التي تشد إلى الذل، وتحمل على المهانة، وتنأى بأصحابها عن دروب الكرامة، تأتي دعوة الإسلام بما ينشئ في أعماق المؤمنين ذلك التصور الإيماني الصحيح للحياة والموت، وهو تصور يرتكز على تجاوز الأسباب الظاهرة، ويرد الأمر إلى قضاء الله وقدره، فمن كتب عليه أن يقتل فلن يؤجل موته قعود، ولن يمنعه حرص أو تدبير، ومن لم يُقَدَّر له أن يقتل فلا خوف عليه من خوض المعارك، وورود المهالك. هذا هو التصور الحق الذي يجب أن يستقر في يقين المؤمن عن الحياة والموت، وهو التصور الذي جاء وحي الله عز وجل يغرسه في قلوب المؤمنين، ويربيهم عليه، مفنِّدًا ما عداه من التصورات الجاهلية الضالة الصادرة عن بُعْدِ الإنسان عن ربه عز وجل، وعدم الإيمان بقدره، وفي ذلك يقول سبحانه:

_ 1 التوبة: "112".

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِ وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} 1. 10- على أساس من تجلية هذا التصور تقوم حقيقة كبرى جليلة الشأن بعيدة الأثر في موقف المؤمن المكلف بالجهاد في سبيل الله تجاه هذه الحياة، تلك هي حقيقة مصير الشهداء الذين قتلوا في سبيل الله، وفي هؤلاء يأتي نهي الله تبارك وتعالى عن حسبانهم أمواتًا، وإن كانوا قد فارقوا هذه الدنيا، وبعدوا عن أعين الناس، إنهم ليسوا أمواتًا وإن فارقتهم الحياة التي لا نعرف منها إلا ظواهرها، بل هم أحياء فوق أحياء الدنيا؛ لأنهم مقربون عند ربهم، إذ بذلوا في سبيله أرواحهم، إنهم أحياء قد صاروا إلى خير مما كانوا فيه. إن حياة هؤلاء الشهداء التي أثبتها القرآن الكريم لهم، مؤكدًا لتحقيقها بأنهم يرزقون.. فرحين بهذا الرزق الذي يتمثل فيه رضى الله عنهم وفضله عليهم، هي من الأمور الغيبية التي يجب الوقوف منها موقف ما جاء في كتاب الله تبارك وتعالى، والمأثور من حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإن في بيان ما يغمُرُ أرواح الشهداء الأحياء عند ربهم من فرح وغبطة، بما أعطاهم ربهم من الثواب والكرامة والإحسان. أجل حافز في بعث روح الجهاد في المؤمنين، وحثهم على الإقدام طلبًا للشهادة، ويقينًا بصدق وعد الله -عز وجل- للشهداء، ورضاه عنهم وفضله عليهم، وهل ثمة باعث لطلب الاستشهاد في سبيل الله -عز وجل- أعظم من هذا الباعث الذي ينتهي بأرواح الشهداء إلى جنة الخلد، حيث تسرح هناك، ويُغْدى عليهم فيها ويُرَاح برزق الله والزلفى عنده، والكرامة والنضرة والنعيم.

_ 1 آل عمران: "156".

11- وإذا كان هؤلاء الشهداء قد سبقوا إلى منازل الكرامة في غبطة وأنس ورضى، فإنهم كذلك مشغولون بمن وراءهم من إخوانهم المجاهدين الصادقين، لم ينفصلوا عنهم، ولم تنقطع صِلَاتهم بهم، يستبشرون بأولئك الذين لم يقتلوا بعدُ في سبيل الله فيلحقوا بهم من خلفهم، لقد تركوهم وراءهم أحياء تتطلع نفوسهم إلى شرف الشهادة، وبلوغ منازل الكرامة عند الله، ولذا فهم مستبشرون لهم لما استيقنوا من رضى الله عنهم؛ بحيث لم يلقوا عنده سبحانه ما يخيفهم وما يحزنهم، ما داموا ثابتين على الحق، صادقين في الجهاد متطلعين إلى الاستشهاد. إنهم جميعًا -من سَبق إلى جوار الله ومن يَنْتظر- يُنَعَّمُون بما منَّ الله به عليهم من زيادة الكرامة والنعيم، وفيض الثواب الكريم والأجر العميم. قال تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ، فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ، يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} 1. هذا هو التصور الحق لمعنى الحياة والموت، إنه التصور الذي ينقل المؤمنين تلك النقلة البعيدة الرائعة التي تتخطى هذه الحياة العاجلة الفانية، لتستقر أرواحهم في آفاق الكرامة والنعيم، وتطمئن في رحاب الرضى والأنس في دار الخلود. 12- وفي ظلال هذا التصور وإيحائه الرائع يأتي التنويه الكريم بأولئك المؤمنين

_ 1 آل عمران: "169-171".

الذين استجابوا إلى الله ورسوله.. من ذلك الرعيل الأول من المجاهدين الأبرار.. الذين خرجوا ملبين النداء لملاقاة الأعداء، وهم مثخنون بالجراح، مرهقون بما نالهم من أعدائهم في يوم معركة "أحد".. خرجوا لمتابعة المشركين وتعقبهم حين استنهضهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لذلك؛ ليعلن للدنيا أن صف الإيمان لا يذل ولا يستكين، وأنه إذا غُلِب في معركة لم تكن هزيمته فيها خاتمة المطاف لمعركة العقيدة الدائمة في الحياة.. لم يشأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يكون آخر ما تنطوي عليه جوانح المؤمنين -بعد معركة أحد- شعور المرارة بالهزيمة، وألم الضعف والجراح، وقبول تحدي المشركين بما يحمل من استعلاء بالباطل، وتبجح وطغيان ... بل أراد أن يرهب أعداء الله، ويريهم من نفسه وأصحابه قوة الإيمان وعزته ... فَنَدَب الناس إلى المسير للقاء عدوهم وقال: "لا يخرجنَّ معنا إلا من حضر القتال وشهد يومنا بالأمس"، فاستجاب له المسلمون على ما بهم من الجراح، وساروا حتى بلغوا "حمراء الأسد" متوجهين لمقابلة المشركين بعد أن بلغهم أنهم جمعوا الكرة عليهم ليستأصلوهم، ولكنهم وجدوا أن المشركين قد انصرفوا، وعادوا دون أن يمسهم سوء بفضل الله ونعمته، وقد نالوا رضوان الله ذي الفضل العظيم. قال تعالى: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ، الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} 1.

_ 1 آل عمران: "172-174".

13- ومن الحقائق الراسخة في دعوة الإسلام أنه ليس يستقيم أمر البشر في هذه الحياة إلا باتباع هدى الله، فهو منهج الحق الكامل، وشرعة العدل الشامل، وهو أمانة الله، وسبيل السعادة الخالصة للناس في الدنيا والآخرة، وهذا المنهج الإلهي القويم حق في ذاته، ومصدره، ووسائله وغاياته، وهو منسجم أروع انسجام مع الفطرة الإنسانية الخيرة، وأشواق الإنسان وحاجاته وتطلعاته.. وإن تحقيق هذا المنهج الراشد في حياة البشر -عقيدة وعبادة، وفكرًا وسلوكًا، وتشريعًا ونظامًا- يقتضي من المؤمنين العاملين على إقامته في الأرض أن يكونوا في مستواه الرفيع، وآفاقه السامية.. ذلك أمر يحملهم في الفكرة والحركة والسلوك على الارتفاع فوق جواذب المغانم، ويحفزهم إلى احتمال أشد المغارم.. لا بد لهم إذا أرادوا أن يؤكدوا صدق انتمائهم لهذه الدعوة، وعمق ولائهم لهذه الرسالة أن يجاهدوا نفوسهم وأهواءهم، وأن يجادلوا خصومهم وأعداءهم وهم في ذروة الاستعداد للبذل والتضحية والفداء، واحتمال المصاعب، والصبر على الشدائد، والنهوض بالأعباء، مهما بَعُدَت الشقة، وطال الطريق، وبلغ مكر الأعداء.. فذلك هو طريق الإيمان الخالص والجهاد الصادق. وهو دليل العبودية الحقة، والاستجابة الصحيحة لدعوة الحياة الطيبة الكريمة، والسبيل الذي ينتهي بسالكيه إلى النصر والتمكين في هذه الحياة، والفوز والنعيم في دار الخلود. 14- وإن هذه الدعوة التي كلف الله تبارك وتعالى المؤمنين بحمل أمانتها، وشرفهم بالانضواء تحت رايتها، وأرشدهم إلى النهوض بمقتضى رسالتها.. تحتاج -ولا شك- إلى تعبئة النفوس المؤمنة تعبئة عالية، وإعدادها للمضي في الحياة بقوة وعزم وثبات لتأييد الحق وإعلانه، وهدم الباطل وخذلانه، وإقامة صروح العدل، وتحرير البشرية من

الظلم، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.... وهي مهمة ضخمة ثقيلة ذات تكاليف وأعباء، وتضحيات غالية وبذل وفداء، ولا بد للمؤمنين –وهم يخوضون غِمَار هذه المعركة الدائمة في ميادينها الحاسمة- من أن تسفك منهم الدماء، ويخرَّ منهم في سبيل الله شهداء.. وهذا هو حقا عنوان عمق الولاء، وبرهان صدق الانتماء.... وإن أول ما يجب أن يستقر في قلوب المؤمنين أن قوة الله وحده، هي القوة التي يُلْتَمَسُ عندها النصر، وبها تُتَّقى الهزيمة، وإليها يكون التوجه، وعليها يكون التوكل، فإذا أراد الله تبارك وتعالى نصر المؤمنين إذا عملوا بشريعته، والتزموا بدعوته، وأطاعوا أمره، ولم يخالفوا حكمه، وتوكلوا على توفيقه ومعونته، وأخذوا للأمر أهبته، وأعدوا له عدته ... فلا غالب لهم من الناس إذا أراد الله لهم النصر والتمكين.... وإن أراد سبحانه خذلانهم بما كسبت أيديهم من الفشل والتنازع والعصيان فلا يملك أحد لهم نصرًا، ولا يدفع عنهم ذلك الخذلان ... قال تعالى: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} 1.

_ 1 آل عمران: "160".

بين الإسلام والقانون الدولي العام

بين الإسلام والقانون الدولي العام: 1- وإذا كان لقواعد القانون الدولي العام من مبادئ أساسية، فإن هذه المبادئ ليست -كما تذكر الدراسات الغربية- حديثة تعود إلى ما قبل القرون الأربعة الأخيرة فحسب؛ حيث بدأ اهتمام الدول الأوربية في تنظيم علاقاتها على أساس من القواعد القانونية الثابتة، بل "إن جل هذه المبادئ وغيرها مما لم يتعرض له القانون الدولي الحديث، واردة في أحكام الشريعة الإسلامية، نزل بها القرآن منذ أبعة عشر قرنا، وصلات المسلمين ودولهم بغيرهم من الشعوب والدول، في حالي السلم والحرب.. كانت تخضع لقواعد مفصلة مستمدة من القرآن والسنة، واطَّرد اتباعها في جميع العصور الإسلامية"1. وإذا كان علماء القانون في الغرب يقررون أن فكرة "القانون الدولي العام" فكرة حديثة العهد، ابتدعتها أوروبا في العصر الأخير، فإن هذا الحكم صحيح إذا لم يعمم على التاريخ الإسلامي، ذلك أن النظام الدولي لم يكن في الحقيقة معروفًا خارج المحيط الإسلامي، فلم يكن لهذا القانون الدولي وجود لا في العصر القديم اليوناني والروماني، ولا في العصور الدينية الأولى في اليهودية والمسيحية ... ولو أننا بحثنا فكرة القانون الدولي في أوروبا في العصور الحديثة، لما وجدنا كبير فرق بينها وبين تلك العصور الأولى، على الرغم من التقدم الفعلي في تدوين هذا التشريع العام، ذلك أن فكرة تساوي الناس أمام القانون، لم تتخذ في نظر الغربيين صبغة القانون العام الشامل. ألم

_ 1 انظر: "الشريعة الإسلامية والقانون الدولي العام" تأليف: علي علي منصور ص21.

يقل "ستيوارت ميل" باستحالة تطبيق القانون على الشعوب الهمجية، أولم يحدد "لوريمير" على وجه الأرض مناطق ثلاثًا تخضع كل منها لقانون مختلف؟ فالعالم المتمدين يجب أن يتمتع في نظره بحقوق سياسية كاملة، والعالم نصف المتمدين يكفي أن يتمتع بحقوق سياسية جزئية، بينما الشعوب غير المتحضرة ليس لها إلا حقوق عرفية لا تحمل إلزامًا قانونيًا، وجاء ميثاق "عصبة الأمم" بعد الحرب العالمية الأولى، فأقر هذا التقسيم الثلاثي، وأكسبه سلطة القانون. 2- إن الحقيقة التي يثبتها الدرس الموضوعي، والتحقيق المجرد عن التعصب، تؤكد أن القانون الدولي ليس علمًا حديثًا كما تذكر الدراسات الغربية التي يميلها التعصب، بل هو يعود إلى القرن السابع الميلادي يوم ظهر الإسلام.. ففي هذه الفترة التي تبدأ في سنة 611م انتشر الإسلام في أقل من قرن؛ بحيث عم جميع البلاد المعروفة آنذاك أو معظمها، فقد شرَّق إلى حدود الصين، وغرَّب إلى الأندلس. والمعروف أن أوروبا في ذلك الحين كانت تتكون من إمارات متعددة، وكان كل أمير يملك الأرض وما عليها، ولم يكن للعهود والمواثيق فيما بين هذه الإمارات أي احترام، وكانت الحروب مشبوبة لأتفه الأسباب، بل ولمجرد الطمع في ملك الجار. فلما خشيت الكنيسة الدين الجديد، وخشيت من سرعة انتشاره في أوروبا، قامت بدعوة الأمراء والملوك إلى اجتماعات برئاسة البابا للنظر في تنظيم العلاقات بينهم، وأخذت المجامع الكنسية تجمع الإمارات والدول تحت سلطان البابا. ولكن سرعان ما أخذ الملوك والأمراء يتبرمون بسلطان الكنيسة التي كانت تبيع صكوك الغفران، وتعاقب الخارجين عليها بالحرمان من الجنة، وإباحة دماء بعضهم، وإهدار قيمة المعاهدات والاتفاقات وتحليل نقضها، متى كان أحد الطرفين غير تابع للكنيسة، أو كان خارجًا عليها.. وقام بعد فترة "ميكيافيللي" -أحد الساسة الإيطاليين- يدعو إلى

تكوين دول كبرى من الإمارات الصغرى للوقوف في وجه الدين الإسلامي الجديد، وأباح "ميكيافيللي" لأي أمير قوي أن يغير على جيرانه، ويخضعهم بالقوة بدافع من القومية. وتقضي تعاليم "ميكيافيللي" في كتابه "الأمير" بأن السياسة كذب ونفاق، ولا مانع من استغلال الشعوب1. ويرى "ميكيافيللي" أن الخطر الذي يواجهه الأمير نوعان: داخلي من جانب المحكومين، وخارجي من جانب الحكام الخارجيين، وحتى يستطيع المحافظة على حكمه يجب عليه ألا يخشى أي شيء، ولذلك لا بد للأمير أن يمتلك ويظهر الرحمة والإخلاص والإنسانية وفن الخطابة والتقوى، وعليه أن يفعل عكس ذلك إذا اضطر الأمر. ويجب أن يفهم كيف يدير نفسه مع الرياح، وأن يقدر نتائج كل سلوك مقدمًا، وعليه أن يكون مقتصدًا وبطيئًا في عمل الخير حتى يمكن إظهاره بوضوح، وأن يكون سريعًا في تنفيذ حالات القسوة حتى يمكن نسيانها بسرعة، وعندما لا تنفع الأمانة تفيد الخيانة وعدم الوفاء بالعهد، ومع ذلك فإن الكذب يبقى كذبًا، والقتل قتلاً، إلا أن السياسة لا تعرف قاعدة ولا قوانين، فهي انتهاز لكل فرصة مواتية، وهي في الواقع لا تملك أي محتوى، ولكنها وسيلة لكسب الحكم والمحافظة عليه. أما الدبلوماسية عند "ميكيافيللي" فليست سوى كلمة رقيقة تخفي خلفها شريعة الغاب في الميدان الدولي؛ فالأمير الجديد سيكون موضع طمع أقرانه الأمراء وتربصهم، فيجب عليه أن يكون كالثعلب ليكشف الحيل والألاعيب2.

_ 1 انظر "مقارنات بين الشريعة الإسلامية والقوانين الوضعية" تأليف: علي علي منصور ص79. 2 انظر: "تاريخ الفكر السياسي" تأليف إبراهيم دسوقي أباظة وعبد العزيز الغنام ص181-182.

3- هذه هي المبادئ التي سادت أوروبا حوالي قرن من الزمان، كانت الحروب فيها على أشدها، فكان كل أمير أو ملك يدعي القوة ويدعي أنه -في سبيل تكوين دولة كبرى- يحل له محاربة غيره دون سبب، فعمت الفوضى وانتشرت الحروب، وانتشر البؤس والخراب والقوة والتشريد. ويقولون: إنه لما تبرمت الدول الأوربية بسياسة "ميكافيللي" قام من ينادون بأن الحرب يجب أن لا تقوم إلا لأسباب قوية، وأن لها إجراءات معينة، وأنها يجب أن تتسم بالرحمة، وأن السلام بين الدول والشعوب مرغوب فيه1. ومن الواضح أن هذه الدعوات التي يجعلها الباحثون طليعة المبادئ الأساسية للقانون الدولي -وهي في خلال القرون الوسطى في أوروبا- لم تَعْد أن تكون صرخات وأمنيات، ولم تبلغ أن تكون قانونًا دوليًا معتبرًا ومصونًا، وظلت آراء "ميكيافيللي" هي السائدة والمطبقة في أروربا منذ نادى بها حتى يومنا هذا، وعلى أساسٍ من آرائه قامت الحروب الكثيرة، والخصومات المتعددة، والمنازعات الدولية الطويلة، ونشأ الاستعمار، واشتعل أُوَار الفتن والأزمات الدولية المستعصية، وعاش البشر -وما يزالون- في ظل الخوف والقلق، وسعير الحروب الفتاكة المدمرة، ونذرها التي تهدد البشرية بمزيد من المآسي والنكبات، والمحن والويلات.

_ 1 انظر "مقارنات بين الشريعة الإسلامية والقوانين الوضعية" تأليف علي علي منصور ص79.

الفصل السادس: في العقيدة

الفصل السادس: في العقيدة العقيدة والحياة مدخل ... العقيدة والحياة: من أخطر القضايا التي واجهت الإنسان قديمًا، وتواجهه اليوم.. هي النظرة إلى دور العقيدة في الحياة.. فقد كانت هذه القضية مصدر خير وفلاح وسعادة وتقدم لأمم رعتها حق رعايتها، واتبعت هداها، والتزمت قيمها وحدودها، ذلك أن الأنبياء عليهم السلام -وهم أئمة الهدى وقادة الإنسانية- "لم يدعوا إلى عقيدة وشريعة فحسب، ولم يحملوا دينًا جديدًا -هو الإسلام- فحسب، بل كانوا مؤسسي حضارة ومدنية، وعشرة واجتماع وأسلوب في الحياة جديد خاص، جدير بأن يسمى الحضارة الربانية، ولهذه الحضارة أصول ودعائم، وعلامات وشعائر، تمتاز عن الحضارات الأخرى، الحضارات التي تسمى الحضارات الجاهلية، امتيازًا في الأساس وفي الروح، وفي الأشكال والتفاصيل"1. إن منطق العقيدة هو الراجح دائمًا؛ لأنه حق في ذاته، وإذا كان لا بد لدعوة الإيمان من أن تخوض معركتها الكبرى؛ لتصحيح التصور، وتقويم السلوك، وإصلاح النظم، وتحرير البشر من طغيان الجاهلية؛ فإن نتيجة هذه المعركة في حياة الأمم هي التي تحدد مصيرها وترسم عاقبتها، والنصر في النهاية

_ 1 أبو الحسن الندوي: "النبوة والأنبياء في ضوء القرآن" ص75.

للعقيدة، مهما امتد الزمن، واحتد الصراع، وشق الطريق، وعظمت التضحيات؛ لأن هذا النصر حقيقة يقينية جازمة، تكفَّل الله تبارك وتعالى بها في كتابه الكريم فقال: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} 1. وقال: {كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} 2. وقال: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ، إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُون، وَإِنَّ جُندَنَا لَهُم الْغَالِبُونَ} 3.

_ 1 غافر: "51". 2 المجادلة: "21". 3 الصافات: "171-173".

العقيدة والواقع الإنساني

العقيدة والواقع الإنساني: 1- ولقد كانت نظرة بعض الأمم لدور العقيدة باعث أزمات خطيرة لها، وسبب مشكلات كبيرة في تاريخها، ومصدر شقاء دائم وبلاء مستمر، وقد انتهى أمر بعضها إلى دمار شامل وهلاك ماحق، حين عارضت دعوة التوحيد فأقصتها عن الحياة، وعزلتها عن ميادين الفكر والسلوك والعلاقات بين الأفراد والجماعات. وما تزال تعصف بالإنسانية اليوم رياح الشر، ويخيم عليها نذر الفناء،

وتهددها أشباح حرب مدمرة، تقضي على الأمن والرخاء والسلام، وتنسف ما بناه الإنسان في تقدمه العلمي والصناعي من قواعد المدنية والعمران، ولا عاصم لها من كل هذه المحن المقبلة، والأزمات المستعصية إلا بالعودة الكاملة الواعية الصادقة إلى حِمَى العقيدة الحقة "عقيدة التوحيد"، فهي وحدها التي تحسم الأدواء، وتحل المشكلات، وتقضي على الأزمات، وتشيع روح الخير والطمأنينة والسلام.. وما لم تبنَ حياة الإنسان في هذه الأرض على أسسٍ من منهج هذه العقيدة التي توازن بين مطالب الجسم والروح، وحاجات الفرد والمجتمع، وتفصل بين الحق والباطل، والفضائل والرذائل؛ فلن ينحسم الصراع بين قوى الخير والشر، ولن تجد سفينة الحياة سبيلها إلى شاطئ السلامة، وملاذ الطمأنينة وأفق الرحمة والعدل، والتسامح والمساواة.. 2- وليس ينقذ البشرية مما تعانيه من هذا الخواء الروحي المتصادم مع فطرة الإنسان وتطلعه نحو الخير؛ هذا الرخاء المادي الوفير، وهذا المتاع الحسي الواسع، وليس ينتشلها من هذا الشقاء الذي تردت فيه ذلك السباق العلمي والإنجاز الصناعي..؛ فكل ذلك في واقعه البشري اليوم يضاعف من المشكلات، وينشر ضباب القلق والفساد والاضطراب، وسبب ذلك كله إنما هو الإعراض عن المنهج الإلهي، منهج العقيدة الحقة، التي تصحح التصور، وتحرر الوجدان، وتقوِّم الفكر والسلوك، وتضع الإنسان على الطريق السوي في الحياة.. 3- تلك صورة من واقع الحياة البشرية اليوم تؤكد أن الانحراف عن المنهج الإلهي يقذف بالناس على هذه الأرض في أتون محرق من الشر، وطوفان مغرق من الفساد، وأزمات مستعصية في كل جوانب الحياة ... أزمات نفسية وخلقية وفكرية.. وأزمات في السياسة والاقتصاد والاجتماع، وأزمات في الروابط الإنسانية والعلاقات الدولية، ولو عاد البشر إلى

واحة الإيمان الحق، وعاشوا في ظل التوحيد الوارف الندي، لاختفى ما يعانونه من هذا الشقاء المدمر، والواقع النكد، والفراغ الخطير.. ذلك أن الرجوع إلى منهج الله وحكمه القويم وشرعه الحكيم، يرد كل شيء إلى أصول ثابتة، وقواعد خيرة وموازين عادلة، وبذلك وحده ينتهي التصادم والانقسام، وتتناسق حياة الإنسان مع سنن الله في الكون، وفطرته التي فطر الناس عليها، وبهذا التناسق تنعم الإنسانية بالسعادة والطمأنينة، وتتفيأ ظلال الأمن والخير.. قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} 1.

_ 1 الروم: "30".

العقيدة ومصير الأمم

العقيدة ومصير الأمم: 1- تتوالى في كتاب الله تبارك وتعالى آيات التذكير والتحذير، المقترنة بالوعد والوعيد؛ لتوقظ القلوب وتربي الضمائر بحقيقة العقيدة، وموقعها في حياة البشر، مقررة أنها أضخم حقيقة، وأجلها وأعمقها في حياة الإنسان، وأبعدها مدى في تاريخه على هذه الأرض، ومصيره فيها، ثم نهايته الأخيرة بعد أن تنقضي هذه الحياة، وتنتهي إلى أجلها المحتوم، ويرث الله الأرض ومن عليها.. وهي النهاية الدائمة التي لا انقضاء لها، ولا مهرب منها، ولا تخلف عنها، وهي إما شقاء الأبد أو الخلود في النعيم، وحين يدرك الإنسان هذه الحقيقة الراسخة الكبرى عبر ما تحمله آيات الله تبارك وتعالى من تذكير وتحذير ووعد ووعيد؛ يصبح أكثر يقظة،

وأوضح بصيرة، فتتضح لديه معالم الرؤية، وتنكشف أمامه السبل، فيدرك معنى إنسانيته، ويعي حقيقة مهمته، ولا يني -مهما طال الطريق وصعب المسير- عن سعيه لبلوغ غايته، وبهذا وحده يستوعب الإنسان معنى وجوده الحق، فيستقيم على الطريقة المثلى، فكرًا وشعورًا وسلوكًا، ويحقق الطمأنينة في حياته. 2- وفي نموذج من التحذير المقترن بالوعيد تسوق الآيات الكريمة أبلغ عظة، وأجل عبرة، في مصير أولئك الذين عَتَوْا عن أمر ربهم بالتمرد والعصيان، والاستكبار والطغيان، حين خالفوا أمر الله، فلم يستجيبوا لدعوة التوحيد، ولم يتبعوا المنهج الإلهي في حياتهم، وكذبوا الرسل الذين جاءوهم بالهدى والنور؛ فكان عاقبة موقفهم الجاحد الظالم، حساب الله العسير، وعذابه النكير، حيث ذاقوا في الدنيا وبال أمرهم، فسادًا وانحلالاً، وذلاً ونكالاً، وترديًا في الأوضاع، وفوضى في النظم، وشقاء متواصلاً، وقلقًا وفقرًا، وجزعًا وجدبًا، ثم انتهوا إلى الدمار والانهيار.. ولهم في الآخرة -فوق هذا- أشد العذاب. وفي ذلك يقول الله تبارك وتعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُكْراً} 1. 3- هذه هي الحقيقة التي يؤكدها المنهج القرآني في مواطن عدة من كتاب الله عز وجل، ويقص -في مناسبات عدة- ما جرى في حياة الأمم الماضية والقرون الغابرة من خير أو شر أو سعادة أو شقاء؛ نتيجة لموقف هذه الأمم من العقيدة.. مقررًا أن مصير هذه الأمم التي بعث فيها الأنبياء بعقيدة التوحيد كان متعلقًا بمدى الاستجابة لها، والعمل بمقتضاها

_ 1 الطلاق: "8".

والانطواء تحت لوائها.. فحين اتبعوها وتمسكوا بأهدابها سادوا وعزوا، وأكرمهم الله تبارك وتعالى أجلَّ إكرام، وحين أعرضوا عنها وجانبوا سبيلها؛ إيثارًا للهوى الجامح أو صلفًا وعنادًا كانت عاقبتهم الذل والهوان والإخفاق التام، وتلك عقوبة الله تبارك تعالى للزائغين المنحرفين، ولهم في الآخرة أشد العذاب.. 4- لقد ساق الله تبارك وتعالى لهذه الأمم من الآيات الدالة على قدرته، والمشاهد الناطقة بجليل حكمته، ما فيه زاجر عن الضلال إذا تذكروا، وحافز إلى الإيمان إذا تدبروا، وأنعم عليهم بوسائل الهداية، وبسط أمام عقولهم وقلوبهم ومشاعرهم أدلتها القوية، وصورها الموحية، وسبلها النيرة، ولم يدعهم سبحانه -فضلاً منه ورحمة- في مفاوز التيه والضياع، تفترسهم الحيرة، وترديهم الجهالة، بل رسم لهم سبل المعرفة الحقة، ودعاهم إلى سلوكها، وأكرمهم برسله الأبرار، مذكرين ومرشدين، ومبشرين ومنذرين، فلا حجة بعد ذلك لمنحرف، ولا عذر لأي أحد في ضلال.. وكان مما ذكر سبحانه -في مواضع كثيرة من القرآن الكريم- أن هؤلاء المشركين من العرب لم تُجْدِ فيهم الزواجر، ولم تغنهم النذر، بل كانوا إذا رأوا آية من آيات الله أنكروها، ولجُّوا في الباطل، وأصروا على الكفر، اتباعًا للأهواء، وجمودًا على ترهات الآباء.. وفي ذلك يقول عز وجل: {وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ، وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ، وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ، حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ} 1.

_ 1 القمر: "2-5".

سنة الله في الأمم الجاحدة

سنة الله في الأمم الجاحدة: لم يكن المشركون من العرب بدعًا بين الأمم في التكذيب والإعراض، فقد سبقتهم في طريق الضلال أمم وأقوام صَوَّر القرآن الكريم ما حلَّ بهم من العذاب والنكال؛ نتيجة كفرهم وضلالهم وإعراضهم عن دين الله. 1- فهناك قوم نوح الذين كانوا شر أسوة لمن بعدهم من الضالين المكذبين للرسل، فقد قصَّ القرآن الكريم أنهم كذبوا بآيات الله ورسالته، وكذبوا عبده ورسوله نوحًا عليه السلام، ونالوه بالمساءة والسخرية، ووصفوه بالجنون، وتوعدوه بالرجم، ونهروه بقسوة وعنف.... وحين ضاق بهم ذرعا، واستنفد طاقته في تبليغهم وإنذارهم، ولم يعد يجد من سبيل إلى ردعهم وإصلاح حالهم.. دعا ربه منيبًا أن قومه غلبوه تمرُّدًا وعُتُوًّا، ولم يسمعوا منه، فاستحكم يأسه منهم، ولم يعد له طاقة بهم، وكان دعاؤه ابتهالاً إلى الله أن ينتصر منهم لدعوته بعقابٍ من عنده.. وأجاب الله دعاءه، ووقع الطوفان هلاكًا ماحقًا، يغمر وجه الأرض، ويطوي ما عليها من الشر والدنس، بعد أن لَجَّ الضالون في الباطل، وأصروا على الكفر والجحود، وبلغوا الغاية في العتُوِّ والاستكبار.. وفي غمرات الشدة -والطوفان يطوي المكذبين ويغرق الجاحدين- تدرك رحمة الله تبارك وتعالى أولئك الذين آمنوا بالله، واستجابوا للحق، وصبروا على إيذاء الكافرين، فينجي الله نوحًا والذين آمنوا معه من قومه، ويكرمهم بحملهم في هذه السفينة، التي جعلها سبحانه آية للأجيال على كر الدهور وتوالي العصور لمن يتذكر ويعتبر. وفي ذلك يقول عز وجل: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا

مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ، فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ، فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ، وَفَجَّرْنَا الأرض عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ، وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ، تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ، وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ، فكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُر} 1. 2- وواصلت الآيات الكبرى -بعد ذكر قصة قوم نوح- إنذار المشركين بتصوير موقف قوم عاد وثمود وبيان ما حلَّ من التنكيل والدمار والعذاب الماحق بهم، وفيه مع ما آل إليه مصير قوم نوح من الإغراق بالطوفان أبلغ العبرة لمن تدبر واعتبر.. فقد كذب قوم عاد نبيهم هودًا مثل ما كذب قوم نوح نبيهم، فعاقبهم الله على كفرهم وتماديهم في الغي والضلال، وقصَّ الله بعد ذلك نبأ ثمود الذين خلفوا قوم عاد في القوة والتمكين، ولكنهم لم يتعظوا بما أصاب مَنْ قبلهم حين جحدوا عقيدة التوحيد، فكذبوا بنذر الله، وأنكروا دعوة نبيهم صالح عليه السلام، وسخروا منه، وغلبت عليهم الكبرياء، فزعموا أنهم لو اتبعوه لكانوا في ضلال وجنون، واتهموا نبيهم بالكذب والطمع وحب السيطرة، وطمس الله على بصائرهم، فأغرقوا في الكفر والكبر وقبح الاتهام، وأرسل الله الناقة؛ آية لنبيه صالح عليه السلام، وحجة له على قومه، وامتحانًا لهم وابتلاء، وأمره أن يخبرهم أن الماء الذي يَرِدُونَه مقسوم بينهم وبين الناقة، فلها يوم ولهم يوم، فتحضر الناقة تارة ويحضرون هم أخرى، فتنال شِرْبَهَا وينالون شِرْبَهُم، فعتوا عن أمر ربهم، وعقروا الناقة ... فعاقبهم الله بأن أرسل عليهم الصيحة

_ 1 القمر: "9-18".

الصاعقة، فإذا هم صرعى هالكون، كأنهم الأعواد الجافة اليابسة، وبادوا عن آخرهم، ولم تبق منهم باقية.. وفي ذلك يقول عز وجل: {كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ، إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ، تَنزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ، فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ، وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ، كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ، فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ، أأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ، سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الأَشِرُ، إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ، وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ، فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ، فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ، إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ، وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} 1.

_ 1 القمر: "18-32".

مثل من قصة بني اسرائيل

مثل من قصة بني إسرائيل: 3- وفيما وقع لبني إسرائيل مثل يصور هذه الحقيقة، وله دلالته الكبرى في كل أمة ... وتبرز فيما وقع لهم صورتان:

الصورة الأولى: هي أنهم قد تجرعوا مرارة الذل والهوان أحقابًا طوالًا، وعانوا من بطش فرعون الذي كان يقتل أطفالهم ويستحيي نساءهم.. وقد بدأ الفرعون "رعمسيس الثاني" اضطهادهم، وامتحنوا امتحانًا شديدًا.. وقد بلغ من اضطادهم أن أمر فرعون جنوده أن يُلْقُوا في النهر بكل ذكر من أبناء بني إسرائيل ليموت غرقًا، وأجبرهم على العمل الشاق في تعبيد الطرق وبناء المعابد.. ولقد أزمع فرعون أن يقضي عليهم ويبيدهم.. ولكن يشاء الله تبارك وتعالى -الذي أنعم عليهم بوافر النعم، وفضلهم على أبناء زمانهم بسبب إيمانهم- أن يكرمهم بما يكون سببًا لنجاتهم، وتأييد الله لهم، وإهلاكه لعدوهم، وفي ذلك يقول عز وجل: {يَا بَنِي إِسْرائيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} 1. لقد بعث الله فيهم موسى -عليه السلام- مؤيدًا بالآيات الخارقة من ربه، التي أراه الله إياها ليطمئن قلبه، وذلك حين أمره أن يلقي عصاه فإذا هي حية تسعى، وأن يدخل يده في جيبه فخرجت بيضاء من غير سوء.. ثم عادت عصاه سيرتها الأولى، ورجعت يده كعهده بها، وقد أمر الله بعد ذلك أن يذهب إلى فرعون الذي طغى وبغى2.

_ 1 البقرة: "47". 2 يروى أنه "منفتاح" الذي كان وليًا للعهد حين كان موسى في بيت فرعون.. وليس في القرآن الكريم ذكر لاسمه أو اسم من سبقه، ولكن فيما حكاه القرآن ما يدل على أن فرعون يعرفه ويعرف نشأته في بيت فرعون وذلك حيث يقول تعالى -حكاية عن فرعون في خطابه لموسى-: {قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ، وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} "الشعراء:18-19". وقد رد موسى على ذلك: {قَالَ فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّين، فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ} . الشعراء: "20-21" انظر "قصة بني إسرائيل" تأليف: عبد الرحيم فودة ص38-39.

قال تعالى: {فَكَذَّبَ وَعَصَى، ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى، فَحَشَرَ فَنَادَى، فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} 1. فبلغه موسى أمر ربه، وحمل إليه أمانة هذه العقيدة، وأراد أن ينقذ قومه بني إسرائيل من عدوانه وطغيانه، فكان مما قاله موسى لفرعون: {إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ، حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِي بَنِي إِسْرَائِيلَ} 2. فضاق فرعون بهذه الجرأة عليه وعلى الملأ من حوله.. {قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} 3. ولكن موسى عاد يطلب من فرعون أن يطلق سراح بني إسرائيل وذلك حيث يقول الله تعالى -حكاية عن موسى-: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائيلَ} 4. غير أن فرعون لم يستجب له، وزاد في عُتُوِّه وغُلُوِّه حين قاله له -كما حكى الله ذلك عنه:

_ 1 النازعات: "21-24". 2 الأعراف: "104-105". 3 الشعراء: "27". 4 الشعراء: "22".

{لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} 1. وتحول الأمر بعد ذلك إلى التحدي، وأحضر فرعون المهرة من السحرة، وجمعهم من المدائن؛ كي يظهر عجز موسى أمامهم.. وكان للسحر منزلة عظيمة بمصر في ذلك العصر ... وفي ذلك اليوم الذي جمع له الناس، وبعد أن ألقى السحرة ما بأيديهم من العصي والحبال، وسحروا أعين الناس، ألقى موسى عصاه -تنفيذًا لأمر الله- فإذا هي حية تسعى، وإذا هي تلقف ما يأفكون، وألقي السحرة ساجدين، وكانوا أول من آمن برب موسى وهارون، بين تهديد فرعون ووعيده لهم بقتلهم، وصلبهم في جذوع النخل.. وقال هؤلاء المؤمنون من السحرة لفرعون: {لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا، إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى، إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى} 2. بعد أن فوجيء فرعون بما لم يكن يتوقع من إيمان السحرة، وفضيحة الهزيمة أمام موسى، اشتدت به غُلُوَاء العناد والكبرياء وأزمع قتل موسى، والخلاص من بني إسرائيل.. ولكن موسى -عليه السلام- قال لهم -كما حكى الله عنه: {اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأرض لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} 3.

_ 1 الشعراء: "29". 2 طه: "72-74". 3 الأعراف: "128".

وهنا تتدخل القدرة الإلهية لترد عن موسى والمؤمنين من قومه ما يكتنفهم من البلاء، ويأخذ الله آل فرعون بالسنين ونقصٍ من الثمرات، وتتعرض مصر لألوان من البلاء والشقاء، ويحس أعداء العقيدة من قوم فرعون الحاجة إلى دعاء موسى فيقولون: {يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ} 1. ولم تُجْدِ الآيات البينات التي أجراها الله على يد موسى في صرف فرعون وقومه عن عتوهم وكفرهم، فلم يبق إلا أن تحق عليهم كلمة العذاب تطبيقًا لسنة الله، وأوحى الله إلى موسى أن يسري بعباده ويرحل بهم كما قال عز وجل: {فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ} 2. ورحل موسى بقومه وأمره الله -حين أدركوا البحر ومن خلفهم فرعون وجنوده- أن يضرب البحر بعصاه، فضربه فانفلق، وانحسرت الأمواج من الجانبين كالجبال، ونجى الله موسى ومن معه، واقتحم فرعون الطريق وراءهم، ولكن ما كان يتوسط البحر حتى أطبق عليه الموج. {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} 3.

_ 1 الأعراف: "134-135". 2 الدخان: "23". 3 يونس: "90".

ولكن ذلك كان بعد فوات الأوان، فكان الرد الإلهي على فرعون: {آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ، فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} 1. هذه صورة من إكرام الله تبارك وتعالى لمن يقف في صف العقيدة، مؤمنًا بها، ثابتًا عليها، عاملًا على إقامتها في الأرض، ونشرها بين الناس.. مصداقًا لقوله تعالى عز وجل: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأرضوَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ، وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأرضوَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} 2. ومصداقًا لقوله تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ، مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ، وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} 3. الصورة الثانية: أما الصورة الأخرى فتبدأ بفرح بني اسرائيل بسبب نجاتهم من بطش فرعون وطغيانه، ولكنهم لم يكادوا يمضون مع موسى بعد خروجهم من البحر حتى رأوا قومًا يعبدون أصنامًا لهم، فإذا بهم يقولون لموسى:

_ 1 يونس: "1-92". 2- القصص:" 5-6". 3 الدخان: "30-32".

{اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ، إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 1. وسرعان ما نَسُوا الله الذي أنجاهم من الظلم والطغيان، بما ساق من الآيات والمعجزات التي تدعو إلى الثبات على الإيمان، ومع ذلك فقد شملتهم رحمة الله وفجر لهم -سبحانه- الماء من الحجر اثنتي عشرة عينًا، وأرسل عليهم الغمام يقيهم حرارة الشمس، وأنزل عليهم المنَّ والسلوى. ولما مضى بهم موسى في صحراء سيناء، ثم ذهب لميقات ربه وخلف أخاه هارون نائبًا عنه، اتبعوا سبيل المفسدين وعصوا هارون وأطاعوا السامري، الذي قدم لهم عجلًا أوهمهم أنه إلههم وإله موسى، وطلب إليهم أن يعبدوه، فأطاعوه وانصاعوا له.. وتذكر التوراة أن موسى حين عاد وأبصر العجل، ورأى قومه يرقصون حوله.. لام أخاه فاعتذر إليه "بأن هذا الشعب شرير". لقد صرفهم السامري عن عبادة الله، وفتنهم بعبادة صنم أبكم لا يسمع ولا يفهم، ولم يَأْبَهُوا لهارون وهو يقول لهم: {يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي} 2. ولقد كان موسى -عليه السلام- من قومه في جيل ذليل، لا يصلح لقتال فلما أن دعاهم لدخول الأرض المقدسة قائلًا: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأرض المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} 3.

_ 1 الأعراف: "138-139". 2 طه: "90". 3 المائدة: "21".

لم يكن جوابهم إلا أن رَدُّوا على موسى الذي يدعوهم إلى العزة ودخول الأرض التي كتب الله لهم قائلين: {يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ} 1. وامتلأت نفوسهم بالفزع من ملاقاة أعدائهم، وقالوا: {يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} 2. وكان أن عاقبهم الله بأن يتيهوا في الأرضأربعين سنة، قبل أن يدخلوا الأرض المقدسة، كما قال عز وجل: {قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأرض فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} 3. ولعل من حكمة الله تبارك وتعالى في هذه العقوبة ما ذكره "ابن خلدون" من أنها "لإفناء أبناء الجيل الذين خرجوا من قبضة الذل والقهر والقوة، وإنشاء جيل آخر عزيز لا يعرف الأحكام والقهر ولا يسام الذل والهوان". لقد أكرم الله هؤلاء في مرحلة التزامهم بالعقيدة بالآيات الباهرة، وأسبغ عليهم نعمه الكثيرة، وأنجاهم من عدوهم، فاتخذوا في البحر طريقًا يبسًا، أطبق الموج فيه من بعدهم على عدوهم، ثم لما انحرفوا عن العقيدة، وجانبوا طريقها القويم عاقبهم الله بالتيه أربعين سنة.. وذلك هو الدرس العظيم الذي

_ 1 المائدة: "22". 2 المائدة: "24". 3 المائدة: "26".

يجب أن تربى عليه نفوس المؤمنين ليثبتوا على إيمانهم واثقين بنصر الله الذي يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} 1. والله تبارك وتعالى هو ولي المؤمنين الذين تشرق أرواحهم بنور الإيمان، فتشف وتشع بالخير والإحسان، وتنكشف لهم حقائق الأشياء، وتتضح أمامهم معالم الطريق، فلا ينحرفون ولا يضلون، وتتلاشى من حياتهم ظلمات التيه والشرود، والمذلة والهوان، والشك والقلق، والرياء والنفاق.. تلك الظلمات الكثيفة التي تتجمع في حياة الأمم عندما تنحرف عن منهج العقيدة وتحتكم لغير منهج الله وفي ذلك يقول عز وجل: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} 2.

_ 1 محمد: "7". 2 البقرة: "257".

عقيدة التوحيد في مواجهة الجاهلية

عقيدة التوحيد في مواجهة الجاهلية: 1- لقد مرت البشرية قبل دعوة الإسلام بتجارب كثيرة، شهد معها تاريخ الإنسانية صورًا من الصراع تجاوز حدود الجدال الفكري، والحوار الكلامي، إلى معارك طاحنة، أريقت فيها الدماء، وتناثرت الأشلاء، وكانت المجتمعات الإنسانية في قبضة هذه الجاهليات المتحاربة، وفي ظل طغيانها الشرس تعاني من سطوة الغالب مثل ما كانت تعاني من سطوة المغلوب، وما تكاد تخرج من عثرة حتى تقع بأخرى، فمقامها أبدًا

بين الحُفَرِ في ظلامها وبرودها وعَفَنِهَا، ولم يحدث أن تسلمت ذروة عالية تُحِسُّ بها وجودها، أو تَنَسَّمت هواءً طلقًا تشعر فيه بمعنى حياتها وحريتها.. كانت تنتقل من ظلم إلى ظلم، ولا ترى أن مادة القيد قد تبدلت، أو أن حقيقة الأسر قد تغيرت، وإن اختلفت الصورة، وتغير شكل العبودية..؛ ذلك لأن هذه التجارب الجاهلية على اختلاف مصادرها ومراكز تسلطها، سواء أكانت إغراق الإنسان في موجات مادية أو غير مادية لا تعدو أن تكون كحَبَّات متنافرة حجمًا وشكلًا ولونًا، ينظمها سلك واحد أو هي من خيط العنكبوت، ذلك هو فساد العقيدة، الذي يتمثل في الكفر بالله، وإنكار اليوم الآخر، وجحود كرامة الإنسان، وتزوير فطرته التي فطره الله عليها.. لا فرق في ذلك بين جاهلية سادت العرب فجمدت معها العقول، وانحرفت النفوس، وفسدت الأخلاق، واضطربت المجتمعات، ونأت عن سبل العلم والحضارة.... وبين جاهلية سيطرت على أمم أخرى تفوق العرب عُدَّةً وعددًا، وكان لها من مضمار الحضارة المادية سبق ملحوظ، بما توافر لديها من طوائف الفلاسفة والعلماء.. غير أن كل هذا لم يكن إلا طِلَاءً رقيقًا زائفًا، لبناء خَرِبٍ مزعزع القواعد والأركان، فيه عناصر تدمير خطير لِمَا ينبغي أن تكون عليه الإنسانية من خيرٍ وأمنٍ وسلام. إنَّ كل جاهلية سبقت الإسلام، سواء كانت جاهلية العرب أو الروم أو الفرس أو غيرها، إنما تعود -على ما بينها من فروق في الصور والأشكال- إلى أصل واحد، وتمارس في الحياة مهمة مشتركة، وتعمل لتحقيق هدف متماثل، شأنها في ذلك شأن الأوبئة، والأمراض الفتاكة، تختلف في أسبابها وأعراضها، وإن كانت تؤول إلى نتيجة واحدة هي: الموت والهلاك. قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ

بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} 1. وقال سبحانه: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} 2. وقال: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} 3. 2- كان من الطبيعي أن تُوَاجَهَ هذه الجاهلية مجتمعةً بما يعصف بها، ويأتي على بنيانها من القواعد، وقد اختار الله تبارك وتعالى لهذه المهمة الجليلة صفوته من خلقه: الرسل والأنبياء لتبليغ الرسالة، ونشر عقيدة التوحيد، وتطهير الأرض من أدران الجاهلية، وألقيت أعباء الرسالة الأخيرة الشاملة الكاملة التي كانت ختام رسالات الله على خاتم الرسل الكرام محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} 4. وقال جل شأنه: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ

_ 1 الروم: "47". 2 آل عمران: "83". 3 المائدة: "50". 4 المزمل: "5".

عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} 1. وقال: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} 2. ولا شك أن في هذا التكليف الرباني، بإظهار دين الله وهداية البشر إليه، وحمل الناس على الحق، أعظم ذكر وأسمى تكريم وأشرف مجد، وهو من أجلِّ المسئوليات لرسول هذه الدعوة وللمؤمنين بها، وفي ذلك يقول جل شأنه: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلونَ} 3. وقد جاءت هذه الرسالة بعقيدة تخاطب في الإنسان عقله ووجدانه، وترشده إلى معرفة ربه والإيمان به، وبعبادات تُحْكِمُ صلته بخالقه، وتزكي نفسه وتسمو بروحه.. وبأحكام تحقق للمجتمع البشري ما يصلحه وينظمه، ويمنع عنه أسباب الشقاق والنزاع، بما حرصت على إقامته من ركائز العدالة والأخوة، ودعائم الحرية والمساواة والسلام، وبأخلاق تطهر النفوس، وتربي الضمائر، وتغرس فيها أنبل الصفات وأكرم الفضائل.. ولا يتم الوصول إلى هذه الأهداف الكبرى إلا بجهاد صادق خالص لا يبتغي غير وجه الله، ولا يقصد إلا إلى إعلاء كلمته ورفع رايته. وفي ذلك تصحيح لكل انحرافٍ أصاب البشر فأبعدهم عن جادة الحق، ومنهج الرشاد.

_ 1 الفتح: "28". 2 الصف: "9". 3 الزخرف: "44".

قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} 1. ويقول تبارك وتعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} 2. ولا شك أن كل رسالة سماوية بعث بها رسول كريم من رسل الله الأخيار عليهم السلام، كانت تواجه لونًا من الجاهلية، يحمل أوزارها ويوقد نارها طغاة أشرار، يجحدون الحق وهم يعرفونه؛ ضمانًا لاستمرار استعبادهم للناس، أو إيثارًا لموروثات فاسدة قلدوا بها من سبقهم، أو امتيازات كانت بأيديهم وهم يخشون أن تنزع منهم. {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} 3. 3- إن كل رسالة سبقت رسالة الإسلام كانت خاصة بقوم، وكانت تواجه جاهلية محدودة بزمان ومكان، وتنسخ إحداهما الأخرى بأمر من الله، وحين جاءت رسالة الإسلام بعمومها وشمولها وخلودها، نسخت كل ما عداها، وكانت الفرقان الأخير بين الحق والباطل والهدى والضلال، ومن أولى خصائصها: أنها صالحة لكل زمانٍ

_ 1 الروم: "30". 2 آل عمران: "85". 3 النمل: "14".

ومكانٍ، وأنها باقية مستمرة لا تنقطع حتى يرث الله الأرض ومَنْ عليها.. وفيها إلغاء كامل لكل جاهلية عاصرتها أو وجدت قبلها أو حدثت بعدها، أو يمكن أن تحدث في سير البشرية في مستقبل أيامها، وعلى هذا فإن على الذين أكرمهم الله بها، ومنَّ عليهم باتباعها والانتساب إليها، أن يكونوا في مستوى أهدافها الكبرى في الإصلاح الإنساني الكامل، واقتلاع جذور الفساد، وهدم مواقع الضلال ... ولا يتم ذلك إلا وفق المنهج الرباني الذي رسمه لأنبيائه، وهم دعاة الخير ورُوَّاد الحق ... وصفوة ذلك كله في القرآن الكريم وسنة النبي صلى الله عليه وسلم.. فمن سار على هذا النهج أفلح وانتصر، ومن جانَبَه وأعرض عنه خاب وخسر، وفي كتاب الله نماذج رائعة من خطة الأنبياء في الدعوة والإصلاح؛ حيث ترمي جميعها إلى إثارة المعنى الكريم في الإنسان، بدعوته إلى الإيمان بالله وتقواه وطاعته، في إخلاصٍ تامٍ وتجردٍ كاملٍ، وبعد عما تميل إليه النفوس من أثرة وطمع، مع الزهد في جلب المغانم، والرضا بدفع المغارم، والنصح في القول والعمل، وأمانة في التبليغ.. وفي سورة الشعراء بخاصة بيان ذلك وتفصيله. قال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} 1. وقال سبحانه في بيان منهج خاتم رسله في الجهاد والدعوة وصدق الاتباع: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 2.

_ 1 الأنعام: "90". 2 آل عمران: "31".

العقيدة والإنسان

العقيدة والإنسان الإنسان بين الهداية والغواية: 1- من طبيعة هذا الإنسان أن يحس بالسعادة والشقاء إحساسًا تشترك فيه الأبدان والأرواح على السواء.. تلك حكمة الله في خلق هذا الإنسان الذي كرَّمه الخالق الحكيم، حين خلقه في أحسن تقويم، بدأ خلقه من طين الأرض، ونفخ فيه من روحه وميَّزه على سائر المخلوقات بخصائص تَجِلُّ عن الحصر، ونعم لا يحصيها العد، وجعله خليفة في الأرض، وحمَّله أمانة إعمارها وإصلاحها، وحدَّدَ له فيها أجلًا لا يزيد ولا ينقص، ثم يرجع بعد ذلك في اليوم الموعود إلى الله، خالقه ورازقه ومفيض النعم عليه، حيث يلقى جزاء ما عمل، ويصير إما إلى السعادة الخالدة، أو شقاء الأبد. قال تعالى: {ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ، الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ، ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ

فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ، وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرض أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ، قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} 1. 2- والإنسان في هذه الحياة، حياة التكليف والابتلاء بين طريقين: طريق الهداية، وطريق الغواية، وهما طريقان مختلفان بدءًا ونهاية، ويؤول كل منهما بسالكه إلى المصير الذي يتناسب مع المنهج الذي التَزَمَه، والعمل الذي قَدَّمَه، فمن زكَّى نفسه بالتقوى فقد أفلح، ومن دنسها بالمعاصي فقد خاب، وفي ذلك يقول سبحانه: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} 2. ويقول جل شأنه: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} 3. على هذين الطريقين يسير فريقان من البشر لا اتفاق بينهما في المنطلق وخط المسير، ولا تلاقي بينهما في الغاية ونهاية المصير، وكيف يستوي من يعبر الدروب الواضحة النيرة، ومن يجتاز المهالك، ويتغلغل في أحشاء الظلام؟! ...

_ 1 السجدة: "6-11". 2 الشمس: "7-10". 3 يونس: "108".

قال تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُونَ} 1. وفي ذلك يقول عز وجل: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} 2.

_ 1 السجدة: " 18". 2 الأنعام: "122".

طريقان لا تسوية بينهما

طريقان لا تسوية بينهما: 1- هنالك فرق هائل كبير بين جوهر الدعوة الإلهية ومبادئها وأهدافها ووسائلها وآثارها في حياة الفرد والجماعة والإنسانية في آفاقها الواسعة ومجالاتها الرحبة.. وبين جوهر الدعوات الأرضية والتصورات الضيقة، والنظم الملتوية ... إن المحور لهذا الفرق -كما يحدده المنهج القرآني- هو عدم التسوية بين المنهجين المتضادين، والطريقين المتعارضين، وهي حقيقة تشير إلى التباين الكامل بين الوجود الحق الذي ينبغي أن يحرص عليه الإنسان ويتطلع إليه، وبين الضياع الفارغ الذي يجب أن يحذر منه وينأى عنه إذا أراد لإنسانيته أن تمارس وجودها الذاتي الصحيح على هذه الأرض. إنها حقيقة تدركها العقول وتشعر بها النفوس وتستوعبها الضمائر.. حقيقة فطرية بسيطة لا مجال للمكابرة فيها والتعامي عنها، والغفلة عن إيحائها العميق ومدلولها البالغ ... ولذا فقد عرضها المنهج القرآني بأسلوب جميل أخاذ، نابض

بالحركة والحياة، مُشِيرًا -بالمثل المصور والمشهد المعبِّر- إلى أنها حقيقة يراها الناسُ بأبصارهم، ويشهدونها بحواسهم، ويعيشونها بخلجات قلوبهم ودفق مشاعرهم. إنها مشاهد مرئية محسوسة مدْرَكَةُ في نواميس الكون، وواقع الأحياء، تستثير في الإنسان روح النزوع نحو الخير، وتبعد به عن الشر، وتحدد له السبيل الطيب الكريم، سبيل الإيمان الذي يحقق السعادة والطمأنينة والفلاح، وتنأى به عن السبيل المعوجة الفاسدة التي لا تتضح فيها الرؤية الصحيحة بما يغمرها من الظلام، ولا يفيء الإنسان فيها إلى ظل الأمن أو ينعم بحقيقة الحياة ... وفي ذلك يقول عز وجل: {وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ، وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ، وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ، وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ، إِنْ أَنْتَ إِلاَّ نَذِير} 1. 2- فإذا كان من طبيعة الإنسان -كما أسلفنا- الإحساس بالسعادة والشقاء وإدراك هذا التنافي البعيد بين طريقي الخير والشر.. فإن من طبيعته كذلك الحرص على الثواب، والخوف من العقاب، ولهذا كان لا بد من تربيته على قاعدة المسئولية ومبدأ الجزاء، فذلك هو الحافز القوي الذي يدفع إلى الخير، والرادع الحاسم الذي يُكَفْكِفُ من غُلُوَاء الشر.. وذلك هو نهج الفطرة الذي جاءت به عقيدة الإسلام.. وهو نهج لا مجال لإنكاره والعدول عنه، فلا قيمة لأي محاولة ترمي إلى تربية الإنسان بمنأى عن فطرته، وتقويمه بما يتنافر مع خصائصه،

_ 1 فاطر: "19-23".

فهي محاولة محكوم عليها بالإخفاق؛ لأنها مبنية على المغالطة والأوهام، مهما برع أصحابها في تزيينها والدعاوة لها، وأطلقوا عليها أجمل الأسماء وأبرز الشعارات ... وفي ذلك يقول عز وجل: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} 1.

_ 1 النور: "40".

العقيدة ذخيرة الخير

العقيدة ذخيرة الخير: 1- يقف هذا الإنسان بمقتضى حكمة الله عز وجل في خلقه وتكوينه بين قوتين، وعلى مفترق طريقين مختلفين، إنهما قوتا الخير والشر، وطريقا الهدى والضلال، ولو ترك الإنسان ونفسه في تجاذب القوتين والحيرة بين الطريقين؛ لما استطاع أن يحقق المسلك القويم والنهج الصحيح بل تلتوي عليه السبل وتَكْتَنِفُهُ الهواجس ويستبد به القلق ويضيع في غمار الحيرة.. وهنا لا بد أن تحيط به جواذب الأهواء، وتستبد به زخارف الحياة ومغرياتها، فينزلق في تيارها، ويخضع لضغطها، ويسلك سبيل الشر، وينحرف عن الغاية التي خلق من أجلها، وينتهي إلى الخسران المبين. قال تعالى: {وَالْعَصْرِ، إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} 1. ويقول عز وجل: {إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا، إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا، وَإِذَا مَسَّهُ

_ 1 العصر.

الْخَيْرُ مَنُوعًا، إِلاَّ الْمُصَلِّينَ، الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ} 1. 2- لا بُدَّ إذًا لقوة الخير في الإنسان وجوهر الفطرة فيه من ذخيرة تقويها، ورِفْدٍ يُنَمِّيهَا؛ حتى لا تؤثر عليها الأهواء، ولا تفترسها الشهوات، ولتكون الحاجز القوي الذي يصُدُّ دواعي الشر وطغيانه المدمر، وليست تلك الذخيرة الحية والرفد الدائم والمدد القوي سوى العقيدة الحقة التي أنعم الله بها على عباده، وبعث بها رسله، وأنزل بها كتبه؛ إنها الهداية الإلهية التي جاءت تتعهد هذا الإنسان في جميع أطواره وحالاته، وتربيه على مراقبة الله وخشيته، وترشده إلى ما يصلحه ويزكيه وينجيه في الدارين، وقد وضع الله تبارك وتعالى هذه الهداية أساسًا لحياة الإنسان منذ خلقه، وكلفه عمارة هذه الأرض. قال تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ، قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} 2. وبعد أن أرسل سبحانه بهذه الهداية رسله الكرام أكمل ببعثة محمد -صلى الله عليه وسلم- هدايته، وأتم نعمته، وجعل هذه الرسالة الخاتمة دستور الحياة للبشر جميعًا تهديهم إلى أقوم السبل وأصح المناهج وأكرم الأخلاق وأعدل النظم. قال عز وجل: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} 3.

_ 1 المعارج: "19-23". 2 البقرة: "37-38". 3 الاسراء: "9".

العقيدة تحدد الهدف

العقيدة تحدد الهدف: 1- تضع العقيدة هذا الإنسان في موضعه الصحيح، فتنير له دربه في الحياة؛ ليسير على هدى وبصيرة، ويسلك سبيل الحق والرشاد، في معالم واضحة، وخطىً ثابتة، وهدفٍ مرسوم، وقد خلق الله الإنسان في أحسن تقويم، وسوَّاه ونفخ فيه من روحه، وجعله خليفة في الأرض ليعمرها بالخير، وليقيم فيها مُثُلَ العقيدة الصالحة، والفكر السليم، والخلق القويم، وغَرَسَ فيه روح العبودية الخاشعة، والامتثال الكامل، وجعله ذلك المخلوق الجدير بأن يحمل هذه الأمانة الثقيلة، وينهض بأعباء هذه الرسالة الجليلة، بما أفاض عليه من النعم التي لا تحصى، وما زوده به من عقل مدرك، وفطرة نقية، وضمير طاهر، وإرادة فاعلة، وكلفه أن يسعى في إصلاح نفسه، ورعاية أهله، والبر بإخوانه، وأن يلتزم ما شرع له ربه من أحكام، وحَدَّ من حدود، ويؤدي ما افترضه عليه من فرائض، ودعاه إليه من فضائل، وفي هذا كله تكريم له، وإعزاز لشأنه، وإحاطة له بجو الطمأنينة والراحة النفسية. قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} 1. وقال عز وجل: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ، إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُون} 2.

_ 1 الإسراء: "70". 2 التين: "4-6".

وقال: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ، مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ، إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} 1. 2- ثمة -إلى جانب هذه الحقيقة- واقعٌ صارخٌ مرير وهو: أن هذا الإنسان قد جعلته الفلسفة اليونانية حيوانًا ناطقًا، وورثت المدنية الأوربية هذه النزعة، فرسمت له هدفه استغراقًا في المتاع الحسي والتقدم العلمي، ثم ظهرت المادية التاريخية فحولته إلى معدة جائعة لا ضمير لها ولا شعور، في تيار الاقتصاد الذي يوجه البشر إلى الصراع الحاقد بين الطبقات.. وفَقَدَ الإنسان في قبضته هذه العقائد الغامضة، والفلسفات المضطربة معنى وجوده الحق؛ ذلك لأن كل هذه المحاولات التي أرادت أن تحدد للإنسان هدفه كانت متنافرة مع أصل نشأته وجوهر فطرته، وحسبت أن توسُّعها في فهم المادة وطرق التصنيع يُخَوِلُهَا وضع هدف للإنسان، فكان فيما جاءت به -على ما بينها من تناقض واختلاف- التدمير الشامل لخصائص الإنسان، والانحراف الخطير عن الهدف الخير الكريم الذي يجب أن يحاول بلوغه. 3- إن العقيدة وحدها -عقيدة التوحيد- هي التي تحدد للإنسان هدفه في الحياة، باعتباره خليفة في الأرض، مسئولًا عن إعمارها ونشر الخير والصلاح فيها، وبذلك تسمو به هذه العقيدة إلى ذُرَى الكرامة وآفاق الخير، وتجعل لحياته معنى الوجود الحق، لا الوجود المادي المثقل بالحس وجواذب الأرض، إنه يحمل بالإيمان رسالة الإصلاح ومنهج التقويم فيحرر إيمانه وجدانه تحريرًا كاملًا، ويزوده بأرفع مُثُل الحق

_ 1 الذاريات: "56-58".

والكمال التي تعود إلى أسمى الاعتبارات الذاتية فيه -اعتبارات الفطرة والتكريم والمسئولية- بحيث تصغر إزاءها -وهي من نعم الله وفضله- كل القيم المادية مهما بلغت، وتنهار في فكره ووجدانه آثارها، وتصبح خارج حدود التحكم به والسيطرة عليه؛ لأنها اعتبارات لا تمس جوهره الأصيل، وروحه العالية، وإن كانت تلامس جانب الضعف فيه، فتقصيه أحيانًا عن التصاعد والسمو، وتهبط به -ولو في حدود الخاطرة والتمني- من أجواء الرفعة والإشراق، لكنه لا يلبث -بوحي عقيدته وأثرها العظيم في الفكر والسلوك- أن يصحو من غفلته، وينأى عن الانزلاق، ويدرك الحقيقة، ويتحرك بروح الإيمان نحو الهدف، في ثقة وصبر ويقين. إن الذي أيقظ بصيرته فاهتدى إلى طريق الخير، ونأى عن طريق الشر، هو هذا التذكر الذي تثيره العقيدة في قلبه وفكره وضميره، فلا يَزِلُّ ولا يتيه، ولا يستغرقه الشرود، ويعصف به تيار الضياع.. وإلى هذا يشير قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} 1. 4- وليس أدل على تحرير الإيمان لوجدان المؤمن من الخضوع للقيم المادية بما فيها من أموال ومطامع وجهالة واستكبار، حتى لا يضعف الإنسان أمامها، ويناله الوهن أمام إغرائها الشديد، وبريقها الخادع، من هذا الحوار القرآني الرائع الذي تصوره قصة قارون، وفي ذلك يقول عز وجل: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ

_ 1 الأعراف: "201".

إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ، وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأرض إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ، قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ، فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ، وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الصَّابِرُونَ، فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأرض فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ، وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ، تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأرض وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} 1.

_ 1 القصص: "76-83".

إقصاء العقيدة عدوان على الإنسان

إقصاء العقيدة عدوان على الإنسان: 1- إن أي محاولة لإقصاء الإيمان عن حياة الإنسان، وحجب أشعته عن أن تغمر الفرد والمجتمع بالضياء، ليتاح لطواغيت الأرض وأبالسة الشر إخضاعه لمنهج مادي، لا مكان فيه لأشواق الروح وقيم الخير ومثل

الحق في زحمة البحث عن الطعام، ولا سيطرة فيه لغير قيود التراب وضغط الآلة.. إن أي محاولة لا تقيم لغير المنهج المادي أي وزن أو اعتبار -كما يعمل على ذلك الماديون- لا تعدو أن تكون في حقيقتها وفيما تهدف إليه، عدوانًا صارخًا على الإنسان وتجاهلا لحقيقته، وزِرَايَةٍٍ خطيرة لمعنى الإنسانية فيه، وإيذاءً شديدًا له.. ذلك أن أي دعوة تتخطى حدود الله وتتجاوز شريعته، وتعادي منهجه الرباني المحكم العظيم، إنما تهبط بالإنسان من آفاق السمو والطهر والكرامة إلى حضيض الضعة والدنس والمهانة. إنها تدفعه في طريق التخلف والانهزام، وتجعله سادرًا في الضلال، غارقًا في الظلام، من حيث تزعم أنها تحرره وتفتح له منافذ النور، وتقوده في معركة انتصار كبير: قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ، اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ، ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّا تُؤْفَكُونَ، كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} 1. وقال تعالى في بيان حقيقة هذا المنهج المنحرف، وتقرير أنه من إيحاء الشيطان؛ ليوهن النفس ويصُدَّها عن الثقة بالله: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} 2.

_ 1 غافر: "60-63". 2 البقرة: "268".

ولقد صور القرآن الكريم أولئك الذين لم يؤمنوا بالله بأن ينبوع الرحمة قد غاض في قلوبهم وفقدوا معنى إنسانيتهم وكانوا مثلًا في الشح وقسوة القلب وموت الضمير.. وذلك حيث يقول عز وجل: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} 1. ولم يكف هؤلاء -وقد جف معين الإحسان في قلوبهم- أن يمتنعوا عن البذل، ويمسكوا أيديهم عن العطاء، بل راحوا يفلسفون بخلهم بإطار من الاستهزاء، ونزعة من الاستعلاء! ... 2- ومن عجب أن هؤلاء الذين انعدم فيهم المعنى الإنساني، حين فقدوا الضمير المؤمن الذين يربط الإنسان بالله القوي القادر، الذي يعلم ما تخفي النفوس وما تكن السرائر، إن هؤلاء أكثر الناس ادعاءً بنمو الشعور الإنساني فيهم ... فهم يتخذون من الفكرة الإنسانية المرتكزة على العمل العقلي وحده دستور الحياة، ويجعلونها مقياس الفضيلة والرذيلة، والمعيار الذي يحدد الخير من الشر، ويحاولون أن يخضعوا للعمل العقلي وحده كل شيء، والواقع أن وضع العقل موضع الحكم المطلق، وجعله القيِّم على حياة الإنسان، ليس سوى فرض لا يغني من الحق شيئًا، "ولايستطيع أصحابه أن يصلوا به إلى الحكمة المقصودة من خلق الإنسان، وجعله خليفة في الأرض، يعمرها وينميها وينشر فيها روح الأمن والطمأنينة والاستقرار، وقد جربته الإنسانية حينًا من الدهر، ولا تزال تتقلب في جمره بين حرب حامية تأكل الأخضر واليابس، وتدمر الجهود التي تبذل في بناء الحضارات وإقامة المنشآت،

_ 1 يّس: "47".

وبين حرب باردة تملأ القلوب خوفًا وهلعًا، وهي في الحربين لا تعرف إنصاف مظلوم من ظالم، ولا تترفع عن استعباد الضعفاء وسلب الحقوق والحريات، وهي في الحربين لا تتسم روحًا من نسمات الروحية الفاضلة التي تعصم الإنسان من التبذل في نفسه، وتقيه الارتكاس في حمأة الإباحية الضالة، والمادية المظلمة"1.

_ 1 محمود شلتوت: "من توجيهات الإسلام" ص13.

الإنسان في رحاب الإيمان

الإنسان في رحاب الإيمان: 1- إن من يتقصَّى بالدرس والتحليل أثر الإيمان في النفس الإنسانية، تحليةً لها بأنبل الصفات وأكرم الأخلاق، وتخليةً لها عن الشر والفساد والانحراف، يَبْهَرُهُ -ولاشك- سر هذا الإيمان وصنعه العجيب.. فهو إلى جانب تطهيره للنفس، وإنماء معاني الخير فيها، وعلاج ما يعتريها من علل، وما يلم بها من تغير، تلك الذخيرة الحية التي لا تنفد، في مدها الإنسان بالقوة والصبر، والطمأنينة والأمل في معركة الحياة التي يحتدم فيها الصراع بين الخير والشر، والحق والباطل، وما يُسْعِدُ المرء وما يشقيه.. وحين ينأى الإنسان عن نبع الإيمان العذب الغزير يعيش في ظلمأ دائم، وحين ينصرف عن نوره الوضاء يضل في ظلام الحياة، ومن عاش في ظمأ وظلام لا يرجى له أن ينعم بحياة هادئة هانئة، أو يقطع رحلة العمر في أمن واطمئنان، ويبلغ النهاية الطيبة والمصير الحسن.. إنه حين يفقد وقود الإيمان، تُشَلُّ فيه قوى الحركة الخيِّرة، وينعدم في ذاته عنصر الثبات والاستقرار، ويفترسه القلق والاضطراب.. وتتحكم به ردود الفعل، وتنقله دوامة الأحداث من سعادة موهومة يتعلق بها، إلى شقاء مرير يمزقه فينهار وييأس.. وقد صوَّر الله عز وجل حقيقة هذا النموذج الخاسر بقوله:

{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} 1. 2- أما من يحيا في رحاب الإيمان، ويعتصم بحبله المتين، ويستضيء بنوره المشرق، فهو يعيش حياته في رؤية واضحة، يدرك بها حكمة الله الأزليَّة، ورحمته بخلقه، وسنته في هذا المكان، وقضاءه النافذ، وقدرته البالغة، فتطمئن بذلك نفسه، وتصفو سريرته؛ لأنه يوقن أن ما أصابه لم يكن لِيُخْطِئهُ، وما أخطأه لم يكن لِيُصِيبهُ، فلا يتسرب إلى قلبه الشك، ولا ينفذ إلى وجدانه القلق، بل يسير في دنياه بخطىً ثابتة موزونة، ويسعى إلى أن يبلغ ما يصبو إليه من نهاية صالحة ومصير كريم. قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ، جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} 2. فالمؤمن إنسان موصول القلب بالله تبارك وتعالى تزوِّدُه صلته هذه بطاقة كبرى من اليقين والثقة، والعزيمة والصبر، تأتيه النعم الوفيرة فلا يبطر ولا يستكبر، بل يشكر ربه على آلائه، ويحمده على مزيد نعمائه، وتصيبه المحن، وتحل به الشدائد، فلا يقنط ولا ينهار أو

_ 1 الحج: "11". 2 البينة: "7-8".

تمزق قلبه الهموم والحسرات.. بل يعتصم بالصبر، ويرضى بالقدر، ويستمسك بعزائم الأمور. {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} 1. عن صُهَيبِ بن سنان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عجبًا لأمر المؤمن، إِنَّ أمره كٌلَّهُ له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له" 2. 3- ولقد وصف الله تبارك وتعالى هذا الإيمان -وهو مقياس حق وعدل واطمئنان.. بأنه روح يبعث الحياة الخيرة الكريمة في كيان الإنسان، ويخرجه من ظلمات الضلالة إلى نور الهداية، فإذا هو إنسان سويٌّ كيس فَطِنٌ، يسير في مدارج الكمال، ويؤدي لكل ذي حق حقه، وينفع نفسه والناس، ويحب لإخوانه ما يحب لنفسه، ينظر إلى الحياة نظرة المتجاوب مع ما فيها من خير وبر ومُثُلِ رفيعة، لا تغره بما تقدم من زخارف، ولا تأسره بما تتيح من متع، بل يمر بها في جوانبها هذه كأنه غريب أو عابر سبيل، ويراها على حقيقتها -دون بهرج أو خداع- متعةً زائلةً، وسحابةً عارضةً، وحطامًا تافهًا لا يتعلق به عاقل، فهي عنده كما قال فيها سبحانه: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأرض مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأرض زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا

_ 1 الشورى: "43". 2 رواه مسلم.

حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} 1. ولكن المؤمن -مع ذلك- لا يهرب من الحياة وينهزم أمامها، ويفرق نفسه في أوهام وأحلام.. أو يرى في اشتغاله بنفسه وتساميه بروحه سبيل الخلاص، بل يجد أنه يحمل أمانة الله، ودعوة الحق ورسالة الهدى، ولا بد له من أن يؤدي الأمانة، ويبلغ الرسالة، ويقيم شرعة الحق بجهاد وصبر كما قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ} 2. ويدرك أنه بغير هذه الروح الإيجابية لا يعد من الأحياء ولو بلغ من الكبر عتيًا، وعاش في راحة وعافية، ورغد من العيش.. قال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} 3. وفي قوله: {يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ} تأكيد عظيم على هذه الإيجابية الرائعة التي هي إحدى خصائص المنهج الإيماني.. وقال سبحانه مخاطبًا نبيه -صلى الله عليه وسلم- مخبرًا أن وحيه إليه روح ونور: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْإيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} 4.

_ 1 يونس: "24". 2 محمد: "31". 3 الأنعام: "122". 4 الشورى: "52".

4- وقد بين جل شأنه أن الحياة النافعة لا تتم إلا بالاستجابة الكاملة لله والرسول، فَمَنْ أصم أذنيه عن هذه الدعوى الخيرة، فليس مِمَّنْ يستحق أن يوصف بالحياة.. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} 1. قال الإمام ابن قيم الجوزية رحمه الله: "فمن تحصل له هذه الاستجابة فلا حياة له وإن كانت له حياة بهيمية مشتركة بينه وبين أرذل الحيوانات، فالحياة الحقيقية الطيبة هي حياة من استجاب لله ظاهرًا وباطنًا فهؤلاء هم الأحياء وإن ماتوا، وغيرهم أموات وإن كانوا أحياء الأبدان، ولهذا كان أكمل الناس حياة أكملهم استجابة لدعوة الرسول، فإنَّ كل ما دعا إليه فيه الحياة، فمن فاته جزء منه، فاتهُ جزءٌ من الحياة، وفيه من الحياة بحسب ما استجاب للرسول صلى الله عليه وسلم. إن هذا الإيمان الإيجابي الذي يحيي ويبني، ويحفز إلى الخير ويردع عن الشر، هو ذلك الإيمان الذي يمتزج بروح الإنسان وفكره وضميره. ويملأ عليه وجوده كله، يستمع إلى ندائه إذا دعاه، طاعةً لله، واتباعًا للرسول، وجهادًا وبذلًا، وتبليغًا وثباتًا، ويقينًا بصادق الوعد، وحسن المآب. قال تبارك تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ

_ 1 الأنفال: "24".

الْمُفْلِحُونَ} 1. فإذا أصبح هذا الإيمان مقياس الإنسان في الحياة عرف به حقيقة إنسانيته.. وحقيقة الحياة، ومن أدرك الحقيقة صحَّ سيره، واستقام أمره، ومارست إنسانيته -التي صقلها الإيمان، وملأها بقيم الحق والخير والكمال- وظيفتها في تزكية النفس، وإصلاح المجتمع.. في توازن دقيق، وتكامل رائع، فإذا بالمؤمن إنسان نموذجي في وضوح نظرته، واستقامة سيرته، لا تصرفه أشواق روحه إلى التسامي والتطهير عن أدائه حقوق نفسه وبدنه، وأهله وإخوانه، لا يشده إلى التراب متاعُ الجسد، ولا تلصقه بالأرض لذائذ الحس، ولكنه لا يدع البشر في الأرض لفكرٍ منحرف، ومنهجٍ فاسد، ويعيش في حدود ذاته في عزلة تامة مع الأماني والأحلام.. وصدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي قال: "ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي ولكن ما وقر في الصدر وصدَّقه العمل".

_ 1 النور: "51".

الصلة بالله وأثرها في الطاقات الإنسانية

الصلة بالله وأثرها في الطاقات الإنسانية ... الصلة بالله وأثره في الطاقات الإنسانية: 1- إن من فضل الله علينا أن أكرمنا بهذا الدين الذي جاء هدىً وموعظة ونورًا يضيء لنا معالم الطريق، ويحفزنا إلى كل خير وبر وفلاح، ويصل ما بيننا وبين المُثُل الرفيعة والقيم العالية بأوثق سبب وأشرف نسب؛ حتى نكون دائمًا على بصيرة واعية في هذه الحياة، لا تصرفنا عن الغاية المُثْلَى وهي تقوى الله واتباع أمره واجتناب نهيه أهواء النفس {إِنَّ النَّفْسَ

لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} 1. ونزغات الشيطان {إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ} 2. ولا تنأى بنا عن جادة الحق والصواب مطالب الحياة وشواغلها الكثيرة {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} 3. ولذلك جاءت هذه العقيدة تضع الإنسان -كما أسفلنا- في موضعه الطبيعي الصحيح مخلوقًا لله، قبضة من تراب الأرض فيه نفخة من روح الله. {إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ، فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِين} 4. وقد وفَّرت هذه العقيدة لهذا الإنسان -الذي كرَّمه الله فَنَفَخَ فيه من روحه وحمَّله أعباء الأمانة وجعله خليفة في الأرض- المُنَاخ الملائم لنوازع الخير الأصيلة فيه؛ حيث تنطلق روحه في آفاق السمو والإشراق، وتتحرك إرادته في مجال الخير والإحسان، ويتفاعل فكره مع جوهر عقيدته، وطبيعة وظيفته، وحقائق الوجود من حوله. ولا ريب أن صلة الإنسان الدائمة بربه بقوة الإيمان واستقامة العمل دِعَامَة ذلك كله، فإذا كانت هذه الصلة صحيحة سليمة قوية دائمة تحرك فكر الإنسان وضميره في رحاب الحق والخير والعدل، فلا انحراف عن الهدى، ولا انزلاق في الشرور، ولا ضياع في الغفلة والأهواء. ويكون

_ 1 يوسف: "53". 2 يوسف: "5". 3 الأنعام: "32". 4 ص: "71-72".

الإنسان بذلك نموذجًا طيبًا فاضلًا في صحة مقاييسه، وطهارة نفسه، وصفاء روحه، وصلاح عمله ونبل أخلاقه، ويستحق -بفضلٍٍ من الله- أن يكون ممن ينال الدرجات العالية والثواب العميم. قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ، نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ، نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} 1. عن أبي عمرو -وقيل أبي عَمْرَة- سفيان بن عبد الله رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله: "قُلْ لي في الإسلام قولًا لا أسأل عنه أحدًا غيرك". قال: "قل: آمنت بالله ثم استقم" 2. إن هذه الصلة بالله تغمر بالاستقامة والخير كيان الإنسان كله، فهي تنبثق كالنبع المتفجر من فطرته الطيبة التي فطره الله عليها، شأنها في ذلك شأن العين الجارية التي تفيض بالماء على الأرض، فتشيع الحياة في جنباتها، فتنبت وتزهر وتثمر، وينتفع منها الإنسان والحيوان والطير. قال تعالى: {وَتَرَى الأرض هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ، ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ

_ 1 فصلت: "30-32". 2 رواه مسلم.

الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 1. وقال سبحانه: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الأرض الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ} 2. 2- وميزة هذه الصلة بالله أنها شاملة تعم جميع طاقات الإنسان وقواه، وتملأ بالخير والبر ووضوح الرؤية وصحة العلم ونبل الغاية كل جانب من جوانب هذه القوى والطاقات، بل إنها لا تَفصِل جانبًا عن جانب؛ لأن في هذا الفصل تمزيقًا خطيرًا للإنسان الذي خلقه الله كيانًا متصلًا مترابطًا في جسمه وروحه وعقله في أصل الفطرة الإنسانية. قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} 3. فهذه الصلة بالله من شأنها أن تمتّن أواصر العلاقة بين هذه الطاقات نفسها، وبينها وبين عقيدة الإنسان ووظيفته في الحياة؛ بحيث تكون كلها متحركة فعّالة -في تعاون وتآزر وإيجابية ووحدة غاية- لا تعمل واحدة وتتعطل أخرى، أو تنطلق إحداها في اتجاه مخالف لاتجاه سواها، فإذا الإنسان مجموعة من الطاقات المتدابرة المختلفة المتصارعة، كما هو حاله اليوم في قبضة النظم المنحرفة التي زورت طبيعة الإنسان وشوَّهت

_ 1 الحج: "5-6". 2 السجدة: "27". 3 الروم: "30".

فطرته، وصرفته عن الصلة بالله التي يجد فيها وحدها حقيقة إنسانيته، ووحدة كيانه، ومصدر أمنه وطمأنينته. 3- ثم إن هذه الصلة بالله تبارك وتعالى لا تفصل بين الإنسان ومطالب دنياه والعمل لآخرته، بل تخرج -في وحدة وتناسق رائعين- بين سعي الإنسان لدنياه وعمله لآخرته، وتصل بين السعي في الأرض والإقبال على الله، في فكر المسلم وضميره، وسلوكه وعمله؛ بحيث يكون الإنسان إذا خلصت نيته وحسن مقصده، وتجرد من الأهواء، وتحرر من نزغات الشيطان في عبادة دائمة لله، وإقبال مستمر عليه، ورضا لا ينقطع له.. وبذلك يحقق الغاية التي خلق من أجلها وهي العبودية الكاملة لله، وهذا هو معنى التوحيد الخالص في الاتجاه التام لله، ونفي العبودية لأحد غيره، فهو وحده ينبغي أن تعنو له الجباه، وتتجه إليه القلوب ويفرد بالامتثال والخضوع. قال تعالى: {فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ، الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} 1. وقال جل شأنه: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} 2. 4- وليست هذه الصلة الكريمة بالله تبارك وتعالى إشراقة الروح في أوقات

_ 1 الحج: "34-35". 2 لقمان: "22".

العبادة المفروضة فحسب، بل هي في كل عمل يتجه به الإنسان إلى خالقه منيبًا إليه مخلصًا له، بحيث تتحول طاقات جسمه وفكره وروحه وضميره وشتى ألوان نشاطه الفطري السليم إلى ضرب من العبادة إذا التزم فيها حدود ما شرع الله، وكان على ذكر دائم من هذه الحقيقة الإسلامية الأصلية وهي: أن هذه الطاقات التي أنعم الله عليه، ينبغي أن يؤدي لواهبها حقه من الشكر، وذلك بأن يضعها فيما خُلِقَتْ له، ويجعل منها سبيل صلته الدائمة بربه. قال تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأرض إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} 1. عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله لَيَرْضَى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، أو يشرب الشربة فيحمده عليها" 2 وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الإيمان بضعٌ وسبعون شعبةً فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان" 3.

_ 1 القصص: "77". 2 رواه مسلم. 3 رواه البخاري.

إنسان العقيدة

إنسان العقيدة: 1- لا بد لأي دعوة حتى تمتد وتبلغ أهدافها وتحقق ما ترمي إليه؛ من أن

تتوافر لها عناصر أساسية، تبث فيها روح الحياة، وتجعلها دانية الثمرات وافية الخِصْبِ والإنتاج، ولعل في مقدمة هذه العناصر وأكثرها فعالية في سير الدعوات ونجاحها، وتقدُّمِها الطاقة البشرية؛ لأن الإنسان -بما حباه الله من مواهب وملكات- يستطيع أن يمنح الفكرة التي يؤمن بها قوة تنقلها من حيِّز التجريد إلى ساحة الحركة، فتكتسب الفكرة بذلك مضمونًا حيًا واقعيًا، يتفاعل مع السلوك، ويحدث تأثيرًا كبيرًا في حياة الفرد والمجتمع، ويمتد ذلك التأثير إلى جوانب الحياة الإنسانية امتدادًا يتناسب اتساعًا وعمقًا مع ما يبذله الأفراد من جهد، ويقدمونه من عمل، فإذا كانت الفكرة صحيحة سليمة طيبة الوسيلة نبيلة الغاية؛ وأضيف إليها صدق الدعوى لها وإخلاص العمل على نشرها، كانت الغرسةَ التي أصابت أرضًا خِصْبَةً ووافاها الماء الغزير والجو المواتي فنمت وأينعت وأنبتت من كل زوج بهيج. 2- من أجل هذا عني الإسلام عناية كبيرة بتربية الإنسان تربية متكاملة، تحرر عقله، وتهذب نفسه، وتطهر وجدانه، وتوازن بين ضرورات جسمه وأشواق روحه، وتزوده بحوافز الخير وتنمي فيه بواعث الإيمان؛ لتحوله بعد ذلك إلى إنسان تملأ عليه عقيدته جوانب حياته، فيضع لنشرها وبث تعاليمها وإعلاء شأنها كل قواه وملكاته، لا يبتغي من وراء ذلك جزاءً ولا شكورًا ولايرمي إلى عرض من أعراض الحياة الدنيا، فَحَسْبُهُ أن يؤدي حق الله عليه بصدق وتجردٍٍٍٍ وإخلاص، ويكون في مرتبة من أثنى الله تبارك وتعالى عليهم بقوله: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} 1. إن إنسان العقيدة الذي يعيش لها وبها، يهب وجوده كله لإعلاء

_ 1 فصلت: "33".

شأنها، ولا يعرف معنى السعادة إلا بالعطاء الدائم الذي يدينه من رضى ربه، ولو كان هذا العطاء بذلًا سخيًا للمال والروح؛ إنه إنسان فَذٌّ أوتي حظًا عظيمًا من وضوح الرؤية وقوة الإدراك ونفاذ البصيرة، فأعطى الحياة قيمتها الحقيقية، ووعى وظيفته فيها فأداها حق أدائها. ولا بد لدعوة الحق من هذه النماذج الرفيعة التي تتحرر من أغلال الأهواء، وتسمو عن نوازع النفس وتعلو فوق قيود التراب؛ لتنطلق بعزم وإخلاص في آفاق رحبةٍ وضيئةٍ، تزرع في جنباتها غرس الإيمان الخالص الذي سرعان ما يخرج نباته بإذن ربه طيبًا داني القطوف. ومن الطبيعي أن المحن والشدائد وعنف المجابهة وحدة الصراع؛ هو المُنَاخ الصالح لإعداد هذه النماذج الفريدة وتربيتها وتكوينها، وجعلها القاعدة الصلبة الثابتة التي يُعَوَّلُ ويُسْتَنَدُ إليها في المعارك والأزمات؛ لأنها الصفوة الخالصة التي لا يزيدها لهب المعارك ووهج الصراع إلا ألقًا وصفاء ... وقد أتيح لدعوة الإسلام في فجر الرسالة إعدادُ فئةٍ من هؤلاء الأفذاذ الذين ضَرَبُوا أروع الأمثلة في البطولة والفداء، وفيهم يقول الله تبارك وتعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} 1. 3- نجد في سيرة السلف الصالح من صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفي تاريخ أبطال الإسلام في مختلف العصور الصورة الحية الرائعة لإنسان العقيدة في إيمانه وبسالته، وإخلاصه وبذله، وصدقه وصبره، ونشعر ونحن نعيش في ظلال هذا الإيمان الدافق المكافح أن هؤلاء الأبرار الذين نهلوا من معين النبوة؛ إنما كانوا الترجمة الحية المتحركة للمبادئ المثلى التي جاءت

_ 1 الأحزاب: "23".

بها عقيدة الإسلام؛ لأنهم آمنوا بها وفهموا ووَعُوا أبعادها الكبرى في الحياة، فلم يقفوا عند حدود معرفتها والتعمق في معناها، بل خَطَوْا بها أشواطًا بعيدة في مضمار التبليغ والتطبيق والتنفيذ، فكانوا مشاعل الهداية التي أضاءت للبشر سبل الرشاد؛ حيث حملوها عبر الصحاري والقفار، وتجاوزوا بها المغاور والجبال، وعبروا بها السهول والبحار، ونشروا رايتها في كل أرض وطئتها أقدامهم، ودخل الناس -بفضل من الله ثم بجهادهم وصدق دعوتهم- في دين الله أفواجًا، وليس هذا الرصيد العلمي والفكري والحضاري الضخم الذي وعاه التاريخ وسطره بمداد المجد والفخار إلا أثرًا بسيطًا من آثار فتح العقيدة النيّر في تلك الأمم والشعوب، ولقد لفتت هذه الظاهرة العظيمة نظر كثير من الباحثين ومؤرخي الحضارة وراصدي نتائجها، وذكر كثير من المنصفين منهم: أن عقيدة الإسلام ومبادئه وثقافته، هي الباعث الأساسي لهذه النهضة الكبيرة التي أفادت الإنسانية منها، وجنت من ثمارها، وكانت من بَعْدُ العامل الأول لتَقَدُّم أوروبا وخروجها من ظلام القرون الوسطى. 4- إن هذه الآثار الجليلة التي تركها أولئك الأبرار الصادقون، وهذا الرصيد الضخم الكبير الذي خلفوه لمن بعدهم ميراثًا حيًّا لا يبلى على مر الزمان، إن هذا كله يُلْقِي على أبناء دعوة الإسلام مسئولية جسيمة لا يقوى على النهوض بأعبائها إلا إنسان العقيدة الذي يستمد من إيمانه قوة الصمود إزاء الأحداث والفتن والأهواء، فلا تهزه أعاصيرها العاتية، ولا تنال منه منحها القاسية، ولا يصرفه شيء مما في هذه من رغبة مغرية أو رهبة مؤذية عن هدفه الكبير في الوفاء لعقيدته والانتصار لها والثبات عليها والعمل على نشرها والجهاد لإعلاء قدرها..

ثم إذا كانت الأزمة تَلِدُ الهمة، والمعارك تصنع الأبطال، فما أجدرَ أزمة المسلمين اليوم -وقد استشرى العداء- أن تلد هممًا عالية لا تأبه بالمصاعب ولا ترضى بضيم، وحري بهم أن تصهر المعارك نفوسهم وتصقل أرواحهم؛ ليكون كل منهم إنسان العقيدة الصادق الذي توجِّهُهُ نحو الحق والخير هادية الله، ولا ينطلق إلا ابتغاء مثوبته ورضاه.

خصائص العقيدة

خَصَائِصُ العقيدة العقيدة قوة هدم وبناء: 1- إن الإيمان بالله تبارك وتعالى هو الغذاء الوافي لقوى النفس في الإنسان، وهو المداد الخالد لحيويتها وتفتحها وإشراقها، وليس على وجه الأرض قوة تكافئ قوته، أو تدانيه في ضمان استقامة الفرد ويقظة ضميره ومتانة خلقه، ثم تماسك المجتمع وتضامن أبنائه وتعاونهم على الخير والبر. وسر ذلك أن الإنسان يساق من باطنه لا من ظاهره، وليست أنظمة الأمم والجماعات -مهما بلغت من الدقة والإحكام، ولا سلطان الحكومات والهيئات، مهما بالغت في المراقبة والتنظيم- بكافيتين وحدهما بمعزل عن العقيدة؛ لإقامة حياة فاضلة كريمة تحترم فيها الحقوق وتُؤَدِّي الواجبات على وجه مرضيٍّ مقبول، فإن الذي يقوم بواجبه رهبةً من السوط أو خشية من العقاب؛ لا يلبث أن يسيطر عليه الإهمال متى اطمأن إلى أنه سينجو من العقاب، ويفلت من قبضة القانون. من أجل هذا كان لا بد من العقيدة في الحياة؛ لتملأها بالخير والحق والصدق والاستقامة، بل إن الحياة بغير عقيدة ضياع وعبث، وفراغ نفسي، وخواء روحي، وقلق دائم، واضطراب مستمر، وغرق في لجج

المتاعب والأزمات، ودخول في المعركة بلا سلاح. ثم نهاية بائسة، ومصير مرير، قال تعالى في بيان شأن العقيدة في الحياة، وأثرها في مهمة الإنسان منذ خلقه لعمارة الأرض: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى، قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا، قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى، وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} 1. 2- ليست العقيدة -كما قررها الإسلام- موجة عاطفة تهز القلوب وتثير المشاعر فحسب، بل هي قوة عقلية ووجدانية معًا، تهدم وتبني، تهوي على جذوع الخرافة والوهم والشك بالحجة والعلم والمنطق، فتهدم آفة التقليد الأعمى الذي يغل الفكر، ويخنق الحرية، ويشوه معالم الشخصية المتطلعة نحو المثل العليا. وفي المنهج القرآني آيات كثيرة تحض على التأمل والتدبر والتفكير، وتسوق أمام العقل المدرك والبصيرة الواعية دلائل كثيرة على قدرة الله، ومشاهد متعددة من بديع صنعه، فإذا نظر فيها الإنسان بإمعان، وفكَّر فيها بعمق، واستعمل ما آتاه الله من وسائل الحواس، وما هداه إليه من أجهزة العلم الاستعمال الصحيح، فإنه يزاداد إيمانًا بالله ويقينًا بقدرته وسجودًا لعظمته.. وفي ذلك يقول سبحانه:

_ 1 طه: "123-127".

{وَفِي الأرض آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ، وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} 1. ويقول عز وجل: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} 2. ولقد أثنى الله تبارك وتعالى على الذين يستعملون عقولهم فيما خلقت له فيبحثون ويفكرون ويمحِّصُون الأمور ويزنونها بميزان الفكر السليم، ويخلصون للحقائق، ويستجيبون للحق، ويستمعون أحسن القول.. وفي ذلك يقول عز وجل: {فَبَشِّرْ عِبَادِ، الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} 3. وفي مقابل الثناء على أولي الألباب الذين يفكرون فيحملهم التفكير على الإيمان وصدق الاستجابة وحسن الاتباع، يجيء التنديد -في كتاب الله- بالذين يَجْمُدُون على ميراث الباطل الذي تلقوه عن ضلال الآباء والأجداد، أولئك الذين لم يستعملوا عقولهم فيما خلقت له، فتركوا النظر في دلائل الحق وآيات الهدى، وجمدوا على ما ألِفُوُه في جاهليتهم، وما وجدوا عليه آباءهم مما لا يصح في عقل، ولايستقيم في منطق. وفي ذلك يقول عز وجل: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا

_ 1 الذاريات: "20-21". 2 فصلت: "53". 3 الزمر: "17-18".

أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ} 1. 1- إن العقيدة حين تهدم كل زيف في فكر الإنسان وضميره وروحه؛ تبني صروح المُثُل الرفيعة الطيبة، التي تجعل من المؤمن إنسانًا سويَّ التفكير، طاهر الضمير، طيب السريرة، يقظ البصيرة، يستعمل طاقته الفكرية في وظيفتها الصحيحة المجدية؛ فينظر ويتأمل في هذا الكون ليتعرف على مظاهر عظمة الله، وجليل حكمته، ونفوذ قدرته، وشمول علمه، وتفرده بالخلق والإبداع. قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} 2. وقال عز وجل: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ، فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَة} 3. فإذا انطلق الإنسان من قاعدة الإيمان الراسخ والعمل الطيب والسلوك القويم؛ كان داعية خير وصانع حضارة ورمز سلام، يكافح في الحياة لا من أجل الخبز وزيادة الإنتاج وفتح الأسواق، ومناطق النفوذ، والتسلط على الناس، واستعمار الشعوب، واستثمار الخيرات، وسيادة طبقة على طبقة، وتَحَكُّمِ فئة في رقاب فئة، كما هو حال من استعبدتهم

_ 1 البقرة: "170". 2 سبأ: "46". 3 البقرة "219-220".

المادة، فانحرفوا عن سبيل الإيمان، وضلوا سواء السبيل، وظلموا أنفسهم، وكانوا عناصر شر وتخريب، وفساد مدمرٍ رهيب. 1- إن كفاح الإنسان الذي بَنَتْهُ العقيدة الحقة على ركائز الإيمان والاستقامة وصدق العزيمة، وصفاء النفس، وصحة الاتجاه؛ لا يمكن أن تشغله سفاسف الأمور عن معاليها، فهو يكافح حتى يقيم على هذه الأرض المنهج الإلهي القويم، الذي تسود به وحده شرعة الحق، ومُثُل العدالة والحرية والمساواة.. في إنسانية نموذجية رائدة، لا تعرف الحقد والشر، ولا تضمر لبني البشر -إذا لم يعيقوا سير دعوته، ويقفوا في طريقها، ويبدؤُوها بالعدوان- إلا كل حب ورعاية، وعدل وتسامح، وكرامة وإحسان. قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ، فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ، أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} 1. وقال عز وجل: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ

_ 1 آل عمران: "81-83".

هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} 1. وقال جل شأنه: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} 2. لم يكن يحفز المجاهدين الأولين إلى الجهاد طمع في خفض من العيش ورخائه على حساب الآخرين، ولم يقصد منه إلا بناء إطار عالمي لأحسن ما يمكن للإنسان من ارتقاء روحي، كما أن العلم بالفضيلة حسب تعاليم الإسلام يفرض على الإنسان تبعة العمل بالفضائل، فالإسلام لا يوافق أبدًا على الفصل الأفلاطوني والتفريق النظري البحت بين الفضيلة والرذيلة، بل يرى أنه من الوقاحة والرذيلة أن يميز الإنسان نظريًّا بين الحق والباطل، ولا يجاهد لارتقاء الحق وإزاحة الباطل، فإن الفضيلة -تحيا إذا جاهد الإنسان لبسط سلطانها على الأرض، وتموت إذا خذلها وتقاعد عن نصرتها"3.

_ 1 المائدة: "8". 2 الممتحنة: "8". 3 انظر: "ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين" تأليف: أبي الحسن الندوي ص121.

العقيدة منهج القصد والاعتدال

العقيدة منهج القصد والاعتدال: 1- إن الإيمان حين يهدم في وجدان الإنسان اعتبار القيم المادية والخضوع لها -على نحو ما ذُكِرَ في قصة قارون- يهدم مع ذلك نزعة السلبية في الحياة، ويعتبر ذلك رهبانية لا تتلاءم مع فطرة الإنسان، وهروبًا من الحياة إلى أوهام وانحرافات، وتعذيب للجسد وإرهاق للنفس. كما

يعتبر مثل هذا السلوك تنطعًا وظلمًا، فهجر الطيبات والغلو في العبادات مخالفة لمنهج الإسلام المعتدل الذي لا يكلف النفس الإنسانية فوق طاقاتها، ولا يحرمها ما هي بحاجة إليه، ولا غنى لها عنه من منافع وطيبات، ما دام ذلك في حدود ما شرع الله وأَحَلَّ لعباده، فلا حرج في هذا المنهج ولا عسر ولا إرهاق ولا إعنات. وفي ذلك يقول سبحانه: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} 1. ويقول: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} 2. ويقول سبحانه: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} 3. 2- لقد سيطرت فكرة الانفصام بين الروح والجسد سيطرة كبيرة على كثير من الفلسفات، وانبعثت من هذه الفكرة طائفة غريبة من التصورات المتناقضة، فاتخذت المادية سبل الإغراق الحسي طريقًا للرقي الإنساني، وأصبحت القيم المادية لديها محور الحياة، وتحول الإنسان في نظرها إلى آلة تتحرك وَمَعِدَةٍ تهضم وكائنٍ يلهو ويستمتع.. وانغمس في عبودية المادة أقبح انغماس.

_ 1 البقرة: "286". 2 [البقرة: "185". 3 الحج: "78".

أما الذين آثروا الروحانية المغرقة؛ فقد رأوا في الجسد سجنًا للروح يحول بينها وبين أشواقها العالية، وسموها الكبير، فتنكبوا سبيل الفطرة بما اخترعوا من ضروب الرياضات الروحية الشاقة التي تقوم على تعذيب الجسد وإرهاقه، وتحول الإنسان بنزعتهم هذه إلى شبح معروق هزيل مقطوع الصلة بالحياة.. يسكن المغاور والكهوف ويلوذ بالزوايا المعتمة، وينفر من حركة العمران البشري، ويقطع صلته بإخوانه من بني الإنسان. 1- أما موقف الإسلام من هذا فهو مختلف عما تراه النظم الدينية والفلسفية الأخرى في العالم، فهو يقول: "إن الروح البشرية قد جعلها الله خليفة في الأرض، وفَوَّضَ إليها جملة صالحة من حقوق التصرف والواجبات والتبعات، وأنعم عليها الأداء -كل ذلك- بجسد من أحسن الأجساد هيئة وتقويمًا، فالحق أن الروح لم تُؤْتَ هذا الجسد إلا لتستخدمه فيما وهب لها الله من التصرف، ولتؤدي بها ما عليها من الواجبات، فالجسد ليس بسجن للروح، بل هو معمل لها، فإن كانت هذه الرُّوح قُدِّرَ لها شيء من النمو والرقي؛ فإنما يمكن تحققه بإظهار مواهبها واستعدادها الفطري باستخدام آلات هذا المعمل وقواه"1. وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الدين يُسْرٌ، ولن يُشَادَّ الدين أحد إلا غَلَبَهُ، فسدِّدُوا وقاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة، وشيء من الدلجة" 2. فمنهج الإيمان -وفق ما رسمته شريعة الإسلام- هو منهج القصد والاعتدال الذي تستقيم به الحياة، ويصلح أمر الإنسان، وبهذا المنهج

_ 1 أبو الأعلى المودودي: "نظام الحياة في الإسلام" ص76. 2 رواه البخاري.

جمل الله هذه الأمة.. الأمة الوسط التي تملك زمام القيادة، وتحمل راية الهداية، وترشد البشر إلى أقوم سبيل. قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} 1.

_ 1البقرة: "143".

العقيدة رابطة أخوة وتراحم

العقيدة رابطة أخوة وتراحم: 1- إن من أجلِّ ما تؤديه العقيدة للجماعة الإنسانية، أنها تربط بين قلوب معتنقيها بأواصر لا تنفصم من المحبة والأخوة والتراحم، وهذه وظيفة إيجابية ذات أثر عميق في كيان الجماعة؛ لأن رابطة العقيدة لا تعدلها أي رابطة أخرى من نسب أو جنس أو لون أو لغة أو جوار أو مصالح مشتركة، فهذه كلها تظل روابط سطحية لا تكاد تَجْمَعُ حتى تُفَرِّقَ، إذا اختلفت الأهواء، وتصادمت النزعات، وتضاربت المصالح، بل لا تزال تتخلل هذه الروابط الشكلية حواجز كبيرة، من اختلاف النفوس، وتمايز العناصر، وتفصل بينها الفجوات المختلفة التي تباعدها عن الوحدة والوئام، حتى تشدها آصرة الأخوة في العقيدة -في تفاعلها العميق مع وجدان المؤمن- على هدى وبصيرة، ومحبة وتعاون، ومشاركة في المثل العليا، فإذا الكثرة المتفرقة وحدة مجتمعة، وإذا النفوس في أَلَقِهَا وصفائها كالمرايا المتقابلة، تنعكس صور بعضها في بعض، وتذوب الفوارق مهما عظمت، وتتقارب الديار مهما تناءت، ويعم الحياة روح العقيدة، وتسودها مبادئ الحق الثابت الخالد، الذي لا يتغير أو

يزول، ولا يعتريه نقص ولا أُفول.. وفي ذلك يقول عز وجل: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ، وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} 1. 2- ولقد قامت دعوة الإسلام على إنكار كل نوع من أنواع التفرق الذي ينافي الوحدة القائمة على العقيدة باعتبار المؤمنين كيانًا عضويًّا واحدًا تسري فيه روح المودة والرحمة والتعاطف، كما روي عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَثَلُ المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمَّى" 2. ولذا فقد تخطى الإسلام كل الأوضاع التي دَرَجَ الناس فيها على اتخاذ العصبيات الجنسية أو الإقليمية الأساس في تكوين الجماعات، وجعل الاعتصام بالله والأخوة في العقيدة الرباط القوي الذي لا ينفصم، ومبدأ الخير والرحمة والعدل، وسبيل السعادة والطمأنينة والسلام للبشرية جمعاء.. وفي ذلك يقول عز وجل: {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 3. وقد حذَّر الإسلام من موالاة أعداء الله بسبب رابطة من نسب أو قرابة أو صداقة أو مصالح شخصية أو منافع خاصة، وجعل الولاء للعقيدة وحدها، ودعا إلى اعتبارها المعيار الوحيد للعلائق بين الناس، ولم يعتبر

_ 1 الأنفال: "62-63". 2 رواه مسلم وأحمد. 3 آل عمران: "101".

الذين يوالون مَنْ حادَّ الله ورسوله من المؤمنين، ولو كان هؤلاء الذين يوالونهم من أقرب الناس إليهم رَحِمًا أو قرابة ونسبًا. وذلك حيث يقول عز وجل: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} 1. ويقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْأِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} 2. ويقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ} 3. 1- ومع هذا التحذير الشديد من موالاة أعداء الله يحرص الإسلام على صيانة رابطة العقيدة من كل ما يخدشها أو يؤدي إلى وهنها، وذلك بقطع كل أسباب التنازع والشحناء، ويَعُدُّ أيَّ دعوة إلى العصبية المفرقة هدمًا لروح الأخوة الإسلامية وإثارةً للأوضاع الجاهلية التي حاربها الإسلام وقضى عليها، وفي ذلك ما يُقَوِّضُ وحدة الأمة، ويشيع فيها العداوة

_ 1 المجادلة: "22". 2 التوبة: "23". 3 الممتحنة: "1".

والبغضاء، ويسلبها مقومات شخصيتها التي تميزت بها على سائر الأمم، وفي ذلك يقول عز وجل: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} 1. عن أبي ذر رضي الله عنه قال: "كان بيني وبين رجل كلام وكانت أمه أعجمية فَنِلْتُ منها، فذكرني إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال لي: "أَسَابَبْتَ فلانًا؟ " قلت: نعم. قال: "أَفَنِلْتَ من أُمِّهِ؟ " قلت: نعم. قال: "إنك امْرُؤٌ فيك جاهلية" 2. ورُويَ أن أبا ذرٍ تابَ توبةً نصوحًا حتى إنه طلب من هذا الذي قال له: يا ابن السوداء -كما في بعض الرويات- أن يطأ بقدمه على وجهه. وروى الحافظ ابن عساكر بسنده إلى مالك عن الزُّهْري، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: جاء قَيْسُ بن مطاطية إلى حلقة فيها سلمان الفارسي وصهيب الرومي وبلال الحبشي، فقال: هذا الأوس والخزرج قد قاموا بِنُصْرَةِ هذا الرجل فما بال هذا3 فقام إليه معاذ بن جبل -رضي الله عنه- فأخذ بتلابيبه ثم أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فأخبره بمقالته، فقام النبي -صلى الله عليه وسلم- مُغْضَبًا يَجُرُّ رداءَهُ حتى أتى المسجد ثم نودي: إن الصلاة

_ 1 آل عمران: "103". 2 رواه الشيخان واللفظ للبخاري في كتاب الأدب. 3 يقصد بمقالته هذه: إن الذي يحمل الأوس والخرزج على نصرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنهم من قومه العرب -كما يزعم- فما الذي يدعو الفارسي والرومي والحبشي إلى نصرته وهم ليسوا من قومه؟! وهذا من آثار النزعة الجاهلية كما لا يخفى.

جامعة، وقال صلى الله عليه وسلم: "يا أيها الناس، إن الرب واحد، والأب واحد، وإن الدين واحد، وليست العربية بِأَحَدِكُمْ من أبٍ ولا أمٍّ؛ وإنما هي اللسان، فمن تكلم بالعربية فهو عربي". فقام معاذ فقال: فما تأمرني بهذا المنافق يا رسول الله؟ قال: "دَعْهُ إلى النار". فكان قيسٌ هذا ممَّن ارتدَّ في الردة فقُتِلَ.

العقيدة علاج الأزمات

العقيدة علاج الأزمات: 1- تصاب الأمم في بعض أدوار حياتها بكوارث ونكبات، تترك انعكاسات كبرى على أوضاعها العامة، وما يعتري الأمم في بنيتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والخلقية إِثْرَ هزيمتها في معركة ما من معاركها مع عدوها يُشْبِهُ إلى حدٍّ كبير ما يعتري الجسم الإنساني في أجهزته المختلفة إِثْرَ مرض عُضَال، وتختلف الأمم كما تختلف الأجسام في القدرة على تحمُّل ما يلازم العارضَ الجديد من تغيُّر، وفي التغلب على ما يرافقه من متاعب وآلام، كما تختلف أخيرًا في القوة الذاتية ومدى استعدادها لقبول المرض أو رفضه والخلاص منه، من أجل هذا يلجأ الأطباء في معالجتهم مرضاهم إلى غرس روح الأمل في المريض حتى لا ييأس من الشفاء، ويَصِفُون له الأدوية التي تساعده على تحمل الألم، بأدوية أخرى مقوية تمد الجسم بما يساعد طاقاته الطبيعية ومناعته الأصلية على التخلص من المرض والقضاء عليه. ولعل الأمر في علاج الأمم لا يختلف كثيرًا عن علاج الأفراد بطرقه ووسائله، ولكنَّ أخطر ما يقع في الأمرين -وإن كان في الأمم أشدَّ خطرًا- أن يخطئ الطبيب في تشخيص المرض؛ لنقص في علمه أو تجربته، أو لالتباس الأعراض عليه بسبب تشابهها ودقة الفروق بينها،

فلا يعطي ما يصف من علاج أيَّ فائدة في شفاء المريض، إن لم يترك آثارًا عكسية تُضَاعِفُ من المرض، وتُودِي بالمصاب به. وإذا نظرنا في أحوال كثير من الأمم في الماضي والحاضر تَبَيَّنَ لنا انطباق هذا المَثَل -بشكل عام- على الأوضاع التي تحل بها إِثْرَ هزة كبيرة في حياتها، وهل هناك أقسى وأشد من تسلط عدوِّها عليها، وتحكمه في أمورها، وتعويق حركتها، وشل مقومات بقائها؟! ومع هذا فإن الخطر الكبير المخيف ليس في الهزيمة الطارئة، ولكنه في أسلوب علاجها للتغلب عليها، وتطويق نتائجها، والحيلولة دون تكرارها، إن الخطأ والانحراف هنا بسبب الجهل أو سوء التقدير، أو بسبب الإصرار على إنكار الحقائق، والتشبث بالباطل، لا يَنْجُم عنه سوى السقوط المُريع، والمصير الرهيب، بعد سير شاق مرهق في طريق ملتوية مليئةٍ بالعثرات، مزدحمة بالمزالق. 2- ويتطلع المسلمون اليوم إلى وضعٍ يكونون فيه أحسن حالًا، وأبعد منالًا، وأوفى قوة ومنعة، وأكثر صلابة وعزمًا، وأشد قدرة على تخطي العقبات، وتجاوز الهزيمة. وإذا كانت وسائل العلاج كثيرة، وكان المتصدُّون للمعالجة -على مختلف المستويات- أكثر من أن يحصيهم العَدُّ، فإن ثمة حقيقة ينبغي أن لا تغيب عن أحد وهي: أن لهذه الأمة طبيعةً ذاتيةً خاصة، تميزها عن غيرها من الأمم، ولذا فإن ما يُظَنُّ أنه صالح لغيرها لا يصلح لها، بسبب مجانَبَتِه لطبيعتها، وتنافره مع خصائصها، وأي علاج لا ينبثق من اعتبار هذه الحقيقة لا يمكن أن يُحْدِثَ التفاعل المطلوب، ويؤدي النتيجة المرجوَّة في التخلص من العلل، وتوفير العافية الصحيحة في بنية الأمة وعناصر وجودها وبقائها، إن لم يتجاوز ذلك إلى إحداث تفاعل عكسي يزيد

الداءَ استفحالًا، ويضاعف من امتداده؛ ليهدم البقية الصالحة من القوى السليمة. وإن الطبيعة الأصيلة لهذه الأمة أنها أمة عقيدة مبناها التوحيد الخالص الذي حررها من الخضوع لغير الله، وأنقذها من أغلال الطاغوت، وطهرها من أدران الجاهلية ونقلها من حضيض التمزق والتخلف والفساد إلى ذروة الوحدة والتقدم والاستقامة. وهي أمة نظام كامل شامل شرعه الله للناس كافة رصيد إيمان لا يَنْفَدُ، ومصدر قوة لا تَضْعُفُ، ومنهاج حق وعدل، لا يهادن باطلًا، أو يرضى بظلم، وفي ذلك يقول الله تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ، يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 1. 1- في ضوء هذه الحقيقة يمكن القول: إن هذه الأمة ما يزال فيها من القوة الذاتية والحصانة الطبيعية ما يجعل الأمل كبيرًا في قدرتها على التغلب -بالجد والتصميم والصبر- على نتائج الهزيمة وآثارها البعيدة، وهي -وإن كانت واقعة تحت ضغط الأزمة الحادة- ليست مستعدة لقبول الحلول الجاهزة التي تصنعها الأيدي الغريبة، وسَلْبِيَّتُهَا هذه إزاء كل تجربة دخيلة، ووسيلة مغلوطة، دليل على توافر المناعة في كيانها. وقد يخال الأعداء -ولو جاءوا بثياب الأصدقاء- أنَّ المحنة فرصة مواتية لزعزعة ثقة الأمة بشخصيتها، ونشر ضباب اليأس في نفوس أبنائها، وزرع بذور الشك في قدرتها على الحياة، واستئناف السير من جديد دون سقوط أو تعثر، ولكنهم في ذلك واهمون وإن أَصْغَتْ

_ 1 المائدة: "15-16".

إليهم بعضُ الأسماع، ووقعت في شركهم بعض العقول، ولقيت محاولاتهم تلك صدىً واستهواءً في بعض الاتجاهات والأفكار. ومنشأ الوهم عند هؤلاء ومَنْ تَابَعَهُم من مَرْضَى القلوب أنهم لم يعرفوا طبيعة هذه الأمة التي تستعصي على الذوبان، وتأبى -في أشد الظروف قسوةً- أن ترضى بالدنيَّة والذل والاستسلام، وقد مرت بها -في تاريخها الطويل- أيام عصيبة ونكبات شتى لو أصابت غيرها لقضت عليها، وأبادتها وجعلتها أثرًا بعد عَيْن. إن سر هذه المناعة العجيبة التي حيرت أعداءها، وأَوْغَرَتْ صدروهم بالحقد، وحملتهم على العدوان المستمر في موجات غزو ضارية متلاحقة يعود إلى هذه الحقيقة البسيطة الرائعة "العقيدة"، العقيدة التي ترتفع بالأمة عن مستوى الغرور والاستعلاء إذا انتصرت، والخنوع والاستسلام إذا انهزمت.. العقيدة التي تغرس في قلوب أبنائها أن النصر من عند الله يؤتيه من يشاء، فإذا حلت بها الهزيمة في معركة قوَّمَتْ بميزان عقيدتها ما حلَّ بها، فعرفَتْ عوامل هزيمتها وأسباب نكبتها، وكان ذلك لها درسًا نافعًا في مستقبل حياتها.. العقيدة التي هي أعز على أبناء هذه الأمة من أرواحهم وأبنائهم وأموالهم؛ لأنهم يضحون بهذا كله ولا يفرِّطُون بعقيدتهم مصدر كرامتهم وعزتهم. 1- وحسبنا أن نعيش لحظات مع هذه العقيدة وآثارها البالغة في بَثِّ روح العزيمة الصادقة والعزة المؤمنة في ذلك اليوم العصيب الذي امتحن فيه المؤمنون "يوم أحد" ففي ذلك اليوم، الذي نال فيه المشركون من المسلمين وقتلوا منهم عددًا كبيرًا، وقف أبو سفيان بن حرب يقول في ملأ من أصحابه: أَفِي القوم محمدٌ؟ فلم يجبه أحد؛ لأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهاهم عن ذلك، ثم قال: أَفِي القوم ابنُ أبي قحافة؟ فلم يَلْقَ جوابًا، فقال: أفي القوم ابنُ الخَطَّاب؟ فلم يَرُد عليه أحد أيضًا فقال:

أما هؤلاء فقد قُتِلُوا، لو كانوا في الأحياء لأجابوا، فلم يملك عمر بن الخطاب نفسه أن قال: كَذَبْتَ يا عَدُوَّ الله، قد أبقى الله لك ما يُخْزِيكَ.. فأخذت أبا سفيان العزةُ بالإثم فقال: أَعِلْ هُبَل، أَعِلْ هُبَل1. وهنا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أجيبوه" قالوا: ما نقول؟ قال: قولوا: "الله أعلى وأجل". فقال أبو سفيان: ألا إنَّ لنا العُزَّى ولا عُزَّى لكم، فقال رسول الله: "قولوا: "الله مَوْلَانَا وَلَا مَوْلَى لَكُمْ". قال أبو سفيان: يوم بيوم بدر والحرب سِجَال، إنَّ موعدكم بدر للعام القابل، فقال رسول الله لرجلٍ من أصحابه: "قل: نعم هو بيننا وبينك موعد" 2. وبعدُ: فإِنَّ أُمَّةً شِعَارُهَا "الله أعلى وأجلُّ" لا يمكن أن تُغْلَبَ ما آمنت بهذه العقيدة، وعملت بمقتضاها، وكافحت لإعلائها، وجاهدت تحت رايتها. {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} 3.

_ 1 أي أظهر دينك. وهبل: اسم صنم. 2 انظر: "السيرة النبوية" لابن هشام ج3 ص99. 3 يوسف: "21".

الفهرس

الفهرس ... المقدمة 5 الفصل الأول: في المدلول العام للثقافة 9 - الثقافة في حياة الأمم: 11 المفاهيم الأساسية 11 الثقافة والتغييرات الطارئة 13 أمتنا على مفترق الطرق 17 - الثقافة ومشكلة التعريف: 22 بين المدلولين: اللفظي والفكري 22 الثقافة في نطاق اللغة 23 تعريف الأمور المعنوية 26 الثقافة في اللغات الأجنبية 27 - الثقافة والمجتمع: 31 الثقافة ومناحي الدراسة الاجتماعية 31 الثقافة وقيم المجتمع 35 - الثقافة والحضارة: 42 طبيعة العلاقة بين الثقافة والحضارة 42 دلالة الثقافة والحضارة على مفاهيم واحدة 44 الربط بين الثقافة والحضارة 45

الفصل الثاني: في الثقافة الإسلامية 51 - ركائز الثقافة الإسلامية: 53 الحقائق اليقينية الهادية 53 المنهج الإلهي الشامل 55 رصيد الفطرة الإنسانية الأصيلة 59 - خصائص الثقافة الإسلامية: 63 1- موضع الثقة الكاملة 63 2- كمال تصورها للإنسان والحياة 68 3- وحدتها المترابطة المتناسقة 74 4- بثها روح التميز في الأمة 79 5- إيجابية في روحها 83 6- أخلاقية في دعوتها 89 7- رعايتها للوحدة الإنسانية والمثل العليا 94 الفصل الثالث: الثقافة الإسلامية والقوى المعادية 101 - معركة الإسلام في الحياة 103 معركة تصحيح شامل دائم 103 معركة تحديات وتبعات 108 المعركة وأصالة البناء الثقافي 111 - طبيعة المعركة وصور العداء: 114 المعركة في ماضيها وحاضرها 114 صور العداء 119 1- سلاح الفتنة 122 2- حرب الشبهات 125 3- الدعاوى الباطلة 139

4- الجدال العقيم 133 5- في حادث تحويل القبلة 137 - نظرة في التاريخ: 144 أمة لا تذوب 144 جاذبية المبادئ 146 بين المد والجزر 147 في العصر الأموي 151 في العصر العباسي 153 الصيلبية والغزو الفكري 156 الفصل الرابع: خطط المبشرين والمستشرقين 159 - الغزو الاستعماري والتبشير: 161 الغزو الفكري: أبعاده ومواجهته 161 الثقافة وهدف العداء 167 المواقع الثقافية وحملات التشويه 171 مدارس الإرساليات التبشيرية 178 المناداة بتحرير المرأة 181 نشر كتب الطعن على الإسلام 184 - الاستشراق والثقافة الإسلامية: 186 بين المادحين والمشوهين 186 تاريخ الاستشراق 187 دوافع الاستشراق 189 1- الدافع الديني التبشيري 191 2- الدافع الاستعماري 195

3- الدافع السياسي 196 4- الدافع العلمي 197 5- الدافع التجاري والشخصي 197 أهداف الدارسات الاستشراقية 198 وسائل الاستشراق 206 الفصل الخامس: الثقافة الإسلامية وآفاق الحياة الإنسانية 211 - أفق البناء الفكري والخلقي: 213 تحرير العقل من التعطل 214 الحث على العلم 218 السمو بالنفس وتطهير الضمير 224 - أفق البناء الاجتماعي والسياسي: 231 إنشاء المجتمع الفاضل: 231 1- صياغة الفرد 232 2- صياغة المجتمع 235 3- التوازن بين الفرد والمجتمع 241 4- العقيدة والنظام الاجتماعي 246 روح المسئولية في الدولة والحكم 251 الروح الإنسانية في علاقات السلم والحرب 261 عالمية الإسلام وإنسانيته 261 مبادئ الإسلام في العلاقات بين الناس 263 أغراض الحرب في الإسلام 267 قواعد الإسلام في الحرب 370

الإحسان والتسامح مع المخالفين 272 الوفاء بالعهود والمواثيق 279 نماذج من الوفاء بالعهود 381 بين وفاء المسلمين وغدر أعدائهم 283 الدعوة إلى الجهاد والاستشهاد 287 بين الإسلام والقانون الدولي العام 302 الفصل السادس: في العقيدة 308 - العقيدة والحياة 309 العقيدة والواقع الإنساني 310 العقيدة ومصير الأمم 312 سنة الله في الأمم الجاحدة 315 مثل من قصة بني إسرائيل 317 عقيدة التوحيد في مواجهة الجاهلية 325 - العقيدة والإنسان: 331 الإنسان بين الهداية والغواية 331 طريقان لا تسوية بينهما 333 العقيدة ذخيرة الخير 335 العقيدة تحدد الهدف 337 إقصاء العقيدة عدوان على الإنسان 340 الإنسان في رحاب الإيمان 343 الصلة بالله وأثرها في الطاقات الإنسانية 348 إنسان العقيدة 353

- خصائص العقيدة: 358 العقيدة قوة هدم وبناء 358 العقيدة منهج القصد والاعتدال 363 العقيدة رابطة أخوة وتراحم 366 العقيدة علاج الأزمات 370 الفهرس 375

§1/1