لماذا نصلي - المقدم

محمد إسماعيل المقدم

لماذا نصلي؟ [1]

لماذا نصلي؟ [1] للصلاة مكانة وخصائص متميزة منها: أنها أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين، وهي عمود دين الإسلام، وأكثر العبادات ذكراً في القرآن، وآخر وصايا الرسول صلى الله عليه وسلم العدنان، وقد سماها الله تعالى إيماناً، وجعلها النبي صلى الله عليه وسلم إيماناً، وقد فُرضت على جميع الأنبياء والمرسلين وأتباعهم، فهي أم العبادات، ولها خصائص كثيرة تبين مدى مكانتها الصلاة عند الله عز وجل.

الصلاة أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين

الصلاة أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين الحمد لله حق حمده، والصلاة والسلام على محمد رسوله وعبده، وعلى آله وصحبه من بعده. أما بعد: فنجدد العهد بموضوع هو في غاية الأهمية، وهو لا ينفصل عما نحن فيه وعما نعايشه من أحداث، ألا وهو موضوع الصلاة ومكانتها وخصائصها وآثارها على المسلمين أفراداً وأمة، وهذا من باب قوله تعالى: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} [الأعلى:9]، وقد بين تعالى من ينتفع بالذكرى حين قال عز وجل: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55]. فللصلاة مكانة متميزة ينبغي أن نستصحبها في كل أحوالنا، وأن نجتهد في إصلاح صلاتنا، فإن ذلك أحد مفاتيح استحقاق نصر الله تبارك وتعالى؛ وذلك لأن الصلاة هي آكد أركان الإسلام بعد الشهادتين، وهي أفضل الأعمال بعدهما؛ لكونها وضعت على أكمل وجوه العبادة وأحسنها؛ ولأنها تجمع متفرق العبودية، وتتضمن أقسامها، وهي أول ما اشترطه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد التوحيد، وهي رأس العبادات البدنية، وهي دين الأمة ضرورة، ولم تخل منها شريعة مرسل، وهي فرض عين بالكتاب والسنة والإجماع، فرضها الله عز وجل ليلة المعراج على نبيه صلى الله عليه وسلم في السماء، وذلك بخلاف سائر الشرائع. إن من خصائص الصلاة أنها فرضت على هذه الأمة ليلة المعراج في السماء، فدل ذلك على عظم حرمتها، وتأكد وجوبها على كل مسلم مكلف، ولا تسقط عنه بحال من الأحوال، ما عدا الحائض والنفساء بخلاف غيرها من الأركان. ومع هذه المكانة العظيمة للصلاة شاع في عصرنا -عصر الغربة الثانية- تهاون الناس بها، وتفريطهم في حقها، مع انهماكهم في صنوف اللهو واللعب، وتهالكهم على جيفة الدنيا وحطامها، فمن ثم تمس الحاجة إلى أن نجدد ذكرى، ونحدث عهداً، بعظيم قدرها وجسامة خطرها، ونتكلم على خصائص الصلاة وأهميتها. نبدأ ببيان أن الصلاة هي أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين، إذ يقول الله سبحانه وتعالى في المشركين: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة:11] قوله: (فإن تابوا) يعني: إن تابوا من الشرك ودخلوا في الإسلام والتزموا أحكامه أما بدون ذلك فلا أخوة. وقال صلى الله عليه وسلم: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان) متفق عليه. وقال صلى الله عليه وآله وسلم لـ معاذ رضي الله عنه لما بعثه إلى اليمن: (إنك تقدم على قوم أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله عز وجل، فإذا عرفوا الله فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم) إلى آخر الحديث المتفق عليه. قوله صلى الله عليه وسلم: (إنك تقدم على قوم أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله عز وجل) أي: أول شيء هو توحيد الله تبارك وتعالى. وفي لفظ لهذا الحديث: (فليكن أول ما تدعوهم إليه إلى أن يوحدوا الله). فقوله هنا في هذه الرواية: (فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله عز وجل) أي: عبادة الله عز وجل وحده لا شريك له، كما في تفسير قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] أي: ليعبدوني وحدي لا يشركوا بي شيئاً، وهذا هو معنى لا إله إلا الله. قوله: (فإذا عرفوا الله) يعني: بالتوحيد. قوله: (فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم) فالصلاة صلة بين العبد وبين الرب تبارك وتعالى، وهي صلة فريدة لا نظير لها ولا مثيل لها، لا يدركها ولا يفقهها إلا من عرف صفة العبد وصفة الرب، والصلات بين طرفين تابعة لصفات كل منهما، ونابعة منها، ولذلك لهجت الكتب السماوية بذكر الصفات قبل أن تحدد الصلات، وتدعو إلى العبادات، وتسن الفرائض وتحث على الطاعات، فمن ثم دائماً تسبق العقيدة العمل والعبادة؛ لأن العقيدة لها الأولوية المطلقة. قوله: (فإذا هم عرفوا الله -أو وحدوا الله- فأخبرهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات) فالأولوية للتوحيد، يليه العبادة، وفي رأس العبادة تكون الصلاة. كذلك دعا الرسل إلى توحيد الله في أسمائه وصفاته وأفعاله، وإلى تنزيهه وتقديسه ومعرفته المعرفة الصحيحة قبل أن يدعو إلى أي شيء آخر، والقرآن الكريم نفسه أكبر شاهد على ذلك، إذ كان مفتاح دعوة جميع الرسل: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [المؤمنون:32] هذا فيما يتعلق بالعلاقة بين الصفات والصلات. فلابد لكل امرئ أن يعرف قدر نفسه، فالعبد يعرف نفسه أنه عبد ذليل ضعيف محتاج إلى الله تبارك وتعالى. كذلك ينبغي على العبد أن يعرف ربه، فإذا عرف ربه وعرف نفسه هنا تقوم الصلة بين رب وبين عبد، بين خالق ومخلوق، بين غني وفقير وهكذا. قال صلى الله عليه وآله وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله) متفق عليه. قوله: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله) كلمة الشهادة لا تكون إلا على شيء قام عليه بينة ودليل حسي، والشخص لا يشهد مثلاً في محكمة أو في القضاء إلا على شيء رآه أو سمعه أو شهده وحضره، فأنت حينما تقول: لا إله إلا الله فأنت لا تقولها تقليداً، وإنما تبنيها على أدلة، وتشهد بأن هذه الأدلة تثبت لك أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله. من المؤلم جداً أننا نستغرق أحياناً في بعض القضايا الفكرية أو السياسية إلى آخره، ونغفل أموراً هي في غاية الأهمية بالنسبة للمسلم، للأسف الشديد أنك قد تسأل بعض الناس، وقد يكون ملتزماً أو طالب علم: كيف تثبت مثلاً نبوة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أو كيف تثبت أن القرآن معجزة؟ فلا يستطيع أن يجيب! هذه الأمور في غاية الأهمية، وهي أساسيات العقيدة التي ينبغي أن نصرف إليها جل وقتنا، وألا ننشغل عنها بغيرها. قوله: (فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله) أي: سأقبل منهم الظاهر أما ما في الباطن فهذا إلى الله تبارك وتعالى. عن أبي سعيد رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما قسم الغنائم، قال رجل: يا رسول الله! اتق الله، فقال صلى الله عليه وسلم: ويلك! ألست أحق أهل الأرض أن أتقي الله؟! فقال خالد بن الوليد رضي الله عنه: ألا أضرب عنقه يا رسول الله؟! -لأن هذه الكلمة لا تصدر إلا من منافق- فقال صلى الله عليه وسلم: لا، لعله أن يكون يصلي) متفق عليه، فالصلاة تعصم دم الشخص وماله ما دام يقيمها. إن الصلاة مانعة وحائلة دون الخروج على أمراء الجور والظلم، حتى الأمير الجائر أو الظالم ما دام يقيم الصلاة في نفسه ويقيمها في الناس فحينئذٍ لا يجوز الخروج عليه، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (يستعمل عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون، فمن كره فقد برئ، ومن أنكر فقد سلم، ولكن من رضي وتابع، قالوا: أفلا نقاتلهم؟ قال: لا، ما صلوا) رواه مسلم. وفي حديث آخر: (قلنا: يا رسول الله! أفلا ننابذهم -أي: نقاتلهم-؟ قال: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة) رواه مسلم أيضاً. هذا فيما يتعلق بكون الصلاة أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين على الإطلاق.

الصلاة عمود دين الإسلام

الصلاة عمود دين الإسلام إن الصلاة أهم أمور الدين، فهي أجل مباني الدين بعد التوحيد، ومحلها في الدين محل الرأس من الجسد، فكما أنه لا حياة لمن لا رأس له، كذلك لا دين لمن لا صلاة له. كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يكتب إلى الآفاق: (إن أهم أموركم عندي الصلاة، فمن حفظها فقد حفظ دينه، ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع، ولا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة). إذاً: فالصلاة هي مقياس تعظيم الإسلام في قلبك. قوله: (إن أهم أموركم عندي الصلاة فمن حفظها فقد حفظ دينه) هذه قاعدة: من حفظ الصلاة فهو لما سواها أحفظ، وهذا أمر واقع ندركه بالحس، فمن كان يحافظ على الصلوات الخمس في جماعة، ويؤدي حقوقها وخشوعها، فهل يعرف أحد منكم شخصاً يقيم الصلاة بهذه الصورة ثم إذا أتى رمضان مثلاً يفطر عمداً؟! هذا لا يكاد يقع أبداً، ولا يتصور أن مسلماً يحافظ على الصلاة ويتهاون في صيام رمضان، لكن ممكن أن نجد معظم الناس يجتهدون جداً في الصيام في رمضان، لكنهم يضيعون الصلاة. إذاً: من حافظ على الصلاة فهو لما سواها أحفظ؛ لأنه من حافظ على الصلاة وأداها خمس مرات في اليوم والليلة، فبلا شك أن شهراً في السنة كرمضان سيكون أسهل عليه، وكذلك الزكاة، وكذلك غيرها من الواجبات. فهذه القاعدة مهمة جداً، فمن أراد أن يستقيم على دينه، وتسهل عليه أمور الطاعات؛ فليحافظ على الصلاة، فإن القاعدة: أن من حافظ عليها فهو لما سواها أحفظ، ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع؛ لأن من هانت عليه صلاته لن يعز عليه شيء. فقول عمر: (إن أهم أموركم عندي الصلاة فمن حفظها فقد حفظ دينه، ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع، ولا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة) يعني: أن الصلاة عون على باقي أركان الدين؛ لأنها تذكر العبد جلالة الربوبية، وذلة العبودية، وأمر الثواب والعقاب، فعند ذلك يسهل عليه الانقياد للطاعة، ولذلك قال تبارك وتعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:45] أي: استعينوا بالصبر والصلاة على كل شيء مما يلم بالمرء، فإنه محتاج إلى أن يستعين عليه بالصبر والصلاة. يقول صلى الله عليه وآله وسلم: (رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله)، فالصلاة قوام الدين الذي يقوم به كما يقوم الخباء على عموده، وهل يرفع الخباء ألف وتد إن لم يكن له عماد في الوسط؟ لا يمكن أبداً، فكذلك الصلاة. وعن المسور بن مخرمة رضي الله عنه قال: (دخلت على عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو مسجى -يعني: بعدما طعن رضي الله عنه- فقلت: كيف ترونه؟ قالوا: كما ترى، قلت: أيقظوه بالصلاة) يعني: كان أمير المؤمنين في حالة إغماء من شدة النزيف الذي حصل له؛ لأن الرواية بينت أنه طعن في مقتل، طعن في المعدة، وكان النزيف شديداً جداً، والدليل أنهم لما سقوه لبناً خرج مع الدم، ولما كان في هذه الحالة قال لهم المسور: (أيقظوه بالصلاة؛ فإنكم لن توقظوه بشيء أفزع له من الصلاة، فقالوا: الصلاة يا أمير المؤمنين، فقال: ها الله إذاً، ولا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة، فصلى وإن جرحه ليثعب دماً رضي الله تعالى عنه) يعني: يتفجر منه الدم ويسيل، وهذا الأثر صحيح.

اقتران الصلاة بالفرائض والعبادات في الغالب

اقتران الصلاة بالفرائض والعبادات في الغالب إن من خصائص الصلاة أنها توءم الفرائض والأركان، وتعتبر الصلاة قاسماً مشتركاً، وغالباً ما تذكر مع العبادات الأخرى، فهي توءم لكل العبادات، وهي أكثر العبادات ذكراً في القرآن الكريم، تارة تخص بالذكر منفردة كما في قوله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} [هود:114]. وتارة تقرن بالصبر كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:153]. وتارة تقرن بالزكاة كقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43]. وتارة تقرن بالجهاد كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمُ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} [الحج:77 - 78]. وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاث أحلف عليهن: لا يجعل الله تعالى من له سهم في الإسلام كمن لا سهم له، وأسهم الإسلام ثلاثة: الصلاة، والصوم، والزكاة). وما ذكر الله سبحانه وتعالى الصلاة مقرونة بغيرها من الفرائض إلا قدم الصلاة عليها، ولا يمكن أبداً أن تأتي الصلاة متأخرة عن الفرائض، فإذا أتت مقترنة بعبادة أو فريضة من الفرائض فلابد أن تقدم الصلاة عليها. وقد ذكرت الصلاة في مفتتح أعمال البر وخواتيمها، كما ترى في صدر سورة المؤمنين: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون:1 - 2] إلى قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [المؤمنون:9]، وكذلك في سورة المعارج: {إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلَّا الْمُصَلِّينَ} [المعارج:19 - 22]، الذين هم كذا وكذا وكذا، ثم قال بعد ذلك: {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [المعارج:34].

الصلاة أم العبادات

الصلاة أم العبادات الصلاة أم العبادات، فقد كلف الله العبد أن تستحوذ الصلاة على كل كيانه ظاهراً وباطناً، وأن تستغرق قلبه ولسانه وجوارحه، يقول تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238] يعني: خاشعين مخبتين. وقال صلى الله عليه وسلم: (إن في الصلاة لشغلاً) متفق عليه. وهذا الحديث وتلك الآية أصل في الاستدلال في باب ما يحرم على المصلي وما يجوز له أن يفعله في الصلاة، فكل ما يتعارض مع حال المصلي الخاشع القانت فلا يجوز فعله في الصلاة، وقد تكلم العلماء عن عدد الحركات التي يجوز أن يأتي بها المصلي في الصلاة، والحد الأدنى الذي لا يبطل الصلاة، فقال بعضهم: إذا كان المصلي يتحرك في الصلاة بحيث إذا نظرت له تظن أنه لا يصلي، فهذا يتصادم تماماً مع قوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238]، وقوله تعالى: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون:2]، وقوله صلى الله عليه وسلم: (إن في الصلاة لشغلاً)، فلا يجوز الانشغال بما يضاد الصلاة، كما يفعل بعض الناس في بعض البلاد كأنه يجتهد في أن يبطل صلاته، أو على الأقل ينقص أجرها، تجد منهم من يفك الساعة ويركبها، وآخر يخرج النقود من جيبه ويعدها، وثالث يفك (الزراير) ويردها، هذا يحصل في بعض البلدان للأسف الشديد، فهل هذا يعد مصلياً؟ فأهم ما يستدل به في هذا الباب هو قوله تعالى: (وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ)؛ لأن هذا يتنافى مع حال المصلي، وقوله عليه الصلاة والسلام: (إن في الصلاة لشغلاً)، وهذا هو الدليل على أنه يحرم على المصلي أن يأكل، أو أن يشرب، أو أن يلتفت، أو أن يتحرك، بخلاف غير الصلاة من العبادات؛ لأن العبادات الأخرى قد تفرض على بعض الجوارح دون البعض الآخر، أما الصلاة فيجب أن تستحوذ على كل الكيان الظاهر والباطن، ولابد أن تستغرق القلب واللسان والجوارح، بحيث تكون كلك لله في داخل الصلاة. مثلاً: الصائم يجوز له أن يتكلم، وأن يتحرك، وأن ينام، ويجوز للمجاهد أن يلتفت، وأن يتكلم، ويجوز للحاج أن يأكل ويشرب أثناء تلبسه بهذه العبادة، أما الصلاة ففيها ألوان العبودية الشاملة للقلب والعقل والبدن واللسان، فللسان الشهادتان، والتكبير، والتعوذ، والبسملة، وتلاوة القرآن، والتسبيح، والتحميد، والاستغفار، والأدعية. وللجوارح قيام، وركوع، وسجود، واعتدال، وخفض، ورفع، وقعود. وللعقل: تفكر، وتدبر، وتفهم، وتفقه. وللقلب: خشوع، ورقة، وخوف، وطمع، والتذاذ، وضراعة، وبكاء. يقول الإمام المحقق ابن القيم رحمه الله تعالى: ولما كانت الصلاة مشتملة على القراءة والذكر والدعاء، وهي جامعة لأجزاء العبودية على أتم الوجوه، كانت أفضل من كلٍ من القراءة والذكر والدعاء بمفرده؛ لجمعها ذلك كله مع عبودية سائر الأعضاء. فأفضل أحوال الإنسان أن يكون مصلياً صلاة كاملة، مستحوذة على كل كيانه قلباً وقالباً ظاهراً وباطناً.

الصلاة أمر الله الذي يجب طاعته والمبادرة إلى امتثاله

الصلاة أمر الله الذي يجب طاعته والمبادرة إلى امتثاله يقول تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة:5]. وقال عز وجل: {قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ} [إبراهيم:31] يعني: قل لهم: أقيموا الصلاة؛ لأن من شأن المؤمن أن يستجيب ويسمع ويطيع. وقال تبارك وتعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [البقرة:43] هذا أمر. وقال تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238]. وعن الحارث الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن يحيى عليه السلام قال لبني إسرائيل وقد جمعهم: إن الله تبارك وتعالى أمرني بخمس كلمات أن أعملهن وآمركم أن تعملوا بهن إلى أن قال: وإن الله أمركم بالصلاة، فإذا صليتم فلا تلتفتوا؛ فإن الله ينصب وجهه لوجه عبده في صلاته ما لم يلتفت) وهذا حديث صحيح. قوله: (وإن الله أمركم بالصلاة، فإذا صليتم فلا تلتفتوا) أي: لا تلتفت يمنة ويسرة في الصلاة، ولا يجوز أيضاً النظر في السماء، بل قد توعد النبي صلى الله عليه وسلم من ينظر إلى السماء في الصلاة أن يتخطف الله بصره. وقال الله عز وجل: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا} [الأحزاب:36] فمن أمر الله الذي أمر به الصلاة، فهي أمر الله وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (وجعل الذل والصغار على من خالف أمري).

الصلاة آخر وصية للرسول صلى الله عليه وسلم

الصلاة آخر وصية للرسول صلى الله عليه وسلم إن مما يبين أهمية الصلاة وعظم مكانها أنها كانت الوصية الأخيرة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقد اقتصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم في رمقه الأخير ساعة وداعه الدنيا على الوصية بها وبالرقيق، فعن علي رضي الله عنه قال: (كان آخر كلام النبي صلى الله عليه وسلم: الصلاة الصلاة، وما ملكت أيمانكم) وهذا حديث صحيح. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (كانت آخر وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يغرغر بها لسانه -يعني: أثناء خروج روحه الشريفة إلى الرفيق الأعلى صلى الله عليه وآله وسلم- الصلاة، الصلاة، واتقوا الله فيما ملكت أيمانكم). ولا شك أن هذه الوصية للأمة في آخر لحظات حياته المباركة صلى الله عليه وسلم مما يبين أهمية الصلاة. قوله: (الصلاة الصلاة) يعني: الزموا الصلاة، وحافظوا على الصلاة. قوله: (وما ملكت أيمانكم) يعني: يوصي صلى الله عليه وسلم بالعبيد.

الصلاة ميزان عمل المسلم ومقياس إيمانه

الصلاة ميزان عمل المسلم ومقياس إيمانه إن من خصائص الصلاة أنها مرآة عمل المسلم، وميزان تعظيم الدين في قلب المؤمن، وميزان الأعمال، فالصلاة يتابع بها الإنسان زيادة إيمانه ونقصانه، كما يتابع الطبيب بمقياس الحرارة أو (الترمومتر) حرارة المريض، فيكون دليلاً على ارتفاع حرارته ونقصها، وكذلك يستطيع الإنسان أن يعاير إيمانه زيادة ونقصاناً عن طريق مكانة الصلاة في حياته وفي قلبه. عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة، فإن صلحت صلح له سائر عمله، وإن فسدت فسد سائر عمله) أي: أن الناس يتفاضلون في الصلاة قبل أن يتفاضلوا في غيرها، فإذا أردت أن تفاضل بين شخص وآخر فلا تفاضل بين شكل وشكل، ومظهر ومظهر وملبس وملبس، وعلم وعلم، وذكاء، وذكاء ونسب ونسب؛ لكن إذا أردت أن تقيس الناس بالمقياس الصحيح، وأن تحكم على دين الرجل ومكانته في الإسلام، فإنما يقاس الإنسان بمحافظته على الصلاة قبل أي مقياس آخر، وليس امتياز هؤلاء الرجال الذين خلد التاريخ ذكرهم، وكان لهم فضل على الأقران والمعاصرين، وكان لهم لسان صدق في الآخرين، إلا لامتيازهم في هذه الصلاة، وتفوقهم فيها على معاصريهم وأترابهم، وبلوغهم فيها درجة الإحسان، ووصولهم فيها إلى أسمى مكان. على الجانب الآخر فإن كل مستخف بالصلاة مستهين بها فهو مستخف بالإسلام مستهين به؛ لأن حظ المرء من الإسلام على قدر حظه من الصلاة، فكما يمتاز الإنسان بمكانة معينة وبلسان صدق، فلن تجد شخصاً من هؤلاء الأبطال أو العلماء أو المجاهدين إلا وكان قمة في المحافظة على الصلاة وأداء حقوقها، لكن انظر إلى الملاحدة أو العلمانيين أو الزنادقة الذين يطعنون في الدين، انظر إلى واحد منهم ستجده مضيعاً للصلاة أو مستهزئاً بها أو طاعناً في الدين، فما دام عنده آفة في الصلاة فلابد أن يكون مستخفاً مستهتراً بدين الإسلام، فحظ المرء من الإسلام على قدر حظه من الصلاة. فإذا أردت أن تعرف قدر رغبتك في الإسلام وحبك للإسلام واعتزازك بالإسلام ففتش عن رغبتك في الصلاة، فإن قدر الإسلام في قلبك كقدر الصلاة في قلبك، وإذا أردت أن تقيس إيمان عبد فانظر إلى مدى تعظيمه للصلاة، يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (من أراد أن يعلم ما له عند الله فلينظر ما لله عنده) هناك وسيلة تستأنس بها لتعرف ما الذي هو مدخر لك عند الله عز وجل، فإذا أردت أن تعرف منزلتك أو ثوابك أو عقابك عند الله فانظر ما لله عندك، كيف تفعل أنت مع الفرائض، وفي الواجبات، وسائر حقوق الله تبارك وتعالى؟! فإن الجزاء من جنس العمل. وعن الحسن قال: يا ابن آدم! أي شيء يعز عليك من دينك إذا هانت عليك صلاتك؟! من هانت عليه الصلاة لا يمكن أن يعز عليه شيء، ومن هانت عليه الصلاة فهو إنسان لا خير فيه؛ لأنه مضيع حق ربه، فاسق قد خان أول منعم عليه وهو الله تبارك وتعالى، وضيع حقه، وضيع أهم عبادة في الإسلام، فهل يؤمن هذا الفاسق أن يكون صديقاً وفياً أو حميماً؟! كلا، فمن هانت عليه الصلاة لا تثق به ولا تأمنه أبداً؛ لأن من خان أول منعم عليه حقيق به أن يخونك ولا يفي لك.

الصلاة فرضت على جميع الأنبياء والمرسلين وأتباعهم

الصلاة فرضت على جميع الأنبياء والمرسلين وأتباعهم ليست هذه المكانة للصلاة من خصائص الإسلام الخاص الذي جاء به نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وإنما هي من خصائص دين الإسلام عامة، باعتباره الدين الوحيد الذي نزل من السماء، فالسماء لم ينزل منها إلا دين واحد، ولذلك من الخطأ الشديد استعمال تعبير الأديان السماوية، فهذا تعبير باطل غير صحيح، ومن العقيدة الإسلامية أن تؤمن أن جميع الأنبياء أتوا بدين واحد وهو دين الإسلام، وإنما طرأ التحريف على بعض الأديان لسبب أو لآخر، لكن جميع الأنبياء أتوا بدين واحد، والقاسم المشترك في رسالتهم هو لا إله إلا الله، وكل أمة من الأمم السابقة كانت كلمة النجاة لا إله إلا الله، مثلاً: في عهد موسى: لا إله إلا الله، موسى رسول الله، في عهد نوح: لا إله إلا الله، نوح رسول الله، أما في هذه الرسالة الخاتمة فكلمة النجاة إلى الأبد هي: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، فجميع الشرائع السماوية السابقة تضمنت إيجاب وفرضية الصلاة؛ لأنه لا يصلح دين بدون صلاة، فالصلاة أقدم عبادة؛ ولأنها من مستلزمات الإيمان لم تخل منها شريعة من الشرائع، ولم تنسخ الصلاة أبداً فيما نسخ من الشرائع السابقة، قد يكون هناك تغيير في شكل الصلاة أو في أوقاتها، لكن أصل فرضية الصلاة لا يمكن أن ينسخ؛ إذ لا خير في دين لا صلاة فيه، ولهذا حث عليها جميع رسل الله وأنبيائه عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام. فقد قص رب العزة عن إبراهيم عليه السلام دعاءه: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ} [إبراهيم:40] فهذا إبراهيم عليه السلام كان يقيم الصلاة. ونوه جل وعلا بشأن إسماعيل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام فقال سبحانه وتعالى مادحاً إسماعيل ومثنياً عليه: {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} [مريم:55]. وقال تبارك وتعالى مخاطباً موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه:14]. ونادت الملائكة مريم أم عيسى عليه السلام: {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} [آل عمران:43]. وقال عيسى عليه السلام وهو يحدث بنعمة ربه تبارك وتعالى عليه: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا} [مريم:31]. وأخذ الله الميثاق على بني إسرائيل فجعل إقامة الصلاة من أهم مواد هذا الميثاق: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:83]. وقال جل وعلا مخاطباً خاتم النبيين صلى الله عليه وآله وسلم: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه:132]. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنا معشر الأنبياء أمرنا أن نضع أيماننا على شمائلنا في الصلاة) وهذا جزء من حديث صحيح، وهو يدل على أن جميع الأنبياء أمروا بالصلاة.

الصلاة شعار دار الإسلام

الصلاة شعار دار الإسلام كما أنه من لا صلاة له فلا دين له كذلك لا يمكن أن تكون هناك دار أو بلد يحكم عليها بالإسلام إلا إذا كانت الصلاة سمة مميزة لأهلها، وهكذا يرتفع حكم الكفر عن الشخص بالصلاة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، فذاكم المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله، فلا تخفروا الله في ذمته) رواه البخاري. وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا) أي: لا يكون المرء مسلماً إلا بهذه العلامات وهي: أنه يصلي صلاتنا، ويستقبل قبلتنا، فلو صلى الرجل صلاتنا، لكنه صلى إلى الشرق، فهو لم يستقبل قبلتنا، فيفهم من هذا الحديث أنه لا يكون مسلماً حتى يصلي إلى قبلة المسلمين، فكيف إذا كان الشخص قد ترك الصلاة بالكلية؟! قوله: (فذاكم المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله، فلا تخفروا الله في ذمته) يعني: هذا الشخص في حماية الله وفي أمان الله؛ لأنه يأتي بهذه الأشياء، فاحترموا هذه الحماية، ولا تتعدوا عليها. فإذا كان يرتفع حكم الكفر عن الشخص؛ بسبب أدائه الصلاة، فكذلك يرتفع حكم الكفر عن الدولة بظهور شعائر الإسلام وأحكامه في هذه الدولة وفي مقدمتها الصلاة، فبظهور الصلاة كظاهرة عامة في المجتمع أو في الدولة تثبت لها الهوية الإسلامية، فإذا لم يسمع الأذان في بلد ولم توجد المساجد فهذا دليل على أن الدار دار كفر، وإذا سمع الأذان ووجدت المساجد حتى غدت مظهراً من مظاهر الدار فهي دار إسلام. ولا يعترض على هذا بأنه مثلاً: يوجد في نيويورك أكثر من مائة مسجد، فهل معنى ذلك أنها صارت دار إسلام؟ لا؛ لأن من رأى المظهر العام للمجتمع هناك لا يحكم بأن ذاك المجتمع مسلم. إذاً: إذا كانت المساجد سمة مميزة لتلك الدار فهي دار إسلام، ولذلك تجد في ديار المسلمين مساجد في كل مكان ظاهرة، والأذان مرتفع، ففي هذه الحالة تصبح دار إسلام، فإذا لم يسمع الأذان في بلد ولم توجد المساجد، فهذا دليل على أن الدار دار كفر. عن أنس بن مالك رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا غزى بنا قوماً لم يكن يغزو بنا حتى يصبح وينظر، فإن سمع أذاناً كف عنهم، وإن لم يسمع أذاناً أغار عليهم) رواه البخاري. وعن عصام المزني رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا بعث السرية يقول: إذا رأيتم مسجداً أو سمعتم منادياً فلا تقتلوا أحداً) يعني: لأن هؤلاء القوم مسلمون، بدليل الصلاة والأذان.

تسمية الله الصلاة إيمانا

تسمية الله الصلاة إيماناً إن الله سبحانه وتعالى سمى الصلاة إيماناً في القرآن الكريم، وذلك في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:143]، لأنه لما حولت القبلة إلى المسجد الحرام تساءل المسلمون: ماذا عن الصلاة التي صليناها إلى قبلة بيت المقدس؟ فطمأنهم الله سبحانه وتعالى أنهم ما داموا في الحالين مطيعين لأمر الله فلن تحبط صلاتهم التي صلوها إلى بيت المقدس، وأنه سوف يحفظ لهم ثوابها، فهذا معنى قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:143] يعني: صلاتكم إلى بيت المقدس. كذلك جعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الصلاة إيماناً في قوله: (آمركم بأربع وأنهاكم عن أربع: آمركم بالإيمان بالله وحده، أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، وأن تؤدوا خمس ما غنمتم) متفق عليه. الشاهد هنا أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الصلاة من الإيمان بالله وحده، وهذا دليل واضح جداً على أن العمل داخل في مسمى الإيمان، وأن الإيمان ليس مجرد التصديق، بل لابد معه من العمل. فقوله: (أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة) يعني: إقامة الصلاة إيمان وشعبة من شعب الإيمان؛ لأن كل شعبة من شعب الإيمان تسمى إيماناً، فمثلاً قوله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت) هذا العمل أطلق عليه إيمان، وهكذا قوله عليه الصلاة والسلام: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه) إذاًَ: شعبة الإيمان يجوز أن تسمى إيماناً، وإن كانت جزءاً من الإيمان، كذلك شعبة الكفر يجوز أن تسمى كفراً وإن كان كفراً أصغر. يقول الإمام البيهقي رحمه الله: وليس من العبادات بعد الإيمان الرافع للكفر عبادة سماها الله عز وجل إيماناً وسمى رسول الله صلى الله عليه وسلم تركها كفراً إلا الصلاة. وقال أيضاً: وقد ذكر الله جل جلاله الإيمان والصلاة ولم يذكر معها غيرها، دلالة بذلك على اختصاص الصلاة بالإيمان. ودلالة على أن هناك صلة وثيقة بين الصلاة وبين الإيمان، فالصلاة نفسها إيمان كما سماها تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:143] يعني: صلاتكم، وقال تبارك وتعالى: {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى} [القيامة:31] نفى عنه التصديق الذي هو الإيمان، ونفى عنه أيضاً الصلاة، فتوجد علاقة بين الصلاة والإيمان وثيقة وخاصة، فقوله عز وجل: (فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى) أي: فلا هو صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فآمن به، ولا صلى. وقال تبارك وتعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ} [المرسلات:48]، ثم قال: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} [المرسلات:50] فربط بين الصلاة وبين الإيمان، يعني: إذا كانوا لا يصلون فكيف يؤمنون؟! فوبخهم سبحانه على ترك الصلاة كما وبخهم على ترك الإيمان. وقد ذكر الله جل جلاله الصلاة وحدها دلالة بذلك على أنها عماد الدين، وما ذكر عملاً آخر إلا الصلاة، وذلك في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [الأنعام:92] فانظر الربط بين الإيمان وبين الصلاة.

الصلاة براءة من النفاق ومن النار

الصلاة براءة من النفاق ومن النار كما أن الصلاة إيمان فالصلاة أيضاً على الجانب الآخرة براءة من النفاق، فقد وصف الله المنافقين بأنهم كسالى عند قيامهم للصلاة، وأنهم يراءون الناس بها، يقول عز وجل: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء:142]، ويقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (من صلى لله أربعين يوماً في جماعة يدرك التكبيرة الأولى كتب له براءتان: براءة من النار، وبراءة من النفاق). وعن أبي سعيد رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (يكشف ربنا عن ساقه فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة -وهذا من أحاديث الصفات، فنثبتها بلا تكييف وبلا تعطيل، بل كما يليق بالله جل جلاله- ويبقى من كان يسجد في الدنيا رياءً وسمعة، فيذهب ليسجد فيعود ظهره طبقاً واحداً) أي: كلما حاول المنافق يوم القيامة أن يسجد يعود ظهره طبقاً واحداً، وهذا الحديث أخرجه البخاري. إذاً: السجود هو الذي ميز بين المؤمنين وبين المنافقين، وفي ذلك يقول تبارك وتعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} [القلم:42 - 43] أي: كانوا يدعون إلى السجود بالأذان في الدنيا، وذلك أن المؤمنين لما نظروا إلى ربهم خروا له سجداً، ودعي المنافقون إلى السجود فأرادوه فلم يستطيعوا، وحيل بينهم وبين ذلك عقوبة لهم؛ لأنهم كانوا يتركون السجود لله في الدنيا.

الصلاة سبيل المؤمنين وشعار حزب الله وأوليائه المفلحين

الصلاة سبيل المؤمنين وشعار حزب الله وأوليائه المفلحين إن الصلاة سبيل المؤمنين، وشعار حزب الله المفلحين، وأوليائه المرحومين، فمن لم يصل فهو من حزب الشيطان الخاسرين، وهو عدو الله ورسوله والمؤمنين؛ لأن ولي الله عز وجل لابد أن يكون مقيماً للصلاة، يقول تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة:71]. وعن إبراهيم ومجاهد في تفسير قوله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} [الكهف:28] قالا: الصلوات الخمس. وعن عمرو بن مرة الجهني رضي الله عنه قال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! أرأيت إن شهدت أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، وصليت الصلوات الخمس، وأديت الزكاة، وصمت رمضان وقمته، فممن أنا؟ قال: من الصديقين والشهداء). فهؤلاء المصلون هم أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وهم الذين تبكي لفراقهم السماء والأرض إذا أفضوا إلى ربهم، وهؤلاء هم الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، الذين افترض الله علينا أن نسأله في اليوم والليلة سبع عشرة مرة أن يهدينا صراطهم، حيث قال عز وجل: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:6 - 7]. إن الشريعة الغراء ندبتنا إلى أن ننظر دائماً إلى من هو فوقنا في الدين وفي العبادة، كما روي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: (انظروا إلى من هو أسفل منكم في الدنيا، وإلى من فوقكم في الدين). وقال الله تبارك وتعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} [الأعراف:205] وفي هذه الآية ما يقوي دواعي الذكر، وينهض الهمم إليه، ثم ذكر أمراً يقوي دواعي الذكر وينهض الهمم إليه بأن مدح الملائكة بقوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} [الأعراف:206] والمقصود من هذه الإشارة أنه أمر أولاً بالذكر، ثم ختم السورة بذكر حال الملائكة، واجتهادهم في ذكر الله تبارك وتعالى؛ لأجل الاقتداء بهم فيما ذكر عنهم؛ لأنه إذا كان حال أولئك -وهم في أعلى مقامات القرب والعصمة- يجتهدون في العبادة بهذه الصورة، فكيف ينبغي أن يكون غيرهم؟ إذاً: ينبغي لنا أن نستحضر حال هؤلاء الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، واجتهادهم في الصلاة؛ كي تنهض هممنا إلى الاقتداء بهم.

الصلاة هي القاسم المشترك بين سائر الكائنات

الصلاة هي القاسم المشترك بين سائر الكائنات إن الصلاة هي القاسم المشترك بين عبودية الكائنات كلها، يقول الله سبحانه وتعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} [النور:41]، فتأملوا هذه الآية الكريمة، أي: قد علم كل مصل ومسبح من الكائنات صلاة نفسه وتسبيحه الذي كلفه. يقول الزمخشري: ولا يبعد أن يلهم الله الطير دعاءه وتسبيحه كما ألهمها سائر العلوم الدقيقة التي لا يكاد العقلاء يهتدون إليها. يعني: نحن نرى بالأدلة الحسية أن كل هذه الكائنات قد هداها الله سبحانه وتعالى إلى أمور عجيبة جداً، سواء الحيوان أو النبات أو كذا وكذا، تجد أن الله سبحانه وتعالى هداها إلى أنواع عجيبة من الهداية، وقد ناقشنا هذا الموضوع بالتفصيل عندما تدارسنا قضية القضاء والقدر، وناقشنا نوعاً من أنواع الهداية التي هي الهداية العامة، وهي هداية كل مخلوق إلى ما يصلحه ويجلب له النفع ويدفع عنه الضر. يقول عز وجل: {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:50] فهذا الطفل عندما يخرج من بطن أمه فوراً تراه يلتقم موضع الرضاع بمنتهى الإتقان، مع أنها عملية ليست سهلة، بل هي عملية معقدة، من الذي هداه إلى كيفية هذا الالتقام؟! والقصص كثيرة جداً في هذا الموضوع، والخوض فيها يجعلنا نخرج عن موضوعنا الأساسي، فمن الذي ألهم النحل لتفاصيل الحياة العجيبة؟! ومن الذي ألهم النمل هذه العجائب؟! ومن الذي ألهم الطيور العجائب التي نعرفها؟! إن الذي ألهمها هذه الأشياء التي تفعلها هو الله عز وجل، وأذكر بعض الأمثلة التي ذكرها ابن القيم في كتابه (شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل)، ذكر أن نملة كانت تريد أن تدخل في إناء فيه عسل، لكن صاحب هذا العسل وضعه في إناء آخر فيه ماء؛ حتى لا تستطيع النملة الوصول إليه، فماذا فعلت هذه النملة؟ صعدت النملة على الجدار، ثم صعدت على السقف حتى صارت موازية للإناء الذي فيه العسل ثم أسقطت نفسها عمودياً على العسل! ومن الأمثلة أيضاً: أن فأراً كان يشرب زيتاً من برميل ثم نقص ذلك الزيت، فكان إذا وقف على حافة البرميل لا يستطيع أن يشرب من ذلك الزيت لبعده، ويخاف أن يقع في البرميل فيغرق في الزيت، فماذا يفعل؟ قام الفأر وملأ فمه ماءً ثم وضع الماء في الزيت حتى يرتفع الزيت ويطفو على الماء فلما اقترب منه الزيت شرب منه. من علّمه ذلك؟! إنه الله، فهذه هي الهداية العامة، فالله هدى كل مخلوق إلى ما يصلحه، ولو حاولت أن تقتل صرصوراً فانظر كيف يحاول الهروب منك وإنقاذ حياته؟! هل عنده عقل؟ لا ليس عنده عقل، لكن الله ألهمه ما يدفع به الشر عن نفسه. والنماذج في هذا كثيرة جداً، والعلوم الحديثة أَثْرَت المكتبات باكتشافات في غاية الروعة فيما يتعلق بالهداية العامة، من الذي يلهم هذه الكائنات تلك العلوم الدقيقة التي لا يكاد العقلاء يهتدون إليها؟ إنه الله سبحانه وتعالى. إذاً: فهل يبعد مع هذا أن يلهمها الله كيف تصلي له وكيف تسبحه؟! هذا بلا شك لا يمكن استبعاده، فظاهر الآية أن الطير تسبح وتصلي صلاة وتسبيحاً يعلمها الله ونحن لا نعلمها، ولذلك قال تبارك وتعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44]. كذلك من عبودية الكائنات قوله تبارك وتعالى: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} [الرحمن:6]، وقوله عز وجل: {يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} [سبأ:10]، كان داود عليه السلام ينشد الأذكار فتردد الجبال والطيور وهذه الكائنات خلفه عليه السلام هذا الذكر. كذلك أيضاً الصلاة واجبة على الجن، فالجن مكلفون بالصلاة كالآدميين، يقول الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: الجن مأمورون بالأصول والفروع بحسبهم، فإنهم ليسوا مماثلين للإنس في الحد والحقيقة، فلا يكون ما أمروا به وما نهوا عنه مساوياً ما على الأنس في الحد، لكنهم مشاركون الأنس في جنس التكليف بالأمر والنهي، والتحليل والتحريم. الملائكة أيضاً يصلون، فقد قال تعالى في حقهم: {فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ} [فصلت:38]، وقال أيضاً حاكياً قولهم: {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ} [الصافات:165] أي: عند الله سبحانه وتعالى يقفون صفوفاً. وقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها؟ -ثم ذكر كيفية اصطفافهم فقال-: يتمون الصف الأول فالأول، ويتراصون في الصف) رواه البخاري. وقد ميز الله سبحانه وتعالى هذه الأمة وفضلها على بقية الأمم، بأن جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة كما في الحديث الشريف الذي في صحيح مسلم عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة). وعن حكيم بن حزام رضي الله عنه قال: (بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه إذ قال لهم: أتسمعون ما أسمع؟ قالوا: ما نسمع من شيء، قال: إني لأسمع أطيط السماء، ولا تلام أن تئط وما فيها موضع شبر إلا وعليه ملك ساجد أو قائم) حديث صحيح. وقال صلى الله عليه وسلم: (إني لأرى ما لا ترون، وأسمع مالا تسمعون، أطت السماء وحق لها أن تئط، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته لله ساجداً). وفي حديث الإسراء قال صلى الله عليه وسلم: (فرفع لي البيت المعمور، فسألت جبريل فقال: هذا البيت المعمور يصلي فيه كل يوم سبعون ألف ملك إذا خرجوا لم يعودوا إليه آخر ما عليهم) رواه البخاري. وقال صلى الله عليه وسلم: (نزل علي جبريل فأمني فصليت معه، ثم صليت معه، ثم صليت معه، ثم صليت معه، ثم صليت معه، يحسب بأصابعه خمس صلوات) رواه البخاري. وقال عليه الصلاة والسلام في مشاركة الملائكة للمؤمنين في الصلاة: (إذا أمن الإمام فأمنوا؛ فإن من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه) رواه البخاري. وكذا الملائكة تحضر مع المؤمنين صلاة الجمعة، يقول صلى الله عليه وسلم: (إذا كان يوم الجمعة كان على كل باب من أبواب المسجد الملائكة يكتبون الأول فالأول، فإذا جلس الإمام طووا الصحف، وجاءوا يستمعون الذكر).

الصلاة خير موضوع وضعه الله وشرعه

الصلاة خير موضوع وضعه الله وشرعه إن الصلاة خير موضوع يشتغل به الإنسان على الإطلاق، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الصلاة خير موضوع، فمن استطاع أن يستكثر فليستكثر) حديث حسن. يعني: الصلاة أفضل ما وضعه الله وشرعه من العبادات، ففرضها أفضل الفروض، ونفلها أفضل النوافل. يقول صلى الله عليه وسلم: (أفضل الأعمال الصلاة لوقتها) رواه مسلم. وقال صلى الله عليه وسلم: (استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، ولن يحافظ على الوضوء إلا مؤمن) حديث صحيح. قوله: (استقيموا ولن تحصوا) يعني: لن تحصوا ثواب الاستقامة؛ لأن ثوابها عظيم، يقول عز وجل: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [إبراهيم:34] أو (استقيموا ولن تحصوا) يعني: لن تطيقوا أداء التقوى والاستقامة حق الأداء، لكن عليكم بما يسهل عليكم من هذه الأمور. قوله: (واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة) أي: لا يمكن أن يعمل الإنسان عملاً خيراً من الصلاة. قوله: (ولن يحافظ على الوضوء إلا مؤمن) أي: لما كانت الصلاة هي خير الأعمال ربطها بمفتاح الصلاة وشرطها وهو الطهور. وعن معدان بن أبي طلحة اليعمري قال: (لقيت ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: أخبرني بعمل أعمله يدخلني الله به الجنة، أو قال: قلت: أخبرني بأحب الأعمال إلى الله، فسكت، ثم سألته، فسكت، ثم سألته الثالثة، فقال: سألت عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: عليك بكثرة السجود لله؛ فإنك لا تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة، وحط عنك بها خطيئة) رواه مسلم. وعن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بقبر فقال: من صاحب هذا القبر؟ فقالوا: فلان، فقال صلى الله عليه وسلم: ركعتان إلى هذا أحب إليه من بقية دنياكم) يعني: هذا الشخص المدفون الآن في القبر لو خير بين أن يعود إلى الدنيا ويركع ركعتين نافلتين خفيفتين ويدخل القبر بعدها، بحيث يضاف ثوابهما إلى ميزان حسناته، لو خير بين هذا وبين أن يعود إلى الدنيا ويستمتع بكل ما تبقى على الدنيا من نعيم إلى أن تقوم القيامة، فإنه قطعاً وجزماً سيختار ثواب الركعتين القصيرتين الخفيفتين. وفي رواية: (ركعتان خفيفتان بما تحقرون وتنفلون يزيدهما هذا في عمله أحب إليه من بقية دنياكم) أي: لو خير بين أن يصلي ركعتين خفيفتين جداً مما يحتقرهما الناس من النوافل ويدخل القبر بعدها، وبين أن يعود إلى الدنيا ويستمتع بكل ما على الدنيا بلا استثناء إلى أن تقوم القيامة؛ لفضل ولآثر أداء هاتين الركعتين وزيادتهما في ميزان حسناته.

معنى الاستكثار من الصلاة

معنى الاستكثار من الصلاة نريد أن ننبه بالنسبة لقول الرسول عليه الصلاة والسلام: (الصلاة خير موضوع، فمن استطاع أن يستكثر فليستكثر)، وكذلك قوله: (عليك بكثرة السجود لله) أن المقصود بالكثرة هنا النوافل، أما الفرائض فلابد من أدائها كما هي بدون زيادة ولا نقصان، فلا يمكن أن يزيد الإنسان في صلاة الصبح أو غيرها؛ لأن عدد الفرائض ثابت، لكن المقصود بهذا النوافل، والنوافل على نوعين: الأول: تنفل مطلق. الثاني: تنفل مقيد. والتنفل المقيد هو السنن الرواتب وغير الرواتب، مثل: راتبة الوتر، أو سنة الفجر ونحو ذلك، فهذه مقيدة مقيد بعدد معين مثل ركعتين قبل الظهر وركعتين بعدها، أو أربع ركعات قبلها وأربع بعدها، أو أربع قبلها وركعتين بعدها، أو ركعتين قبلها وأربع بعدها، هذه كلها في صلاة الظهر، وكذلك في العصر أربع قبلها، وكذلك قبل المغرب صلاة ركعتين، وركعتين بعد المغرب، وركعتين سنة العشاء بعدها وهكذا، فهذه نوافل مقيدة بعدد. أما التنقل المطلق فشرطه أن يؤدى في أوقات غير أوقات النهي عن الصلاة، فممكن للإنسان أن يزيد ما شاء، ويصلي ما فتح الله عليه. إذاً: المقصود من الاستكثار هو الاستكثار من النوافل بنوعيها، فلا يفهم من الحديث كما يفهمه بعض المبتدعة، أن قوله: (فمن استطاع أن يستكثر فليستكثر) يعني: له أن أن يخترع صلوات لم تثبت في الشرع؛ لأن المقصود النوافل بنوعيها، لا كما قام أحد المبتدعة واخترع صلاة سماها: صلاة بر الوالدين، والثاني اخترع صلاة مؤنس القبر، فهذه فهذا بدعة وضلالة، ومعلوم ما ورد في البدع والضلالات من الزجر، يقول عليه الصلاة والسلام: (كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار) لكن تصلي بما ثبت، أو تتنفل تنفلاً مطلقاً ركعتين ركعتين مثلاً، وتزيد ما شئت من العدد، فهذا مستحب، ولك أن تزيد ما استطعت؛ لقوله صلى الله عليه وسلم فيما يريوه عن ربه تبارك وتعالى:: (ولا يزال العبد يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به) إلى آخر الحديث القدسي. كان ثابت بن أسلم رحمه الله تعالى يقول: الصلاة خدمة الله في الأرض، ولو كان شيء أفضل منها لما قال الله تبارك وتعالى {فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ} [آل عمران:39].

لماذا نصلي؟ [2]

لماذا نصلي؟ [2] إن للصلاة خصائص ومزايا كثيرة منها: أنها حفظ وحماية وحراسة للعبد المؤدي لها بشروطها وأركانها وواجباتها ومستحباتها، فهي حفظ له في نفسه وعرضه وماله، وهي حفظ له في دينه وإيمانه، وهي كذلك ملجأ المؤمن ومفزعه عند الكربات والشدائد، وهي أيضاً مفتاح الهداية للعالمين.

الصلاة حفظ وحماية وحراسة للعبد في الدنيا والآخرة

الصلاة حفظ وحماية وحراسة للعبد في الدنيا والآخرة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. وبعد: فإن الصلاة تحفظ العبد المؤدي لها من البلايا والمحن، يقول الله تبارك وتعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:45]، وهي أيضاً تحفظ العبد من عذاب النار يوم القيامة، وأدلة هذا كثيرة، وأشهرها الحديث الذي فيه أن الملائكة يبحثون في النار عمن يستحقون الخروج من النار وعدم الخلود فيها، فيعرفون أهل الكبائر بعلامة الصلاة؛ لأن الله حرم على النار أن تأكل أثر السجود. إذاً: المصلي في حماية الله تبارك وتعالى وحراسته كما بينا، فإن الله تبارك وتعالى قال في الحديث القدسي: (يا ابن آدم اكفني أول النهار أربع ركعات أكفك آخره أو أكفك بهن آخر يومك). والمراد: صلاة الضحى أربع ركعات في أول النهار، والجائزة قوله: (أكفك بهن آخر اليوم) أي: أحفظك طوال هذا اليوم حتى آخره. كذلك يقول صلى الله عليه وآله وسلم: (من صلى الصبح فهو في ذمة الله، فلا يطلبنكم الله من ذمته بشيء، فإنه من يطلبه من ذمته بشيء يدركه، ثم يكبه على وجهه في نار جهنم) رواه مسلم. قوله: (من صلى الصبح فهو في ذمة الله) أي: في حراسة الله وفي خفارة الله وفي حمايته وحفظه وكلئه. قوله: (فلا يطلبنكم الله من ذمته بشيء) يعني: أن الذي يصلي صلاة الصبح هو في جوار الله، فإياكم أن تخرقوا هذا الجوار، فتؤذوا أو تعتدوا على من هو في حماية الله. وفي عرف الناس إذا دخل رجل في جوار رجل وفي حمايته، فإذا حصل عدوان على المستجير به الذي دخل في حمايته فإنه يعتبر عدواناً على المجير. فهنا يخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن من صلى الصبح فهو في ذمة الله وفي جوار الله وفي حماية الله، فإياكم أن تؤذوا من هو في ذمة الله. قوله: (فإنه من يطلبه من ذمته بشيء يدركه ثم يكبه على وجهه في نار جهنم) أي: فمن لم يراع حرمة هذه الصيانة وهذه الحراسة الربانية فقد عرض نفسه للخطر الذي توعده الله تبارك وتعالى به، وهو أن يخلع عنه رداء عونه وتأييده، بحيث لا يبقى له أي ملاذ أو ملجأ، وسيجد نفسه يواجه الشيطان بمفرده بعد أن خذله الله تعالى، ولذلك يقول بعض الصالحين: والله ما عدا عليك العدو إلا بعد أن تخلى عنك المولى، فلا تظنن أن العدو غلب، ولكن الحافظ أعرض عن حفظك. ويقول صلى الله عليه وآله وسلم في رواية أخرى: (من صلى الصبح فهو في ذمة الله، فانظر يا ابن آدم لا يطلبنك الله من ذمته بشيء) وفيه وعيد لمن آذى المؤمن الذي يصلي الفجر؛ لأنه انتهك حرمة من هو في جوار الله وحمايته، وقد قال تبارك وتعالى في الحديث القدسي: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب)، ولا شك أن ولي الله لابد أن يكون مصلياً، كما أنه لابد أن يكون مسلماً. وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ست مجالس المؤمن ضامن على الله تعالى ما كان في شيء منها، فذكر منها: في مسجد جماعة، وعند مريض، أو في جنازة، أو في بيته، أو عند إمام) إلى آخر الحديث، إي: إذا وجد الإنسان في أي من هذه المجالس فهو في ضمان الله وحراسته وحفظه. وقال صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة كلهم ضامن على الله، إن عاش رزق وكفي، وإن مات أدخله الله الجنة -وذكر منهم-: من خرج إلى المسجد) فالخارج إلى المسجد عنده ضمانة من الله، إن مد الله له في الأجل رزق وكفي، وإن مات أدخله الله الجنة. فذكر في هذا الحديث: (ومن خرج إلى المسجد فهو ضامن على الله). وفي الحديث المشهور عن عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال له: (احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك) وفي رواية: (احفظ الله تجده أمامك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة). قوله: (احفظ الله) يعني: احفظ حدود الله وحقوق الله، واحفظ أوامره بالامتثال، ونواهيه بالاجتناب. ويقول تبارك وتعالى: {هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ} [ق:32]. (أَوَّابٍ) يئوب ويرجع إلى الله سبحانه وتعالى، (حَفِيظٍ) أي: حافظ لأوامر الله عز وجل، وحافظ لذنوبه كي يتوب منها ويستغفر منها باستمرار. ومن أعظم ما يجب حفظه من أوامر الله عز وجل الصلاة، كما قال الله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة:238]. ومدح الله المحافظين عليها بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [المعارج:34]. ونلاحظ في سورة المؤمنون وفي سورة المعارج حينما ذكر الله سبحانه وتعالى صفات المؤمنين المتقين الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون، أنه جعل أول صفة وآخر صفة المحافظة على الصلاة، فكأن هذا هو السياج الذي يحوط كل الأعمال الصالحة. وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (من حافظ عليها كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة). وقال صلى الله عليه وسلم في الصلوات أيضاً: (من حافظ عليهن كن له نوراً وبرهاناً ونجاةً يوم القيامة). وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن). إذاً: من حفظ حدود الله وراعى حقوقه حفظه الله؛ فإن الجزاء من جنس العمل.

أنواع حفظ الله عز وجل للعبد الصالح

أنواع حفظ الله عز وجل للعبد الصالح الحفظ يدخل فيه نوعان: الأول: حفظه له في مصالح دنياه. الثاني وهو أشرف النوعين: حفظه إياه في دينه وإيمانه. أما الحفظ الأول: فهو حفظ الله عز وجل العبد في مصالح دنياه كحفظه في بدنه وولده وأهله وماله، قال الله عز وجل: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد:11] يعني: كل إنسان له معقبات -وهم ملائكة- من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: (هم الملائكة يحفظونه بأمر الله، فإذا جاء القدر تخلوا عنه حتى يصيبه ما قدره الله له). ومن دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا). قوله: (واجعله الوارث منا) هذه مبالغة في حفظ الحواس لتبقى سليمة معافاة ليس فقط إلى حين الموت، لكن تبقى سليمة حتى بعد الموت، كأن صحتك وسمعك وبصرك وقوتك بعد موتك تبقى سليمة وترثك، فهذه من المبالغة في سؤال حفظ الله سبحانه وتعالى العبد من الآفات. وكان من دعائه صلى الله عليه وآله وسلم الذي كان يكرره صباح مساء: (اللهم احفظني من بين يدي ومن خلفي، وعن يميني وعن شمالي، ومن فوقي، وأعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي). ومن حَفِظ الله عز وجل في صباه وقوته حفظه الله في حال كبره وضعف قوته، ومتعه في سمعه وبصره وحوله وقوته وعقله، وقد يحفظ الله العبد بصلاحه بعد موته في ذريته، فإذا كان العبد صالحاً محافظاً على الصلاة وعلى أوامر الله تبارك وتعالى؛ فإن الله عز وجل يحفظه في ذريته، ليس فقط في حياته، بل وبعد مماته. فمن أراد أن يحفظ الله سبحانه وتعالى ذريته من بعده إذا خشي الموت أو غير ذلك؛ فأعظم ذخيرة يدخرها لهم هي أن يتقي الله سبحانه وتعالى في حال حياته، وذلك بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، فهذه هي أعظم وثيقة تأمين على الأولاد والذرية، وهي ليست المال، وليست العقارات، وليست أمور الدنيا، ولكن حفظهم بتقوى الله سبحانه، يقول عز وجل: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً} [النساء:9]. قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى: ما من مؤمن يموت إلا حفظه الله تعالى في عقبه وعقب عقبه. يعني: أولاده وأولاد أولاده. وقال ابن المنكدر رحمه الله تعالى: إن الله ليحفظ للرجل الصالح ولده وولد ولده، والدويرات التي حوله، فما يزالون في حفظ من الله وستر. يعني: بركة الصالح تتعدى المكان وتتعدى الزمان، تتعدى الزمان حيث تمتد إلى ولده وولد ولده فيحفظون؛ لأن أباهم كان رجلاً صالحاً، وتتعدى المكان حيث تمتد إلى الدويرات التي حوله وجيرانه فما يزالون في حفظ من الله وستر ببركته. وقال سعيد بن المسيب رحمه الله تعالى لابنه: لأزيدن في صلاتي من أجلك، رجاء أن أحفظ فيك، ثم تلى هذه الآية: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً} [الكهف:82]. ومن عجيب حفظ الله تبارك وتعالى لمن حفظه أن يجعل الحيوانات المؤذية بالطبع حافظة له من الأذى، مثال ذلك: قصة سفينة رضي الله عنه وهو من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهو مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ركب سفينة رضي الله عنه البحر فانكسر به المركب وخرج إلى جزيرة، فلما خرج إلى هذه الجزيرة رأى الأسد، فجعل ينادي الأسد بكنيته: يا أبا الحارث! أنا صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فجعل الأسد يمشي معه حتى دله على الطريق، فلما أوصله الأسد إلى رأس الطريق جعل يهمهم كأنه يودعه ثم رجع عنه وهذا الأثر رواه الطبراني والحاكم وصححه ووافقه الذهبي. فالأسد من أعظم ما يضرب به المثل في الإهلاك، فانظر كيف حفظ الله سبحانه وتعالى هذا العبد الصالح من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام من هذا الأسد الذي هو مؤذ بطبعه، والأذى كامن فيه، ومع ذلك حفظه الله عز وجل من هذا الشر، أما من ضيع أمر الله فإن الله تبارك وتعالى يضيعه، حتى يدخل عليه الضرر والأذى ممن كان يرجو نفعه، يقول الفضيل رحمه الله تعالى: إني لأعصي الله فأعرف ذلك في خلق خادمي ودابتي. يعني: إذا عصيت الله عرفت شؤم المعصية في الاعوجاج الذي يصيب دابتي، بحيث لا تنقاد له، وكذلك الخادم يفعل خلاف ما يأمره به سيده. هذا ما يتعلق بالنوع الأول من حفظ الله عز وجل العبد، وهو حفظه في نفسه وفي ماله وفي ذريته وسائر شئونه. النوع الثاني: حفظ الله العبد في دينه وإيمانه، فيحفظه في حياته من الشبهات المضلة، ومن الشهوات المحرمة، ويحفظ عليه دينه حتى يتوفاه على الإيمان، ويرزقه حسن الخاتمة. كان صلى الله عليه وآله وسلم يقول عند نومه: (إن أمسكت نفسي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين). وعلم عمر رضي الله تعالى عنه أن يدعو الله عز وجل بهذا الدعاء: (اللهم احفظني بالإسلام قائماً، واحفظني بالإسلام قاعداً، واحفظني بالإسلام راقداً، ولا تشمت بي عدواً حاسداً). وكان صلى الله عليه وآله وسلم إذا ودع من أراد سفراً قال له: (استودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك)، وكان يقول: (إن الله إذا استودع شيئاً حفظه)، فهو كان يقول هذا حتى يحفظ الله على هذا العبد دينه وأمانته وخواتيم عمله. وقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (احفظ الله تجده تجاهك) وفي رواية: (أمامك) معناه: أن من حفظ حدود الله وراعى حقوقه وجد الله معه في كل أحواله حيث توجه، يحوطه وينصره ويحفظه ويسدده، فإن الله سبحانه وتعالى يقول: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128]. قال قتادة: من يتق الله يكن معه، ومن يكن الله معه، فمعه الفئة التي لا تغلب، والحارس الذي لا ينام، والهادي الذي لا يضل.

الصلاة ملجأ المؤمن عند النوازل والكربات

الصلاة ملجأ المؤمن عند النوازل والكربات إن من فضائل الصلاة أنها ملجأ المؤمن في الكربات، فإذا ألمت بالمسلم الكربات أو نزلت به النوازل فالصلاة ملجأ له، وليس هذا إلا للمؤمن؛ لأن الله تبارك وتعالى قال: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة:45] أي: يستثقلها عامة الناس ما عدا الخاشعين {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:46]. في الصلاة استجابة لغريزة البشر النوعية، غريزة الافتقار والضعف والطلب، فالإنسان من حيث هو إنسان فيه هذه الغريزة أو هذه الفطرة، فالإنسان مهما نال من الأماني أو من الأشياء التي يحس أنه مفتقر إليها، فإنه يشعر أن الفقر مازال صفة لازمة له، فهو لا يستقر قلبه ولا يطمئن ولا يشعر بالغنى إلا إذا ظفر بمحبوبه الأعلى وهو الله سبحانه وتعالى، قال ابن القيم رحمه الله تعالى: لقد كان يسبي القلب في كل وليلة ثمانون بل تسعون نفساً وأرجح يهيم بهذا ثم يألف غيره ويسلوهم من فوره حين يصبح فلما دعا قلبي هواك أجابه فلست أراه عن خبائك يبرح فالشاهد أن القلب لا يمكن أن يسكن ويستقر إلا إذا وصل إلى الله سبحانه وتعالى، واستغنى بالله عما عداه، أما ما دون ذلك فلا يقنع؛ لأنه سريع التحول والبحث، ففطرة الإنسان أنه دائماً يشعر بالافتقار إلى من يحتمي به ويلجأ إليه، يقول عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر:15]. ولذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى بيتاً في نفس هذا المعنى: والفقر لي وصف ذات لازم أبداً كما الغنى أبداً وصف له ذاتي أي: كما أن من صفاته الذاتية الغنى أبداً، كذلك العبد من صفاته الذاتية من حيث لا يمكن أن يكون إنساناً إلا إذا كانت فيه هذه الصفة وهي الفقر أبداً. فالإنسان كما ذكرنا فيه غريزة الاحتياج والافتقار والضعف والطلب ممن هو أغنى منه، أو ممن هو أقوى منه فهو يطلب منه الحماية والمال والرزق والعافية والأمان وغير ذلك، فالصلاة نفسها هي عبارة عن استجابة لهذه الغريزة الفطرية الموجودة في الإنسان.

حب الالتجاء والاعتصام بالله غريزة وفطرة إنسانية

حب الالتجاء والاعتصام بالله غريزة وفطرة إنسانية من أعراض هذه الغريزة حب الالتجاء، فالإنسان يحب أن يلتجىء، وتلاحظون أن التجار يحاولون أن يعزفوا على هذا الوتر في قلب كل إنسان، فيتكلمون على التأمين، ويقولون: هو حصن حصين وأمان الملايين؛ لأنهم يعلمون أن هذه الغريزة موجودة في كل إنسان، من الشعور بالخوف من المستقبل، والقلق والخوف من الفقر وعلى الأولاد، فلذلك يحاولون أن يستثمروا هذه الفطرة بأن يخدعوا الناس بها، وأنهم سيلبون طلبهم. إذاً: الإنسان عنده غريزة الالتجاء والاعتصام والاحتماء والدعاء والمناجاة، والاطراح على عتبة القوي الغني الجواد الكريم الرءوف الرحيم، اللطيف الودود المعطي المانع السميع المجيب. فالصلاة أقرب إلى المؤمن وأكثر إيواءً، وسنذكر إن شاء الله بعض عجائب الصلاة، وهي كثير من القصص وسنقتصر على نماذج قليلة. هناك أناس من الكفار ولدوا كفاراً وما رأوا الصلاة من قبل، وبعضهم كان يفعل بعض أفعال الصلاة باجتهاد منه، كمن يصاب مثلاً: بمرض نفسي واكتئاب أو غيره، فلا يجد راحته إلا في وضع السجود، ولا يعرف أن هذا جزء من صلاة المسلمين، فهو ما رأى مسلماً يصلي، فلما رأى هذا السجود فوقف مندهشاً مذهولاً فسأل: ماهذا؟ فقيل: هذه صلاتنا، فهو عرف بالفطرة أن هذا السجود تعبير عن الالتجاء والاعتصام والاحتماء وتلبية لنداء هذه الفطرة، وهي فطرة الاحتياج إلى الله سبحانه وتعالى. إذاً: الصلاة أقرب إلى المؤمن، وأكثر إيواءً وأسرع نجدة وإسعافاً، وأتقى وأحنى وأعطف على العبد المؤمن من حجر الأم الحنون على الطفل الشريد اليتيم الضائع الضعيف العاجز، فهذا الطفل كلما هدد أو أصابه الروع أو الفزع أو مسه الجوع أو العطش آوى إلى أمه، فرمى نفسه في أحضانها أو تشبث بأذيالها، كذلك الصلاة هي أبلغ من هذا بالنسبة للمؤمن، فهي معقل المسلم وملجؤه الذي يأوي إليه، والعروة الوثقى التي يعتصم بها، وهي الحبل الموجود بينه وبين ربه الذي يتعلق به، وهي غذاء الروح، وبلسم الجروح، ودواء النفوس، وإغاثة الملهوف، وأمان الخائف وقوة الضعيف، وسلاح الأعزل، وقد قال الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:153]. وقال أيضاً: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ * الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:45 - 46]. يقول ابن كثير رحمه الله تعالى: استعينوا على طلب الآخرة بالصبر على الفرائض والصلاة. وقال أيضاً: إن الصلاة من أكبر العون على الثبات في الأمر.

فزع النبي عليه الصلاة والسلام إلى الصلاة عند الشدائد والنوازل

فزع النبي عليه الصلاة والسلام إلى الصلاة عند الشدائد والنوازل قال جل وعلا مخاطباً خليله محمداً صلى الله عليه وسلم، وكما لفتنا النظر من قبل أن الأليق والأنسب ألا ننقص النبي صلى الله عليه وسلم حقه، فأغلب الناس حينما يذكرون مثل هذا يقولون: خاطب حبيبه، فكيف نصفه بالمحبة وهو قد حباه الله بما هو أرقى وأرفع وأعلى من المحبة، وهي الخلة؟! قال عليه الصلاة والسلام: (إن الله اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً)، فينبغي إذا أردنا التعبير عن محبة الله لنبيه عليه الصلاة والسلام أن نصفه بخليله؛ لأنها أعلى درجات المحبة. قال عز وجل مخاطباً خليله محمداً صلى الله عليه وآله وسلم: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنْ السَّاجِدِينَ * وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:97 - 99]. هذه الآية فيها إشارة إلى النجاة من أذى أعداء الدين وأعداء الدعوة، فقوله: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ) يعني: مما يؤذونه به، يقول عز وجل: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيراً} [آل عمران:186]. إذاً: هذا ليس جديداً على المؤمنين، هذا سبق الإعلام به والتحذير منه. وقوله: (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنْ السَّاجِدِينَ) عبر هنا عن الصلاة بالسجود، كما تقول: صليت ركعة، والركعة فيها قيام وركوع وسجودين وجلسة وتشهد، فهو تعبير عن الكل بالجزء، وهذا مثله، (وَكُنْ مِنْ السَّاجِدِينَ). وقوله: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) فإن في ذلك شرحاً للصدر، وتفريجاً للكربة، وهكذا كان هديه العملي صلى الله عليه وآله وسلم، فقد كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة؛ لأنها الملجأ والمأوى والملاذ، قال حذيفة رضي الله تعالى عنه: (رجعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الأحزاب وهو مشتمل في شملة يصلي، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر صلى). وقال أمير المؤمنين علي رضي الله تعالى عنه: (لقد رأيتنا ليلة بدر وما فينا إلا نائم، غير رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ويدعو حتى أصبح). وعن ثابت رضي الله عنه: قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أصابته خصاصة نادى أهله صلوا صلوا)، قال ثابت: وكان الأنبياء إذا نزل بهم أمر فزعوا إلى الصلاة). وروي عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان ليلة ريح شديدة يفزع إلى المسجد حتى تسكن الريح). كذلك كان إذا حدث في السماء حدث من خسوف شمس أو قمر فإن مفزعه إلى الصلاة حتى ينجلي، فهذا هو شأن القلب الحي. نحن في هذا الزمان ابتلينا بجاهلية العلم، وقديماً كان عندهم جاهلية الجهل، أما الآن فعندنا جاهلية العلم، نقصد العلوم التجريبية التي استعملت في التمويه على الناس وصرفهم بعيداً عن حقائق الأمور، فهي جاهلية مغطاة بثوب العلم، إذا حصل كسوف أو خسوف أو زلزال أو غير ذلك من هذه الأشياء يقولون: هذه ظواهر طبيعية! ويشغلون الناس بقوة الزلزال كم درجته، والشروح الطويلة في طبقات الأرض وتكوينها، وغير هذه الاصطلاحات المعروفة، وإذا حصل بركان يظلون ينشغلون بتحليل البركان وصفاته كنوع من التحليل، وكدراسة وصفية لمثل هذه الظواهر فقط، وكل بركان نزل على الناس فأحرقهم وكل زلزال واقع عليهم فأهلكهم فهذه أشياء تقع في الوجود بأسباب يسببها الله سبحانه وتعالى، لكن هذه الأسباب لا تنفي أنها نذير من الله عز وجل، وبسبب هذه التحليلات العلمية يحرم الناس من الاعتراف بهذه البلايا وهذه المصائب، بسبب هذا الحجاب الذي يوضع على أعينهم، فهم يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا، وينشغلون بظاهر الأمور دون النفاذ إلى بواطنها وما ورائها من الحكم، لذلك كان صلى الله عليه وسلم إذا وقعت ريح شديدة أو رأى سحباً في السماء يظل يخرج ويدخل ويتغير شكله عليه الصلاة والسلام، فإذا سأله الصحابة عن ذلك قال: (وما يؤمنني أن تكون فيها عذاب من الله سبحانه وتعالى؟! وقد رأى قوم مثل هذا فقالوا: هذا عارض ممطرنا، {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الأحقاف:24])، فقد كان النبي عليه الصلاة والسلام دائم الوجل والخوف والفزع من عقوبة الله تبارك وتعالى.

فزع الصحابة والتابعين إلى الصلاة والمساجد عند النوازل والشدائد

فزع الصحابة والتابعين إلى الصلاة والمساجد عند النوازل والشدائد لقد كان شأن الصحابة الأبرار رضي الله تعالى عنهم أجمعين الفزع عند النوازل والكربات إلى الصلاة، فعن النضر قال: (كانت ظلمة على عهد أنس فأتيته فقلت: يا أبا حمزة! هل كان هذا يصيبكم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: معاذ الله! إن كانت الريح لتشتد فنبادر إلى المسجد مخافة أن تكون القيامة) هكذا كان شأن الصحابة؛ لأنهم تعلموا من النبي عليه الصلاة والسلام أن يفزعوا إلى الصلاة. كذلك كان شأن التابعين لهم بإحسان في كل جيل فالصلاة كانت بالنسبة لهم كالسيف أو السلاح في يد الجندي، فالجندي إذا أصابه أي فزع يفزع إلى السلاح؛ كي يحمي به نفسه أو من يحرسه، فكذلك المؤمن إذا نزلت به ملمة يفزع إلى الصلاة. والغني إذا احتاج يفزع إلى أن يسحب من حسابه أو من ماله حتى يسد حاجته، بل الطفل الصغير يبكي ويصرخ حتى يستعطف أمه لتحن عليه وترحمه، والسلف كانوا أكثر إدلالاً وثقة بصلاتهم، وأقوى اعتماداً عليها من كل ذلك، وأصبح ذلك طبيعة لهم لا تفارقهم، فإذا فزعوا أو أثيروا أو داهمهم عدو أو تأخر عليهم فتح أو التبس عليهم أمر؛ التجئوا إلى الصلاة وفزعوا إليها. كانت هذه أيضاً سيرة أعلام وأئمة المسلمين وقادتهم في كل عصر ومصر، فهذا صلاح الدين الأيوبي إذا راجعتم سيرته تجدون فزعه إلى الصلاة وذكر الله عز وجل وقراءة القرآن. وهكذا من تتبع معارك المسلمين وجهادهم ومواقفهم تجد فزعهم دائماً إلى الصلاة، ولعل هذا من حكمة تشريع صلاة الخوف حتى في أثناء الجهاد، حتى يبقى هناك المدد متصلاً مع الله سبحانه وتعالى خلال هذه الصلاة. حكي عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى أنه كان إذا أشكلت عليه آية، أو استصعب عليه علم عمد إلى بعض المساجد المهجورة، فقام يصلي، ويعفر وجهه بالتراب، ويطيل السجود، ويقول: يا معلم إبراهيم، علمني، ويا مفهم سليمان! فهمني، أخذاً من قوله تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء:79]. وكان شديد الابتهال عظيم التذلل لله تبارك وتعالى، ويفتخر بأنه سائل مستجد عريق في الشحاذة منه سبحانه، وقد ورثها أباً عن جد، فقد سمع شيخ الإسلام رحمه الله تعالى ينشد في بعض مناجاته ودعواته: أنا المكدي وابن المكدي وهكذا كان أبي وجدي يعني: أنني عريق في التسول من الله، عريق في الشحاذة والسؤال والافتراش على عتبته، أسأله وأتذلل إليه تبارك تعالى أن يقضي حاجتي.

ارتباط الصلاة بالحاجات والأحداث

ارتباط الصلاة بالحاجات والأحداث إن الصلاة ليست مقصورة على فريضة تؤدى في وقتها، ويتخلى بها المسلم عما أوجبه الله عليه من فضل، ولكنها جنة المسلم، فأنت لا تصلي بمجرد أن تستريح منها، كلا، بل أنت ينبغي أن تصلي؛ لأنها سلاحك وجنتك، والمفتاح الدائم الذي يفتح به كل فضل، ويكشف به كل هم وغم. فهناك صلاة للخوف، وصلاة للاستسقاء إذا انقطع المطر، فالصلاة مرتبطة بالحاجات، ومرتبطة بتفريج الكربات، كذلك إذا وقعت في معصية فإنك تفزع إلى الصلاة؛ كي تمحى عنك هذه الخطيئة، فعن أبي بكر رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من عبد يذنب ذنباً فيتوضأ فيحسن الطهور، ثم يقوم فيصلي ركعتين، ثم يستغفر الله لذلك الذنب إلا غفر الله له، ثم تلا قوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135])، وهذه صلاة التوبة يفزع إليها العبد إذا افترسه الشيطان وأوقعه في معصية. كذلك للخسوف وللكسوف صلاة، فالصلاة لها ارتباط بالحدث، فينبغي الفزع إلى هذه الصلوات الموظفة في أوقات معينة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، ولكنهما آيتان من آيات الله يخوف الله بهما عباده، فإذا رأيتم ذلك فصلوا وادعوا حتى ينكشف ما بكم) والغاية أن ينجلي وينكشف هذا الغم. وفي رواية: (فادعوا الله وكبروا وصلوا وتصدقوا). إذا أراد العبد أن تقضى له حاجة أو تفرج عنه كربة فبإمكانه أن يقدم بين يدي دعائه صلاة ركعتين، ليس هذا اعتماداً على الحديث الضعيف الوارد في شأن صلاة الحاجة؛ لأنه لا يصح؛ لكن لأن هناك ما يدل على أن من آداب الدعاء تقديم عمل صالح بين يدي الدعاء. وآداب الدعاء كثيرة منها: أن تتصدق قبل أن تدعو أو تقرأ قرآناً أو تختمه، أو تصوم وعند الإفطار تدعو أو غير ذلك، كذلك يمكن أن تصلي ركعتين قبل أن تدعو، باعتبار أن من آداب الدعاء تقديم عمل صالح بين يديه، ويستدل لهذا أيضاً بحديث عثمان بن حنيف رضي الله عنه: (أن رجلاً ضرير البصر أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ادع الله أن يعافيني فقال: إن شئت أخرت لك وهو خير، وإن شئت دعوت، فقال: ادع، فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه ويصلي ركعتين ويدعو). إلى آخر الحديث. فهذا فيه إشارة لهذا المعنى، وأنه قبل أن يدعو يصلي ركعتين. والمداومة على تعمير بيوت الله عز وجل بالصلاة وبالذكر من أسباب قضاء الحاجات، فعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: (إن للمساجد أوتاداً هم أوتادها، لهم جلساء من الملائكة، فإن غابوا سألوا عنهم، وإن كانوا مرضى عادوهم، وإن كانوا في حاجة أعانوهم) وهذا الحديث صححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، وذلك كله ببركة محافظتهم على صلاة الجماعة.

الصلاة مفتاح هداية للعالمين

الصلاة مفتاح هداية للعالمين إن من فضائل الصلاة أنها مفتاح هداية لكثير من الكافرين، نحن نعرف أن كل نسيج هو عبارة عن خيط، وهذا الخيط منه يصنع النسيج، كذلك كل قصة إيمان أو إسلام لكافر نجد أن الصلاة هي الخيط الأول الذي أوصله إلى الإسلام، ولذلك ينبغي أن تتحدث مع أي إنسان -حتى ولو كان ممعناً في الكفر والإلحاد- عن الصلاة؛ لأنك لا تعرف طبيعة تربة قلبه، هل هذه التربة خصبة أم تربة سبخة؟ لكن عليك أن تضع البذرة فقط، ومالك وشأنها، ولا يخصك بعد ذلك هل البذرة تنمو أم لا تنمو؟ فأغلب قصص الاهتداء والإيمان والاستقامة إنما تبدأ ببذرة، فقد تجد إنساناً يلقي كلمة ويمضي، ثم إن هذه الكلمة تثير بركاناً في نفسية من سمعها، حتى وإن لم يظهر ذلك، فإذا سمع من غيرك أيضاً ربما أثرت، وهكذا إلى أن ينتهي به الأمر إلى الإسلام والهداية والاستقامة، فما عليك إلا أن تضع البذرة؛ لأن الهدى هدى الله، يهدي من يشاء ويضل من يشاء، فأنت فقط مطالب بأن تضع البذرة في التربة وعلى الله سبحانه وتعالى نماؤها. وهذه البذرة الأولى أو هذا الخيط الأول يختلف اختلافاً كثيراً، وهذا الموضوع في حد ذاته يحتاج كلاماً مفصلاً، وهو بحث شيق، ونرجو أن تأتي فرصة له فيما بعد.

نماذج من قصص المهتدين إلى الإسلام بسبب آيات وأحاديث وغيرها

نماذج من قصص المهتدين إلى الإسلام بسبب آيات وأحاديث وغيرها إن الإنسان عندما يطالع قصص المهتدين إلى الإسلام يجد أشياءً عجيبة، فمن أعاجيب ما قرأت قريباً عن رجل إنجليزي كان سبب إسلامه شيئاً غريباً جداً، لقد كان يعيش في باكستان، وكان له أصدقاء في العمل من المسلمين، ففي يوم من الأيام صنع له أحد أصدقائه المسلمين وليمة، فكان سبب إسلامه لذة طعم الطعام الذي قدم إليه، وقال: إن أمة تملك هذا المذاق الطيب في الطعام لابد أن تكون على حق! ونحن في هذه الحالة لا نقول: إن هذا صدفة، ولعله بعد أن تلذذ بالطعام اطلع على مظاهر الجمال والروعة في دين الله تبارك وتعالى. وامرأة كافرة كانت من أعتى الكفار في بلاد الغرب، أسلمت بمجرد أنها اطلعت على كتاب يبحث عن موقف الإسلام من قضية الاختلاط الحر بين الرجال والنساء، فكان فيه كلام طيب، فأعجبت جداً بهذا الكلام وأسلمت بسبب ذلك! وهذا رجل كان عالماً من علماء الموسيقى، وكان متخصصاً في الأصوات، وأسلم حينما عرف أن القرآن فيه آية تقول: {إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان:19]، فقال: هذه لا يمكن أن يقولها إلا الخالق؛ لأن هذا الصوت هو من أشد الأصوات نشازاً، ولا يعرف ذلك إلا قليل.

نماذج ممن اهتدوا إلى الإسلام بسبب الصلاة

نماذج ممن اهتدوا إلى الإسلام بسبب الصلاة إن نسبة عظيمة جداً من حالات الاهتداء إلى الإسلام كان الخيط الأول أو البذرة الأولى فيها رؤية المسلمين وهم يصلون، فمجرد هذه النظرة كانت بداية الكثيرين ممن أسلموا؛ لأنهم محرومون من هذه الشعيرة العظيمة التي تدعو الفطرة إليها، فربما يكون عندهم شيء يسير من هذه الفطرة والحاجة والفقر إلى من يعتصمون به، لكن كيف يعبرون عن هذه الحاجة؟! وكيف يصلون ما بينهم وبين الله تبارك وتعالى إلا من خلال الصلاة؟! فنذكر بعض النماذج عمن اهتدوا إلى الإسلام، وكان الخيط الأول في هدايتهم أنهم رأوا مسلماً يصلي، ولذلك نلاحظ إخواننا في جماعة التبليغ يهتمون جداً بهذا الأمر؛ لأنهم يدركون هذه الحقيقة، فهم في المطارات والهيئات الحكومية في العالم وفي زحمة الجوازات وغير ذلك في أي مكان؛ تجد الواحد منهم يؤذن ويصلي حتى يقيم الحجة على الكفار، وحتى يوقظ فيهم الشعور بالحرمان من هذه النعمة؛ لأننا -نحن المسلمين- إذا لم نعش روح الصلاة، ونحس بروح الصلاة، ونقيمها حق إقامتها؛ تصبح عادة مع الوقت، فالنعمة تبقى معنا ونحن لا نشعر بقيمتها، لكن إذا نظر إليها محروم منها فإنها تقع في قلبه موقعاً عظيماً. نبدأ أولاً بشهادة لرجل غير مسلم، وله كتب ومقالات عجيبة في إنصاف الإسلام والدفاع عنه، إنه تومس أرلون، وهو مشهور، وله كتاب (العقيدة الإسلامية) وغيرها من الكتب القيمة جداً في الدعوة إلى الإسلام، ومن أروع الكتب التي تتكلم عن التاريخ الإسلامي والدعوة الإسلامية هو هذا الكتاب. يقول في كتابه (العقيدة الإسلامية): إن دين المسلم يتمثل دائماً في مخيلته وفي الصلوات اليومية، ويتجلى هذا الدين في طريقة نسكية خاشعة مؤثرة، لا تستطيع أن تترك العابد والمشاهد كليهما غير متأثرين. يعني: لا يمكن للصلاة أن تترك الشخص الذي يصليها أو الذي ينظر إليه دون أن يتأثر بمنظر الصلاة! ويحدثنا إخواننا الذين يطالعون وسائل الإعلام الغربية: أن الإعلام الغربي بصفته تابع لليهود إذا جاء منظر المسلمين وهم يصلون فهم يأتون بالصورة بطريقة غير كاملة، تجد أنهم يقرنون الصورة بشيء يلفت انتباه النظر بعيداً عن روعة الصلاة ولذة الصلاة، مثل صورة رأيتها في بعض المجلات لبعض الشباب المسلمين أيام الانتفاضة وهم ساجدون في الشارع، والجنود اليهود يقفون أمامهم في الصفوف بمنتهى الاستكبار والصلف، رافعين الأسلحة، وينظرون إليهم في سخرية، والمهم أنهم لا يأتون بصورة الصلاة كاملة؛ لأن المعروف والمجرب أن الكافر إذا اطلع على صفة الصلاة كاملة، يشعر بالفقر وبالحرمان، ويشعر بانجذاب إليها، وبعضهم صرح أنه لما رأى منظر المصلين وهم يصلون قال: لا يمكن أن يعبد الله بطريقة أحسن من هذه! فلأنهم يدركون هذا المعنى فهم يحرصون دائماً على تشويه صورة المصلين، فلا يأتون بصورة الصلاة كاملة، وقد رأيت ذلك بنفسي في فيلم تسجيلي يسمى (سيف الإسلام)، حيث أتوا بالمصلين وهم يصلون في صورة أناس واقفين ويرفعون أيديهم، أهذه هي الصلاة فقط؟ كذلك الأذان لا يمكن أن يأتي الإعلام الغربي بالأذان كاملاً؛ لأن كثيراً من الناس انجذبوا إلى الإسلام بمجرد سماعهم صوت الأذان، وزاد انجذابهم عندما عرفوا معاني هذا الأذان. يقول تومس أرلون أيضاً في كتابه (العقيد الإسلامية): هذا الفرض المنظم من عبادة الله، هو من أعظم الأمارات المميزة للمسلمين عن غيرهم في حياتهم الدينية، فكثيراً ما لاحظ السائحون وغيرهم في بلاد المشرق ما لكيفية أدائه من التأثير في النفوس. وإليك ما قاله الأسقف لوفر واك يقول: لا يستطيع أحد يخالط المسلمين لأول مرة إلا يدهش ويتأثر بمظهر عقيدته، فإنك حيثما كنت سواء أوجدته في شارع مطروق، أم في محطة سكة حديدية، أم في حقل، كان أكثر ما تألف عينك مشاهدته أن ترى رجلاً ليس عليه أدنى مسحة للرياء، ولا أقل شائبة من حب الظهور، يذر عمله الذي يشغله كائناً ما كان، وينطلق في سكون وتواضع لأداء صلاته في وقتها المحدد. ثم يقول: ولننتقل من صلاة الفرد إلى صلاة الجماعة، فنقول: إنه لا يتأتى لأحد يرى -ولو مرة في حياته- ما يقرب من خمسة عشر ألف مصل في ساحة المسجد الجامع بمدينة دلهي بالهند يوم الجمعة الأخيرة من شهر رمضان، وكلهم مستغرقون في صلاتهم، وقد بدت عليهم أكبر شعائر التعظيم والخشية في كل حركة من حركاتهم. ثم يقول: إنه لا يتأتى لأحد يرى ذلك المشهد ألا يبلغ تأثره به أعماق قلبه، وألا يلحظ ببصره القوة التي تمتاز بها هذه الطريقة من العبادة عن غيرها. ثم يقول: كما أن توقيت الأذان اليومي للصلاة في أوقات معينة، حينما يرن به صوت المؤذن في أبكر البكور قبل الإفطار، وعند الظهيرة والناس مضطربون ومصطخبون في أعمالهم، وعند المساء، هذا الأذان الذي يحصل في هذه الأوقات على تلك الصورة كل يوم مشحون هو الآخر بذلك الجلال عينه. وينقل عن رينان إيرنس رنن -وهو فيلسوف فرنسي مشهور جداً- قوله: ما دخلت مسجداً قط دون أن تهزني عاطفة حارة! أو بعبارة أخرى: دون أن يصيبني أسف محقق على أنني لم أكن مسلماً. نقول: ما منعك من الإسلام؟! وقد كان مشهد الصلاة من الأسباب المساعدة على دخول رجل يهودي من أهل الإسكندرية في الإسلام، كما حكى هو عن نفسه إذ قال: كنت مريضاً مرضاً شديداً فتمثل لي في أثنائه أن هاتفاً يهتف ويهيب بي أن أعلن إسلامي، ولما دخلت المسجد ورأيت المسلمين مصطفين للصلاة وقوفاً كالملائكة، سمعت في نفسي صوتاً يناديني بقوله: هذه هي الجماعة التي أنبأ بها الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. ثم يقول: ولما رأيت الخطيب يتقدم للخطبة، وعليه رداء أسود؛ وقع في نفسي وجدان الرهبة والخشية، ولما ختم خطبته بالآية الكريمة التي يقول الله تعالى فيها: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:90] وأقيمت بعد ذلك الصلاة، آنست من نفسي أنها سمت سمواً كبيراً، فقد بدت لي صفوف المسلمين كأنها صفوف الملائكة، -وهو لا يعرف الحديث (ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها) - وأن الله سبحانه قد تجلى عليهم في ركوعهم وسجودهم، وسمعت في نفسي منادياً يناديني بقوله: إن الله سبحانه إذا كان قد خاطب شعب إسرائيل مرتين في جميع القرون الخالية، فلا جرم أنه يخاطب هذه الجماعة في كل وقت من أوقات صلاتها، واقتنعت في نفسي بأني ما خلقت إلا لكي أكون مسلماً. هناك أيضاً قصة فيها ذكر سبب إسلام أحد اليهود: كان هناك محام منذ زمن في مصر، وكان من أشهر المحامين على الإطلاق في مصر، وهو زكي عريبي، وكان عميد اليهود في مصر، يحكي الدكتور عيسى عبده رحمه الله تعالى في كتاب له بعنوان (لماذا أسلموا؟) عن حالة هذا المحامي اليهودي وما الذي أداه إلى الإسلام، يقول: كان زكي عريبي يتحرق شوقاً إلى الإسلام كلما رأى مسجداً، أو وقعت عيناه على رجل يصلي لله في خشوع، ويبتهل إليه في خضوع، وكان قلبه ينشرح حين تقع في أذنيه كلمات الأذان تدعو الناس إلى عبادة الواحد الديان، وكان هناك سؤال يتردد في نفسه، ويلح على عقله دائماً وهو: لماذا لا يعتنق الإسلام؟ وكان هذا الخاطر يعلو صوته في داخله، ويهزه من أعماقه كلما رأى بين الحقول رجلاً متواضعاً من زارعي الأرض يقف بين يدي الله مؤدياً صلاته في المصلى الصغير على شاطئ الترعة، فكان يود لو كان يصلي مثل صلاته، ويناجي مثل مناجاته، وهي قصة طويلة انتهت بإعلانه إسلامه، وكان عمره خمساً وستين سنة. ورجل ألماني رأى مسلماً ساجداً فتعجب أشد العجب من هذه الحركة، مما حدا به أن ينتظر حتى ينتهي ذلك المسلم من صلاته، فلما انتهى تقدم إليه وسأله عن معنى هذه الحركات، وبخاصة ما يتعلق بالسجود، فبين له ذلك المسلم معنى الصلاة وحكمتها وآثارها، فأصيب وهو يستمع إلى الشرح بما يشبه الذهول الممزوج بالفرحة، وكأنه قد وقع على ما كان يبحث عنه منذ سنين، وبين للمسلم سبب تعجبه، وهو أنه أصيب بمرض نفسي وضيق دائم، وأنه ما أن يلصق جبهته بالأرض حتى يشعر بالراحة، وكلما عاوده ذلك الضيق النفسي عاد لإلصاق جبهته بالأرض ليجد راحته، حتى رأى ذلك المسلم فعرف سر تلك الراحة التي كان يشعر بها، فاصطحبه ذلك المسلم إلى المركز الإسلامي في ميونيخ حيث شرح له المسلمون هناك الإسلام، وإثر ذلك أعلن شهادة التوحيد، ودخل في الإسلام. وهذا رجل ثري جداً من أثرياء الهندوك في الهند، ويدعى كوك هلال جابا وصار اسمه بعد إسلامه خالد لطيف جابا وكان سياسياً وصحافياً ومؤلفاً مشهوراً في الهند، يحكي عن الإشعاعات النورانية الأولى التي أشرقت في قلبه، مبيناً أن مصدرها كان هو مشهد المسلمين وهم يصلون، يقول: كنت كلما مررت بأحد المساجد للمسلمين في الهند أفعم قلبي بالإحساس بعظمة هذا المكان وقدسيته، وكنت أشعر دوماً أن المؤذن وهو ينادي إلى الصلاة كأنه يقصدني أنا بالذات في ندائه ذلك، وكأن هاتفاً من داخله يجيبه قائلاً: هيا بنا إلى الصلاة، هيا بنا إلى الفلاح، كان قلبي يريد الانضمام إلى جماعة المؤمنين في المسجد، وكان النداء والدافع قوياً إلى درجة أني لم أتمالك نفسي من الدخول إلى المسجد، والوقوف في صف المسلمين، والحقيقة أنني لم أستطع مقاومة ذلك، وظللت أفعله فترة طويلة من الزمن! يعني: قبل أن يدخل الإسلام كان ينجذب إلى المسجد، ولا يستريح إلا إذا دخل في الصفوف وصلى معهم. وهذه الأخت الفلبينية جميلة لاما، والتي كانت قد ربيت تربية كاثولوكية صارمة، ثم أشرق قلبها بنور ربها فأسلمت له وجهها، تحكي عن بعض التجارب التي مرت بها، وكانت عبارة عن إرهاصات سبقت إسلامها فتقول في قصة طويلة: والغريب أنني كنت أستيقظ عند الفجر، وتحدوني رغبة قوية للصلاة! يعني: كأن الإنسان خلق ليصلي. ويوجد بحث لم يتيسر لي أن أحضره في مجلة طبية إنجليزية، يتحدث الباحث وهو كافر لا علاقة له بالإسلام، ولا عنده خبر به والله أعلم، يتحدث

لماذا نصلي؟ [3]

لماذا نصلي؟ [3] لقد اختلف العلماء في حكم تارك الصلاة تكاسلاً لا جحوداً وإنكاراً، فمنهم من قال: إنه كافر خارج من الملة، ومنهم من قال: إنه كافر غير خارج من الملة، فجدير بالمسلم أن يحافظ على الصلوات الخمس حيث ينادى بهن، حتى لا يكون عرضة لعذاب الله وغضبه. وللمحافظة على الصلوات فوائد كثيرة، ومصالح عظيمة، من أهمها: أنها سبب لدخول الجنة ورؤية الله عز وجل فيها، وبالمحافظة على الصلاة يرتفع حكم الكفر عن الشخص والبلد.

ارتفاع حكم الكفر عن الشخص والدار بإقامة الصلاة والأذان

ارتفاع حكم الكفر عن الشخص والدار بإقامة الصلاة والأذان إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل على محمد النبي وأزواجه أمهات المؤمنين وذريته وأهل بيته، كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. روى البخاري عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: (إن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا غزا بنا قوماً لم يكن يغزو بنا حتى يصبح وينظر، فإن سمع أذاناً كف عنهم، وإن لم يسمع أذاناً أغار عليهم). من فوائد هذا الحديث: أن وصف الكفر يرتفع عن البلاد أو الدولة أو الدار بظهور شعائر الإسلام وأحكامه، وفي مقدمة هذه الأحكام إقامة الصلاة، كما أن الصلاة تثبت الهوية الإسلامية للشخص على مستوى الأفراد، ويرتفع حكم الكفر عن الشخص بإقامته الصلاة لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا؛ فذاكم المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم، فلا تخفروا الله في ذمته). وهذا نهي عن أن يتعرض لمسلم يصلي صلاتنا ويستقبل قبلتنا ويتلبس بهذه الشعائر الإسلامية، فبالتلبس بهذه الشعائر يرتفع وصف الكفر عن الفرد، فإذا رأيت رجلاً نصرانياً مثلاً أو يهودياً يصلي فهذه علامة واضحة على أنه قد دخل في دين الإسلام، وأنه صار من أهل الإسلام، باعتبار أن الصلاة أبرز وأخطر وأهم شعائر الإسلام الظاهرة، فهي التي تثبت الهوية الإسلامية للدار، فإذا لم يسمع الأذان في بلد ولم توجد فيه المساجد، فهذا دليل على أن هذه الدار دار كفر، وإذا سمع الأذان ووجدت المساجد حتى غدت مظهراً من مظاهر الدار فهي دار إسلام، وسبق أن ناقشنا ذلك بالتفصيل عند دراستنا لكتاب (الغلو في الدين)، وقلنا: إن الأرجح والأقرب أن العامل الأساسي الذي تصنف الدار على أساسه هو إقامة الصلاة، لهذه الأحاديث التي ذكرناها، وإذا قلنا: إذا وجدت المساجد صارت دار الإسلام، وإذا رفع الأذان صارت دار إسلام، فليس معنى هذا مجرد وجود المساجد، لكن المقصود أن يصبح الأذان والصلاة من الشعائر الظاهرة في المجتمع، وهذه مسألة نسبية، فقد توجد قرية صغيرة في صحراء أو في أي منطقة ريفية، وعدد السكان فيها قليل جداً فيوجد فيها مسجد واحد فقط أو مسجدان، فيحكم عليها بأنها دار إسلام، لكن مدينة كبيرة مثل: نيويورك أو غيرها من المدن الضخمة جداً، فيوجد مثلاً في نيويورك حوالى سبعين مسجداً، لكن بالنسبة لحجم المدينة وضخامتها، لا يرفع الأذان، وليس وجود المساجد مظهراً وسمة عامة تصبغ المجتمع بصبغة الإسلام بأذان وإقامة الصلاة، فبالتالي لا يكفي أن نحكم بأنها دار إسلام مع وجود هذا العدد الكبير من المساجد، بل تبقى دار كفر؛ لأن الصلاة والمساجد والأذان ليست من الشعائر الظاهرة التي تصبغ هذا المجتمع بهذه الشعائر، والدليل على هذا حديث أنس رضي الله تعالى عنه السابق: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا غزا بنا قوماً لم يكن يغزو بنا حتى يصبح وينظر، فإن سمع أذاناً كف عنهم). لأن هذا يدل على أنهم مسلمون، وأن هذه بلاد إسلام، قال: (وإن لم يسمع أذاناً أغار عليهم). وروي عن عصام المزني رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا بعث السرية يقول: إذا رأيتم مسجداً أو سمعتم منادياً؛ فلا تقتلوا أحداً). إذاً: من خصائص الصلاة ومناقب الصلاة: أن الصلاة شعار دار الإسلام.

اقتران الصلاة في القرآن والسنة بالإيمان

اقتران الصلاة في القرآن والسنة بالإيمان إن من فضائل الصلاة: أن الصلاة إيمان، فقد سمى الله تبارك وتعالى الصلاة إيماناً في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:143]. يعني: صلاتكم إلى بيت المقدس، كذلك أيضاً جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة إيماناً فقال: (آمركم بأربع وأنهاكم عن أربع: آمركم بالإيمان بالله وحده، أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، وأن تؤدوا خمس ما غنمتم) متفق عليه. فدل على أن الصلاة من الإيمان. يقول الإمام الحافظ البيهقي رحمه الله تعالى: وليس من العبادات بعد الإيمان الرافع للكفر عبادة سماها الله عز وجل إيماناً، وسمى رسول الله صلى الله عليه وسلم تركها كفراً إلا الصلاة. وقال البيهقي رحمه الله تعالى أيضاً: وقد ذكر الله جل جلاله الإيمان والصلاة فلم يذكر معها غيرها، دلالة بذلك على اختصاص الصلاة بالإيمان، فقال تبارك وتعالى: {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى * وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [القيامة:31 - 32]. فهو لم يقل مثلاً: فلا صدق ولا صلى ولا صام ولا زكى ولا حج، لكن بصفة أساسية قرن الصلاة مع الإيمان والعقيدة والتصديق. فقوله: (فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى) (وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى) يعني: فلا هو صدق برسول الله صلى الله عليه وسلم فآمن به ولا هو صلى. وقال أيضاً: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ [المرسلات:48]، ثم قال: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} [المرسلات:50]. فهنا قرن بين عدم الركوع وبين الكفر، إذ لو كانوا مؤمنين لركعوا وصلوا لله تبارك وتعالى. يقول البيهقي: فوبخهم على ترك الصلاة كما وبخهم على ترك الإيمان، وقد ذكر الله جل جلاله الصلاة وحدها دلالة بذلك على أنها عماد الدين؛ لأنه قرنها بالإيمان، ومثله قوله تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [الأنعام:92]. انظر كيف قرن الإيمان بالصلاة؛ فدل على خطورة الصلاة، وكما أن الصلاة إيمان فترك الصلاة كفر، فقد قال الله تعالى في حق المشركين: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة:11]. قوله: (إِنْ تَابُوا) يعني: إن تابوا من شركهم، وأقاموا الصلاة معتقدين وجوبها آتين بأركانها، وآتوا الزكاة المفروضة؛ فإخوانكم في دين الإسلام، هذا منطوق الآية، ومفهومها أن من أصر على شركه، وعلى ترك الصلاة، وترك الزكاة، ولم يتب ويدخل في الإسلام؛ فليس من إخواننا في دين الإسلام.

حكم تارك الصلاة وأقوال أهل العلم في ذلك

حكم تارك الصلاة وأقوال أهل العلم في ذلك يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله) متفق عليه. يعني: هذا أقبله منهم في الظاهر، والله عز وجل هو الذي يحاسبهم فيما يبطنون، ويعلم هل هم صادقون أم منافقون؟ وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة) رواه مسلم. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة). وهذا أيضاً في مسلم. وفي لفظ: (ليس بين العبد وبين الكفر إلا ترك الصلاة). وقال صلى الله عليه وسلم: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر). كذلك جاء في تفسير قوله تعالى: {لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنْ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً} [مريم:87] قيل: الصلاة، وإن كان هذا القول ليس مشهوراً في كتب التفسير. وعن محجن بن الأدرع الأسلمي رضي الله عنه (أنه كان في مجلس مع النبي صلى الله عليه وسلم فأذن للصلاة، فقام النبي صلى الله عليه وسلم، ثم رجع ومحجن في مجلسه، فقال له عليه الصلاة والسلام: ما منعك أن تصلي؟ ألست برجل مسلم؟ قال: بلى، ولكني صليت في أهلي، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إذا جئت فصل مع الناس وإن كنت قد صليت) وقوله صلى الله عليه وسلم: (ما منعك أن تصلي؟ ألست برجل مسلم؟) معناه: أنك لو كنت مسلماً لصليت.

أقوال الصحابة في أهمية الصلاة وحكم تركها

أقوال الصحابة في أهمية الصلاة وحكم تركها عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: (أما إنه لا حظ لأحد في الإسلام أضاع الصلاة) وروي عنه بلفظ: (لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة). وعن عبد الله بن شقيق رضي الله تعالى عنه قال: (كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر غير الصلاة) وهذا صحيح. يعني: كان مستقراً عند الصحابة أن الشخص الذي لا يصلي لا أمل له في النجاة، وهو مستحق أن يعذبه الله تبارك وتعالى على ترك الصلاة كما سنبين إن شاء الله تعالى، فكان الصحابة عموماً قد استقر في قلوبهم أن غير المصلي لا نجاة له؛ ولذا كانوا يلغزون بذلك، فيقول الدينوري: (كان أبو هريرة رضي الله تعالى عنه إذا جلس مع أصحابه يقول لهم: حدثوني عن رجل دخل الجنة لم يصل قط). فهذا لغز لا يتصور، فنجاة غير المصلي شيء على خلاف الأصل، إذ لا مطمع له ولا مطمح في النجاة. قال: فسكت الصحابة؛ لأنهم لا يتصورون أن ينجو غير المصلي، فيقول أبو هريرة رضي الله عنه: هو أخو بني عبد الأشهل عمرو بن أقيش رضي الله عنه، وكان له رباً في الجاهلية، فكره أن يسلم حتى يأخذه، فجاء يوم أحد، فقال: أين بنو عمي؟ قالوا: بأحد، قال: أين فلان؟ قالوا: بأحد، قال: فأين فلان؟ قالوا: بأحد، فلبس لأمته -لباس الحرب- وركب فرسه، ثم توجه قبلهم، فلما رآه المسلمون توقعوا منه شراً؛ لأنهم لم يكونوا علموا أنه دخل في الإسلام، فلما رآه المسلمون مقبلاً عليهم، قالوا: إليك عنا يا عمرو -يعني: ابتعد عنا- قال: إني قد آمنت، فقاتل حتى جرح، فحمل إلى أهله جريحاً، فجاءه سعد بن معاذ رضي الله عنه، فقال لأخته: سليه أقاتلت حمية لقومك أو غضباً لهم أم غضباً لله عز وجل؟ فقال: بل غضباً لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم، فمات فدخل الجنة، وما صلى لله عز وجل صلاة). وهذا؛ لأنه أسلم ولم يأت عليه وقت صلاة، بل شارك في الجهاد فقتل، فهو لم يمتنع عن أداء الصلاة، ولو حضر وقت الصلاة لوجب عليه أن يصلي. وصح عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه قال: (لا إيمان لمن لا صلاة له، ولا صلاة لمن لا وضوء له) يعني: كأن الصلاة شرط في صحة الإيمان، كما أن الوضوء شرط في صحة الصلاة.

أقوال التابعين ومن بعدهم في حكم تارك الصلاة

أقوال التابعين ومن بعدهم في حكم تارك الصلاة يقول إبراهيم النخعي رحمه الله تعالى: من ترك الصلاة فقد كفر. ويقول أيوب السختياني: ترك الصلاة كفر لا يختلف فيه، يعني: لا يختلف في وصفه بأنه كفر. وقال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: أخشى ألا يحل للرجل أن يقيم مع امرأة لا تصلي، ولا تغتسل من الجنابة، ولا تتعلم القرآن. وقال ابن الجوزي رحمه الله تعالى: والعلماء لهم اصطلاح في تارك الصلاة الذي لا عذر له، يقولون: تارك الصلاة على صحة البدن لا تجوز شهادته، ولا يحل لمسلم أن يؤاكله، ولا يزوجه ابنته، ولا يدخل معه تحت سقف.

خلاف العلماء في حكم تارك الصلاة

خلاف العلماء في حكم تارك الصلاة هناك خلاف بين العلماء هل ترك الصلاة كفر أكبر يخرج من الملة أم هو كفر عملي من الكبائر العظام، لكنه لا يخرجه من الملة، ولا ينزع عنه صفة الإسلام؟ إن العلماء لهم تنبيه مهم جداً يذكرونه في مثل هذا الباب، سواء في باب وعيد قاتل النفس، أو حكم ترك الصلاة أو غير ذلك من الذنوب والكبائر العظام المهلكة، وهذا التنبيه هو: أنه لا ينبغي أن يتعرض لهذه النصوص بالتأويل، خاصة في غير مجلس علم، كأن يكون أمام عموم الناس كالخطب على المنابر، فعليك أن تأتي بالنصوص على وجهها، وأن تتركها تفعل فعلها، وتقع موقعها من القلوب، وهو الترهيب من مواقعة هذه الذنوب، والترغيب في التوبة منها، فلا ينبغي أن تقول: أنا أكتم العلم، فلا بد أن أفصل المسائل كلها، وأقول للناس كل الحقائق إلى غير ذلك، فهذا يقال في مجالس طلبة العلم والفقه، أما مع عموم الناس فلا ينبغي الإفاضة في ذكر تأويلات العلماء في مثل هذه الأشياء، فإذا أتيت بقوله صلى الله عليه وسلم: (لعن الله النامصة والمتنمصة) فلا تقل: هي فلانة بنت فلان التي تنمصت، وهي ملعونة؛ لأنك لا تدري لعلها تتوب، أو كانت جاهلة بالحكم، أو تفعل حسنات ماحية، فأنت لا تدري كيف تكون العاقبة، لكن عليك أن تأتي بالنصوص على عمومها، وتقول: من فعل كذا فهو كذا، أو لعن الله من فعل كذا، ومن فعل كذا فقد كفر، حتى لو كنت تعرف أن هذا كفر عملي لا يخرج من الملة، ففي مقام الدعوة العامة لا تؤوله، وكذلك في قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ} [النساء:93] إلى آخره، فقد نهى العلماء عن التعرض لتأويل هذا النص، لكن اترك النص يفعل فعله، ويقع موقعه من قلب المستمع؛ لعله ينزجر عن الكبيرة، لأن كثرة الكلام في العذر بالجهل والعذر بالإكراه، وكثرة تأويل مثل هذه النصوص ممن لا يطيقون حمل هذه المعاني؛ يجعلهم يضعونها في غير موضعها؛ ولذلك فإن مقام الدعوة غير مقام التنظير والتأصيل والتقعيد؛ لأن التأصيل والتقعيد يكون في مجالس العلم بين العلماء، أما أمام العوام فيخشى أن يقع فيما حذر منه ابن مسعود رضي الله تعالى عنه بقوله: (ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم، إلا كان لبعضهم فتنة). وقال علي رضي الله عنه: (حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟). فإذاً: ينبغي أن يخاطب الناس على قدر عقولهم؛ لأن بعض العوام إذا قلت له: الشيء الفلاني مكروه، المكروه عنده مباح، ويتمادى في فعله، كذلك إذا أولت مثل هذه النصوص، فإنها تضعف تأثيرها في قلبه؛ لقصر عقله، وقلة باعه في العلم، على أي حال تارك الصلاة يسمى كافراً قطعاً بلا خلاف؛ لأنه هكذا سماه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لكن الخلاف في هذا الكفر الذي يوصف به تارك الصلاة، هل هو كفر أكبر أم كفر أصغر؟ نحن في هذا المقام نتجنب ذكر التفاصيل واختلاف العلماء في حكم تارك الصلاة، وفي نوع هذا الكفر الثابت وصفه لتارك الصلاة تكاسلاً مع اعتقاده وجوبها، وإلا فلو جحد فهو كافر، لكن نحن نهمس فقط في أذن تارك الصلاة الذي لا ندري كيف يتمتع بنعم الله سبحانه وتعالى، ويدعي الانتساب للإسلام ومع ذلك لا يصلي؟!! كيف يكون في هذا خير؟!! نقول لتارك الصلاة: هل تقبل ويرضيك أن يكون انتسابك إلى ملة الإسلام، وإلى دين التوحيد، وإلى أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم محل خلاف بين العلماء؟! ففريق من العلماء يقول: إنك كافر مشرك حلال الدم والمال، وإنك لا تستحق الحياة، بل على ولي أمر المسلمين أن يقتلك ردة على ترك الصلاة، وإنه لا يجوز لك أن تتزوج من مسلمة، ولا تصلح ولياً شرعياً لأولادك، وإنك لا ترثهم ولا يرثونك، وإنك لا تغسل ولا يصلى عليك ولا تدفن في مقابر المسلمين، وإنك مستحق للخلود في جهنم مع فرعون وهامان وقارون وأبي بن خلف وأبي جهل وسائر أعداء الدين، فهذا الفريق الأول من العلماء يرى هذا الرأي في تارك الصلاة. الفريق الآخر يقول: بل تارك الصلاة فاسق عاص فاجر مجرم، يجب قتله حداً إن أصر على ترك الصلاة. فهل تقبل أن يكون انتماؤك إلى الدين أو إلى الإسلام أو إلى أمة محمد عليه الصلاة والسلام مسألة خلافية بين العلماء يتنازعون فيها؟ لا شك أن هذه دناءة ما بعدها دناءة أن يجعل الإنسان إسلامه وانتماءه للإسلام محل خلاف؛ فمن أجل ذلك يقول بعض العلماء: يا تاركاً لصلاته إن الصلاة لتشتكي وتقول في أوقاتها الله يلعن تاركي

أقوال أهل العلم في حكم تارك الصلاة

أقوال أهل العلم في حكم تارك الصلاة إن ترك الصلاة من أكبر الكبائر الموبقة، قال الإمام محمد بن نصر المروزي رحمه الله تعالى: سمعت إسحاق يقول: صح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن تارك الصلاة كافر) وكذلك كان رأي أهل العلم من لدن النبي صلى الله عليه وسلم أن تارك الصلاة عمداً من غير عذر حتى يذهب وقتها كافر. وقال الإمام ابن حزم رحمه الله تعالى: لا ذنب بعد الشرك أعظم من ترك الصلاة حتى يخرج وقتها، وقتل مؤمن بغير حق. ويقول الشيخ المحقق ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى: لا يختلف المسلمون أن ترك الصلاة المفروضة عمداً من أعظم الذنوب وأكبر الكبائر، وأن إثمه عند الله أعظم من إثم قتل النفس وأخذ الأموال، ومن إثم الزنا والسرقة وشرب الخمر، وأنه متعرض لعقوبة الله وسخطه وخزيه في الدنيا والآخرة. قد يتأفف تارك الصلاة من أن يفعل فاحشة الزنا مثلاً، أو أن يسرق، أو أن يرابي، أو يقذف المحصنات، أو يقتل النفس، أو يسرق الأموال، أو يشرب الخمر، ولا يدري المسكين أن ترك الصلاة أخطر وأشد إهلاكاً له من هذه الكبائر، فترك الصلاة أكبر وزراً بعد الشرك بالله تبارك وتعالى. وقال الإمام الذهبي رحمه الله تعالى: فمؤخر الصلاة عن وقتها صاحب كبيرة، وتاركها بالكلية -يعني: تارك الصلاة الواحدة بالكلية- كمن زنى وسرق؛ لأن ترك كل صلاة أو تفويتها كبيرة، فإن فعل ذلك مرات فهو من أهل الكبائر إلا أن يتوب، فإن لازم ترك الصلاة فهو من الأخسرين الأشقياء المجرمين.

تنزيه الصلاة لمن أداها عن وصف النفاق

تنزيه الصلاة لمن أداها عن وصف النفاق إذا كانت الصلاة إيماناً، وترك الصلاة كفراً، وهي تبرئ الإنسان وتنزهه عن وصف الكفر، فهي كذلك تنزهه عن وصف النفاق، فقد جاءت نصوص كثيرة تدل على هذا. منها: قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (من صلى لله أربعين يوماً في جماعة يدرك التكبيرة الأولى، كتب له براءتان: براءة من النار، وبراءة من النفاق) حديث حسن. ونحن نتكلم عن جنس الصلاة سواء كانت نافلة أم فريضة، فالصلاة تكون سبباً في البراءة من النفاق، وسبباً في البراءة من النار. وعن أبي سعيد رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (يكشف ربنا عن ساقه فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة، ويبقى من كان يسجد في الدنيا رياء وسمعة، فيذهب ليسجد فيعود ظهره طبقاً واحداً) أخرجه البخاري. إذاً: السجود يميز الله عز وجل به يوم القيامة بين المؤمن وبين المنافق.

حال المنافقين مع الصلاة

حال المنافقين مع الصلاة لقد بين الله تبارك وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم أن ترك الصلاة نفاق، يقول تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء:142] قوله: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ) أي: يظهرون الإسلام، وقوله: (وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى) أي: أنهم كانوا يصلون، لكن يقومون إلى الصلاة وهم كسالى، وقوله: (يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا) يعني: يصلون مراءاة، وهم متكاسلون متثاقلون لا يرجون ثواباً، ولا يعتقدون على تركها عقاباً. روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: (يكره أن يقوم الرجل إلى الصلاة وهو كسلان، لكن يقوم إليها طلق الوجه، عظيم الرغبة، شديد الفرح، فإنه يناجي الله، وإن الله تجاهه يغفر له، ويجيبه إذا دعاه). ونحن نلاحظ حين تقام الصلاة أن بعض الناس يتأخرون ويتثاقلون عنها، كأنه يحمل جبلاً فوق رأسه إلى أن يصل إلى الصف، وهذا مخالف للآداب الشرعية، بل هذه الصفة من صفات المنافقين، فإنهم إذا قاموا للصلاة قاموا كسالى، وعلام يكسل وهو يقبل على هذه النفحات؟ والرسول صلى الله عليه وسلم نص على نفس هذا المعنى في قوله: (احضروا الذكر وادنوا من الإمام، فإن الرجل لا يزال يتباعد حتى يؤخر في الجنة وإن دخلها). قوله: (احضروا الذكر وادنوا من الإمام) أي: السنة الاقتراب من الإمام، وكلما اقتربت من الإمام فإن ذلك أفضل. قوله: (فإن الرجل لا يزال يتباعد حتى يؤخر في الجنة وإن دخلها) أي: حتى لو استحق دخول الجنة، لكنه كما تعمد التأخر عن صفوف الصلاة نتيجة التكاسل فإنه وإن دخل الجنة سيؤخر في منزلته ومرتبته. قوله: (حتى يؤخر في الجنة وإن دخلها) يعني: من يتأخر يؤخره الله، والجزاء من جنس العمل. وقال سبحانه وتعالى في شأن المنافقين أيضاً: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى} [التوبة:54] قوله: (وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى) قال ابن عباس: (إن كان في جماعة صلى، وإن انفرد لم يصل) يعني: شأن المنافق إن كان في جماعة من الناس يرونه فإنه يصلي مراءة لهم، وإن انفرد ولم يطلع عليه أحد من البشر لم يصل. فهذا المنافق هو الذي لا يرجو على الصلاة ثواباً، ولا يخشى في تركها عقاباً؛ لأن النفاق يورث الكسل في العبادة لا محالة، وإنما يدفعهم إلى الصلاة الرغبة في إرضاء الناس، والتظاهر بالإيمان فراراً من الذم، وسعياً إلى الكسب والمغنم، وهم إذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى، ولا يؤدونها بخشوع وحضور قلب، بل يؤدونها وهم شاردون عن الخالق إلى المخلوق كما قال تبارك وتعالى في شأنهم: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون:4 - 7]. قوله: (الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ): يقول ابن كثير: إما عن وقتها الأول فيؤخرونها إلى آخره دائماً أو غالباً، وإما عن أدائها بأركانها وشروطها على الوجه المأمور به، وإما عن الخشوع فيها والتدبر لمعانيها، فاللفظ يشمل ذلك كله، ولكن من اتصف بشيء من ذلك فله قسط من هذه الآية، ومن اتصف بجميع ذلك فقد تم له نصيبه منها، وكمل له النفاق العملي. يعني: هؤلاء المنافقون الذين يقول الله فيهم: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} [الماعون:4] هم مصلون، لكن ما صفة صلاتهم؟ {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون:5] وهذا فيمن يضيع وقتها، فكيف بمن يهجرها كلها ويتركها بالكلية؟! يقول ابن مسعود رضي الله تعالى عنه في شأن صلاة الجماعة: (ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان يؤتى بالرجل، يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف) رواه مسلم. قوله: (ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق) أي: مغموز ومشهور بالنفاق. قوله: (ولقد كان يؤتى بالرجل يهادى بين الرجلين) يعني: أن الرجل من الصحابة إذا كان مريضاً شديد المرض قد عذره الله سبحانه وتعالى، لكن قلبه لم يطق أن يتخلف عن صلاة الجماعة، فكان يأتي إلى المسجد مستنداً على رجلين يمشي بينهما يتمايل من شدة الضعف، وهؤلاء هم المؤمنون الخلص، عذر الله أبدانهم فلم تطق قلوبهم. وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (كنا إذا فقدنا الرجل في الفجر والعشاء أسأنا به الظن) يعني: أن يكون من المنافقين. وقال صلى الله عليه وسلم في موقف المنافقين من صلاة العشاء: (ولو علم أحدهم أنه يجد عظماً سميناً لشهدها) رواه مسلم. يعني: من صفات المنافقين أنهم يبحثون عن الأمور المادية والأمور الدنيوية؛ لأن الدنيا تدفعهم وتؤزهم أزاً. لو أن محلاً من المحلات التجارية أعلن عن تخفيض بنسبة (90%) مثلاً ماذا تتوقعون أن يحصل في اليوم التالي؟ ستجد الناس يتسارعون للشراء من هذا المحل، فكذلك بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم موقف المنافقين من الصلاة، بحيث لو قيل لهم: إن من أتى المسجد في صلاة العشاء سيجد عظماً سميناً؛ لما تخلف منهم أحد؛ من أجل أن ينال هذا العظم السمين. إذاً: المنافقون لو لاح لهم شيء من الدنيا لبادروا إليه، فهذا شأنهم ودأبهم، إن قلت: حيّ على الشهوات طاروا إليها خفافاً وثقالاً، وإن قلت حيّ على الصلاة قاموا إليها كسالى، لهم في المعاصي وثبات، وفي الطاعة سكون وثبات. وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبواً) قوله: (لو يعلمون ما فيهما) يعني: لو عندهم يقين، لكن ليس عندهم يقين، فالدافع غير موجود؛ لأنه ليس عندهم تصديق ولا يقين بهذا الوعد، وهو ثواب الصلاة. قوله: (لأتوهما ولو حبواً) يعني: يحبو كما يحبو الصبي. يقول صلى الله عليه وسلم: (ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلاً فيصلي بالناس، ثم أنطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار) متفق عليه. يعني: أن تارك صلاة الجماعة يستحق أن يعاقب بتحريق بيته عليه، لكن المانع من ذلك هو ما فيه من الأطفال والذرية كما جاء في رواية ضعيفة، فحتى لا يتعدى الضرر إلى من لا يستحق العقوبة ممن لا تجب عليه صلاة الجماعة من الأطفال والنساء والصبيان فمن أجل ذلك فقط امتنع النبي عليه الصلاة والسلام من تحريق بيوت هؤلاء المتخلفين عن صلاة الجماعة، أو بعبارة أخرى أنه هم أن يفعل ذلك ولم يفعل؛ لأن صلاة الجماعة واجبة عليه، فلو استخلف رجلاً لفاتته الجماعة الأولى، ولأجل ذلك لم يفعل. وقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر) يفهم من هذا أنهم يشهدون غيرهما من الصلاة؛ لأنهم في النهار لا يستطيعون التستر والتخلف، أما الفجر والعشاء فكل منهما صلاة ليلية، والمساجد ما كانت مضاءة بهذه الصورة فيما مضى، فالمنافق يتستر وراء ظلام الليل في الفجر والعشاء؛ لأن الناس لا يرونه في الظلام غالباً، أما في النهار فإنه يرائي بالصلاة؛ كي يحقن دمه وماله، ويأخذ حكم الإسلام، فمن أجل ذلك كانوا يشهدون الصلوات النهارية، أما صلاة الفجر والعشاء فكانوا يتثاقلون عنهما، فكيف بمن يدعي الإسلام والإيمان ولا يشهد الصلوات الخمس كلها في الجماعة، فظاهر المنافقين في عهد النبوة كان أحسن حالاً من ظاهر هؤلاء المسلمين اليوم الذين لا يشهدون صلاة الجماعة! يقول القرطبي رحمه الله تعالى معلقاً على قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبواً): وذلك لأن صلاة العشاء تأتي وقد أتعبهم عمل النهار، فيثقل عليهم القيام إليها، وصلاة الصبح تأتي والنوم أحب إليهم من مفروح به، ولولا السيف ما قاموا. انتهى كلام القرطبي. ما أصدق قول رسول صلى الله عليه وسلم في حق هؤلاء المنافقين: (إن الله يبغض كل جعظري جواظ) الجعظري هو: الفظ الغليظ المتكبر، والجواظ هو: الجموع المنوع. (إن الله يبغض كل جعظري جواظ صخاب في الأسواق) سخاب بالسين أو بالصاد: ذو الصخب والجلبة، يرفع صوته بالبضاعة كما يفعل بعض الناس، فهذا ليس من أدب المسلم أن يكون كثير الصخب والجلبة والزعق. ثم يقول عليه الصلاة والسلام: (جيفة بالليل حمار بالنهار) قوله: (جيفة بالليل) أي: لا يذكر الله سبحانه وتعالى، لا يصلي فجراً ولا عشاء ولا غيرهما. قوله: (حمار بالنهار) يعني: يسعى في طلب الدنيا كالحمار طول النهار، ثم قال: (عالم بأمر الدنيا، جاهل بأمر الآخرة). والحقيقة أن المنافق الذي هو جيفة بالليل أخف حالاً من الشخص الذي يسهر الليل أمام الأفلام والمسرحيات والأغاني والحفلات؛ لأن هذا إن كان ظالماً فالعوام يقولون: نوم الظالم عبادة؛ لأنه إذا نام يكون قليل الشر والمعاصي، فالمنافق الذي ينام بالليل يكون أخف من حال هذا الذي هو مستيقظ بالليل في معصية الله تبارك وتعالى. فالمنافقون خشب بالليل، صخب بالنهار، إذا جن عليهم الليل سقطوا نياماً كأنهم خشب، لا يذكرون الله تعالى ولا يصلون، فإذا أصبحوا تصاخبوا على الدنيا شحاً وحرصاً؛ ولهذا قال في حق الواحد منهم: (جيفة بالليل، حمار بالنهار) أي: أنه كالجيفة؛ لأنه يعمل طوال النهار لدنياه، وينام طول الليل كالج

المحافظة على الصلوات سبيل المؤمنين وشعار حزب الله المفلحين

المحافظة على الصلوات سبيل المؤمنين وشعار حزب الله المفلحين إن الصلاة سبيل المؤمنين، وشعار حزب الله المفلحين وأوليائه المرحومين، {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:115] فالصلاة معلم أساسي ورئيسي من معالم سبيل المؤمنين، فلا يتصور أن مؤمناً لا يصلي، هذا شيء غير وارد؛ فلذلك من الشعائر الظاهرة لأهل الإيمان وأولياء الله وحزب الله سبحانه وتعالى المحافظة على الصلاة، فمن لم يصل فهو ليس من حزب الله، إنما هو من حزب الشيطان الخاسرين، وهو عدو الله ورسوله والمؤمنين؛ لأن ولي الله عز وجل لا بد أن يكون مقيماً للصلاة؛ لأنه لا يتوقع أبداً ولا يتصور أن ولياً من أولياء الله يستحق صفة الولاية ثم هو لا يصلي، بل قطعاً الذي لا يصلي بدون عذر وعمداً أنه من أولياء الشيطان، وهو من حزب الشيطان الخاسرين، يقول تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة:71]. وعن إبراهيم ومجاهد في تفسير قوله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} [الكهف:28] (بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ) قالا: الصلوات الخمس. وعن عمرو بن مرة الجهني رضي الله تعالى عنها قال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! أرأيت إن شهدت أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، وصليت الصلوات الخمس، وأديت الزكاة، وصمت رمضان وقمته، فممن أنا؟ قال: من الصديقين والشهداء) فهؤلاء المصلون هم أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، قال الله عنهم: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:62 - 63]. إذاً: كل من آمن واتقى فهو ولي من أولياء الله، وليست الولاية حكراً على طبقة خاصة، كما يزعم بعض الصوفية أن الولاية متوارثة لطبقات معينة، بل ولاية الله باب مفتوح لكل الناس، فكل واحد إما أنه ولي لله أو ولي للشيطان، ولا يوجد وسط، لكن المسلمون يتفاوتون في درجة الولاية. فالناس ينقسمون إلى قسمين: أولياء الله وهم المسلمون، وأعداء الله وهم الكفار. في مصر لما يذكر أولياء الله الصالحين تذهب الأذهان إلى الموتى، قال الشيخ أبو بكر الجزائري حفظه الله حين زارنا قبل سنوات بعيدة: أنتم هنا في مصر عندكم أولياء الله الصالحين، لقد تبادر إلى أذهانكم الموتى، أليس عندكم أولياء لله أحياء؟! ثم قال مخاطباً الإخوة: كلكم أولياء الله ما دمتم تصلون وتتقون. إذاً: ولاية الله باب مفتوح لكل من على وجه الأرض وأراد أن يصير ولياً من أولياء الله تبارك وتعالى، حتى لو كان شمعون بيريز وغيره من الكفار، فالباب مفتوح أمامهم على مصراعيه، فمن أراد أن يكون ولياً لله فهذا أمر سهل جداً، يقول عز وجل: {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [يونس:63 - 64]. وأذكر أن الشيخ الجزائري قال: لو أني نزلت من مطار القاهرة وقلت لصاحب (التكسي): أريد أن أزور أولياء الله في القاهرة، فماذا سيفعل؟ سيطوف بي على جميع المقابر والأضرحة قبر الحسين والسيدة زينب والسيدة نفيسة إلى آخر هؤلاء الأولياء. يعني: أن هذا المعنى فعلاً راسخ في قلوب الناس، لكن الصحيح والذي ينبغي أن ننبه الناس إليه أن باب الولاء مفتوح لكل من على وجه الأرض، فكل إنسان يستطيع أن يكون ولياً من أولياء الله، وذلك بأن ينضم إلى حزب الله تبارك وتعالى. إذاً: هؤلاء المصلون هم أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وهم الذين تبكي لفراقهم السماء والأرض إذا أفضوا إلى ربهم. وهؤلاء هم الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، الذين افترض الله سبحانه وتعالى وأوجب علينا أن نسأله أن يهدينا إلى صراطهم، يقول عز وجل: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7] نسأله ذلك سبع عشرة مرة في اليوم والليلة على الأقل في الصلوات الخمس.

ترك الصلاة شعار أصحاب سقر الخالدين في الجحيم

ترك الصلاة شعار أصحاب سقر الخالدين في الجحيم إذا كانت الصلاة سبيل المؤمنين، وشعار حزب الله المفلحين وأوليائه المرحومين، فإن ترك الصلاة شعار أصحاب سقر الخالدين في الجحيم، يقول الله تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ * لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ * عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} [المدثر:27 - 30]، وقال أيضاً تبارك وتعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} [المدثر:38 - 42] انظر حيثيات الحكم عليهم بدخول سقر {قَالُوا} [المدثر:43] باعترافهم هم {لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ} [المدثر:43 - 45] إلى آخر الآيات. فتارك الصلاة في سقر، والمستكبرون عن الركوع لله عز وجل، والمستهترون بمواقيت الصلاة لهم الويل، يقول سبحانه وتعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} [المرسلات:48 - 49]. كذلك قال تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون:4 - 5] وهم المستهترون بوقت الصلاة. والمضيعون الصلاة المفرطون فيها لهم الغي كما قال تعالى بعدما ذكر أولياءه من الأنبياء الصالحين: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم:59]، فنقول لتارك الصلاة: أليس إقامة خمس صلوات في اليوم والليلة -التي لها من الفضائل ما لا يحصى- أهون من شرب الصديد، ومقطعات الحديد، ومعاناة العذاب الشديد؟!

الصلاة نور وبرهان ووضاءة للمؤمن في الدنيا والآخرة

الصلاة نور وبرهان ووضاءة للمؤمن في الدنيا والآخرة إن الصلاة نور وبرهان ووضاءة، الصلاة نور يزيل ظلام الزيغ والباطل، وهي نور بكل معنى كلمة النور، نور تنور وجه صاحبها في الدنيا، وتكسوه جمالاً وبهاءً كما هو محسوس، وتنير قلبه؛ لأنها تشرق فيه أنوار المعارف، وتنير ظلمة قبره كما قال أبو الدرداء رضي الله تعالى عنه: (صلوا ركعتين في ظلم الليل لظلمة القبر)، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها، وإن الله ينورها بصلاتي عليهم) أو كما قال صلى الله عليه وسلم. كما أن هذا النور يتلألأ على جبين المصلي يوم القيامة، يقول صلى الله عليه وسلم: (والصلاة نور، والصدقة برهان) رواه مسلم، وهي نور في الدنيا، نور في القلب، ثم يشرق على الوجه، ونور في القبر، ونور يوم القيامة، ونور في الجنة؛ فلذلك عمم وقال: (والصلاة نور)، وقوله: (والصدقة برهان) أي: دليل وحجة وبرهان على إيمان صاحبها. والصلاة وضاءة للوجه وإشراق له، يقول تبارك وتعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح:29] أي: التواضع والسكينة والإخبات والخشوع في وجوههم من أثر السجود. قال بعض المفسرين: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح:29] قال: الصلاة تحسن وجوههم. ومن رزق فراسة رأى هذا النور على وجه المصلي، بينما يرى الظلام والسواد على وجه تارك الصلاة والعياذ بالله. وقال الحسن: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح:29] أي: السمت الحسن. يعني: أن الصلاة تحسن صورته وسمته ووجهه. وعن منصور عن مجاهد قال: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ} [الفتح:29] يعني: الخشوع، فالتواضع خلق المصلي، وغير المصلي مستكبر، قال عز وجل: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ} [المرسلات:48] يستكبرون عن الركوع لله سبحانه وتعالى، ولما فسر مجاهد قوله تعالى: (سِيمَاهُمْ) بالخشوع، قال منصور لـ مجاهد: ما كنت أراه إلا هذا الأثر في الوجه، فقال: ربما كان بين عيني من هو أقسى قلباً من فرعون. فلا يعجز أحد -حتى لو كان منافقاً- أن يضغط بشدة على الحصير حتى تحصل له هذه العلامة؛ فهذه السيما في الخشوع، بحيث يتوارى الخيلاء والكبرياء، ويحل محلها التواضع النبيل، والشفافية الصافية، والوضاءة الهادئة، والذبول الخفيف الذي يزيد وجه المؤمن المصلي وضاءة وصباحة ونبلاً، فيبدو المصلي نتيجة الخشوع والخوف والرجاء والحمد والتسبيح كأنه إنسان جاء من الآخرة؛ ليحدث الناس بما شاهد هنالك، أو كإنسان انفلت من جيل الأوائل وقفز ليعيش بيننا في عصرنا. وعن بريدة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة) صدق الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم فهو حينما يبشر فقطعاً سيقع؛ لأنه كما قال الله: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4]. قوله: (بشر المشاءين) أتى بصيغة المبالغة، يعني: المحافظين على ذلك. قوله: (بشر المشاءين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة) لأن الجزاء من جنس العمل، فكما عانيت هذه الظلمة في الخروج إلى المسجد؛ تعظيماً لصلاة الجماعة؛ يكافئك الله سبحانه وتعالى بالنور التام يوم القيامة. وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله ليضيء للذين يتخللون إلى المساجد في الظلم بنور ساطع يوم القيامة). وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه ذكر الصلاة يوماً فقال: من حافظ عليها كانت له نوراً وبرهاناً ونجاة يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم يكن له نور ولا برهان ولا نجاة، وكان يوم القيامة مع قارون وهامان وفرعون وأبي بن خلف) بئست الصحبة، بدل أن يصاحب الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين يكون في صحبة هؤلاء المجرمين الأشقياء قارون وهامان وفرعون وأبي بن خلف. وقال صلى الله عليه وسلم: (ما من أمتي من أحد إلا وأنا أعرفه يوم القيامة، قالوا: وكيف تعرفهم -يا رسول الله- في كثرة الخلائق؟!) يعني: كيف تعرفهم يوم القيامة في هذا الزحام الشديد، فجميع الأمم سيحشرون في أرض واحدة، ومع ذلك كله سيعرفك النبي عليه الصلاة والسلام يوم القيامة في وسط هذا الزحام، ويعرف أنك من أمته الذين آمنوا به ولم يروه. يقول صلى الله عليه وسلم (ما من أمتي من أحد إلا وأنا أعرفه يوم القيامة، قالوا: وكيف تعرفهم -يا رسول الله- في كثرة الخلائق؟! قال: أرأيت لو دخلت صيرة -يعني: حظيرة تتخذ للدواب- فيها خيل دهم -يعني: سود، والبهيم في الأصل من لا يخالط لونه لون سواه- قال: وفيها -يعني: وفي هذه الحظيرة فرس واحد فقط- أغر محجل -وأصل الغرة بياض في وجه الفرس- أما كنت تعرفه منها؟ قال: بلى، قال: فإن أمتي يومئذ غر من السجود، محجلون من الوضوء).

ترك الصلاة سواد وظلمة وهلكة في الدنيا والآخرة

ترك الصلاة سواد وظلمة وهلكة في الدنيا والآخرة إذا كانت الصلاة نوراً وبرهاناً فإن ترك الصلاة سواداً وظلمة وهلكة في الدنيا والآخرة؛ لأن ترك الصلاة يظلم القلب، ويسود الوجه؛ لأن الطاعة نور والمعصية ظلمة، وكلما قويت الظلمة ازدادت الحيرة، حتى يقع تاركها في الضلالات وهو لا يشعر، كأعمى خرج في ظلمة وحده. وتقوى هذه الظلمة مع الإصرار على ترك الصلاة والعياذ بالله في قلبه، حتى تظهر وتعلو وتطفح وتفيض على الوجه والعين، فيصير سواداً يدركه أهل البصائر، وتحصل حين ذلك الوحشة بينه وبين الناس لاسيما أهل الخير، فيجد وحشة بينه وبينهم، وكلما قويت تلك الوحشة بعد منهم وحرم بركة النفع بهم، وقرب من حزب الشيطان بقدر ما بعد من حزب الرحمن، إلى أن ينتهي به الحال في المآل إلى أن يقترن بصحبة السوء، وعصبة الأشرار يوم العرض على الملك الجبار {أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المجادلة:19]. وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من حافظ على الصلاة كانت له نوراً وبرهاناً ونجاة يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم يكن له نور ولا برهان ولا نجاة يوم القيامة، وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأبي بن خلف) يعني: يتباعد عن المؤمنين ويحشر مع أعداء الله سبحانه وتعالى. يقول بعض أهل العلم: وإنما يحشر تارك الصلاة مع هؤلاء الأربعة؛ لأنه إنما يشتغل عن الصلاة بماله أو بملكه أو بوزارته أو تجارته، فإن اشتغل بماله عن الصلاة حشر مع قارون، وإن اشتغل بملكه حشر مع فرعون، وإن اشتغل بوزارته حشر مع هامان وزير فرعون، وإن اشتغل بتجارته حشر مع أبي بن خلف تاجر الكفار بمكة، فما أنقص عقل من باع مرافقة الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين بمرافقة الذين غضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم جهنم وساءت مصيراً.

ترك الصلاة مصيبة وبلاء ومحبط للعمل

ترك الصلاة مصيبة وبلاء ومحبط للعمل إن ترك الصلاة مصيبة وبلاء، وأي مصيبة، يقول صلى الله عليه وآله وسلم: (من فاتته الصلاة فكأنما وتر أهله وماله) هذه الرواية موجودة في صحيح ابن حبان وغيره مطلقة، لم ينص على صلاة العصر كما هو معروف في الرواية المشهورة. قوله: (من فاتته الصلاة فكأنما وتر أهله وماله) يعني: أصيب في أهله وماله، وهذا مثل قوله تبارك وتعالى: {وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [محمد:35] ومعنى (وتر) أي: نقص وسلب، فبقي وتراً بلا أهل ولا مال، فليحذر الإنسان من فوات الصلاة كحذره من ذهاب أهله وماله. وفي لفظ عند عبد الرزاق: (لأن يوتر أحدكم أهله وماله، خير له من أن يفوته وقت صلاة) يعني: لو أن رجلاً رجع إلى بيته فوجد البيت قد سقط وانهار على ماله وأهله، فكم ستكون مصيبته؟! لكن الذي فاتته صلاة واحدة فمصيبته أشد من مصيبة هذا الإنسان. وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الذي تفوته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله) متفق عليه. وإذا صحت رواية عبد الرزاق: (لأن يوتر أحدكم أهله وماله خير له من أن يفوته وقت صلاة) فهي تدل على أن قوله عليه الصلاة والسلام: (من فاتته الصلاة فكأنما وتر أهله وماله) عام أريد به الخصوص، وهو خصوص صلاة العصر، والذي خصه هذه الرواية: (الذي تفوته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله). الموتور: هو من أخذ أهله وماله وهو ينظر إليهم، فهذا أشد في غمه، فمن يكون حاضراً وماله يحترق مثلاً، وأهله يحترقون أجمعين فهو أشد غماً، فمن فاتته الصلاة أشبه هذا الموتور؛ لاجتماع غم الإثم ونكد المعصية نفسها، وهي ترك الصلاة أو تفويت الصلاة حتى خرج وقتها، وكذلك غم فقد الثواب كما يجتمع على الموتور غمان: غم السلب، وغم الطلب بالثأر. وعن بريدة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من ترك الصلاة حبط عمله) رواه البخاري.

ترك الصلاة سبب تنغيص العيش وفقدان الإحساس بالذنوب والعذاب في الآخرة

ترك الصلاة سبب تنغيص العيش وفقدان الإحساس بالذنوب والعذاب في الآخرة لقد توعد الله عز وجل من أعرض عن ذكره فقال سبحانه وتعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:124] فليبشر تارك الصلاة بمحاربة الله إياه، بتنغيص عيشه، وتكدير قلبه، وتشتيت همه، وتفريق شمله، وحضور فقره، وفساد أحواله، ولعذاب الآخرة أشد وأخزى. قد يقول قائل: نحن نرى تارك الصلاة غادياً رائحاً لا يحس بعظم وزره وشناعة فعله، ولا يشعر بعقوبة الله تعالى إياه، ولا يشعر بأنه مبتلى بهذه المصيبة، فما سبب ذلك؟! السبب هو ما قاله الشاعر: ما لجرح بميت إيلام الميت إذا وخزته بسكين هل يتألم؟! إذاً: السبب أنه فقد الإحساس بالمصيبة، فهو في مصيبة ومع ذلك لا يحس؛ لأن الإحساس من نعم الله سبحانه وتعالى للعبد، بل الإحساس في البدن يحميك من الأخطار، فلو أمسكت شيئاً فجأة وكان هذا الشيء حاراً جداً، ففي الحال هذا الإحساس بالحرارة يجعلك تبعد يديك فوراً عنه، وإذا لمست مسماراً فبسرعة تحاول أن تهرب منه، حتى لا يتوغل في جلدك مثلاً، وهكذا؛ لذلك مريض السرطان الذي يهمل علاجه يفقد إحساسه مع الوقت، فبالتالي يسهل جداً إدخال زجاجة أو مسمار في جسمه دون إحساس، ويتطور الأمر في النهاية إلى أن يحصل له بتر في الساق؛ والسبب أنه لا يوجد لديه إحساس. فإذاً: الشخص الذي ليس عنده إحساس بالمصيبة تتراكم وتتكاثر عليه الذنوب إلى أن تهلكه وهو لا يشعر، فالإحساس في القلب مهم جداً، ولذلك أعطانا النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذا المقياس فقال: (إذا سرتك حسنتك، وساءتك سيئتك، فأنت مؤمن) يعني: إذا كان في قلبك الإحساس فأنت بخير، أما من كان بخلاف ذلك ممن زين له سوء عمله فرآه حسناً، فكيف سيتوب وهو يرى أن عمله سيقربه إلى الله؟! ولذلك فإن المبتدع أسوأ حالاً من العاصي المرتكب للكبائر؛ لأن العاصي إذا فعل شيئاً من المحرمات فإنه يعتقد أن هذا حرام، والهوى غلبه، والشيطان صور له المعصية وزينها، لكن المبتدع هل يرجى له توبة؟ لا يرجى له توبة إلا أن يشاء الله؛ لأنه زين له سوء عمله، ويرى عمله المبتدع حسناً يقربه إلى الله، فلذلك لا يتوب. الشاهد من الكلام: أن عقوبات الله سبحانه وتعالى تتنوع وتتلون، وبعضها أخطر من بعض، فهناك عقوبات كونية قدرية كالزلازل والخسف والصواعق وغير ذلك، وهناك عقوبات شرعية إرادية كقطع يد السارق وجلد الزاني ورجمه إلى آخره.

ترك الصلاة سبب للحرمان من رؤية الله في الجنة

ترك الصلاة سبب للحرمان من رؤية الله في الجنة عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله تعالى عنه أنه قال: (كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فنظر إلى القمر ليلة البدر، فقال: إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته -أو لا تضارون في رؤيته-، فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها، فافعلوا، ثم قرأ: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} [ق:39]) متفق عليه. قوله: (كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فنظر إلى القمر ليلة البدر) يعني: حين استتم القمر بدراً. قوله: (إنكم سترون ربكم كما سترون هذا القمر) هنا ليس تشبيهاً للمرئي بالمرئي معاذ الله، لكن المقصود تشبيه الرؤية بالرؤية، ووجه الشبه هو شدة الوضوح، يعني: إذا كانت السماء صحواً ليس دونها سحاب، وإذا كان القمر بدراً مكتملاً ليس هلالاً دقيقاً لا يرى إلا بصعوبة؛ فلا شك أن رؤية القمر في هذه الحالة تكون واضحة تماماً، فوجه الشبه بين الطرفين هو شدة وضوح الرؤية في كل منهما. زاد ذلك المعنى وضوحاً قوله صلى الله عليه وسلم: (كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته) قوله: (لا تضامون) بتشديد الميم وتخفيفها، فعلى معنى التشديد: (لا تضامّون) يعني: لا ينضم بعضكم إلى بعض وتزدحمون وقت النظر إليه؛ لأن الناس إذا كانوا يتراءون الهلال في أول ليلة متوقعة من الشهر، فإنهم يحتاجون إلى أن ينضم بعضهم إلى بعض، وأن يزدحم بعضهم إلى بعض؛ لأن الرؤية غير واضحة، أما رؤية الله عز وجل فهي كرؤية القمر في الصورة التي ذكرنا واضحة، لا تحتاجون إلى أن ينضم بعضكم إلى بعض، ولا أن تزدحموا وقت النظر إليه. أما على رواية التخفيف: (لا تضامُون) يعني: لا ينالكم ضيم في رؤيته؛ لأن الضيم: هو الظلم، فلا يقع الضيم بأن يرى بعضهم دون بعض، فيظلم أو يحرم الذي لا يرى، فالمؤمنون ينظرون إلى ربهم تبارك وتعالى يوم القيامة أو في الجنة جميعهم يستوون في رؤيته، ليس بعضهم يرى دون البعض الآخر، ولا شك أن التشبيه هنا غير تام، بل التشبيه هنا في مطلق الرؤية، وفي شدة وضوح الرؤية، بما يليق بالله تبارك وتعالى، لكن قطعاً هي رؤية حقيقة كما قال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} [القيامة:22]. ورؤية أهل الجنة لربهم تبارك وتعالى هي الغاية العظمى التي شمر إليها المشمرون، وتنافس عليها المتنافسون، وتسابق فيها المتسابقون، ولمثلها فليعمل العاملون، إذا نالها أهل الجنة نسوا ما هم فيه من النعيم. أما من حرم وحجب عن الرؤية من أهل النار، فهذا الحرمان أشد عليهم من عذاب الجحيم، قال تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15]. عن الحسن رحمه الله تعالى قال: لو علم العابدون أنهم لا يرون ربهم يوم القيامة لماتوا. يعني: حزناً وكمداً. وفي رواية عنه: لو علم العابدون أنهم لا يرون ربهم يوم القيامة لذابت أنفسهم. وعن نافع -وكان من عباد الجزيرة- أنه كان يقول: ليت ربي جعل ثوابي من عملي نظرة مني إليه، ثم يقول لي: يا نافع كن تراباً.

المحافظة على الصلاة سبب في رؤية الله تبارك وتعالى في الجنة

المحافظة على الصلاة سبب في رؤية الله تبارك وتعالى في الجنة إن المحافظة على الصلاة بقالبها وروحها والإكثار من النوافل لها من التأثير ما لا يعرف لغيرها من الأعمال في صفاء القلب، وذكاء النفس، وطهارة الوجدان، وسمو الروح. والصلاة تؤهل النفس لتلقي التجليات الأخروية، واستقبال النفحات الإلهية، فالمحافظة على الصلاة بكل أنواعها أحد المؤهلات التي تؤهل لرؤية الله تبارك وتعالى في جنة الرضوان، وقد ربط النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين رؤية الرب تبارك وتعالى وبين الصلاة، وخص بالذكر صلاتين مخصوصتين، يقول عليه الصلاة والسلام: (إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة أي: لا تضيعوا أو تفرطوا أو تفوتكم- قبل طلوع الشمس -وهي صلاة الفجر- وقبل غروبها -وهي صلاة العصر- فافعلوا، ثم قرأ قوله تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} [ق:39]) والحديث في أعلى درجات الصحة متفق عليه. وعن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن في الجنة لسوقاً يأتونها كل جمعة، فتهب ريح الشمال فتحثو في وجوههم وثيابهم؛ فيزدادون حسناً وجمالاً، فيرجعون إلى أهليهم وقد ازدادوا حسناً وجمالاً، فيقول لهم أهلوهم: والله لقد ازددتم بعدنا حسناً وجمالاً، فيقولون: وأنتم والله لقد ازددتم بعدنا حسناً وجمالاً) رواه مسلم. وذلك لأن أهل الجنة يجتمعون في يوم الجمعة الذي يسمى في الجنة يوم المزيد، وقد روي في بعض الأحاديث: (أن الله تعالى يتجلى لهم فيه، ويحاضر كلاً منهم محاضرة).

خاتمة موجزة عن فضائل وخصائص الصلاة وحكم تاركها

خاتمة موجزة عن فضائل وخصائص الصلاة وحكم تاركها تضييع الصلاة أمر خطير جداً، فالصلاة هي أعظم الأركان بعد الشهادتين، وهي من أهم أمور الدين، وهي توءم الفرائض والأركان، وهي أم العبادات، وهي أمر وتكليف من الله سبحانه وتعالى، وقد كانت الوصية الأخيرة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبل أن يفارق الدنيا، وهي مرآة عمل المسلم وميزان تعظيم الدين في قلب المؤمن، وهي دعامة جميع الشرائع السماوية، لم تخل منها شريعة نبي مرسل، وهي شعار دار الإسلام، وهي إيمان، وبراءة من النفاق، وهي سبيل المؤمنين، وشعار حزب الله المفلحين، وأوليائه المرحومين، وهي خير موضوع، وهي زلفى وقربى إلى الله عز وجل، وهي مدرسة خلقية، وراحة وسعادة وقرة عين، ونور وبرهان وضياء، وشكر نعم الله وتعالى، وتحرير للبشرية، وناهية عن المنكرات، وعاصمة من الشهوات، وكفارة للسيئات، وماحية للخطيئات، وملجأ المؤمن في الكربات، وهي حفظ وحماية، ومجلبة للرزق، ومفتاح هداية لكثير من غير المسلمين حيث اهتدوا بسبب رؤية الصلاة وتأملهم فيها. وترك الصلاة كفر، وترك الصلاة من أكبر الكبائر الموبقة، وترك الصلاة نفاق، وترك الصلاة سواد وظلمة وهلكة في الدنيا والآخرة، وترك الصلاة من أسباب سوء الخاتمة والعياذ بالله، وترك الصلاة من أسباب عذاب القبر، وترك الصلاة شعار أصحاب سقر، وترك الصلاة سبب للغرق في الشهوات وترك الصلاة مصيبة وبلاء.

الصلاة أول الإسلام وآخره

الصلاة أول الإسلام وآخره من فضائل الصلاة أنها أول الإسلام وآخره، فهي أول فروض الإسلام بعد الشهادتين كما سبق بيان ذلك، كما أنها أول ما نسأل عنه من حقوق الله عز وجل يوم القيامة، فعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عمله الصلاة، فإن صلحت فقد أفلح وأنجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر، وإن انتقص من فريضة قال الرب: انظروا هل لعبدي من تطوع، فيكمل بها ما انتقص من الفريضة، ثم يكون سائر عمله على ذلك) إن الصلاة أول ما نسأل عنه من حقوق الله عز وجل يوم القيامة، أما أول ما نسأل عنه من حقوق المخلوقين فكما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أول ما يقضى فيه بين العباد يوم القيامة الدماء) يعني: القتل وإراقة الدماء. إذاً: لا تعارض بين هذا وذاك؛ لأن الصلاة كما ذكرنا هي أول ما نسأل عنه من حقوق الله عز وجل، والدماء أول ما نحاسب عليه من حقوق البشر، وهو حفظ دمائهم من أن تراق وتسفك هدراً. أيضاً الصلاة آخر ما يفقد من الدين، فعن زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أول ما يرفع من الناس الأمانة، وآخر ما يبقى من دينهم الصلاة، ورب مصل لا خلاق له عند الله تعالى) يعني: لا نصيب له ولا ثواب. وعن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لتنقضن عرى الإسلام عروة عروة، فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها، فأولهن نقضاً الحكم، وآخرهن الصلاة). إذاً: ليس بعد الصلاة إسلام ولا دين؛ لأن هذا آخر شيء يفقد في الإسلام، فمعناه: إذا ضاعت الصلاة فلا يبقى إسلام ولا دين؛ لأن الصلاة هي أول الإسلام وآخره، وما ذهب أوله وآخره فقد ذهب جميعه، فمن لا تعرف عنهم الصلاة لا يعرف فيهم الإسلام.

الصلاة من سنن الهدى

الصلاة من سنن الهدى إن الصلاة من سنن الهدى خاصة إذا أديت في جماعة، فقد قال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم علمنا سنن الهدى، وإن من سنن الهدى الصلاة في المسجد الذي يؤذن فيه) رواه مسلم. وعنه رضي الله تعالى عنه قال: (من سره أن يلقى الله غداً مسلماً، فليحافظ على هؤلاء الصلوات الخمس حيث ينادى بهن، فإنهن من سنن الهدى، وإن الله شرع لنبيكم سنن الهدى، ولعمري لو أنكم صليتم في بيوتكم لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان يؤتى بالرجل يهادى بين الرجلين حتى يدخل في الصف) المقصود بقوله: (من سنن الهدى) يعني: طريقة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم التي كان عليها، وشريعته التي شرعها لأمته، وليس المقصود من كلمة سنن الهدى السنة التي لا حرج على من تركها، فمن شاء فعلها ومن شاء تركها؛ لأن المستحب أو المندوب أو النوافل من تركها لا يطلق عليه وصف الضلالة، فدل هنا على أن المقصود بسنن الهدى يعني: طريقة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

اشتراك الكائنات في التعبد لله بالصلاة

اشتراك الكائنات في التعبد لله بالصلاة إن الصلاة هي القاسم المشترك بين عبودية الكائنات، فإن الله سبحانه وتعالى قال: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} [النور:41] فكل من هؤلاء المذكورين قد علم صلاته وتسبيحه التي علمه الله عز وجل إياها. يقول الزمخشري: ولا يبعد أن يلهم الله الطير دعاءه وتسبيحه، كما ألهمها سائر العلوم الدقيقة التي لا يكاد العقلاء يهتدون إليها. فكل الكائنات هداها الله سبحانه وتعالى كما قال الله عز وجل: {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} [الأعلى:2 - 3]، وقال سبحانه: {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:50] ونحن نلاحظ أن الله سبحانه وتعالى هدى هذه الكائنات إلى ما يصلحها ويفيدها، وأمدها بأنواع من العلوم التي تنبهر العقول البشرية إزاءها بلا شك، وهذا معروف الآن في العلوم والاكتشافات الحديثة، ففيها ما يبهر العقول ويذهل النفوس من عجائب خلق الله سبحانه وتعالى، كما نرى في النحل والنمل وفي كل ما خلق الله سبحانه وتعالى، نلاحظ كيف أن الله ألهم هذه المخلوقات من العلوم ما تنبهر به العقول، فهل يبعد عند العاقل أن الذي ألهمها كل هذه العلوم لا يلهمها كيف تسبحه وكيف تذكره تبارك وتعالى؟! فالموج يسبح، والطيور تسبح، والأسماك تسبح، وكل ما خلق الله يسبح كما قال الله عز وجل: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44]. نحن الآن نناقش أن الصلاة عبودية جميع الكائنات، بل هي قاسم مشترك بين عبودية جميع الكائنات، فكل الكائنات تصلي وتسبح الله {كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} [النور:41] وكذلك الجن باعتبارهم أحد الثقلين مكلفون قطعاً بالصلاة كالآدميين؛ لأنهم داخلون في قول الله عز وجل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: الجن مأمورون بالأصول والفروع بحسبهم، فإنهم ليسوا مماثلين للإنس في الحد والحقيقة، فلا يكون ما أمروا به وما نهوا عنه مساوياً ما على الإنس في الحد، لكنهم مشاركون الإنس في جنس التكليف بالأمر والنهي والتحليل والتحريم. يعني: هم يشتركون معنا في جنس التكليف، أما كيفيته فالله أعلم بهذه الكيفية. كذلك أيضاً الملائكة يصلون؛ لأن الله عز وجل قال في حقهم: {فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ} [فصلت:38]، وقال أيضاً حاكياً عن الملائكة أنهم قالوا: {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ} [الصافات:165] يعني: في صلاتهم. والشريعة الغراء ندبتنا إلى النظر إلى من هو فوقنا في العبادة وفي الدين، ولا ننظر إلى من هو أعلى منا في الدنيا؛ كي نقتدي به، فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (انظروا إلى من هو أسفل منكم في الدنيا، وفوقكم في الدين) وقال عز وجل: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} [الأعراف:205]، وبعدما أمر الله عز وجل بالذكر الدائم وفي كل الأحوال ذكر ما يقوي دواعي الذكر، وما ينهض الهمم إليه بمدح الملائكة الذين يسبحون الليل والنهار ولا يفترون، فقال بعدها مباشرة تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} [الأعراف:206] والمقصود أنه ينبغي لكم الاقتداء بهم فيما ذكر عنهم؛ لأنه إذا كان هذا حال الملائكة في عبادة الله وهم في أعلى مقامات القرب والعصمة، فكيف ينبغي أن يكون غيرهم؟! وقال صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه: (ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها) ثم ذكر كيفية الاصطفاف فقال: (يتمون الصف الأول فالأول، ويتراصون في الصف) رواه البخاري. أيضاً مما فضلت عليه هذه الأمة المحمدية على من عداها من الأمم قوله عليه الصلاة والسلام -كما في صحيح مسلم:- (جعلت صفوفنا في الصلاة كصفوف الملائكة). وعن حكيم بن حزام رضي الله تعالى عنه قال: (بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه إذ قال لهم: أتسمعون ما أسمع؟ قالوا: ما نسمع من شيء، قال: إني لأسمع أطيط السماء، وما تلام أن تئط -وهذا الأطيط من شدة الثقل الذي تحمله- وما فيها موضع شبر إلا وعليه ملك ساجد أو قائم) فهذا يدل على أن الملائكة أيضاً يصلون كما يصلي البشر. وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (إني لأرى ما لاترون، وأسمع ما لا تسمعون، أطت السماء وحق لها أن تئط، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته لله ساجداً). وفي حديث الإسراء قال صلى الله عليه وآله وسلم: (فرفع لي البيت المعمور، فسألت جبريل فقال: هذا البيت المعمور يصلي فيه كل يوم سبعون ألف ملك، إذا خرجوا لم يعودوا إليه آخر ما عليهم) رواه البخاري. سبعون ألف ملك يومياً يصلون في البيت المعمور في السماء، ثم لا يعودون إليه أبداً! وقال صلى الله عليه وسلم: (نزل علي جبريل فأمني، فصليت معه، ثم صليت معه، ثم صليت معه، ثم صليت معه، ثم صليت معه، يحسب بأصابعه خمس صلوات) رواه البخاري. كذلك الملائكة يشاركون المؤمنين في الصلاة، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (إذا أمن الإمام فأمنوا، فإن من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه) رواه البخاري. وكذا يحضرون مع المؤمنين صلاة الجمعة، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (إذا كان يوم الجمعة كان على كل باب من أبواب المسجد الملائكة يكتبون الأول فالأول، فإذا جلس الإمام طووا الصحف، وجاءوا يستمعون الذكر) رواه البخاري.

لماذا نصلي؟ [4]

لماذا نصلي؟ [4] إن من خصائص الصلاة أنها منحة ربانية، فقد أخذها النبي صلى الله عليه وسلم عن الله عز وجل مباشرة بدون واسطة، وذلك حين عُرج به إلى السماء. ومن خصائصها: أنها إغاظة ومراغمة لأعداء الله من شياطين الجن والإنس. ومن خصائصها: أنها سبب النصر والتمكين في الدنيا، والفلاح والفوز في الآخرة، وهي سبب من أسباب النجاة من عذاب القبر.

الصلاة منحة ربانية فرضت بدون واسطة

الصلاة منحة ربانية فرضت بدون واسطة الحمد لله حق حمده، والصلاة والسلام على محمد رسوله وعبده، وعلى آله وصحبه. أما بعد: فإن الصلاة منحة ربانية تميزت عما عداها من الفرائض بخصائص لا تحصى، فقد تولى الله عز وجل إيجابها بنفسه؛ تعظيماً لشأنها وتنويهاً بقدرها، وأخذها المصطفى عن الله عز وجل مباشرة بدون واسطة جبريل عليه السلام ليلة الإسراء، فكانت المنحة الربانية التي منحها الله عز وجل نبيه وخليله صلى الله عليه وسلم ليلة الوصل الأعظم؛ مكافأة له على ما قام به من العبودية الصادقة لربه عز وجل بما لم يسبقه إليه سابق ولم يلحقه لاحق صلى الله عليه وسلم.

الصلاة إغاظة للكافرين ومراغمة لأعداء الدين

الصلاة إغاظة للكافرين ومراغمة لأعداء الدين من خصائص الصلاة أنها إغاظة للكافرين، ومراغمة لأعداء الدين، ولا شيء أحب إلى الله سبحانه وتعالى من مراغمة أوليائه لأعدائه وإغاظتهم إياهم، ومن أجل ذلك قال تعالى: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً} [النساء:100] يعني: يجد في الأرض مكاناً يهاجر إليه، ويستطيع أن يقيم فيه دينه، ويغيظ أعداء الله سواء الشيطان أو أولياء الشيطان. وقال عز وجل في شأن المؤمنين: {وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [التوبة:120] فقوله هنا: (ولا يطئون موطئاً يغيظ الكفار) داخل في قوله: (إلا كتب لهم به عمل صالح) فدل على أن الله سبحانه وتعالى يحب أن يصدر من المؤمن الأعمال والمواقف التي تغيظ أعداء الدين، وتملأ قلوبهم غيظاً. ووصف الله خليله محمداً صلى الله عليه وسلم وصحابته رضوان الله تعالى عليهم بأنهم كزرع أغاظ الكفار، حيث يقول سبحانه: {يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح:29]. فمغايظة الكفار غاية محبوبة للرب عز وجل مطلوبة له، فموافقته فيها من كمال العبودية. كذلك شرع النبي صلى الله عليه وسلم للمصلي إذا سها في صلاته أن يسجد سجدتين، وقال فيما رواه مسلم وغيره: (إن كانت صلاته تامة كانتا ترغيماً للشيطان) يعني: إن كان في صلاته نقص حصل نتيجة السهو فهاتان السجدتان تجبران هذا النقص، وإن لم يكن فيها نقص، وإنما احتاط، ففي هذه الحالة تكون السجدتان ترغيماً للشيطان، وإغاظة لإبليس، وسمى صلى الله عليه وسلم هاتين السجدتين: المرغمتين. فمن تعبد الله بمراغمة عدوه فقد أخذ من الصديقية بسهم وافر، وعلى قدر محبة العبد لربه وموالاته له ومعاداته لعدوه يكون نصيبه من هذه المراغمة، ولذلك حمد التبختر بين الصفين؛ لأجل عبودية المراغمة والمغايظة للكفار، مع أن هناك نصوصاً كثيرة تحرم التبختر والخيلاء، لكن استثنيت حالات معينة أبيح فيها التبختر والخيلاء بين الصفين، فإن كان جيش المسلمين يقف في مواجهة جيش الكافرين فيجوز للفارس المسلم أن يتبختر على فرسه، ويظهر العزة والكبرياء لأجل إغاظة الكفار. وكذلك أجاز بعض العلماء صبغ الشعر بالسواد في حالة الحرب، فأجازوا للشيوخ الذين اشتعلت رءوسهم شيباً أن يصبغوا بالسواد؛ حتى إذا ما رآهم المشركون حسبوهم جميعاً شباباً فيهم قوة وبأس، وبالتالي يخافونهم ويرهبونهم. إذاًَ: من أجل إقامة عبودية المراغمة لأعداء الله حُمِدَ التبختر بين الصفين كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (هذه مشية يبغضها الله إلا في مثل هذا الموطن). كذلك إذا كان الإنسان يتصدق في السر فيجوز له أن يختال ويتبختر على الشيطان؛ لأن في ذلك إرغاماً لعدو الله، وبذل محبوبه من نفسه وماله لله عز وجل، وهذا الباب من العبودية لا يعرفه إلا القليل من الناس، يقول ابن القيم في مدارج السالكين رحمه الله تعالى: ومن ذاق طعمه ولذته بكى على أيامه الأول. فالمقيم الصلاة إذا علم أن الشيطان تغيظه الصلاة لراغمه ولزاد في إغاظته بالمحافظة عليها وإقامة حدودها، فأحدثت له هذه المراغمة عبوديةً أخرى، ولذلك نجد أن الشيطان حريص أشد الحرص على أن يصد الناس عن الصلاة، وكيف لا تغيظه الصلاة وكيف لا ترغم أنفه الصلاة وهي تعصم من يقيمها من الشرك، ومن عبادة الشيطان من دون الرحمن؟!! عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم) رواه مسلم. يعني: أن المسلمين في جزيرة العرب معصومون من أن يقعوا في الشرك، ولم يذكر المسلمين بصفة عامة، لكن قال: (المصلون) وقوله: (إن الشيطان قد أيس) أي: لم يبق عنده أمل في إغوائهم؛ لشدة تمسكهم بالتوحيد. قوله: (قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم) أي: لكن سيفلح في التحريش بينهم وإثارة الضغينة والأحقاد بينهم. الشاهد قوله: (المصلون) فهي إشارة إلى أن الصلاة عصمة من الشرك. إذاً: الصلاة إغاظة للشيطان، ولذلك الشيطان يحرص جداً على أن يصد الناس عن الصلاة؛ لأن الصلاة تغيظه جداً، فإذا أقمت الصلاة وحافظت عليها فهذا يغيظ عدو الله، ومن أشرف أنواع العبودية إغاظة أعداء الله تبارك وتعالى.

كيد الشيطان وجنوده بمن يغيظهم من المؤمنين

كيد الشيطان وجنوده بمن يغيظهم من المؤمنين يقول عز وجل: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ} [المائدة:91] فهدف الشيطان من الخمر والميسر أن يصد الناس عن ذكر الله وعن الصلاة، مع أن الصلاة داخلة في ذكر الله، لكنه خص بعد تعميم. إذاً: كل ما يشغل عن الصلاة فإنما هو من تسويل الشيطان، وكم يغتاظ الشيطان إذا رأى العبد يسجد بين يدي الله فيحقد عليه، ويعلن له العداوة. عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا قرأ ابن آدم السجدة -يعني: آية فيها السجدة- فسجد اعتزل الشيطان يبكي، يقول: يا ويلي! أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة، وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار) رواه مسلم. ولذلك يحذرنا تبارك وتعالى من الشيطان بقوله: {يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ} [الأعراف:27] يعني: الشيطان يحسدكم ويريد أن يضلكم كما فعل بالأبوين. ونحن في هذا الزمان نرى كم نجح الشيطان في أن يفي بعهده الذي عاهد الله عليه، فقد عاهد الله وحلف وقال: {قال فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص:82 - 83] فحلف بعزة الله ووفى للأسف الشديد، وآية ذلك ما نراه الآن من تضييع الصلاة في مجتمع المسلمين، إلا من رحم الله تبارك وتعالى، مع أن عز وجل قد أخذ علينا العهد كما في قوله عز وجل: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [المائدة:7] ومع ذلك نحن لا نسمع ولا نطيع، ويوجد فينا هذا التفريط المعروف في شأن الصلاة. إذا نجا الإنسان من تسويل إبليس له أن يترك الصلاة رأساً، وهزمه الإنسان في هذه المعركة، واستطاع أن يراغمه وأن يغيظه بإقامة الصلاة، فهل ييئس الشيطان عند ذلك؟ لا ييئس، لابد أن يظفر منه بشيء، فماذا يفعل؟ يجتهد في إفساد الصلاة وتقليل أجرها، فإذا لم يستطع الشيطان أن يصرفه عن الصلاة كلها فإنه يحاول أن يفسد عليه الصلاة، أو يقلل ثوابه الذي يحصله من الصلاة. جاء أحد الصحابة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له: (إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وقراءتي يلبسها عليّ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذاك شيطان يقال له: خنزب -يعني شيطان متخصص في إفساد الصلاة- فإذا أحسسته فتعوذ بالله منه، واتفل على يسارك ثلاثاً، قال: ففعلت ذلك فأذهبه الله عني) رواه مسلم. فإذا دخل العبد في صلاته أجلب عليه الشيطان يوسوس له ويشغله عن طاعة الله، ويذكره بأمور الدنيا، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الشيطان إذا سمع النداء بالصلاة أحال له ضراط؛ حتى لا يسمع صوته) فهو يكره الصلاة، ويكره كل ما يرتبط بالصلاة، حتى إنه إذا سمع صوت الأذان هرب؛ لأنه لا يطيق أن يتحمل نداء التوحيد ودعوة الحق: الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، فهو يكره هذه الكلمات، ويكره الأذان، فلذلك مجرد أن يشرع المؤذن في الأذان يهرب الشيطان. إذاً: من عرض له الشيطان وأراد أن ينجو منه فليؤذن حتى في غير وقت الصلاة، وإذا كنت في مكان وأحسست أن شيطاناً يحاول أن يؤذيك فاجهر بالأذان، فإنه ينصرف عنك؛ لأنه يكره أن تأتيه بما يبغضه وبما ينفره، ولا يستطيع أن يبقى معك إذا أذنت. قوله: (إن الشيطان إذا سمع النداء بالصلاة أحال) يعني: ذهب هارباً. (وله ضراط؛ حتى لا يسمع صوته) يعني: يصدر ذلك الصوت الخبيث حتى لا يتمكن بسببه من سماع صوت دعوة الحق والأذان. ثم يقول صلى الله عليه وسلم: (فإذا سكت المؤذن رجع فوسوس) رجع ليوسوس في المصلين. ثم يقول: (فإذا سمع الإقامة هرب) ولا يستطيع سماع الإقامة؛ لأنها تشتمل على نفس النداء الشريف، وهذا الحديث رواه مسلم. وفي رواية متفق عليها: (فإذا قضي التثويب -يعني: الإقامة- أقبل حتى يخطر بين المرء ونفسه -يعني: حتى يشغله عما هو فيه- يقول له: اذكر كذا، اذكر كذا، لما لم يذكر من قبل، حتى يظل الرجل ما يدري كم صلى) وهذا للأسف الشديد لا يكاد يسلم منه أحد، فصدق الصادق المصدوق صلى الله عليه وآله وسلم فيما يبلغنا عن الله تبارك وتعالى من الهدى والوحي. ولذلك نجد بعض الناس إذا نسي من أمور الدنيا شيئاً ثم دخل في الصلاة تتوافد عليه الوساوس من كل اتجاه، ويظل يتذكر كل ما نسي، ولا تنتهي مشاكل الدنيا إلا إذا سلَّم! فهذا دليل صريح على أن الشيطان كان يشغلك، وهذه المشاغل لا تأتيك إلا ما بين تكبيرة الإحرام وبين السلام، فإذا سلمت ذهبت عنك، ومعنى هذا أن هناك مؤامرة من إبليس، فهو يريد أن يصدك عن التدبر في صلاتك والانتفاع بها. فإذا عجز الشيطان بنفسه عن صد العبد عن الصلاة أجلب عليه بخيله ورجله، فتراه يستعين بجنوده، وسلطهم عليك، وسلط عليك حزبه وأهله بأنواع التسليط، وكلما جد المسلم في إقامة الصلاة جد الشيطان في إغراء السفهاء به، فمنهم من يقول له: يا سيدنا الشيخ! خذني على جناحك إلى آخر هذه العبارات التي فيها سخرية من المصلين، والتي تسمعونها من السفهاء. إن هؤلاء رسل الشيطان فهو يستعين بهم؛ كي يفتنوك عن الصلاة، مثل هذه العبارات التي أراد بها السفهاء الاستهزاء والتحقير من شأن الصلاة. واعلم أن هذا جندي من جنود إبليس، فبعد أن فشل هو بنفسه في أن يصدك عن الصلاة، يظاهر ويستعين بجنوده، ويسلط عليك أذى الخلق، فكلما جد العبد في إقامة الصلاة جد الشيطان في إغراء السفهاء به، فتارة يسخرون منه وتارة يهزءون كما قال عز وجل: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا} [المائدة:58] أليس هذا هو شأن المنافقين منذ زمان الرسول عليه الصلاة والسلام إلى أن يشاء الله عز وجل؟ نعم هذا شأن المنافقين فتارة يسخرون منه، وتارة يهزءون به، وأخرى يتغامزون، {أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المجادلة:19].

تغيظ الكافرين من المتمسكين بالدين

تغيظ الكافرين من المتمسكين بالدين إن إقامة الصلاة والإعلان بها يصبغ المجتمع بصبغة الله، ويظهر شعائر الإسلام، ويجسد اعتزاز المسلمين بإسلامهم، ويغيظ أعداء الدين الذين يزعجهم رجوع الناس إلى ربهم، واشتغالهم بشعائر دينهم. كذلك لا شك أن محافظة المسلمين على الصلاة تعمير للمساجد، فإذا أذن المؤذن ترى الناس يتوجهون فوراً إلى المساجد؛ ليعمروها بهذه الشعائر الظاهرة، وتصبغ المجتمع بصبغة الإسلام، وليس في ذلك فقط إغاظة لإبليس وجنوده، لكن إغاظة أيضاً للكافرين الذين يعيشون وسط المسلمين، فالصلاة إظهار لعزة الإسلام في وسط هؤلاء الكافرين. ولذلك نلاحظ أن الكافرين يحبون السفيه الفاسق الذي لا يبالي بتضييع الصلاة، فيقربونه إليهم، أما المتمسك بدينه فيتخذونه عدواً، فإذا رأى الكافر عليك علامات التمسك بالدين أو إقامة الصلاة يبغضك، ويظهر هذا بصورة أو بأخرى، أما الفاسق السفيه فهو أقرب إلى قلبه؛ لأنهم في الهوى سواء. وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما حسدتكم اليهود على شيء ما حسدتكم على السلام والتأمين) أي: على سنة السلام فيما بينكم، والتأمين في الصلاة، وقد ظهر من اليهود هذا الحسد، فحسدهم لأهل الإيمان معروف في كثير من المواقف، فإذا كان هذا في السلام والتأمين، فكيف بما عدا التأمين من إعلان الأذان ومن تعمير المساجد ومن تراص المصلين راكعين، ساجدين، خاشعين؟! وقد ذكرنا لكم كلمة رينان إرنس الفيلسوف الفرنسي الشهير حيث قال: ما دخلت مسجداً قط دون أن يصيبني أسف محقق على أني لم أكن مسلماً. أي: أنه ما دخل مسجداً ورأى منظر المسلمين في صلاة الجماعة، إلا وشعر بأسف شديد على أنه ليس مسلماً.

تارك الصلاة استحوذ عليه الشيطان

تارك الصلاة استحوذ عليه الشيطان إذا كانت الصلاة فيها مراغمة للشيطان، فإن ترك الصلاة سبب لاستحواذ الشيطان على العبد، قال الله عز وجل: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ * حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ * وَلَنْ يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [الزخرف:36 - 39]. فالصلاة أشرف صورة لذكر الرحمن؛ لأن الصلاة اجتمعت فيها كل العبادات القلبية والبدنية والقولية، اجتمع فيها الذكر بكل أنواعه، وأشرفه قراءة القرآن الكريم في القيام، وفيها الركوع والسجود والخشوع، وأحوال القلب كلها تجتمع في الصلاة، فهي أولى ما يطلق عليه ذكر الله تبارك وتعالى، وهي خير موضوع كما أسلفنا. يقول تعالى: (ومن يعش عن ذكر الرحمن) أي: من يغفل ويعرض عن ذكر الرحمن يعاقبه الله بأن يقيض له شيطاناً فهو له قرين. قوله: (وإنهم) أي: الشياطين (ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون. حتى إذا جاءنا قال: يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين، ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون). فمن يضيع الصلاة يضيعه الله ويخذله ويعاقبه بأن يقيض له شيطاناً يقارنه فلا يفارقه لا في الإقامة ولا في المسير، ويكون مولاه وعشيره، فبئس المولى وبئس العشير، فيتخذ قلبه المريض وطناً، ويعده مسكناً، إذا تصبح بطلعته حياه وقال: حييت من قرين، لا يفلح في دنياه ولا في أخراه، وكأن القرين يخاطب هذا المنحرف معتزاً به؛ لأنه يضيع الصلاة، فإذا رأى محياه وطلعته كأنه يخاطبه كما قال بعض العلماء قائلاً له: قرينك في الدنيا وفي الحشر بعدها فأنت قرين لي بكل مكان فإن كنت في دار الشقاء فإنني وأنت جميعاً في شقاً وهوان وعن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من ثلاثة في قرية ولا بدو لا تقام فيهم الصلاة إلا استحوذ عليهم الشيطان، فعليكم بالجماعة، فإنما يأكل الذئب القاصية من الغنم). قوله: (ما من ثلاثة في قرية ولا بدو لا تقام فيهم الصلاة) ما هي العقوبة؟ (إلا استحوذ عليهم الشيطان) سيطر عليهم الشيطان. قوله: (فعليكم بالجماعة) يعني: صلاة الجماعة. قوله: (فإنما يأكل الذئب القاصية) أي: الذئب إذا أراد أن يفترس الشاه لا يفترسها وهي في القطيع، وإنما يترقب ويتربص حتى إذا شذت واحدة وانفردت؛ فإنه يستحوذ عليها ويفترسها. فبين صلى الله عليه وآله وسلم أن الشيطان ذئب الإنسان، وهو أعدى عدو الله، وكما أن الطائر كلما علا بعد عن الآفات، وكلما نزل احتوشته الآفات، فكذلك الشاة كلما كانت أقرب من الراعي كانت أسلم من الذئب، وكلما بعدت عن الراعي كانت أقرب إلى الهلاك، فأحمى ما تكون الشاة إذا قربت من الراعي. قوله: (وإنما يأخذ الذئب القاصية من الغنم) أي: البعيدة من الراعي. قال بعض السلف: رأيت العبد ملقى بين الله سبحانه وبين الشيطان، فإن أعرض الله عنه تولاه الشيطان، وإن تولاه الله لم يقدر عليه الشيطان.

التخلص من عقد الشيطان على قافية العبد عند النوم

التخلص من عقد الشيطان على قافية العبد عند النوم لقد بين صلى الله عليه وآله وسلم مظهراً من مظاهر كيد الشيطان لصد المؤمن عن ذكر الله وعن الصلاة، ودلنا على ما يحبط هذا الكيد، فعن أبي هريرة رضي تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد، يضرب على كل عقدة: عليك ليل طويل فارقد، فإن استيقظ فذكر الله تعالى انحلت عقدة، فإن توضأ انحلت عقدة، فإن صلى انحلت عقده كلها، فأصبح نشيطاً طيب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان) متفق عليه. فهذه صورة من صور كيد الشيطان؛ كي يصد الناس عن ذكر الله وعن الصلاة. قوله: (يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد) الأقرب -والله تعالى أعلم- أن ظاهر الحديث أن الشيطان يمارس نوعاً من السحر في الحقيقة؛ لأن الله سبحانه وتعالى وصف السواحر بقوله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} [الفلق:4]، فالساحرة تعقد عقدة وتنفث فيها بالكلام الذي تقوله، وتنفث فيها حتى تجتمع نيتها الخبيثة مع ريقها الخبيث مع كلامها الخبيث مع فعلها الخبيث، فالشيطان هو أصل الخبث كله، فهو يفعل هذا النوع من السحر في حق الإنسان إذا نام؛ كي يمنعه من القيام للصلاة والعبادة والذكر. قوله: (يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد، يضرب على كل عقدة: عليك ليل طويل فارقد، فإن استيقظ فذكر الله تعالى انحلت عقدة) يعني: إذا استيقظ الإنسان وشعر بهذا الثقل فليعرف سببه الذي أخبرنا به الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، ويتذكر أن هذا الثقل إنما بسبب العقد الشيطانية، فهو يريد أن يشغلك عن الصلاة ويعطلك. كذلك تذكر العلاج الذي وصفه لك الصادق المصدوق صلى الله عليه وآله وسلم، فاستعمل العلاج خطوة خطوة. الخطوة الأولى في العلاج المرتب: أول ما تستيقظ أن تذكر الله تبارك وتعالى، تلفظ بأذكار الاستيقاظ من النوم، فإذا ذكرت الله انحلت العقدة الأولى عنك. الخطوة الثانية: أن تتوضأ، فإذا توضأت انحلت العقدة الثانية. الخطوة الثالثة: أن تصلي لله عز وجل، فإذا صليت قيام ليل أو صلاة سنة أو غير ذلك انحلت العقد كلها، فأصبحت نشيطاً طيب النفس، وإن لم تمتثل هذه الخطوات في العلاج أصبحت خبيث النفس كسلان والعياذ بالله. فالذي خذل يعمل فيه هذا السحر الشيطاني، والذي وفق يصرف عنه، ومما يؤيد هذا التفسير بأنه نوع من السحر يفعله الشيطان، قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم في رواية جابر رضي الله تعالى عنه: (ما من ذكر ولا أنثى إلا على رأسه جرير معقود حين يرقد بالليل) قوله: (جرير) يعني: حبل. إذاً: الذي ينام عن الصلاة قد استسلم لعقد الشيطان ووسوسته، حتى صار عدوه مستحوذاً على نفسه، ومسيطراً عليه. عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: (ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقيل: ما زال نائماً حتى أصبح، ما قام إلى الصلاة، فقال: ذاك رجل بال الشيطان في أذنه) رواه البخاري. وفي رواية ابن حبان: (نام عن الفريضة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بال الشيطان في أذنه) ولك أن تتخيل عدو بهذه الدرجة من الكيد والمعاداة، حيث يجعل هذا الإنسان الذي غفل عن الصلاة كالكنيف المعد للبول وللغائط، وهل هناك استخفاف وإهانة أشد من ذلك؟! وقول النبي عليه الصلاة والسلام: (بال الشيطان في أذنه) على حقيقته، أما كيف؟ فلا ندري، ولا يقاس بما عليه نحن البشر من الأمور الحسية؛ لأن الشيطان بالنسبة إلينا غير ما نتصور، لكن الخلاصة أنه بال في أذنه، وكيف يبول؟! الله تعالى أعلم. فمعنى الحديث: أن الشيطان استحوذ عليه واستخف به حتى اتخذه كالكنيف المعد للبول، إذ من عادة المستخف بالشيء أن يبول عليه.

ترك الصلاة خيانة للأمانة التي حملها الإنسان

ترك الصلاة خيانة للأمانة التي حملها الإنسان إن ترك الصلاة خيانة للأمانة، فإن الله تبارك وتعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال:27]، والمعاصي كلها خيانة لله عز وجل، ولا شك أن رأسها وأولها ترك الصلاة، يقول تبارك وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء:58]، وقال أيضاً: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب:72] أي: التكاليف الشرعية. وقال في وصف المؤمنين: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} [المؤمنون:8]. والأمانة من حيث معناها هي أوسع من مجرد حفظ الودائع، وأغلب الناس إذا سمعوا كلمة الأمانة، تنصرف أذهانهم إلى حفظ الودائع، فصار معنى الأمانة ضيقاً محدوداً، فالأمانة أوسع من هذا المعنى الضيق الذي يظنه الناس؛ لأن الأمانة هي التكاليف الشرعية التي ائتمن الله عباده عليها، فأمرهم بها بحيث إذا فعلوها أثيبوا، وإن تركوها عوقبوا. قال أبو العالية: الأمانة ما أمروا به أو نهوا عنه. ولاشك أن الصلاة من أعظم الأمانات التي كلفنا الله بحفظها، فمن ضيعها فقد خان الله عز وجل ونقض عهده، كما قال عز وجل: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [المائدة:7]، وقال صلى الله عليه وسلم: (لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له). وكان صلى الله عليه وسلم إذا ودع رجلاً قال: (أستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك) قوله: (أمانتك) أي: كل الأمانات وليس فقط شيئاً محدوداً؛ وذلك لأن السفر مظنة للمشقة، فربما كانت المشقة سبباً للتقصير والإخلال، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يستودع الله من صاحبه إذا ودعه هذه الثلاث: دينك، وأمانتك، وخواتيم عملك.

ترك الصلاة جناية وظلم للأنبياء والملائكة والصالحين

ترك الصلاة جناية وظلم للأنبياء والملائكة والصالحين إن ترك الصلاة جناية على الأنبياء والملائكة وعلى سائر عباد الله الصالحين؛ لأن المصلي يجب عليه في التشهد أن يقول: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، قال صلى الله عليه وسلم: (إذا قال المصلي: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين بلغت كل عبد لله صالح في السماء والأرض) متفق عليه. الشاهد قوله: (بلغت كل عبد لله صالح في السماء والأرض) فمن ترك الصلاة فقد عطل هذه التحية الطيبة أن تبلغ أولياء الله وعباده الصالحين في السماء والأرض.

ترك الصلاة تعرض لعقوبة الله في الدارين

ترك الصلاة تعرض لعقوبة الله في الدارين إن ترك الصلاة تعرض لعقوبة الله تبارك وتعالى في الدارين، فقد روي عن معاذ رضي الله تعالى عنه قال: (أوصاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لا تشرك بالله شيئاً وإن قتلت وحرقت، ولا تعقن والديك وإن أمراك أن تخرج من أهلك ومالك، ولا تتركن صلاة مكتوبة متعمداً؛ فإن من ترك صلاة مكتوبة متعمداً فقد برئت منه ذمة الله) وهذا الحديث حسن لغيره. قوله: (من ترك الصلاة المكتوبة متعمداً فقد برئت منه ذمة الله) يعني: لا يبقى في أمان وأمن من الله عز وجل في الدنيا؛ لأنه يستحق التعزير والملامة، وإذا أصر فيستحق القتل، وفي الآخرة يستحق عقوبة الآخرة. يقول ابن حجر: هذه كناية عن سقوط احترامه؛ لأنه بذلك الترك عرض نفسه للعقوبة بالحبس عند جماعة من العلماء، ولقتله حداً لا كفراً بشرط إخراجها عن وقتها الضروري، وأمره بها في الوقت عند أئمتنا، ولقتله كفراً فلا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين عند أحمد وآخرين، على الخلاف الذي سبق أن تكلمنا عليه.

الصلاة سبب النصر والتمكين في الدنيا والفلاح في الآخرة

الصلاة سبب النصر والتمكين في الدنيا والفلاح في الآخرة إن من فضائل الصلاة أنها سبب للنصر والتمكين والفلاح في الدنيا والآخرة، يقول الله عز وجل: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون:1 - 2] إلى قوله عز وجل: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [المؤمنون:9] يعني: جعل الصلاة سياجاً لكل أعمال هؤلاء المؤمنين، بدأ بالصلاة وختم بالصلاة كأنها السياج، كذلك تكرر نفس الشيء في سورة المعارج أيضاً. تأملوا كلمة: (أفلح) أي: أن الصلاة سبب الفلاح والنصر والتمكين. وقال الله أيضاً: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى:14 - 15]، وسمى الصلاة فلاحاً، فجعل النداء إليها نداءً إلى الفلاح، حي على الصلاة، حي على الفلاح: والفلاح هو الفوز بالمراد، والبقاء في الخير. وبالصلاة يستمنح ويستنزل نصر الله تبارك وتعالى، يقول عز وجل: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:45]، فإن أردت النصر والفلاح والفوز والتمكين فلابد من الاستعانة بالصلاة، وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال:45]. ولعل في تشريع صلاة الخوف حالة الالتحام المسلح ما يشير إلى أثر الصلاة في استجلاب نصر الله تبارك وتعالى، يعني: المسلمون لا يستغنون عن الصلاة باعتبارها سبباً في الفلاح والنصر والتمكين ومعية الله، حتى في أثناء الكفاح المسلح مع الأعداء، فتجب عليهم الصلاة بحسب استطاعتهم كما هو معروف في صلاة الخوف. وعن سعد رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما ينصر الله هذه الأمة بضعيفها، بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم). إذاً: هذه الصلاة التي يصليها هؤلاء الضعفاء والفقراء والمساكين والنساء وغيرهم تكون سبباً في نزول نصر الله سبحانه وتعالى، رأفة ورحمة بسائر الأمة. وفي البخاري يقول عليه الصلاة والسلام: (إنما ينصر الله هذه الأمة بضعيفها، بدعوتهم وصلاتهم) ولم يذكر (وإخلاصهم) في رواية البخاري. وقال رجل للحسن: أوصني، فقال: أعز أمر الله يعزك الله. وقال تعالى: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7] ونصرة الله بإقامة شرائع دينه وخاصة الصلاة. وقال عز وجل: {وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ} [المائدة:12] يعني: إني معكم بالنصر والتأييد إن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة، ومن كان الله معه فقد تولاه، والله عز وجل لا يعز من عاداه، ولا يذل من والاه، بل الذل حليف من حاربه وعصاه قال صلى الله عليه وسلم: (وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري). وعباد الله الذين سيعاقب الله بهم أعداءه، ويعذبهم بأيديهم، هم الذين يقيمون الصلاة ويستمدون منها زاداً ووقوداً في جهادهم، يقول تبارك وتعالى: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا} [الإسراء:5]، هل يتصور أن عباداً لنا يكونون ممن لا يصلون؟! لا يمكن أبداً أن يكون ولياً من أولياء الله لا يصلي؛ لأن الذي لا يصلي عدو لله وليس ولياً من أولياء الله، إنما ينصر الله أولياءه الذين تولوه سبحانه وتعالى، أما تارك الصلاة فهذا عدو بغيض إلى الله سبحانه وتعالى وإلى المؤمنين. فالذين يهزمون أعداء الدين -وخاصة اليهود لعنهم الله- لابد أن يكونوا متصفين بهذه الصفة: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا} [الإسراء:5]، انظر إلى الاختصاص: (عباداً لنا) ما صفتهم؟: {أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} [الإسراء:5] يعني: يجمعون بين أمرين: بين إقامة العبودية وبين القوة المادية، البأس الشديد. وبهذه العبودية يتعرف عليهم كل شيء، حتى الحجر في آخر الزمان سيتعرف على المسلم الذي يتصف بصفة العبودية، وأشرف العبودية الصلاة بلا شك، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا اليهود، وحتى يقول الحجر والشجر: يا مسلم! يا عبد الله! هذا يهودي خلفي تعال فاقتله، إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود) رواه مسلم. فانظر كيف أن الحجر سيعرف المسلم بهذه الصفة، لن يقول له: يا فلسطي! لأن هذه هي النسبة الصحيحة، وليس فلسطيني، ولن يقول له: يا قومي! يا اشتراكي! يا عربي! يا مصري! يا سوداني! هو لا يعرف هذه المقاييس، وإنما سيناديه بهذه الخصلة: (يا مسلم! يا عبد الله! هذا يهودي خلفي) إلى آخر الحديث. وإذا فتح الله سبحانه وتعالى على عباده المصلين يكون أول شيء يهتمون به هو إقامة الصلاة، يقول عز وجل: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج:41]، فأول علامات المسلمين إذا مكنوا أن يقيموا الصلاة، وإقامة الصلاة ليست مجرد أن يصلوا في أنفسهم، فإنهم قطعاً من قبل كانوا مصلين، لكن إذا صارت لهم الدولة والسطوة والقوة والغلبة فأهم شيء عندهم أن يقيموا الصلاة في الناس، ويحاسبونهم على تضييع الصلاة، ويحرضونهم على ذلك، ويوظفون الموظفين لمراقبة الناس في شأن الصلاة، وتكون ولاية خاصة اسمها ولاية الصلاة، كما كان في الدولة الإسلامية مثل: وزارة المالية، ووزارة الخارجية، ووزارة الداخلية، هناك أيضاً وزارة اسمها وزارة الصلاة، ولها هيئة وموظفون يتابعون الناس، يقولون لمن تخلف عنها: لماذا تخلفت عن الصلاة؟ أأنت معذور أم لا؟ والذي يترك الصلاة يقولون له: لماذا تترك الصلاة؟ ويرفع به إلى القضاء الشرعي ويبلغ عنه كأي مجرم في المجتمع الإسلامي، فهذا معنى قوله: (أقاموا الصلاة). ولذلك يقول تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ} [الحج:41] حتى وإن كان التمكين أمراً نسبياً، فالمسلم في أي موقع هو فيه فعليه أن يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، سواء كان مديراً في مصنع، أو صاحب محل عنده عمال، أو مدير مستشفى، أو ناظر مدرسة، وهكذا، (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته)، فليس التمكين مقصوراً على أعلى درجات التمكين وهي إقامة الخلافة، وإنما التمكين قد يكون أحياناً نسبياً، فـ (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته) فالأب في البيت مسئول أن يقيم الصلاة في ذريته وفي أهله، ويراقب نساءه وأولاده، ويطمئن على إقامتهم للصلاة. كذلك في كل مرفق إذا مُكِنَ للمسلم فيه حتى وإن كان نسبياً فعلى قدر طاقته عليه أن يطبق هذه الآية: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج:41].

الصلاة سبب من أسباب النجاة من عذاب القبر

الصلاة سبب من أسباب النجاة من عذاب القبر لقد ذكرنا من قبل أن ترك الصلاة سبب من أسباب عذاب القبر والعياذ بالله، وعلى الجهة المقابلة فإن الصلاة نجاة من عذاب القبر، فطاعة الله عز وجل هي خير ما يقدمه الإنسان ويدخره في قبره، يقول عز وجل: {مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} [الروم:44]، قال مجاهد: (يمهدون) يعني: في القبر، يعني: يدخر هذا العمل الصالح في القبر، والقبر صندوق العمل. عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يتبع الميت ثلاثة، فيرجع اثنان ويبقى واحد، يتبعه: أهله، وماله، وعمله، فيرجع أهله وماله ويبقى عمله) متفق عليه. ووصف لنا الصادق المصدوق تفاصيل ما يجري في أول لقاء يتم في القبر بين المؤمن وبين عمله الصالح، وكيف أن عملك الصالح سيجسد لك في أجمل وأحسن وأبهى صورة، ويظل قريناً لك في القبر منذ أول لقاء بينك وبينه عندما تنزل في القبر، ففي حديث البراء الطويل قال صلى الله عليه وآله وسلم في شأن المؤمن: (ويأتيه من روحها وطيبها -يعني: من ريح وطيب الجنة- ويفسح له في قبره مد بصره، قال: ويأتيه رجل حسن الوجه، حسن الثياب، طيب الريح، فيقول: أبشر بالذي يسرك، أبشر برضوان من الله، وجنات فيها نعيم مقيم، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول له: وأنت فبشرك الله بخير، من أنت، فوجهك الوجه الذي يجيء بالخير؟ فيقول: أنا عملك الصالح، فوالله ما علمتك إلا كنت سريعاً في طاعة الله، بطيئاً في معصية الله، فجزاك الله خيراً، ثم يفتح له باب إلى الجنة) إلى آخر الحديث. يعني: إذا رأيت في نفسك تكاسلاً أو تقصيراً فذكر نفسك بهذا الموقف وبهذه اللحظة. إذاً: أول ليلة ستبيتها في القبر سيزورك فيها عملك، فإن كنت صالحاً قال لك: (أنا عملك الصالح، فوالله ما علمتك إلا كنت سريعاً في طاعة الله) أي: مبادراً إلى طاعة الله. إذا تذكرت هذا الشيء فإنك إذا سمعت الأذان تجري إلى الصلاة، وغيرها من الأعمال الصالحات. وتأتي الصلاة في مقدمة الأعمال الصالحة التي تحفظ صاحبها من عذاب القبر، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الميت إذا وضع في قبره، فإنه يسمع خفق نعالهم حين يولون عنه، فإن كان مؤمناً كانت الصلاة عند رأسه، وكان الصيام عن يمينه، وكانت الزكاة عن يساره، وكان فعل الخيرات من الصدقة والصلة والمعروف والإحسان إلى الناس عند رجليه، فيؤتى من قبل رأسه -يعني: يأتيه العذاب من قبل الرأس- فتقول الصلاة: ما قبلي مدخل يعني: لا توجد ثغرة كي ينفذ منها العذاب إلى هذا الرجل- ثم يؤتى عن يمينه فيقول الصيام: ما قبلي مدخل، ثم يؤتى عن يساره، فتقول الزكاة: ما قبلي مدخل، ثم يؤتى من قبل رجليه فيقول فعل الخيرات من الصدقة والصلة والمعروف إلى الناس: ما قبلي مدخل) وهذا حديث حسن.

الصلاة أمنية الأموات والمعذبين

الصلاة أمنية الأموات والمعذبين الصلاة أمنية الأموات والمعذبين، فعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: (مر النبي صلى الله عليه وآله وسلم على قبر دفن حديثاً فقال: ركعتان خفيفتان مما تحقرون وتنفلون يزيدهما هذا في عمله أحب إليه من بقية دنياكم). قوله: (ركعتان خفيفتان مما تحقرون وتنفلون) أي: مما تزهدون فيهما. قوله: (أحب إلى هذا) يعني: لو أنه خيِّر بين أن يرجع إلى الدنيا من جديد، ويعطى كل ما بقي من الدنيا من الكنوز والأموال إلى أن تقوم الساعة ويصير ملكاً له، وبين أن يعود إلى الدنيا ويركع ركعتين خفيفتين من النوافل الخفيفة مما يحتقرها الناس ويزهدون في ثوابهما؛ لاختار قطعاً وجزماً أن يصلي هاتين الركعتين؛ لأنه عاين ثواب مثل هذه العبادة الجليلة. ومما ينفع في مثل هذا الموطن أن يتذكر الإنسان حبيباً إليه، أباه، أخاه، صديقه، قريبه الذي مات، ويتخيل أن هذا فلان ابن فلان بشحمه ولحمه، فلو خير هذا الخيار لقطع جزماً بأنه سيختار أن يصلي هاتين الركعتين ثم يدفن ثانية، من أجل أن يزيد في ثوابه هاتين الركعتين. قال إبراهيم بن يزيد العبدي: أتاني رياح القيسي فقال: يا أبا إسحاق! انطلق بنا إلى أهل الآخرة نحدث بقربهم عهداً، فانطلقت معه، فأتى إلى المقابر، فجلسنا إلى بعض تلك القبور فقال: يا أبا إسحاق ما ترى هذا متمنياً لو مني؟ قلت: أن يرد والله إلى الدنيا، فيستمتع من طاعة الله ويصلح، قال: فها هي الفرصة ما زالت معنا، فهذا مات ونحن ما زلنا، ثم نهض فجد واجتهد فلم يلبث يسيراً حتى مات رحمه الله تعالى. فالموت هو الفيصل بين هذه الدار وبين دار القرار، وهو الحد الفارق بين دار الامتحان وبين دار ظهور النتائج، فليس بعده لأحد من مستعتب ولا اعتبار، ولا يمكن الزيادة في الحسنات بعد الموت ولا النقص من السيئات، ولا حيلة ولا افتداء ولا درهم ولا دينار، قال الله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:99 - 100]. وقال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المنافقون:9 - 11]. تخيلوا أن عامة المسلمين الذين ماتوا من قبل سمعوا هذا الكلام كثيراً، سمعوه في القرآن، وسمعوه في الدروس، وقرءوه في الكتب، فمن انتفع لما سمع هذا الكلام وأصلح حاله؛ فاز فوزاً عظيماً، ومن مرت عليه مرور الكرام ندم ندماً شديداً؛ لأنه قبل الموت كانت عنده المهلة، ونحن كذلك سيأتي بعدنا ناس يتلون نفس الآيات، ويتلون نفس الأحاديث، بعد عشر سنين عشرين سنة مائة سنة ومع الناس ينقسمون: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} [الليل:4]. فينبغي أن يحذر الإنسان، فليس لنا عذر أمام الله سبحانه وتعالى، فما زالت القلوب فينا تنبض، وعضلاتك إذا أردت أن تحركها لكي تذهب إلى المسجد ستطيعك، ولسانك إذا أعملته في ذكر الله لن يقول لك: لا، فأنت الآن أمامك المهلة والفرصة فلا تضيعهما، وانتفع بهذا الوعظ فإنك أنت أنت المراد به. يقول تبارك وتعالى: {وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ} [الشورى:44]. إذاً: أمنية الموتى والمعذبين يوم القيامة أن يردوا إلى الدنيا ولو بقدر ركعتين. قوله: (هل إلى مرد من سبيل) أي: هم يسألون الرجعة عند الاحتضار، وكذلك يسألونها إذا وقفوا على النار، قال جل وعلا: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنعام:27]. وكذا يتمنون الرجعة إذا وردوا على ربهم: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ} [السجدة:12]، هل ينفع هذا اليقين في الآخرة؟ لا، فهم رغم أنفهم أيقنوا؛ لأنهم عاينوا الغيب وصار شهادة، أما اليقين الذي ينجي فهو الإيمان بالغيب في دار الدنيا ودار الامتحان. أيضاً يتكرر سؤالهم الرجعة وهم في غمرات الجحيم، يقول تعالى: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} [فاطر:37] ويأتي A { أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} [فاطر:37] قوله: (أولم نعمركم) أي: ألم نعطكم الفرصة وطولنا لكم في العمر؟! قوله: (مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ) أي: عمرتم عمراً كان لكل منكم فيه فرصة كافية ليتذكر ويتوب، كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لقد أعذر الله إلى رجل أجّله حتى بلغ ستين سنة) يعني: لقد أعذر الله من مد في عمره إلى هذا القدر ولم يتب ولم يرجع. قوله: (وجاءكم النذير) يعني: الرسول عليه الصلاة والسلام، وقال بعض المفسرين: هو الشيب الذي يزحف إلى شعر الرأس وغيره، فإذا بدأ الإنسان يتقدم في العمر وظهر منه الشيب، فهذا عبارة عن إنذار من الله سبحانه وتعالى بأنه قد اقترب من النهاية، واقترب من الوصول إلى المحطة الأخيرة. وقال سبحانه: {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ} [غافر:11]. وقال قتادة في قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا} [المؤمنون:99 - 100]: كان العلاء بن زياد يقول: لينزل أحدكم نفسه أنه قد حضره الموت فاستقال ربه-أي: سأله الإقالة- فأقاله، فليعمل بطاعة ربه تعالى. وقال قتادة: والله ما تمنى إلا أن يرجع فيعمل بطاعة الله، فانظروا إلى أمنية الكافر المفرط فاعملوا بها، ولا حول ولا قوة إلا بالله. من أجل ذلك أوصانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك) إذ هي أيام وأحوال العمل والتأهب والاستعداد والاستكثار من الزاد، فمن فاته العمل فيها لم يدركه عند مجيء أضدادها، ولا ينفعه التمني للأعمال بعد التفريط والإهمال في زمن الفرصة والإمهال، ومن فرط في العمل في زمن الحياة لم يدركه بعد حيلولة الممات، فعند ذلك يتمنى الرجوع وقد فات، ويطلب الكرة وهيهات، وتعظم حسراته حين لا مدفع للحسرات، وحيل بينهم وبين ما يشتهون. كثير من الناس يتصورون أن معنى قوله تعالى: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} [سبأ:54] أنها الشهوات، لا، بل حيل عند الموت بينهم وبين ما يشتهونه وهو التوبة. إذا حضر الموت والأجل والغرغرة فهناك حاجز وبرزخ لا يمكن أن يتوب الله على الإنسان بعدما قيل له: {فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق:22]، {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19] فإذا جاءت الغرغرة سد باب التوبة في وجه العبد، فهذا معنى قوله: (وحيل بينهم وبين ما يشتهون) يعني: من التوبة والرجوع إلى العمل الصالح. ويقول تعالى: {اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يومئذ ومالكم من نكير} [الشورى:47]. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

لماذا نصلي؟ [5]

لماذا نصلي؟ [5] إن من خصائص الصلاة: أنها تتعلق بالنشء، وتلتصق بالأطفال منذ وقت مبكر، فقد حض الشرع على أمر ابن السابعة بالصلاة، وضرْبه عليها إذا بلغ عشر سنين، وهذا يدل على أهمية الصلاة ومكانتها، فلا بد من تنشئة الطفل عليها حتى يتعودها وتسهل عليه.

ضرورة الاهتمام بتربية الطفل منذ الصغر

ضرورة الاهتمام بتربية الطفل منذ الصغر الحمد لله حق حمده، والصلاة والسلام على محمد رسوله وعبده، وعلى آله وصحبه. أما بعد: فعن معقل بن يسار المزني رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ما من عبد يسترعيه الله رعية فلم يحطها بنصيحة إلا لم يجد رائحة الجنة) رواه الشيخان. قوله صلى الله عليه وسلم: (ما من عبد) يعني: ليس من عبد. قوله: (يسترعيه الله رعية) وفي رواية البخاري: (ما من عبد استرعاه الله) بلفظ الماضي. قوله: (فلم يحطها) يعني: لم يحفظها ولم يتعهد أمرها. قوله: (بنصيحة) وفي رواية أخرى: (بالنصيحة)، وفي رواية أخرى: (بنصحه) يعني: بأن ينصح لهم. قوله: (إلا لم يجد رائحة الجنة) يعني: أنه لا يدخل الجنة، لكن يحمل على أنه في حق من يستحل ذلك. أو المعنى: أنه لا يجد رائحة الجنة مع الفائزين الأولين. أو يقال: إنه خرج مخرج التغليظ وزاد الطبراني: (وعُرْفَها -يعني: رائحتها- يوجد يوم القيامة من مسيرة سبعين عاماً). في هذا الحديث وعيد شديد على أئمة الجور، فمن ضيع من استرعاه الله توجه إليه الطلب بمظالم العباد يوم القيامة، فكلما كثر ظلم أئمة الجور كثر استحقاقهم للعذاب يوم القيامة، وكثر المطالبون بحقوقهم منهم يوم القيامة، ولا قدرة له على التحلل، لأنه في يوم القيامة لا يملك شيئاً يفدي به نفسه، إلا أن يتفضل الله تعالى عليه فيرضي عنه خصماءه، وهذا الحديث ورد بمعناه حديث آخر عن نفس الصحابي معقل بن يسار رضي الله تعالى عنه بلفظ: (ما من وال يلي رعية من المسلمين فيموت وهو غاش لهم إلا حرم الله عليه الجنة). فكل منهما يغني عن الآخر؛ لأنهما في الحقيقة وردا عن راو واحد ومعناهما متحد، لكن مع اختلاف اللفظ نستطيع أن نستنتج فائدة جديدة وهي أن قوله هنا في هذا اللفظ: (ما من عبد يسترعيه الله رعية) يفيد العموم، فيشمل عدم نصح الإمام لرعيته، بأن يغشها، ويضيع حدودها وحقوقها، ويترك سيرة العدل فيها، والذب عنها وعن دينها فيما يطرأ عليه من التحريف أو البدع، وترك حماية حوزة رعاياه، فإن غشهم بشيء من ذلك ناله الوعيد المذكور؛ لأنه خان الله تعالى فيما ائتمنه عليه وجعله خليفة فيه، وواسطة بينه وبين خلقه في تدبير أمرهم، والغش في شيء من ذلك كبيرة توعد عليه بالنار. قال الإمام أبو عبد الله محمد بن خلف الأبي المالكي صاحب كتاب: إكمال المعلم في شرح صحيح مسلم رحمه الله تعالى: لا يقتصر الحديث على الأمراء، بل هو عام في كل من وكل إليه حكم غيره. قوله: (ما من عبد يسترعيه الله رعية) هذه الرواية بلفظ: (عبد) خلافاً للرواية الأخرى التي بلفظ: (ما من وال) فالرواية التي هي بلفظ (ما من عبد) هي نكرة في سياق النفي، فتفيد العموم، يعني: كل عبد يكون مسئولاً عمن وكل إليه حفظه، قال صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الآخر: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته) فعدد أنواعاً كثيرة من هذه الرعية حيث قال: (فالإمام راع وهو مسئول عن رعيته، والرجل راع في أهل بيته وهو مسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها وهي مسئولة عن رعيتها، والولد راع في مال أبيه وهو مسئول عن رعيته). إذاً: الحديث يعم كل من استرعاه الله سبحانه وتعالى رعية، ووكل بحفظ رعيته، ورعاية شئونهم، والاجتهاد في مصلحتهم. وبلا شك أنه يدخل دخولاً أولياً في مثل هذا الحديث ولاية الأب على زوجه وأبنائه، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (كل عبد من بني آدم سيد، فالرجل سيد أهله، والمرأة سيدة في بيتها) إلى آخر الحديث. على أي حال إذا انتبهنا للعموم الموجود في هذا الحديث وضممنا إليه قوله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6]، يتضح ويتجسد لنا خطورة مسئوليتنا على أبنائنا ونسائنا، وأننا سنسأل عنهم بين يدي الله سبحانه وتعالى، فينبغي أن نعد للسؤال جواباً. والحقيقة أننا -أمة المسلمين عموماً إلا من رحم الله- نعاني من تقصير شديد في الاهتمام بأمر الأطفال، الذين هم في الحقيقة هم المستقبل، فأي أمة تستطيع أن تصنع مستقبلها بعون الله سبحانه وتعالى إذا هي أولت الأطفال الرعاية التي يستحقونها، ونحن للأسف لازلنا ننظر للطفل على أنه لعبة ملهية نتلهى بها، وأنه طفل صغير، ولا نتهيأ لتربيته وإعداده وتنميته نمواً سوياً إلا بعد فوات الأوان، وسبق أن ذكرت لكم قصة حكاها أستاذنا فضيلة الشيخ الدكتور محمد الصباغ حفظه الله تعالى، فيقول: إنه سمع من الأستاذ مالك بن نبي الجزائري رحمه الله تعالى: أن رجلاً جاء يسترشده في تربية بنت له ولدت حديثاً، فسأله: كم عمرها؟ قال: شهر، قال: فاتك القطار! وقال: كنت أظن في بادئ الأمر أنني بالغت في جواب هذا السائل، ثم عندما نظرت وجدت أن ما قلته الحق، وذلك أن الولد يبكي فتعطيه أمه الثدي فينطبع في نفسه أن الصراخ هو الوسيلة إلى الوصول إلى ما يريد، ويكبر على هذا، فإذا ضربه اليهود بكى في مجلس الأمن، ويظن أن البكاء والصراخ يوصله إلى حقه. وفي هذا إشارة إلى أن كل ما نعانيه من كثير من الشخصيات البارزة في شتى دول العالم الإسلامي هو من عن آثار ونتائج التربية السيئة التي أسديت إليهم منذ الصغر، فالأمة كلها تحصد الثمرات المريرة لهذه التربية المعوجة، خاصة إذا كانت التربية بعيدة عن الدين، فحينما نرى واحداً من الطواغيت يفاخر أنه منذ نعومة أظفاره نشأ وهو يرى صورة أتاتورك في مكان ما في جدار الغرفة، وهو في نظر أبيه معظم، وأنه خرج وكل همه في الحياة أن يكون مثل أتاتورك لعنه الله تعالى، فكيف يكون مصير أمة مثل هذا يكون قائداً لها، إذا كان نشأ على محبة الاقتداء والتأسي بعدو الله وعدو رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! والكلام في هذا الموضوع ليس فيه مبالغة، بل موضوع التربية موضوع خطير جداً، ونحن الذين نضيع الفرص. حتى إن العلوم الحديثة تقول: إن التربية لا تبدأ من مجرد الولادة، بل تبدأ من قبل الولادة؛ ولذلك حينما نرى الأمم -التي تسمى أمماً متقدمة في هذه المجالات- تهتم اهتماماً غير عادي بتوجيه الأطفال وبتربيتهم، وممكن أن نستفيد منهم في هذا الجانب، لكن علينا أن نجتنب ما يخالف ديننا. كنت أقرأ في كتاب يتحدث عن التربية المبكرة للأطفال، فيقول: إنها تبدأ من فترات الحمل والطفل جنين في بطن أمه، وكيف أن بعض الأمهات قد تقوم بالتدريب لهذا الطفل الجنين، وذلك بأن تعود الطفل على أن يسمع صوتها، كأن تضرب على جدار بطنها بحركات رفيقة معينة مرتبطة بأصوات معينة، وتدغدغ هذا الطفل بحيث إذا خرج يكون قد عرف صوت أمه؛ لأنه كان يسمع صوتها وهو في بطن أمه. ومن أغرب ما قرأته أن امرأة من الشام سورية كانت تعود جنينها وهو في بطنها على سماع آيات القرآن الكريم كانت تستمع أشرطة القرآن الكريم، أو تتلو هي القرآن كثيراً، فولد هذا الطفل فاستطاعت مع صغره أن تعوده على سماع القرآن وحفظه، حتى إنه حفظ القرآن كله في سن الخامسة من عمره! إذاً: على الرجل أن يبدأ بالدعوة الصالحة أن يرزقه الله امرأة صالحة؛ لأن اختيار الأم الصالحة يعد من إحسانك إلى أبنائك، كذلك من إحسانك إلى أبنائك أن تدعو لهم وهم في عالم الغيب أن يرزقك الله الذرية الصالحة كما كانت سنة الأنبياء، فالأنبياء كان همهم أن يرزقوا ذرية صالحة طيبة. الطفل يحتاج إلى هذه الرعاية، وكما أننا نهتم بنمو الجسم فلا نهمل نمو النفس والروح، لكن للأسف الشديد لا نجد إلا القليل من الناس يهتمون بهذه الأمور. نحن حينما نتأمل في قوله تبارك وتعالى: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21] يتوجه تركيزنا إلى آيات الله في الجوانب التشريحية أو العضوية أو الوظيفية لأبداننا، ونغفل تماماً عن آيات الله سبحانه وتعالى في خلق هذه النفس، وفطرها على التوحيد، وهذه الكفاءات المودعة في هذه النفس الصغيرة، فتربية الطفل تبدأ مبكرة جداً حتى في فترة الرضاعة كما ذكر الأستاذ مالك بن نبي، وهو كلام رجل خبير لم يأت جزافاً، فالطفل منذ البدايات الأولى لميلاده تتشكل شخصيته في الخمس السنوات الأولى؛ لأنها السنوات التي فيها تتكون شخصية هذا الطفل بكل معالمها. فإذا جاء ابنك وقد عمل أي شيء كأن نفذ فكرة، وجاء إليك مسرعاً يتوقع منك أن تكافئه أو تشجعه، ثم إذا به يصدم وتقول له: هذا لعب وأنا مشغول، فبالتالي يصاب بإحباط، فمثل هذه التصرفات اليسيرة تكون عميقة الأثر في هؤلاء الأبناء، فمن الخطأ أن تجابه ابنك بهذا الأسلوب الجافي. حتى الإرضاع له تأثير مهم جداً في تكوين نفسية هذا الطفل فيما بعد، هل يتم بطريقة (ميكانيكية) كآلة ترضع الولد أم يتم مع ضمه بحنان وبإبداء العواطف؟ فهذا الطفل الرضيع تتكون شخصيته بالمثل في مقابلة ما يسدى إليه من طريقة المعاملة كما ضرب الأستاذ مالك بن نبي هذا المثال: الطفل وهو صغير في المهد إذا أخطأت أمه في تربيته بحيث إذا صرخ يحصل على ما يريد، فإنه ينشأ على الصراخ بحيث إذا ضربه اليهود بكى في مجلس الأمن! فكل الويلات التي نذوقها الآن من كثير من حكام المسلمين هي نتيجة هذه التربية المنحرفة، فالأمة كلها تدفع ثمن التربية الخاطئة التي ربوها في الصغر وفي المهد، انظروا كم هي خطورة هذه التربية التي تخرج لنا زعماء مشوهين نفسياً وعقدياً إلى آخره؟ إذاًَ: أول ما ينبغي أن يسدى إلى الأطفال هو التربية الصحيحة المبكرة، وهناك من آيات الله سبحانه وتعالى العظيمة ما يكشف لنا أن القرآن والسنة قد سبقا هذه العلوم الحديثة -التي يتباهون بها الآن- بمئات السنين، فما أكثر الإعجاز العلمي في القرآن الكريم حتى في الجانب النفسي، فإن القرآن والسنة سبقا هذه العلوم، وهما متفوقان على هذه العلوم الحديثة؛ لأن ما في القرآن وما في ا

الأطفال والصلاة

الأطفال والصلاة إننا سنتكلم في هذه الليلة عن موضوع مهم وهو الأطفال والصلاة، وكيف نربط الأطفال بالصلاة؟! وكيف نعود الأطفال على الصلاة؟! والنصائح المتعلقة بهذا الباب. إن هذه النقطة المتعلقة بالأطفال والصلاة تعطينا تفصيلاً عن كيفية بناء الجانب العبادي في نفسية الأطفال، أو تركيبة الطفل في الجانب العبادي، وكما ينبغي علينا أن ننمي في الطفل الجانب الإيماني والجانب الاعتقادي والجانب الجسماني إلى آخره؛ فأيضاً ننمي جانب العبادة في الأطفال، فكيف ننميه؟! وكيف نهتم به؟! إن الصلاة باعتبارها ركن الدين الأعظم، أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بأن يؤمر الأطفال بالصلاة لسبع سنين حيث يقول: (مروهم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين، وفرقوا بينهم في المضاجع).

الفوائد المتعلقة بتدريب الأطفال على الصلاة وتحبيبها إليهم

الفوائد المتعلقة بتدريب الأطفال على الصلاة وتحبيبها إليهم

القدوة الصالحة

القدوة الصالحة يعتقد الأطفال بحكم كونهم أطفالاً أن كل ما يفعله الكبار صحيح؛ لأنهم لا يتصورون أن الآباء يخطئون أو يتعمدون الخطأ، ولذلك يوجد عند الأطفال هذه الثقة فيما يفعله الكبار، ودائماً ينظرون إلى الآباء على أنهم أكمل الناس وأفضل الناس، وهذا ينعكس عليهم سلباً أو إيجاباً؛ لأنهم يحاكون آباءهم ويقتدون بهم، ففي سن السادسة مثلاً: نجد الأطفال لا يتأثرون بالتلقين إذا لم يوجد بجانب التلقين القدوة الصالحة التي تترجم عملياً المعاني المجربة؛ لأن الأطفال في هذه الفترات غير مؤهلين بصورة كاملة لتلقي المعاني المجربة، فهم غالباً يتعاملون مع الأشياء الحسية، أما المعاني النظرية فتأتي متأخرة فيما بعد، فلذلك كونك تعطيه كلاماً نظرياً عن معان غير محسوسة لا يؤثر فيه، لكن الذي يؤثر فيه أن يرى أمامه أباه وهو يطبق بطريقة عملية ما يدعوه إليه وما يرشده إليه، ولذلك فإن محافظة الأب على الصلاة تؤثر فيهم أعمق التأثير، وهذا أمر ملموس، فنجد أن الأولاد الصغار جداً في السن يريدون أن يصلوا، ونجد الطفل يفعل مثل ما يفعل أبوه، فهذا يؤكد أن الأطفال في سن الثالثة لا يستطيع الواحد منهم أن يستوعب المعاني المجربة بصورة كاملة إلا إذا صاحبها قدوة عملية. فالقدوة والطريقة العملية بالتزام الكبار، مع ثقة الطفل دائماً فيمن هو أكبر منه؛ هي أعظم وسيلة للتأثير فيه.

الدعاء بصلاح الأطفال

الدعاء بصلاح الأطفال إن من الأمور المهمة جداً في هذه المرحلة بل في كل مرحلة أن يستعين الإنسان بدعاء الله سبحانه وتعالى والتوسل إليه، وليكن له في ذلك أسوة حسنة بإبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فقد كان الدعاء هم إبراهيم عليه السلام كما ذكر الله عنه أنه قال: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ} [إبراهيم:40] إذاً: ينبغي الاستعانة بالدعاء على مثل هذه الأشياء. أما ما يتعلق بموضوع العقاب البدني على ترك الصلاة، والذي يبدأ من سن العاشرة، فإن شاء الله سنفصل الكلام فيه بعدما ننهي الكلام عن تربية الأطفال على الصلاة، فالعقاب البدني هو الوسيلة الأخيرة للعقاب إذا أخل الطفل بالصلاة بعد أن يصل سن العاشرة، فللأب أن يلجأ إلى العقاب البدني بشروطه كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

تعليم الأب ولده الصغير الوضوء نظريا وعمليا

تعليم الأب ولده الصغير الوضوء نظرياً وعملياً إن على الأب أن يعلم ولده الوضوء والطهارة بالشرح النظري، خاصة في سن السابعة، والصلاة في السابعة غير واجبة على الأبناء، لكن يجب على الآباء أن يأمروا أبناءهم؛ لأن الأب يأثم إذا لم يأمر ولده الذي بلغ سن السابعة بالصلاة. إذاً: ينبغي للأب أن يوضح له الطهارة، أولاً: يشرح له شرحاً نظرياً كيفية الطهارة وكيفية الصلاة، ثم بعد ما يشرح له يطبق أمامه تطبيقاً عملياً، ثم يتركه بعد ذلك يطبق هذا التدريب العملي بنفسه، وليكن هذا بصورة متكررة، ويسمح له بالتطبيق أمامه، وإن أخطأ علمه وفهمه أين موضع الخطأ، ووجّهه بلطف دون تعنيف، فإذا أتقن الوضوء مدحه وأثنى عليه واحتضنه وقبله، مشعراً برضاه عنه، وليس هذا فحسب بل يعلمه فضائل الوضوء، بأن يتلو عليه الأحاديث الشريفة التي صحت في فضيلة الوضوء؛ كي يحفزه على الحرص على تحصيل ثواب الوضوء، وحتى يستحضر نية التعبد؛ لينال الثواب المترتب على الوضوء.

تعليم الأب أولاده الصغار الصلاة عمليا

تعليم الأب أولاده الصغار الصلاة عملياً إن على الأب أن يعلم أولاده الصلاة منذ السن الباكرة دون توجيه مباشر، فلا يأمرن بالصلاة بصورة مباشرة، بل يتعمد أن يصلي أمام أطفاله النوافل في المنزل، أما الفرائض فيصليها في المسجد. إذاً: يتعمد الأب أمام الأطفال قبل السابعة أن يصلي النوافل، ويكرر الصلوات على مشهد من أولاده، والأطفال يتأثرون أعمق التأثر إذا رأوا أباهم يمرغ وجهه لله تبارك وتعالى ساجداً وقائماً خاشعاً قد استغرقته الصلاة، فيستنتج الطفل مع الوقت أنك ذهبت إلى عالم آخر في أثناء الصلاة؛ لأنك لا ترد عليه إذا ناداك، ولا تحدث أي حركة، وهو بهذه الطريقة سيستنتج مع الوقت أن الصلاة حالة خاصة لها أحكامها ولها أوضاعها التي تفترق عن الأحوال التي يكون عليها الإنسان خارج الصلاة، وهذا بلا شك سيغرس في نفس الطفل الشعور بعظمة الله سبحانه وتعالى. وقد ذكر الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى أنه كان في طفولته الباكرة يتأثر ببكاء شيخه عند تلاوة القرآن أكثر مما يتأثر من كلامه، فإذا الابن رأى أباه يبكي عندما يتلو القرآن مثلاً أو عندما يصلي في خشوع فهذه بلا شك ستترك انطباعاً عظيماً جداً في نفسه من تعظيم الله سبحانه وتعالى ومحبة الصلاة.

حقيقة تربية الأطفال على الصلاة وغيرها بالعادة

حقيقة تربية الأطفال على الصلاة وغيرها بالعادة إن هناك طريقة التربية بالعادة، فالأطفال يتعرفون على أعمال الصلاة بالمشاهدة، فالطفل الصغير يؤثر فيه كل ما حوله، فينطبع ما يراه في ذاكرته بصورة أعظم بكثير جداً مما تتخيلها، فينبغي للأب عندما يسأله ابنه الصغير أن يجيبه؛ لأنه مطالب أن يعطيه أكثر قدر من المعلومات، ودعه يستوعب ما يستطيع أن يستوعبه، وما زاد عن ذلك فلا ضرر في ألا يستوعبها، فهو يستوعب بطاقة أكثر جداً ما تتوقعه أنت، فلذلك إذا سألت علمه وتفهمه بطريقة خفيفة ستجد أمراً مذهلاً من الفهم والاستيعاب. فالطفل لا شك أنه يتأثر من انطباع حركات الصلاة وسلوكك في أثناء الصلاة، وما الذي تقوله في الصلاة، وكيف تتوضأ، وكل هذه الأشياء حتى من السن المبكرة جداً قبل السابعة بكثير تنطبع في ذاكرة هذا الطفل، لكن المهم أنه قبل سن التمييز -أي: قبل سن السابعة- على الأب ألا يشتد مع الطفل في أمر الطهارة والصلاة، ولا يشتد عليه في أمر ستر العورة للصلاة، بل يتركه يقلده على أي حال، حتى لو لم يكن الطفل ملتزماً بشروط الصلاة، لا يستقبل القبلة، ولا يستر العورة، ولا يتوضأ، فلا تقل له: صلاتك غير صحيحة، لا؛ لأنه في هذه المرحلة يتلقن بالعادة وبالتقليد وبالمحاكاة، فلا تغلظ عليه، ولا تكفه عن الصلاة، ولا تكفه عن التقليد؛ لأن زجره في هذه السن وهو غير مكلف ينفره من الصلاة، فاتركه يقلدك بطريقة تلقائية دون أن تعنفه.

واجب الآباء تجاه أبنائهم بعد بلوغهم سن السابعة

واجب الآباء تجاه أبنائهم بعد بلوغهم سن السابعة إذا بلغ الطفل السابعة بالتقويم الهجري وليس بالتقويم الميلادي تقويم النصارى والكفار؛ لأن أي توقيت معين في القرآن أو في السنة فالمقصود به التقويم الهجري، فمثلاً: تجب الزكاة إذا مر على المال حول -أي: سنة- بالحول الهجري لا الحول الميلادي. كذلك قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً} [الأحقاف:15] أي: أربعين سنة هجرية وليست ميلادية، فانتبهوا لهذا. إذا بلغ الطفل السابعة بالتقويم الهجري ففي هذه الحالة يجب على الأب أن يأمره بالصلاة، ويوجهه إليها بلا ضرب ولا تعنيف؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم (مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين) وهذا حديث حسن. وفي هذه المرحلة يأمره بتحصيل ما لا تصح الصلاة إلا به كشروط الصلاة مثل: الطهارة، وستر العورة وغيرهما، ولا ينبغي أن يمر تاريخ سن الطفل إلى سن السابعة مروراً عابراً؛ لأن الطفل إذا بلغ سن السابعة فينبغي أن نحيطه بهالة من الاحتفال والأهمية والتعظيم في عين الطفل، بحيث يبدأ مرحلة جديدة في حياته محاطة بحدث خطير سيحدث؛ لأنه ببلوغه السابعة سيترتب عليه أنه صار الآن مؤهلاً لوظيفة مهمة وهي الصلاة، فلا ينبغي أن ندع الطفل يبلغ السنة السابعة دون أن نعمق هذا الحدث من قبل أن يتم سبع سنين، كأن نقول له: أنت في الشهر المقبل أو بعد شهرين أو بعد ثلاثة أشهر أو بعد أسبوعين ستبلغ سن السابعة، واعلم أنك إذا بلغت هذا التاريخ فأنت مقبل على أمر عظيم وأمر مهم جداً، أنت الآن كبرت، ولم تعد كالأطفال الصغار، والرسول صلى الله عليه وسلم أمرني أن آمرك أن تصلي، فها هو موعد أمرك بالصلاة يقترب فتهيأ لذلك، فإذا بلغ السابعة فصلى أول فرض جمع له أبوه بعض أصدقائه أو بعض أسرته في حفل صغير ابتهاجاً ًبهذه المناسبة الطيبة؛ لأنه صلى أول صلاة، وما الذي يمنع أن نبتكر مثل هذه الأساليب؟! فيؤتى له مثلاً بحلوى أو بهدية، وبعض الكاتبين في هذا الأمر قالوا: تهدى له ساعة بحيث يقال له: إن هذه الساعة هدية لك حتى تستعين بها على ضبط أوقات الصلاة، فيربط له كل شيء بالصلاة. ثم بعد ذلك ينبغي أن تتم متابعته في الصلاة، ويتابع في مدى محافظته على مواعيد الصلاة، وإذا نسي أو انشغل أو أهمل تذكره بالصلاة: هل صليت؟ يقول تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه:132] قوله: (اصطبر) يعني: داوم ولا تمل، فينبغي أن يكرر الأمر بالصلاة دون ملل، ولنفرض أن الأب شغل أو سافر أو غاب لأي سبب من الأسباب، في هذه الحالة يوكل ويكلف من يقوم مكانه بمتابعة الصبي وأمره بالصلاة خلال فترة غيابه أو شغله، روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (حاسبوا أبناءكم على الصلاة، وعودوهم الخير؛ فإن الخير عادة). أيضاً لا بأس بمكافأته أحياناً لانتظامه بالصلاة، إذا لوحظ أنه بدأ ينتظم في الصلاة فبين وقت وآخر يكافئه بمكافأة، لكن بشرط ألا يواظب على المكافأة؛ لأنه إذا واظب على المكافأة فهذا يرسخ شعوراً موجوداً أصلاً عند الطفل وهو شعور العمل المبني على الجانب النفعي، وهذا قد ينمي فيه الأنانية، بحيث لا يعمل شيئاً إلا بالمقابل المادي، فالمكافأة حتى تعطي ثمارها ولا تفسد هذا الطفل ينبغي أن تعطى له بين وقت وآخر، حتى لا يتعود أن يحفظ القرآن أو يصلي أو يفعل أي شيء إلا إذا أخذ المعلوم، لكن ينبغي أن يرسخ في ذهنه أن الصلاة شيء أساسي، وأنه إنما يصلي لله، ولا بأس بين وقت وآخر أن تعبر عن شكرك وامتنانك بمحافظته على الصلاة. أيضاً ينبغي أن تنوع الهدية في كل مرة؛ لأن الهدية إذا تكررت ففرحه بها لن يكون كما ينبغي، لكن تنوع الهدية في كل مرة بصورة ملائمة. أيضاً على الأب أن يقرن الأمور المحببة بالصلاة، يعني: لا تصور له الصلاة على أنها تكليف وأمر وإلزام، وأنه سيتعرض لعقوبة، لكن تحاول أن تربط الصلاة بالأساليب السلمية دائماً؛ فمتى ما أمكن الطفل أن يصلي بطريقة هادئة وبلطف وبرفق فلا تقفز إلى ما بعد ذلك من الخطوات، كأن تقول له: إذا عملت الشيء الفلاني فسأكافئك بأن أصطحبك معي للصلاة في المسجد، فتزرع في قلبه أن الخروج إلى الصلاة في المسجد هو المكافأة، بحيث تجعل في نفسيته أن ذلك شيء عظيم ومحبب إلى نفسه. كذلك إذا طالبك بالذهاب معك إلى المسجد فقل له: ماذا عملت حتى تذهب معي إلى المسجد؟ أو قل له: افعل الشيء الفلاني حتى تستحق أن أصحبك إلى المسجد. فالمهم أن تربط الصلاة بالأمور المحببة إلى نفسه، فمثلاً: إذا أراد الأب أن يخرج مع الأطفال إلى نزهة فليربط مواعيد الأشياء التي يحبونها بالصلاة، فيقول مثلاً: إذا ذهبت وصليت العصر وعدت من صلاة العصر فسأصطحبك معي في هذه النزهة، وهذا يجعلهم ينتبهون لوقت الصلاة، فتراهم يبكرون للصلاة في وقتها؛ لأنها اقترنت بشيء محبوب لديهم. كذلك مواعيد الأب مع أولاده يربطها بأوقات الصلاة، كأن يريد أن يعد أولاده بشيء فيربطه دائماً بوقت الصلاة، مثل: قبل صلاة العصر، أو بعد أن أصلي المغرب. أيها الأب! عمق أحداث حياة ابنك بالصلاة؛ حتى تصبح الصلاة هي المحور الذي تدور عليه حياته، ويتعلم الأولاد تنظيم الوقت بناءً على أوقات الصلاة. أيضاً الأب يذكر أولاده بين الحين والآخر بفضائل الصلاة من القرآن الكريم والسنة الشريفة، فبجانب السلوك العملي في تطبيق الصلاة حتى يكتمل تصوره عن الصلاة ينبغي أن تنمي معلوماته عن الجانب الفكري أو النظري المتعلق بالصلاة وبمنزلتها وأهمية الصلاة، وماذا قال الله وماذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن الصلاة وفضائلها، وما يترتب عليها من الفضائل العظيمة.

واجب الآباء تجاه أبنائهم بعد بلوغهم سن العاشرة

واجب الآباء تجاه أبنائهم بعد بلوغهم سن العاشرة إن على الأب أن يعلم الصبي خاصة بعد سن العاشرة أداء السنن الرواتب مع الصلوات المفروضات، فإذا صلى العشاء تتابعه هل صلى السنة البعدية؟ وهل صلى الوتر ولا بأس أن يحرضه على قيام الليل حتى ولو كان جزءاً يسيراً، فمثلاً الأب يقول لأولاده: إنني سأقوم هذه الليلة لصلاة القيام أو التهجد الساعة كذا، فيتركهم هم وحدهم يتنافسون من الذي سيستيقظ دون أن يوقظهم؟ لكن أدخل في برنامجهم أنهم بقيامهم هذا يتقربون إلى الله سبحانه وتعالى، وأنه شيء ليس إلزامياً، يعني: لا تأمرهم بهذا القيام ولا تلزمهم به ولا توقظهم، ولكن قل لهم: سأنظر من منكم سيستيقظ ويشاركني هذه الصلاة، فيتنافسون فيما بينهم من الذي يستيقظ ومن الذي سينام؛ حتى لا يتعودوا على الاعتماد على غيرهم، وإنما يعتمدون على أنفسهم، ولتقوى إرادتهم، ثم إذا صلى بهم القيام يخفف هذه الصلاة، ومن نعس منهم في أثناء الصلاة ففي هذه الحالة يأمره أن ينام رفقاً به، ولا يشدد عليه في الصغر. فإذا قصر الولد في الصلاة بعد سن العاشرة ففي هذه الحالة وجب على الأب وعظه وتذكيره بالنصوص الشرعية في الصلاة، فإذا استمر في تهاونه أغلظ له في القول وعنفه وعزره، بألا يسلم عليه ولا يمازحه، ويحرمه من بعض الأشياء المحببة لديه، ومن العقاب النفسي أن يكشر في وجهه ويعرض عنه ولا يكلمه ولا يرد عليه، فإذا فشل العقاب النفسي يلجأ الأب إلى العقاب البدني بالشروط التي سنبينها إن شاء الله فيما بعد؛ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم (واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين) لكن إذا كان الأب قد قصر في أمر الطفل بالصلاة ولم يأمره بالصلاة لا في السابعة ولا في الثامنة ولا في التاسعة وأهمله، أو مات الأب وما التزم الطفل بالدين، وما أدرك خطورة الأمر إلا بعد أن بلغ العاشرة؛ فهل يطبق عليه الحديث تطبيقاً حرفياً؟ إذا كنت -أيها الأب- قد قصرت في البداءة مع الطفل باللين وبالرفق وتركته وأهملته حتى بلغ العاشرة، ففي هذه الحالة لا تستعمل معه العقاب البدني مباشرة بعد العاشرة، لأنك أنت الذي قصرت ولم تعوده على الصلاة، ففي هذه الحالة تبدأ بالتدرج معه وتعوده عليها من جديد إلى أن ينتظم في أمر الصلاة. إذاً: يعود الطفل على صلاة الجماعة منذ الصغر، والمقصود من ذلك أن ينشأ الطفل على طاعة الله، فأعظم هدية يقدمها الأب لولده أن يكون واحداً من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، ومنهم: شاب نشأ في عبادة الله.

واجب الآباء تعليق قلوب الأبناء بالمساجد وتحبيبها إلى نفوسهم

واجب الآباء تعليق قلوب الأبناء بالمساجد وتحبيبها إلى نفوسهم إن على الأب أن يربط قلب ولده بالمسجد؛ وذلك لقول النبي عليه الصلاة والسلام: (ورجل قلبه معلق بالمساجد) يعني: إذا خرج من المسجد فكأنه سمكة خرجت من الماء، فهو لا يستريح حتى يرجع إلى المسجد، فينبغي أن نجتهد أن نجعل قلب الطفل يحب المسجد، ولا يستطيع فراق المسجد، فيكون أحب مكان إليه. إذاً: ينبغي على الأب أن يعود ابنه الصغير على صلاة الجماعة منذ الصغر؛ كي يتعلق قلبه بالمساجد؛ لأنه إذا تعلق قلبه بالمسجد فهذا خير عظيم جداً، وإذا جعل مراحل حياته في المسجد فإنه سيتعرف على العلماء، ويتعرف على الصالحين، فيمارس عملياً كثيراً جداً من الآداب الشرعية في الإصغاء إلى مجالس العلم، وبلا شك أن الطفل عنده الحب الشديد في أن يشارك الكبار في أفعالهم. فإذاً: ينبغي أن نستثمر هذا الميل الموجود في الطفل، وهو حبه مشاركة الكبار في أفعالهم، ومن هذا المبدأ تصحبه إلى المسجد؛ كي يشارك الكبار في صلاة الجماعة، لكن قبل أن يأتي إلى المسجد نفهمه آداب المسجد إن كان يستوعب ذلك. كذلك نهيئه قبل حضوره إلى المسجد؛ لأن الطفل إذا دخل المسجد رأى أموراً غريبة غير متعود عليها، كأن يرى أناساً مزدحمين وهو لم ير مثل هذا المنظر من قبل، فالطفل إما ينفجر بالبكاء وإما يكظم ويكتم نفسه، فإذا ما سلم أبوه واتجه إليه ينفجر بالبكاء والصراخ من شدة الوحدة التي عاناها، وهذا خطأ، بل ينبغي أن يحصل نوع من التمهيد لفترة كافية، كأن يصف له المسجد، ولو استطاع أن يريه صور المسجد من الداخل ومن الخارج، ويشرح له كل مكان متعلق بالمسجد؛ حتى يحصل له الإلف بهذا المكان قبل أن يتجه إليه. أيضاً يكثر من ذكر المسجد أمامه، ويصفه بكل جميل، كأن يقول له مثلاً: هذه الحلوى اشتريتها لك من المحل القريب من المسجد، ويشتريها فعلاً من ذلك المكان ولا يكذب عليه، والسواك اشتريته من أمام المسجد وغير ذلك، وإذا مر به بجانب المسجد يقول: انظر إلى هذا المبنى الجميل، هذا هو المسجد، وهو بيت الله سبحانه وتعالى، وأنا سآخذك معي قريباً؛ كي تصلي فيه، فهذا كله تمهيد حتى يقبل على المسجد بشوق وتلهف. أيضاً يهيئ جو المسجد قبل أن يصطحب هذا الطفل، وبعض الناس قد يقول: أتريد من الأب أن يتفق مع الإمام ويقول له: أنا سأصحب ابني إلى المسجد؟! أقول: لا تنظر إلى هؤلاء الأطفال على أنهم لعبة أو قطعة من اللحم والعظم والدم، لا، بل هم المستقبل الذي بإمكانك من الآن أن تصنع بهم مستقبل الأمة، بأن تجعل هؤلاء يخرجون من المساجد ويتعلقون بالمساجد؛ لأنهم في الحقيقة هم المستقبل لهذه الأمة، وهذا ليس كلام إنشاء ولا كلام جرائد، بل هو حقيقة، وقد ذكرت لكم في بداية الكلام أن كل ما تعانيه الأمة من الويلات هو ثمرة من ثمرات التربية المعقدة في الصغر أو التربية الخاطئة، انظر كيف يعذب المسلمون تحت ظل حكم هؤلاء الناس؛ وذلك لأنهم ربوا على الاستسلام، ورضعوا الخيانة والخداع والخديعة من صغرهم؛ فبسبب ذلك ذاقت الأمة هذا الويل. إذاً: أقل حماية للمسلمين أن نجتهد ألا ينشأ أطفالنا مشوهين نفسياً ومشوهين عقدياً، فينبغي ألا تنظر إلى هذا الطفل على أنه شيء هين أو شيء حقير، لا، أعطه الحجم الذي يستحقه، فيتفق الأب مع الإمام ويتفق مع المؤذن ويتفق مع بعض المصلين من الجيران وأبنائهم أن ابني إذا حضر معي فاحتفلوا به ولاطفوه؛ حتى يحس بالأنس، لكن بعض القائمين على المساجد يكونون من كبار السن، ولا يعرفون خطورة هذه الأمور التربوية، فنرى بعضهم إذا حصل خطأ من طفل ينهره بشدة! كيف تجعل عقلك مثل عقل هذا الطفل وتحاسبه على أخطائه كأنه مثلك؟! إن الثمرة التي تحصلها الأمة ويحصلها هؤلاء الأطفال فيما بعد من تعريفهم على الصلاة وتحبيبهم إلى المسجد أعظم بكثير جداً من الإزعاج الذي يسببونه أثناء الصلاة، فإذا وقف الأولاد الصغار في الصف ولم يعرفوا كيف يصلون أو ضحكوا أو خرجوا من الصلاة فينبغي أن يعلموا بلين وبرفق وبلطف، فليس من العدل أن تحاكمه على أنه مثلك؛ لأنك عرفت الحياة وتعلمت وكبرت ونضجت، أما هذا الطفل فليس عنده تجربة ولا علم ولا شيء. فما يحصل من الناس حين يتعاملون مع الأطفال كأنهم كبار هو من الظلم، ويستدلون ببعض الأحاديث الضعيفة في هذا الباب، ولها الأثر الخطير في تشويه نفسية الأطفال تجاه المسجد، ومنها حديث: (جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم) فهذا حديث لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم، بل هو كذب عليه، ولا يمكن أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول مثل هذا؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام (كان يخطب على المنبر فلما رأى ابنه الحسن يتعثر في ثوب أحمر نزل من على المنبر وقبله وضمه إليه، ثم قال: صدق الله: {أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [الأنفال:28]). ومرة صلى عليه الصلاة والسلام وارتحله ابنه الحسن أو الحسين وهو ساجد، فأطال الصلاة حتى ظنوا أن الرسول عليه الصلاة والسلام حصل له شيء، فظل ساجداً إلى أن شبع الطفل من اللعب ونزل من على ظهره، ثم قال صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن سلم: (إن ابني ارتحلني فكرهت أن أعجله) أي: كرهت أن أستعجل عليه وأقطع عليه اللعب، فهل هذا اشتغال بتوافه الأمور؟ كلا، بل هذا اشتغال بأعظم الأمور، وهي أن يحب هؤلاء الأطفال المسجد؛ لأنهم هم الذين سيشكلون المستقبل فيما بعد لهذه الأمة. ومعلوم من سيرة النبي عليه الصلاة والسلام مع ابن عباس وغيره من أبناء الصحابة أنهم كانوا يدخلون المسجد، ويصفون خلف الرجال إذا صح الحديث الوارد في ذلك. إذاً: لا ينبغي أبداً أن نمنع الصبيان المساجد، وصحيح أنها تجنب الأطفال الذين لا يعقلون، فالشاهد من الكلام أنه ينبغي إحاطة هذا الحدث الحساس وهو مجيء الطفل إلى المسجد بكثير من الاعتناء أكثر من أن تتفق مع الإمام في أن يلاطف هذا الطفل، لأن الطفل لما يجد إمام المسجد يناقشه ويبتسم في وجهه أو يعطيه حلوى أو كتاباً مثلاً أو مصحفاً، ويجد المصلين يحتفلون به إذا دخل؛ لا شك أن هذا يجعله يحس بالأنس في هذا المكان، فيطمئن لهذا المسجد ورواده، بخلاف ما إذا طرد من الباب، بل بعض الأطفال يضرب ويطرد من المسجد. ولا أقول: أين أنتم مما يفعل في الكنائس بالنسبة للأطفال وكيف يجتذبونهم إلى داخل الكنائس؟! بل أقول: أين أنتم من سيرة السلف الصالح؟! نحن مطالبون أن نرتفع إلى مستوى الإسلام؛ لأننا متخلفون عن الإسلام لا أقول: عن غيره من المناهج، فالاحتفاء والاهتمام بالطفل من شأنه أن يوقع في نفسه تعظيم أمر الصلاة، ويشعر في نفسه أن الصلاة شيء مهم جداً في حياته. قال العلماء: لو كان الإمام معروفاً بإطالة الصلاة بطريقة تخالف السنة فينبه الإمام قبل أن يؤتى بالصبي بأن يخفف الصلاة. كذلك على الأب إذا دخل ابنه الصغير المسجد أن يربطه بحلق تحفيظ القرآن وتجويده التي تعقد في المسجد، بالتعاون مع إمام المسجد. إن على الأب أن يقوي صلة ولده بالمسجد وأهل المسجد، وأن يرفه عليه عن طريق ممارسة أنشطة نافعة ومسلية للأطفال ومتنوعة، فيها نوع من اللهو المباح وغير ذلك بين الأطفال، حتى تتسع وتترسخ علاقته، وتتكون رابطته بالمسجد وبأقرانه من الأطفال. أيضاً: على الأب أن يذكر أمام الطفل الصغير صلاة الجمعة وأهمية صلاة الجمعة وآدابها وبعض أحكامها؛ لأن هذا اليوم يوم عيد للمسلمين، وضرورة احترامه وتوقيره، لكن لا يحمله ما لا يطيق من أمر صلاة الجمعة، وخاصة بين السابعة والعاشرة؛ لأن الطفل قد لا يستطيع أن يبقى مدة طويلة في الخطبة محافظاً على طهارته، قد ينقض وضوءه، وطول الخطبة قد يضجره، فلا يحمله ما لا يطيق من أمر صلاة الجمعة للأسباب التي ذكرنا. روي (أن أبا هريرة رضي الله عنه دخل مرة المسجد يوم الجمعة فوجد غلاماً، فقال له: يا غلام! اذهب العب، فقال: إنما جئت إلى المسجد، قال: فتقعد حتى يخرج الإمام؟ قال: نعم. فتركه). إذاً: على الأب ألا يكلف الصبي الصغير بصلاة الجمعة دون سن العاشرة بل يرغبه فقط بالصلاة، فإن أقبل عليها وإلا تركه وشأنه حتى يبلغ العاشرة أو قبلها بقليل، ثم يبدأ معه بالإلزام. أيضاً قال العلماء: إن الأب ينبغي له أن يتحرى اختيار الخطيب؛ لأن الخطيب بمسلكه وبخطبته عميق التأثير في أخلاق الأولاد، خاصة إذا كان هؤلاء الأولاد يفهمون الخطبة ويعقلونها، وإذا كان الأطفال يعقلون ويفهمون فينبغي أن يسألهم الأب بعد الخطبة عن موضوع الخطبة، وما الذي تتذكره من عناصرها، وما الفوائد التي تستخلصها من هذه الخطبة، وقبل أن يدخلوا إلى صلاة الجمعة يحثهم على الإنصات، ويقول لهم: إنني سوف أسألكم عن مضمون الخطبة بعد الصلاة؛ لأنه بهذا يستدعي تركيزهم وانتباههم أثناء الخطبة. هذا -باختصار- بعض التوجيهات المتعلقة بتحبيب الأطفال في أمر الصلاة، وكما ذكرنا فإن الأطفال ينبغي أن ننظر إليهم على أنهم مستقبل الأمة الذي يتمثل في أبنائنا أفلاذ أكبادنا. وكما ينبغي للأمة أن تعد لأعدائها ما استطاعت من قوة من الأسلحة للحرب فكذلك تعد الأطفال للمستقبل. يقول الدكتور يوسف القرضاوي: لا بد من صنع الرجال ومثله صنع السلاح وصناعة الأبطال علم قد دراه أولو الصلاح من لم يلقن أصله من أهله فقد النجاح لا يصنع الأبطال إلا في مساجدنا الفساح في روضة القرآن في ظل الأحاديث الصحاح شعب بغير عقيدة ورق يذريه الرياح من خان حي على الصلاة يخون حي على الكفاح أي: الذي يخون ربه في الصلاة فسيخون أمته كلها إذا بعثته إلى الجهاد؛ كي يحميها ويذود عنها. هذا فيما يتعلق بالترغيب للأطفال بالصلاة ومحافظتهم على الصلاة في ضوء قول النبي صلى الله عليه وسلم: (مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر).

قصص من ثمرة تربية الأولاد

قصص من ثمرة تربية الأولاد بعض القصص والمواقف نسردها عليكم وهي تعكس مدى اهتمام السلف الصالح بكيفية تربية الأولاد، وكيف كان يربى أولاد الصحابة وثمرة ذلك، منها: ما رواه البخاري عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه قال: (وقف غلام عن يميني يسألني في غزوة بدر فقال: يا عم! دلني على أبي جهل؟ -انظر كيف تربى هذا الولد على عداوة أعداء الله- فقلت له: وما لك يا بني من أبي جهل؟! فقال: والله إن رأيته لن أفلته، لقد كان يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا غلام آخر عن يساري، فسألني مثل الأول، ثم تحتدم المعركة ويشتد بأسها فيلتفت عبد الرحمن إلى الغلامين فقال لهما: ذاك الذي تبغيان، ذاك أبو جهل، فينطلقان مسرعين كل منهما يريد أن ينال شرف السبق في طعن عدو الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فيضربانه ضربة قوية فيسقط أبو جهل فرعون هذه الأمة على الأرض، فيتسابقان بزف البشارة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقول: كل واحد منهما: أنا الذي قتلته يا رسول الله، فيقول لهم النبي عليه الصلاة والسلام: أرياني سيوفكما، فيرى عليهما آثار الدماء، فقال لهما: كلاكما قتله) فهذا ثمرة التربية على التوحيد، وعلى الولاء لأولياء الله والمعاداة لأعداء الله تبارك وتعالى. وهذه قصة إحدى المدرسات كانت تأمر الطلاب الصغار بأن ينشدوا: بلادي بلادي بلادي لك حبي وفؤادي فكان بين الطلاب صبي صغير رفض أن ينشد، فقالت له: لماذا لا تنشد مع الأطفال؟ قال: أنا حبي وفؤادي لله، بمنتهى العزة هذا الطفل الصغير يفهم أن حبه وفؤاده لله تبارك وتعالى! أيضاً من هذه الوقائع: أنه مر الحارث المحاسبي وهو صبي بصبيان يلعبون على باب رجل تمار يبيع التمر، فوقف الحارث ينظر إلى لعبهم، وخرج صاحب التمر ومعه تمرات فقال للحارث: كل هذه التمرات، فقال الحارث: من أين أتيت بالتمرات؟ قال: إني بعت الساعة تمراً من رجل فسقطت هذه التمرات منه، فخذها أنت كلها، فقال الحارث له: أتعرفه؟ قال: نعم، فالتفت الحارث إلى إخوانه الصبيان الذين كانوا يلعبون فقال لهم: أهذا الشيخ مسلم؟! قالوا: نعم، فتركه، فتبعه التمار حتى قبض عليه وقال له: والله ما تنفلت من يدي حتى تقول لي ما في نفسك مني، فقال: يا شيخ! إن كنت مسلماً فاطلب صاحب التمرات حتى تتخلص من تبعته، كما تطلب الماء إذا كنت عطشان، يا شيخ! تطعم أولاد المسلمين السحت وأنت مسلم؟! فقال الشيخ: والله لا اتجرت للدنيا أبداً. فهذه لم تأت من فراغ، بل هي ثمرة التربية الصحيحة التي أخرجت مثل هذه النماذج. قال ابن غفر المكي: بلغني أن أبا سليمان داود بن نصير الطائي رحمه الله لما بلغ من العمر خمس سنوات أسلمه أبوه إلى المؤدب، فابتدأ بتلقين القرآن، وكان لقناً -يعني: كان يحفظ بسرعة- فلما تعلم سورة: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ} [الإنسان:1] وحفظها رأته أمه يوم الجمعة وجهه مقبلاً على الحائط يشير متفكراً بيديه، فخافت أمه على عقله فنادته: قم يا داود فالعب مع الصبيان، فلم يجبها، فضمته إليها وقالت: يا ويلاه، فقال: مالك يا أماه؟! أبك بأس؟ قالت: أين أنت؟ قال: مع عباد الله قالت: أين هم؟ قال: في الجنة، قالت: ما يصنعون؟ قال: {مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلا زَمْهَرِيرًا} [الإنسان:13]، ثم مر في تلاوة السورة وهو شاخص كأنه يتأمل شيئاً حتى تلا قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا} [الإنسان:22]، ثم قال: يا أماه ما كان سعيهم؟ فلم تدر ما تجيبه، فقال لها: قومي عني حتى أتنزه عندهم ساعة، فقامت عنه، فأرسلت إلى أبيه، فأعلمته شأن ولده، فقال له أبوه: يا داود! كان سعيهم أن قالوا: لا إله إلا الله، محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان يقولها في أكثر أوقاته حتى يكون ممن سعى هذا السعي المشكور. ومن ذلك ما حكاه ابن غفر المكي أن أبا يزيد طيفور بن عيسى البسطامي لما بدأ يحفظ سورة المزمل: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} [المزمل:1 - 2]، قال لأبيه: يا أبت من الذي يقول الله تعالى له: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} [المزمل:1 - 2]؟ قال: يا بني! ذلك النبي محمد صلى الله عليه وسلم، قال: يا أبت مالك لا تصنع كما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! فقال: يا بني! إن قيام الليل خصص به صلى الله عليه وسلم دون أمته، فسكت عنه، واستمر في حفظ السورة فوصل إلى قوله تعالى: {أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ} [المزمل:20]، فالولد تأمل قوله تعالى: {وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ} [المزمل:20]، وأبوه قال له: إنها خاصة بالرسول عليه الصلاة والسلام دون سائر الأمة، فقال: يا أبت! إني أسمع أن طائفة كانوا يقومون الليل مع النبي صلى الله عليه وسلم فمن هذه الطائفة؟ قال: يا بني! أولئك الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، قال: يا أبت! فأي خير في ترك ما عمله النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه؟! فقال: صدقت يا بني. يعني: أقام عليه الحجة أن قيام الليل ليس خاصاً بالرسول عليه الصلاة والسلام وإنما خص بالوجوب لكن الاستحباب للأمة كلها، فكان أبوه بعد ذلك يقوم من الليل ويصلي، فاستيقظ أبو يزيد في ليلة فإذا أبوه يصلي فقال: يا أبت! علمني كيف أتطهر وأصلي معك؟ فقال أبوه: يا بني! ارقد فإنك صغير بعد، قال: يا أبت إذا كان يوم {يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ} [الزلزلة:6] أقول لربي: إني قلت لأبي: علمني كيف أتطهر لأصلي معك، فأبى وقال لي: ارقد فإنك صغير بعد، أتحب هذا؟ أتحب أن أشكوك إلى الله؟ فقال له أبوه: لا والله يا بني ما أحب هذا، وعلمه فكان يصلي معه!

اهتمام الكفار بأولادهم

اهتمام الكفار بأولادهم إن الحديث عن أبناء المسلمين والاهتمام بهم حديث طويل جداً؛ لأن هذا الأمر من الخطورة بمكان، وللأسف الشديد أني مضطر بأن أذكر ببعض الأمثلة من غير المسلمين، فالكفار عندهم مناهج وطرائق معينة، فهم يفتشون في المدارس على الأطفال النوابغ النبيهين والمتفوقين والعباقرة، ثم يستخلصونهم ويعزلونهم في مدارس خاصة بهم، ويوجهونهم بتوجيهات تربوية ومناهج دقيقة جداً، ويسمونها مدارس إعداد القادة من الطفولة، فيكون هذا الطفل الذكي مع أطفال من نفس المستوى من الذكاء؛ حتى تنمو قدراته، لكن إذا وجد ولد عبقري في وسط أطفال دونه في الذكاء، فالنتيجة أن تفاهمه معهم وتعامله معهم يكون فيه صعوبة، بحيث يصعب عليه أن يتكيف معهم أو يتعامل معهم، فهو يريد أن يتعايش مع من حوله، فيضطر أن ينزل إلى مستواهم؛ حتى يحصل بينه وبينهم نوع من القناعة في الوسط الذهني أو الفكري الذي هو فيه، فبالتالي لا يترقى، لكن إذا وجد وسط الأذكياء نما نمواً سريعاً، وتقطف أمته فيما بعد ثمرة هذه التربية الموجهة في مدارس إعداد القادة الموجودة في تلك البلاد، فهم احترموا الأسباب والله سبحانه وتعالى لا يحرمهم من ثمرة هذا العمل في الدنيا.

مبدأ الثواب والعقاب للأطفال في أمر الصلاة وغيرها

مبدأ الثواب والعقاب للأطفال في أمر الصلاة وغيرها ننتقل إلى نقطة أخرى وهي: كيفية العقاب البدني للأطفال عموماً، وفي أمر الصلاة خصوصاً، الإنسان الكبير الناضج الذي عنده خبرة وعلم وتجربة ومعرفة كبيرة بالأمور، وعنده ميزان دقيق لها، يستطيع أن يحدد متى يقدم، ومتى يحزم، ولماذا يفعل هذا، ولماذا يجتنب هذا، بينما الطفل ليس عنده من الخبرة أو العلم والنضج ما يكفيه إلى أن يندفع ذاتياً للعمل، فبالتالي يحتاج إلى دوافع تدفعه من حوله، وهي مبدأ الثواب إن أحسن والعقاب إذا أساء؛ لأن هذه طبيعة الإنسان، وهذه من محاسن الإسلام التي سبق بها كل الأمم. فمبدأ الترغيب والترهيب من أفضل أساليب التعليم والتربية والتوجيه السلوكي؛ وذلك لأن الإنسان مركب فيه الخير والشر، فينبغي مقابلة جانب الخير في الإنسان بتنميته، وأيضاً مقابلة جانب الشر فيه بتحجيمه وإزالته، بلا إفراط ولا تفريط، وإنما بتوازن واعتدال. فمبدأ الثواب على فعل الخير يقوده إلى تثبيت السلوك السوي وتقويمه، وأيضاً يشجع السلوك الإلزامي عند الأطفال، بأن يكافأ الأطفال مقابل تصرفاتهم الحسنة بالقبول والاستحسان، خاصة في السن المبكرة، فهذا يزرع الثقة في نفوسهم، والطفل يحب أن يمدح إذا عمل شيئاً طيباً، خاصة إذا كان هذا الشكر أمام زملائه، وخاصة إذا عرف أو أعلن السبب الذي شكر لأجله أو كوفئ من أجله، فإذا أردت مزيداً من النجاح أو الإنجاز في جانب من الجوانب الحسنة فلا بد من الشكر والثناء والاستحسان أو الهدية، أما إذا اقتصر الإنسان على العقاب، فإنه يؤدي إلى الخمول وضعف الإرادة وتثبيط الهمة.

مراتب ما قبل اللجوء إلى العقاب البدني للأطفال

مراتب ما قبل اللجوء إلى العقاب البدني للأطفال هناك مبدأ مهم جداً وهو أن العقاب لا يلجأ إليه إلا إذا فشلت أساليب الترهيب والترغيب، وينبغي أيضاً أن يلاحظ في موضوع العقاب أن الأطفال يتفاوتون، ليس كل الأطفال على قالب واحد، وإنما يتفاوتون، فمنهم من ترهبه الإشارة، ومجرد التلميح بالعقاب يكفي في زجره عن الشيء الخطأ، ومنهم ما لا يردعه إلا الجهر الصريح. كذلك ينبغي غرس شعور الطفل بالثقة بالنفس والاعتزاز بالنفس والحفاظ على كرامته بقدر المستطاع، فالأصل هو عدم اللجوء إلى الضرب أو إلى العقاب إلا عند الضرورة كما سنبين إن شاء الله تعالى، فلا يجعل الإنسان أول شيء يفعله هو عقوبة الطفل وإهانته وإهدار كرامته، لا؛ لأنه إذا أهدرت كرامته فقد الثقة بنفسه. يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حديث ما معناه: (علقوا السوط حيث يراه أهل البيت، فإنه أدب لهم) وليس تعليق السوط شرطاً، بل لك أن تعلق عصاً أو أي شيء خاص بالضرب، فيعلق أمام الأطفال كنوع من الإرهاب مع الاعتدال، فهذا أسلوب تربوي حسن في تخويف الأطفال من الوقوع في الخطأ، فأنت تعلق العصا لكن لا تستعملها؛ لأن الأطفال مجرد أن يروا العصا أمامهم معلقة فهذا يردعهم عن الخطأ، لكن لو ضربت بها مرة فستهون عليه مسألة الضرب، فإذا عودته على الضرب زال خوفه منه. ومع تعليق السوط يذكره بالله سبحانه وتعالى؛ لأن هذه العقوبة لا تستخدم إلا بنوع من التدرج وبضوابط مهمة جداً؛ كي لا تأتي بآثار سلبية، فالأصل أن الإنسان في البداية إذا وجد الطفل يخطئ كأن ينام عن صلاة الفجر أو يؤخر الصلاة أو يقصر في شيء معين أن يتجاهل خطأه في البداية، ولا يوجه توجيهاً مباشراً، لكن يشير إليه إشارة حسنة، كأن يأتي التوجيه في وسط كلام مع غيره، ويذكر الخطأ الذي ارتكبه دون إعلامه برؤيته. والطفل يحتاج للترغيب والترهيب؛ لأنه ليس عنده المثل الكافي الذي يدفعه إلى أن يفعل أو لا يفعل، فيحتاج إلى هذه الأشياء حتى تدعم توجيهه، فإذا كان هناك خطأ وقع فيه وهو لا يدري متفهمه أن هذا خطأ، وتعطيه فرصة لمراجعة سلوكه وتصحيح خطئه، لكن لا يذكر الكلام على سبيل التعريض به، فتقول مثلاً: هناك واحد اليوم نام عن صلاة الفجر، فتذكر خطأه بطريقة غير مباشرة تماماً، والمهم أن يصل الكلام إليه بالطريقة غير المباشرة بدون مواجهة وبدون تصريح، فضلاً عن أن يكون هناك أي نوع من الإهانة، لكن إذا لفت نظره إلى الخطأ بطريقة مباشرة وبعنف وبشدة فقد يحصل أنه يتجرأ عليه، ويصر على ارتكاب هذا الخطأ. إن الخطوة الأولى: أن يتجاهل الخطأ في البداية مع حسن الإشارة والتوضيح دون المواجهة والتصريح، وذلك بأن يعطيه الفرصة لمراجعة سلوكه وتصحيح خطئه. الخطوة الثانية: إذا أصر على الخطأ أو واقعه وتكرر منه ففي هذه الحالة له أن يعاقبه سراً، لكن بعد الخطوة الأولى الماضية، وذلك بأن يصرح بالنصيحة له، ثم يشتمه ويوبخه، لكن ليس أمام أحد، بل سراً، ويصارحه ويقول له: أنت فعلت خطأ كذا أو ضيعت الصلاة أو نمت عن الصلاة، يعني: له أن يوبخه ويعبس في وجهه، وممكن أن يستعمل معه نوعاً من العقوبة البدنية الخفيفة، كأن يفرك أذنه بشدة؟ إن على المربي ألا يكثر من العقوبة البدنية؛ لأنها إذا كثرت لن تكون لها أي قيمة، كذلك لا يكرر التوبيخ؛ لأن التوبيخ إذا كرر يهتك حجاب الهيبة، فلن يهاب ولن يخاف؛ لأنه جرب كثرة التوبيخ مما يجعله يتعود على أن يهتك حجاب هيبة المربي، فيهون عليه أن يسمع التوبيخ والملامة وركوب القبائح، ويسقط وقع الكلام في قلبه؛ وبهذا تفقد هذه الطريقة فاعليتها. كذلك الأم لها دور مهم جداً في تخويف الطفل بأبيه، على الأم أن تجعل الأب في صورته الواجبة، وأنه ولي البيت وهو الراعي وهو الذي سيعاقبك. فالأم تخوف الابن بأبيه كأن تقول: لو أتى أبوك سأقول له: إنك لا تريد أن تقوم إلى الصلاة مثلاً، أو أنك تؤخر الصلاة. فإذا استمر الطفل على الخطأ رغم التدرج في الخطوتين السابقتين، في هذه الحالة يحتاج الطفل إلى طريقة أشد في العقوبة: وهي عقابه ولومه جهراً أمام أسرته ورفاقه؛ لأننا هنا نستغل حرص الطفل دائماً على أن يبقى أمام إخوانه وأخواته أو أصدقائه محافظاً على مكانته، فنستغل هذا الشعور الذي هو خوفه على مكانته بين أقرانه في تعديل سلوكه، فإذا عنفته ووبخته أمام إخوانه حينئذ فلا بأس كما في قوله تعالى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور:2] ففي هذا زجر لباقي الأولاد، بحيث لو أخل واحد منهم بالصلاة فإنه سيتعرض لهذا التوبيخ كما تعرض هذا الصبي. إذاً: يعاقب ويواجه جهراً أمام الأسرة أو أمام رفاقه، لكن يشترط أن يكون التعنيف بدون شتم أو تحقير للذات؛ لأن هذا الكلام فيه تحطيم له، وثمرته مريرة جداً، حيث تجعله يشعر بالدونية وبعقدة النقص، لكن ينبغي أن يعاقب ويوبخ بالأساليب المنضبطة؛ حتى لا تفقده ثقته بنفسه. أيضاً معاقبته أمام الأسرة أو أمام أصدقائه ينبغي ألا يكرر؛ حتى لا تفقد العقوبة قيمتها؛ لأنه إذا وبخ سيشعر بالتألم الذي هو الشعور بالذنب، ويشعر أن التوبيخ يحدث له نوع من الضيق، وليس هذا فحسب بل سيكره مصدر هذا التوبيخ، فيكره أبيه أو المعلم. فالعقوبة الصارمة تؤدي إلى كراهية المعاقب، وبالتالي تزرع فيه الشعور بالنقص والخوف، والمرحلة الثالثة بعد تأنيب الضمير أو الشعور بالذنب وبعد التضايق وكراهية المعاقب؛ لن يبالي بعد ذلك بالتوبيخ ولا بالضرب؛ لأنه تعود على سماع الشتائم أو تعود على الضرب، فأصبح لا يؤثر فيه بعد ذلك.

العقوبات الحسية البدنية للأطفال وشروط اللجوء إليها

العقوبات الحسية البدنية للأطفال وشروط اللجوء إليها العقوبات الحسية درجات، وأخف عقوبة يبدأ بها شد الأذن بطريقة خفيفة، كما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عبد الله بن بسر رضي الله عنه قال: (بعثتني أمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطف من عنب، فأكلت منه قبل أن أبلغه إياه، فلما جئت أخذ بأذني وقال: يا غدر يا غدر) يعني: ظهر له أنه أكل منه في الطريق، والحديث رواه ابن السني. الشاهد أن هذا فيه دليل على أن يفرك أذنه كعتاب خفيف على الخطأ، أما الضرب للتأديب فهو كالملح للطعام، فالملح إذا وضعته في الطعام بكمية كبيرة فسد الطعام، لكن لو وضعت ملحاً بكمية قليلة فإنه يصلح الطعام، فنفس الشيء الضرب، فالضرب لا يلجأ إليه إلا بعد استنفاد جميع وسائل التأديب السابقة، أما أنك تتجه مباشرة إلى العقاب البدني فهذا خطأ فادح. لقد تكلم علماء المسلمين على موضوع الضرب وإباحة الضرب، وأحاطوه بشروط بالغة في الدقة؛ لأنه إذا لم تراع هذه الشروط خرج الضرب عن موضعه التربوي، فما هي شروط هذا الضرب؟ أولاً: ينبغي أن يعلم أنه ليس من أهداف الضرب تشويه الطفل، ولا الهدف منه إهانة كرامته، ولا التحقير من شأنه، وإنما هو وسيلة بناءة لا هدامة، هدفها الإصلاح وليس الإفساد، فمتى ما عادت هذه الوسيلة هدامة أو ترتب عليها فساد فقدت قيمتها ولا يلجأ إليها، فهذا أمر مهم. فالضرب هو ضرورة تربوية يلجأ إليها عند الاضطرار بعد استنفاد كل الوسائل السابقة، والفشل في العلاج عن طريقها. ثانياً: الضرب ضرورة تأديبية وليست انتقامية، وهذا خطأ شديد جداً نراه من بعض الآباء قساة القلوب، نرى الأب أو الأم يضرب للانتقام لا للتربية، وهذا انحراف عن نهج الرسول عليه الصلاة والسلام، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: (اضربوهم عليها لعشر)؛ لأن الضرب وسيلة لإصلاح الطفل، ووسيلة اضطرارية وليست وسيلة انتقامية، فلا يجوز أن يفرغ الأب أو الأم شحنة الغضب والانفعال والغيظ في صدره عن طريق الضرب؛ لأن هذا الأب الذي يضرب مثل هذا الضرب المبرح القاسي ليشفي غليله وغيظه لا يضربه بنية أنه يعالجه، بل يضربه بحثاً عن راحة نفسه، ففي هذه الحالة لا يجوز الضرب؛ لأن هذا ليس من العدل، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم للرجل الذي استوصاه: (لا تغضب، قال: أوصني، قال: لا تغضب، قال: أوصني قال: لا تغضب) فكرر عليه هذه النصيحة. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

لماذا نصلي؟ [6]

لماذا نصلي؟ [6] الصلاة أعظم الأركان بعد الشهادتين، وهي قرة عيون الموحدين، وأم العبادات، وأجل القربات، ومرآة عمل المسلم، وميزان تعظيم الدين في قلب المؤمن، وهي دعامة جميع الشرائع السماوية، وشعار دار السلام، وهي شهادة بالإيمان، وبراءة من النفاق، وهي سبيل المؤمنين، وشعار حزب الله المفلحين، وأوليائه المرحومين، وهي زلفى وقربى إلى رب العالمين.

الصلاة مجلبة للرزق

الصلاة مجلبة للرزق الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل على محمد النبي وأزواجه أمهات المؤمنين وذريته وأهل بيته كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. أما بعد: فنستأنف بإذن الله تعالى ما كنا بصدده من ذكر خصائص الصلاة وفضائلها، وقد ذكرنا أن الصلاة أعظم الأركان بعد الشهادتين، وأنها أهم أمور الدين، وأنها توءم الفرائض والأركان، وأنها أم العبادات، وأنها أمر الله تبارك وتعالى، وأنها الوصية الأخيرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنها مرآة عمل المسلم وميزان تعظيم الدين في قلب المؤمن، وأنها دعامة جميع الشرائع السماوية، وأنها شعار دار الإسلام، وأنها إيمان، وأنها براءة من النفاق، وأنها سبيل المؤمنين وشعار حزب الله المفلحين، وأوليائه المرحومين، وأنها القاسم المشترك بين عبودية الكائنات، وأنها خير موضوع، وأنها زلفى وقربى إلى الله عز وجل، وأنها مدرسة خلقية، وأنها راحة وسعادة وقرة عين، وأنها نور وبرهان ووضاءة، وأنها من سنن الهدى، وأنها منحة ربانية، وأنها شكر لنعم الله تعالى، وأنها إغاظة للكافرين ومراغمة لأعداء الدين، وأنها تحرير للبشرية، وأنها ناهية عن المنكرات وعاصمة من الشهوات، وأنها كفارة للسيئات وماحية للخطيئات، وأنها ملجأ المؤمن في الكربات، وانتهينا إلى بيان أن الصلاة حفظ وحماية للمصلي. أيضاً من خصائص وفضائل الصلاة: أنها مجلبة للرزق، لقد أوجب الله سبحانه وتعالى الصلوات الخمس على المؤمنين، فقال تبارك وتعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء:103]، ومن رحمته بعباده أنه خففها عز وجل من خمسين صلاة في اليوم والليلة إلى خمس صلوات. ولو بقي الأمر على ما كان عليه، وفرض علينا في اليوم والليلة خمسين صلاة، لكان حتماً واجباً علينا أن نحافظ عليها، وإلا حق علينا الوعيد الإلهي، فمن رحمة الله تبارك وتعالى أنه خففها من خمسين صلاة في اليوم والليلة إلى خمس صلوات، كما أمرنا بالمداومة على إقامتها في أوقاتها، قال تعالى: {والَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ} [المعارج:23]، وليس المراد من المداومة استغراق الليل والنهار بها، ولكن المطلوب فقط هو أداؤها في أوقاتها؛ كي يستطيع الإنسان أداء الواجبات الأخرى كتحصيل معاشه ونحو ذلك.

إعطاء كل ذي حق حقه

إعطاء كل ذي حق حقه قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن لجسدك عليك حقاً، ولربك عليك حقاً، ولضيفك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، صم وأفطر، وصل وائت أهلك، وأعط كل ذي حق حقه) رواه البخاري. هذا الحديث هو ميزان ومقياس الوسطية التي امتاز بها الإسلام، لم يشأ النبي صلى الله عليه وسلم أن يستطرد ويقول: وإن لوالديك عليك حقاً، وإن لإخوانك عليك حقاً، وإن لكذا عليك حقاً، لكن بعدما ذكر هذه النماذج من أصحاب الحقوق، ختمها بذلك القول الجامع: (فأعط كل ذي حق حقه). نتوقف قليلاً عند هذا الحديث؛ لأنه يمس موضوعاً مهماً جداً نبينه إن شاء الله تعالى، هذا الحديث كما ذكرنا يعطي كل مؤمن ميزاناً ليزن به الأمور، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (احرص على ما ينفعك) فالإنسان ليس له وظيفة واحدة، بل له وظائف متعددة، ودوائر الالتزام بالحقوق والواجبات لديه متعددة، فالإنسان المتوازن لا يميل كل الميل إلى وظيفة، ثم يهدر باقي الوظائف، فالطالب مثلاً: وظيفته أنه طالب، يحضر المدرسة، ويذاكر دروسه، هذه وظيفته كطالب، لكن في نفس الوقت هناك واجبات أخرى متنوعة في حقه كابن تجاه والديه وأقاربه وأرحامه، وقبل ذلك كله عليه واجبات تجاه ربه كعبد، والأب مثلاً: عليه واجبات تجاه أولاده كأب، وهو كزوج عليه واجبات تجاه زوجته وتجاه أهله، وواجبات تجاه صلة رحمه وأقاربه، وكعبد لله سبحانه وتعالى عليه واجبات تجاه ربه عز وجل، أيضاً مجال النوافل مفتوح للمتقرب لله سبحانه وتعالى، كذلك إذا أتاه الضيوف عليه واجبات تجاههم، وهكذا، فلكل طرف من هذه الأطراف التزامات على الإنسان، لكل منهم حق نفسه لها حق.

طلب العلم الشرعي لا يعارض الدراسة المنهجية لتحصيل الوظيفة والعمل

طلب العلم الشرعي لا يعارض الدراسة المنهجية لتحصيل الوظيفة والعمل بعض الإخوة عندهم نوع من الخلل في مفهوم التوازن والوسطية، ويظنون أنهم ينجزون شيئاً عظيماً، فبعضهم يقول: أنا لا أستطيع إيجاد التوازن بين الدراسة وبين تعلم العلوم الشرعية أو حضور دروس العلم، فتجد الواحد من هؤلاء إما أن ينقطع تماماً إلى العلوم الشرعية ولو أخل بكل الواجبات الأخرى، وإما أن ينغمس تماماً في الدنيا ويخل بطلب العلم ونحو ذلك، وهذا السؤال ليس له محل من البداية أصلاً؛ لأن هذا السؤال لا نحتاجه إلا عند حصول التعارض بين واجب وواجب آخر، فعند التعارض نحتاج إلى الترجيح، لكن متى ما أمكن الجمع فيجب أن نجمع بين الواجبات، والأصل أن المسلم بحكم كينونته عبداً مسلماً طائعاً لله سبحانه وتعالى، ومنفذاً لشريعته على نفسه ومن يليه؛ تتعدد وظائفه، ولا يصح أن يقول: أنا أقوم بواجبي كأب ويضيع واجبه كابن، فينشغل بحقوق أولاده عن بر والديه، أو العكس ينشغل ببر والديه ويضيع تماماً حقوق زوجته وأولاده، وهكذا. أنا أتعجب لماذا دائماً نفترض التعارض بين الواجبات، في حين أن الحديث يحسم هذه القضية تماماً: (فأعط كل ذي حق حقه)؟! كذلك هناك من الناس من ينشغل بالرزق وتحصيل الرزق ويخدع نفسه ويقول: العمل عبادة، ويريد بهذا القول ألا يصلي مع الجماعة، وكأن الصلاة ليست عبادة، والعمل هو العبادة. هذا المفهوم في غاية الخطورة، وهو ناشئ عن التصور القاصر في العلاقة بين الأمور. أما بالنسبة للإخوة الطلبة الذين لا يريدون أن يتحملوا المسئولية، ويريدون أن يكون كل شيء على هواهم، فإذا كانت الدراسة لا يستسيغها ولا يحبها، فتراه يستتر خلف القراءة في كتب الدين، حتى إذا ما انتهت الامتحانات التي كان يهرب منها، فلا يقرأ في دين ولا يقرأ في دنيا ولا يعمل أي شيء، فهو ينكشف مع الوقت أنه كان يهرب، فالهروب لا يحل المشكلة، بل ستظل ماثلة أمامه، فالإنسان يكون صريحاً مع نفسه. نقول: إن فترة الطلب سواء في جامعة أو في مدرسة من أخطر فترات حياة الطالب ويستطيع أن يغتنمها في تحصيل أمور كثيرة جداً؛ لأنه بعد ذلك في الغالب ينشغل، ويكون الأمر بعد التخرج أصعب، وتكون مشاغل الحياة أكثر، خاصة إذا تزوج ورزق أولاداً، فالهموم تزداد، وقدراته على التحصيل في الغالب تقل، إلا من يسر الله عليه. فالشاهد أن فترة الدراسة فترة مثمرة جداً، ولو أحسن المرء استخدامها يكون النجاح إلى حد كبير، ويستطيع أن يجمع بين كثير من الأمور الخيرية. لكن هناك نقطة مهمة جداً وهي أن الإخوة الطلبة يقولون: كيف نترك الدراسة الدينية ونذاكر الكلام الفارغ، نقول: إن حكم الدين، أن الابن إذا بلغ النكاح، وصار مكلفاً، فعليه أن ينفق على نفسه، لكن بما أن ظروف الحياة حالياً انتهت إلى أن فترة الطفولة الاقتصادية قد طالت؛ وذلك لأن الوظائف الآن لا تنال إلا بشهادات في الغالب، والطالب يظل يتلقن هذه العلوم إلى حد فترة بعيدة قد تمتد أكثر من أربع وعشرين أو خمس وعشرين سنة. ونحن نلاحظ أن الأب في بلادنا الإسلامية هو الذي يتحمل نفقة ابنه ليفرغه لطلب العلم، فما على الابن إلا أن يشتغل بدراسته، وأن يحفظ دروسه ويذاكر؛ لأن هذا عمله ووظيفته، ولأجل تفريغه لهذه الوظيفة يتكفل والده بالنفقة عليه، فيفرغه لمصلحه الدراسة. إذاً: على الإنسان أن يكون واضحاً مع نفسه، وألا يهرب من الدراسة ويقول: أنا سأقرأ كتباً دينية؛ لأنه مهما كان إقبالك على طلب العلم الشرعي فلا بد في النهاية أن تكون لك وظيفة تشتغلها، وإلا هل سيبقى المتدينون من العاطلين عن العمل أو سيرتزقون من وراء الدين؟! لو كان الأمر هكذا فليدخل كلية أزهرية من البداية، ويسلك المسلك الطبيعي الذي يؤدي به إلى أن يطلب العلم، وفي نفس الوقت تكون له وظيفة، لكن معظم الناس ليسوا كذلك. إذاً: وظيفة الطالب الأساسية هي الدراسة والمذاكرة، فالدراسة ليس لها حل إلا أن ينهيها ويكملها، قال الفقهاء: من شرع في فرض كفاية لزمه أن يتمه. خلاصة الكلام: ترك الدراسة والبحث عن عمل بدون شهادة فيه مشقة شديدة، والتعرض للفتن يكون أكبر في الغالب؛ لأنك ستكون محكوماً، وستواجه صعوبة في التعامل معك، والعمل في القطاع الخاص يكون الوقت فيه أوسع، وبالتالي ينهك أكثر، ويحرم من دروس العلم، ويحرم من طلب العلم، فلو جاء يقارن بين من يشتغل وبين من يدرس، يجد أنه في فترة الدراسة يكون في سن الشباب، ويبذل للدعوة ويجتهد في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى بحرية، وفي نفس الوقت إذا قارن الشغل الذهني الذي يستخدمه في المذاكرة يجده أخف بكثير من الشغل المفروض، فلو قطع علاقته بالمذاكرة والدراسة وذهب ليشتغل ففي الغالب يكون شغله شاقاً، وأنتم تعرفون ظروف البطالة والأوضاع التي نحن فيها، ففي هذه الحالة نلاحظ أن الآباء يتعذبون مع أولادهم عذاباً شديداً، تجد الأب كل رغبته أن يضحي ويبذل من أجل أن يكمل ولده الدراسة، وهو لا يريد من ابنه شيئاً، بينما تجد الابن ينفر من تحمل مسئوليته وهي الدراسة والمذاكرة! فأقول للذي يهرب من المذاكرة ويترك الدراسة ويذهب ليعمل: عليك أن تراجع نفسك، وأن تكون صريحاً معها؛ لأن بعض الناس يغتنم فترة الدراسة، فتجد أن أباه يبعث له نقوداً من أجل الدراسة، وهو مع ذلك لا ينفق هذه النقود على كتب الدراسة، بل ينفقها لشراء كتب دينية، فأقول: أنت مؤتمن على هذا المال، وأبوك إنما بذله لكي تتفرغ لدراستك وتشتري كتبك وهذه الأشياء، فلا يجوز لك أن تخدعه ولا تأتي بالكتب الدراسية؛ لأنها كتب علوم دنيوية. أنا لا أنفر من العلوم الشرعية؛ لأنها أشرف العلوم على الإطلاق، لكن أقول: إن فترة الدراسة أفضل فرصة يحصل فيها الإنسان العلم الشرعي، ويجتهد في العبادة، ولا تعارض على الإطلاق بينها وبين العلوم الدنيوية، فلماذا دائماً نفترض التعارض؟ والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (إن لجسدك عليك حقاً) يعني: عليك أن تحافظ على صحتك؛ لأنك مطالب بحماية صحتك والاعتناء بها. ثم يقول عليه الصلاة والسلام: (ولربك عليك حقاً, ولضيفك عليك حقاً, ولأهلك عليك حقاً, صم وأفطر، وصل وائت أهلك، فأعط كل ذي حق حقه). فخلاصة الكلام: إن ظاهرة الهروب من الدراسة تكثر أيام الامتحانات، فترى الواحد يراجع نفسه ويقول: هل أدرس أم لا أدرس؟ ونقول: إن أيام الامتحانات أسبوع أو أسبوعان ثم تأتي إجازة طويلة عريضة، فما عليه لو توقف عن قراءة العلم الشرعي الآن وبعد أسبوعين أو ثلاثة يرجع إلى قراءة الكتب الدينية، ويرينا همته الحقيقية؟! على الطالب أن يستغل النعمة العظيمة التي هي نعمة الصحة والفراغ، يقول عليه الصلاة والسلام: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة، والفراغ) فإذا جمع الله لك النعمتين فاستغلهما كما ينبغي. هذا تنبيه لزم التنويه عليه؛ نظراً لما يدور في أذهان كثير من الناس، ترى الواحد منهم لا يريد أن يعمل ولا يريد أن يذاكر، ولا يريد أن يدخل الامتحان بحجة طلب العلوم الشرعية! أقول: كن صريحاً مع نفسك، إن كنت تريد الهروب من هذه الأمور فلا تتستر وراء العلم الشرعي، اترك الدراسة واسلك طريقاً آخر ولا تقل: إن العلوم الشرعية هي التي عطلتني.

وجوب ترك العمل لأداء الصلاة المفروضة

وجوب ترك العمل لأداء الصلاة المفروضة إن الاشتغال بالصلاة يقطع الإنسان مؤقتاً عن عمل الدنيا، وبعض الناس قد يفتنون بالدنيا وراء تحصيل المال ولو على حساب إقامة الصلاة، فتجد أهل الدنيا ينشغلون وينهمكون في عمل الدنيا إلى حد اللهف والجري وراء الرزق ولو على حساب إقامة الصلاة، ولو ضيع صلاة الجماعة اشتغالاً بالرزق. من هنا لم يغفل الشرع الشريف هذه الجزئية، فبين الله سبحانه وتعالى أن ترك اكتساب الرزق من أجل أداء الصلاة المفروضة فرض، وليس العمل عبادة، إذ لو كان العمل فعلاً عبادة لما كان الاشتغال بهذا العمل ساعة دخول وقت الصلاة حراماً، فترك اكتساب الرزق من أجل أداء الصلاة المفروضة فرض، يقول الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الجمعة:9]. في جلسة من جلسات مجلس الشعب في عهد السادات قام أحد الناس الطيبين أثناء الجلسة التي كانت بعد العصر وقال: الصلاة يا رئيس، فقال له الرئيس: نحن في عبادة، واستمرت هذه العبادة حتى غربت الشمس! فما بالك بالذي يشتغل بالمباراة ومتابعة الكرة حتى تغرب الشمس أو غير ذلك من هذه الأشياء، فمن يقول: إن العمل عبادة فأوضح رد على تلبيسهم من القرآن الكريم قوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ)) [الجمعة:9] وتدبروا كلمة (فاسعوا)، فالسعي المقصود به الجدية والمبادرة، لكن انظر في طلب الرزق كيف جاء التعبير: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك:15] فأمرنا بطلب الرزق بالمشي، فعلى الإنسان ألا يستميت في طلب الرزق إلى الحد الذي يقطعه عن أداء العبادات. قوله: (فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) عبر عن طلب الرزق بالمشي، أما العبادة فعبر عنها بالسعي، وقوله تعالى: (وَذَرُوا الْبَيْعَ) فالبيع الذي تسميه عبادة يجب عليك الآن أن تترك هذه العبادة التي هي العمل وطلب الرزق، فالدليل على أن ترك اكتساب الرزق من أجل الصلاة المفروضة فرض قوله تعالى: (وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ) وبعد أداء حق الله تبارك وتعالى أُمروا أمر إباحة أن ينتشروا في الأرض في حوائجهم، فيقول عز وجل: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) ثم وبخ سبحانه من ترك العبادة وانصرف إلى التجارة فقال: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [الجمعة:11] وقال تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المنافقون:9].

حق الله مقدم على حق غيره

حق الله مقدم على حق غيره نعود إلى موضوع التوازن بين حقوق الأولاد والأهلين وحقوق العمل وحقوق الله سبحانه وتعالى، فإذا حضر حق الله يلغى كل عمل آخر، ومن ثم قال تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء:103] فهي تقدم على غيرها من الواجبات أو الحقوق، بل تلغى الحقوق الأخرى ويقدم حق الله تبارك وتعالى. وهذا الإنسان الذي يؤجل الصلاة عن أول وقتها ويظن أنه إذا أخرها سينجز حاجته وعمله، نقول: بالعكس، إن البركة تنزع من وقته، ولا يحصل منه الصلاة في وقتها، ولا يحصل منه إنجاز عمل عطل الصلاة من أجله، فتنزع البركة من الوقت فلا ينجز لا هذا ولا ذاك، فالإنسان يعود نفسه أنه متى ما جاء وقت الصلاة فليتذكر معنى كلمة: الله أكبر، فيقدم حق الله وحق الله أكبر على أي حق آخر في هذه اللحظة، يقول عز وجل: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ). قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ) قال جماعة من المفسرين: إن المراد بقوله تعالى: (عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ) هنا الصلوات الخمس، فمن اشتغل عن الصلاة بماله كبيعه أو صنعته أو ولده، كان من الخاسرين وذلك لقوله تعالى في آخر الآية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ)، وقال تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ} [النور:36 - 37]، فانظر إلى هؤلاء الذين يقولون: إن العمل عبادة ويضيعون الصلاة، وانظر إلى قوله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ} [النور:36 - 37]، والبيوت في الآية هي المساجد.

الثناء على التجار الصالحين

الثناء على التجار الصالحين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((ضرب الله هذا المثل في قوله: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ} [النور:35]) لأولئك القوم الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، وكانوا أتجر الناس وأبيعهم) قوله: (كانوا أتجر الناس) يعني: كان الصحابة أشد الناس خبرة بالتجارة. قوله: (وأبيعهم) يعني: أقدرهم على البيع والعمل وهذه الأشياء، ولكن مع ذلك كانوا إذا أتى وقت الصلاة فإنها لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة. ثم يقول: (وكانوا أتجر الناس وأبيعهم، ولكن لم تكن تلهيهم تجارتهم ولا بيعهم عن ذكر الله). وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: (إن ناساً من أهل السوق سمعوا الأذان فتركوا أمتعتهم وقاموا إلى الصلاة، فقال: هؤلاء الذين قال الله عز وجل فيهم: {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ} [النور:37]). وعن إبراهيم قال: هم قوم من القبائل في الأسواق إذا حانت الصلاة لم يشغلهم شيء. وقال سفيان الثوري رحمه الله: كانوا يشترون ويبيعون ولا يدعون الصلوات المكتوبات في جماعة. وتأمل كيف ربط الله سبحانه وتعالى بين تركهم الارتزاق لأجل الصلاة في قوله تعالى: {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ} [النور:37] وبين قوله بعدها {لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [النور:38] فهؤلاء التجار الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله عز وجل أو غيره من الطاعات، يكافئون بالرزق؛ لأنه من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه، فهم إذا جاء وقت الصلاة أغلقوا محلاتهم وخرجوا إلى الصلاة ثم عادوا، فما جزاؤهم؟ يقول الله تعالى: {لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [النور:38]، فالله سبحانه وتعالى يبارك لهم في الرزق، حتى لو كان الرزق قليلاً فتحصل فيه البركة، والبركة شيء لا يوصف، لكن نستطيع أن نشعر بهذه البركة، وذلك لو أن إنساناً رزق مالاً كثيراً لكن نزعت منه البركة، فتراه ينفق هذه الأموال على الأدوية والأمراض، وينفق هذا المال في اللهو والمعاصي ويكون وبالاً عليه، أو ينفق هذا المال فيما لا فائدة منه، بخلاف المال القليل الذي يكون فيه البركة من الله سبحانه وتعالى.

الرزق بيد الله

الرزق بيد الله الأرزاق بيد الله عز وجل يعطي من يشاء ويمنع من يشاء، لا معطي لما منع، ولا مانع لما أعطى، وإن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه، فمن شؤم المعاصي حرمان الرزق، فالرزق يقدر عن الإنسان ويضيق عليه؛ بسبب المعصية، فإذا استهان الإنسان بأعظم حق من حقوق الله تبارك وتعالى -وهو الصلاة- فأي ذنب أعظم من ذلك؟! فلا شك أن ترك الصلاة سبب لمحق البركة من الرزق، وليس الاشتغال باللهو والتجارة عن الصلاة هو الذي سيجلب لك المال ويجلب لك الرزق. كان عروة بن الزبير رضي الله عنه إذا دخل على أهل الدنيا فرأى من دنياهم طرفاً، رجع إلى أهله فدخل الدار وقرأ قوله تعالى: {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى * وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه:131 - 132]، ثم يقول: الصلاة الصلاة رحمكم الله. فانظر إلى هذا الفقه منه لهذه الآية: (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى). قوله: (زهرة) يعني: سريعة الذبول. قوله: (لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) أي: لنختبرهم فيه. قوله: (وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى) أي: ما عند الله من الثواب، خير وأبقى. وقوله تعالى: ((وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا)) [طه:132] أي: اصبر على ذلك. {وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا َنحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه:132]. وقوله تعالى هنا بعدما أمر بالصلاة: {لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ} [طه:132] فيه دفع لما عسى أن يخطر ببال أحد من أن المداومة على الصلاة ربما تضر بأمر المعاش، فقد يوسوس الشيطان لبعض الناس بهذه الفكرة، وأن الصلاة ستعطله عن طلب الرزق وعن المعاش، فكأنه قال: داوموا على الصلاة غير مشتغلين بأمر المعاش عنها، إذ لا نكلفكم رزق أنفسكم فنحن نرزقكم، فلا تقلقوا على الرزق، ولا تتركوا الصلاة ولا تؤجلوها اشتغالاً بالرزق، فلا تظن أن الاشتغال بالصلاة ينقص رزقك؛ لأن الرزق ليس عليك أنت، فالرزاق هو الله سبحانه وتعالى. وتقديم المسند إليه للاختصاص أو لإفادة التقوى: {لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ} [طه:132]، ولم يقل: نرزقك نحن، وإنما قال: {نَحْنُ نَرْزُقُكَ} [طه:132]، للدلالة على الاختصاص. وقد قال الله سبحانه وتعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ} [الذاريات:56 - 57]، فالله سبحانه وتعالى غني عن العالمين، لا يطلب منك العبادة لأنه محتاج إليها، فالله عز وجل هو الغني القوي المتين، {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:56 - 58]. ويستفاد من الآية الكريمة: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه:132] أن الصلاة سبب لإدرار الرزق، وسبب لكشف الهم. يروى عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه أنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزلت بأهله شدة أو ضيق أمرهم الصلاة، وتلا: ((وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ)) [طه:132]). وأخرج الإمام أحمد في الزهد وغيره عن ثابت قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أصابت أهله خصاصة - حاجة أو شدة - نادى أهله بالصلاة: صلوا صلوا، قال ثابت: وكان الأنبياء عليهم السلام إذا نزل بهم أمر فزعوا إلى الصلاة).

ضمان الله سبحانه لعباده الرزق حتى الممات

ضمان الله سبحانه لعباده الرزق حتى الممات عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثة كلهم ضامن على الله، إن عاش رزق وكفي، وإن مات أدخله الله الجنة). قوله: (ثلاثة كلهم) أي: كل واحد منهم ضامن على الله، وضامن هنا بمعنى مضمون، مثل قوله: {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} [الحاقة:21] فصيغتها صيغة الفعل، لكن معناها: في عيشة مرضية. أو أنه ذو ضمان، والضمان الرعاية للشيء كما يقال: تامر ذو تمر، أو لابن ذو لبن، أي: صاحب تمر ولبن، ومعنى ضامن على الله: أنه في رعاية الله، وما أجزل هذه العطية؟! وعدي بعلى: (كلهم ضامن على الله) لأن الضمان هنا ضمن معنى الوجود والمحافظة على سبيل الوعد؛ ولأن هذا عهد على الله أخذه على نفسه، أنه يرعى هؤلاء الثلاثة ويحفظهم من مضار الدين والدنيا. قوله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة كلهم ضامن على الله، إن عاش رزق وكفي، وإن مات أدخله الله الجنة: من دخل بيته فسلم فهو ضامن على الله - يعني: الإنسان إذا دخل بيته يسلم على أهله، تكون بركة عليه وعليهم- ومن خرج إلى المسجد فهو ضامن على الله، -يعني: خرج لصلاة الجماعة- ومن خرج في سبيل الله فهو ضامن على الله).

طلب الرزق وسيلة لا غاية

طلب الرزق وسيلة لا غاية لقد بين جل وعلا أن المال خادم وأن الدين مخدوم، وهذا معنى في غاية الأهمية؛ لأن الرزق والمعاش يكون بالمال، فلا بد أن نعرف مراتب الأعمال: من السيد ومن الخادم؟ من الخادم ومن المخدوم؟ فهل المال خادم أم مخدوم؟ أو بتعبير آخر: هل المال وسيلة أم غاية؟ هل يراد المال لذاته أم يراد لغيره؟ لا شك أنه يراد لغيره، فالمال خادم والدين هو المخدوم، فالمال هو الذي يخدم العبادة، فلا يضحى بالعبادة من أجل المال. إذاً: من يقول: إن العمل عبادة ويضيع الصلاة فإنه يخدع نفسه، فهنا صير الخادم مخدوماً، فبدل ما كان الدين هو المخدوم صار هو الخادم للدنيا وللمال، مثل الذي يريد أن ينظف أسفل نعله، فيمسحه في خده، فالخد عضو شريف، والنعل خادم لهذا الجسم، فأنت لما تحول الخادم إلى مخدوم والمخدوم إلى خادم قلبت الأمور. وهذا مما يوضح لنا إبطال هذا المعنى، وهو الذي يتذرع به بعض الناس حين يضيعون الصلاة ويقولون: العمل عبادة. يوجد حديث صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول فيه: (إن الله عز وجل قال: إنا أنزلنا المال لإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، ولو كان لابن آدم واد من ذهب لأحب أن يكون له ثان، ولو كان له واديان لأحب أن يكون له ثالث، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ثم يتوب الله على من تاب) يعني: أن الإنسان سيظل ملازماً وحريصاً على المال والازدياد من المال والطمع في الدنيا إلى أن يموت ويمتلئ جوفه من تراب قبره. ومعنى قوله عز وجل: (إنا أنزلنا المال لإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة) أي: أن المال إنما أنزل ليستعان به على إقامة حقوق الله تعالى، لا للتلذذ والتمتع به كما تأكل الأنعام، فالأنعام تعيش لتتلذذ وتتمتع بالطعام ونحو ذلك، أما بالنسبة للإنسان فإنما أنزل له المال ليستعين به على أداء حقوق الله تبارك وتعالى، فإذا خرج المال عن هذا المقصود فات الغرض والحكمة التي أنزل لأجلها، وكان التراب أولى به، فرجع المال والجوف الذي امتلأ بمحبته وجمعه إلى التراب الذي هو أصله، فلم ينتفع به صاحبه، ولا انتفع به الجوف الذي امتلأ به.

حتمية حصول الرزق والأسباب الشرعية للحصول عليه

حتمية حصول الرزق والأسباب الشرعية للحصول عليه لقد ضمن الله تبارك وتعالى لعباده أرزاقهم فقال سبحانه وتعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود:6]. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو أن ابن آدم هرب من رزقه كما يهرب من الموت، لأدركه رزقه كما يدركه الموت) يعني: أن الإنسان يرزق رغم أنفه؛ لأن الرزق مكتوب لك حتى ولو قلت: أنا لا أريده وفررت منه، فسوف يجري خلفك إلى أن يلحقك حتماً إذا كان الله قد كتبه لك. وقال صلى الله عليه وسلم: (الرزق أشد طلباً للعبد من أجله) الإنسان إذا طلبه ملك الموت وحضره أجله هل يستطيع أن يهرب منه؟ حتماً لا بد أن يموت في الأجل الذي كتبه الله، فكذلك الرزق مكتوب، وسوف ينالك ما كتب لك من هذا الرزق. وقال صلى الله عليه وسلم: (إن روح القدس نفث في روعي -هذا إلهام وهو نوع من أنواع الوحي-: أن نفساً لن تموت حتى تستكمل أجلها، وتستوعب رزقها؛ فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، ولا يحملن أحدكم استبطاء الرزق أن يطلبه بمعصية الله، فإن الله تعالى لا ينال ما عنده إلا بطاعته) وهذا حديث صحيح. قوله: (إن روح القدس نفث في روعي) أي: جبريل عليه السلام. قوله: (أن نفساً لن تموت حتى تستكمل أجلها وتستوعب رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب) يعني: اطلبوا الرزق لكن بنوع من الحكمة. قوله: (ولا يحملن أحدكم استبطاء الرزق أن يطلبه بمعصية الله، فإن الله تعالى لا ينال ما عنده إلا بطاعته). يعني: ما دام أن الرزق عند الله، فالوسيلة التي يطلب بها الرزق هي طاعة الله، وليس عن طريق معصية الله تبارك وتعالى. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كانت همه الآخرة جمع الله له شمله، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت همه الدنيا فرق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له) فرزق الله لا يجلبه حرص حريص، ولا يرده كراهية كاره. فمن كانت همه الآخرة يكافأ على ذلك بأن يجمع الله له شمله، ويجعل غناه في قلبه، وهذه أعلى درجات الغنى غنى النفس، وتأتيه الدنيا راغمة. إذاً: يرزق العبد رغم أنفه؛ لأن رزق الله لا يجلبه حرص حريص، ولا يرده كراهية كاره؛ ولأنه سبق به قلم القضاء: (رفعت الأقلام وجفت الصحف).

حال من اشتغل بالدنيا عن الصلاة المفروضة

حال من اشتغل بالدنيا عن الصلاة المفروضة إن من اشتغل بالدنيا عن الصلاة المفروضة فهو داخل فيمن آثر الدنيا على الآخر، يقول عز وجل: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى:16 - 17]. وقال تعالى: {إِنَّ هَؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا} [الإنسان:27]. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى يقول: يا ابن آدم! تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنى وأسد فقرك، وإلا تفعل ملأت يديك شغلاً ولم أسد فقرك)، فبعض الناس ينهمكون في خدمة الدنيا على حساب الدين، وعلى حساب إقامة الصلاة، فإذا ما نصحوا وذكروا بأن الرزق مضمون، وأن عليهم أن يجملوا في طلب الدنيا، انطلق الواحد منهم محتجاً بأن ضمان الرزق لا يعني ترك الأسباب، فتقول له: الرزق مضمون ولن يفوتك شيء من الرزق، قدم حق الله على غيره، قدم الآخرة على الأولى، فينطلق كالصاروخ قائلاً: أليس كل شيء بالأسباب؟! وإن ضيعت الأسباب سيضيع مني الرزق! فيجادل ويقول لك: ضمان الرزق لا يعني ترك الأسباب، وعندما تأتي وتذكره بالأوامر والنواهي والأمور الشرعية يقول لك: ربنا كريم، ربنا غفور رحيم، وبعضهم يقول لك: إن النبي صلى الله عليه وسلم سيشفع لنا، ونحن نقول: لا إله إلا الله، ويتعلق بهذه النصوص. فهل نقول: إن ربنا كريم في الآخرة وفي الدنيا، فاترك السعي وراء الرزق، وربنا كريم سيرزقك وأنت جالس؟! هذا غير صحيح، صحيح أن كل شيء يأتي بالأسباب، وكذلك الجنة لا تأتي إلا بالأسباب، يقول عليه الصلاة والسلام: (من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة)، فالجنة نفيسة جداً، فهل تريد أن تنالها بالأماني والأوهام والأحلام؟! لماذا لا تأتي بالأسباب التي توصلك إلى الجنة؟! قال بعض الصالحين: اجتهادك فيما ضمن لك، وتقصيرك فيما طلب منك، دليل على انطماس البصيرة. إذاً: هذا أحد الأدلة على أن البصيرة غائبة منطمسة؛ لأن الله سبحانه ضمن للإنسان الرزق، لكن هل الجنة مضمونة؟ الرزق كتبه الله سبحانه وتعالى كما هو معلوم في الآيات: {نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ} [الأنعام:151] لكن الجنة قال عنها عز وجل: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى} [النجم:39 - 41]، وقال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:7 - 8]. إذاً: اطلب الرزق لكن بحكمة، ولا تضيع الصلاة من أجل الرزق، أما الجنة فأهم أسباب دخولها المحافظة على الصلاة. قال الله سبحانه وتعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3]. فمن اتقى الله بتقديم حقه في أداء الصلاة على ما عداه عوضه عما فاته من الدنيا، ورزقه من حيث لا يحتسب. وقال سبحانه تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ} [الأعراف:96]. وقال عز وجل: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا} [الجن:16]. وقد روي في بعض الآثار: (وإن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه) فمن شؤم تضييع الصلاة نقصان الرزق ومحق البركة، ومن عجيب أمر بعض الناس أنك إذا دعوتهم لترك شواغلهم لإجابة الداعي إلى الصلاة تعرف في وجوههم المنكر، كيف يتركون العمل لأجل الصلاة مع أن العمل عبادة؟! وهذه العبارة شاعت وذاعت، وشب عليها الصغير، وهرم عليها الكبير، مع أنها ليست آية قرآنية ولا حديثاً نبوياً، بل هي بهذا السياق عبارة منكرة؛ لأن صاحبها إذا أمر بالصلاة في وقتها يعارض بهذه المقولة المنكرة، ومفهوم هذه المقولة إن الصلاة ليست عبادة، وأصبحت عبادة الدنيا هي العبادة! إن العمل الذي يلهيك عن فريضة الله عبادة، لكن عبادة للشيطان وللدنيا؛ بدليل الحديث: (تعس عبد الدرهم، تعس عبد الدينار) إلى آخر الحديث. وهذا المسلك من أربابه الذين اتخذوا دينهم لهواً ولعباً وغرتهم الحياة الدنيا، ومن المغالطات العلمانية التي يطلقها من لا يرجون لله وقاراً، ولو كان يجوز لأحد أن يترك الصلاة لانشغاله بما عداها، لكان أولى الناس بذلك المجاهد الذي يكافح العدو ويلتحم معه في الجهاد، ومع ذلك لم يعذر المجاهد بترك الصلاة حتى صلاة الجماعة، ففي الجهاد لم يعذر المجاهد في ترك الصلاة، وشرع الله سبحانه وتعالى له صلاة الخوف، كذلك المريض الذي أنهكه المرض كان أولى أنه يجوز له أن ينشغل بالمرض عن الصلاة، لكن مع ذلك لم يعذر لمرضه مهما اشتد به المرض، ما دام عاقلاً ومستطيعاً، فالمريض الذي أنهكه المرض تبقى الصلاة فريضة عينية في حقه، ويصلي على حسب استطاعته، فلا يتصور في الوجود أن يكون هناك مسلم لا يصلي، إلا امرأة حائضاً أو نفساء، فهما اللتان يعذران في ترك الصلاة، بل لا تصح منهما الصلاة.

الصلاة أول ما يسأل عنه الناس من حقوق الله عز وجل يوم القيامة

الصلاة أول ما يسأل عنه الناس من حقوق الله عز وجل يوم القيامة إن من خصائص الصلاة وفضائلها: أن الصلاة أول الإسلام وآخره، فهي أول فروض الإسلام بعد الشهادتين، وهي أول ما نسأل عنه من حقوق الله عز وجل يوم القيامة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عمله الصلاة، فإن صلحت فقد أفلح وأنجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر، وإن انتقص من فريضة قال الرب: انظروا هل لعبدي من تطوع، فيكمل بها ما انتقص من الفريضة؟ ثم يكون سائر عمله على ذلك). ونفس هذا المعنى يشير إليه حديث ضعيف يروى عن أبي أمامة رضي الله عنه: (أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم تسأله ومعها صبيان لها، فأعطاها ثلاث تمرات، فأعطت كل واحد منهما تمرة، قال: ثم إن أحد الصبيين بكى فشقة التمرة الثالثة فأعطت كل واحد نصفاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حاملات والدات رحيمات لأولادهن، لولا ما يصنعن بأزواجهن لدخل مصلياتهن الجنة)، فتأمل كيف أنه اشترط الصلاة في الانتفاع بما عداها من الأعمال الصالحات. والنبي عليه الصلاة والسلام تأثر بموقف المرأة الرحيمة بأولادها، فقال: (حاملات والدات) يعني: يتعبن في الحمل، وفي الولادة. قوله: (رحيمات لأولادهن، لولا ما يصنعن بأزواجهن دخل مصلياتهن الجنة) أي: أن اللاتي لا يصلين لا يدخلنها، وهو وارد على سبيل الزجر والتخويف والردع.

الصلاة آخر ما يرفع من الدين

الصلاة آخر ما يرفع من الدين إذا كانت الصلاة هي أول ما نحاسب عليه في القبر، وهي أول ما طلب في الإسلام بعد الشهادتين، وأول ما يسأل عنه من حقوق الله سبحانه وتعالى يوم القيامة؛ فهي أيضاً آخر ما يسقط من الدين، فعن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أول ما يرفع من الناس الأمانة، وآخر ما يبقى من دينهم الصلاة، ورب مصل لا صلاة له عند الله تعالى) أي: لا نصيب له ولا ثواب. وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لتنقضن عرى الإسلام عروة عروة، فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها، فأولهن نقضاً الحكم، وآخرهن الصلاة) أي: أن الحكم من عرى الإسلام مثل الصلاة، ثم يقول عليه الصلاة والسلام: (فليس بعد ذهاب الصلاة إسلام ولا دين)؛ لأن الصلاة أول الإسلام وآخره، وما ذهب أوله وآخره فقد ذهب جميعه.

الصلاة سبب النصر والتمكين والفلاح في الدنيا والآخرة

الصلاة سبب النصر والتمكين والفلاح في الدنيا والآخرة إن الصلاة سبب النصر والتمكين والفلاح في الدنيا والآخرة، فقد قال الله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون:1 - 2] إلى قوله جل وعلا: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [المؤمنون:9]، فقوله عز وجل: (قَدْ أَفْلَحَ) أي: المفلحون أول صفاتهم الصلاة، وانتهى بوصفهم بالصلاة، {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون:2] وانتهى بقوله: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [المؤمنون:9] تماماً كما في سورة المعارج. وقال سبحانه: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى:14 - 15]، والفلاح: هو الفوز بالبقاء الدائم في النعيم، فالله سبحانه سمى الصلاة فلاحاً، وجعل النداء إليها نداءً إلى الفلاح، حي على الفلاح. بعض الناس ينطق كلمة (حي) بالكسر، وهي بالفتح؛ لأن حيّ اسم فعل أمر، والفلاح هو الفوز بالمراد والبقاء في الخير. إذاً: هذه أدلة على أن الصلاة هي الفلاح. وبالصلاة يستمنح نصر الله سبحانه وتعالى، يقول الله عز وجل: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:45]، وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال:45] ولعل في تشريع صلاة الخوف حال الالتحام المسلح ما يشير إلى أثر الصلاة في استجلاب نصر الله تبارك وتعالى. وعن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما ينصر الله هذه الأمة بضعيفها، بدعوتهم، وصلاتهم، وإخلاصهم). هذا الحديث مهم جداً، وهو في صحيح البخاري بدون ذكر الإخلاص، فصلاة الضعفاء ودعاء الضعفاء وإخلاصهم هو أحد أسباب نصر هذه الأمة، والضعفاء: هم الأطفال واليتامى والنساء والشيوخ الطاعنون في السن، هؤلاء هم الضعفاء، فالإنسان إذا ابتلاه الله سبحانه وتعالى بشيء من ذلك، سواء كان ابناً مريضاً مزمناً، أو أولاداً صغاراً ضعافاً أو يتامى، أو أباً أو أماً كبيرين في السن، فحذار أن ينظر إلى أن هذا عبء عليه، بالعكس فرزقه ربما يأتيه بسببه، وقد تمنع الرزق بسبب المعاصي، لكن قد يأتيك الرزق ليس لك أنت؛ لأن معاصيك تمنع أن يتكاثر لك الرزق وتحجبه، لكن يأتي الرزق لهؤلاء الذين تعولهم من الأطفال أو النساء أو كبار السن، فهؤلاء رحمة من رحمة الله سبحانه وتعالى. روي عن سليمان عليه السلام أنه خرج مع قومه للاستسقاء، فلما أراد أن يستسقي رأى نملة قائمة بقوائمها -يعني: رافعة قوائمها- وتقول: اللهم اسقنا ولا تؤاخذنا بذنوب بني آدم، كان هناك قحط وجدب فسمع النملة تدعو بهذا، وقد كان يفهم لغة النمل، فقال لمن معه: ارجعوا فقد سقيتم بدعاء غيركم. وفي الحديث: (وما منع قوم زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا) فهم يستحقون أن يمنع عنهم الماء من السماء، لكن الله سبحانه وتعالى من عدله لا يؤاخذ البهائم بذنوب الآدميين، فنحن نسقى من أجلها. كذلك بالنسبة لهؤلاء الضعفاء من الأطفال أو النساء أو المرضى أو الشيوخ، فهؤلاء هم البركة، وهؤلاء ترزق وتنصر بسببهم، فلا تنظر إليهم على أنهم عبء، لكن انظر إليهم أنهم مصدر خير وبركة واستدرار للرزق، بنص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما ينصر الله هذه الأمة بضعيفها)، وكلمة النصر تطلق أحياناً على الرزق، والشاهد في سورة الحج يقول عز وجل: {مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ} [الحج:15] إن أحد المعاني الذي فسر بها النصر هنا هو الرزق، والسائل قد يأتي ويقول: انصروني نصركم الله، أو يقول: ارزقني حسنة، فأحياناً يطلق النصر على الرزق. قال رجل للحسن: أوصني، قال: أعز أمر الله يعزك الله، قال تعالى: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7]. أي: انصر أمر الله بإقامة الصلاة ينصرك الله تبارك وتعالى، وقال الله عز وجل: {وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ} [المائدة:12] يعني: إني معكم بالنصر والتأييد إن أنتم أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة، ومن كان الله معه فقد تولاه، والله عز وجل لا يعز من عاداه ولا يذل من والاه، بل الذل حليف من حاربه وعصاه. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري) وعباد الله هم الذين يعاقب بهم أعداءه ويعذبهم بأيديهم ويستمدون منه زاداً ووقوداً في جهادهم، كما في قوله في سورة الإسراء: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} [الإسراء:5]، فهؤلاء هم المؤهلون لأن يكونوا أداة لتعذيب أعداء الله تبارك وتعالى، ولا شك أنهم يقيمون الصلاة، وهذا إذا فسرنا (عباداً لنا) على أنه مدح لهم، وهناك تفسير آخر: وهو أنهم مسخرون لتعذيبهم وإن لم يكونوا مؤمنين. وبهذه العبودية الحقة يتعرف عليهم الحجر آخر الزمان ويناديهم: (يا مسلم! يا عبد الله! هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله) كما في صحيح مسلم. فهل يمكن أن يكون عبداً لله ولا يقيم الصلاة؟! لا. يتعجب الإنسان كيف يعيش الذي لا يصلي بدون صلاة! لماذا يتنفس من هواء الله؟! لماذا يأكل من رزق الله؟! لماذا يمشي في أرض الله؟! لماذا يتمتع بالعافية التي رزقه الله سبحانه وتعالى والعقل الذي كرمه به؟! لكن المفلحون الصالحون إذا فتح الله سبحانه وتعالى عليهم بالنصر والتمكين كان أعظم ما يقدمونه للناس إقامة الصلاة يقول عز وجل: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج:41]. نكتفي الليلة بهذا القدر، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم. سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

لماذا نصلي؟ [7]

لماذا نصلي؟ [7] من خصائص الصلاة أنها نجاة من عذاب القبر، وأمنية الأموات والمعذبين، ونجاة من عذاب الله رب العالمين، وهي رافعة للدرجات في الجنة، وسبب لرؤية الله سبحانه فيها، فإذا كانت الصلاة كذلك فجدير بنا أن نحافظ عليها بأركانها وواجباتها ومستحباتها، وأن نقوم بلبها وروحها من الخشوع والطمأنينة فيها؛ حتى نحصل على تلك الفضائل والخصائص والمزايا العظيمة.

الصلاة نجاة من عذاب القبر

الصلاة نجاة من عذاب القبر الحمد لله حق حمده، والصلاة والسلام على محمد رسوله وعبده، وعلى آله وصحبه من بعده. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. الصلاة نجاة من عذاب القبر، فطاعة الله تبارك وتعالى هي خير ما يقدمه الإنسان ويدخره في قبره، يقول الله سبحانه وتعالى: {مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} [الروم:44]. قال مجاهد: {فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} [الروم:44] يعني: في القبر. وعن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يتبع الميت ثلاثة فيرجع اثنان ويبقى واحد: يتبعه أهله وماله وعمله، فيرجع أهله وماله، ويبقى عمله) متفق عليه. وقد وصف لنا الصادق المصدوق صلى الله عليه وآله وسلم تفاصيل ما يجري في أول لقاء يتم في القبر، بين المؤمن وبين عمله الصالح الذي يصحبه ولا يفارقه، ففي حديث البراء الطويل قال صلى الله عليه وسلم في المؤمن: (فيأتيه من روحها وطيبها -يعني: من روح الجنة وطيبها وهو في قبره- ويفسح له في قبره مد بصره، قال: ويأتيه رجل حسن الوجه، حسن الثياب، طيب الريح، فيقول: أبشر بالذي يسرك، أبشر برضوان من الله، وجنات فيها نعيم مقيم، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول له: وأنت فبشرك الله بخير، من أنت؟! فوجهك الوجه يجيء بالخير، فيقول: أنا عملك الصالح، فوالله ما علمتك إلا كنت سريعاً في طاعة الله بطيئاً في معصية الله، فجزاك الله خيراً، ثم يفتح له باب من الجنة)، وهذا الحديث صحيح. فالشاهد فيه: أنه في اللقاء الأول الذي يدوم إلى وقت الخروج من القبور يبقى العمل الصالح مؤنساً للإنسان في قبره بهذه الحيثية، يقول: (أنا عملك الصالح فوالله ما علمتك إلا كنت سريعاً في طاعة الله) أي: يبادر إلى الطاعات. قوله: (بطيئاً في معصية الله فجزاك الله خيراً، ثم يفتح له باب من الجنة) ولاشك أن الصلاة تأتي في مقدمة الأعمال الصالحة التي تحفظ صاحبها من عذاب القبر. فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الميت إذا وضع في قبره إنه ليسمع خفق نعالهم حين يولون عنه، فإن كان مؤمناً كانت الصلاة عند رأسه، وكان الصيام عن يمينه، وكانت الزكاة عن يساره، وكان فعل الخيرات من الصدقة والصلة والمعروف والإحسان إلى الناس عند رجليه، فيؤتى من قبل رأسه -أي: تأتيه ملائكة العذاب من قبل رأسه- فتقول الصلاة: ما قبلي مدخل) أي: لا يوجد طريق للمرور من ناحيتي، لا سبيل لكم إلى تعذيبه من ناحيتي؛ لأنه لم يكن يقصر في الصلاة هذا معنى: (ما قبلي مدخل) لأن الصلاة قوية وكاملة، ولا يوجد ثغرات بحيث ينفذ منها العذاب إلى هذا المؤمن. ثم قال: (ثم يؤتى عن يمينه فيقول الصيام: ما قبلي مدخل، ثم يؤتى عن يساره فتقول الزكاة: ما قبلي مدخل، ثم يؤتى من قبل رجليه، فيقول فعل الخيرات من الصدقة والصلة والمعروف إلى الناس: ما قبلي مدخل) وهذا حديث حسن.

الصلاة أمنية الأموات والمعذبين

الصلاة أمنية الأموات والمعذبين إن من فضائل الصلاة وشرفها أن الصلاة أمنية الأموات والمعذبين، الأموات والمعذبون يتمنون أن يعودوا إلى الدنيا لكي يصلوا ركعتين خفيفتين من النوافل التي يزهد فيهما كثير من الناس. فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (مر النبي صلى الله عليه وسلم على قبر دفن حديثاً فقال: ركعتان خفيفتان مما تحقرون وتنفلون يزيدهما هذا في عمله أحب إليه من بقية دنياكم) يعني: لو أن هذا الميت خير بين أن يعود إلى الدنيا لفترة وجيزة جداً ليركع فيها ركعتين خفيفتين من النوافل التي يزهد الناس في أجرهما، وبين أن يؤتيه الله سبحانه وتعالى ملك الدنيا بما عليها إلى أن تقوم القيامة؛ لاختار أن يعود إلى الدنيا ويركع ركعتين خفيفتين ثم يعود إلى القبر مرة ثانية؛ لما رأى من ثواب الطاعة وثواب الصلاة حتى لو كانت نافلة. وقال إبراهيم بن يزيد العبدي: أتاني رياح القيسي فقال: يا أبا إسحاق! انطلق بنا إلى أهل الآخرة نحدث بقربهم عهداً، فانطلقت معه فأتى إلى المقابر فجلسنا إلى بعض تلك القبور فقال: يا أبا إسحاق! ما ترى هذا متمنياً لو تمنى؟ قلت: أن يرد والله إلى الدنيا فيستمتع من طاعة الله ويصلح في عمله، قال: فها نحن، ثم نهض فجد واجتهد فلم يلبث إلا يسيراً حتى مات. وكلمة يستمتع إشارة إلى أن العبادة لها طعم ومتعة ولذة يجدها من يخلص لله سبحانه وتعالى فيها. كذلك قوله: ويصلح في عمله أي: لنفرض أننا متنا ودفنا ثم سألنا الكرة إلى الدنيا فرجعنا فأخذنا فرصة جديدة، مع أنه في الواقع لا يحصل هذا أبداً، لكن افترض ذلك واعتبر أنك الآن قد مت ودفنت وقامت القيامة وأدخلت النار ثم سألت الله سبحانه وتعالى الكرة: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} [المؤمنون:107] فافترض أن الله سبحانه وتعالى قال: قد فعلت وأذن لك بالعودة من جديد إلى الدنيا لتأخذ فرصة جديدة، هكذا ينبغي أن يعالج الإنسان مرض الفتور والتواني عن العبادة بأن يفترض هذا الافتراض، إن الموت هو الفيصل بين هذه الدار وبين دار القرار، وهو الحد الفاصل بين دار الامتحان وبين دار ظهور النتائج، فليس لأحد بعده من مستعتب ولا اعتذار، ولا يمكن الزيادة في الحسنات ولا النقص من السيئات، ولا حيلة ولا درهم ولا دينار، قال الله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} [المؤمنون:99 - 100] يعني: إن هؤلاء لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون، وإنما هي كلمة هو قائلها مثل قوله تعالى: {لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [السجدة:13]. ومن يغادر الدنيا وتوافيه الآخرة فلا سبيل إلى رجوعه مرة ثانية، قال الله: {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:100]. قوله: (بَرْزَخٌ) هي فترة التواجد في القبر إلى يوم البعث والنشور. وقال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المنافقون:9 - 11]. فعلى أحد التفسيرات فمعنى قوله تعالى: (لَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا) أي: أن أجل الله لا يؤخر. وقال عز وجل: {وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ} [الشورى:44] فهم يسألون الرجعة عند الاحتضار، وكذلك يسألونها إذا وقفوا على النار، قال جل وعلا: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنعام:27]. وكذا يتمنون الرجعة إذا عرضوا على ربهم تبارك وتعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ} [السجدة:12]. وكذا يتكرر سؤالهم الرجعة وهم في غمرات الجحيم، كما قال تعالى: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [فاطر:37]. وعن سبحانه وتعالى: {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ} [غافر:11]. وقال قتادة في قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا} [المؤمنون:99 - 100] قال: كان العلاء بن زياد يقول: لينزل أحدكم نفسه أنه قد حضره الموت، فاستقال ربه فأقاله، فليعمل بطاعة ربه تعالى. وقال قتادة: والله ما تمنى إلا أن يرجع فيعمل بطاعة الله، فانظروا أمنية الكافر المفرط فاعملوا بها. من أجل ذلك أوصانا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك) يعني: اغتنم كل واحدة من هذه الخمس قبل أن تخلفها الثانية ولا تعود الأولى. قوله: (شبابك قبل هرمك) لأن الإنسان إذا دخل في حد الشيخوخة فلا سبيل إلى استرداد الشباب، يقول الشاعر: ألا ليت الشباب يعود يوماً فأخبره بما صنع المشيب فالشباب إذا ولى لا يعود، والشباب هو فترة العمل، وفترة الإنتاج والبناء، وفترة القوة بين الضعفين: ضعف الطفولة، وضعف الشيخوخة، وفترة مجاهدة النفس، وفترة الاجتهاد في العبادة وتحصيل الأعمال الصالحة ونحو ذلك. والشباب ضيف سريع الزوال كما قال الشاعر: ما قلت للشباب في كنف اللـ ـه وحفظه غداة استقل زائر لم يزل مقيماً حتى سود الصحف بالذنوب وولى وقال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: ما رأيت الشباب إلا كشيء كان في كمي فسقط. يعني: ما شعر به لسرعان انقضاء الشباب، فالإنسان لا يغتر بشبابه، ولا ينصت إلى تلبيس الشيطان ورفقاء السوء عندما يقولون له: استمتع بشبابك ثم تب بعد ذلك، واغتنمه في اللهو والضياع؛ وهذا من تلبيس إبليس، ومن اغتنم شبابه في طاعة الله كان من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، كما جاء في الحديث: (وشاب نشأ في عبادة الله تبارك وتعالى). قوله: (وصحتك قبل سقمك)؛ لأن الصحة أيضاً لا تدوم، حتى وإن سلم الإنسان من الآفات في فترات العمر الأولى ففي الغالب هناك الأمراض التي تهجم عليه في فترة الشيخوخة، ولنفرض أن الزرع سلم في مرحلة البذر، وفي مرحلة النمو، وفي مرحلة كذا وكذا وكذا إلى أن استوفى نموه، فنهاية الزرع الحصاد. فأنت -أيها الإنسان- حتى لو سلمت من الآفات كلها فأنت عند تمام الزرع محصود بالموت. قوله: (وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك) إذ هي أيام وأحوال، فمن فاته العمل والتأهب والاستعداد والاستكثار من الزاد في الشباب وفي الصحة والغناء والفراغ والحياة، فإنه لن يدركها عند مجيء أضدادها، ولا ينفعه تمني الأعمال بعد التفريط منه والإهمال في زمن الفرصة والإمهال، ومن فرط في العمل في زمن الحياة لم يدركه بعد حيلولة الممات، فعند ذلك يتمنى الرجوع وقد فات، ويطلب الكرة وهيهات، وتعظم حسراته حين لا مدفع للحسرات، وحيل بينهم وبينما ما يشتهون من الرجعة والتوبة والإخبات. قال تعالى: {اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ * فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ} [الشورى:47 - 48].

الصلاة نجاة من عذاب الله تبارك وتعالى

الصلاة نجاة من عذاب الله تبارك وتعالى إن من خصائص الصلاة وفضائلها أنها نجاة من عذاب الله تبارك وتعالى، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تحترقون تحترقون) -يعني: تقعون في الهلاك بسبب الذنوب الكثيرة التي ترتكبونها- فإذا صليتم الصبح غسلتها، ثم تحترقون تحترقون فإذا صليتم الظهر غسلتها، ثم تحترقون تحترقون فإذا صليتم العصر غسلتها، ثم تحترقون تحترقون فإذا صليتم المغرب غسلتها، ثم تحترقون تحترقون فإذا صليتم العشاء غسلتها، ثم تنامون فلا يكتب عليكم شيء حتى تستيقظوا) وهذا حديث حسن. قوله: (ثم تنامون) يعني: وقد كفرت الصلوات الخمس ما بينها من الذنوب، فلا يكتب عليكم شيء حتى تستيقظوا؛ لأن الإنسان الذي يفعل المعاصي باستمرار ظالم، ونوم الظالم عبادة كما يقولون؛ لأنه يكف شره عن نفسه أو عن غيره، فهذا المعنى نفهمه من قوله: (ثم تنامون فلا يكتب عليكم شيء حتى تستيقظوا). وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن لله ملكاً ينادي عند كل صلاة: يا بني آدم! قوموا إلى نيرانكم التي أوقدتموها فأطفئوها). قوله: (قوموا إلى نيرانكم التي أوقدتموها) أي: بالذنوب. وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه موقوفاً: (ألا إن الله يضحك إلى رجلين: رجل قام في ليلة باردة من فراشه ولحافه ودثاره فتوضأ، ثم قام إلى الصلاة، فيقول الله عز وجل لملائكته: ما حمل عبدي هذا على ما صنع؟ فيقولون: ربنا! رجاء ما عندك وشفقة مما عندك -يعني: رجاء ما عندك من الثواب، وشفقة مما عندك من العذاب- فيقول: فإني قد أعطيته ما رجاه، وأمنته مما يخاف). وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (رأيت في المنام أنه جاءني ملكان في يد كل واحد منهما مقمعة من حديد، ثم لقيني ملك في يده مقمعة من حديد، قالوا: لم ترع -يعني: اطمئن لا تخف-، نعم الرجل أنت لو كنت تتقن الصلاة من الليل، فانطلقوا بي حتى وقفوا بي على شفير جهنم) إلى آخر الحديث، وهو متفق عليه. وفي آخر الحديث: (فما ترك عبد الله بن عمر بعد ذلك قيام الليل أبداً)، فاستفاد رضي الله عنه من هذا الحديث؛ لأنه علم من هذه الرؤية أن الصلاة بالليل منجاة من العذاب. ويروى عن عبد الرحمن بن سمرة بن حبيب رضي الله عنه قال: (خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً وكنا في صفة بالمدينة فقام علينا، وقال: إني رأيت البارحة عجباً -إلى أن قال-: ورأيت رجلاً من أمتي احتوشته ملائكة العذاب -أي: أحاطت به- فجاءته صلاته فاستنقذته من أيديهم). وقد ضمن الله عز وجل النجاة من النار لمن حافظ على صلاتي الفجر والعصر، فعن عمارة بن رويبة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لن يلج النار أحد صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها) يعني: صلاة الصبح وصلاة العصر. وورد في الحديث: (من صلى البردين دخل الجنة). حتى أهل المعاصي وأهل الفساد الذين كانوا لا يتركون الصلاة مع مقارفة المعاصي تنفعهم صلاتهم، فالإنسان في حالة المعصية لا يغفل عن ذكر الله؛ لأن المعصية مع ذكر أفضل من معصية مع غفلة، وعسى الذكر أن يوقظ قلبه من سباته وغفلته. فالإنسان لا يقنط من روح الله؛ لأن بعض الناس يريد أن يستغفر أو يدعو الله سبحانه وتعالى أو يسأله من رحمته فيقول: وأنى يستجيب الله لي وأنا أفعل كذا وكذا من المعاصي والتقصير؟! لا، هذا من تلبيس الشيطان، لكن على الإنسان دائماً أن يكون عنده أمل في رحمة الله تبارك وتعالى، وطمع في عفوه عز وجل، ويطرق باب التقرب إلى الله سبحانه وتعالى. عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا فرغ الله من القضاء بين العباد، وأراد أن يخرج من النار من أراد أن يرحم، ممن كان شهد أن لا إله إلا الله؛ أمر الله أن يخرجوهم) يعني: يأمر الله الملائكة أن تخرج من النار من قال: لا إله إلا الله بشروطها، فالملائكة تعرف هؤلاء المذنبين الذين ماتوا مصرين على الكبائر ولم يتوبوا منها، أما لو تابوا توبة صحيحة فتقبل توبتهم، فمن لم يتب فهم تحت المشيئة إن شاء الله عذبهم وإن شاء غفر لهم، فهناك فئة من الموحدين سيدخلون النار ويعذبون، وهم الذين كانوا يفعلون كثيراً من الذنوب والمعاصي والكبائر الموبقات والمهلكات، لكن الله سبحانه وتعالى يأمر الملائكة أن تخرجهم من النار، فالملائكة تتعرف على هؤلاء بعلامة السجود في وجوههم، فيميزونهم عن غيرهم بعلامة السجود فيخرجونهم من النار، فهؤلاء كانوا يرتكبون المعاصي وأصروا عليها حتى ماتوا، لكن ما كانوا يقصرون أبداً في الصلاة. إذاً: العاصي حثه أن يصلي، ولا تقل له: لا تنفعك صلاتك؛ لأنك تفعل كذا وكذا، لا بالعكس، عليك أن تحثه على الصلاة حتى ولو كان مقصراً؛ لأن الصلاة مع المعاصي سوف تنفعه، إما في الدنيا بأن تنهاه عن الفحشاء والمنكر كما في حديث الرجل الذي كان يسرق، فقال عنه النبي عليه الصلاة والسلام: (أما إن صلاته ستنهاه) أي: ستنهاه عن هذا المنكر، وإما أنها ستنفعه في الآخرة بهذه الحيثية التي ذكرت في الحديث: (أمر الله أن يخرجوهم فيعرفونهم بعلامة آثار السجود، وحرم الله على النار أن تأكل من بني آدم أثر السجود). فانظر أثر السجود كيف أنه حبيب إلى الله سبحانه وتعالى، حتى إنه ليعذب جسمه ما عدا الموضع الذي كان يسجد عليه، وليس هذا معناه: أن يجتهد الإنسان في العبادة حتى يكون له علامة الصلاة في الجبهة، لا، بل علامة الصلاة كما في قوله تعالى: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح:29] هي الخشوع والتواضع والمسكنة، وإلا فإن هذه العلامة المعروفة -كما قال بعض السلف- قد تكون بين عيني من هو أقسى قلباً من فرعون، يعني قد تكون لإنسان منافق، لكن المقصود موضع السجود. ثم يقول: (فيعرفونهم بعلامة آثار السجود، وحرم الله على النار أن تأكل من بني آدم أثر السجود، فيخرجونهم قد امتحشوا) يعني: تفحموا واحترقوا من العذاب والعياذ بالله! ثم يقول: (فيصب عليهم من ماء يقال له: ماء الحياة، فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل)، وهذا الحديث متفق عليه. فالصلاة تشفع لصاحبها وتحفظه كما قال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ} [البقرة:110] وأهم الخير ما ذكر في سطر الآية، إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة. قوله: (وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ) يعني: أن العبادة تنفعك أنت أما الله فغني عنك وعن العالمين، فصلاتكم لا تنفعه ولا تفيده شيئاً وإنما هي لأنفسكم. وقال صلى الله عليه وسلم: (من حافظ على أربع ركعات قبل الظهر وأربع بعدها حرم على النار).

الصلاة رافعة للدرجات في الجنة

الصلاة رافعة للدرجات في الجنة إن من فضائل الصلاة أنها رافعة الدرجات، ولا تقتصر على إدخال المؤمن إلى الجنة، لكنها تكون سبباً في رفع درجاته حتى بعد دخوله الجنة، وذلك برفع درجاته، يقول الله سبحانه وتعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء:79] فأعطي صلى الله عليه وسلم بصلاة الليل المقام المحمود، ونال أشرف المنازل. وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (حدثني بعمل يدخلني الجنة، قال: بخ بخ! لقد سألت عن أمر عظيم وهو يسير لمن يسره الله له، تقيم الصلاة المكتوبة، وتؤتي الزكاة المفروضة، ولا تشرك بالله شيئاً). وعن كعب بن عجرة رضي الله عنه قال: (خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن سبعة نفر، أربعة من موالينا وثلاثة من عربنا، مسندي ظهورنا إلى مسجده، فقال: ما أجلسكم؟ قلنا: جلسنا ننتظر الصلاة، قال: فأرم قليلاً -يعني: سكت قليلاً صلى الله عليه وسلم- ثم أقبل علينا فقال: هل تدرون ما يقول ربكم؟ فقلنا: لا، قال: فإن ربكم يقول: من صلى الصلاة لوقتها وحافظ عليها ولم يضيعها استخفافاً بحقها فله علي عهد أن أدخله الجنة، ومن لم يصلها لوقتها ولم يحافظ عليها وضيعها استخفافاً بحقها فلا عهد له علي، إن شئت عذبته وإن شئت غفرت له). وعن عمرو بن مرة الجهني رضي الله عنه قال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! أرأيت إن شهدت أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، وصليت الصلوات الخمس، وأديت الزكاة، وصمت رمضان وقمته، فممن أنا؟ قال صلى الله عليه وسلم: من الصديقين والشهداء). وعن ربيعة بن كعب قال: (كنت أبيت مع رسول الله صلى عليه وسلم فأتيته بوضوئه وحاجته، فقال لي: سلني -يعني: يريد النبي صلى الله عليه وسلم أن يكافئه كما أحسن إليه- فقال: أسألك مرافقتك في الجنة -يعني: أسألك أن تدعو الله لي أن يجعلني رفيقاً لك في الجنة- قال: أو غير ذلك؟! -يعني: اطلب حاجة أسهل- قلت: هو ذاك -يعني: ليس عندي أمنية أو طموح أقل من هذا- قال: فأعني على نفسك بكثرة السجود) يعني: أن دعوة الرسول عليه الصلاة والسلام لابد معها من عمل صالح، {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:10] يعني: لا تقتصر على دعائي فقط، لكن أعني على إنجاز هذا الطموح وهذا الأمل بكثرة السجود، وهذا الحديث رواه مسلم. وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (في الجنة غرفة يرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها، فقال أبو مالك الأشعري: لمن هي يا رسول الله؟ قال: لمن أطاب الكلام، وأطعم الطعام، وبات قائماً والناس نيام). وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من أحد يتوضأ فيحسن الوضوء ويصلي ركعتين، يقبل بقلبه ووجهه عليهما إلا وجبت له الجنة) رواه مسلم. وهاتان الركعتان سنة الوضوء. وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صلى البردين دخل الجنة) متفق عليه. والبردان: الصبح، والعصر، وسميا بذلك؛ لأنهما يصليان في طرفي النهار حيث يطيب الهواء، وتذهب ثورة الحر. وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صلاة في إثر صلاة لا لغو بينهما كتاب في عليين) أي: لو استطعت أن تحفظ لسانك من الصلاة إلى الصلاة التي تليها عن اللغو يكتب لك كتاب في عليين. وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: (كان رجلان أخوين، فهلك أحدهما قبل صاحبه بأربعين ليلة، فذكرت فضيلة الأول منهما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألم يكن الآخر مسلماً؟ قالوا: بلى وكان لا بأس به، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما يدريكم ما بلغت به صلاته؟). قوله: (وما يدريكم ما بلغت به صلاته؟) يعني: أن الصلاة رفعت مقامه أراد أن يلفت نظرهم إلى أن الثاني قد عاش بعد الأول فترة من الزمان وأقام الصلاة فيها، ونال ثواباً بسبب امتداد عمره، لعله يربو على ثواب هذا الذي مات أولاً. وقال صلى الله عليه وسلم: (إنما مثل الصلاة كمثل نهر عذب غمر بباب أحدكم يقتحم فيه كل يوم خمس مرات، فما ترون ذلك يبقى من درنه؟!) يعني: أن الصلاة طهرته. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (كان رجلان من بلي من قضاعة أسلما مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستشهد أحدهما وأُخر الآخر سنة، فقال طلحة بن عبيد الله: فرأيت المؤخر منهما أدخل الجنة قبل الشهيد، فتعجبت لذلك! فأصبحت فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أليس قد صام بعده رمضان، وصلى ستة آلاف ركعة صلاة سنة؟). وفي زيادة صحيحة لـ ابن حبان: (بينهما أبعد مما بين السماوات والأرض) أي: بينهما في الفضيلة والمنزلة بالعمل الصالح الذي عمله بعد موت صاحبه. وعن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ بلال: يا بلال! حدثني بأرجى عمل عملته في الإسلام؛ فإني سمعت دف نعليك بين يدي في الجنة، قال: ما عملت عملاً أرجى عندي غير أني لم أتطهر طهوراً في ساعة من ليل أو نهار إلا صليت بذلك الطهور ما كتب لي أن أصلي) رواه البخاري. يعني: كان يتنفل عقب كل غسل أو وضوء تنفلاً مطلقاً، قوله: (ما كتب لي) يعني: ما استطعت؛ لأنه كان يكثر من نوافل الصلاة المطلقة؛ لأن النوافل المقيدة لا يزيد الإنسان فيها، مثل: ركعتي الفجر، وسنة المغرب ركعتين بعدية، وسنة العشاء ركعتين بعدية، وسنة الظهر أربع ركعات قبلها وركعتين بعدها، فهذه النوافل مقيدة بعدد، لكن إذا أراد الإنسان في أي وقت خارج أوقات الكراهة أن يزيد ما شاء في الصلاة فله أن يصلي ما شاء. وهذا هو المقصود بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (الصلاة خير موضوع فمن استطاع أن يستكثر فليستكثر)، يعني: من الصلوات المشروعة، لا أن يبتدع صلاة من عنده، وإنما يستكثر من النوافل المطلقة التي لم تقيد بعدد. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟! قالوا: بلى يا رسول الله! قال: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط) رواه مسلم وغيره. قوله: (إسباغ الوضوء على المكاره) تقول: ثوب سابغ إذا كان يغطي البدن، فإسباغ الوضوء يعني: أنك تبلغ الماء إلى أعضاء الوضوء ولا تقصر في ذلك، رغم أنك تتألم من الماء في شدة البرد، فهذه هي المكاره؛ لأن المشقة فيه أكثر، والأجر على قدر النصب والمشقة، بخلاف الماء البارد في شدة الحر، فإن الإنسان يستمتع بذلك؛ لأنه يلطف من شدة الحر. إذاً: معنى إسباغ الوضوء على المكاره: أن يوصل الماء إلى مواضع الوضوء بحدودها الشرعية، رغم الألم الذي يجده بسبب شدة البرد. قوله: (وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة) يعني: يمكث في المسجد بعد الفراغ من الصلاة، وينتظر الصلاة التي تليها؛ حماية لنفسه من شر الفتن، وحماية للناس من شر نفسه، ويجلس في المسجد يذكر الله تعالى. قوله: (فذلكم الرباط، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط) شبهه بالرباط في الجهاد وحراسة الثغور من الأعداء، فكذلك هو يجلس في المسجد يرابط؛ ليحمي نفسه من الفتن، ويحمي الآخرين من شره. وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من غدا إلى المسجد أو راح أعد الله له في الجنة نزلاً كلما غدا أو راح) متفق عليه. النزل هو ما يعد للضيف من طعام ونحوه من الإكرام، يقول عز وجل: {نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت:32]. وعن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء:105] قال: (أرض الجنة يرثها الذين يصلون الصلوات الخمس في الجماعات). قوله تعالى: {إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ} [الأنبياء:106] أي: بشارة لقوم عابدين، وهم الذين يصلون الصلوات في الجماعات، ولذلك قال بعض السلف: (من صلى الصلوات الخمس في جماعة فقد ملأ البر والبحر عبادة).

الصلاة سبب لرؤية الله عز وجل في الجنة

الصلاة سبب لرؤية الله عز وجل في الجنة إن من فضائل الصلاة أن الصلاة تؤهل من يقيمونها لرؤية الله تبارك وتعالى في الجنة، فلا شك أن رؤية أهل الجنة ربهم تبارك وتعالى هي الغاية العظمى، التي شمر إليها المشمرون، وتنافس فيها المتنافسون، وتسابق إليها المتسابقون، ولمثلها فليعمل العاملون، إذا نالها أهل الجنة نسوا ما هم فيه من النعيم. وحرمانها والحجاب عنها لأهل الجحيم أشد عليهم من عذاب الجحيم، فأهل الجنة على رغم ما هم فيه من النعيم المقيم الذي لم تسمع به أذن، ولم تقع عليه عين، ولم يخطر على قلب بشر، ومع ذلك إذا كشف الله سبحانه وتعالى الحجب وتجلى لأهل الجنة، ورأوا وجهه الكريم؛ نسوا وتلهوا عن كل ما في الجنة من نعيم؛ لأن هذه هي النعمة العظمى، يقول عز وجل: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26]، والزيادة هي النظر إلى وجه الله الكريم. إذاً: أهل الجنة إذا رأوا ربهم نسوا ما هم فيه من النعيم، أما الحرمان من هذا النعيم -الذي هو رؤية الله في الآخرة- فهو أشد على أصحاب الجحيم من عذاب الجحيم نفسه، ولذلك قال تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15]، وهذا أشد عذاب يقع على أهل النار. وعن الحسن رحمه الله تعالى قال: لو علم العابدون أنهم لا يرون ربهم يوم القيامة لماتوا، يعني: من الحزن؛ لكن لأنهم يعبدون الله على أمل أن يتشرفوا برؤية الله تبارك وتعالى، فهذا يحدوهم إلى السعي إلى مرضاته وطاعته، أما إذا علموا أنهم لن يروا ربهم يوم القيامة لماتوا من الغم والحسرة. وفي رواية عنه: لو علم العابدون أنهم لا يرون ربهم يوم القيامة لذابت أنفسهم. وعن نافع -وكان من عباد الجزيرة- أنه كان يقول: ليت ربي جعل ثوابي من عملي نظرة مني إليه، ثم يقول لي: يا نافع! كن تراباً. انظر إلى شدة الشوق إلى رؤية الله تبارك وتعالى في الجنة! يعني: كل العمل الصالح الذي عملته في كل عمري، يجعل ثوابي فقط أن أنظر إليه نظرة واحدة مني إليه، ثم يقول لي بعد ذلك: يا نافع! كن تراباً.

الصلاة تطهر القلوب وتزكي النفوس والوجدان

الصلاة تطهر القلوب وتزكي النفوس والوجدان إن المحافظة على الصلاة بقالبها وروحها والإكثار من النوافل لها تأثير لا يعرف لغيرها في صفاء القلب وزكاء النفس وطهارة الوجدان، وسمو الروح، والاتصال بعالم القدس. فالصلاة تؤهل النفس لتلقي التجليات الأخروية، واستقبال النفحات الإلهية، لاسيما رؤية الله تعالى في الآخرة، وقد ربط صلى الله عليه وسلم بين رؤية الرب تبارك وتعالى وبين الصلاة، فعن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: (كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فنظر إلى القمر ليلة البدر فقال: إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر، لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الفجر وقبل غروبها فافعلوا، ثم قرأ: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} [ق:39]). متفق عليه. قوله صلى الله عليه وسلم: (إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر) المشبه رؤية الله في الآخرة، والمشبه به رؤية القمر في ليلة صافية لا سحاب فيها، ووجه الشبه الصفاء والوضوح. قوله: (لا تضامون في رؤيته) يعني: إما لا يصيب أحد منكم الضيم وهو الظلم، بحيث لا يحرم من الرؤية، بل كل المؤمنين سيستوون في هذه الرؤية؛ لأنها واضحة مثل رؤية القمر في السماء دون سحاب ليلة البدر، فهو في غاية الوضوح، المعنى: لا ينضم بعضكم إلى بعض حتى يؤيد ما يشهده وما يراه بشهادة غيره له، فعلى كلا المعنيين فهنا تشبيه الرؤية بالرؤية، يعني: شبهت رؤية المؤمنين ربهم برؤيتهم القمر في الدنيا، وضرب لنا هذا المثل لأجل الوضوح، فمن ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنكم سترون ربكم). إذاً: من أراد أن يحظى برؤية الله في الآخرة فليحافظ على الصلاة لقوله: (فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا، ثم قرأ {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} [ق:39]). وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن في الجنة لسوقاً يأتونها كل جمعة، فتهب ريح الشمال فتحثو في وجوههم وثيابهم فيزدادون حسناً وجمالاً، فيرجعون إلى أهليهم وقد ازدادوا حسناً وجمالاً، فيقول لهم أهلوهم: والله لقد ازددتم بعدنا حسناً وجمالاً، فيقولون: وأنتم والله لقد ازددتم بعدنا حسناً وجمالاً) رواه مسلم. الشاهد هنا: أن هذا يحدث في يوم الجمعة، فهم يجتمعون في وقت صلاة الجمعة، ويوم الجمعة عند أهل الجنة اسمه: يوم المزيد، وقد روي في بعض الأحاديث: (أن الله سبحانه وتعالى يتجلى لهم في يوم المزيد ويحاضر كل منهم محاضرة). نكتفي بهذا القدر، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

لماذا نصلي؟ [8]

لماذا نصلي؟ [8] لقد كانت الصلاة سبباً في إسلام وهداية كثير من الناس، فما أن يرى بعض اليهود أو النصارى أو غيرهم مشهداً من مشاهد الصلاة إلا ويتأثرون بذلك المشهد، وهناك نماذج كثيرة على ذلك، فقد أشهر بعضهم إسلامهم لما رأوا منظر الصلاة، وعرفوا معانيها، وهذا مما يبين ما لهذه الصلاة من الفضائل والخصائص والمزايا.

الصلاة مفتاح هداية للمؤمنين وغيرهم من الملل الأخرى

الصلاة مفتاح هداية للمؤمنين وغيرهم من الملل الأخرى إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل على محمد النبي وأزواجه أمهات المؤمنين وذريته وأهل بيته كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. تكلمنا من قبل عن فضائل وخصائص الصلاة، وذكرنا أن الصلاة أعظم الأركان بعد الشهادتين، وأنها أهم أمور الدين، وأنها توءم الفرائض والأركان، وأنها أم العبادات، وأنها أمر الله تبارك وتعالى، وأنها الوصية الأخيرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنها مرآة عمل المسلم وميزان تعظيم الدين في قلب المؤمن، وأنها دعامة جميع الشرائع السماوية، وأنها شعار دار الإسلام، وأنها الإيمان، وأنها براءة من النفاق، وأنها سبيل المؤمنين وشعار حزب الله المفلحين، وأوليائه المرحومين، وأنها القاسم المشترك بين عبودية الكائنات، وأنها خير موضوع، وأنها زلفى وقربى إلى الله عز وجل، وأنها مدرسة الأخلاق، وأنها راحة وسعادة وقرة عين، وأنها نور وبرهان ووضاءة، وأنها من سنن الهدى، وأنها منحة ربانية، وأنها شكر لنعم الله تبارك وتعالى، وأنها إغاظة للكافرين، ومراغمة لأعداء الدين، وأنها تحرير للبشرية، وأنها ناهية عن المنكرات وعاصمة من الشهوات، وأنها كفارة للسيئات وماحية للخطيئات، وأنها ملجأ المؤمن في الكربات، وأنها حفظ وحماية، وأنها مجلبة للرزق، وأنها أول الإسلام وآخره، وأول ما نحاسب عليه يوم القيامة، وأنها سبب النصر والتمكين والفلاح في الدارين، وأنها نجاة من عذاب القبر، وأنها أمنية الأموات والمعذبين، وأنها نجاة من عذاب الله تعالى، وأنها رافعة للدرجات، وأنها تؤهل مقيمها لرؤية الله تعالى في الآخرة. ومن فضائل الصلاة وخصائص الصلاة أنها مفتاح هداية، فمن فضائل الصلاة أنها كانت مفتاح هداية لكثير من الكافرين، فمنظر المسلمين وهم يؤدون الصلاة، كان هو الخيط الأول الذي قاد كثيراً من الكافرين إلى اعتناق الإسلام، فالكافر يحس أكثر بما هو محروم منه، فبالتالي ينبهر بهذا الشيء الذي هو محروم منه، فإذا اطلع على التوحيد في الإسلام فإنه يقارن بينه وبينما هو عليه من الشرك، وإذا رأى الصلاة ونظامها الدقيق العجيب من حيث عددها وهيئتها ومواقيتها، وقارن بين صلاة بعض الملل التي ليس فيها قيام ولا ركوع ولا سجود، ولا أوقات ولا طهارة ولا استقبال قبلة؛ حينها يدرك قيمة هذه النعمة العظمى التي هي نعمة الصلاة؛ فالإنسان دائماً يتطلع ويتأثر بما هو محروم منه، وهذا نلاحظه أيضاً في شيء مهم جداً وهو تأثر بعض الكافرين ممن يعيشون في المجتمعات الإسلامية بشهر رمضان، واحتفاء المسلمين بشهر رمضان، وكيف يكون أثر شهر رمضان المعظم على كل دولاب الحياة، فيعاد تنظيمه من جديد في سويعات معدودات؛ لتكون حياة غير الحياة ونظام غير النظام وسلوك غير السلوك! ونلاحظ أيضاً كيف أن غير المسلمين الذين يعيشون في مجتمعات المسلمين يشعرون بالحرمان الشديد من الصيام، بل إن منهم أحياناً من يضطر لأن يظهر أنه مسلم وصائم؛ من شدة الضغط الاجتماعي الذي تشكله هذه الظاهرة الطاغية على المجتمع، والتي تقود الناس أجمعين إلى هذا التعديل في نظم حياتهم، فهذه النقطة وهذه الفكرة هي التي يصورها لنا أناس من هؤلاء الذين كانوا كفاراً ثم دخلوا في الإسلام، وكان سبب دخولهم في الإسلام هو الإحساس بنعمة الصلاة، ومشهد المسلمين وهم يصلون.

نماذج من أقوال غير المسلمين المعبرة عن إعجابهم بالصلاة

نماذج من أقوال غير المسلمين المعبرة عن إعجابهم بالصلاة يقول أر تومس لون وهو لم يسلم، لكن كتاباته تنم عن إعجاب شديد جداً بالإسلام كما هو معلوم، يقول: إن دين المسلم يتمثل دائماً في مخيلته، وفي الصلوات اليومية، ويتجلى هذا الدين في طريقة نسكية خاشعة مؤثرة، لا تستطيع أن تترك العابد والمشاهد كليهما غير متأثرين. يعني: أن مشهد الصلاة يؤثر على المصلي وعلى من يراه، فإنه يتأثر بمنظره. ويتحدث توماس أرلون أيضاً في كتابه (العقيدة الإسلامية) عن تأثير العبادة، وبشكل خاص تأثير الصلاة في المسلمين وغيرهم فيقول: هذا الفرض المنظم من عبادة الله، هو من أعظم الأمارات المميزة للمسلمين عن غيرهم في حياتهم الدينية، فكثيراً ما لاحظ السائحون وغيرهم في بلاد المشرق ما لكيفية أدائه من التأثير في النفوس، وإليك ما قاله الأسقف لوفر بهذا الخصوص، وهو من كبار قساوستهم، يقول: لا يستطيع أحد يخالط المسلمين لأول مرة، إلا يدهش ويتأثر بمظهر عقيدتهم، فإنك حيثما كنت سواء أوجدت في شارع مطروق، أم في محطة سكة حديدية، أم في حقل، كان أكثر ما تألف عينك مشاهدته أن ترى رجلاً ليس عليه أدنى مسحة للرياء، ولا أقل شائبة من حب الظهور، يذر عمله الذي يشغله كائناً ما كان، وينطلق في سكون وتواضع لأداء صلاته في وقتها المحدد. ثم يقول: ولننتقل من صلاة الفرد إلى صلاة الجماعة فنقول: إنه لا يتأتى لأحد يرى ولو مرة في حياته، ما يقرب من خمسة عشر ألف مصل في ساحة المسجد الجامع بمدينة دلهي بالهند يوم الجمعة الأخيرة من شهر رمضان وكلهم مستغرقون في صلاتهم، وقد بدت عليهم أكبر شعائر التعظيم والخشية في كل حركة من حركاتهم. ثم يقول: إنه لا يتأتى لأحد يرى ذلك المشهد ألا يبلغ تأثره به أعماق قلبه، وألا يلحظ ببصره القوة التي تمتاز بها هذه الطريقة من العبادة عن غيرها. ثم يقول: كما أن توقيت الأذان اليومي للصلاة في أوقات معينة، حينما يرن به صوت المؤذن في أبكر البكور قبل الإفطار، وعند الظهيرة والناس مضطربون ومصطخبون في أعمالهم وعند المساء، هذا الأذان الذي يحصل في هذه الأوقات على تلك الصورة كل يوم مشحون هو الآخر بذلك الجلال عينه. فجمال الصلاة وروعة الصلاة لو أدركها أي إنسان عاقل، لانجذب إلى هذه الصلاة، فتباً لهؤلاء الذين يتثاقلون عن أداء الصلاة، سواء في جماعة أو في غير ذلك، لا يريد أن يصلي، وهو لا يعرف أنه يحرم نفسه من هذه المتعة التي لو كانت غير واجبة لتمناها كما تمناها هؤلاء الذين لم يدخلوا في دين الإسلام بمجرد أنهم رأوا ما ينعم به المسلمون في جنة الدنيا وقرة العين التي هي الصلاة. وقال رينان وهو فيلسوف فرنسي معروف: ما دخلت مسجداً قط دون أن تهزني عاطفة حارة. أو بعبارة أخرى: دون أن يصيبني أسف محقق على أنني لم أكن مسلماً.

نماذج ممن دخلوا في الإسلام بسبب الصلاة وغيرها

نماذج ممن دخلوا في الإسلام بسبب الصلاة وغيرها

إسلام يهودي إسكندراني عند حضوره لصلاة الجمعة

إسلام يهودي إسكندراني عند حضوره لصلاة الجمعة لقد كان مشهد الصلاة من الأسباب المساعدة على دخول رجل يهودي في الإسلام، وإسلام يهودي شيء نادر، أما النصارى فيسلم منهم كثير جداً، لكن يهودي يسلم فهذه محض هداية من الله سبحانه وتعالى؛ لأن اليهود معروفون بقسوة القلوب، وبعدهم عن أسباب الهداية. هذا الرجل اليهودي الإسكندراني من يهود الإسكندرية، يحكي عن نفسه فيقول: كنت مريضاً مرضاً شديداً، فتمثل لي في أثنائه أن هاتفاً يهيب بي أن أعلن إسلامي، ولما دخلت المسجد ورأيت المسلمين مصطفين للصلاة وقوفاً كالملائكة، سمعت في نفسي صوتاً يناديني ويقول: هذه هي الجماعة التي أنبأ بها الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. هو يعرف من التوراة أن الأنبياء أنبئوا أنه سوف تأتي أمة تراهم ركعاً سجداً، ويقفون في صفوف كالملائكة إلى آخره، فأخبر عن هذه الأمة المحمدية قبل أن توجد في الكتب السابقة. ثم قال: ولما رأيت الخطيب يتقدم للخطبة وعليه رداء أسود، وقع في نفسي وجدان الرهبة والخشية، ولما ختم خطبته بالآية الكريمة التي يقول الله تبارك وتعالى فيها: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:90]، وهذه الآية يقولها كثير من الخطباء في نهاية خطبة الجمعة، وسبب ذلك أن عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى لما كان بعض الخطباء من قبله يسبون علياً رضي الله عنه ويسبون بعض الصحابة، أراد أن يبطل عادة السب، واستبدلها بتذكير الناس بهذه الآية الكريمة في آخر الخطبة، والله تعالى أعلم. يقول: وأقيمت بعد ذلك الصلاة، فآنست من نفسي أنها سمت سمواً كبيراً، فقد بدت لي صفوف المسلمين كأنها صفوف الملائكة. هو لا يعرف قول النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها؟ يتمون الصف الأول فالأول، ويتراصون في الصف). رواه البخاري. ثم يقول: فقد بدت لي صفوف المسلمين كأنها صفوف الملائكة، وأن الله سبحانه قد تجلى عليهم في ركوعهم وسجودهم، وسمعت في نفسي منادياً يناديني بقوله: إن الله سبحانه إذا كان قد خاطب شعب إسرائيل مرتين في جميع القرون الخالية، فلا جرم أنه يخاطب هذه الجماعة -يعني: أمة المسلمين- في كل وقت من أوقات صلاتها، واقتنعت في نفسي بأني ما خلقت إلا لكي أكون مسلماً. وأي إنسان عاقل يتدبر صلاة المسلمين، سيعلم أنه لا يمكن أن يعبد الله سبحانه وتعالى بأكمل ولا أعظم من هذه الصورة التي يعبد بها ويعظم في الصلاة، فإذا نظرت إلى منظر المسلمين لاسيما بالمشهد (البانورامي) الذي يكون من الطائرة أو من أماكن عالية في الحرم المكي الشريف، ورأيت منظر المسلمين والتفافهم حول الكعبة المشرفة والخشوع والرهبة والهيبة والطواف حول الكعبة الذي لا ينقطع ليل نهار على الإطلاق، إلا في أثناء الصلوات المفروضة؛ لعلمت أنه لا يوجد مكان على وجه الأرض أبداً يعظم فيه الله كما يعظم في هذا المكان، ولا يمكن أن يعبد الله سبحانه وتعالى بأحسن مما يعبد في الصلاة. فالصلاة نعمة من الله سبحانه وتعالى، لكن المصيبة عندما تتحول هذه النعمة إلى عادة، فيحرم المرء من التلذذ بهذه النعمة؛ بسبب الإلف وطول مؤانسته لها، في حين المحروم منها هو الذي يحس بطيبتها، فنحن المسلمين أولى بأن نستشعر هذه النعمة وأن نقبل على الصلاة، حتى لو كانت الصلاة غير مفروضة، فنهرع إليها لما فيها من هذه الفضائل وهذه البركة. وهذا الرجل اليهودي لم يسلم إلا بسبب مشهد الصلاة، وحق له ذلك.

حرص يهودي أسلم على الصلاة

حرص يهودي أسلم على الصلاة أنا رأيت رجلاً مسلماً وكان يهودياً، اسمه الشيخ موسى رحمه الله تعالى، وكان مدير مطبعة أنصار السنة في المبنى القديم، وكان رجلاً كبير السن جداً، وكان شديد المحافظة على الصلاة بصورة غير عادية، ليس الفرائض فحسب، بل النوافل لا يمكن أن يصلي صلاة العشاء إلا ويصلي ركعتي السنة البعدية، ثم يأتي بإحدى عشرة ركعة في المسجد كل يوم قبل أن يخرج من المسجد؛ خشية أن يحرم من ثوابها! انظر إلى مدى حرصه على العبادة، فقد كان يهودياً يحرص على المال والآن انظر إلى حرصه وتمسكه الشديد بالصلاة، لا يمكن أن يضيع نافلة، لا يمكن أبداً أن يغادر المسجد بعد صلاة العشاء إلا وقد صلى إحدى عشرة ركعة في غاية الخشوع، وكان ذا لحية بيضاء كثيفة جداً، وكان معجباً جداً بشيخ الإسلام ابن تيمية وبكتبه، لاسيما كتابه (اقتضاء الصراط المستقيم في مخالفة أصحاب الجحيم)، وكان يقوم بتوزيع الكتب وطباعتها، وكان أصله سورياً، ولما أسلم هجره كل أهله وطردوه، فنزح إلى مصر، وآواه أنصار السنة جزاهم الله خيراً في القاهرة، وبعد ذلك اشتغل في مطبعة أنصار السنة المعروفة.

إسلام عميد اليهود في مصر بسبب الصلاة

إسلام عميد اليهود في مصر بسبب الصلاة محام شهير جداً اسمه زكي عريبي وكان عميداً لليهود في مصر، كان يتحرق شوقاً إلى الإسلام كلما رأى مسجداً، أو وقعت عيناه على رجل يصلي لله في خشوع، ويبتهل إليه في خضوع، وكان قلبه ينشرح حين يسمع كلمات الأذان تدعو الناس إلى عبادة الواحد الديان، وكان هناك سؤال يتردد في نفسه ويلح على عقله دائماً وهو: لماذا لا أعتنق الإسلام؟! كان هذا الخاطر يعلو صوته في داخله، ويهزه من أعماقه كلما رأى بين الحقول رجلاً متواضعاً من زارعي الأرض يقف بين يدي الله، مؤدياً صلاته في المصلى الصغير على شاطئ الترعة، فكان يود لو كان يصلي مثل صلاته، ويناجي مثل مناجاته، وقصته طويلة انتهت بإعلانه إسلامه وعمره خمسة وستون عاماً.

إسلام رجل ألماني بسبب منظر السجود

إسلام رجل ألماني بسبب منظر السجود رجل ألماني رأى مسلماً ساجداً فتعجب أشد العجب من هذه الحركة، وكان لأول مرة يرى منظر السجود لله سبحانه وتعالى في الصلاة، فالرجل انبهر ووقف مشدوهاً أمام هذا المشهد، فظل واقفاً منتظراً هذا المسلم إلى أن فرغ من صلاته، فلما انتهى تقدم إليه وسأله عن معنى هذه الحركات، وخاصة السجود، فبين له ذلك المسلم معنى الصلاة وحكمتها وآثارها، فأصيب وهو يستمع إلى الشرح بما يشبه الذهول الممزوج بالفرحة، وكأنه قد وقع على ما كان يبحث عنه منذ سنين، وسبب تعجبه أنه كان يعاني من مرض نفسي وضيق دائم، فإذا ألصق جبهته بالأرض يشعر بالراحة، ولا يعرف أن هذا هو السجود الخاص بالصلاة عند المسلمين، فكان كلما عاوده ذلك الضيق النفسي عاد لإلصاق جبهته بالأرض ليجد الراحة، حتى رأى ذلك المسلم، فعرف سر تلك الراحة التي كان يشعر بها، فاصطحبه ذلك المسلم إلى المركز الإسلامي في (ميونيخ) حيث قام المسئولون هناك بشرح الإسلام له، وأعلن على إثر ذلك شهادة التوحيد ودخل في الإسلام. ما الذي يجتذب الكافرين للإسلام؟ هذا موضوع شيق جداً، لأنه ينبه المسلمين إلى جمال الإسلام الذي هم في غفلة عنه، وهذا عنوان بحث كنت أود أن أفرغ منه من مدة، وسأحاول إن شاء الله أن أنهيه، عنوانه: ما الذي اجتذب غير المسلمين إلى الإسلام؟! جمعت فيه الأسباب التي تجذب غير المسلمين إلى الإسلام؛ حتى نستفيد منها في دعوتهم إلى الإسلام، وأهم سبب من هذه الأسباب هو عقيدة التوحيد في الإسلام، وانسجامها مع الفطرة، حيث إنها خالية من الوساطة بين العباد وبين الله سبحانه وتعالى، فالإسلام مثل البناء الرائع الجميل الضخم العظيم، إذا أتيته من أي النواحي انبهرت به.

إسلام عالم موسيقي بسبب سماعه آية من القرآن الكريم

إسلام عالم موسيقي بسبب سماعه آية من القرآن الكريم يقول الله عز وجل: {أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24] فالقلوب الكافرة عليها أقفال، لكن كل قفل له المفتاح الخاص به، وهل هناك مفتاح يفتح كل الأقفال؟! لا، وإلا كل واحد سيكون له مدخل عام، بل كل قلب له مفتاحه، فمن عجائب ما أذكره في الستينات أني سمعت عن عالم موسيقي متخصص في الموسيقى من لبنان أسلم لما سمع قوله تعالى: {وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان:19] فالرجل من شدة خبرته بالموسيقى وملامح الصوت النشاز يقول: لا يوجد أنشز من صوت الحمار وهو ينهق، فقال: هذا لا يمكن أن يقوله إلا خالق الأرض والسماوات، وخالق الأصوات سبحانه وتعالى.

إسلام شخص بسبب لذة طعام أحد المسلمين

إسلام شخص بسبب لذة طعام أحد المسلمين هناك شخص إنجليزي أسلم بسبب غريب، وهو أنه أكل عند أخ باكستاني دعاه للطعام، وأعجبه الطعام جداً، وتعلمون أن الهنود والباكستانيين أهم شيء في الطعام عندهم البهارات الرهيبة، التي من حرها وكثرتها لا يطيق أحد أن يقترب منها، وأنا أتعجب كيف يأكلونها! ولابد أنها تسبب لهم قرحة المعدة بكثرة، فالرجل أُعجب جداً بالأكل وبالبهارات التي على الطعام، وهذا كان المنطق الذي فكر به حيث قال: لا يمكن أن يهدي الله أناساً لمثل هذا المذاق من الطعام، إلا ويكون الدين الذي هم عليه هو دين الحق، فكان طريقه إلى الإسلام يمر من خلال معدته! ومثل هذا اتركه يدخل في الإسلام فإنه بعد ذلك سيجد الجمال الحقيقي للإسلام. وهناك من يدخل في الإسلام بدون أسباب حسية مثل الرجل اليهودي الذي أتاه هاتف يهتف به أن ادخل في دين الإسلام.

إسلام رجل بسبب رؤية المسيح في المنام

إسلام رجل بسبب رؤية المسيح في المنام في بريطانيا مقابر خاصة بالمسلمين، فزرتها في إحدى السنوات فأشار الإخوة الذين كانوا معي إلى قبر مسلم بريطاني، ووصفوه بصفة عجيبة جداً، حكوا لي قائلين: إن هذا الرجل إنجليزي، أتانا في المسجد وقال لنا: أريد أن أكون مسلماً، فرحبوا به، وذكر لهم سبب رغبته في الإسلام فقال: أتاني المسيح الليلة في المنام وقال لي: كن مسلماً، فالرجل بمنتهى السهولة أسلم، وعلموه الصلاة، وبعد ثلاثة أيام توفي -إن شاء الله- إلى رحمة الله! فهذا اصطفاء من الله سبحانه وتعالى.

إسلام جراح فرنسي بسبب الإعجاز العلمي في القرآن

إسلام جراح فرنسي بسبب الإعجاز العلمي في القرآن هذه قصة رجل دخل في الإسلام، وهذه القصة في غاية الروعة، وهي أنه كان من عائلة نصرانية متدينة جداً، وعانى جداً من الصراع في قضية الأديان، والتعارض بين كتب أهل الكتاب وبين الحقائق العلمية، حتى إنهم كانوا في وقت من الأوقات يسمونها الجغرافيا المسيحية، وعندما دونوا العلوم التي لا علاقة لها بالدين، رأى تصادم بين حقائق جغرافية وبين ما يفهمونه من كتبهم المحرفة. فانتهى به الأمر إلى أنه أجرى دراسة مفصلة غاية التفصيل، حيث جمع الآيات القرآنية التي لها تعلق بالحقائق العلمية، وعمل قائمة في كل موضع منها، ماذا يقول عنها التوراة؟! وماذا يقول عنها الإنجيل؟! وماذا يقول عنها القرآن الكريم؟ ووضع هذه الأشياء في قوائم وجداول مقارنة، فهو جراح فرنسي مشهور جداً، فأنفق وقتاً طويلاً في مدارسة هذه المقارنة، وانتهى في النهاية إلى حتمية أن القرآن كلام الله سبحانه وتعالى، وحتمية وقوع التحريف في التوراة والإنجيل. وجمعت هذه المقارنة في كتاب، والكتاب مشهور وطبع بلغات كثيرة في كل أنحاء العالم، وهو تحت عنوان: العلم والتوراة والإنجيل والقرآن، أو الحقائق العلمية في التوراة والإنجيل والقرآن وأتى بأدلة في غاية القوة. الطريف أنه عمل هذا البحث وكان أبوه وأمه متمسكين جداً بالنصرانية، وبسبب توجهه واقترابه إلى الإسلام قام أبوه وأمه بنشر إعلان في الجرائد في فرنسا وكتبا فيه: نريد لصاً محترفاً، وهذا شيء معتاد عندهم أن يعلنوا مثل هذا الإعلان، وكانا يعلمان أين يضع ولدهما أوراقه، فكلفا اللص أن يدخل البيت، ووضحا له كيف يدخل، حتى يحصل على المخطوطة التي فيها هذا الكتاب، فاللص تمكن من سرقة مخطوطة هذا الكتاب، لكن اللص قبل أن يسلمها لهما دفعه الفضول إلى أن ينظر في هذا الكتاب، فبعد أن قرأ اللص هذا الكتاب أسلم تأثراً بما في الكتاب، وشعر بقيمة الكتاب، فما كان من اللص إلا أن أعاد إليه الكتاب، ونشر المؤلف الكتاب بعد ذلك، وهو موجود في كل أنحاء الدنيا بعدة لغات، وهو كتاب قيم جدا، {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ} [المدثر:31].

قصة إسلام ابن الزعيم الهندي غاندي

قصة إسلام ابن الزعيم الهندي غاندي هناك قصص رائعة كثيرة، منها أن غاندي الزعيم الهندي الوثني المعروف عابد البقر، ابنه دخل في الإسلام، ووقعت ضجة كبيرة جداً في الهند؛ بسبب تأثر ابنه بالإسلام ودخوله في دين الله سبحانه وتعالى.

قصة إسلام الثري الهندوكي جابا بسبب مشهد الصلاة

قصة إسلام الثري الهندوكي جابا بسبب مشهد الصلاة هذا كوك هلال جابا ثري هندوكي صار بعد إسلامه خالد لطيف جابا السياسي والصحفي والمؤلف الهندي، يحكي عن الإشعاعات النورانية الأولى التي أشرقت في قلبه، مبيناً أن مصدرها كان مشهد الصلاة، يقول: كنت كلما مررت بأحد مساجد المسلمين في الهند أفعم قلبي بالإحساس بعظمة هذا المكان وقدسيته. وكنت أشعر دوماً أن المؤذن وهو ينادي إلى الصلاة كأنه يقصدني أنا بالذات في ندائه ذلك، وكأن هاتفاً من داخلي يجيبه قائلاً: هيا بنا إلى الصلاة، هيا بنا إلى الفلاح، وكان قلبي يريد الانضمام إلى جماعة المؤمنين في المسجد، وكان النداء والدافع قوياً إلى درجة أنني لم أتمالك نفسي من الدخول إلى المسجد، والوقوف في صف المسلمين، والحقيقة أنني لم أستطع مقاومة ذلك، وظللت أفعله فترة طويلة من الزمن، ثم أسلمت. يعني: قبل أن يسلم كان يجد نفسه منجذباً ويدخل إلى المسجد ويقف مع المسلمين في الصفوف.

علاقة العلم الحديث بالإسلام

علاقة العلم الحديث بالإسلام ننتقل إلى البحوث العلمية الحديثة، عندما يقوم أي شخص بتصميم آلة أو جهاز، فإنه يكون أخبر الناس بطريقة تشغيله، ولذلك دائماً يجعلون مع الأجهزة (كتلوج) يعرف ويبين طريقة استعماله وعلاماته، ويذكر فيه توصيات كأن يقول فيها: احذر التعامل معه بالطريقة الفلانية، وهذه أفضل طريقة للتعامل معه، إلى آخره، ولله المثل الأعلى، من الذي خلق هذا الإنسان؟ إنه الله سبحانه وتعالى كما قال تعالى: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14]. العلم في هذا العصر منحاز بكل قوة إلى الإسلام، وليس معارضاً له، بل العلم منحاز غاية الانحياز إلى دين الإسلام، ولم يعرف أي صدام بين حقيقة علمية وبين نصوص الوحي الشرعي؛ لأن الذي خلق حقائق الوجود هو الله سبحانه وتعالى، والذي أنزل القرآن هو الله، فلا يمكن أبداً أن تتعارض آية مع حقيقة علمية ثابتة، وقد يحصل التعارض مع نظرية خاطئة، لكن مع حقيقة علمية فهذا مستحيل، فالعلم يكشف لنا بين يوم وآخر عن عجائب خلق الله سبحانه وتعالى، وعجائب طبيعة هذا الإنسان الذي خلقه الله سبحانه وتعالى، ولا يمكن أن يسعد الإنسان إلا بأن يتبع -ولله المثل الأعلى- (الكتلوج) الذي هو القرآن الكريم، هذه هي الحقيقة. ولذلك الذي يريد السعادة من غير فلسفة ومن غير كلام كثير فليلتزم القرآن والسنة، هذا هو المختصر لطريق السعادة، انظر إلى الشرع وما طلبه منك فافعله والتزم أوامره تضمن السعادة، إن أردت التأكد والبحث والتسجيل سوف تجد أيضاً هذه الأدلة وهذه البراهين، ففيها المعجزات والآيات. وأنا أسمي العلم الحديث القائم اليوم بالجاهل؛ لأنهم جردوه من الهدف الذي خلق من أجله، والذي كشفت حقائق العلم من أجله؛ لأن كل حقائق العلم ما هي إلا رسائل من الله سبحانه وتعالى إلى الخلق. الآيات نوعان: آيات الله التنزيلية، وآيات الله التكوينية، الآيات التنزيلية هي التي تنزل عن طريق الوحي كالقرآن الكريم، والآيات التكوينية هي التي يبثها الله في صفحات هذا الوجود، يقول الشاعر: تأمل سطور الكائنات فإنها من الملأ الأعلى إليك رسائل وقد خط فيها لو تأملت خطها ألا كل شيء ما خلا الله باطل فلذلك قال الله تعالى: {نُورٌ عَلَى نُورٍ} [النور:35] أي: نور الفطرة مع نور الوحي، نور الآيات التكوينية يتطابق مع نور الآيات التنزيلية، فلو فقه الناس لما نظروا إلى العلوم الحديثة هذه على أنها علوم معزولة عن الدين أبداً؛ لأنها من صلب الدين، هذا الأمر بالذات يتميز في علوم أكثر من غيرها بوضوح، كعلوم الجينات مثلاً، فهذه تنحاز جداً لقضية القدر بالمفهوم الإسلامي؛ لأن الإنسان له شفرة موجودة في خريطة شاملة بصفاته الجسدية والنفسية والوراثية بكل أنواعها إلى آخره. فالشاهد أنهم عندما يخترعون شيئاً ما يجعلون له (كتلوج) أو شفرة حتى يتمكنوا من استعمال هذا الشيء المخترع. كذلك تجدهم يفخرون بفنان عظيم من فنانيهم أو ممن يمارس صناعة التماثيل المحرمة، فهذا مايكل أنجلو صنع تمثالاً يضاهي به خلق الله ثم رفسه بيديه وقال له: انطق! والعياذ بالله. كذلك هم ينبهرون بالفنان الذي يرسم لوحة جميلة جداً، فأنت كلما اقتربت أكثر من الصورة الطبيعية التي خلقها الله عليها ستجد الفرق كبيراً، والبون شاسعاً، وستجد أنهم استفادوا من مخلوقات الله سبحانه وتعالى، فهذا (الكمبيوتر) أخذوا فكرته من المخ والجهاز العصبي في الإنسان، وكذلك أخذوا فكرة الطيران من الطيور، نظروا كيف تطير، وكيف تركيب جسمها والأجنحة والذيل، فقلدوا ذلك فصنعوا الطائرة. الشاهد أن خلق الله سبحانه وتعالى أبدع من صنع المخلوق، وهذا لا شك فيه ولا ريب؛ ولهذا لما دخلوا في التهجين الوراثي أفسدوا الزروع والثمار، وأفسدوا الحيوانات وكل شيء. إذاً: العلم الحديث في غاية الانحياز إلى الإسلام، وكل العلوم الحديثة تجدها ليل نهار تقذف بالأدلة الجديدة الدالة على توحيد الله تبارك وتعالى، وتثبت أن دين الله هو الحق. كذلك الإعجاز العلمي فيه أشياء جميلة جداً، مثلاً يقولون: إن الذي يغزل نسيج العنكبوب هي الأنثى وليس الذكر، وهذه حقيقة علمية مكتشفة، فتأمل قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً} [العنكبوت:41]، فقال: (اتَّخَذَتْ) بتاء التأنيث. نقول: ما علاقة هذا الموضوع بالصلاة؟ هناك في الجسم عوامل اليقظة والإجهاد التي تنشط الجسم، مثل هرمون النشاط الذي اكتشف حديثاً، وهذه حقائق موجودة في كتب الطب، وقد كتبها كفار لا يعرفون ما علاقة هذه الاكتشافات بالوحي. هناك شخص عمل دراسة وخط رسوماً بيانية توضح عوامل النشاط، ومتى ترتفع ومتى تنخفض في أوقات معينة خلال اليوم. يقول: على مدار السنة ما بين الساعة الثالثة إلى الخامسة ترتفع عوامل النشاط ارتفاعاً ملحوظاً، وفي آخر الليل عند طلوع الفجر بالذات تهبط وتنخفض، ثم من الساعة السابعة صباحاً تبدأ في الارتفاع إلى ما قبل الظهر بثلث ساعة، ثم تبدأ تنخفض، ثم بعد الظهر ترتفع الهرمونات التي تساعد الإنسان على النشاط والعمل، وتظل في الارتفاع، وبعد العصر عند المغرب تنخفض. هذا الرجل يقول: في واضحة النهار من الساعة السابعة ترتفع هرمونات النشاط؛ لأن الناس يذهبون إلى أعمالهم، وفي الوقت الذي هو قبل الظهر تنخفض معدلات هرمونات النشاط، وكذلك عند الغروب، قال: وأنا مستغرب للجزئية الغريبة، ولم أجد لها تفسيراً، وهي ارتفاع نسبة هرمون النشاط ما بين الساعة الثالثة إلى الساعة الخامسة فجراً على مدار السنة، وهذه الفترة مرتبطة بوقت إعلان الفجر، فهو يقول: لا أعلم تفسيرها، ونحن نقول له: إن تفسيرها واضح، وهو أن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان وأوجد فيه هذه الهرمونات في جسمه وهي مهيئة له لأمر ما؛ وذلك لأنه خلق ليصلي. فالبحوث العلمية الحديثة أظهرت أن مواقيت الصلاة التي شرعها الله سبحانه وتعالى لنا، تتوافق زمانياً مع أوقات النشاط (الفسيولوجي) للجسم، مما يجعل القيام بها في استطاعة المسلم المكلف دون عناء أو مشقة، ولذلك التهجد فيه مشقة؛ لأن التهجد يكون في وقت النوم، وهرمونات النشاط في أدنى مستوياتها، فلذلك يجاهد الإنسان نفسه ليستيقظ ويصلي. ثم يقول: وهذا يجعل في استطاعة المسلم المكلف القيام بصلاة الفجر دون عناء أو مشقة، فإذا واظب المسلم على أدائها في أوقاتها، فهرمون (الكرسيدون) أو هرمون النشاط يبدأ في الازدياد بحدة مع دخول وقت صلاة الفجر، بينما ينخفض بدرجة ملحوظة أثناء الليل، ويتلازم منسوب ضغط الدم مع درجة إفراز (الكرسيدون)، حيث يبدأ ضغط الدم في الارتفاع إلى الحد (الفسيولوجي) المطلوب بدخول وقت صلاة الفجر، ويبدأ انخفاضه بعد الغروب، كما أن إفراز الكرسيدون يهبط إلى حده الأدنى بالنهار آخر وقت الضحى وحتى وقت الزوال، وهذا وقت القيلولة؛ لأن السنة أن ينام الإنسان القيلولة قبل وقت الظهر، وفي هذا الوقت يأتي وقت الاستواء الذي تكره فيه الصلاة. ثم يقول: وهنا يستطيع الجسم أن ينال قسطاً من النوم والراحة الذي هو نوم القيلولة؛ لكي يعينه على قيام الليل، وإلا احتاج إلى مجاهدة إذا أراد قيام الليل للانخفاض الشديد في منسوب (الكرسيدون) أثناء الليل، الأمر الذي لا يقوى عليه إلا أرباب العزائم، وذوو الهمة العالية، فمن ثم قال تعالى: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً} [المزمل:6]، ولهذا أيضاً كان قيام الليل من أفعال الأبرار الذين قال الله عنهم: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً} [السجدة:16].

قصة إسلام امرأة فلبينية

قصة إسلام امرأة فلبينية هذه أخت فلبينية اسمها جميلة لاما تقول: والغريب أنني كنت أستيقظ عند الفجر تحدوني رغبة قوية للصلاة، وكذلك كان يتملكني هذا الإحساس نفسه عند الغروب. تقول: وفعلاً أخذت أصلي على الطريقة النصرانية، وهي الطريقة الوحيدة التي كنت أعرفها حينئذ، إلا أن إحساسي بالفراغ الروحي ظل يسيطر على نفسي رغم هذه الصلاة، لقد شعرت أنني متعطشة لشيء لم تكن لدي أي صورة واضحة عنه، ففي كثير من الأحيان كانت الدموع تنهمر من عيني على وجهي عندما كنت أدعو الله أن يمنحني النور والصبر؛ لأن ما كنت أحس به وأكتشفه كان أكبر من طاقتي وقدرتي على الفهم والاستيعاب، وجاء وقت أحسست فيه بدافع قوي يحضني على الصلاة في مكان لا صور فيه أو تماثيل أو شيء من هذا، فسألت الناس عن المكان الذي يصلي فيه الناس وليس فيه صور؟ فقالوا: لا يوجد غير مسجد المسلمين. تقول: فقطعت عدة كيلو مترات عبر حقول الأرز بحثاً عن المسجد، وفي اليوم التالي شاركت المصلين صلاة الجمعة، تقول: إن نداء الأذان في الإسلام قد بدد الأساس الواهي لعقيدتي السابقة، وعندما بدأت صلاة الجمعة أحسست بالطمأنينة تغمرني، وهو إحساس نادر لم أشعر به من قبل، وعندما سجدت لله مع جميع المصلين فاضت روحي بسعادة لا حدود لها، فهذا هو ما كنت أتعطش له، لقد وجدت الإسلام برحمة من الله وبركاته، واعتنقته بمشيئة الله وإرادته.

قصة إسلام مهندس معماري أسترالي

قصة إسلام مهندس معماري أسترالي هذا مهندس معماري أسترالي يدعى نورمن وأصبح اسمه بعد إسلامه أحمد عبد الله نورماني يقول: كنت في فترة الحرب العالمية في الصحراء الغربية في ليبيا، ووجدت رجلاً يسوي الرمال بيده، ثم يمسح وجهه ويديه، ثم يقف في خشوع وينصرف عن كل ما حوله، فسألت: ماذا يفعل هذا الرجل؟! فقيل لي: إنه يصلي، وسألت عن دينه الذي يسلك به هذا المسلك البسيط بلا طقوس؟ فأخبروني أنه دين الإسلام، ومن هذه اللحظة التي كنت أكثر ما أكون في حاجة إلى ما يضيء نفسي ويريح خواطري، بدأت بدراسة الأديان -وفي مقدمتها الإسلام- فأسلمت.

قصة إسلام امرأة إنجليزية بسبب مشاهدتها صلاة أحد المسلمين

قصة إسلام امرأة إنجليزية بسبب مشاهدتها صلاة أحد المسلمين هذه مارغريت فيلب إنجليزية كانت تعيش مع زوجها الهولندي التقت بأسرة مسلمة، فسألت عن الإسلام وتعاليمه وتلقت إجابات كثيرة، تقول: ذات يوم وقفت أمام منظر لا يمكن لي نسيانه إلى الأبد، لقد كنا في حقل القرية، وجاء رجل هولندي مسلم، وجلسوا يشربون الشاي، وفجأة وجدت الرجل ينظر إلى ساعته ويقوم بسرعة ليقف على بعض الحشائش النظيفة في هدوء ووقار شديدين، ويرفع يديه إلى السماء قائلاً: الله أكبر، وقام الرجل يصلي في خشوع المسلمين العابدين المؤمنين. ثم عقدت مارغريت مقارنة سريعة بين صلاة المسلمين بلا وسيط، وبلا قرابين، وبلا كهنوت وطقوس، وبين الصلاة في الكنيسة، تقول: وكانت رؤية مشهد الصلاة الخيط الأول الذي قادها إلى أن تعتنق الإسلام، وسمت نفسها آمنة عبد الله، وتحولت إلى داعية للإسلام، فيسلم زوجها على يديها، وتحمل رسالة الإسلام إلى أهل قريتها.

قصة إسلام فتاة مارونية وسبب ذلك

قصة إسلام فتاة مارونية وسبب ذلك هذه نجوى أدمون شوفاني فتاة لبنانية نصرانية مارونية، تزوجت شاباً مسلماً أعجبت بأخلاقه وسلوكه، وعرفت أن هذه الأخلاق الحميدة نابعة من تدينه وتمسكه بإسلامه، وكانت تراقبه وهو يصلي واقفاً بين يدي الله في خشوع، فتتأثر بذلك كثيراً، إلى أن أعلنت إسلامها.

قصة إسلام شاب أمريكي

قصة إسلام شاب أمريكي هذا الأخ عبد الصبور بيلار شاب أمريكي، كان نشيطاً في الدعوة إلى النصرانية بين الألمان، حتى كان يلقب نفسه بغطرس الأمريكي، وقد تعرض لحادث سيارة نجا منه برحمة الله ولطفه، واحتجز في المستشفى ليبقى فيه عاماً كاملاً، فاشترى جهاز التلفاز ووضعه في غرفته حيث كانت بداية الهداية، يقول: فرأيت صورة مكة عبر التلفاز، ورأيت المسلمين يصلون، ورأيت الملك فيصل يصلي معهم! فقلت لنفسي: هذا هو الطريق. كذلك موريس بوكاي، عندما قابل الملك فيصل كان الملك فيصل رحمه الله سبباً في دخوله في الإسلام. يقول الأخ عبد الصبور: فقلت لنفسي: هذا هو الطريق، لكنني في ذلك الحين لم أكن أعرف شيئاً عن الإسلام، وكان انطباعي بأن هؤلاء القوم ليسوا متكبرين؛ لأنهم يضعون جباههم على الأرض ساجدين لله، فقلت: هذا هو أفضل سبيل للعبادة. يعني: لا يمكن أن يعبد الله سبحانه وتعالى بأحسن من هذه الطريقة التي يفعلها المسلمون، وهذا بلا شك حق؛ لأن الله سبحانه وتعالى اختار لأفضل رسول وأفضل أمة أفضل صلاة وأكمل صلاة. ولذلك اقتدى به جميع الأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، وائتموا بصلاته ليلة الإسراء، كذلك المسيح عليه السلام حينما ينزل في آخر الزمان فإنه يصلي خلف المهدي بصلاة المسلمين، وفقاً لشريعة خاتم النبيين الباقية إلى قيام الساعة.

قصة إسلام شاب صيني من تايوان وسبب إسلامه

قصة إسلام شاب صيني من تايوان وسبب إسلامه من تايوان يقول الشاب الصيني يحكي قصة إسلامه وكيف بدأت: لقد أحببت الطريقة التي يعبد بها المسلمون ربهم، ويصلون جماعة في المسجد، لقد لاحظت أنهم يسجدون بكل ذل وخضوع لله تبارك وتعالى، وأحسست حينئذ أن هذه هي أفضل طريقة لعبادته سبحانه، ومن هنا أحببت الإسلام، وقبلته لنفسي ديناً.

قصة إسلام محمد صديق الألماني وسببه

قصة إسلام محمد صديق الألماني وسببه الأخ الألماني محمد صديق مشهور، ذهب في السبعينيات إلى مكة للعمرة، وهو طويل جداً، ولحيته صفراء، ويلبس اللباس الإسلامي، وزوجته ألمانية منقبة بالجلباب الأسود، ولما عرف أن الدجال إذا خرج لن يدخل مكة والمدينة؛ سكن في مكة وجاور بها؛ حتى ينجو من فتنة الدجال إذا خرج. وكان بين وقت وآخر يسافر هو وزوجته لزيارة أهله وأهلها في ألمانيا، فكان كلما وصل إلى ألمانيا لا يمشي إلا بعصا في الشارع؛ لأن الألمان كانوا يسخرون منه ومن زوجته؛ بسبب ملابسهما أو مظهرهما، فكان يضربهم بالعصا. والأخ محمد صديق يتحدث عن الشيء الذي اجتذب قلبه إلى نور الإسلام فيقول: إن شكل الصلاة الإسلامية هو الذي جعلني أفكر في الإسلام. هذا التعبير هو الذي يفسر لنا لماذا يحرص دائماً الإعلام الغربي المعادي للإسلام أن يتوقى إبراز صلاة المسلمين كاملة، فهم في أي موضع يتجنبون دائماً إظهار الصلاة الإسلامية بصورة كاملة، فتراهم يحاولون تشويه صورة الصلاة ويحاولون أن يظهروا المسلمين وهم في الصلاة، بصورة معينة بحيث لا يتأثر أحد بها. يقول محمد صديق: إن شكل الصلاة الإسلامية هو الذي جعلني أفكر في الإسلام، فقد أردت أن أعرف لماذا يقوم هؤلاء الناس بالصلاة بهذه الكيفية، فاستنتجت أنها خير سبيل يختاره الإنسان لعبادة خالقه، فبدأت -وأنا ما زلت بروتستانتياً بأداء الصلاة بالكيفية الإسلامية. يعني: وهو على ملة النصرانية كان يصلي بنفس الطريقة الإسلامية!

ذكر لايت حال المصلين في المساجد والصلاة

ذكر لايت حال المصلين في المساجد والصلاة الرسول صلى الله عليه وسلم نهى أن يوطن الإنسان لنفسه مكاناً كما يوطن البعير، والمسجد مباح لكل المسلمين، لا يوجد مكان خاص فيه للأكابر والأغنياء والوجهاء دون الفقراء، فأي إنسان سبق إلى المكان فهو أولى به، وهذا الشيء أثار إعجاب لايت مر فقال: في المساجد ترى المساواة التامة بين المصلين، فلا يوجد فيها مقاعد خاصة بأحد، وأي إمام يمكنه أنه يؤم المصلين، ولا يوجد منظر أبهج من منظر جماعة المسلمين وهم يصلون خاشعين صامتين.

قصة إسلام فتاة أمريكية وسبب إسلامها

قصة إسلام فتاة أمريكية وسبب إسلامها هذه زيبورا بوتر فتاة أمريكية من ولاية (متشيجن)، قضت رحلة طويلة بحثاً عن الحق، وانتهت إلى أن دين الإسلام هو دين الحق الوحيد في هذا الوجود، وبعدما أسلمت كتبت إلى والدها تدعوه إلى الإسلام، وكان من مما قالته ضمن رسالة طويلة بليغة تفيض بالبر والرحمة والرفق: لست أدري هل سبق لك أن شاهدت صورة في التلفاز عن صلاة الجماعة عند المسلمين؟! فقد حدث قبل أن أعرف شيئاً عن الإسلام منذ عدة سنوات أن شاهدت ذلك عن الصلاة في مصر، ورأيت كيف تقام هذه الصلاة، وقد هزني في ذلك الحين الإخلاص البديع والخضوع والمساواة والأخوة بين المصلين، فقد رأيت الغني والفقير والكبير والصغير، والأبيض والأسود يصطفون في صفوف واحدة، يسجدون في خشوع لله سبحانه وتعالى.

قصة إسلام النصراني الأمريكي تومس وسبب إسلامه

قصة إسلام النصراني الأمريكي تومس وسبب إسلامه هذا النصراني الأمريكي تومس كليتون الذي نفر بفطرته من العقيدة النصرانية ففر إلى الحنيفية السمحة، يحكي فطرة إسلامه تحت عنوان (تجربة نيرة) يقول: كانت الشمس قد مالت عن الزوال، وبينما نحن نمشي عبر الطريق الحار المغبر سمعنا غناءً رتيباً عذباً غريباً يملأ الجو من حولنا، ولما دخلنا وسط مجموعة من الشجر وقعت أبصارنا على مشهد غريب عجيب لم تصدقه عيوننا، رأينا رجلاً عربياً أعمى يرتدي ملابس بيضاء نقية، وعلى رأسه عمامة بيضاء، وكان الرجل واقفاً على برج خشبي عال يكاد يقرع السماء بترميمه الساحر، فجلسنا دون أن نشعر بذلك، وقد أخذنا بإيقاعه الغريب وكأنه يصدر عن شبح، لم نكن نفهم الكلمات التي كان يرددها، ولكن لسحرها انساب إلى آذاننا وقلوبنا: الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله. وقبل أن نتم القصة أقول: نشرت إحدى المجلات عن عميد الأطباء النفسانيين في ألمانيا، أن هذا الرجل كان يعالج مرضاه بإسماعهم الأغاني، والعجيب أنه كان يسجل لهم الأذان ويعتبره نشيداً، وكان لا يعرف أن هذا الأذان خاص بالصلاة عند المسلمين، لكن كان يلاحظ أن هذا النشيد إذا أسمعه للمرضى النفسيين فإنهم يتحسنون جداً، فكان يعالج مرضاه بإسماعهم الأذان، دون أن يعرف أنه النداء الإسلامي باللغة العربية لأداء الصلاة! إن الأذان نعمة بينما هناك بعض السفهاء يشتكون من صوت المؤذن، ويزعمون أنه يزعجهم، فهؤلاء لا يعرفون نعمة الأذان، وأي رجل عاش في بلاد الكفار يحس ما معنى الأذان! وما هي قيمة الأذان! وذلك بسبب أن الأذان في بلاد الإسلام يكرر خمس مرات في اليوم والليلة، وتتجاوب به الآفاق بنداء الحق في أرجاء المدن والقرى، وهذه نعمة لا يمكن التعبير عنها وعن جمالها، ولا يحس بها إلا إذا حرمها الإنسان. لما اكتشف عميد الأطباء النفسيين في ألمانيا هذه الحقيقة قال: إن كلمات الأذان التي تدعو المسلمين إلى الصلاة تدخل السكينة إلى قلب المريض النفسي، حتى لو لم يكن يفهم معانيها، وأضاف أن الأذان يزرع النور والأمل في قلب المصابين بالاكتئاب أو فقدان الثقة بالنفس أو كراهية الحياة أو الشعور بالفشل. يقول تومس كليتون: قبل ذلك لم نكن نشعر بأي شيء يجري حولنا، أما الآن فقد بدأنا نرى أعداداً كبيرة من الناس يتجمعون، إنهم أناس من مختلف الأعمار يرتدون ألواناً شتى من الملابس، ويمثلون كافة قطاعات الحياة، لقد أخذوا يقتربون من المكان بانكسار ينم عن خشوع، يفرشون الحصرة الطويلة على الأرض، لقد كان مشهداً ممتعاً حقاً، يجمع تناقض الألوان، وخضرة الأعشاب، واصفرار الحصر، وظلت جموع الناس تأتي إلى المكان، حتى بدأنا نعجب: هل يا ترى سيتم التئام الجمع المحتشد؟ ثم يقول: كان الناس يخلعون نعالهم وينتظمون في صفوف طويلة، الواحد منها وراء الآخر، وقد أثار دهشتنا ونحن نرقبهم في صمت، أنه لا توجد فوارق من أي نوع بين أفراد هذا الاجتماع، فلقد كان البيض والصفر والسود إلى جانب الفقراء والأغنياء والشحاذين والتجار يقفون جنباً إلى جنب، دون أدنى التفات إلى العنصر أو المكانة الاجتماعية في الحياة. روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (مملوكك يكفيك، فإذا صلى فهو أخوك)، وهو حديث فيه ضعف، ومعنى قوله: (مملوكك يكفيك) يعني: المملوك يخدمك ويقضي حاجاتك، فهذه تستوجب له عليك حقاً أنه يقوم بأداء الخدمة لك. وقوله: (فإذا صلى فهو أخوك) يعني: إذا صلى فإنه أخوك في الدين، فينبغي عليك إكرامه. ثم يقول: ولم يحدث أن رجلاً واحداً من ذلك الجمع الحاشد رفع ناظريه بعيداً عن الحصير المفروش أمامه مباشرة، إن روح الأخوة التي تجلت في ذلك الجمع المتباين من الناس قد تركت انطباعاً لا يمكن أن يمحى من نفسي ما حييت.

قصة إسلام الصحفي النمساوي اليهودي محمد أسد

قصة إسلام الصحفي النمساوي اليهودي محمد أسد هذه قصة أخرى طريفة، وهي قصة الصحفي النمساوي اليهودي، وهو من أشهر اليهود الذين اعتنقوا الإسلام؛ لأنه شخصية بارزة جداً في التاريخ الإسلامي المعاصر، وهو الذي سمى نفسه بعد الإسلام محمد أسد. هذا الصحفي النمساوي اليهودي كان إسلامه فتحاً على الدعوة الإسلامية في هذا القرن، نسج مشهد المسلمين وهم يصلون خاشعين الخيط الأول في قصة إسلامه، روى قصة إسلامه في كتاب رائع مشهور اسمه (الطريق إلى مكة)، قال في هذا الكتاب: في ذلك الخريف من سنة (1922م) كنت أعيش في بيت داخل مدينة القدس القديمة، وكثيراً ما كنت أجلس إلى النافذة التي كانت تطل على فناء متسع وراء البيت، وكان هذا الفناء ملكاً لرجل عربي يدعى حاجي، كان يؤجر الحمير للركوب وحمل الأثقال، وجعل من الفناء نزلاً لمبيت القوافل، وفي أثناء النهار كانت أجسام الجمال الثقيلة ترى مضطجعة على الأرض، والرجال دائماً منهمكين بالعناية بها وبالحمير، وكان الحاجي يجمعهم عدة مرات في النهار للصلاة، وكانوا يقفون جميعاً في صف طويل واحد، وكان هو إمامهم، كانوا كالجنود في دقة حركاتهم، ذلك أنهم كانوا ينحنون معاً باتجاه مكة، ثم ينهضون ثانية ليسجدوا، وتلمس جباههم الأرض، كانوا يتبعون كلمات قائدهم الخاطفة، وكان يقف حافي القدمين على سجادته المعدة للصلاة، مضموم الذراعين فوق صدره، محركاً شفتيه دونما صوت، وشارداً في استغراق عميق، لقد كان بإمكانك أن ترى أنه كان يصلي بروحه كلها. والحق أنه قد أزعجني أن أرى مثل تلك الصلاة العميقة المقترنة بحركات جثمانية آلية، فسألت الحاجي ذات يوم وكان يفهم الإنجليزية قليلاً: هل تعتقد حقاً أن الله ينتظر منك أن تظهر له احترامك بتكرار الركوع والسجود؟ ألا يكون من الأفضل للمرء أن يخلو بنفسه وأن يصلي إلى الله في قلبه؟ لم حركات جسمك هذه كلها؟ يقول محمد أسد: ولم أكد أنطق بهذه الكلمات حتى شعرت بالندم وتأنيب الضمير، ذلك أنني لم أكن أنوي أن أجرح شعور الشيخ الديني، ولكن الحاجي لم تبد عليه قط أمارات الاستياء، لقد ثغر فمه عن ابتسامة، وأجاب علي بقوله: بأية طريقة أخرى إذاً يجب أن نعبد الله؟! هذا الصحفي النمساوي اليهودي كان من الصحفيين المشهورين جداً، وبالذات أيام عبد الناصر، وكان دائماً يتكلم بصراحة، وقد سجن مع أحد الإخوة في زنزانة واحدة، فكان هذا الأخ فاضلاً عابداً مجتهداً في عبادته، فكان يحافظ على الصلاة، ودائماً يذكر قوله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:45]. فكان هذا الصحفي يستغرب جداً لماذا يصلي؟ ويقول: إن الله غني عن أن نفعل له هكذا، نفس الكلام الذي قاله لـ حاجي فانظر إلى رد حاجي العامي البسيط وهو يقول له: بأية طريقة أخرى إذاً يجب أن نعبد الله؟! ألم يخلق الجسد والروح معاً؟! وإذا كان هذا كذلك، أفلا يجب أن يصلي الإنسان بجسده كما يصلي بروحه؟! اسمع سأفهمك، نحن المسلمين حين نصلي نولي وجوهنا نحو الكعبة بيت الله الحرام في مكة، مدركين أن المسلمين كلهم حيثما كانوا يتجهون نحوها في صلاتهم، وأننا كجسد واحد، وأن الله هو محور تفكيرنا جميعاً، نحن نقف أولاً مستقيمين، ونقرأ شيئاً من القرآن الكريم، ذاكرين أنه كلام الله أنزله على الإنسان، كي يكون مستقيماً راضياً في الحياة. ثم نقول مذكرين أنفسنا: إنه ما من أحد يستحق أن يعبد إلا هو، ونركع؛ لأننا نعتبره فوق كل شيء، ونسبح بعزته ومجده، وبعد ذلك نسجد على جباهنا؛ لأننا نعلم أنه هو الذي خلقنا، وهو ربنا الأعلى، ونرفع وجوهنا عن الأرض ونبقى جالسين داعين إياه أن يغفر ذنوبنا، وأن يتغمدنا برحمته، ويهدينا الصراط المستقيم، ويهبنا العافية والرزق. يقول: ثم نسجد ثانية على الأرض، ونلمس التراب بجباهنا تجاه عزة الواحد الأحد وعظمته، وبعد ذلك نستوي جالسين، وندعو الله أن يصلي على النبي محمد صلى الله عليه وسلم الذي بلغنا رسالته كما صلى على الأنبياء من قبله، وأن يباركنا وجميع من يتبعون السبيل، ونسأله أن يهب لنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وفي النهاية ندير رءوسنا إلى اليمين وإلى الشمال قائلين: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبذلك نحيي كل من كانوا صالحين حيثما كانوا. على الإنسان المسلم متى ما واتته فرصة أن يلقي البذرة في أي تربة فليلقها، ولا يضيع فرصة أبداً، فأنت لا تكلف بهداية القلوب؛ لأن هذا ليس لأحد من الخلق، حتى الرسول عليه الصلاة والسلام لا يملك هداية القلب، لكن يمكن هداية الناس بالبيان والتوضيح والتبليغ، فمهما كان عتو الشخص الذي أمامك فإنك لا تيئس منه، وما عليك إلا أن تلقي البذرة في التربة الخصبة، وبعد ذلك ليس من شأنك أن تنبت هذه البذرة، وإنما إنباتها على الله سبحانه وتعالى، فهو الذي ينبت فيها شجرة الإيمان إن شاء. الإنسان قد يلقي كلمة عابرة يقولها أو تصرفاً عابراً وهو لا يقصده، ثم يؤثر في نفس من يخاطبه، ويحول مجرى حياته بكلمة عابرة تصادف وقت انفتاح القلب للهداية، أو تكون سبباً في إنبات البذرة، فتنتهي بأن تثمر. يقول محمد أسد: وبعد ذلك بسنوات عدة، أدركت أن الحاجي بتفسيره البسيط قد فتح لي أول باب للدخول في دين الإسلام. ولكن قبل أن يخالجني بزمن طويل أي تفكير في أن الإسلام يمكن أن يصبح ديناً لي، بدأت أشعر بخضوع غير عادي كلما رأيت رجلاً يقف حافي القدمين على سجادته المخصصة للصلاة، أو على حصيرة من قش، أو على الأرض العادية، مضموم الذراعين، مستغرقاً بالكلية في ذات نفسه، ناسياً كل ما يجري حوله، سواء كان ذلك في أحد المساجد أو على رصيف أحد الشوارع المكتضة. ثم يقول: محمد أسد أيضاً: ولما عشت في القاهرة كان مقابل بيتي مسجد صغير ذو مئذنة دقيقة، منها كان يدعى إلى الصلاة خمس مرات في اليوم الواحد، فيظهر في أعلى المئذنة رجل متعمم بعمامة بيضاء، ويرفع يديه ويبدأ بالإنشاد: الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، حي على الصلاة، حي على الفلاح، وكان صوته ناعماً قوياً قادراً أن يصل إلى مسامع الكثيرين ممن كانوا على مبعدة كبيرة، وكان باستطاعتك أن تدرك أن الغيرة والحماسة لا الفن هما اللتان كانتا تجعلانه على مثل ذلك القدر من الجمال، لقد كان ترتيل المؤذن بهذا اللحن الدائم الذي كنت أسمعه في الأيام والأمسيات التي قضيتها في القاهرة تماماً كما كان لحن القدس القديمة الدائم، وكما كان مقدراً لي أن أسمعه طيلة أسفاري في الأراضي الإسلامية فيما بعد، لقد كان الأذان نفسه في كل مكان، وبرغم الفروق في اللهجة والتجويد فتوجد وحدة صوتية جعلتني أدرك مقدار الوحدة الباطنية لدى جميع المسلمين من العمق، ومبلغ الخطوط الفاصلة بينهم وبين التكلف والتفاهة. لقد كانوا واحداً في اعتقادهم، وواحداً في طريقة تفكيرهم وتمييزهم بين الحق والباطل، وواحداً في فهمهم قوام الحياة الخيّرة، ولقد خيل لي أنني قد صادفت لأول مرة مجتمعاً لم تكن فيه صلة النسب بين الإنسان والإنسان مسببة عن طوارئ من مصالح اقتصادية عنصرية، بل عن شيء أعمق وأكثر استقراراً إلى حد بعيد، صلة من الفهم المشترك للحياة، أزالت كل حواجز العزلة والانفراد بين الإنسان والإنسان.

قصة إسلام المخرج السينمائي العالمي فركت

قصة إسلام المخرج السينمائي العالمي فركت لقد عم التأثر بالأذان والصلاة طوائف البشر، حتى الأوساط الفنية التي تؤدي دور الشيطان في إغراء المؤمنين بالفحشاء والمنكر، ولنرى أكبر مركز لهذه الشيطنة على وجه الأرض، وأساطينها يدهشون من أثر الأذان، يذكر المستشار محمد عزت السخطاوي في كتابه (الدعوة إلى الإسلام بين غير المسلمين) قصة إسلام المخرج السينمائي العالمي ركت إنجرام في سنة (1928م). وقبل أن نختم الجلسة بهذه القصة لعل بعضكم يذكر في إحدى السنوات في هذا المسجد، حيث كان لي محاضرة عنوانها: بداية الهداية، تكلمنا فيها عن نماذج من نقاط التحول في حياة الكثير من الناس التي هي بداية الهداية، وذكرنا نماذج كثيرة جداً، وقدر الله سبحانه وتعالى أنه كان موجوداً في نفس الجلسة مخرج فرنسي اسمه سراج، وهو مشهور جداً، وكان من أشهر المخرجين السينمائيين في فرنسا في الستينيات، وكان حينذاك صغير السن جداً، لكن مع ذلك كان مشهوراً عالمياً، فكان حاضراً معنا في هذا المسجد، وشاء الله سبحانه وتعالى أن دعوناه أن يأتي ويحكي قصة بداية هدايته، وهي موجودة في آخر شريط اسمه: (بداية الهداية)، وهو بصوته يتكلم اللغة العربية في غاية الجمال والقوة؛ وقصته كانت جميلة جداً، فذكر أنه سافر موريتانيا، والجزائر، وشكوا فيه لأجل شكله وقبضوا عليه إلى آخر قصته. يذكر المستشار محمد عزت السخطاوي في كتابه (الدعوة إلى الإسلام بين غير المسلمين) قصة إسلام المخرج السينمائي العالمي ركت إنجرم فيقول: في سنة (1928م) فوجئت الأوساط الفنية في (هوليود) وغيرها من أنحاء العالم بنبأ أدهش الجميع، وهو إشهار المخرج السينمائي العالمي ركت إنجرم إسلامه على مشهد من بعض مواطنيه، ووسط جماعة من أصدقائه المسلمين، وكان ركت من أنجح المخرجين السينمائيين في ذلك الزمن على الإطلاق، وقد وصفته جريدة السياسة الأسبوعية التي صدرت في الثالث عشر من فبراير سنة (1928م) ريكت إنجرم وهي تتحدث عن نبأ إسلامه بأنه أكبر مخرج (سينماتوغرافي) في العالم، وأكبر أقطاب صناعة السينماء، فأسلم هذا القطب السينمائي عقب حادثة معينة كان لها أبعد الأثر في حياته، وهو أنه ذات يوم كان يشرف على التقاط مشهد سينمائي يتمثل في قيام شخص عربي مسلم مهيب الطلعة بأداء الأذان بخشوع تام، وهو يؤذن في هذا الجو الغريب بعيداً عن وطنه، وترك ذلك المشهد في نفس ريكت إنجرم الشفافة المتعطشة صدى تعجز عن وصفه أبلغ الألفاظ وأدقها تعبيراً. يقول: وما إن انتهى العربي من أداء الأذان حتى صحبه إلى مكتبه، وراح يسأله المزيد من المعلومات عن أحكام دينه، حتى أشهر إسلامه على الملأ، وأقلع تمام الإقلاع عن كل ما أمر الله سبحانه وتعالى باجتنابه، وعاش حياة الزهد والعبادة، واصطفى بعض المسلمين المقيمين في فرنسا للاستعانة بهم في إرشاده إلى أحكام الدين، وتهيئة جو إسلامي خالص في القصر الذي اشتراه ليعيش فيه في مدينة (نيس) التي نفذ إلى قلبه فيها أول قبس من نور الإسلام. بهذا نختم النصف الأول من بحث لماذا نصلي؟ وهو ذكر فضائل وخصائص ومزايا الصلاة التي امتازت بها عن غيرها، ونشرع إن شاء الله تبارك وتعالى بعد ذلك في الكلام على عواقب ترك الصلاة؟ وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

لماذا نصلي؟ [9]

لماذا نصلي؟ [9] إن لترك الصلاة آثاراً سلبية في الدنيا والآخرة، فمن شؤم ترك الصلاة أن فاعل ذلك يقع في الكفر، واختلف العلماء فيمن تركها تكاسلاً مع اعتقاد وجوبها هل يكفر كفراً أكبر يخرجه من الملة أم أنه كفر دون كفر؟ أما من تركها جحوداً فأجمعوا على كفره كفراً أكبر. وترك الصلاة تكاسلاً من أكبر الكبائر، وهو نفاق، وسواد في الوجه، وظلمة في القلب، وهلكة في الدنيا والآخرة، وهو سبب من أسباب سوء الخاتمة، وعذاب القبر، ودخول سقر.

ترك الصلاة كفر

ترك الصلاة كفر الحمد لله حق حمده، والصلاة والسلام على محمد رسوله وعبده، وعلى آله وصحبه من بعده. أما بعد: فقد تكلمنا فيما مضى عن خصائص وفضائل الصلاة بالنسبة لسائر العبادات، وذكرنا جملة من فضائل الإتيان بالصلاة وما يترتب عليها، ومن المناسب أن نتكلم بعد أن أخذنا الترغيب في الصلاة أن نتناول جانب الترهيب من ترك الصلاة، وبيان شؤم ترك الصلاة. أول شؤم ترك الصلاة إنها تركها كفر، فقد قال الله سبحانه وتعالى في حق المشركين: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة:11]. قوله: (فَإِنْ تَابُوا) أي: تابوا عن شركهم وكفرهم. قوله: (وَأَقَامُوا الصَّلاةَ) معتقدين وجوبها آتين بأركانها. قوله: (وَآتَوْا الزَّكَاةَ) أي: المفروضة. قوله: (فإخوانكم في الدين) أي: إخوانكم في دين الإسلام، هذا منطوق الآية، ومفهومها أن من أصر على ترك الصلاة أو على ترك الزكاة فليس من إخواننا في دين الإسلام. قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله) متفق عليه. فانظر كيف علق عصمة الدم والمال على الإتيان بالشهادتين وبالصلاة وإيتاء الزكاة. وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة) رواه مسلم. وقال صلى الله عليه وسلم: (بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة)، رواه مسلم أيضاً. وفي لفظ: (ليس بين العبد وبين الكفر إلا ترك الصلاة). وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر). وعن محجن بن الأبرع الأسلمي: (أنه كان في مجلس مع النبي صلى الله عليه وسلم، فؤذن للصلاة، فقام النبي صلى الله عليه وسلم ثم رجع ومحجن في مجلسه فقال له: ما منعك أن تصلي؟ ألست برجل مسلم؟! قال: بلى، ولكني صليت في أهلي -يعني: صلى في مسجد أهله- فقال له: إذا جئت فصل مع الناس، وإن كنت قد صليت). قوله: (إذا جئت فصل مع الناس) يعني: من صلى ثم تحول إلى مكان آخر وأقيمت الصلاة فليصل مع الجماعة الحاضرة، ولا يتخلف عن ذلك، لكن الصلاة الثانية تكون بنية النافلة؛ لأن الفريضة لا تصلى مرتين. والشاهد في هذا الحديث قوله: (ما منعك أن تصلي؟ ألست برجل مسلم؟). يعني: لو كنت مسلماً لصليت. وعن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (أما إنه لا حظ لأحد في الإسلام أضاع الصلاة) وروي عنه بلفظ: (لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة). وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (من ترك الصلاة فلا دين له). وعن عبد الله بن شقيق قال: (كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر غير الصلاة). وهذا المعنى استقر في قلوب الصحابة رضي الله تعالى عنهم، حتى إن نجاة غير المصلي من النار في نظرهم مما يلغز به ويذكر على أنه خلاف الأصل، قال الدينوري: كان أبو هريرة رضي الله عنه يقول: (حدثوني عن رجل دخل الجنة لم يصل قط؟ -يعني: كأن هذا شيء لا يتصور وقوعه- فسكت الناس، فيقول أبو هريرة رضي الله تعالى عنه: هو أخو بني عبد الأشهل عمرو بن أقيش رضي الله عنه، كان له رباً في الجاهلية، فكره أن يسلم حتى يأخذه، يعني قال: لن أدخل في الإسلام حتى أستوفي هذا المال الربوي، فجاء يوم أحد فقال: أين بنو عمي؟ قالوا: بأحد. قال: أين فلان؟ قالوا: بأحد. قال: فأين فلان؟ قالوا: بأحد، فلبس لأمته -وهي الدروع التي تلبس في الحرب- وركب فرسه ثم توجه قبلهم، فلما رآه المسلمون قالوا: إليك عنا يا عمرو! قال: إني قد آمنت، فقاتل حتى جرح، فحمل إلى أهله جريحاً، فجاءه سعد بن معاذ رضي الله تعالى عنه فقال لأخته: سليه: أقاتلت حمية لقومك أو غضباً لهم أم غضباً لله عز وجل؟ فقال: بل غضباً لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم، فمات فدخل الجنة وما صلى لله عز وجل صلاة) وهذا الأثر حسن. الشاهد: أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم كانوا يعتقدون أن الشخص الذي لا يصلي ويدخل الجنة لغز! وأبو هريرة كأنه يتحداهم عندما قال: (حدثوني عن رجل دخل الجنة لم يصل قط، فسكت الناس ولم يستطيعوا الجواب على أبي هريرة، فحكى لهم قصة هذا الصحابي، وختمها بقوله: فمات فدخل الجنة وما صلى لله عز وجل صلاة!). وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: (لا إيمان لمن لا صلاة له، ولا صلاة لمن لا وضوء له). وقال إبراهيم النخعي رحمه الله: من ترك الصلاة فقد كفر. وقال أيوب: ترك الصلاة كفر لا يختلف فيه. وقال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: أخشى ألا يحل للرجل أن يقيم مع امرأة لا تصلي، ولا تغتسل من الجنابة، ولا تتعلم القرآن. قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى: وتارك الصلاة على صحة البدن لا تجوز شهادته، ولا يحل لمسلم أن يؤاكله، ولا يزوجه ابنته، ولا يدخل معه تحت سقف. هذه المعادلة يستحقها المجرم الأثيم الذي تهون عليه الصلاة، فمن هانت عليه الصلاة لم يعز عليه شيء، كيف يهون عليه أن يعيش من غير صلاة وهو يتقلب في نعم الله سبحانه وتعالى، وفي العافية التي أعطاه الله إياها، والمال والرزق والشمس والهواء؟! كل هذه النعم يتمتع بها وهو لا يستحقها؛ لأن تارك الصلاة لا مسوغ ولا معنى لحياته بدون صلاة، ومعنى كلام الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى: أن تارك الصلاة ينبغي أن تحصل له نوع من المقاطعة الجماعية من جميع المسلمين؛ زجراً له عن هذه الجريمة.

أقوال أهل العلم في تارك الصلاة تكاسلا مع اعتقاد وجوبها

أقوال أهل العلم في تارك الصلاة تكاسلاً مع اعتقاد وجوبها ليس هذا أوان مناقشة حكم تارك الصلاة من الناحية التفصيلية، فإن هذا له مناسبة أخرى نرجو أن تأتي فيما بعد إن شاء الله تعالى، وهو ما يتعلق بقضية الكفر والإيمان، ويعبر عنها أحياناً بالأسماء والأحكام، فأقول: قطعاً يطلق على تارك الصلاة أنه كافر، ولا شك في وصفه بأنه كافر؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام وصفه بأنه كافر، لكن ما نوع هذا الكفر؟ هل من ترك الصلاة تكاسلاً مع اعتقاده وجوبها مسلم أم كافر خارج من الملة؟ يوجد خلاف بين العلماء كما هو معروف، والخلاف في حق من ترك الصلاة تكاسلاً مع اعتقاد وجوبها، أما من تركها جحوداً -بمعنى أنه لا يعتقد أن الصلاة واجبة عليه أصلاً- فهذا كفر مخرج من الملة؛ لأنه إنكار لما علم من الدين بالضرورة، لكن الكلام والخلاف في حق من ترك الصلاة تكاسلاً مع اعتقاده وجوبها، فهذه مسألة فيها خلاف بين العلماء، منهم من يرى كفره كفراً أكبر، وأنه كافر مشرك، وأنه إذا مات لا يورث، ولا يرث، وتنقطع الولاية بينه وبين المسلمين، وأنه لا يغسل ولا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين، وهذا في الدنيا، أما في الآخرة فهو مخلد في جهنم مع فرعون وهامان وقارون وأبي بن خلف وغيرهم من أصناف أئمة الكفر، هذا مذهب بعض العلماء. أما الفريق الآخر من العلماء فإنه يرى أنه فاسق، وأن كفره كفر دون كفر وليس كفراً مخرجاً من الملة، بل هو باق في دائرة الإسلام مع أنه فاسق عاص فاجر ينبغي أن يزجر عن هذا الفعل، وإن أصر على ترك الصلاة فيقتل حداً بسبب تركه الصلاة، لكن مع ذلك يقولون: إن ترك الصلاة أسوأ وأخطر من الزنا والسرقة وشرب الخمر وقتل النفس التي حرم الله وأكل الربا، وترك الصلاة جريمة من أشنع الجرائم، هذا قول من يقول: إن تارك الصلاة تكاسلاً مع اعتقاد وجوبها لا يكفر كفراً أكبر، فنحن نهمس في أذن تارك الصلاة ونقول له: هل يرضيك أن يكون انتسابك إلى ملة الإسلام وإلى دين التوحيد وإلى أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم محل خلاف بين العلماء، فيه راجح ومرجوح، هذا يقول: كافر. والثاني يقول: لا، بل هو فاسق؟! فهل يقبل الإنسان الذي عنده كرامة ومروءة أن يكون انتماؤه للإسلام قضية خلافية؟! فريق يقول: إنك كافر مشرك حلال الدم والمال، وإنك لا تستحق الحياة، بل على ولي أمر المسلمين أن يقتلك ردة، ولا يجوز لك أن تتزوج من مسلمة، ولا تصلح ولياً شرعياً لأولادك، وإنك لا ترثهم ولا يرثونك، وإنك لا تغسل ولا يصلى عليك ولا تدفن في مقابر المسلمين، وإنك مستحق للخلود في جهنم مع فرعون وهامان وأبي جهل وأبي لهب وسائر أعداء الدين، وفريق آخر يقول: بل أنت فاسق عاص فاجر يجب قتلك حداً إن أصررت على ترك الصلاة. يقول بعض العلماء: يا تاركاً لصلاته إن الصلاة لتشتكي وتقول في أوقاتها الله يلعن تاركي وإن كان هذا الكلام قد يتساهل فيه في جانب الترهيب، إلا أنه ينبغي ألا يخبر عنه إلا بوحي، لأن قوله: إن الصلاة تقول: الله يلعن تاركي، غيب، ولابد أن يثبت فيه حديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. إذاً: هذا هو أول شؤم لترك الصلاة، وهو كونها كفراً بالله عز وجل، فتارك الصلاة كافر، ويطلق عليه كافر على القولين، سواء من يكفرونه كفراً أكبر أو من يكفرونه كفراً دون كفر.

ترك الصلاة من أكبر الكبائر

ترك الصلاة من أكبر الكبائر إن ترك الصلاة من أكبر الكبائر الموبقة، يقول الإمام محمد بن نصر المروزي رحمه الله تعالى: سمعت إسحاق يقول: صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن تارك الصلاة كافر، وكذلك كان رأي أهل العلم أن تارك الصلاة عمداً من غير عذر حتى يذهب وقتها كافر. وقال الإمام ابن حزم رحمه الله تعالى: لا ذنب بعد الشرك أعظم من ترك الصلاة حتى يخرج وقتها، وقتل مؤمن بغير حق. فويل لهؤلاء الذين يتعمدون جمع بعض الصلوات الخمس آخر اليوم، ويأتون بها متتابعة عندما ينتهون من الشغل، فهذا من تلبيس إبليس، وهذا ضياع للدين، وارتكاب لأكبر الكبائر. وقال الإمام المحقق ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى: لا يختلف المسلمون أن ترك الصلاة المفروضة عمداً من أعظم الذنوب وأكبر الكبائر، وأن إثمه عند الله أعظم من إثم قتل النفس وأخذ الأموال، ومن إثم الزنا والسرقة وشرب الخمر، وأنه متعرض لعقوبة الله وسخطه وخزيه في الدنيا والآخرة، ومقصوده أن هذا موضع إجماع من لعلماء. وقال الإمام الذهبي رحمه الله تعالى: فمؤخر الصلاة عن وقتها صاحب كبيرة، وتاركها بالكلية -يعني: الصلاة الواحدة- كمن زنى وسرق؛ لأن ترك كل صلاة أو تفويتها كبيرة، فإن فعل ذلك مرات فهو من أهل الكبائر إلا أن يتوب، فإن لازم ترك الصلاة فهو من الأخسرين الأشقياء المجرمين.

ترك الصلاة نفاق

ترك الصلاة نفاق إن ترك الصلاة نفاق، يقول عز وجل: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً} [النساء:142]، وجد المنافقون في مجتمع المدينة أما في مكة فلم يكن هناك نفاق؛ وذلك لأنه كان في المدينة سطوة وسلطة الدولة المسلمة، ولا يقوى أحد على المجاهرة بترك الصلاة، فحتى المنافقون كانوا يظهرون شعائر الإسلام في الظاهر وهم منافقون في الباطن، يقول عز وجل: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء:142]، فالجزاء من جنس العمل، فهم يخادعون الله في الدنيا، وهو خادعهم يوم القيامة. وقد بين الله سبحانه وتعالى ذلك في سورة الحديد في قوله تعالى: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد:13]، فهذا معنى قوله: (وَهُوَ خَادِعُهُمْ). ثم يقول سبحانه واصفاً المنافقين مع الصلاة: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى} [النساء:142]، وذلك لأن المنافق لا يقوم إلى الصلاة بدافع داخلي وإنما يقوم إليها خوفاً من سطوة الدولة المسلمة أن تعاقبه على ترك الصلاة، فصلاتهم إنما هي مراءاة، يراءون الناس وهم متكاسلون متثاقلون، لا يرجون ثواباً ولا يعتقدون على تركها عقاباً.

التكاسل عن الصلاة تشبه بالمنافقين

التكاسل عن الصلاة تشبه بالمنافقين روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (يكره أن يقوم الرجل إلى الصلاة وهو كسلان، ولكن يقوم إليها طلق الوجه، عظيم الرغبة، شديد الفرح؛ فإنه يناجي الله، وإن الله تجاهه يغفر له، ويجيبه إذا دعاه) يعني: إذا قام الرجل إلى الصلاة وهو كسلان ففيه شبه بالمنافقين الذين إذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى؛ لذلك كان السلف من الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم إذا أقيمت الصلاة يتسارعون إلى الصفوف الأولى لتحصيل الفضيلة. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (احضروا الذكر، وادنوا من الإمام، فإن الرجل لا يزال يتباعد حتى يؤخر في الجنة وإن دخلها). قوله: (احضروا الذكر) يعني: احضروا مجالس الذكر. قوله: (وادنوا من الإمام) فيه أمر بالقرب من الإمام في صلاة الجماعة، والإنسان العاقل الحريص على الثواب الأعظم ينبغي أن يحرص على الاقتراب من الإمام بقدر المستطاع. نقف هنا وقفة نحتاجها، وهي أننا نرى بعض العوام أحياناً في صلاة الجماعة يأتي بعد أن تقام الصلاة ثم يذهب إلى أقصى المسجد من جهة اليمين، ويبدأ الصف من أقصى المسجد ويقول: من أجل أن يجعلنا الله من أهل اليمين! مع أن الصواب أن يكون خلف الإمام مباشرة، لا أن يذهب إلى أقصى اليمين ويقف هناك؛ لأن المقصود من الإمام المتابعة، فأنت كلما اقتربت من الإمام أكثر سمعته أكثر، وبذلك تستطيع أن تتابعه بدقة أكثر، لكن لو كنت بعيداً، ولا يوجد مثلاً كهرباء أو مكبر الصوت، فكيف ستسمع الإمام وتتابعه؟! فمن السنة الدنو من الإمام، فالدنو من الإمام يقتضي أن يكون الصف خلف الإمام مباشرة، وإلا لو كان الصف في أقصى اليمين وهم قليل لبقي الإمام واقفاً ولا يوجد أحد خلفه! وهذا خلاف السنة، فالسنة أن نكون خلف الإمام، ولابد أن نحسن تطبيق المفاضلة بين اليمين واليسار بالنسبة للإمام، ولذلك اختار النبي صلى الله عليه وسلم أفضل موضع لأفضل الخلق بعد الأنبياء وهم الصحابة فقال: (ليليني منكم أولو الأحلام والنهى) يعني: المكان الذي يكون خلف الإمام يخصص للعقلاء والفقهاء وحفظة القرآن الكريم، حتى إذا طرأ شيء أثناء الصلاة فهؤلاء نتيجة فقههم وحفظهم يتمكن الإمام من استخلافهم. إذاً: لا بد أن يكون هناك نوع من التوازن بين الجناحين والوسط الذي هو خلف الإمام مباشرة، والدليل قوله في هذا الحديث: (احضروا الذكر، وادنوا من الإمام) يعني: اقتربوا من الإمام، وبلا شك أن من كان خلف الإمام مباشرة فهو أقرب ممن هو في أقصى الصف. قوله: (فإن الرجل لا يزال يتباعد حتى يؤخر في الجنة وإن دخلها) هذا يتأخر بمرتبته في الآخرة لعدم الهمة في الحرص على الأماكن المقدمة في العبادة؛ لأن القرب من الإمام والتسابق على ذلك علامة الإقبال والحرص على طاعة الله تبارك وتعالى، أما الكسل والتراخي فهو دليل على الزهد في الثواب، ويدل على أنه يتثاقل ويتشبه بالمنافقين إذا قام إلى الصلاة، قال صلى الله عليه وسلم: (لا يزال قوم يتأخرون حتى يؤخرهم الله) فالجزاء من جنس العمل، فإذا كنت تتعمد التأخر عن الصفوف الأولى وتتكاسل عن ذلك، ففي الآخرة يؤخرك الله في الجنة، فتضيع عليك مراتب أعلى كان يمكن أن تنالها.

النفاق يورث الكسل في العبادة

النفاق يورث الكسل في العبادة قال عز وجل في شأن المنافقين: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى} [التوبة:54]. قال ابن عباس: (إن كان في جماعة صلى؛ لأن الناس يراقبونه، وإن انفرد لم يصل؛ لأنه يخشى الناس ولا يخشى الله). هذا شأن المنافق، إن كان في جماعة صلى، وإن انفرد لم يصل؛ لأنه لا يرجو على الصلاة ثواباً، ولا يخشى في تركها عقاباً. فالنفاق يورث الكسل في العبادة لا محالة، وإنما يدفعهم إلى الصلاة الرغبة في إرضاء الناس، والتظاهر بالإيمان، فراراً من الذنب، وسعياً إلى الكسب والمغنم، وإذا قاموا كسالى إلى الصلاة، فلن يؤدوها بخشوع وحضور قلب، بل وهم شاردون عن الخالق إلى المخلوق، كما قال تعالى في شأنهم: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون:4 - 7]. قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسير قوله تعالى: {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون:5]: إما ساهون عن وقتها الأول فيؤخرونها إلى آخره دائماً أو غالباً، وإما ساهون عن أدائها بأركانها وشروطها على الوجه المأمور به، وإما ساهون عن الخشوع فيها والتدبر لمعانيها، فاللفظ يشمل ذلك كله، ولكل من اتصف بشيء من ذلك قسط من هذه الآية، ومن اتصف بجميع ذلك فقد تم له نصيبه منها، وكمل له النفاق العملي. وهذا في حق من يؤخر الصلاة حتى يخرج وقتها، فما بالك بمن يترك الصلاة بالكلية؟! فما بالك بعفيف الجبهة الذي لا يسجد لله أصلاً؟! وقال صلى الله عليه آله وسلم ذاماً لمن أخر الصلاة عن وقتها: (تلك صلاة المنافقين، تلك صلاة المنافقين، تلك صلاة المنافقين، يجلس أحدهم يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني الشيطان -أو على قرني الشيطان- قام فنقر أربعاً لا يذكر الله فيها إلا قليلاً) رواه مسلم وغيره، وهذه هي صلاة العصر. وإذا كان المنافق شر البرية مع أنه يكسل في الصلاة أو يؤخرها عن وقتها، فشر منه من لا يصلي لله أصلاً، ولا يعرف السجود إلى جبهته سبيلاً. قال عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه في شأن صلاة الجماعة: (ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها -أي: عن صلاة الجماعة- إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان يؤتى بالرجل يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف) رواه مسلم. يعني: أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم كانوا يحرصون على أداء صلاة الجماعة، مع أن الله سبحانه وتعالى قد عذرهم بالمرض الشديد الذي يعجزهم عن الخروج إلى الصلاة، ومع ذلك لم تطق قلوبهم أن يتخلفوا عن صلاة الجماعة، فكان الرجل منهم يؤتى به يهادى بين الرجلين، يعني: يسنده اثنان من اليمين ومن الشمال ويمشي بينهما معتمداً عليهما من ضعفه وتمايله، فهؤلاء هم المؤمنون الخلص، عذر الله أبدانهم، لكن مع ذلك لم تطق قلوبهم التخلف عن صلاة الجماعة! وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (كنا إذا فقدنا الرجل في الفجر والعشاء أسأنا به الظن) وهذا الأثر صحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما، وهو يؤيد ما ذكرناه من أن التخلف عن صلاة الجماعة من علامات النفاق، فكيف بترك الصلاة أساساً؟! فما بال من لا يصلي لا جماعة ولا منفرداً؟! لا شك أنه أولى بسوء الظن من هذا. قوله: (كنا إذا فقدنا الرجل في الفجر والعشاء أسأنا به الظن) يعني: شككنا أنه من المنافقين.

موقف المنافقين من صلاة العشاء والفجر

موقف المنافقين من صلاة العشاء والفجر قال صلى الله عليه وسلم مبيناً موقف المنافقين من صلاة العشاء: (ولو علم أحدهم أنه يجد عظماً سميناً لشهدها) رواه مسلم. يعني: لو علم أنه إذا ذهب إلى المسجد سيجد وليمة فيها عظم عليه لحم لسارع إلى ذلك؛ لينال حظاً من الدنيا، وليس لأجل الصلاة التي يترتب عليها الثواب العظيم، بل هو يزهد فيها! إذاً: المنافقون لو لاح لهم شيء من الدنيا يأخذونه، وكانوا على يقين منه؛ لبادروا إليه، فهذا شأنهم ودأبهم، فدل على أن تكاسل المنافق عن الصلاة نتيجة عدم اليقين في الثواب الذي وعده الله به؛ لأنه لو كان على يقين من الثواب لبادر. إن قلت: حي على الشهوات طاروا إليها خفافاً وثقالاً، وإن قلت: حي على الصلاة قاموا إليها كسالى، لهم في المعاصي وثبات، وفي الطاعات سكون وثبات! وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء، وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبواً). قوله صلى الله عليه وسلم: (أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر)، ظاهر الحديث أن المنافقين ربما شهدوا صلاتي الفجر والعشاء، لكن يكونون كسالى، وتكون الصلاة ثقيلة على قلوبهم، وربما يشهدونهما أحياناً، ويتخلفون عنهما في الغالب؛ لأن صلاة الفجر وصلاة العشاء في الظلام فلا يراهم الناس، ولأن صلاة العشاء في آخر اليوم وقد يشق عليهم الخروج من المنزل، وصلاة الفجر تقتضي مفارقة الفراش ونحو ذلك، فيفهم من الحديث أنهم ربما شهدوا صلاتي الفجر والعشاء، أما ما عداهما من الصلوات فإنهم يحضرونها ويشهدونها. وإذا قارنا بين ظاهر الشخص الذي يدعي أنه مسلم وأنه مؤمن ولا يشهد الصلوات الخمس جماعة في المسجد، وبين ظاهر المنافقين في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فإن ظاهر المنافقين أنهم كانوا يخرجون إلى الفجر والعشاء أحياناً، وهي أثقل الصلوات عليهم، فأيهما من حيث الظاهر أكمل؟ ظاهر المنافقين أكمل ممن لا يصلي الصلوات الخمس كلها في جماعة، لكن في الباطن يتفاوتون، لكن كيف ترضى أن يكون ظاهر المنافقين الذين هم في الدرك الأسفل من النار خيراً من ظاهرك؟! يقول صلى الله عليه وسلم: (أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبواً، ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلاً فيصلي بالناس، ثم أنطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة، فأحرق عليهم بيوتهم بالنار). متفق عليه. قال القرطبي رحمه الله تعالى: وذلك لأن صلاة العشاء تأتي وقد أتعبه عمل النهار، فيثقل عليه القيام إليها، وصلاة الصبح تأتي والنوم أحب إليهم من مفروح به، ولولا السيف ما قاموا. فما أصدق قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في حقهم: (إن الله يبغض كل جعظري جواظ، صخاب بالأسواق، جيفة بالليل، حمار بالنهار، عالم بأمر الدنيا، جاهل بأمر الآخرة). قوله: (إن الله يبغض) أي: يكره. قوله: (كل جعظري) الجعظري هو الفظ الغليظ المتكبر. قوله: (جواظ) هو الجموع المنوع، يكثر جمع المال، ثم لا يؤدي حق هذا المال من الزكاة وغيرها. قوله: (صخاب في الأسواق) يقال: تصاخبوا أي: كثر سخبهم، وصخبهم، بالسين والصاد، وهو الصياح والضجيج، فالصخب في الأسواق مما يذم به الإنسان، كما ينادي الباعة على الخضروات والفواكه ونحوها، وللأسف الشديد ما يحدث في الأسواق يحدث أمام المساجد عند خروج المصلين من صلاة الجمعة، تجد رفع الأصوات عند بيع الكتب أو الأشرطة، تجد بعضهم يقول بصوت مرتفع: كتاب الشيخ فلان، وكأنه يبيع الشيخ نفسه، أو شريط الشيخ فلان، فرفع الصوت ليس من أخلاق المسلمين، كما جاء في صفة النبي صلى الله عليه وسلم في التوراة: (ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق)، ورفع الصوت شيء مذموم؛ وذلك لقوله تعالى: {وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان:19]، فالصخب ورفع الصوت لا يليق بوقار المسلم، وكذلك عندما يقف أمام بيت صاحبه في الشارع ويناديه بصوت مرتفع: يا فلان! سواء كان في الليل أو في أول النهار، فهذا أيضاً مما لا يليق بالمسلم؛ لأنه يسلك سلوك الأعراب الجفاة الغلاظ الذين كانوا ينادون النبي صلى الله عليه وسلم من وراء الحجرات، هذا مما ينبغي أن يتنزه عنه المسلم. قوله: (جيفة بالليل) أي: لا يذكر الله سبحانه وتعالى الليل كله، ملقى على فراشه كأنه جيفة منتنة ميتة، جيفة بالليل لا صلاة عشاء ولا قيام ولا فجر ولا ذكر. قوله: (حمار بالنهار) أي: طول النهار يعمل ويسعى وراء الدنيا، ويكد ويكدح كالحمار الذي يشقى ولا يتعبد. قوله: (عالم بأمر الدنيا) أي: يعرف تفاصيل أتفه الأمور، لاعب الكرة الفلاني تزوج كذا، وعنده أولاد كذا، ويحب اللون كذا، والأكل المحبوب له كذا، وكل هذه التفاهات! كذلك تجده يعرف أنواع الخشب وأنواع الأقمشة وأنواع كذا من علوم الدنيا، ثم هو لا يدري بما يجيب الملكين حينما يسألانه في قبره: (من ربك؟! وما دينك؟! وما تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم عليه الصلاة والسلام؟!). فالمنافقون خشب بالليل صخب بالنهار، إذا جن عليهم الليل سقطوا نياماً كأنهم خشب لا يذكرون الله تعالى ولا يصلون، فإذا أصبحوا تصاخبوا ورفعوا أصواتهم على الدنيا شحاً وحرصاً؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام في حق الواحد منهم: (جيفة بالليل حمار بالنهار). قال قتادة: كان يقال: ما سهر الليل منافق، أي: ما سهر الليل منافق في العبادة، كما جاء في الحديث: (خصلتان لا تجتمعان في منافق: حسن سمت، ولا فقه في الدين). لا يمكن أن تجتمع هاتان الخصلتان في المنافق، قد يكون عنده حسن السمت، لكن ليس عنده فقه في الدين. وعندما يحاول المنافقون مشاركة المؤمنين في سجودهم لربهم عز وجل يوم القيامة، يحال بينهم وبين هذا التكريم، وتصبح ظهورهم كصياصي البقر، لا يستطيعون الانحناء، كلما أراد أحدهم أن يسجد، خر على قفاه، فيبوءون بالذل والخزي والهوان، يقول الله سبحانه وتعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم:42]. وهذه علامة بين المؤمنين وبين ربهم تبارك وتعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} [القلم:42 - 43]. قوله: (يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ) يعني: كانوا يسمعون الأذان في الدنيا (وَهُمْ سَالِمُونَ) أي: وهم في صحة وعافية وإمكانية، ومع ذلك يتخلفون عن صلاة الجماعة، فلذلك استدل بعض العلماء بهذه الآية على وجوب صلاة الجماعة؛ لأن الذم هنا على ترك صلاة الجماعة. إذاً: الدعاء إلى السجود يكون عن طريق الأذان، والأذان يكون لصلاة الجماعة، فالجزاء من جنس العمل كما تركوا الصلاة اختياراً في الدنيا وهم قادرون؛ يجازون في الآخرة أنهم يمنعون من السجود في وقت التكريم والنجاة.

ترك الصلاة سواد وظلمة وهلكة في الدنيا والآخرة

ترك الصلاة سواد وظلمة وهلكة في الدنيا والآخرة إن ترك الصلاة سواد وظلمة وهلكة في الدنيا والآخرة، فترك الصلاة يظلم القلب، ويسود الوجه؛ لأن الطاعة نور، والمعصية ظلمة، وكلما قويت الظلمة ازدادت الحيرة حتى يقع تاركها في الضلالات وهو لا يشعر، كأعمى خرج في ظلمة لوحده. وتقوى هذه الظلمة حتى تظهر في العين وتعلو الوجه، فيصير سواداً يدركه أهل البصائر، وتحصل حين ذلك الوحشة بينه وبين الناس سيما أهل الخير، فيجد نفوراً من أهل الخير ومن الصالحين من عباد الله، لا يشعر بالأنس معهم، بل يشعر بالوحشة بينه وبينهم، وكلما قويت تلك الوحشة بعد منهم، وحرم بركة النفع بهم، وقرب من حزب الشيطان بقدر ما بعد من حزب الرحمن، إلى أن ينتهي به الحال في المآل إلى أن يقترن بصحبة السوء والأشرار يوم العرض على الملك الجبار، {أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المجادلة:19]. عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من حافظ على الصلاة كانت له نوراً وبرهاناً ونجاةً يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم يكن له نور ولا برهان ولا نجاة يوم القيامة، وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأبي بن خلف) أي: يحشر مع هذه الصحبة الخبيثة. يقول بعض أهل العلم: وإنما يحشر تارك الصلاة مع هؤلاء الأربعة: وهم قارون وفرعون وهامان وأبي بن خلف؛ لأنه إنما يشتغل عن الصلاة بماله أو بملكه أو بوزارته أو بتجارته، فإن اشتغل بماله عن الصلاة حشر مع قارون، وإن اشتغل بملكه حشر مع فرعون، وإن اشتغل بوزارته حشر مع هامان وزير فرعون، وإن اشتغل بتجارته حشر مع أبي بن خلف تاجر الكفار بمكة. فما أنقص عقل من باع مرافقة الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين بمرافقة الذين غضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم جهنم وساءت مصيراً!

ترك الصلاة من أسباب سوء الخاتمة

ترك الصلاة من أسباب سوء الخاتمة إن ترك الصلاة من أسباب سوء الخاتمة والعياذ بالله، قال الإمام أبو محمد عبد الحق رحمه الله تعالى، وهو مشهور جداً بـ ابن عطية صاحب التفسير المعروف: اعلم أن سوء الخاتمة -أعاذنا الله منها- لا تكون لمن استقام ظاهره وصلح باطنه. فالإنسان إذا وفق إلى الأعمال الصالحة وحافظ عليها حتى الممات، فإنه يوفق إلى حسن الخاتمة. وسوء الخاتمة إنما تكون لمن كان عنده فساد في العقل أو إصرار على الكبائر وإقدام على العظائم، فربما غلب ذلك عليه حتى ينزل به الموت قبل التوبة، فيغتنمه الشيطان عند تلك الصدمة ويختطفه عند تلك الدهشة والعياذ بالله، أو يكون ممن كان مستقيماً ثم يتغير عن حاله ويخرج عن سننه ويأخذ في طريقه، فيكون ذلك سبباً لسوء خاتمته وشؤم عاقبته، نسأل الله العافية. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالخواتيم) رواه البخاري. وهذا مثل رجل صلى صلاة طويلة خشع فيها وأطال ركوعها وسجودها وكذا وكذا، ثم قبل أن يسلم مباشرة نقض وضوءه، فهل تقبل تلك الصلاة أم أنها تبطل كلها؟ تبطل كل الصلاة التي مرت، وكذلك مثل من صام يوماً طويلاً شديداً حره ثم أفطر قبل المغرب بدقيقة واحدة، فإنه يبطل كل ما مضى من صيام النهار. فكذلك العمر فإن العبرة بالخواتيم، ومن ثم (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا استودع رجلاً مسافراً يقول له: أستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك). لأن العبرة بخواتيم الأعمال. ويقول صلى الله عليه وسلم: (يبعث كل عبد على ما مات عليه) رواه مسلم. كذلك الذي يصلي وهو يسيء صلاته فإنه متوعد بسوء الخاتمة، فكيف بمن يترك الصلاة بالكلية؟! ورد في الأثر: (أن حذيفة رضي الله عنه رأى رجلاً لا يتم ركوعه ولا سجوده، فقال: لو مات هذا على حاله هذه مات على غير ملة محمد صلى الله عليه وسلم). وكم شاهد الناس من أحوال المحتضرين من تاركي الصلاة عبراً! والذي يخفى عليهم أعظم وأعظم، وكيف يوفق لحسن الخاتمة من أغفل الله قلبه عن ذكره، وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا؟! وكيف لا تكون خاتمته سيئة وهو مضيع للصلاة، وعنده إصرار وثبات على هذا العهد الشيطاني إلى أن تأتيه الغرغرة وتخرج روحه، وهو مصر على ترك الصلاة؟! فأي شؤم أكثر من شؤم ترك الصلاة!

ترك الصلاة من أسباب عذاب القبر

ترك الصلاة من أسباب عذاب القبر إن ترك الصلاة من أسباب عذاب القبر، فأول شؤمه بالنسبة لمراحل الانتقال إلى الدار الآخرة أنه إذا مات وخرجت روحه فإنه يعذب في القبر، فإذا قامت القيامة وبعث وحوسب يكون من أصحاب سقر، قال عز وجل: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [المدثر:42 - 43]. يقول الله تبارك وتعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا} [طه:124]. فسرت المعيشة الضنك بعذاب القبر، ولا ريب أن عذاب القبر من المعيشة الضنك التي يعانيها المعرض عن الله في الدنيا وفي البرزخ ويوم المعاد، وهذه الآية تحتاج من الإنسان أن يتدبرها كثيراً؛ لأنها كفيلة بإصلاح ما يفسد من أحواله. وقبل هذه الآية يقول عز وجل: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} [طه:123]. قوله: (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ) أي: من اتبع الوحي فإنه لا يضل ولا يشقى، فمن يبحث عن السعادة والراحة فعليه أن ينظر إلى شرع الله وينفذه. ثم قال عز وجل: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:124]. قوله: (مَعِيشَةً ضَنكًا) هي عامة تعم المعيشة الضنك في الدنيا وعند الاحتضار وفي القبر والآخرة. فما من شخص يحيد عن طريق الله سبحانه وتعالى ويغرق فيما حرم الله أو يضيع الواجبات التي فرضها الله، فلا شك أنه لا يكون سعيداً سعادة حقيقية، لا يمكن أبداً مهما أظهر خلاف ذلك، قال الحسن البصري رحمه الله: إنهم وإن هرطقت بهم الجمال، وهملجت بهم البراذين، فإن ذل المعصية لا يفارق رقابهم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه. من عصى الله لابد أن يجد هذا الذل والشقاء في قلبه، وتكون السعادة مزعومة كاذبة، والابتسامات العريضة تخفي وراءها مرارة وذل المعصية، فهذه حقيقة من حقائق هذا الوجود. يقول عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ} [الأعراف:152]، فكل صاحب معصية أو صاحب بدعة يجد ذلة تغشاه وتسود قلبه. أهل الغرب انتهكوا كل حرمات الله تبارك وتعالى، واستحلوا أشد أنواع الفواحش، حتى التي تتصادم مع الفطرة الإنسانية، مدعين أن هذا يعالج اليأس وكذا وكذا إلى آخره؛ فنجد أن أكثر نسب الانتحار في هؤلاء المنحرفين، فهم لم يستريحوا لما استحلوا هذه المحرمات، فاستحلوها كي يهربوا من تأنيب الضمير، والشعور بالوزر أو بالذنب، وبالرغم من ذلك لما فروا إلى استحلالها عظم عليهم الاكتئاب، وازدادت الأمراض النفسية، وارتفعت جداً فيهم نسب الانتحار، فهذا دليل على أن كل من يصادم الفطرة ويحيد عن شرع الله تبارك وتعالى، فإنه لابد أن يعيش المعيشة الضنك، وما أحوال الإيدز والأمراض الجنسية المعروفة عنا ببعيدة. قول الله سبحانه وتعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا} [طه:124] هذا في الدنيا، وبعض العلماء -كما ذكرنا- فسر المعيشة الضنك بأنها عذاب القبر، ولاشك أن عذاب القبر هو نوع من أنواع المعيشة الضنك التي يعانيها المعرض عن الله في الدنيا. ولا تتصور أن الضنك في المعيشة هو بقلة ذات اليد أو بالفقر أو بكذا أو بكذا، فإن الغنى الحقيقي غنى القلب وقناعته بالله ورضاه عن الله تبارك وتعالى، فالمعرض عن الله في شقاء حتى لو كان أغنى أغنياء الدنيا، وكان يتقلب في نعيمها ليل نهار، لكنه أشقى الأشقياء، ويسلط عليه من أنواع التكدير والتنغيص ما يحول بينه وبين التمتع بالدنيا، نجد المؤمن الفقير المعدم المحافظ على طاعة الله سبحانه وتعالى يمشي متنقلاً بجنة في صدره كما ذكر ذلك بعض الصالحين. إذاً: عذاب القبر من المعيشة الضنك التي يعانيها المعرض عن الله في الدنيا وفي البرزخ ويوم المعاد. يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: ولا تظن أن قوله تعالى: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار:13 - 14] يختص بيوم المعاد فقط، بل هؤلاء في نعيم في دورهم الثلاثة: في الدنيا، والبرزخ، والآخرة، والفجار في جحيم في دورهم الثلاثة. وتارك الصلاة عامل بعمل الفجار أهل النار، فإن لم يتداركه الله سبحانه وتعالى بتوبة نصوح، فإنه يصحبه عمله السيئ إلى داخل قبره، قال النبي صلى الله عليه وسلم في شأن الفاجر بعد دفنه: (ويأتيه رجل قبيح الوجه، قبيح الثياب، منتن الريح فيقول: أبشر بما يسوءك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول: وأنت فبشرك الله بالشر، من أنت؟! فوجهك الوجه يجيء بالشر! فيقول: أنا عملك الخبيث، ويظل معه في القبر إلى يوم القيامة). فيبقى في عذاب أليم ممتد إلى يوم القيامة. وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رأيت الليلة رجلين أتياني فأخذا بيدي، إلى أن قال: وأتينا على رجل مضطجع وإلى جانبه آخر قائم عليه بصخرة، وإذا هو يهوي بالصخرة لرأسه فيثلغ رأسه -يعني: يشدخ رأسه- فيتدهده الحجر هاهنا -يعني: يتدحرج الحجر- فيتبع الحجر فيأخذه، فلا يرجع إليه حتى يعود رأسه كما كان، ثم يعود عليه فيفعل به مثل ما فعل في المرة الأولى). إلى آخر الحديث. وفيه: (أن الملكين فسرا للنبي صلى الله عليه وسلم ما رأى فقالا: أما الرجل الذي أتيت عليه يثلغ رأسه بالحجر، فإنه الرجل يأخذ القرآن فيرفضه، وينام عن الصلاة المكتوبة)، وفي رواية: (فيفعل به ذلك إلى يوم القيامة).

ترك الصلاة من أسباب دخول سقر

ترك الصلاة من أسباب دخول سقر إن ترك الصلاة شعار أصحاب سقر يقول عز وجل: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ * لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ * عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} [المدثر:27 - 30] ثم يقول الله سبحانه وتعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [المدثر:38 - 43] فهي أول جريمة استحقوا بها دخول سقر، ثم قال عز وجل: {وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ} [المدثر:44 - 45]. فتارك الصلاة في سقر، والمستكبرون عن الركوع لله عز وجل والمستهترون بمواقيت الصلاة لهم الويل، يقول سبحانه: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} [المرسلات:48 - 49]، وقال تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون:4 - 5]. فيا تارك الصلاة! أليس إقامة خمس صلوات في اليوم والليلة أهون من شرب الصديد ومعاناة العذاب الشديد؟!

ترك الصلاة من أسباب الانغماس في الشهوات

ترك الصلاة من أسباب الانغماس في الشهوات إن ترك الصلاة سبب الغرق في الشهوات، فهناك تلازم وارتباط وثيق بين إضاعة الصلاة وبين الغرق في الشهوات والتلوث بالخطيئات؛ لأن من ضيع الصلاة لابد أن يقع في الشهوات، ومن حافظ على الصلاة حفظته الصلاة من الشهوات. أخبر الله سبحانه وتعالى عن قوم أضاعوا الصلاة بعد أن كان آباؤهم مهديين متمسكين بها محافظين عليها متقربين إلى الله بها، يقول عز وجل: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ} [مريم:59]. قوله: (خَلْفٌ) أي: في الشر، والأصل أن الخلف في الخير كقول من يقول: خير خلف لخير سلف، وشر خلف لشر سلف، لكن هؤلاء كانوا شر خلف لخير سلف، فآباؤهم كانوا صالحين، قال الله: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ} [مريم:59] يعني: من يضيع الصلاة لا بد أن يسقط صريعاً للشهوات. {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئًا} [مريم:59 - 60]. فمن عقوبة السيئة السيئة بعدها، ومن ضيع الصلاة وهانت عليه فلابد أن يهون عليه ما عداها من حدود الله، من ضيع الصلاة فهو لما سواها أضيع، ومن حافظ عليها فهو لما سواها أحفظ. يقول الإمام البيهقي رحمه الله تعالى: فذكر الأنبياء والمتقدمين ومدحهم في آخر سورة مريم؛ لأنهم كانوا {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [مريم:58]، ثم ذكر من خالف مذهبهم، فذمهم فقال: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ} [مريم:59]. ثم أخبر بما يؤديهم ذلك إليه من سوء العاقبة فقال: {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم:59] يعني -والله أعلم- لا يرشد أمرهم مع إضاعة الصلاة، ولكنهم لا يزالون يقعون في فساد بعد فساد، كمن يضل الطريق فلا يزال يقع في مهلكة بعد مهلكة، إلى أن ينقطع فيهلك، فدل ذلك على عظم قدر الصلاة، وجلال موقعها من العبادات. ومن ثمرات الصلاة أنها تنهى عن الفحشاء والمنكر كما قال الله: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45]، والفحشاء والمنكر ينهيان عن الصلاة، فهناك تلازم بين ترك الصلاة وبين اتباع الشهوات، وفي طليعة الفحشاء والمنكر يأتي الخمر والقمار اللذان يستعبدان الإنسان لرغائبه وشهواته، وينهيانه عن الصلاة، يقول تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ} [المائدة:91]. فالصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، والفحشاء والمنكر ينهيان عن الصلاة. إذاً: الخمر والميسر مما يصدان الإنسان عن الصلاة، فشارب الخمر يذهب عقله الذي ميزه الله به عن الحيوانات، فالعقل نعمة وهو يتعاطى ما يذهب به عقله، فيتصرف كالحيوان البهيم، يتجرد من ملابسه، ويتمرغ في الوحل والطين، ويهذي بألفاظ قبيحة ونحو ذلك، استوى مع البهائم بإرادته بتعاطي ما يزيل عقله! فأين السكران من الصلاة؟ كذلك يتعاطى الميسر له سلطان رهيب جداً على من يقعون في أسره، بحيث يضيعون الصلاة اشتغالاً بالميسر، فلذلك كان الميسر مما يصد عن ذكر الله وعن الصلاة. إذاً: الفحشاء والمنكر تنهيان عن الصلاة، ولأجل ذلك عظمت مصيبة تارك الصلاة بسبب السكر، وتضاعفت عقوبته، فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من ترك الصلاة سكراً مرة واحدة فكأنما كانت له الدنيا وما عليها فسلبها) أي: فمصيبته مثل مصيبة شخص كان يملك كل الدنيا وما عليها ثم سلب هذه النعمة، ثم يقول عليه الصلاة والسلام: (ومن ترك الصلاة سكراً أربع مرات كان حقاً على الله عز وجل أن يسقيه من طينة الخبال، قيل: وما طينة الخبال يا رسول الله؟! قال: عصارة أهل جهنم). وهذا حديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم. أهل جهنم يسيل منهم الصديد والقيح والدم وهذه الأشياء، فعصارة أهل جهنم هي طينة الخبال التي يسقاها من ترك الصلاة بسبب السكر وبسبب الخمر أربع مرات. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يعافينا وسائر المسلمين من كل بلاء، وأن يجعلنا من مقيمي الصلاة وأهلها. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

لماذا نصلي؟ [10]

لماذا نصلي؟ [10] إن ترك الصلاة مصيبة وبلاء، فبتركها يفقد تاركها الإحساس والشعور بالمصائب والعقوبات، ويكون ذلك سبباً في استحواذ الشيطان على العبد، وهو خيانة للأمانة، وسبب من أسباب التعرض لعقوبة الله سبحانه وتعالى. ومما يدل على أهمية الصلاة حض الشرع على تعليمها للأطفال، وأمرهم بالمحافظة عليها في سن مبكرة، حتى إذا ما كبروا اعتادوا عليها، وكانت لها منزلة في قلوبهم.

ترك الصلاة مصيبة وبلاء

ترك الصلاة مصيبة وبلاء الحمد لله حق حمده، والصلاة والسلام على محمد رسوله وعبده، وعلى آله وصحبه من بعده. أما بعد: فقد شرعنا في بيان شؤم ترك الصلاة على تاركها، وبينا أن ترك الصلاة كفر، وأنه من أكبر الكبائر الموبقة، وأنه نفاق، وأنه سواد وظلمة وهلكة في الدنيا والآخرة، وأنه من أسباب سوء الخاتمة، وأنه من أسباب عذاب القبر، وأنه شعار أصحاب سقر، وأنه سبب الغرق في الشهوات، وأنه مصيبة وبلاء، فعن نوفل بن معاوية رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من فاتته الصلاة فكأنما وتر أهله وماله) أي: من فاتته أي صلاة من الصلوات حتى خرجت عن وقتها فقد أصيب بمصيبة كبرى، وفاجعة عظمى، وصار كمن أصيب في أهله وماله جميعاً، ولم يبق له أهل ولا مال، ومثل ذلك قوله تعالى: (وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [محمد:35]. قال الخطابي: ومعنى (وتر) أي: نقص وسلب، فبقي وتراً وحيداً بلا أهل ولا مال، والمعنى: فليكن حذره من فوتها كحذره من ذهاب أهله وماله. وفي لفظ عند عبد الرزاق: (لأن يوتر أحدكم أهله وماله خير له من أن يفوته وقت صلاة). وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الذي تفوته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله) متفق عليه. والموتور: من أخذ أهله وماله وهو ينظر إليهم، ولا شك أن ذلك أشد لغمه، ومن فاتته الصلاة فقد أشبه هذا الرجل؛ لأنه اجتمع عليه أنواع الغم والهم، فاجتمع عليه غم الإثم والذنب العظيم بتفويت وتضييع الصلاة، وغم فقد الثواب الذي كان سيناله لو حافظ على الصلاة، كما يجتمع على الموتور غمان: غم السلب، وغم الطلب بالثأر. وعن بريدة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من ترك صلاة العصر حبط عمله) رواه البخاري. وقد توعد الله عز وجل من أعرض عن ذكره فقال سبحانه وتعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:124] أي: فليبشر تارك الصلاة بمحاربة الله إياه، ولا شك أن الصلاة أعلى أنواع الذكر؛ وذلك لقوله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه:14]، بل هي تشتمل على كل أنواع الذكر. إذاً: فليعلم تارك الصلاة أنه لإعراضه عن ذكر الله سيحاربه الله بالمعيشة الضنك، وأن الله يحشره يوم القيامة أعمى، فسوف يحاربه الله بتنغيص عيشه، وتكدير قلبه، وتشتيت همه، وتفريق شمله، وحضور فقره، وفساد أحواله، ولعذاب الآخرة أشد وأخزى.

ترك الصلاة يفقد الإحساس والشعور بالمصائب والعقوبات

ترك الصلاة يفقد الإحساس والشعور بالمصائب والعقوبات قد ترى تارك الصلاة الأثيم رائحاً غادياً لا يحس بعظم وزره وشناعة فعله، ولا يشعر بعقوبة الله إياه، كما يقول الشاعر: وما لجرح بميت إيلام فاعلم أن أشد العقوبات ما خفي ودق، ففقدان الشعور بالمصيبة هو في حد ذاته أعظم مصيبة؛ لأن الإنسان قد يعاقب بأشد أنواع العقوبة وأخطرها وهو مع ذلك لا يحس بها. فالله عز وجل يعاقب بأنواع من العقوبات: عقوبات كونية قدرية كالزلازل وغيرها من المصائب المعروفة، وعقوبات شرعية كإقامة الحدود مثلاً على ذنوب ومعاص معينة، وهناك العقوبة بالأمراض والابتلاءات، وهناك العقوبة بتسليط الظالمين، فالعقوبات متعددة، وأنواعها كثيرة، إلا أن أخطر أنواع العقوبات أن يعاقب الإنسان ولا يحس أنه يعاقب؛ لأنه إذا فقد الإحساس فإنه يرتكب إثماً وبالتالي لن يشرع في إصلاح أحواله أو التوبة إلى الله سبحانه وتعالى؛ لأنه ممن زين له سوء عمله فرآه حسناً، فإذا رأى الإنسان الحسن قبيحاً والقبيح حسناً، فكيف سيتوب منه؟! فهذا بلا شك من أخطر أنواع العقوبات، وهو ما خفي ودق ولم يتفطن إليه صاحبه، فصاحب هذه العقوبة الخفية يغفل عن مصابه، فهو بمنزلة السكران والمخدر الذي لا يشعر بالألم فلا يسعى في خلاص نفسه، وفاقد الإحساس مثل الشخص الذي يبتلى بمرض السكر، ولا يحترم نظام الأدوية والأغذية إلى آخره؛ فتبدأ الأضرار تتفاقم عليه لاسيما على أعصابه، فمريض السكر يقولون له: اهتم بالقدم؛ لأن القدم عضو خطير جداً في مرض السكر؛ لأنه لو حصلت مضاعفات في أعصاب القدم يفقد الإحساس، وربما ينخلع النعل من رجليه ولا يشعر به، فبالتالي يدخل في قدمه زجاج أو أي نوع من هذه الأشياء فتتفاقم المشكلة إلى أن تنتهي أحياناً إلى حصول الغرغرينة، ويتحتم قطع القدم أو الساق؛ بسبب عدم الإحساس، فهو لما لم يحس أصيب وهو لا يشعر، وتفاقمت المصيبة حتى انتهت بالبتر ونحو ذلك كما هو معلوم، كذلك صاحب الغفلة قد يعاقب ويصاب دون أن يشعر بأن هذه المصيبة تهدد كيانه، فهو كالسكران وكالمخدر تحت البنج الذي لا يشعر بالألم، ولا يسعى في خلاص نفسه، ولذلك جعل النبي صلى الله عليه وسلم التألم للذنب من علامات صحة القلب وبقاء الحياة فيه، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا سرتك حسنتك وساءتك سيئتك فأنت مؤمن) فالمؤمن ليس معصوماً؛ لأنه لا معصوم إلا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فمن سرته حسنته، وساءته سيئته، فهو مؤمن؛ لأنه لم يفقد الإحساس بالذنوب، ولا زال يستطيع أن يحكم على القبيح بأنه قبيح، ويرى الحسن في صورة الحسن. إذاً: وجود الإحساس في القلب والتألم للمعصية والسرور بالطاعة علامة على حياة هذا القلب. فما دام هناك قلب ينبض، وما دام هناك دم يجري في العروق ويسري وما دامت الروح لم تغادر البدن، فهناك أمل وفرصة أمام الإنسان ليرتقي إلى أعلى مراتب العبودية، حتى يصل إلى مرتبة الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ، وهناك فرصة أن يراجع الإنسان نفسه ويعود إلى ربه، يقول الله سبحانه وتعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الحشر:19]. قوله: (نسوا) أي: ضيعوا أوامر الله سبحانه وتعالى ولم يرقبوه. قوله: (فأنساهم أنفسهم) يعني: تركهم الله سبحانه وتعالى مثل قوله تعالى: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة:67] يعني: فتركهم؛ لأن النسيان في حق الله ليس هو المضاد للذكرى أو التذكر، وإنما نسيهم بمعنى تركهم، وهذا أحد معاني النسيان، وقد فسر به قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ} [طه:115] أي: ترك على أحد التفسيرين. قوله: (نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ) يعني: فتركهم ولم يوفقهم إلى التوبة، فترى الشخص المتلبس بمصيبة ترك الصلاة -التي هي أخطر ما يصيب الإنسان في دينه- لا يبالي بها، وتراه يغدو ويروح وهو مبتسم، وربما سخر من الذين يصلون أو تهكم بهم وغير ذلك، فهذا ينطبق عليه قوله تعالى: (نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ) فلو كان عنده إحساس لبكى على مصيبة عدم الإحساس ونسيان الله إياه، فهؤلاء لم يوفقهم الله سبحانه وتعالى إلى التوبة لما سلط على قلوبهم من الغفلة التي تزهدهم في طاعة الله سبحانه وتعالى. عن أبي هريرة وابن عمر رضي الله عنهما أنهما سمعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على أعواد منبره: (لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات -أي: عن تركهم صلاة الجمعة- أو ليختمن الله على قلوبهم، ثم ليكونن من الغافلين) فيسعى هذا الغافل في صلاح دنياه ولو خرب أخراه، وهو يحسب أنه يحسن صنعاً، فتراه إذا أصيب بمصيبة في الدين لا يبالي بها، أما لو أصيب بمصيبة في الدنيا -كما لو ضاع منه جنيه أو خمسة جنيهات- لأقام مأتماً وعويلاً، وحزن عليها حزناً شديداً. يقول الإمام الحسن البصري رحمه الله تعالى في أهل الدنيا: بلغ والله من علم أحدهم بالدنيا أنه ينقد الدرهم فيخبرك بوزنه ولا يحسن أن يصلي. يعني: إذا أمسك الدرهم وزنه في غاية الدقة بيديه، كأن يديه ميزان من شدة الخبرة في أمور الدنيا، وهو لا يحسن أن يصلي، فكيف لو رأى الحسن ما نحن عليه الآن في هذا الزمان من غرق الناس في أمور الدنيا، والخبرة بأتفه الأشياء في أمور الدنيا مع الجهل الأعمى بالدين وبالتوحيد ونحو ذلك من الأمور الهامة، فلو علم ذلك لاحتقر هذا المثال الذي ضربه بالنسبة لما نحن عليه الآن. وقال أبو بكر بن عياش: مسكين محب الدنيا يسقط منه درهم فيظل نهاره يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، وينقص عمره ودينه ولا يحزن عليهما! الأيام تجري، والعمر في الحقيقة ينقص، لا يزيد، ومع ذلك بعضهم يعمل حفلة عيد ميلاده ويقولون له: عقبى لمائة سنة! وهذه في الحقيقة مصيبة كان عليه أن يحزن حزناً شديداً على الأيام التي فاتته؛ لأنه صار أقرب إلى القبر، بل هو من يوم ولد بل من يوم أن كان جنيناً في بطن أمه بل من يوم كتب في اللوح المحفوظ قبل أن يخلق الله السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وجرى القلم بما هو كائن؛ كتب أجله، وعدد الأنفاس التي يتنفسها، فبالتالي هو في كل لحظه يقترب أكثر إلى القبر. إذاً: العاقل يحزن لفوات عمره ولا يقيم احتفالاً، وهذا مثال من ينقص عمره ودينه ولا يحزن، ولا يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، وإنما يفجع لمصائب الدنيا. يقول الشاعر: ومن البلية أن ترى لك صاحباً في صورة الرجل السميع المبصر فطن بكل مصيبة في ماله وإذا يصاب بدينه لم يشعر وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: (ولا تجعل مصيبتنا في ديننا)؛ لأن المصيبة في الدنيا تهون، وكل ما يفقده الإنسان من الدنيا يمكن أن يعوض، إذا مرض فإن المرض تعقبه العافية، وإذا فقد مالاً فيمكن أن يعوض عليه بمال آخر ويخلف الله سبحانه وتعالى عليه. من كل شيء إذا ضيعته عوض وما من الله إن ضيعته عوض فالله سبحانه وتعالى إذا كسبته يعوضك عن كل شيء، وإذا خسرته فلا يعوضك عن الله شيء. يروى في الأثر الإلهي: (ابن آدم خلقتك لعبادتي فلا تلعب، وتكفلت برزقك فلا تتعب، ابن آدم! اطلبني تجدني، فإن وجدتني وجدت كل شيء، وإن فتك فاتك كل شيء، وأنا أحب إليك من كل شيء).

ترك الصلاة من أسباب استحواذ الشيطان على العبد

ترك الصلاة من أسباب استحواذ الشيطان على العبد ترك الصلاة سبب استحواذ الشيطان على العبد، يقول الله سبحانه وتعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ * حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ * وَلَنْ يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [الزخرف:36 - 39]. فمن يضيع الصلاة يضيعه الله ويخذله ويعاقبه بأن يقيض له شيطاناً يقارنه فلا يفارقه لا في الإقامة ولا في المسير، بل هو مولاه وعشيره، فبئس المولى وبئس العشير، فيتخذ قلبه المريض وطناً، ويعده مسكناً، وإذا تصبح بطلعته حياه وقال: فديت من قرين لا يفلح في دنياه ولا أخراه. قرينك في الدنيا وفي الحشر بعدها فأنت قرين لي بكل مكان فإن كنت في دار الشقاء فإنني وأنت جميعاً في شقى وهوان وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من ثلاثة في قرية ولا بدو لا تقام فيهم الصلاة إلا استحوذ عليهم الشيطان، فعليكم بالجماعة، فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية). قوله: (ما من ثلاثة في قرية ولا بدو لا تقام فيهم الصلاة إلا استحوذ عليهم الشيطان) فعدم إقامتهم للصلاة يسبب استحواذ الشيطان عليهم. قوله: (فعليكم بالجماعة) أي: بصلاة الجماعة. قوله: (فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية) فبين النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن الشيطان ذئب الإنسان، وهو أعدى عدو له، وكما أن الطائر كلما علا بعد عن الآفات، وكلما نزل احتوشته الآفات، فكذلك الشاة كلما كانت أقرب من الراعي كانت أسلم من الذئب، وكلما بعدت عن الراعي كانت أقرب إلى الهلاك، فأحمى ما تكون الشاة إذا قربت من الراعي، وإنما يأخذ الذئب من الغنم أبعدهن عن الراعي. قال بعض السلف: رأيت العبد ملقى بين الله سبحانه وبين الشيطان، فإن أعرض الله عنه تولاه الشيطان، وإن تولاه الله لم يقدر عليه الشيطان. وبين صلى الله عليه وسلم مظهراً من مظاهر كيد الشيطان لصد المؤمن عن ذكر الله وعن الصلاة، ودلنا على ما يحبط هذا الكيد، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد) يعني: أنه يسحر الإنسان بنوع معين من السحر ليمنعه من القيام كما يعقد الساحر عند سحره، يقول تعالى: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} [الفلق:4] فالشيطان يفعل نفس الشيء بأن يعقد ثلاث عقد على قافية رأس الإنسان إذا أراد أن ينام، فالذي يخذله الله سبحانه وتعالى يعمل فيه هذا السحر الشيطاني، والذي يوفقه الله سبحانه وتعالى يصرف عنه ذلك السحر، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من ذكر ولا أنثى إلا على رأسه حرير -يعني: حبل- معقود ثلاث عقد حين يرقد). ويقول صلى الله عليه وسلم: (يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد، يضرب على كل عقدة: عليك ليل طويل فارقد -يغريه بالتمادي في النوم-، فإن استيقظ فذكر الله تعالى انحلت عقدة، وإن توضأ انحلت عقدة، وإن صلى انحلت عقده كلها، فأصبح نشيطاً طيب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان) متفق عليه. فالذي ينام عن الصلاة قد استسلم لعقد الشيطان ووسوسته حتى صار عدوه مستحوذاً على نفسه مسيطراً عليه. عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم رجل ثقيل ما زال نائماً حتى أصبح، ما قام إلى الصلاة، فقال صلى الله عليه وسلم: بال الشيطان في أذنه) رواه البخاري. وفي رواية ابن حبان: (إنه نام عن الفريضة)، فالشيطان استحوذ عليه واستخف به حتى اتخذه كالكنيف المعد للبول، إذ من عادة المستخف بالشيء أن يبول عليه، فمعنى أن الشيطان بال في أذنه أي: يستخف به ويستهتر به.

ترك الصلاة خيانة للأمانة

ترك الصلاة خيانة للأمانة إن ترك الصلاة خيانة للأمانة، يقول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال:27] ولا شك أن المعاصي -كلها وفي مقدمتها ترك الصلاة- خيانة لله عز وجل. ويقول الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء:58]، وقال جل وعلا: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب:72]، وقال تعالى في وصف المؤمنين: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} [المؤمنون:8]، والأمانة من حيث المعنى أوسع من مجرد حفظ الودائع، فهي التكاليف الشرعية التي ائتمن الله عباده عليها وأمرهم بها، بحيث إذا فعلوها أثيبوا وإن تركوها عوقبوا. قال أبو العالية: الأمانة ما أمروا به أو نهوا عنه. والصلاة من أعظم الأمانات التي كلفنا الله حفظها، فمن ضيعها فقد خان أمانة الله عز وجل ونقض عهده، والله تعالى يقول: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [المائدة:7]. ويقول صلى الله عليه وسلم: (لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له)، وكان صلى الله عليه وسلم إذا ودع رجلاً قال: (أستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك)؛ لأن السفر مظنة المشقة فربما كانت سبباً للتقصير والإخلال.

ترك الصلاة إساءة للأنبياء والملائكة والصالحين

ترك الصلاة إساءة للأنبياء والملائكة والصالحين إن ترك الصلاة جناية وإساءة على الأنبياء والملائكة وسائر عباد الله الصالحين؛ لأنه يجب عليه في التشهد أن يقول: (السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين)، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الذكر: (إذا قالها بلغت كل عبد لله صالح في السماء والأرض) متفق عليه. أي: إذا قال: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين بلغت ووصلت كل عبد لله صالح في السماء والأرض، فإذا ترك الصلاة عطل هذه التحية الطيبة عن أن تبلغ وتصل إلى أولياء الله الصالحين.

ترك الصلاة من أسباب التعرض لعقوبة الله سبحانه وتعالى

ترك الصلاة من أسباب التعرض لعقوبة الله سبحانه وتعالى إن ترك الصلاة فيه تعرض لعقوبة الله سبحانه وتعالى في الدارين، فقد روي عن معاذ رضي الله عنه قال: (أوصاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لا تشرك بالله شيئاً وإن قتلت وحرقت، ولا تعقن والديك وإن أمراك أن تخرج من أهلك ومالك، ولا تتركن صلاة مكتوبة متعمداً فإن من ترك صلاة مكتوبة متعمداً فقد برئت منه ذمة الله) يعني: أنه لا يبقى في أمن من الله تعالى في الدنيا باستحقاق التعزير والملامة، وفي العقبى باستحقاق العقوبة. قال ابن حجر: قوله (فقد برئت منه ذمة الله) كناية عن سقوط احترامه؛ لأنه بذلك الترك عرض نفسه للعقوبة بالحبس عند جماعة من العلماء، ولقتله حداً لا كفراً بشرط إخراجها عن وقتها الضروري، وأمره بها في الوقت عند أئمتنا، ولقتله كفراً فلا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين عند أحمد وآخرين.

وصية لتارك الصلاة

وصية لتارك الصلاة النداء الأخير بعد هذه الرحلة لتارك الصلاة: يا تارك الصلاة! إلى متى يدعوك مولاك وأنت معرض لا تجيب؟! كم يتقرب إليك بإحسانه وأنت تبارزه بعصيانك وعليك منه رقيب؟! بادر بالتوبة إلى بابه، ولذ بجنابه، فهو منك قريب!! عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: (بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ بصر بجماعة فقال: علام اجتمع هؤلاء؟ قيل: على قبر يحفرونه، ففزع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبدر بين يدي أصحابه مسرعاً حتى انتهى إلى القبر فجثا عليه، قال: فاستقبلته من بين يديه لأنظر ما يصنع، فبكى صلى الله عليه وسلم حتى بل الثرى - أي: التراب- من دموعه، ثم أقبل علينا فقال: أي إخواني! لمثل هذا اليوم فأعدوا).

وصايا وتنبيهات حول تربية الأطفال على المحافظة على الصلاة

وصايا وتنبيهات حول تربية الأطفال على المحافظة على الصلاة

أهمية القدوة الطيبة في تربية الأطفال على المحافظة على الصلاة

أهمية القدوة الطيبة في تربية الأطفال على المحافظة على الصلاة من أنواع البناء التربوي للأطفال بناؤهم من ناحية العبادة، وأهم العبادة الصلاة، فالأطفال يعتقدون أن كل ما يفعله الكبار صحيح، ويرون آباءهم أكمل الناس وأفضلهم؛ ولذلك يحاكونهم ويقتدون بهم، وفي السن المبكرة لا يكتفي الأطفال بمجرد تلقين المعلومات، لأنه لا يكون لها الأثر مثل ما يكون الأثر عن طريق القدوة العملية؛ لأن الطفل في السنوات الأولى يتأثر بالأمور المحسوسة، ويعيها جيداً، بخلاف إذا ما حدثته عن المعاني المجردة كالجمال والعدل والسماحة والكرم؛ فهذه لا يدركها الطفل؛ لأنها معاني مجردة، لكنه يدرك الأمور المحسوسة ويتأثر بها جداً، فموضوع القدوة في حياة الطفل أخطر وسائل التربية وأشدها أثراً على الإطلاق، فالسن المبكرة لا يتأثر فيها الأطفال بالتلقين والكلام الشفوي إذا لم توجد أمامهم القدوة الصالحة التي تترجم بصورة عملية المعاني المجردة؛ ولذلك فإن أفضل وأعمق طريقة تؤثر في حفر قيمة الصلاة في نفوس الأبناء هي أن يرى الطفل الأب والأم يحافظان على الصلاة أمامه باستمرار، وبالنسبة للأب في صلاة النافلة في البيت، أما الأم ففي الفريضة. فالمحافظة على الصلاة باستمرار لها أثر من قبل سن السابعة، فتجده من غير أن يأمره أحد بالصلاة يصلي مثل أبيه أو أمه، تراه على من يأتي إلى جانب الذي يصلي ويقلده في الحركات بطريقة معروفة، ويظل ينظر إليه وهو يسجد وينظر إليه وهو يركع ويفعل مثله، ومن الطبيعي أن الطفل يتقمص الأب، وأعلى مراتب التقليد وأعمق وأقوى صور التقليد والمحاكاة هي التقمص، فهو يتوحد مع أبيه أو يتقمصه ويفعل ما يراه يفعله بطريقة عملية. التربية الأب لا يجمع أولاده ويقول لهم: تعالوا لدينا حصة تربية في البيت، ثم يعطيهم محاضرات، هذا خطأ؛ لأن تربية الأطفال هي تربية عملية مستمرة خلال أربعة وعشرين ساعة في كل سلوك يفعله الآباء بالذات، هذه هي التربية، فالأب عندما يقول له مثلاً: قل للذي يتصل في الهاتف: إن أبي غير موجود، فهذه تربية على استباحة الكذب، وأن الكذب طريقة مقبولة للتخلص من الحرج، أو إذا طرق شخص الباب، فقل له: إن أبي غير موجود، وربما يقول هذا الطفل للطارق: إن أبي يقول لك: هو غير موجود! فالطفل بهذه الطريقة يتشرب هذه التربية المنحرفة. إذاً: أنت تعلمه كيف يتخلص من هذه المواقف بالكذب، أو إذا كان الأب يخون الأمانة ويسرق، أو يكيد زملاءه مثلاً، ويأتي يحكي لهم ذلك في البيت، فيسمعه الطفل؛ كل هذه وسائل تربية سيئة، وتترك بصمات عميقة الأثر مدى الحياة بعد ذلك في ذلك الطفل. إذاً: مجرد التلقين بالكلام والوعظ الشفهي للأطفال لا يتأثرون به ما لم توجد أمامهم صورة عملية يسمونها (كونكريت نتنج) و (كونكريت) هي الخرسانة، يعني: تفكير متحجر مثل الطوب، وليس هو تفكير المعاني المجردة، وإنما هو التفكير الحسي، حتى يجسد الصورة التي ينسجم معها هذا الطفل. إذاً: محافظة الأب أو الأم على الصلاة تؤثر في الأطفال أعمق التأثير، وتحفر الصلاة في وجدانهم حفراً.

أهمية الدعاء للأبناء للمحافظة على الصلاة

أهمية الدعاء للأبناء للمحافظة على الصلاة إن من الأسباب التي ينبغي ألا نغفل عنها عند تربية الأطفال على الصلاة والمحافظة على الصلاة أن يستعين الإنسان بدعاء الله عز وجل، وأن يتأسى بإبراهيم عليه السلام، فإبراهيم عليه السلام كان يقول في دعائه: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ} [إبراهيم:40]. فينبغي للإنسان أن يلهج بهذا الدعاء في كل مناسبة، وأن يتحرى أوقات الإجابة؛ لأن الدعاء من أنجح وأقوى أسباب حصول المقاصد {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} [إبراهيم:40] فالدعاء أيضاً في غاية الأهمية.

مفهوم العقاب البدني في التربية وضوابطه ووقته

مفهوم العقاب البدني في التربية وضوابطه ووقته إن على الأب أو المربي أن يعلم أن العقاب البدني بشروطه هو الوسيلة الأخيرة للعقاب؛ كي لا يتعود عليه الطفل، وبالتالي لا يجدي استعماله فيما بعد، مسألة العقاب البدني بالنسبة للطفل موضوع شائك للغاية، يساء فهمه وتطبيقه عند كثير من الناس، وله ضوابط إن شاء الله سنتكلم عنها بعد الفراغ من بحث الصلاة؛ لأنه من الموضوعات التربوية المهمة؛ ولأن درء المضار مقدم على جلب المنافع، فموضوع الضرب يساء فهمه نتيجة جهل الناس بموضوع التربية، حتى أن بعض الناس يظن أنه لو لم يضرب ولده فكأنه ضيع سُنة، ويحس بتقصير إذا لم يضرب الأطفال! لا يوجد نزاع على الإطلاق في أهمية وضرورة مبدأ الثواب والعقاب في التربية، فهو مبدأ أساسي جداً ومهم، لكن ليس من شرط العقاب أن ينحصر في الضرب، فالضرب له شروط كثيرة سنتكلم عنها إن شاء الله تعالى بالتفصيل، لقد شرع الضرب للأطفال عند سن العاشرة، وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: (مروا أولادكم بالصلاة لسبع سنين، واضربوهم عليها لعشر سنين)، فإذا كانت الصلاة التي مقامها في الإسلام عظيم، ومع ذلك لا يضرب عليها الطفل إلا بعد بلوغ العاشرة، فما بالك بما عدا الصلاة؟! إننا نرى بعض الآباء القساة غلاظ القلوب يضربون الأطفال ضرباً مبرحاً على أتفه الأشياء! والشيء الغريب الذي دائماً نكرره، والخطيئة المتكررة في التربية التي لا يتفطن إليها كثير من المربين؛ أن طفلك ليس أنت، وعلى الإنسان ألا يساوي عقله بعقل الطفل، فالضرب بعنف خرج عن كونه نوعاً من أنواع العلاج، فالضرب شرع بشروط كعلاج، لكن إذا كان سيتحول إلى داء لا دواء فلا داعي له، فالضرب له هدف تربوي، ولذلك لا يجوز للإنسان أن يضرب وهو غضبان كما هو معلوم في الآداب الشرعية، فلا تضرب الطفل وأنت غضبان، بل تريث إلى أن تذهب ثورة غضبك، وتقرر الضرب وأنت هادئ؛ لأنه في هذه الحالة سيكون الهدف من الضرب هو التقويم والعلاج، لكن في حالة الغضب سيكون الهدف هو إفراغ شحنة الغضب في ضرب الطفل، ولن يتوقف الضرب حتى تهدأ نفس الضارب ويخرج شحنة الغضب، وليس هذا هو الضرب المشروع لتربيةً الطفل، بل صار وسيلة عقاب وانتقام للنفس وليس هدفاً. قضية الثواب والعقاب لا مناص منها في العملية التربوية؛ لأن هذه وسيلة من وسائل التربية، لكن معنى العقاب أشمل من أن يكون بالضرب، فهناك وسائل كثيرة للعقاب متعددة، ولا بد أن يكون العقاب متناسباً مع حجم الخطأ بحيث لا يستعمل العقاب الشديد على خطأ تافه، وهكذا. إن العقاب البدني بشروطه هو الوسيلة الأخيرة للعقاب؛ لأن الطفل إذا تعود على الضرب فإن جسمه سيفقد الإحساس بالضرب، ولا يعد يهمه الضرب؛ لأن كرامته أهدرت؛ لأن بعض الناس المتهورين يربط الضرب بالتحقير والشتم والسب، وهذه الألفاظ في الغالب تهدر كرامة الطفل، ثم إن الطفل لا يتأثر بسماع هذه الأشياء، ولا يجدي استعمال الضرب معه فيما بعد، لكن كلما كان الضرب نادراً ومنضبطاً أتى بالتأثير.

ضرورة تعليم الأب ولده الوضوء نظريا وعمليا

ضرورة تعليم الأب ولده الوضوء نظرياً وعملياً على الأب أن يعلم ولده الوضوء والطهارة بالشرح النظري ثم بالتدريب العملي المتكرر، وأن يقوم بتيسير فهمه لهذا الأمر بقدر المستطاع، ولا يكثر عليه من الأدعية والسنن في المراحل الأولى. إذاً: على الأب أن يعلم ولده الوضوء والطهارة بالشرح النظري ثم بعد ذلك بالتدريب العملي المتكرر، كأن يقوم بنموذج للوضوء أمامه، ويجعله يطبق خطوة خطوة كما يفعل هو في الوضوء، ويسمح له بالتطبيق أمامه، فإن أخطأ علمه ووجهه بلطف دون تعنيف، فإذا أتقن الوضوء مدحه واحتضنه وقبله مشعراً برضاه عنه، وهذا نوع من المثوبة المعنوية، وليس شرطاً أن يكون الثناء عليه بالحلوى والنقود وهذه الأشياء، لكن ممكن بأن يظهر الرضا عنه وتقديره لما صنع، وكذلك يعلمه فضائل الوضوء وثواب الوضوء؛ كي يحفزه على الحرص على تحصيل ثوابه. ومن الأمور المهمة أننا نهتم مع الطفل بأمور الترهيب، وإن كان لا بد من الترهيب فليكن الترهيب بصفة عامة، دون أن تقول له مثلاً: إذا لم تصل سوف تدخل النار، وسوف يعذبك الله بكذا وكذا، لكن تقول: من لا يصلي يعاقبه الله بكذا، فالطفل إذا لم يصل لا يدخل النار؛ لأنه غير مكلف، وقولك: إنه يدخل النار يعتبر كذباً، فليلتفت إلى مثل هذا.

ضرورة تعليم الطفل الصلاة منذ الصغر

ضرورة تعليم الطفل الصلاة منذ الصغر على الأب أن يتم تعليم ولده الصلاة منذ السن الباكرة دونما توجيه مباشر، بل يكرر صلاة النوافل في المنزل على مشهد من أولاده، وهم يتأثرون أعمق الأثر إذا رأوا أباهم يمرغ وجهه لله عز وجل ساجداً قائماً خاشعاً، قد استغرقته الصلاة وصرفته تماماً عما حوله؛ لأن الطفل مع الوقت يستنتج أن الذي يدخل في الصلاة لا يصح أن يكلمه أحد، ولا يصح أن يأكل أو يشرب أو يتكلم؛ لأن الصلاة تستحوذ على كل كيانه فلا ينظر إلى ولده مهما بكى أو نادى عليه أو نحو هذا. الشاهد: أن الطفل من هذا المشهد سوف يعلم أنه متى ما دخل أحد أبويه في الصلاة فإنه لن يستجيب له، وكذلك صلاة الأب خاشعاً لله سبحانه وتعالى مما يؤثر فيه أعمق الأثر، وهذا من شأنه أن يغرس في نفوس الأطفال عظمة الله سبحانه وتعالى، كما أنهم بهذه الطريقة -وهي التربية بالعادة- يتعرفون على أعمال الصلاة ويحبونها؛ لأن أي شيء يعتادون رؤيته بصورة معينة فإنهم يعتادونه، فهذا نوع من أنواع التربية بالعادة، لاسيما عندما يتكرر بصورة تلقائية في أوقات محددة، فمثلاً: حينما ينام تلقنه أذكار النوم، حينما يأتي الصباح تعلمه بعض أذكار الصباح، فتحويلها إلى عادة يواظب عليها هذا مما يعينه فيما بعد على الاستقامة على هذه الأمور الشرعية.

الآثار السيئة المترتبة على التشديد في أمر الصلاة على الأطفال

الآثار السيئة المترتبة على التشديد في أمر الصلاة على الأطفال على الأب ألا يشتد مع الطفل قبل سن التمييز في أمر الطهارة للصلاة وستر العورة، حتى فوق سن السابعة إذا صلى وهو مقصر في بعض شروط الصلاة مثل ستر العورة تصح صلاته؛ وذلك لحديث الصبي الذي كان يصلي بالقوم، فقالت امرأة: استروا عنا عورة إمامكم! فقد كان أثناء الصلاة ينكشف منه شيء من عورته، ومع ذلك فصلاته كانت صحيحة. إذاً: لا بأس من التساهل في تحصيل شروط الصلاة في مراحل التدريب الأولى. أيضاً: لا تدقق معه كثيراً، فقد يسجد على أي الأحوال أو على أي الأوضاع، وهذا نوع من التدريب، فلا تتشدد معه، بل اتركه يقلدك كيفما كان، ولا تكفه عن التقليد، ولا تقل له: أنت لا تحسن تصلي مثلاً، بل دعه يصلي ويقلد؛ لأن زجره في هذه السن وهو غير مكلف ينفره من الصلاة، ويكرهه فيها. كذلك لا يراقب الأب الطفل الذي يصلي ويتصيد له الأخطاء، وكلما يحصل منه خطأ يقول له: أنت عندما تصلي تعمل كذا أو كذا، فهذا سيكرهه في الصلاة، وسيحس أن الصلاة عبء شديد عليه، وقد يقول: كل هذا لأنني أصلي؟! فلا داعي أن أصلي إذاً! فهذا فيه نوع من التنفير، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن منكم لمنفرين) ويقول أيضاً: (بشروا ولا تنفروا) بل عليك تتغاضى عن أخطائه؛ لأنه من حقه أن يخطئ في هذا السن، فهو يتعلم من التجربة والخطأ، ويمكن تحوير العبارة بطريقة أكثر إيجابية بدل هذا التوبيخ المباشر الذي يشعره بأن الصلاة عبء عليه، وأنه إذا تخلص من الصلاة سيتخلص من كل هذا العتاب؛ لأن الذي لا يصلي لا يعاتب، فلننتبه لهذا، وهذا يحصل مع البنات في موضوع الحجاب، أنت متحجبة وتعملين كذا، فيحصل التنفير من الحجاب، يقال لها: لكن تقول لها: أنت محجبة، وبنت مؤدبة ومهذبة، والذي يليق بك أن تفعلي كذا وكذا! بدون تحقير الذات والنقد الهدام.

مراحل تدريب الأطفال على الصلاة

مراحل تدريب الأطفال على الصلاة نعود إلى المراحل الأولى من التدريب على الصلاة، هناك مناسبة وهي بلوغ الطفل السنة السابعة من العمر بالتقويم الهجري، فهنا يجب على الأب أن يأمره بالصلاة عند سن السابعة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين)، وأيضاً يأمرهم بتحصيل شروطها كالطهارة وستر العورة، وهذا سن التدريب المبكر على الصلاة بهوادة وبلطف وبرفق، ومع الاستمرار تكون الصلاة في حياة هذا الطفل جزءاً من كيانه لا يمكن أن ينفصل عنه أبداً، فإذا أحسنا غرس هذا الشعور بأن الصلاة جزء من شخصيته وجزء من هويته ومن كيانه كان هذا أدعى له حينما تجب عليه الصلاة أن يتمسك بها ولا يضيعها. وتاريخ إتمام سن السابعة لا ينبغي أن يمر مروراً عابراً، ونحن ضد الاحتفال بأعياد الميلاد؛ لأن هذه بدعة ليس لها علاقة بالإسلام، لكن عند بلوغ الطفل سن السابعة فإن هناك مناسبة شرعية جداً، وهو أنه سوف يبدأ الأب بأمر ولده بالصلاة، مع أنها غير واجبة على الطفل، لكن الواجب على الأب أن يأمر ولده بالصلاة، فبالتالي ينبغي أن يسلط الضوء على هذا التاريخ، ويخبر الطفل مقدماً ومسبقاً بأنك بعد ستة أشهر ستبدأ تصلي مثل الكبار، وتشبهه بالكبار؛ لأنه دائماً يتطلع أن يكون من الكبار، وهذا مما يجعل هذا الطفل عندما يكمل السابعة يحافظ على الصلاة باستمرار ويواظب عليها. إذاً: المطلوب تعميق هذا الحدث الهام؛ لأننا نريد أن يعرف الطفل أنه سيستقبل مرحلة جديدة، فلا بد أن يهيأ إليها مسبقاً، لا على أنها مسئولية ستلقى على كتفه وعبء عليه، لا. كذلك يسأله ويقول له: أنت كم عمرك الآن؟ فلو قال لك مثلاً: ست سنوات ونصف، فتقول له: ما شاء الله! عندما تبلغ السابعة سوف تصبح رجلاً، فعلينا أن نربط الصلاة للطفل بشيء يأمله ويطمح إليه ويتطلع إليه بلهفة، وليس أننا ننوي أن نمسك له العصا. إذاً: لا ينبغي أن يمر تاريخ إتمامه سن السابعة مروراً عابراً، بل يعمق هذا الحدث الهام من خلال إعلامه قبلها بأنه مقبل على أمر عظيم، وهو اقتراب موعد أمره بالصلاة، فإذا بلغ السابعة وصلى أول فرض جمع له أبوه بعض أصدقائه وإخوته في حفل صغير ابتهاجاً بهذه المناسبة الطيبة، وكذلك يقوم الأب بشراء منبه له؛ لكي ينبهه لمواعيد الصلاة، أو يحضر له تقويماً لكي يعرف به مواعيد الأذان أو أي نوع من الهدايا المناسبة لمثل هذه المناسبة، أو حلوى يحبها، وكل واحد من أصدقائه يعطيه هدية يسيرة؛ فيحس أن هذه المناسبة مناسبة عظيمة جداً، وليس هذا احتفالاً بعيد الميلاد، لا، وإنما هذا تضخيم للأمر العظيم المهم الذي هو مقبل عليه، وهو بداية التحول إلى أداء الصلاة، ومن المناسب أن يقدم له ساعة يد لكي يضبط نفسه لمواعيد الصلاة ويقول: هذه حتى تذكرني قبل الأذان بخمس دقائق لكي أتوضأ؛ حتى يكون عارفاً بمواقيت الصلاة ومهتماً بالاستعداد لها. كذلك ينبغي متابعته في مدى انتظامه في الصلاة، وتذكيره بها وتكرار أمره بها دون ملل. ولو كان الطفل يلعب بلعبة محببة إليه جداً، بأي نوع من أنواع اللعب، وتريد أن تأمره بالصلاة، ففي هذه الحالة لو أبعدته عن اللعب -الذي هو محبب إليه- إلى الصلاة؛ فقد يحس أنه حرم من حاجة كان يفضلها، وربما يعاندك، وهو لا يعاندك لأنه لا يريد أن يصلي، ولكن يعاندك لأنه يتمتع باللعب، فالحل في هذه الحالة أنك قبل ميعاد الصلاة بعشر دقائق مثلاً تقول له: بقي أمامك عشر دقائق حتى يدخل وقت الصلاة، فالعب إلى الأذان، فأنت لم تحرمه من اللعب، ولم تقطعه عن اللعب إلى الصلاة، لكن أعطيته مهلة كي يوطن نفسه أنه بعد ربع ساعة أو عشر دقائق سيؤذن للصلاة، فيتوضأ ويصلي، فنراعي مثل هذه الأمور. وإذا شغل الأب أو غاب أو سافر لأي سبب من الأسباب، ففي هذه الحالة يوكل من يقوم بمتابعة الطفل وأمره بالصلاة خلال فترة غيابه أو شغله. روي عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (حافظوا على أبنائكم في الصلاة، وعودوهم الخير، فإن الخير عادة). ولا بأس بمكافأته أحياناً لمحافظته على الصلاة، لكن لا يواظب على ذلك، وينوع له الهدية في كل مرة، ولا تكون المكافأة دائماً مادية، فممكن أن تكون المكافأة معنوية بالمدح والثناء عليه والتشجيع له، بحيث لا يتعود على التعامل المادي في العبادة، ويقال: إذا صليت ستأخذ جنيهاً عن كل صلاة، لا، بل اربط صلاته بثواب الله سبحانه وتعالى. كذلك إذا حصل منه خطأ تقول: أنا كنت سأضربك على هذا الخطأ، لكن ما دام أنك تحافظ على الصلاة فسأعفو عنك هذا المرة، فهذا نوع من المكافأة.

ربط الأب الأمور المحببة إلى أولاده بالصلاة

ربط الأب الأمور المحببة إلى أولاده بالصلاة على الأب أن يقرن الأمور المحببة للطفل بالصلاة؛ لكي يتعود الطفل أنه يبرمج حياته على مواعيد الصلاة، فمثلاً تقول له: سنخرج فسحة بعدما نصلي صلاة العصر، أو تقول له: بعد صلاة العصر سأشتري لك حاجة طيبة تحبها، ولا تقل له مثلاً: الساعة السادسة سآخذك إلى مكان كذا، وإنما تقول له: بعدما نصلي العصر أو بعدما نصلي المغرب سنعمل كذا، فاربط المواعيد دائماً بالصلاة؛ لكي تكون الصلاة جزءاً أساسياً في الجدول اليومي بالنسبة إليه؛ لأنه إذا عرف أنه بعد الصلاة سيخرج يتفسح مثلاً سيتحفز لذلك، ويستعد للصلاة في وقتها؛ لاقترانها بأمر محبوب لديه. كذلك يرتب جميع مواعيده مع أولاده بأوقات الصلاة، فيتعلمون تنظيم الوقت بناء على أوقات الصلاة.

ضرورة تذكير الأب أولاده بمنزلة الصلاة وفضلها في الدين

ضرورة تذكير الأب أولاده بمنزلة الصلاة وفضلها في الدين إن على الأب أن يذكر أولاده بين الحين والحين بفضائل الصلاة من القرآن الكريم والسنة الشريفة؛ حتى يكتمل تصورهم الفكري عن الصلاة ومنزلتها في الدين، وحتى يتعود الصبي خاصة بعد سن العاشرة على أداء السنن الرواتب مع الصلوات المفروضة، ويحرص على تعويده على قيام الليل ولو جزءاً يسيراً، فيعلن الأب لأولاده أنه سيقوم ليصلي في الليل وقت كذا وكذا، ثم يتركهم يتنافسون في الاستيقاظ في ذلك الوقت دون أن يوقظهم الأب؛ لتقوى إرادتهم، ويعتمدوا على أنفسهم، وأن يخفف بهم الصلاة، ومن نعس منهم أمره بالنوم رفقاً به. فإذا قصر الولد في الصلاة بعد العاشرة وجب على الأب وعظه وتذكيره بالنصوص الشرعية في الصلاة، فإن استمر في تهاونه أغلظ له في القول وعنفه وهجره، فلا يكلمه ولا يخالطه ولا يمازحه، ويحرمه من بعض الأشياء المحببة لديه، فإذا فشل العقاب النفسي يلجأ الأب إلى العقاب البدني بشروطه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين). فالمربي يقدم دائماً أسلوب الترغيب والإثابة والتشجيع، ويتجاهل تقصير الطفل في بعض الأوقات، مع حسن الإشارة والتلميح دون التصريح، فإن أصر يعاتبه سراً ويعبس في وجهه، فإن أصر يعاتبه جهراً أمام أسرته أو رفاقه بدون شتم أو سب أو تحقير ذاته؛ لأن التحقير للذات أمر غير مسموح به على الإطلاق، فإذا انتقدت تنتقد الموقف أو التصرف ولا تحكم على الطفل بأنه فاشل، وأنه ليس فيه أمل، وأنك طول عمرك ستبقى هكذا؛ لأن هذا فيه تحقير للذات، وفيه تحطيم لقدرات الطفل، لكن تنتقد التصرف فقط. فإن تمادى رغم ذلك يهدده بالضرب، ويعلق عصاً صغيرة بحيث يراها، فإن لم تنفع كل هذه الوسائل، يلجأ إلى الضرب.

شروط العقاب البدني للأطفال وضوابطه

شروط العقاب البدني للأطفال وضوابطه إذا رأى الوالد أن المصلحة في ضرب ولده، فلا يضربه إلا بشروط، منها: ألا يضرب ولده بأي حال قبل سن العاشرة. وأن يعلم المربي أن الضرب وسيلة علاج وإصلاح، وليس وسيلة لإهانته وتحقيره وتشويه نفسيته، وليس الضرب أيضاً وسيلة انتقامية يقصد بها تفريغ شحنة غضب المربي وإراحة نفسه، ولكنه ضرورة تربوية استثنائية لمصلحة الطفل، وعليه فلا يقدم المربي على عقوبة الضرب وهو غضبان ثائر. وألا يكون الضرب شديداً مبرحاً، ويستعمل فيه آلة معتدلة الحجم والرطوبة، ولا يزيد على ثلاث ضربات، وللوالد أن يزيد إلى عشر بحد أقصى. أن يتوقى ضرب الوجه والمواضع الحساسة من البدن، ولا يكرر الضرب في الموضع الواحد، بل يفرق الضرب، ويترك بين الضربتين زمناً يخف به ألم الأولى. وأهم شرط أن يكون الضرب على تقصير حقيقي، لا على شبهة أو سوء ظن، وأن يتناسب العقاب مع حجم الخطأ ونوعه. وأن يتوقف عن الضرب إذا ذكر الغلام الله عز وجل واستغاث به؛ لأننا بهذا نغرس معنى معيناً فيه. كان هناك ابن صغير جداً لأحد إخواننا الأفاضل، فأول ما بدأ بالنطق حضر مع والده درساً لي في آداب ضرب الطفل، فكان سعيداً جداً، فبعد أن أكملت الدرس قال لوالده: سمعت الشيخ ماذا قال؟ وجاء إلي وقال: جزاك الله خيراً يا شيخ. فهو سمع هذا وفهمه، والأولاد قد يظن أنهم لا يفهمون، وهم يفهمون جيداً، وكان هذا الصغير كلما ضربه أبوه ذكر الله أثناء الضرب، واستفاد مما سمعه في الدرس، فجاء أبوه يشتكي إلي أنه من وقت ما سمعك ابني أنه إذا ذكر الله فعلى الأب أن يوقف الضرب، فكلما ضربته ذكر الله واستغاث به فأتوقف عن ضربه، فأقول: هذا مكسب كبير أن نزرع في ذهن الطفل تعظيم اسم الله سبحانه وتعالى، وأنه إذا ذكر اسم الله يتوقف عنه الضرب، فيرتبط ذكر اسم الله بالرحمة والعفو وإيقاف الأذية، فهذا شيء سيحبب إليه ذكر الله سبحانه وتعالى.

الآثار المترتبة على تكرار العقاب البدني للطفل

الآثار المترتبة على تكرار العقاب البدني للطفل العقاب الذي يتكرر يفقد فاعليته كسلاح لا ينفع استخدامه أبداً، فعلى الأب ألا يكرر العقاب بقدر الإمكان حتى لا تفقد العقوبة قيمتها، فلا يبالي بها الطفل، لكن القاعدة أن الإنسان متى ما استطاع أن ينجز ما يريد بالرفق، فلا يعدل عن الرفق أبداً؛ لأن الطفل الراقي المحافظ على كرامته قد يكون الكلام أشد عليه من الضرب بكثير، فندعه يحافظ على كرامته ولا نهدرها، فالضرب ليس شيئاً حتمياً، بل هو شيء استثنائي وبشروط كثيرة. لو أن الأب قصر في أمر ولده بالصلاة في سن السابعة، ولم يأمره بالصلاة حتى بلغ العاشرة، فإذا بلغ عشر سنين ولم يكن قد أمره بالصلاة فلا يبدأ بالضرب؛ لأنه قصر في أمره بالصلاة بعد السابعة، فلا يستعمل معه العقاب البدني مباشرة بعد العاشرة وهو قد قصر في تعويده، بل يتدرج معه ويمرنه ويعوده عليها من جديد.

تعويد الطفل على صلاة الجماعة منذ الصغر وربطه بالمسجد

تعويد الطفل على صلاة الجماعة منذ الصغر وربطه بالمسجد إن على الأب أن يعود الطفل على صلاة الجماعة منذ الصغر؛ كي يتعلق قلبه بالمساجد، وفي المساجد يتعرف على العلماء، ويمارس عملياً آداب الإصغاء في مجالس العلم، والحرص على مشاركة الكبار في أفعالهم ميل طبيعي عند الطفل، فليستثمر الأب هذا الشيء. كذلك ينبغي أن يعلم الطفل آداب المسجد، وأن يحافظ على المسجد من التلويث أو النجاسة، وأن يحافظ على المسجد من اللهو والصراخ. هناك أحاديث تدل على أن أطفال الصحابة كانوا يتواجدون في المسجد، لكن أطفال الصحابة لا أظن أنهم كانوا مثل أطفالنا، أو أنهم يفعلون مثل هذه الأشياء التي يفعلها أطفالنا في المساجد، فالطفل الذي يعرف آداب المسجد، ويحافظ على خشوع المسجد، هو الذي يأتي، لكن قد يؤتى بغيره لضرورة، كأن يخرج شخص لحاجة ما ومعه ابنه، فإن أرجعه إلى البيت فاتته صلاة الجماعة، فهذه حالات استثنائية، لكن أن نحول المسجد إلى دار حضانة وصراخ وزعيق بصورة لا تنبغي أو أن نلوث المسجد بالقاذورات فهذا لا يقول به أحد ولا يرتضيه، وهذا نوع من التعسف. والرخصة تقف عند حد معين، فلا ينبغي أن نأتي إلى الحد الأقصى، ونجعله نقطة انطلاق إلى الإفراط في استعمال هذا الحق، فالأطفال الذي يأتون إلى المساجد يجب أن يكونوا من النوع الذين لا يلعبون فيها، ولا يحدثون أذية للمصلين، ولا يعبثون بأجهزة المسجد ونحو ذلك. إذاً: لا بد أن يلقن الطفل أولاً آداب المسجد، فإذا اطمأن إلى ذلك يحضره إلى المسجد، وقبل أن يحضره إلى المسجد يهيئه لذلك؛ لأن الطفل قد يكون عنده نوع من الخوف الاجتماعي، فكونه يلتقي بجمع كثير في مكان واسع جداً مثل المسجد قد يحصل له نوع من الهيبة، وقد يبكي ويصرخ، فلابد من التهيئة له قبل أن نذهب به إلى المسجد، وذلك بأن يوصف له المسجد، وأن المسجد بيت الله سبحانه وتعالى، وأنه مكان واسع وجميل ونظيف ورائحته طيبة وشكله جميل، وفيه كذا وكذا، فتصف له المسجد، وتقرن له المسجد بكل شيء جميل، وبأشياء محببة إليه، فمثلاً: تشتري له الحلوى من جنب المسجد، وتقول له: اشتريت لك هذه الحلوى من المحل القريب من المسجد، يعني: أدخل كلمة المسجد واقرنها بالأشياء التي يحبها. كذلك لو مررت به من جانب المسجد تقول له: هل ترى هذا البناء الجميل؟ هذا هو المسجد، وأنا قريباً سوف آخذك معي لتصلي فيه، فهذا نوع من التدرج قبل أن تأتي به إلى المسجد، كذلك يمكن تهيئة جو المسجد قبل اصطحابه، فلا مانع أن يتفق الأب مع الإمام ومع المؤذن وبعض المصلين من الجيران، أنه إذا حضر معي هذا الطفل إلى المسجد فلاطفوه، وبعض كبار السن يأتون إلى المسجد وفي جيب أحدهم (شوكولاتة) أو حلويات للأطفال، فإذا لقي الطفل في المسجد يعطيه، فهذا نوع من التلطف مع الطفل، وتحبيبه في المسجد وفي أهل المسجد، فيحسن بالأنس، فيطمئن لأهل المسجد ورواده؛ لأن الاهتمام به في أول مرة يدخل فيها المسجد سوف يوقع في نفسه شأن تعظيم الصلاة. كذلك إذا كان الإمام ممن يطيل الصلاة إطالة تخالف السنة نبهه على عدم الإطالة. وكذلك يربط الطفل بحلق تحفيظ القرآن الكريم وتجويده في المساجد بالتعاون مع إمام المسجد؛ لأنه لم يبق لنا حصن إلا المساجد الآن، فهي الحصن الأخير الذي يمكن أن تصحح فيه الأخطاء التربوية، وحصن من السهام الموجهة للأطفال والأبناء في المدارس والإعلام والمجتمع، إلى آخره، فنسأل الله أن يحفظها من كل سوء. كذلك يهتم بترسيخ ارتباطه بالمسجد وأهله عن طريق ممارسة أنشطة نافعة ومسلية للأطفال.

ضرورة تعليم الأب ولده أحكام صلاة الجمعة وآدابها وتعظيمها

ضرورة تعليم الأب ولده أحكام صلاة الجمعة وآدابها وتعظيمها إن على الأب أن يعظم أمام ولده صلاة الجمعة، ويحدثه عن آدابها وأحكامها وضرورة احترامها وتوقيرها، لكن لا يحمله ما لا يطيق من أمر صلاة الجمعة؛ لأن الجمعة فيها الخطبة والصلاة فيطول وقتها، فقد يمل الطفل أو قد يصعب عليه أنه يحافظ على الطهارة، وقد يلعب فيها، وللأسف الشديد أنه في هذا الزمان يندر جداً أن نرى من يتمسك بالسنة- حتى من الذين ينسبون إلى السنة والسلفية- في موضوع خطب الجمعة، فالسنة ينبغي احترامها، وألا نتحذلق مع السنة، فالسنة هي تقصير الخطبة وإطالة الصلاة، ليس كما يحصل الآن للأسف الشديد، تتحول الخطبة كأنها محاضرة طويلة، وفيها مشقة على الناس، فالصادق في الانتساب إلى السنة لا بد أن يشتهر ويتميز بأنه يقصر الخطبة ويطيل الصلاة، فإذا فعل ذلك عرف الناس أن هذا هو السني، وليس السني الذي يطيل الخطبة كما يحصل ويشق على المصلين. روي: (أن أبا هريرة رضي الله عنه دخل مرة المسجد يوم الجمعة فوجد غلاماً فقال له: يا غلام! اذهب العب، قال: إنما جئت إلى المسجد، قال: فتقعد حتى يخرج الإمام؟ قال: نعم). إذاً: على الأب ألا يكلف ولده بصلاة الجمعة دون سن العاشرة، بل يرغبه ولا يرهبه، فإن أقبل عليها وإلا تركه وشأنه مرفهاً حتى يبلغ العاشرة أو ما قبلها بقليل فيبدأ معه بالإلزام. كذلك يتحرى الأب اختيار الخطيب؛ لأن الخطيب بخطبته ومسلكه عميق التأثير في أخلاق الأولاد، خاصة إذا فهموا الخطبة وعقلوها، ولا بأس أن يسألهم بعد الخطبة عن موضوع الخطبة، وما استخلصوه من الفوائد، ويحثهم قبل الدخول على حسن الإنصات، ويبين لهم أنه سوف يسألهم عن مضمون الخطبة بعد الصلاة؛ لاستدعاء تركيزهم أثناء الخطبة. هذا ما يتعلق بشأن تربية الأطفال على المحافظة على الصلاة؛ لأن مستقبل الأمة متمثل في هؤلاء الأبناء وأفلاذ الأكباد، يقول الشاعر: لا بد من صنع الرجال ومثله صنع السلاح وصناعة الأبطال علم قد دراه أولو الصلاح من لم يلقن أصله مـ ـن أهله فقد النجاح لا يصنع الأبطال إلا في مساجدنا الفساح في روضة القرآن في ظل الأحاديث الصحاح شعب بغير عقيدة ورق يذريه الرياح من خان حي على الصلاة يخون حي على الكفاح وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

لماذا نصلي؟ [11]

لماذا نصلي؟ [11] الصلاة هي أس العبادات كلها بعد الشهادتين، فعلى المرء أن يتفقه في معرفة أحكامها، ويتعلم شروطها وأركانها وواجباتها. ويجب حث المسلمين على المحافظة عليها، وإصلاح الخلل الناتج عن الجهل بأحكامها.

ضرورة التفقه في أحكام الصلاة

ضرورة التفقه في أحكام الصلاة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل على محمد النبي وأزواجه أمهات المؤمنين وذريته وأهل بيته كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. لقد سبق لنا تدارس موضوع الصلاة وخصائصها وفضائلها، وبعض التنبيهات التي تمس الحاجة إليها فيما يتعلق بموضوع الصلاة، وأصل ذلك أن على الإنسان أن يبادر إلى التفقه في الدين، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (طلب العلم فريضة على كل مسلم)، والعلم الذي هو فريضة على كل مسلم هو العلم الذي تؤدى به الواجبات، وتصحح به العبادات، فيجب على المسلم أن يتعلم ما يصحح به عبادته، فمن أراد الحج وجب عليه أن يتعلم مناسك الحج من فرائض وأركان، وما يفسد الحج كي يتجنبه ونحو ذلك، ومن أراد الزواج يجب عليه أن يتعلم شروط عقد النكاح مثلاً، ومن أراد الطلاق يجب عليه أن يتعلم كيف الطلاق كي لا يقع في مخالفة الشرع الشريف، ومن أراد البيع والشراء يجب أن يتفقه في البيوع، وهكذا. ويوجد قاسم مشترك بين كل المكلفين رجالاً ونساءً، وهو الفروض العامة كالطهارة والصلاة مثلاً، فبعد تصحيح العقيدة يجب على كل مسلم أن يحصل هذا العلم الذي يصحح به عبادته. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيراً يفقه في الدين)، وقال صلى الله عليه وسلم أيضاً: (خصلتان لا تجتمعان في منافق: حسن سمت، وفقه في الدين). إذاً: لابد أن نتعلم من الفقه ما نصحح به الصلاة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (صلوا كما رأيتموني أصلي) متفق عليه. فكيفية الصلاة لا يمكن أن يصل إليها بالعقل أو التأمل أو التفكير أو التجارب، وإنما يصل إليها عن طريق الوحي الذي جاء به الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، فكيف يعرف الإنسان هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة؟! يعرف ذلك بسؤال العلماء أو بمطالعة كتب العلم أو الجلوس في مجالس العلم التي تتناول أحكام الصلاة والطهارة بأسلوب سهل وشيق وما أكثرها الآن، وما أكثر الكتب المختصرة والمبسطة في هذا الموضوع.

وجوب التناصح في أمر الصلاة

وجوب التناصح في أمر الصلاة إن التناصح في أمر الصلاة أمر ضروري، فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (الدين النصيحة) فإذا كانت الصلاة عمود الدين؛ فإن واجب المسلم إذا رأى من يقصر في صلاته ويخل بها أن ينصحه وأن يعلمه، فإذا رأيت من يسيء في صلاته فلا تسكت عليه، بل يجب عليك أن تنصح أخاك كي يصحح عبادته، خاصة أن معظم المخالفات تقع بسبب الجهل، فمثلاً لو سجد مصل على ظهر أصابع رجليه، وكانت الأظافر إلى جهة الأرض، فبعض العلماء يقول ببطلان الصلاة في مثل هذا؛ وذلك لما ورد في الحديث: (استقبل بأصابع رجليك القبلة) وترك الاستقبال بأصابع الرجلين بين السجدتين أو في جلسة التشهد الأمر أخف، لكن عند السجود لا بد أن يستقبل القبلة بأصابع رجليه، فتكون أظافره إلى جهة القبلة لا إلى جهة الأرض؛ لأن هذا فيه مخالفة لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان يستقبل القبلة بأصابع قدميه، خاصة في السجود، ونحو ذلك من المخالفات بسبب الجهل بهدي النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، والدليل على وجوب هذا التناصح هو ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم مع الرجل المسيء في صلاته، والحديث معروف ومشهور؛ فإنه قال له: (ارجع فصل فإنك لم تصل، فرجع ففعل ذلك ثلاث مرات، فقال: والذي بعثك بالحق! ما أحسن غير هذا، فعلمني) فعلمه كيفية الصلاة كما في الحديث المتفق عليه، وهو الحديث المشهور بحديث المسيء في صلاته، فعلمه النبي صلى الله عليه وسلم واجبات الصلاة، وهذا الحديث أصل في معرفة واجبات الصلاة. وقال ميمون بن مهران رحمه الله تعالى: مثل الذي يرى الرجل يسيء في صلاته فلا ينهاه، مثل الذي يرى النائم تنهشه حية ثم لا يوقظه. يعني: لو وجدت أخاك المسلم نائماً والحية تكاد أن تعضه بنابها وتهجم عليه ألا توقظه لتنقذه من ذلك؟! بلى، وكذلك إذا رأيت أخاك يسيء في صلاته فهو معرض للهلكة؛ لأنه يفسد أهم أركان الدين، ولا يصحح أهم واجبات العبادات، فإذا تركته فقد خذلته تماماً كما لو رأيته سيقع في بئر أو نار أو رأيت حية ستنهشه ثم لم تحذره ولم تنصحه. ينسب إلى الإمام أحمد أنه قال: واعلموا أنه لو أن رجلاً أحسن الصلاة فأتمها وأحكمها، ثم نظر إلى من أساء في صلاته وسبق الإمام فيها فسكت عنه ولم يعلمه؛ شاركه في وزرها وعارها. إذاً: المحسن في صلاته شريك المسيء في صلاته إذا لم ينهه ولم ينصحه. وقال الإمام الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: إن الحجاج بن يوسف صلى مرة بجنب سعيد بن المسيب، وذلك قبل أن يلي شيئاً من المناصب التي وليها فيما بعد، فجعل يركع قبل الإمام ويقع قبله في السجود، فلما سلم، أخذ سعيد بطرف ردائه، وكان له ذكر يقوله بعد الصلاة، فما زال الحجاج ينازعه رداءه حتى قضى سعيد ذكره، ثم أقبل عليه، أي: كان سعيد لا يريد أن يقطع الورد الذي يقال عقب الصلاة، وفي نفس الوقت لا يريد أن ينشغل بمعاتبته على أخطائه في الصلاة عن الذكر الذي تعود أن يحافظ عليه، فأمسك بردائه حتى لا يفلت منه ويقوم. يقول: حتى قضى سعيد ذكره ثم أقبل عليه فقال له: يا سارق يا خائن! تصلي هذه الصلاة؟! لقد هممت أن أضرب بهذا النعل وجهك، فلم يرد عليه. ثم مضى الحجاج إلى الحج، ثم رجع فعاد إلى الشام، ثم جاء نائباً على الحجاز، فلما قتل ابن الزبير كر راجعاً إلى المدينة نائباً عليها، فلما دخل المسجد قصد مجلس سعيد بن المسيب، فخشي الناس على سعيد منه فجاء حتى جلس بين يديه، فقال له الحجاج: أنت صاحب الكلمات، فضرب سعيد الحجاج في صدره بيده وقال: نعم، قال: فجزاك الله من معلم ومؤدب خيراً، ما صليت بعدك صلاة إلا وأنا أذكر قولك، ثم قام ومضى. فـ الحجاج الدموي السفاح الشرير، انتفع بالنصيحة رغم شدتها عليه، لكنها أثرت فيه، والحجاج ليس كله عيوب، فقد كان له فضائل وصفات جيدة في جنب ظلمه وسفكه لدماء المسلمين، وهذه من حسناته، وقد كان يقول عند الاحتضار: اللهم إن الناس يقولون: إنك لا تغفر لي؛ فاغفر لي، أي: خيب ظنهم وارحمني برحمتك الواسعة. وهذا الذي يسيء الصلاة سوف يعلمها لأولاده وأبنائه، وإن كان مدرساً سيعلمها للتلاميذ، فأنت إذا نصحته صححت عبادته وعبادة من وراءه ممن يعلمهم هذه الصلاة. فإذا استحضرت أن جناية الذي يسرق صلاته ولا يطمئن فيها جناية متعدية على من تحت ولايته، أشفقت على نفسك من مغبة تقصيرك في نصيحته، فإنه إذا فسد القوام عم الفساد جميع الأقوام. عن فضيل بن عياض رحمه الله تعالى قال: رأى مالك بن دينار رجلاً يسيء صلاته، فقال: ما أرحمني بعياله، فقيل له: يا أبا يحيى! يسيء هذا صلاته وترحم عياله؟! قال: إنه كبيرهم ومنه يتعلمون. أي: لا شك أن أولاده سيسيئون الصلاة مثله؛ لأنه الذي يعلمهم، وهم يقتدون به.

وجوب المحافظة على الصلاة في وقتها

وجوب المحافظة على الصلاة في وقتها تجب المحافظة على الصلاة في أول وقتها، يقول الله تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء:103] أي: فريضة مرتبطة بأوقات محددة لا بد من التزامها. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أفضل الأعمال الصلاة على وقتها) متفق عليه، يعني: في أول الوقت. كل نص في القرآن والسنة يأمر بإقامة الصلاة، فإنما يعنى به في المقام الأول المحافظة على الصلاة في وقتها، ولذلك لم يرد أبداً لفظ: صلوا أو يصلون، وإنما يأتي بلفظ إقامة الصلاة كما في قوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [البقرة:43]، وقوله: {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ} [النساء:162]، فأول معنى من معاني إقامة الصلاة -وهو الركن الركين فيها- أن يحافظ على الصلاة في أوقاتها، والله سبحانه وتعالى يقول: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم:59]. قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى: لم تكن إضاعتها تركها، ولكن أضاعوا الوقت. يعني: أخرجوا الصلاة عن وقتها، هذه هي جريمتهم. وقال مسروق رحمه الله: لا يحافظ أحد على الصلوات الخمس فيكتب من الغافلين، وفي إفراطهن الهلكة، وإفراطهن إضاعتهن عن وقتهن. وقال بعضهم: من حافظ على الصلوات الخمس في جماعة فكأنما ملأ البر والبحر عبادة. وقال تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون:4 - 5] قال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: سهو عنها حتى ضاع الوقت فهذا مصل يتطلع بصلاته إلى النجاة من الويل، لكن لما فرط في وقتها استحق الويل.

وجوب المحافظة على صلاة الفجر في جماعة

وجوب المحافظة على صلاة الفجر في جماعة تجب المحافظة على صلاة الفجر جماعة في المسجد، ولا شك أن تعظيم الصلاة يكون على قدر تعظيم الدين في قلب المؤمن، فإذا كان هذا أمراً عاماً في الصلوات، فهو في صلاة الفجر مقياس في غاية الدقة، فهو أدق بكثير من المقياس العام، فالمقياس الحقيقي للالتزام وللإيمان ولحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وحب طاعة الله هو المحافظة على صلاة الفجر جماعة في المسجد، فإذا أردت أن تقيس مدى تفريطنا معشر المسلمين في جنب الله عز وجل وتعدينا حدود الله فانظر إلى الصفوف في صلاة الفجر؛ تجدها خاوية إلا قليلاً ممن رحم الله تبارك وتعالى، حينئذٍ نتمثل قوله تعالى: {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ} [يس:30] فكأن فريضة الفجر على غيرنا كتبت، وكأن صلاة الفجر في حقنا نسخت، بل القلوب قست، والعيون جمدت، والهمم خمدت، لقد صار المصلون بالنسبة إلى جملة المنتسبين إلى الإسلام قليلة، والذين يشهدون صلاة الجماعة من جملة المصلين أقل من هؤلاء، والذين يشهدون صلاة الفجر في المسجد أقل من الذين يصلون صلاة الجماعة، بل الذين يصلونها فرادى في بيوتهم أقل، فيا لله ماذا أصاب أهل الإسلام؟! وماذا دهى أمة خير الأنام صلى الله عليه وسلم؟! أليس من عدل الله فينا أن سلط علينا بذنوبنا من لا يخافه ولا يرحمنا؟! وهل تمنينا العزة والنصر والتمكين وحالنا كما ذكرنا إلا من الانحراف عن نهج ربنا الكريم؟! وهل تنشأ يقظة عن غفلة، أو نهضة عن رقود، أو حركة وجهاد عن جمود وخمود، أو حياة من موت، أو انتباه وانتعاش من غشاوة وفتور؟! يقول عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11] إن الطريق إلى الفلاح والتمكين يبدأ من المحراب، وعلينا أن نبادر بالمصالحة مع الله والإنابة إليه قبل أن ينزل بنا سخطه، ويحل علينا غضبه، ولات حين مناص، يقول الشاعر: بذنوبنا دامت بليتنا فالله يكشفها إذا تبنا

مواعيد الصلاة وغيرها بين الإفراط والتفريط

مواعيد الصلاة وغيرها بين الإفراط والتفريط نذكر فائدة مهمة جداً تتعلق بالأشياء المرتبطة بالمواعيد، سواء في حياة الإنسان من حيث السلوك الشخصي أو الجماعي أو العبادي؛ لأن الخمس الصلوات لكل صلاة منها موعد، {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء:103]. هناك قاعدة نستطيع أن نعممها إلا في استثناءات قليلة جداً تكون الأمور فيها جادة؛ لأن الشخص الذي يخلف موعداً إياك أن تصدق دائماً الأعذار التي يقولها، فهو عندما يبرر إخلافه للوعد يخادع نفسه دون أن يشعر؛ لأن هذا الموعد لو كان حبيباً إلى قلبه، لما كان هناك عائق يقف أمامه، لكن لعدم تعظيم هذا الأمر في قلبه لم يبال به، بدليل الطالب الذي يأتي دائماً متأخراً، ويعتذر مرة بموت عمه، ومرة بموت أخيه، وكل مرة يعتذر بموت أحد أقاربه، ومرة يعتذر بحصول حادث سيارة وغير ذلك من الأعذار المزعومة إلى آخره، فمثل هذا لو كان مسافراً وعنده موعد طائرة، كيف سيحتاط لمثل هذا الموعد؟! نادراً ما يتخلف شخص عن الطائرة، ونادراً أن تجد طالباً ينام حتى يفوت عليه وقت الامتحان؛ لأن الامتحان شيء مهم عنده، وموعد محترم له مكانته وله أهميته وله جديته، فلذلك يأخذ بكل الأسباب كي لا يخلف هذا الميعاد، مع أنه يتخلف عن صلاة الفجر في المسجد جماعة، أو يخرجها عن وقتها فلا يصليها إلا بعد خروج الوقت، فهلا احتاط لمواعيد دينه كما يحتاط لمواعيد دنياه؟! نلاحظ أن وقت الفجر فيه توقيت شتوي، وتوقيت صيفي، ففي الصيف يكون النهار طويلاً، والفجر يأتي والناس نيام؛ لأن الليل قصير، وهم يخرجون إلى العمل الساعة السابعة صباحاً أو الثامنة، فيتكاسلون عن حضور صلاة الفجر في جماعة، في حين أن الناس عندما تأتي مواعيد خروجها للعمل أو للدراسة في الشتاء في شدة البرد تجدهم يستيقظون عند صلاة الفجر، ويخرجون في البرد، حتى لا يتأخر على موعد عمله، لكن في الصلاة تجد الواحد لا يضبط نفسه على أن ينزل إلى الصلاة في موعدها. فالشاهد من هذا الكلام أن كثيراً من الناس يتهاونون في صلاة الجماعة؛ وذلك لأن تعظيم الصلاة في قلوبهم ليس كما ينبغي؛ لأن هناك شيئاً من النفاق في القلب، وشيئاً من ضعف الإيمان؛ لأنه لو كان يعظم الصلاة ويعظم أمر الله كما ينبغي لما هان عليه أن يضيع الصلاة، ولحرص عليها تماماً مثل حرصه على العمل وموعد الطائرة؛ فانظر كيف يحتاط ويذهب المسافر إلى المطار قبل موعد إقلاع الطائرة بكذا ساعة، وكذلك آلاف الطلاب يحضرون الامتحانات مع السهر أثناء الليل للمذاكرة، ومع ذلك يقومون مبكرين، لكن كم من هذا العدد يصلي الفجر في وقتها في جماعة أو حتى في وقتها في البيت؟! كذلك الآباء تأخذهم بهم رأفة في دين الله، فيقول أحدهم: كيف أوقظه لصلاة الفجر وهو سهران، هذا فيه مشقة عليه إلى آخره؟!! يقول الله تعالى: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} [النور:2] فهذا شيء مذموم، فهؤلاء الآباء في مثل هذه الحالة يعتبر عدواً لابنه، فهذا عداوة وليست محبة، قال الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن:14] فهذه عداوة بصورة غير صريحة. لو أن عندنا بصائر لراجعنا حسابنا والتزامنا بمواعيد الصلاة وبالذات صلاة الفجر، كما نلتزم بمواعيد العمل والسفر وغيرها؛ لكن لأننا لم نعظم الصلاة صرنا نتهاون عن الصلوات في أوقاتها مع الجماعة، وخاصة صلاة الفجر في جماعة.

أسباب المحافظة على صلاة الفجر

أسباب المحافظة على صلاة الفجر

السبب الأول: تشخيص أمراض القلوب والاجتهاد في علاجها

السبب الأول: تشخيص أمراض القلوب والاجتهاد في علاجها نذكر جملة من أسباب المحافظة على صلاة الفجر. أن يفتش الإنسان عن أمراض قلبه وتشخيصها والاجتهاد في علاجها بما أمكن من الأدوية؛ لأن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله ألا وهي القلب، وإذا فسدت فسد الجسد كله، فكل أحوال الإنسان أساسها القلب، فليفتش الإنسان في قلبه، وينظف قلبه ويغسله مما يكدره، فالقلب هو القائد الذي إذا استقام استقامت جنوده من الجوارح والأركان، روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه)، وشجرة الإيمان في القلب يرويها القرآن الكريم، فمن أراد أن يحيا قلبه، وأن يلين جفاف قلبه وقسوته، فليسقه بالقرآن الكريم، فالقرآن هو الذي يحيي القلوب، فالجسد كل يوم محتاج إلى كمية من السوائل لا ينبغي أن تقل أبداً، وكذلك لا بد أن يصل القلب يومياً مدد وغذاء من القرآن الكريم؛ ليغذيه ويبقيه سليماً معافى من الآفات والأمراض، فشجرة الإيمان في القلب يرويها القرآن الكريم، ويسقيها ذكر الله سبحانه وتعالى، ويقيمها على حفظ حدود الله عز وجل وتعظيم أمره ونهيه، فالإنسان يبادر أن يتوب عن كل معصية حتى لا تحول هذه المعاصي دونه ودون طاعة الله عز وجل؛ فإن من عقوبة السيئة السيئة بعدها، وإن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها.

السبب الثاني: التذكير الدائم بالآيات والأحاديث المرغبة في صلاة الفجر

السبب الثاني: التذكير الدائم بالآيات والأحاديث المرغبة في صلاة الفجر أن يجدد الإنسان بين وقت وآخر ذكراً وعهداً بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي ترغب في المحافظة على الصلاة عموماً وصلاة الفجر خصوصاً، فلا بد من التذكير بين وقت وآخر، مثل الكتب التي فيها الأحاديث الشريفة التي تحض على المحافظة على الصلوات مثل كتاب (رياض الصالحين) وغيره من كتب العلم والأحاديث ونحو ذلك، فعلى الإنسان أن يقرأ في مثل هذه الكتب ليتذكر؛ لأن التذكير فيه انفعال القلب، وتجديد للعهد، وكل الناس يعرفون أنهم سيموتون، لكن ما أقل من يحس بالموت، فعلى المسلم أن يتذكر نصوص التحذير من طول الأمل أو الترغيب في كثرة ذكر الموت وما بعد الموت إلى آخره، ويستمر في تذكير نفسه ليتعظ كما قال عز وجل: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} [الأعلى:9]، وقال: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55] فالتذكير غير المعلومة؛ التذكير فيه تجديد العهد، فالإنسان يحتاج من وقت لآخر إلى أن يجدد العهد بالآحاديث الواردة في الحض على صلاة الجماعة وغير ذلك من أمور الدين كالتذكير ببغض البصر مثلاً، حتى يتأمل أكثر وبعمق، فتحدث له خشية وإنابة إلى الله سبحانه وتعالى، والإنسان حينما يجدد العهد بالنصوص الواردة في أمر من أمور الدين؛ فإن هذه النصوص تعمل عملها في إحياء موات قلبه، يقول الله تبارك وتعالى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء:78] وهذا تحريض على سماع أو تلاوة القرآن في الفجر، والمقصود بقرآن الفجر هو القرآن الذي يقرأ في صلاة الفريضة، ولذلك يستحب إطالة قراءة القرآن بالذات في صلاة الفجر؛ لأن الإطالة من أهم خصائص صلاة الفجر، فقوله تعالى هنا: {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء:78] أي: يشهدها ويحضرها ملائكة الليل وملائكة النهار. ولا بأس أن الإنسان إذا كان هناك حديث يهز كيانه أكثر من غيره أن يكتبه بخط جميل أو يجعل شخصاً يكتبه له، ويجعله أمامه باستمرار، بحيث ينشط همته إذا كسل، فإذا كان يتأذى من النزول في الظلام مثلاً، تذكر قوله عليه الصلاة والسلام: (بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة) فيكون حافزاً له على الخروج في الظلمات إلى المساجد، ولا شك أن المؤمن الذي عنده يقين فمثل هذا يحركه ويحفزه على الإنجاز. وقال صلى الله عليه وسلم: (لن يلج النار أحد صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها) رواه مسلم، فمثل هذا الحديث أيضاً لو كتب في ورقة وعلق في البيت لكان فيه تنبيه لأهل البيت وللأبناء، وتجسيد لأهمية هذا الموضوع الذي هو حديث اليوم، فيغرس هذا المفهوم في نفوس الأهل والأبناء ويذكرهم ويجدد العهد لديهم.

السبب الثالث: تذكر فضيلة المحافظة على صلاة الفجر في جماعة

السبب الثالث: تذكر فضيلة المحافظة على صلاة الفجر في جماعة قال صلى الله عليه وسلم: (من صلى البردين دخل الجنة) متفق عليه. قوله: (من صلى البردين) يعني: الصلاتين اللتين تصليان في وقت البرد، وهما: العصر والفجر. وقال صلى الله عليه وسلم: (من صلى الصبح فهو في ذمة الله، فانظر -يا ابن آدم- لا يطلبنك الله من ذمته بشيء، فإنه من يطلبه من ذمته بشيء يدركه ثم يكبه على وجهه في نار جهنم) رواه مسلم، فهذا وعد بالحفظ والرعاية والحماية لمن يصلي الفجر، وهذا وعيد لمن يتعدى عليه أو يؤذيه، ولما كانت صلاتا الفجر والعصر من أفضل الصلوات وأعظم الطاعات ناسب أن يجازى المحافظ عليهما بأفضل العطايا والهبات ألا وهي رؤية الله عز وجل في الجنة، قال صلى الله عليه وسلم: (أما إنكم سترون ربكم كما ترون القمر لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا، ثم قرأ قوله تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} [ق:39]) متفق عليه. قوله: (أما إنكم سترون ربكم كما ترون القمر لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم) والربط بالفاء هنا مسلك من مسالك التعليم، فيكون المعنى: كيف تدركون فضيلة رؤية الله سبحانه وتعالى في الجنة؟! وما الضريبة التي تدفع حتى تنالوا هذه الفضيلة؟! إن الضريبة هي المحافظة على صلاتي الفجر والعصر. قوله: (فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا)؛ لأن هذا يتسبب أن تنالوا ثواب رؤية الله في الآخرة، (وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب)، وهذا التعبير من النبي صلى الله عليه وسلم فيه نوع من المغالبة والمصارعة والمعالجة مع شيء آخر، فيه صراع بين النوم وبين الاستيقاظ، بين أن يهب الإنسان للصلاة وبين أن يستجيب لنداء الشيطان: (عليك ليل طويل فارقد)، بين الإقدام وبين الإحجام. قوله: (ألا تغلبوا) يعني: اجتهدوا في الأخذ بالأسباب الكفيلة للاستيقاظ للصلاة.

السبب الرابع: الأخذ بالأسباب المعينة على المحافظة على صلاة الفجر

السبب الرابع: الأخذ بالأسباب المعينة على المحافظة على صلاة الفجر النبي صلى الله عليه وسلم حين قفل -أي: رجع- من غزوة خيبر سار ليلة حتى إذا أدركه الكرى وعرس -عرس يعني: نزل في آخر الليل للنوم والراحة- فقال للصحابة: (احفظوا علينا صلاتنا) يعني: لابد أن تبقى حراسة لكي ينبهونا لصلاة الفجر، والنائم مرفوع عنه القلم، لكن ما الذي يستطيعه من يريد أن ينام؟ الذي يستطيع هو أن يأخذ بالأسباب التي تعينه على القيام لصلاة الفجر، فالرسول عليه الصلاة والسلام هنا أخذ بالأسباب بقوله: (احفظوا علينا صلاتنا)، وليس هذا فحسب، بل عين شخصاً وهو بلال رضي الله تعالى عنه وقال له: (اكلأ لنا الليل) أي: احفظ لنا الليل، وإياك أن تغفل عن وقت صلاة الفجر، فظل بلال يحرسهم وينتظر الفجر، فأخذ يذكر الله وصلى ما شاء الله له أن يصلي من القيام، ونام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فلما اقترب الفجر استند بلال إلى راحلته مواجهاً إلى جهة الشرق، حيث يطلع شعاع الفجر والشمس، فغلبته عيناه وهو مستند إلى راحلته، فلم يستيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا بلال ولا أحد من أصحابه حتى ضربتهم الشمس وهذا الحديث رواه مسلم. فمثل هذا النوم الذي يغلب الإنسان رغم بذله وسعه في تحصيل أسبابه يقال فيه ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفس الحادثة: (أما إنه ليس في النوم تفريط، إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجيء وقت الصلاة الأخرى) فالنوم عذر قهري يغلب الإنسان، لكن ليس معنى ذلك أن يتعمد الإنسان السهر ويتمادى في السهر حتى إذا ما بقي إلا وقت يسير من الفجر نام بحيث لا يستطيع القيام لصلاة الفجر. والإنسان الذي يعتاد على النوم مبكراً يستيقظ للصلاة ولا يحتاج في الغالب إلى الساعة، والأطباء يقولون: إن هناك شيئاً داخل جسم الإنسان اسمه الساعة الحيوية، وهذه مظهر من مظاهر ربوبية الله سبحانه وتعالى، وتدبير أمور خلقه. فهذه الساعة الحيوية المزعومة هي التي تنذر من حافظ وداوم على صلاة الفجر في جماعة للاستيقاظ لها أو الاستيقاظ في وقت معين، حتى لو سهر في بعض الليالي تجده ينتبه في نفس المعاد، وهذه معجزة ربانية، وهي نوع من الإعانة، وقد تكون الملائكة هي التي توقظه؛ لأنه لم ينو التفريط، وإنما هو حريص على المحافظة على الطاعة. إذاً: من كانت عادته القيام إلى الصلاة فغلبته عيناه فنام، فإنه يكتب له أجر صلاته، ونومه عليه صدقة، أما الذي ينتبه وقت الصلاة ثم يعود للنوم حتى يضيع وقتها فبلا شك أن هذا مفرط؛ لأنه انتبه وقد دخل وقت الصلاة أو سمع النداء، ومثل هذا داخل في قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون:4 - 5].

السبب الخامس: تعظيم الصلاة في القلب ومجاهدة الشيطان وحزبه

السبب الخامس: تعظيم الصلاة في القلب ومجاهدة الشيطان وحزبه إن وقت الاستيقاظ في صلاة الفجر في خطين متعارضين: خط يدعوك إلى الانغماس في النوم، وخط آخر وهو الخط الشرعي، فهناك خط شيطاني، وخط رباني ورحماني، خط الشيطان كلما أراد الإنسان أن ينتبه يقول له: عليك ليل طويل فارقد، ويعقد ثلاث عقد كما سبق، فالشيطان يمنّيك في الاستمرار في النوم، ويصعب عليك مفارقة الدفء ويثقل عليك مشقة القيام إلى الصلاة وكذا وكذا، فالشيطان عدو لدود ومتربص بك، لكن الخط الرحماني دلنا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا انتبه من النوم وذكر الله انحلت عقدة، فإذا توضأ فتنحل عقده كلها. وينبغي لمن قام بإيقاظ زوجته أو أخيه أو ابنه أن يذكره بهذا الحديث، فإن انتبه فذكر الله انحلت عقدة، فإن انحلت عقدة، فإذا صلى انحلت العقدة الأخيرة، قام فتوضأ انحلت العقدة الثانية، فإن قام فصلى انحلت العقدة الثالثة، فقام وهو نشيط النفس. صحيح أن هناك عبئاً ومشقة عند الاستيقاظ، لكن لا شك أن الإنسان لو كان قلبه يعظم الصلا؛ لهان عليه الاستيقاظ للصلاة. فهذا عمر لما أغمي عليه حين طعن وأرادوا أن يفيق من إغمائه، قال أحد الصحابة: إذا أردتم أن يصحو ويفيق من إغمائه فاذكروا له الصلاة، فقالوا: الصلاة يا أمير المؤمنين! فأفاق فوراً وقال: آلله إذاً، ولا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة. إذاً: أول شيء يعين الإنسان على الاستيقاظ لصلاة الفجر فوراً بدون أي تأجيل هو أن يكون معظماً في قلبه للصلاة، حتى يتنعم ويتلذذ بالصلاة والمناجاة.

السبب السادس: الذكر والوضوء والصلاة عند الاستيقاظ

السبب السادس: الذكر والوضوء والصلاة عند الاستيقاظ من الأسباب المعينة على المحافظة على صلاة الفجر: أنه أول ما يستيقظ يذكر الله، فيقول: الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور، الحمد لله الذي رد علي روحي وعافاني في جسدي وأذن لي بذكره، إلى آخر الأذكار المعروفة. ثم يقوم فيتوضأ حتى تنحل العقدة الثانية، فإذا صلى ركعتين سواء سنة الفجر أو ركعتين للوضوء انحلت العقدة الثالثة، ويصبح نشيط النفس، فهذا هو الدواء النبوي الذي يحفزك للاستمرار في الطاعة والانتباه، وإن أصغيت إلى الشيطان فسيبول الشيطان في أذنيك كما جاء في الحديث، وتبوء بالإثم والخسران والويل؛ لقوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون:4 - 5]. يقول صلى الله عليه وآله وسلم: (أما إنه ليس في النوم تفريط، إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجيء وقت الصلاة الأخرى)، فمن كانت عادته القيام إلى الصلاة فغلبته عيناه فنام فإنه يكتب له أجر صلاته، ونومه عليه صدقه، أما الذي ينتبه وقت الصلاة ثم يعود للنوم فهذا مفرط. وألفت النظر لشيء مهم جداً بالنسبة للالتزام بالإيمان، وهو أن الإيمان يزيد وينقص، فمن أراد أن يزيد إيمانه فلا بد أن يأخذ بأسباب الزيادة، لكن لو كان الهدم دائماً أكثر من البناء فإن البناء من جديد صعب، والهدم سهل، كذلك دخول الجنة يحتاج إلى مجاهدة؛ لأن الجنة حفت بالمكاره، أما دخول النار فهو سهل جداً؛ لأن النار حفت بالشهوات، فهي تجذبه جذباً إلى الأرض، فلا بد من الخروج من جاذبية الأرض بصاروخ قوي حتى يستطيع أن يتحرك وينطلق، فالذي أريد أن ألفت النظر إليه أن الإنسان الذي عنده كمية كبيرة من شعب الإيمان والالتزام سواء من الهدي الظاهر أم الهدي الباطن كقراءة قرآن أو حفظه أو صلاة الجماعة أو حضور مجالس العلم ومدارسة العلم الشرعي أو صلة الرحم أو بر الوالدين أو أي شيء من الأعمال الخيرية؛ فحافظ عليها وإياك أن تتراجع؛ لأن الالتزام بعد التراجع صعب جداً. يقول تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:16]، فالشاهد أن الإنسان إذا حباه الله سبحانه وتعالى كمية كبيرة من شعب الإيمان فهي تجعل إيمانه في ازدياد. والذي ينتبه وقت الصلاة ثم يعود للنوم حتى يضيع وقتها قد يتمادى في ذلك التفريط حتى يصبح ديدنه وعادته، ولا يأخذ بأسباب الاستيقاظ في صلاة الفجر، فهو متعرض لما ثبت في البخاري: (أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في رؤياه رجلاًَ مستلقياً على قفاه، وآخر قائماً عليه بصخرة يهوي بها على رأسه، فيشدخ رأسه فيتدحرج الحجر، فإذا ذهب ليأخذه لا يرجع إليه حتى يعود رأسه كما كان) يعني: يلتئم من جديد، فيفعل به مثل ما فعل به في المرة الأولى، وقد ذكر له جبريل وميكائيل عليهما السلام ما رآه بأنه الرجل يأخذ القرآن فيرفضه، وينام عن الصلاة المكتوبة. قال الإمام ابن العربي رحمه الله: جعلت العقوبة في رأس هذا النائم عن الصلاة؛ لأن النوم موضعه الرأس، فالعقوبة في نفس المحل.

السبب السابع: الإيمان بالغيب وبما عند الله من الأجر والثواب

السبب السابع: الإيمان بالغيب وبما عند الله من الأجر والثواب هناك أسباب كثيرة لمن أراد أن يحافظ على الموعد، وذلك إذا كان يحب الموعد أو يحترمه أو يخاف من فواته، فالدوافع لإنجاز المواعيد كثيرة، فالحب دافع، والرجاء والطمع في شيء له قيمه دافع أيضاً، فلو ضمن أحد المنافقين أنه يجد عظماً سميناً في المسجد لبادر إلى الذهاب إلى المسجد، ولو قيل: سيوزع لكل واحد يجيء إلى المسجد كذا وكذا جرامات من الذهب مثلاً؛ سنرى الناس يجرون إلى المساجد؛ لأن الدافع موجود، لكن المؤمن الدافع عنده الإيمان بالغيب، وأن هناك شيئاً خير من الدنيا وما فيها وهو ثواب الله سبحانه وتعالى والدرجات في الجنة، وإرضاء الله عز وجل، فالمؤمن عنده يقين بذلك، فلذلك هو يبادر إلى الطاعات. إذاً: الحب هو الذي يدفع الإنسان إلى احترام هذا الموعد، أو رجاء ما يؤمله من الثواب أو المكسب من جراء الالتزام بهذا الموعد، أو الخوف من العقاب الذي يتعرض له إذا هو أخلفه، وكلها مجتمعة في الصلاة، فلذلك تجد أن الإنسان لا يعمل عملاً إلا بسبب واحد من هذه الأشياء أو بها مجتمعة، حب أو خوف أو رجاء، فالطالب مثلاً في الامتحان يذاكر ويجتهد في المذاكرة ولا يتخلف عن الحضور؛ لأنه يحب أن ينجح، ويخاف إذا تخلف أن يرسب أو يحصل له كذا وكذا وكذا، وهذا لا يقاس بالصلاة، فالصلاة أعظم أجراً، وعقابها أشد إذا فرط فيها، فالذي ينبغي على الإنسان أن يستحضر هذه المعاني.

السبب الثامن: استعمال الأمور المنبهة لصلاة الفجر

السبب الثامن: استعمال الأمور المنبهة لصلاة الفجر هناك أسباب كثيرة تعين الإنسان على المحافظة على صلاة الفجر، وبعض إخواني الأفاضل لكي يحافظ على صلاة الفجر كان يشرب سوائل كثيرة جداً؛ حتى يحتاج إلى قضاء الحاجة بسبب هذه الكمية من السوائل، فيستيقظ فينتبه لصلاة الفجر، وكان نفس الأخ ينام ويدلي حبل من الشباك إلى خارج المنزل، حتى يمر أحد إخوانه فيحرك الحبل حتى يستيقظ، فهذه مجاهدة، يقول عز وجل: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69]. وأعرف شاباً قابلته قبل سنة (1975م) في أحد المساجد، وكان المسجد بعيداً جداً عن بيته، فحتى يضمن صلاة الفجر في المسجد، كان يبيت في المسجد من أجل المحافظة على صلاة الفجر! فالشاهد أن الأسباب كثيرة، مثل أن يتخذ الإنسان منبهاً كالهاتف، ويوصي من يتصل به، فهذا من تعاون المسلمين فيما بينهم، وأنا أعتقد أن وزر أصحاب العمارات التي يكون فيها إخوة متجاورون مضاعف إذا لم يتعاونوا على البر والتقوى، فعليهم أن يوقظ بعضهم بعضاً، والوسائل الآن كثيرة جداً، وممكن يكون هناك اشتراك في (السنترال) من أجل أن يوقظهم في موعد معين مثل وقت صلاة الفجر أو غيرها من المواعيد، فهناك مائة وسيلة، هناك ساعات للأذان توقظ لصلاة الفجر، فالأسباب كثيرة جداً، وليس شرطاً أن تكون مكلفة من الناحية المالية، لكن من كان جاداً وحريصاً فإنه يستطيع أن يتغلب ولا يتعلل بالأعذار، ولذلك قال الرسول عليه الصلاة والسلام في ركعتي الفجر: (لا تدعوهما ولو طردتكم الخيل) فإذا كان ثواب ركعتي سنة الفجر خيراً من الدنيا وما فيها، فكيف بثواب الفريضة؟! والله سبحانه وتعالى يقول في الحديث القدسي: (ما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه)، ومن أجل ذلك كله، ومن أجل أن المؤمن تمس حاجته إلى مزيد من التنبيه للاستيقاظ لصلاة الفجر ليتغلب على وسوسة الشيطان وتسويل النفس الأمارة بالسوء؛ شرع الأذان الأول قبل دخول وقت الفجر، وهذه خصيصة من خصائص صلاة الفجر، فقد شرع الأذان الأول من أجل إعانة الناس على تحصيل الثواب العظيم لصلاة الفجر، ومن أجل التغلب على وسوسة الشيطان وتسويل النفس الأمارة بالسوء، ثم زيد في الأذان الأول للفجر هذه العبارة الوجيزة الحاسمة التي تسري في قلب المؤمن سريان الكهرباء، فتطرد عنه النوم، فيهب للصلاة، ألا وهي عبارة (الصلاة خير من النوم). فلا شك أن الإنسان لو وعى هذه الكلمة، (الصلاة خير من النوم) لعرف ولعلم أن لذة الصلاة خير عند أرباب الذوق وأصحاب الشوق من لذة النوم، أما من سمعها ولم تعمل في قلبه، فآثر لذة الدنيا على نعيم الآخرة، فإنه يعاقب بأن يبول الشيطان في أذنيه ويصبح خبيث النفس كسلان.

السبب التاسع: المسارعة إلى النوم أول الليل

السبب التاسع: المسارعة إلى النوم أول الليل من أسباب القيام لصلاة الفجر والمحافظة عليها: المسارعة إلى النوم أول الليل بعد أن يصلي العشاء وسنته البعدية، ثم الوتر أخذاً بالعزيمة، ويتجنب السمر؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم (كان يكره النوم قبل العشاء والحديث بعدها) رواه البخاري. له أن يسمر في مذاكرة علم أو محادثة ضيف أو مؤانسة أهل إذا كان عنده من يوقظه للصلاة، أو عرف من عادة نفسه أنه يستيقظ، ولا يسمر إذا غلب على ظنه أنه يضيع الصلاة، بل لا يسهر في قيام الليل سهراً يضر بشهود صلاة الفجر، وفي الحديث القدسي: (ما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه) رواه البخاري. وعن أبي بكر بن سليمان بن أبي حثمة: (أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقد سليمان بن أبي حثمة في صلاة الصبح، وأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه غدا إلى السوق، وبيت سليمان بين السوق والمسجد النبوي، فمر على الشفا أم سليمان فقال لها: لم أر سليمان في الصباح). وهذا تفقد للرعية، ولإخوانه المسلمين، لماذا ما حضر الصلاة؟! وهذا موجود حتى الآن في بعض مناطق نجد، وبالذات في القصيم، فمن غاب من الناس في صلاة الفجر، قالوا له: لماذا لم تأت للصلاة؟ وحققوا في الأمر إلى آخره. الشاهد: أن على الناس أن يتعاونوا على أداء صلاة الفجر، وأن يتعهد الناس بعضهم بعضاً. كذلك صلاة الجماعة هي علاج من الانعزال الاجتماعي، أو الخوف من المواقف الاجتماعية، فأفضل علاج لها صلاة الجماعة؛ لأنه يعتقد أن صلاة الجماعة أمر واجب عليه، وغير مستعد بأن يرتكب إثماً فيفرط في صلاة الجماعة أو صلاة الجمعة، والمسلم مع إخوانه كالجسد الواحد، فالناس عندما يغيب الإنسان بسبب مرض أو سفر أو حصل له أي شيء يفتقدونه ويسألون عنه عندما لا يجدونه في الجماعة، بخلاف ما لو كان الناس منعزلين ولا يتقابلون في المسجد، فإنه يغيب الواحد أو يموت دون أن يحس به أحد! قال لها: (لم أر سليمان في الصبح، فقالت: إنه بات يصلي فغلبته عيناه، فقال عمر: لأن أشهد صلاة الصبح في الجماعة أحب إلي من أن أقوم ليلة كاملة) يعني: عند التعارض بين النافلة والفريضة تقدم الفريضة على النافلة، وهذا من فقه الإنسان أنه لا يشتغل بالنوافل ويضيع الفرائض، فإن من سهر سهراً شديداً وصلى الفجر مرهقاً؛ فإنه يتعرض لمشابهة المنافقين الذين لا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى. كذلك يتجنب الإنسان استقبال الضيوف الذين لا يبالون بتضييع صلاة الفجر، ويؤثمونه بالإفراط في السهر والسمر. قال الشعبي رحمه الله: من فاتته ركعتي الفجر فليلعن الدخلاء. والدخلاء هم الضيوف الذين يأتون بعد العشاء، ويسهرون سهراً طويلاً إلى أن يشق ذلك على هذا الإنسان، فبالتالي يتأخر وتفوته ركعتي الفجر. إن موضوع تنظيم الوقت مهم جداً، فمن ثم لابد للإنسان ألا يجالس إلا من يفيده أو من يستفيد منه، ويترك ما عدا ذلك هو من فضول الزيارات وتضييع الأوقات، ولذلك الإنسان العاقل يجعل محبس الوقت في يديه، ولا يجعل محبس الوقت في أيدي الفوضويين الذين لا يبالون بظروف الناس. إذاً: على الإنسان ألا يترك نفسه ووقته نهباً لكل طارق؛ لأنه لو فعل ذلك فلن ينجز شيئاً لا في دين ولا في دنيا، لكن ينبغي لكل إنسان أن يكون محبس الوقت في يديه، وهو الذي يتحكم في وقته، ويحدد الشيء المناسب لظروفه، ويفرض على الناس ذلك، ويجبرهم على احترام النظام، بخلاف ما لو عاش في فوضى فإنه تمر عليه السنوات تلو السنوات، وهو لا يتقدم لا في دين ولا في دنيا، وتضيع أوقاته هدراً.

السبب العاشر: الإتيان بأذكار النوم

السبب العاشر: الإتيان بأذكار النوم من الأسباب التي تعين على المحافظة على صلاة الفجر: أن يحافظ المسلم على الإتيان بآداب النوم وأذكاره، خصوصاً قراءة آية الكرسي والمعوذات عند النوم. وكذلك عند الاستيقاظ يوقظ امرأته أو هي توقظه، ولا بأس أن ينضح الماء في وجهها أو تنضح الماء في وجهه، لكن هناك أناس عصبيون فيجب مراعاة أحوالهم؛ لأنه لو نضحت زوجته الماء عليه لانقلبت الدنيا، لكن لها أن تستبدل الماء بطيب مثلاً فتدهن يدها بطيب وتدلك وجهه برائحة طيبة وبهدوء؛ فإن بعض الناس قد يكون عصبياً جداً، فتصدر منه أشياء يندم عليها بعد ذلك.

السبب الحادي عشر: المواظبة على صلاة الفجر في مسجد واحد

السبب الحادي عشر: المواظبة على صلاة الفجر في مسجد واحد من الأسباب المهمة للمحافظة على صلاة الفجر: أن يواظب المرء على شهود صلاة الفجر في مسجد واحد؛ كي يحس إخوانه بتخلفه عن الصلاة إذا وردت عليه أعراض ضعف الإيمان، فلا يبقى كالشاة التي انفرد بها الذئب، والشيطان ذئب الإنسان، لا يأكل من الغنم إلا القاصية، فهو يحوط نفسه بإخوانه كي يحموه ويحرسوه، فإذا حصل له نوع من التكاسل أو التفريط أو الضعف؛ فإن إخوانه سيحسون بأنه يتخلف، وبالتالي يبدءون ينبهونه وينصحونه ويعينونه على طاعة الله تبارك وتعالى. يقول النبي صلى الله عليه وسلم لمن استوصاه: (أوصيك أن تستحيي من الله تعالى كما تستحيي رجلاً من صالح قومك). وقال مجاهد: لو أن المسلم ما يصيب من أخيه إلا أن حياءه منه يمنعه من المعاصي لكفاه. وهذه بركة صحبة الأخ الصالح، حتى إن مجرد صحبته تجعل الإنسان لا يتجرأ على أن يرتكب معصية.

الاجتهاد في المحافظة على تكبيرة الإحرام للصلوات الخمس في جماعة

الاجتهاد في المحافظة على تكبيرة الإحرام للصلوات الخمس في جماعة ينبغي للمسلم أن يجتهد في تطبيق قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صلى لله أربعين يوماً في جماعة يدرك التكبيرة الأولى كتب له براءتان: براءة من النار، وبراءة من النفاق). قوله: (من صلى لله) يعني: بغير رياء ولا سمعة، وذلك بألا يحدث أحداً بأنه سيصلي أربعين يوماً متصلة يدرك فيها تكبيرة الإحرام، وهذا أعون له على تجنب الرياء. قوله: (كتب له براءتان: براءة من النار، وبراءة من النفاق) وفيها تأثير عجيب وبركة عظيمة يعلمها من طبق هذا الحديث، وهذا الحديث سيكون نقطة تحول في حياة الشاب الذي يريد أن يطبقه ويزيد استقامته على ما يرضي الله تبارك وتعالى. فهذا الحديث بالذات يعتبر مفتاحاً من مفاتيح الهداية والاستقامة على طاعة الله وتعظيم صلاة الجماعة، وينمي في القلب المحافظة على صلاة الجماعة، ليس هذا فحسب، بل على الإنسان أن يعزم في قلبه على التكبيرة الأولى ما عاش إلى أن يموت؛ لأن الأصل أن يحافظ على التكبيرة الأولى طوال عمره، ولا يفوتها أبداً، والأعمال بالنيات؛ لأنك إذا مت وأنت تنوي أنك تحافظ على تكبيرة الإحرام ما دام فيك عرق ينبض ثم مرضت مثلاً وعجزت عن ذلك؛ يكتب لك ثواب ما نويت، وإذا مت فإنك تثاب على هذه النية، ونية المؤمن أبلغ من عمله، ومن طالع سير السلف الصالح في ذلك رأى عجباً، فقد كان السلف إذا فات بعضهم تكبيرة الإحرام يعزى ثلاثة أيام! فتضييع تكبيرة الإحرام مصيبة، وإذا فاتتهم الجماعة عزوا أنفسهم سبعة أيام، وربما لو فاتتهم الجمعة لعزوا أنفسهم سبعين يوماً. وقال حاتم الأصم: مصيبة الدين أعظم من مصيبة الدنيا، ولقد ماتت لي بنت فعزاني أكثر من عشرة آلاف، وفاتتني صلاة الجماعة فلم يعزني أحد! فهو ينقم على الناس قلة اعترافهم بالصلاة. وكان منهم من يبكي عندما تفوته تكبيرة الإحرام مع الجماعة. ومنهم من كان يمرض إذا فاتته الصلاة مع الجماعة، ومنهم من قارب التسعين من عمره ولم يصل الفريضة منفرداً إلا مرتين، ويقول: وكأني لم أصلهما. ومنهم من لم تفته صلاة الجماعة أربعين سنة إلا مرة واحدة حين ماتت والدته واشتغل بتجهيزها. وهذا سعيد بن المسيب يقول فيه تلميذه أبو وادعة: لم ير منذ أربعين سنة إلا ما بين بيته والمسجد. وهذا سليمان بن مهران الأعمش يقول فيه وكيع بن الجراح: كان الأعمش قريباً من سبعين سنة لم تفته التكبيرة الأولى. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

§1/1