لطائف المعارف

صالح المغامسي

[اثبت أحد]

سلسلة لطائف المعارف [اثبت أحد] إن من الغيب الذي كشفه الله لنبيه صلى الله عليه وسلم قوله: اثبت أحد! فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان. وقد تحقق ما قاله صلى الله عليه وسلم؛ فقد قتل عمر في محراب رسول الله شهيداً، وقتل عثمان ويده على المصحف الشريف شهيداً رضوان الله عليهم أجمعين، وفي الحديث: فضل أحد، وبيان معجزاته صلى الله عليه وسلم المتضمنة: تكليمه للجمادات، كما حن الجذع إليه، وسلم الحجر عليه، بأبي هو وأمي صلوات الله عليه.

اثبت أحد

اثبت أحد الحمد لله حمداً طيباً مباركاً كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله شعار ودثار ولواء أهل التقوى، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فهذا لقاء متجدد من برنامجكم: لطائف المعارف، وسبق التنويه في أكثر من لقاء أن هذا البرنامج برنامج موسوعي لا يختص بشخصية معينة، ولا فم بعينه، وإنما يطرق جوانب عديدة تاريخية وإيمانية، قصصية وإخبارية، وأعلاماً مكانية وزمنية، وأعلاماً على أشخاص، هذا المقصود من لطائف المعارف. لقاء اليوم يحمل عنوان: (اثبت أحد)، وهذا لفظ نبوي، أي: أن القائل: هو نبينا صلى الله عليه وسلم. بداية نقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم في الغيب الذي أخبر عنه ينقسم إلى ثلاثة أقسام: غيب أخبر الله به نبيه صلى الله عليه وسلم مما قد سلف في غالب الأزمان، كإخباره بما قص الله عليه من نبأ يوسف وإخوته، وأهل الكهف، وقوم نوح، وعاد، وغيرهم، وخبر يخبر عنه صلى الله عليه وسلم مما وقع في حياته؛ كإخباره صلى الله عليه وسلم عن صرعى بدر، وإخباره صلى الله عليه وسلم عن أمور تقع بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، وهذا يندرج تحت الحديث الذي بين أيدينا. قال عليه الصلاة والسلام: (اثبت أحد) وهو عنوان حلقتنا. فأحد جبل سمي بذلك لتفرده عن الجبال، يقع في شمال المدينة المنورة، وهو جبل مبارك قال فيه صلى الله عليه وسلم: (أحد جبل يحبنا ونحبه)، هذا الجبل صعده النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر وعمر وعثمان الخلفاء الراشدون بعده، فلما صعدوا إلى الجبل رجف بهم، Q لم رجف الجبل؟ قال العلماء في تعليل ذلك: إن الجبل رجف فرحاً بمن رقاه من الشرفاء، ولا ريب أن النبي صلى الله عليه وسلم أشرف الخلق، وأصحابه أشرف الناس بعد الأنبياء والمرسلين، فالجبل فرح فسكنه النبي صلى الله عليه وسلم بقدمه وقال: (اثبت أحد)، ثم قال صلوات الله وسلامه عليه: (فإنما عليك نبي -يعني: نفسه عليه الصلاة والسلام- وصديق -يقصد: أبا بكر - وشهيدان) وهذا من الغيب؛ لأن عمر وعثمان آنذاك لم يقتلا، وإنما أخبر صلى الله عليه وسلم أنهما شهيدان دلالة على أنهما سيموتان شهيدين وقد وقع بعد ذلك كما سيأتي. وهذا الحديث النبوي فيه دلالات مستفيضة يمكن طرقها من عدة جوانب منها: أن الله جل وعلا ألهم بعض الجمادات حب نبيه صلى الله عليه وسلم، وليس جبل أحد بأولها ولا بآخرها، فالنبي عليه الصلاة والسلام كان يخطب كثيراً متكئاً على جذع نخلة في مسجده الشريف صلوات الله وسلامه عليه، وهو موضع المنبر اليوم، ثم بعد فترة صنع له منبر له ثلاث درجات، فكان صلى الله عليه وسلم يرقى هذا المنبر المصنوع من أعواد ليخطب الناس ويكون مشرفاً من مكان عال، فأول يوم ارتقى صلى الله عليه وسلم فيه المنبر أحدث الجذع صوت حنين وشوق إلى خبر سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم، هذا كله والصحابة ينظرون، فنزل عليه الصلاة والسلام إلى الجذع وسكنه ثم عاد عليه الصلاة والسلام وخطب، ولهذا يقال: حن الجذع إليه صلوات الله وسلامه عليه، كما أنه صلى الله عليه وسلم سبح الحصى بين يديه، وقال في حديث آخر: (إني لأعلم حجراً في مكة كان يسلم علي قبل البعثة)، والمقصود: أنه عليه الصلاة والسلام قبل أن ينبأ -وهو عليه الصلاة والسلام نبئ (بإقرأ) وأرسل (بالمدثر) - كان يمشي في طرقات مكة فيسمع الحجر يسلم عليه: السلام عليك يا نبي الله! فيلتفت ميمنة وميسرة فلا يرى شخصاً ولا خيالاً، ثم لما نبئ وأرسل عرف أن ذلك الحجر كان قد ألهم المعرفة بأن هذا الذي يمشي هو نبي الأمة وسيد الخلق، ومن سيختم الله به النبوات، ويتم الله به الرسالات، صلوات الله وسلامه عليه.

ذكر بعض الأحداث التي وقعت في غزوة أحد

ذكر بعض الأحداث التي وقعت في غزوة أحد وفي أحد الذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الذي بين أيدينا اليوم: (اثبت أحد) وقعت غزوة أحد، وهي غزوة وقعت -كما هو معلوم- بعد بدر في السنة الثالثة، وفيها وقعت أحداث عظام منها: شج رأسه الشريف صلى الله عليه وسلم، وكسر رباعيته، وسيلان الدم على وجنتيه، وكفى بذلك حدثاً في تلك المعركة، كما أنه قتل في تلك المعركة عمه حمزة، وحمزة من أسود آل البيت، ومن أحب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قتله الوحشي غلام لبعض آل بني أمية، كما وقع في تلك المعركة قتل كثير من الصحابة، فقد وصل عددهم إلى سبعين شهيداً، قال الله جل وعلا في القرآن: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ} [آل عمران:140]، وقال: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا} [آل عمران:165]، فالنبي صلى الله عليه وسلم قتل من أصحابه يوم أحد سبعون، وكانوا قد قتلوا في يوم بدر سبعين وأسروا سبعين، ولعل هذا من أقرب المعاني لقول الله جل وعلا: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا} [آل عمران:165]، في أحد كذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة أن يدفنوا شهداءهم في أرض المعركة، وإلى اليوم ما تزال القبور باقية بجوار الجبل، والنبي عليه الصلاة والسلام قبل أن يموت لما شعر بدنو أجله وقرب رحيله أتى إلى هؤلاء الشهداء الكرام فسلم عليهم واستغفر لهم ودعا لهم كالمودع، ومن باب الوفاء معهم، وهذا من دلائل عظيم وفائه صلى الله عليه وسلم لمن بذلوا المهج والنفوس والدماء من أجل نصرة دينه صلوات الله وسلامه عليه، يقول في مثل هذا أو قريب منه: وفتية لا تنال الأرض أبناءهم ولا مفارقهم إلا مصلينا المقصود من هذا: أن تلك الأنفس كانت عظيمة جليلة بذلت دماءها وأرواحها وأنفسها من أجل نصرة دين الله جل وعلا، فقام نبي الأمة ورأس الملة وسيد الأمة صلى الله عليه وسلم وهو يشعر بدنو الرحيل وقرب الأجل ومفارقة الدنيا إلى ذلك الموضع فسلم على أهله، واستغفر لهم، ليكون بعد ذلك سنة، وإلى اليوم في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدم الناس والزوار لزيارة شهداء أحد اتباعاً لسنة نبينا صلوات الله وسلامه عليه، ونحن نعلم أن على تلك القبور لا يملكون لنا ولا لأنفسهم ضراً ولا نفعاً، لكنها سنة يؤدى لهم فيها بعض الواجب رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين.

وصدق صلى الله عليه وسلم

وصدق صلى الله عليه وسلم نعود إلى قضية الغيب، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اثبت أحد، فإنما عليك نبي -يقصد: نفسه- وصديق -يقصد: أبا بكر -)، وأبو بكر رضي الله تعالى عنه وأرضاه لم يمت مقتولاً، بل مات مريضاً، والمشهور عن أهل العلم: أنه أكل طعاماً مع الحارث بن كلدة طبيب العرب المشهور في وقت واحد، فبينما هو يأكل قال له الحارث وقد أكل معه: أنزل يدك يا خليل رسول الله! فالذي أكلنا سم سنة، هذا طبيب يقول هذا، يعني: ما أكلناه أنا وأنت سم عام، قال أهل التاريخ: إن الحارث بن كلدة طبيب العرب المشهور وأبا بكر رضي الله تعالى عنه وأرضاه ماتا في يوم واحد على الحول الذي أكلا فيه تلك الأكلة، وهذا -إن صح- يدل على أن الحارث أعطي حظاً كبيراً من الطب والعلم ومعرفة ما يؤكل، وهذه أمور تجريبية إذا أمعن الإنسان فيها النظر والتأمل الفنون العلمية تعتمد على كثرة التأمل والمطالعة وإدمان النظر، كما قال هذا أو قريب منه البخاري في تعريفه لطلب العلم. أما عمر رضي الله تعالى عنه وأرضاه فقد صرح النبي صلى الله عليه وسلم بأنه سيموت شهيداً وقد مات شهيداً، طعنه أبو لؤلؤة المجوسي كما هو معروف مشهور في محراب نبينا صلى الله عليه وسلم، وقد كان عمر يقول قبل أن يقتل: اللهم إني أسألك شهادة في سبيلك وميتة في بلد رسولك. ويقال: إن بعض الصحابة وبعض من حوله من التابعين كانوا ينازعون عمر رضي الله عنه في هذه الكلمة ويقولون: يا أمير المؤمنين! إن الشهادة مظانها ساحات الجهاد وليست في المدينة؛ لأن المدينة ديار إسلام محمية ليس فيها كفار، أو ليس فيها محاربون من أهل الكفر، لكن عمر كان يصر على دعائه، وقد أعطاه الله جل وعلا لصدق نيته وعظيم جهاده ما تمناه فمات شهيداً في محراب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتحقق له ما أراد رضي الله عنه وأرضاه. أما عثمان رضي الله عنه وأرضاه فقد قتل في المدينة، قتله الخوارج بعد أن تسوروا داره وقتلوه، فهو أمير البررة والذين قتلوه فسقة فجرة، ويصعب أن نقول بكفرهم، وإن كان بعضهم قد يكفر من استحل دمه، فـ عثمان رضي الله تعالى عنه مات شهيداً، والمقصود من هذا: أن هذا بعض الغيب الذي أخبر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنهم ماتوا شهداء كما أخبر صلوات الله وسلامه عليه. هذا ما تحرر إيراده وتيسر إعداده حول قول النبي صلى الله عليه وسلم: (اثبت أحد! فإنما عليك نبي، وصديق، وشهيدان). وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.

[أصحاب الكهف]

سلسلة لطائف المعارف [أصحاب الكهف] مما قصّه الله عز وجل لنبيه في كتابه قصة أصحاب الكهف، هؤلاء الفتية الذين آمنوا بالله الواحد، وتركوا عبادة من لا يسمع ولا يعقل ولا يتكلم، وقد كافأهم الله بأن زادهم إيماناً على إيمانهم الفطري، وهدى ورشداً، وفي قصة أصحاب الكهف فوائد جمة، ومعان غزيرة، لمن أراد أن يتذكر أو يتدبر.

إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى

إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا يبلغ مدحته قول قائل، ولا يجزي بآلائه أحد، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، بلغ عن الله رسالاته، ونصح له في برياته، فجزاه الله أفضل ما جزى به نبياً عن أمته. أما بعد: أيها الإخوة المباركون! هذا لقاء متجدد من برنامجكم: لطائف المعارف، وعنوان حلقة هذا اليوم: أصحاب الكهف. ونحن نعلم أن ثمة سورة عظيمة من سور القرآن الكريم: هي سورة الكهف، وهذه السورة هي السورة الوسطى التي افتتحها الله جل وعلا بحمده، فقد استفتح الله جل وعلا بحمده سورة الفاتحة والأنعام، ثم بعد سورة الكهف فتح الله جل وعلا بحمده سورتي سبأ وفاطر، لكننا سننيخ المطايا هنا عند خبر واحد من تلك السورة؛ ألا وهو: قصة أصحاب الكهف. ونحن هنا نحاول أن نعرج على لطائف كثيرة معرفية إيمانية تاريخية اجتماعية تربوية من قول الله تبارك وتعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف:13]، إن التفصيل بعد الإجمال أسلوب ظاهر في كلام الله جل وعلا. فالله جل وعلا يخبر هنا جملة أن مجمل خبر أصحاب الكهف أنهم فتية أي: أنهم في سن تحمل في طياتها القوة والفتوة، ورزقوا إيماناً وزادهم الله جل وعلا هدى على الإيمان الفطري الذي كانوا قد رزقوه من قبل، فقد نشئوا في قوم كفار اجتمع أمرهم على معارضة قومهم في عبادتهم لغير الله جل وعلا. لكن المرء في مسيرته إلى ربه تبارك وتعالى مفتقر إلى عون ربه جل وعلا على طاعته، ولهذا قال الله جل وعلا: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]، وهنا يقول ربنا: {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا} [الكهف:14]، وهم وإن كانوا مؤمنين بالله جل وعلا حقاً إلا أنهم مفتقرون إلى رحمة ربهم، والربط على القلب أسلوب قرآني ذكره الله حتى في خبر أم موسى، يقول الله: {لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [القصص:10]. فالإنسان إذا افتقر إلى ربه جل وعلا وازدلف إليه وتضرع إليه تبارك وتعالى أن يربط على قلبه في أمور عديدة خاصة عندما يخشى الإنسان على نفسه الضعف، أو أنه يعرض لفتنة أو يعرض لمحنة أو لهلكة يكون بذلك قد ازدلف إلى الله تبارك وتعالى، يزدلف إليه بأحب أسمائه إليه وأقربها لديه جل وعلا، فيكون بعد ذلك -إذا قبل الله جل وعلا دعاءه- النفع العظيم من الرب الكريم جل جلاله. هنا يقول الله: {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا} [الكهف:14]، أي: إن دعونا إلهاً غيره، ثم نظروا إلى حال قومهم فقالوا: {هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [الكهف:15]. جملة الأمر: أنهم أجمعوا أمرهم على أن يعتزلوا الناس راجين رحمة ربهم، سائلين الله جل وعلا الرشد البين والطريق الخير، فآواهم الله جل وعلا إلى فضله، وآووا إلى الغار، وفي الطريق إلى الغار مروا على راع معه كلب كما يقول جمهرة أهل التفسير فاصطحبوهم، ثم ذكر الله جل وعلا ما كان من خبرهم في ذلك الكهف، قال ربنا وهو أصدق القائلين: {وَتَرَى الشَّمْسَ} [الكهف:17]، أيها السامع لكلامنا! المتأمل قولنا! لو قدر لك أن ترى حال هؤلاء القوم لرأيت عجباً، قال: {وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ} [الكهف:17]، أي: تميل، ومنه قول عنترة: فازور من وقع القنا بلبانه وشكا إلي بعبرة وتحمحم

قصة أصحاب الكهف وبيان ما ذكره الله عز وجل من خبرهم

قصة أصحاب الكهف وبيان ما ذكره الله عز وجل من خبرهم هنا يقول الله: {وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ} [الكهف:17]، أي: أهل الكهف، {وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ} [الكهف:17]، وهل وقع هذا؟ أي: عدم إصابتهم بالضرر من الشمس، نعم وقع؛ لأن الهيئة الجغرافية للكهف تحول من وقوع ذلك، أو أن الرب تبارك وتعالى والشمس مأمورة مخلوقة من مخلوقاته بقدره جل وعلا لم يجعل لها ضرراً عليهم، والثاني هو الأرجح؛ لأن القرينة تدل عليه، قال الله جل وعلا بعدها: {ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا} [الكهف:17]. فجعل الله جل وعلا من ازورار الشمس عنهم حال طلوعها، وأنها تقرضهم أي: تقطع عنهم حال غروبها، رحمة بهم حتى لا يصيبهم ضرر، وحتى يبقي الله جل وعلا على نومهم مدة أطول، وقد قال الله جل وعلا: {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ} [الكهف:11]، والضرب في اللغة: اللزوم والالتصاق، ومنه قول الفرزدق: ضربت عليك العنكبوت بنسجها وقضى عليك به الكتاب المنزل أو المنذري الذي يعنينا هنا: هذا معنى قول الله: {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا} [الكهف:11]. والضرب على الآذان حتى يبقي الله جل وعلا على نومهم مدة طويلة؛ لأن الإنسان إذا رزق أنه لا يسمع في منامه كان ذلك أدعى أن يبقى على نومه؛ ولهذا من بدهيات الطرائق في إيقاظ النائم: أن ينادى، فإذا وصل إليه الصوت استيقظ من نومه، قال الله جل وعلا هنا: {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا * ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا} [الكهف:11 - 12]. ذكر الله جل وعلا فيما كنا فيه أن الشمس: {تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ} [الكهف:17]، ثم ذكر الله جل وعلا: كيف أن كلبهم باسط ذراعيه بالوصيد، والكلب ليس حيواناً محموداً، لكنه هنا لما صحب الأخيار ارتقى إليهم، ومن هنا يفقه العاقل ويعرف المنصف أنه ينبغي عليه أن يتأسى بالأخيار وأن يكون قريباً منهم عله أن يصيبه شيء مما تحلوا به. قال ربنا جل وعلا: {وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا} [الكهف:18]، وهنا يكثر Q من المفترض مراعاة للنسق القرآني: أن الإنسان يمتلئ رعباً أولاً ثم يلوذ بالفرار ثانياً، وهنا قال: {لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا} [الكهف:18]، وكأن الآية تروم الوصول إلى معنى أعظم: وهو أن الإنسان إذا رآهم: {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ} [الكهف:18]، إذا رآهم لا يلبث أن يفر قبل أن يتخذ أي ردة فعل من مرآهم، فتسبق خطواته طرائق تفكيره، وقبل أن يدب الرعب في القلب تكون قدماه قد اتخذت قراراً بالفرار لهول ما رآه، وقول الله جل وعلا: {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ} [الكهف:18]، ظاهره -والعلم عند الله- أنهم كانوا ينامون وأعينهم مفتوحة، وهذا وصف كانت العرب تطلقه على الذئب، فالعرب تزعم أن الذئب ينام وإحدى عينيه مفتوحة، يقول قائلهم: ينام بإحدى مقلتيه ويتقي بأخرى المنايا فهو يقظان نائم

لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا

لو اطلعت عليهم لوليت منهم فراراً ولملئت منهم رعباً ومما يدل على هذا: أن الله قال: {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ} [الكهف:18]، وهذا من رحمة الله بهم، ولهذا أسند الله التقليب إلى ذاته العلية، حتى لا تأكلهم الأرضة، وإذا أراد الله شيئاً هيأ أسبابه، قال: {وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا} [الكهف:18]، يقول الله في سورة القمر: {وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ} [القمر:3]، فكل شيء -يا أخي- له نهاية. وهنا قال الله جل وعلا: {وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ} [الكهف:19]، فبعثهم نهاية وانقضاء لما كتبه الله جل وعلا عليهم من النوم مدة هذه من السنين الطوال، فقال الله جل وعلا: {وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ} [الكهف:19]، وهم كلهم قد لا يتجاوزون الثمانية الأشخاص: {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ} [الكهف:19] وهذه (كم) استفهامية هنا تحتاج إلى جواب، وقد تأتي في القرآن خبرية لا تحتاج إلى جواب، كقول الله جل وعلا: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ} [مريم:74]، فالمقصود: الإنباء والإخبار عن كثرة القرون التي أهلكها الله جل وعلا. هنا يقول ربنا: {وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ} [الكهف:19]، فلما كان لا بد من جواب قالوا: {قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} [الكهف:19]، والناس يتداولون فيما بينهم: أن أصحاب الكهف طالت أظافرهم، وأشعارهم، واحدودبت ظهورهم، وتغيرت هيئاتهم؛ ولهذا قالوا: هذا معنى قول الله: {لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا} [الكهف:18]، وهذا غير صحيح؛ لأن الآية التي بين أيدينا ناطقة أنهم لم يتغير فيهم شيء بدليل أن الله بين أنهم لما تلقوا ذلك السؤال كان الجواب منهم -وهم قوم زادهم الله هدى- كما أنبأ من قبل: {قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} [الكهف:19]، ومحال أن يقول أحد منهم: لبثنا يوماً أو بعض يوم وهم يرون أنفسهم قد طالت أظفارهم أو أشعارهم أو احدودبت ظهورهم أو خطهم الشيب، فلما انتسى كل ذلك كان بدهياً أن يقبل أن يقال: {لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} [الكهف:19].

عش لحظتك وكن ابن يومك

عش لحظتك وكن ابن يومك ثم يبين الله لنا جل وعلا أن الإنسان ينبغي أن يكون ابن يومه، وألا يتكلف أحداثاً لم تقع، وألا يقف فيخشى الغيب أكثر مما هو مطلوب، قال تعالى: {قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ} [الكهف:19]، دعونا من هذا السؤال الذي لا طائل من ورائه ولنحيا قضيتنا، وكذلك ينبغي على كل امرئ، وعلى أهل الساسة والقادة وأهل الفكر أن يعيشوا واقع الأمة المعاصر، وأن يحاولوا أن يجدوا لها من واقعها ما تلتئم به جراحها. أما الإكثار من غيبيات لم تأت بعد، ولم يأذن الله بوقوعها بعد، أو الإغراق في قراءة التاريخ السابق والأيام الماضية دون أن نصنع شيئاً لحاضرنا ليس من العقل بمكان: مضى السلف الأبرار يعبق ذكرهم فسيروا كما ساروا على الدرب واسمعوا ولا خير في الماضي إذا لم يكن له من الحاضر الزاهي بناء مرفع فهؤلاء الفتية الموسومون قرآنياً بزيادة الهدى يقولون: {قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ} [الكهف:19]، إذاً: فقضيتهم هي الجوع الذي نحن فيه، أي: أصحاب الكهف: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا} [الكهف:19]. أحياناً يمر معك -أيها المبارك- أن المفسرين يختلفون في المعنى؛ وذلك لأن المفتاح الذي ينظرون إليه يختلف، فإذا اختلف الباب الذي يلجون منه فلا بد أن يختلف المشهد الذي يرونه، فبعض العلماء نظر إلى أن كلمة أزكى هنا بمعنى: الطهر والنقاء، فذهبوا إلى وصف أولئك الفتية بالورع والخوف على أنفسهم في الدين، وآخرون نظروا إلى أن أزكى هنا بمعنى: النماء والزيادة والترف، ففهموا أن هؤلاء الفتية أبناء ملوك وأثريا وأغنياء وليسوا بقليلي الحظ في مجتمعهم، وهذا المفتاح يهون عليك أن تتقبل خلافات المفسرين في كثير من القضايا: {أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا} [الكهف:19]، حصل لهم ذلك ثم تبينت للناس بعد ذلك أمور وأمور نجم عنها معرفة أن هؤلاء القوم كانوا قد ضرب الله جل وعلا على آذانهم في الكهف سنين عدداً، ونجم من ذلك تقديس الذوات وهو المنهي عنه شرعاً، قال: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} [الكهف:21]، وهو ما أراد القرآن أن يحذرنا منه؛ لأن السنة حاكمة ومبينة للقرآن. وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم ولعن من جعلوا قبور أنبيائهم مساجد. هذا ما تيسر إيراده، وتهيأ إعداده، وإلا ففي قصة أصحاب الكهف معان زاخرة لم يعن الوقت على أكثر من هذا. نسأل الله جل وعلا أن يوفقنا وإياكم لما يحب ويرضى، وصل اللهم على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.

[أصول الخطايا]

سلسلة لطائف المعارف [أصُول الخطايا] الكبر والحرص والحسد أصول الخطايا، فإبليس لعنه الله امتنع عن السجود لآدم وعصى بذلك ربه بسبب الكبر، وآدم عليه السلام أكل من الشجرة وعصى ربه بسبب الحرص وقتل قابيل هابيل بسبب الحسد، فما أقبحها من أصول، وما أنتنها من مبادئ!

التعريف بأصول الخطايا

التعريف بأصول الخطايا إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فإن هذا اللقاء من لقاءات لطائف المعارف يحمل عنوان: أصول الخطايا. ونحن نعلم يقيناً أن الإنسان ما حمل على كاهله شيئاً أعظم من ذنبه؛ لأن الذنوب أسباب الهلاك قال الله جل وعلا: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا} [نوح:25]. وقال قتادة حمه الله: وبلغنا أنه ما خدشة عود ولا تعثر قدم ولا خلجان عرق إلا بذنب وما يعفو الله أكثر. لذلك فإن البحث في أصول الخطايا من أعظم ما يعين العبد على تجنبها، والعلماء استقصوا الأدلة والآثار الثابتة في الكتاب والسنة فوجدوا أن هناك أصولاً للخطايا يمكن جمعها في ثلاث: الكبر والحرص والحسد، وقالوا في بيان هذا إجمالاً: إن الكبر به عصى إبليس ربه، فكان أول ذنب عصي الله جل وعلا به يوم أن امتنع إبليس عن السجود لآدم، وكان ذلك بسبب الكبر، قال الله جل وعلا يحكي هذا الأمر: {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [ص:76]، فإبليس هنا يكبر بكبره وعلوه، ويترفع بعنصره على السجود لآدم، كما أن الحرص بعد ذلك كان سبباً في إخراج أبينا آدم من الجنة، فإن إبليس جاء لآدم: {قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى} [طه:120] مع أن الله جل وعلا أباح لآدم الجنة كلها، لكن الله جل وعلا استثنى تلك الشجرة أن يأكل منها آدم، فجاء إبليس يقسم له {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف:21] قال الله: {فَأَكَلا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه:121]، فحرص آدم عليه السلام على أن يجمع كل ما في الجنة كان سبباً -بقدر الله وبحكمته جل وعلا- في إخراج أبينا عليه السلام من الجنة. ثم تاب الله عليه كما بين الله ذلك صريحاً في كتابه. الثالث: الحسد، والعلماء استنبطوا أن الحسد من أصول الخطايا؛ لأنه يدفع بعد ذلك إلى الآثام القولية والفعلية، وجعلوا قتل قابيل لأخيه هابيل دليلاً على ذلك، فإن الله جل وعلا قال: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27] قال أهل العلم: إن الذي أنبت الغل والشحناء في قلب قابيل هو حسده لأخيه لما تقبل الله جل وعلا منه قربانه ولم يتقبل منه ما تقدم به من قربان، وما رد الله قربان قابيل إلا لسوء في نفسه، فهو قد اختار أردى ما يملك، بخلاف هابيل الذي اختار أحسن ما يملك، فجاءت النار فأكلت قربان هابيل ولم تأكل قربان قابيل، هذا الحديث عن أصول الخطايا إجمالاً. أما التفصيل سيأتي.

الكبر من أصول الخطايا

الكبر من أصول الخطايا إن الكبر هو أول أصول الخطايا، ومنبته في القلب، وهو شعور الإنسان بالترفع. وينقسم إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: الكبر على الله، ولا ريب أن هذا هو الكفر المحض، بل هو أرفع درجات الكفر، وليس في درجات الكفر رفيع، لكن من باب التصنيف. هذا الكبر ضرب الله فيه مثلاً على لسان النمرود لما قال: {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [البقرة:258]، وعلى لسان فرعون لما قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]، فهذان مثالان ذكرهما الله جل وعلا في كتابه الكريم لشخصيتين تأريخيتين كفرتا بالله، وكان كفرهما مرده إلى الكبر، كما قال فرعون: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الزخرف:51]، وهذا كما قلنا أعظم أنواع الكبر، وهو عين الكفر المحض، وأعظم ما عصي الله جل وعلا به. النوع الثاني: كبر على الرسل، وهذا كان شائعاً ذائعاً في سائر الأمم، وقد تناقلته الأمم ولو من غير أن يشعروا، وحتى لو لم يكن هناك اتصال حضاري بين تلك الأمم ولقد دل القرآن على أن ذلك القول كان ديدن كثير من الأمم في ردها لرسلها، قال الله جل وعلا مثلاً عن قوم فرعون أنهم قالوا في حق موسى وهارون: {أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ} [المؤمنون:47]، ورغم أنه لا يوجد دليل على اتصال حضاري ما بين الحضارة الفرعونية القبطية القديمة وما بين الحضارة في جزيرة العرب إلا أن القرشيين في صدهم لنبينا صلى الله عليه وسلم قالوا نفس المقولة، قال الله جل وعلا عنهم أنهم قالوا: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:31]، فهم ازدروا النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يروا أن النبي عليه الصلاة والسلام أهل لأن يستحق النبوة والرسالة، فأخذوا يقولون ما تمليه عليه أفكارهم وآراءهم المنبثقة من كبر في صدورهم، وأبو جهل صور هذا أعظم تصوير يوم أن قال: كنا وبني هاشم كفرسي رهان: أطعموا فأطعمنا، وسقوا فسقينا، حتى إذا جثونا على الركب قالوا: منا نبي، فإن أطعناهم كيف لنا بعد ذلك أن نلحق بهم؟ فالقضية قضية كبر في قلوبهم، والله جل وعلا قال: {إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ} [غافر:56]. ويجتمع النوع الأول والنوع الثاني من الكبر أن كليهما كفر محض، ولا يمكن التروي في قضية الحكم عليهما بالكفر؛ لأن الأمور إذا كانت جلية واضحة ذات حقائق بينة فليس هناك مدعاة للتروي. وما يروى في هذا أن إياس القاضي الشهير بذكائه عوتب ذات مرة أن فيه شيئاً من العجلة، لكنه كان يعتمد على أمور يراها بغير ما يراها الناس، فلما أكثر عليه اللائمون قال لأحد من يحضرون مجلسه: كم عدد أصابع ي0دك؟ فقال الرجل مباشرة وهو يجيب: خمس، فقال له إياس: لماذا أجبت عاجلاً ولم تترو؟ قال: سبحان الله، من يجهل أن أصابع يده خمس؟ فقال إياس محتجاً بهذا الجواب على هذا الرجل: فكذلك أنا ثمة أمور واضحة جلية لا أحتاج فيها إلى تأمل وترو. الثالث: الكبر على الناس، وهو درجات, قد يصل أحياناً إلى الكفر المحض، وقد لا يصل، وهو الغالب. والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (الكبر بطر الحق وغمط الناس)، فظلم الناس وازدراؤهم ومنعهم حقهم نوع من الكبر، ورد الحق نوع من الكبر، والله جل وعلا يقول: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الأعراف:146]، فلو لم يكن في الكبر من آفة ومن عواقب وخيمة أعظم من أن يصرف العبد عن آيات الله والتأمل فيها لكفى بذلك عقوبة وخسراناً، أعوذ بالله من ذلك كله. من طريف ما يروى في هذا المقام وهو طريف من جهة أن الحجاج قاله، وغير طريف في أنها عبارات قاسية جداً تنم عن جفاء وكبر، هذا الخبر مفاده أن الحجاج بن يوسف قال قبل أن يدخل الكوفة أو بعد أن دخلها: ثمة رجال أربعة لو أدركتهم لقتلتهم للكبر الذي في أنفسهم -وقائل هذا الحجاج ولهذا قلت: أن هذا الموضوع من هذا الجانب طريف- قيل له: من أيها الأمير؟ قال: إن أحدهم صعد المنبر فخطب خطبة بليغة، فقال له أحد الحاضرين: كثر الله من أمثالك -أي: عجباً وفرحاً وإعجاباً بخطبة هذا الرجل- فقال: لقد كلفت ربك شططاً، كأنه يقول: صعب على الله أن يخلق مثلي. وهذا والعياذ بالله كفر محض. وآخر جاءته امرأة وهو واقف على قارعة الطريق، وقد أضلت طريقها فجاءت تسأله -قبل أن تسأله كانت لا تعرفه وإن كان وجيهاً في قومه سيداً في رهطه- قالت له: يا عبد الله أين طريق كذا وكذا؟! قال: ألمثلي يقال: يا عبد الله؟! فهو استكبر أن ينادى بهذا اللفظ مع أن الناس كلهم عبيد مقهورون لله من حيث الجملة، يقول الله تعالى: {لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} [النساء:172]، وحتى من يستنكف أن يكون عبداً لله هو عبد لله شاء أم أبى، قال الله جل وعلا: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم:93 - 95]. آخر من ذكره الحجاج رجل ضاعت له ناقة، فأقسم بالله من جفائه وكفره وكبره لو لم يرد الله عليه ضالته ألا يصلي ولا يصوم، كأن الله محتاج إلى طاعته وعبادته. وهذه فتنة من الله له، ولما رد الله جل وعلا له ناقته التي ضلت، قال: لقد علم ربي أن يميني كانت عزماً، وهذا كفر محض. وقد يتعجب المرء إذا سمع مثل هذا، فالنفس جبلت على الكبر وجبلت على التواضع، الله يقول: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس:8]، فإذا كان المرء المؤمن ملجم بلجام التقوى تمنعه التقوى أن يقول ما يريده، وإن خلى الإنسان من التقوى ولم يبق القلب يخشى الله ولا يخاف مقامه جل وعلا أطلق لنفسه العنان في أن يقول ويفعل ما يريد.

الحرص من أصول الخطايا

الحرص من أصول الخطايا أما الحرص فإن الإنسان ينبغي عليه أن يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن روح القدس نفث في روعي أن نفساً لن تموت حتى تستكمل رزقها وأجلها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب). فالإنسان إذا علم يقيناً أن ما كتبه الله له سيأتيه على ضعفه، وما لم يكتبه الله له لن يناله بقوته، إذا علم هذا يقيناً اطمأنت نفسه وقل الحرص عنده، لأن الحرص أحياناً يكون مدعاة للآثام. ولهذا عد الحرص أصلاً من أصول الخطايا؛ لأن الإنسان إذا كان حريصاً على قضاء شهوته قد يزني، وإذا كان حريصاً على زيادة ثروته قد يسرق، وإذا كان حريصاً على زيادة نفوذه قد يظلم، فهذا معنى قولهم: إن الحرص أصل من أصول الخطايا، وأحياناً قد يصل الحرص بصاحبه إلى أن يجمع شيئاً من غير حله فيقع في المهالك، ولهذا قال العلماء: إن الحرص أصل من أصول الخطايا، وأبونا آدم -كما بينا- حرص على أن يأكل من الشجرة لما قال له إبليس: {هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى} [طه:120] فكان ذلك سبباً في أن يفقدها بالكلية إلى حين، ويخرج منها لكنه قطعاً سيعود، فهو نبي مكلم كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عنه.

الحسد من أصول الخطايا

الحسد من أصول الخطايا الحسد بسببه حسد إخوة يوسف أخاهم يوسف، ونالهم ما نالهم حتى جعلهم الله بين يدي يوسف أذلة وهم يقولون له: {تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ} [يوسف:91]. الغاية من هذا الإجمال كله: أن نعلم أن الكبر والحرص والحسد أصول الخطايا. أعاننا الله على البعد عنها والنأي منها. هذا ما تيسر إيراده وتهيأ إعداده. وأعان الله على قوله، وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.

[أعمام النبي عليه الصلاة والسلام]

سلسلة لطائف المعارف [أعمام النبي عليه الصلاة والسلام] عندما اصطفى الله نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم لتبليغ رسالته للناس كان لابد أن يكون صلى الله عليه وسلم نسيباً معروفاً في قومه، كيف لا وهو مبلغ عن الله رسالاته وكلامه، وقد كان بين أهله صلى الله عليه وسلم من حاربه وصوب سهامه نحو صدره صلى الله عليه وسلم، ومن هؤلاء أبو لهب المتوعَّد بالنار، وكان منهم من نصره ووقف بجانبه إلا أنه مات على الشرك كأبي طالب عمه، وكان من أعمامه كذلك من نصر الله به الملة، وأقام به اعوجاج الأمة، كحمزة أسد الله ورسوله، وكذلك العباس عمه، وقد ركز الشيخ في هذه المادة الحديث عن أعمامه صلى الله عليه وسلم وأقسامهم من حيث الإيمان والكفر.

أعمام النبي صلى الله عليه وسلم

أعمام النبي صلى الله عليه وسلم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، والصلاة والسلام على خير خلق الله، محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فهذا لقاء متجدد من لقاءاتنا الموسومة بعنوان: لطائف المعارف، وسيكون عنوان هذا اللقاء في هذا المساء المبارك: أعمام النبي صلى الله عليه وسلم. لا ريب أن من حسن عناية الأمة بسيرة نبيها صلى الله عليه وسلم أنها عنيت بكثير من حياته عليه الصلاة والسلام وسيرته مع الناس وسيرته الخاصة، ويسمى هذا كله: السيرة العطرة، والأيام النضرة لرسولنا صلى الله عليه وسلم، ونحن ندرك أن نبينا عليه الصلاة والسلام هاشمي عدناني من ذرية إسماعيل، وإسماعيل ابن لإبراهيم عليه الصلاة والسلام، فعبد المطلب جد النبي صلى الله عليه وسلم بالاتفاق، فهو عليه الصلاة والسلام محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، وقد كان له عليه الصلاة والسلام عشرة أعمام، ستة منهم لم يدركوا بعثته صلى الله عليه وسلم، وبما أنهم لم يدركوا بعثته عليه الصلاة والسلام فلا يتعلق بهم الكفر والإيمان، فهم من حيث الجملة داخلون في أهل الفترة، فبقي أربعة من أعمامه عليه الصلاة والسلام، وهؤلاء الأربعة هم: العباس وحمزة وأبو طالب وأبو لهب، وقد انقسموا من حيث الجملة إلى قسمين: اثنان آمنا واثنان كفرا، فأما اللذان آمنا فهما: العباس وحمزة، وأما اللذان كفرا: فـ أبو طالب وأبو لهب، ولكل منهم خبر وله علاقة بالنبي صلى الله عليه وسلم تفصيلها وفوائدها كالتالي:

أبو طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم

أبو طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم أما أبو طالب فهو أكبر أعمام النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الذي تولى كفالته بعد موت جده عبد المطلب، وأبو طالب يقول بعض العلماء: هو من نزل في حقه قول الله جل وعلا: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} [الأنعام:26] بمعنى: أن أبا طالب ينهى الناس أن يقربوا ابن أخيه أو أن يؤذوه، وينأى بنفسه أن يؤمن، وقد نقل عنه أنه قال: ولقد علمت بأن دين محمد من خير أديان البرية ديناً لولا الملامة أو حذار مسبة لوجدتني سمحاً بذاك يقيناً وأبو طالب هو أول من مدح النبي صلى الله عليه وسلم شعراً، وذلك في لاميته الشهيرة والتي منها قوله: وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل يلوذ به الهلاك من آل هاشم فهم عنده في نعمة وفواضل ولهذا ثبت ونقل: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة وشكت المدينة جدب الديار واستسقى صلى الله عليه وسلم وأجاب الله دعاءه وسقي الناس قال صلى الله عليه وسلم: (لو كان أبو طالب حياً ورأى هذا لسر) ففهم الصحابة مراده وقالوا: (يا رسول الله! كأنك تعني قوله: وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل قال صلى الله عليه وسلم: نعم). وأبو طالب لم يرزق الإيمان، لكنه رزق حظاً كبيراً من نصرة النبي صلى الله عليه وسلم، حتى ورد فيما بلغ من عظيم شفقته على ابن أخيه أنه لما حوصر بنو هاشم في الشعب كان أبو طالب إذا أمسوا ونام النبي صلى الله عليه وسلم يأتي ويحمل ابن أخيه محمداً بن عبد الله صلى الله عليه وسلم في مكان ويأتي بأحد أبنائه في مكانه؛ وذلك خوفاً من غدر قريش أن يقتله أحدهم صلى الله عليه وسلم، ولهذا شفع النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبي طالب عند ربهونحن نعلم أن شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم الخاصة به ثلاثة أقسام: شفاعة في دفع ما يضرن وهي شفاعته صلى الله عليه وسلم في أهل الموقف، وشفاعة في جلب ما يسر، وهذه شفاعته صلى الله عليه وسلم في أهل الجنة أن تفتح لهم أبواب الجنة، وشفاعة خاصة به في عمه أبي طالب، فـ أبو طالب أهون أهل النار عذاباً بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم له. وأبو طالب ترك من الذرية طالباً ومات على الشرك، وكان يكنى به وهو أكبر أبنائه، وجعفر هذا أسلم قديماً وهو جعفر بن أبي طالب الصحابي الجليل، وأحد الخمسة الذين يشبهون النبي صلى الله عليه وسلم في هيئته الخلقية، وقد كان بعض قرابته يشبهونه صلى الله عليه وسلم خلقياً منهم: جعفر، وأبو سفيان بن الحارث ابن عمه وأخوه من الرضاعة، والحسن سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقثم والفضل ابنا عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وابنا العباس بن عبد المطلب رضي الله تعالى عنه. المقصود من هذا: أن من ذرية أبي طالب طالباً وقد مات على الشرك، وجعفر وعقيل وهذا أسلم متأخراً، وعلي رضي الله عنه وأرضاه، وسيرة علي تغني عن التعريف به، فهذا أبو طالب أحد أعمام النبي صلى الله عليه وسلم وأعظم من نصر نبينا صلى الله عليه وسلم.

أبو لهب عم النبي صلى الله عليه وسلم

أبو لهب عم النبي صلى الله عليه وسلم ومن أعمامه صلى الله عليه وسلم على النقيض تماماً أبو لهب واسمه: عبد العزى، وإنما كني بـ أبي لهب ولم يكن له ولد اسمه لهب لتورد وجنتيه واحمرارهما، ولهذا لما أراد الله جل وعلا أن يذمه قال: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد:1]، فذكره باسمه الغالب عليه، ولم يقل: تبت يدا عبد العزى؛ لأن عبد العزى في قريش كثير فلا يدرى من المقصود بالسورة، لكن قال الله: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد:1] حتى يعرف أن المقصود هذا، وهو عم النبي صلى الله عليه وسلم، وقول الله جل وعلا: {تَبَّتْ} [المسد:1] هذا دعاء، وقول الله تعالى في الثانية: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد:1] ليست تأكيداً كما يفهمها البعض، وإنما المعنى: وقد فعل، أي: أن هذا الدعاء الذي قيل في الأول تحقق وحصل، وأبو لهب هذا مات موتة شنيعة؛ ذلك لأنه أصيب بمرض اشتهر عند العرب أنه يعدي فخاف بنوه أنهم إذا اقتربوا ودفنوا أن ينتقل إليهم المرض فحملوه بأعواد -نسأل الله العافية- حتى أتوا به إلى حائط فوضعوه تحت الحائط، ثم أتوا للحائط من الخلف فهدموه حتى يصبح كالقبر على أبيهم، فانظر مآل من يعاند الله ورسوله ويحارب أولياءه، ولهذا قال الله: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد:1]، مع أنه عم لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

حمزة أسد الله ورسوله وعم النبي صلى الله عليه وسلم

حمزة أسد الله ورسوله وعم النبي صلى الله عليه وسلم إذاً: كل ما مضى كنا نتحدث فيه عن اثنين من أعمام النبي صلى الله عليه وسلم اللذين كفرا به، ثم بقي اثنان آمنا به وهما: حمزة والعباس، وحمزة أول إسلاماً وهو أخو النبي صلى الله عليه وسلم من الرضاعة، وحمزة رضي الله عنه وأرضاه أسلم قبل الهجرة ثم هاجر، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: (أن حمزة أسد الله وأسد رسوله)، وقال عليه الصلاة والسلام: (سيد الشهداء حمزة)، وهو رضي الله عنه وأرضاه كان له اليد الأولى في انتصار المسلمين يوم بدر، وأكثر أهل الإشراك من القرشيين ماتوا أو قتلوا يوم بدر على يديه، فتغيضوا منه فعمدوا إلى رجل لا ناقة له ولا جمل في أمر قريش وأهل الإسلام: وهو وحشي فأعطوه حريته، وكان عبداً رقيقاً وأهدوه حريته مقابل أن يقتل حمزة فقبل، فاتخذ حربة له وتربص له في أحد ولم يكن له شأن بأمر الناس وما زال يتربص ميمنة ميسرة وحتى رأى حمزة فوجه إليه حربته فوقعت منه في مقتل فقتل رضي الله عنه وأرضاه يوم أحد، وقد حزن النبي صلى الله عليه وسلم على حمزة حزناً شديداً، ومن دلائل عظيم حزنه على حمزة: أن وحشياً هذا أسلم متأخراً ثم قدم على النبي صلى الله عليه وسلم فسأله النبي عليه الصلاة والسلام: كيف قتلت حمزة؟ فأخذ يسرد القصة والنبي صلى الله عليه وسلم تذرف عيناه ثم قال له: (غرب وجهك عني)، وهذه جبلة بشرية، فلا يستطيع عليه الصلاة والسلام أن يرى قاتل حمزة، ثم قدر لـ حمزة أن يقتل بنفس الحربة مسيلمة الكذاب، ومن غريب الأخبار الصحيحة الثابتة -وكلمة غريب هنا لا تنافي الصحة- ما جاء في الصحيح: أن علياً رضي الله تعالى عنه بعد موقعة بدر عندما خطب فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم أراد أن يجمع شيئاً لزواجها فكانت له ناقتان سمينتان مسنتان نالهما يوم بدر فوضعهما بجوار دار أحد الأنصار، وخرج ينظر إلى أقتاب وغرائر يضعها على النياق حتى يسافر بها ليجمع مالاً كافياً للزواج وتجهيز البيت، وفي تلك الأثناء التي كان فيها علي فرحاً بهاتين الناقتين وهو يجمع ما يحتاجه في سفره قدر لـ حمزة أن يدخل دار أحد من الأنصار يوم أن كان الخمر مباحاً فشرب حتى سكر، فغنت امرأة من اللواتي كن حاضرات: ألا يا حمزة! للشرف النواء. و (شرف النواء) يعني: النياق الموجودة خارج الدار، فقام حمزة فبقرها، وجب خواصيرها، وأخرج أكبادها، وشوى لقومه وشرب، فجاء علي رضي الله عنه فإذا بالناقتين قد بقرتا وجبت أفئدتهما فبكى، وهو علي الذي له ما له في ساحات المعارك والوقوف أمام الشجعان، ذرفت عيناه عندما رأى الناقتين اللتين كان يعول عليهما كثيراً قد جبتا وبقرتا وخرجت أكبادهما، فذهب للنبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فخرج عليه الصلاة والسلام ومعه علي وزيد بن حارثة مولاه ودخل الدار التي فيها حمزة وما زال على حاله، وكان حمزة آنذاك قد بلغت به الخمر مبلغاً عظيماً، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم يعاتب حمزة على فعله، فأخذ حمزة ينظر في قدمي النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يصعد النظر في ركبتيه، ثم في وجهه عليه الصلاة والسلام، ثم قال حمزة: وهل أنتم -يشير إلى النبي وعلي وزيد - إلا عبيد لأبي؛ فلما قال ذلك فقه النبي صلى الله عليه وسلم أن حمزة مخمور لا يدري ما يقول، فرجع خطوات إلى الخلف وهو ينظر إلى حمزة تحسباً من أن يحصل من حمزة شيء لم يكن متوقعاً، وهذا كله لا عتاب على حمزة فيه؛ لأن الخمر آنذاك كانت مباحة، والعبرة بتحريم الله جل وعلا، والدليل على ذلك: أن حمزة رضي الله تعالى عنه بعد ذلك رزق الشهادة في سبيل الله، والنبي صلى الله عليه وسلم توجه بقولة: (سيد الشهداء حمزة)، فنحن لا نقول: إنه ضعيف إيمان معاذ الله فـ حمزة سيد آل البيت، لكن هنا نتكلم عن خبر صحيح، وعن أحداث وقعت ونقلت إلينا، والذي نقلها لنا الحسين رضي الله تعالى عنه عن أبيه علي بن أبي طالب، وكانت بمحضر من رسول الله صلى الله عليه وسلم. موضع الشاهد: أن حمزة رضي الله عنه وقع منه هذا الأمر بلا تثريب منه؛ لأنه كان مخموراً ثم قدر له أن يموت شهيداً في أحد.

العباس رابع أعمامه صلى الله عليه وسلم

العباس رابع أعمامه صلى الله عليه وسلم أما رابع أعمام النبي صلى الله عليه وسلم فهو العباس، وكان أكبر سناً من النبي عليه الصلاة والسلام، وكانت له جلالة عجيبة؛ ولذلك احتفى به الصحابة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، وكان عمر يجله ويقدمه على سائر الناس، وقد مر معنا أنه أول من صلى على النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته. هذا ما تيسر إيراده، وتهيأ إعداده، حول أعمام النبي صلى الله عليه وسلم، رزقني الله وإياكم العافية والتقوى، ووفقني الله وإياكم لما يحب ويرضى، والحمد لله رب العالمين.

[الأدب المعاصر]

سلسلة لطائف المعارف [الأدب المعاصر] الشعر نوع من أنواع البيان، الذي يمن الله به على من يشاء من خلقه، فتسحر به الألباب، وتنال به الآراب. وكم أعز الله الحق في مواطن بأبيات قيلت، وأخزى الباطل كذلك، وهو نوع من الجهاد باللسان. وقد خبا نجم الشعر بعد العصر العباسي، ثم بعث على أيادي أساطين الشعر العربي المعاصر كأحمد شوقي والبارودي وغيرهما.

أحمد شوقي وحافظ إبراهيم عمالقة الشعر العربي المعاصر

أحمد شوقي وحافظ إبراهيم عمالقة الشعر العربي المعاصر

نموذج من السيرة الذاتية لأمير الشعراء أحمد شوقي

نموذج من السيرة الذاتية لأمير الشعراء أحمد شوقي بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شعار ودثار ولواء أهل التقوى، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله خير من صلى وصام، أفضل شافع ومشفع في عرصات يوم المحشر صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: ففي هذا اليوم نزدلف إلى عالم الأدب والشعر، ولئن كان الفرزدق وجرير رمزين كبيرين لشعراء العصر الأموي: كما كان أبو تمام والمتنبي والبحتري رموزاً عظيمة للشعر العباسي، فإن أحمد شوقي وحافظ إبراهيم رمزان كبيران للشعر العربي المعاصر. يقول أهل الصناعة الأدبية: إن الشعر العربي جملة أصابه مرحلة من الانحطاط، ثم إنه بعث على يد محمود كامل البارودي أديب مصري معاصر، وذلك أن البارودي رُزق قدرة على أن يتأسى ويحتفي بالشعراء الكبار في عصر بني العباس وبني أمية، فعارضهم في شعره فارتقى الشعر، ونتج عن ذلك مدرسة أدبية تسمى مدرسة الإحياء، كان من أكبر أعلامها وأكبر شعرائها أحمد شوقي وحافظ إبراهيم، في هذا اللقاء سنأخذ شيئاً من المقارنة ما بين هذين الشاعرين الكبيرين في تاريخ شعرنا وأمتنا العربية. أما أحمد شوقي فنقول إجمالاً كلمة واحدة: لو قُدِّر أننا أردنا أن نختار ممن خلقهم الله من قد نالوا أمانيهم شبه كاملة في الدنيا لكان شوقي واحداً منهم، فـ شوقي نشأ وفي فمه ملعقة من ذهب فقد نشأ في بيت الخديوي إسماعيل ولذلك قال: أأخون إسماعيل في أبنائه ولقد ولدت بباب إسماعيل نشأ صغيراً عيناه يصعدان إلى أعلى، يعني: ينظر إلى أعلى كثيراً، فما الطريقة التي عالجوه بها؟ أتوه بجنيهات ذهب تبرق، مما دفعه لأن ينظر إلى أسفل فاعتدل بصره؛ هذا الرجل أعطي حظا كبيراً من الحياة، ولذلك لم يستطع يوماً أن يلقي شعره؛ لذا كان يكتبه وغيره يلقيه، أما هو فلا يستطيع أن يلقيه، ومع ذلك فقد أبدع في كل فن وجال في كل غرض، وتحقق في كل غاية، وقال شعراً في جميع الفنون، أظهر فيه علو كعبه وقدرته الشعرية، سواء كان في غرض الرثاء، أو غرض الاجتماعيات، أو غرض المدح، أو غرض السياسة، أو غرض الفخر، أو غرض الغزل، في جميع أغراض الشعر أما حافظ إبراهيم فهو معاصر لـ شوقي، إلا أن حافظ مات قبل شوقي بعام أو عام ونصف تقريباً، وسيأتي هذا -إن شاء الله تعالى- عند حديثنا عنه في آخر المقام.

نماذج من الروائع الشعرية لشوقي

نماذج من الروائع الشعرية لشوقي الشعر فيه نوع من المهلكة، ولهذا قال بعض النقاد: الدين بمئزر عن الشعر، وإن كان هناك خلاف حول صحة هذه المقولة أو الغاية منها. المقصود: أن شوقي -رحمة الله تعالى عليه- له أبيات هي إلى الكفر أقرب منها للإيمان، كقوله في رثاء مصطفى كامل زعيم الحزب الوطني المصري وقد مات شاباً، وكان مصطفى كامل هذا قريباً جداً من شوقي، وصديقاً مقرباً له، إلا أنه كان مضاداً للقصر، بينما كان شوقي قد ولد في القصر، ولا يستطيع أن يتمرد على أهله، فلما مات مصطفى كامل أراد شوقي أن يعوض تلك الجفوة الشعرية، وليست في العلاقات، فعلاقته جيدة مع مصطفى كامل، فأراد أن يعوضها فلجأ إلى الغلو في الشعر فقال -وناقل الكفر ليس بكافر- في قصيدة عنوانها: المشرقان عليك ينتحبان قاصيهما في مأتم والدانِي مصر الأسيفة ريفها وصعيدها قبر أبر على عظامك حاني أقسمت أنك في التراب طهارة ملك يهاب سؤاله الملكانِ وشوقي هو القائل: رمضان ولى هاتها يا ساقي مشتاقة تسعى إلى مشتاقِ وأنا قدّمت بالأسوأ حتى أزدلف إليك بالأحسن، لكن شوقي له ثلاث قصائد في مدح النبي صلى الله عليه وسلم عزَّ نظيرها وقل مثيلها، الهمزية والميمية والبائية؛ في الهمزية قال: فإذا رحمت فأنت أم أو أب هذان في الدنيا هما الرحماء وإذا ملكت النفس قمت ببرها ولو أن ما ملكت يداك الشاء وإذا أخذت العهد أو أعطيته فجميع عهدك ذمة ووفاء وإذا قضيت فلا ارتياب كأنما جاء الخصوم من السماء قضاء وإذا بنيت فخير زوج عشرة وإذا ابتنيت فدونك الأبناء أنصفت أهل الفقر من أهل الغنى فالكل في دين الإله سواء لو أن إنساناً تخيَّر ملة ما اختار إلا دينك الفقراء يا أيها المسرى به شرفاً إلى ما لا تنال الشمس والجوزاء يتساءلون وأنت أطهر هيكل بالروح أم بالهيكل الإسراء بهما سموت مطهرين كلاهما روح وريحانية وبهاء وهذا من غرب الشعر، قال في الميمية -والتي أراد أن يعارض بها ميمية البوصيري المسماة نهج البردة-: ريم على القاع بين البان والعلم أحل سفك دمي في الأشهر الحرم رمى القضاء بعيني جؤذر أسداً يا ساكن القاع أدرك ساكن الأجم لما رنا حدثتني النفس قائلة يا ويح جنبك بالسهم المصيب رمي هذا كله -أيها المبارك- مقدمات، ثم قال يمدح النبي صلى الله عليه وسلم: أخوك عيسى دعا ميتاً فقام له وأنت أحييت أجيالاً من الرمم إن قلت في الأمر لا أو قلت فيه نعم فخيرة الله في لا منك أو نعم الله قسّم بين الخلق رزقهم وأنت خُيِّرت في الأرزاق والقسم أسرى بك الله ليلاً إذ ملائكه والرسل في المسجد الأقصى على قدم لما رأوك به التفوا بسيدهم كالشهب بالبدر أو كالجند بالعلم صلى وراءك منهم كل ذي خطر ومن يفز بحبيب الله يأتمم جبت السماوات أو ما فوقهن بهم على منورة درية اللجم ركوبة لك من عز ومن شرف لا في الجياد ولا في الأينق الرسم مشيئة الخالق الباري وقدرته وقدرة الله فوق الشك والتهم وقال في البائية: سلوا قلبي غداة سلا وثاب لعل على الجمال له عتابا ويسأل في الحوادث ذو صواب فهل ترك الجمال له صوابا؟ أبا الزهراء قد جاوزت قدري بمدحك بيد أن لي انتسابا فما عرف البلاغة ذو بيان إذا لم يتخذك له كتابا مدحت المالكين فزدت قدراً فلما مدحتك اجتزت السحابا صلوات الله وسلامه عليه، وأنت أيها المنصف تدرك أن هذه الأبيات عز نظيرها، وقل مثيلها في مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كان مدحه عليه الصلاة والسلام شرفاً لمادحه. وتجري ما بين الشعراء مواقف، يقولون -إن صحة الرواية-: أن شوقي وحافظ اجتمعا يتداعبان شعراً، فقال حافظ -يوري لـ شوقي -: يقولون إن الشوق لوع وحرقة فما لي أرى شوقي اليوم بارداً فـ شوقي الثانية هذه في البيت يقصد حافظ بها أحمد شوقي، وهي في البيت يفهم منها أن المقصود بها الشوق المعروف، وهو الحنين للمحبوب، فرد عليه شوقي بقوله: أودعت إنساناً وكلباً وديعة فضيعها الإنسان والكلب حافظ وكأن المعنى أن الكلب حافظ للوديعة، لكنه قصد ذم حافظ. وشوقي -رحمة الله تعالى عليه- له لامية شهيرة: قم للمعلم وفِّه التبجيلا كاد المعلم أن يكون رسولا أرأيت أعظم أو أجل من الذي يبني وينشئ أنفساً وعقولا سبحانك اللهم خير معلم علمت بالقلم القرون الأولى أرسلت بالتوراة موسى مرشداً وابن البتول فعلم الإنجيلا وأخذ يمدح فيها المعلمين، هذه اللامية عارضها شاعر آخر يقال له إبراهيم طوقان، وهو معلم ممارس، فيقول: إن شوقي لم يفقه التعليم حتى يقول هذه الأبيات، فرد طوقان على شوقي -يذكر قضية مدح شوقي للمعلمين: شوقي يقول وما درى بمصيبتي قم للمعلم وفِّه التبجيلا ثم يذكر: لو جرّب التعليم شوقي ساعة لقضى الحياة جهالة وخمولاً ثم يذكر معاناة المدرسين قائلاً: لكن أصلح غلطة نحوية مثلاً وأتخذ الكتاب دليلا مستشهداً بالغر من آياته أو بالحديث مفصلاً تفصيلا وأكاد أبعث سيبويه من البلى وذويه من أهل القرون الأولى فأرى حماراً بعد ذلك كله رفع المضاف إليه والمفعولا يا من يريد الانتحار وجدته إن المعلم لا يعيش طويلاً جرت لـ شوقي أبيات مثل الحكم من أشهر ذلك قوله: دقات قلب المرء قائلة له إن الحياة دقائق وثوان

عمرية حافظ إبراهيم

عمرية حافظ إبراهيم ويظهر للأخ الكريم أنني أغفلت حافظاً، لكن لو لم يكن لـ حافظ إلا العمرية لكفاه، والعمرية قصيدة قالها حافظ في مدح أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وأرضاه مطلعها: حسب القوافي وحسبي حين ألقيها أني إلى ساحة الفاروق أهديها لاهم هب لي بياناً أستعين به على قضاء حقوق نام قاضيها ثم أخذ يذكر قضايا تاريخية يوظفها شعراً، فيذكر مثلاً خبراً يقول: إن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وأرضاه مر على بستان لشباب من الأنصار ووجدهم يسكرون، فصعد الحائط ودخل عليهم وعاتبهم، قالوا: يا أمير المؤمنين! جئنا بواحدة وهي السكر، وجئتنا بثلاث: تسورت، وتجسست، ولم تستأذن، قال حافظ يصوغ هذا شعراً: وفتية أولعوا بالراح وانتبذوا لهم مكاناً وجدوا في تعاطيها ظهرت حائطهم لما علمت بهم والليل معتكر الأرجاء ساجيها قالوا مكانك قد جئنا بواحدة وجئتنا بثلاث لا تباليها فأت البيوت من الأبواب يا عمر فقد يزن من الحيطان آتيها ولا تجسس فهذي الآي قد نزلت بالنهي عنه فلم تذكر نواهيها فعدت عنهم وقد أكبرت حجتهم لما رأيت كتاب الله يمليها وما أنفت وإن كانوا على حرج من أن يحجك بالآيات عاصيها ويذكر حافظ قضية رسول كسرى، الذي بعثه كسرى إلى عمر، والرسول هو صاحب المقولة المشهورة: حكمت فعدلت فأمنت فنمت يا عمر! فقال حافظ فيها: وراع صاحب كسرى أن رأى عمراً بين الرعية عطلاً وهو راعيها فهان في عينه ما كان يكبره من الأكاسر والدنيا بأيديها وقال قولة حق أصبحت مثلاً وأصبح الجيل بعد الجيل يرويها أمنت لما أقمت العدل بينهم فنمت نوم قرير العين هانيها وله أبيات كذلك مثل شوقي جرت مجرى الحكم من أشهرها: الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعباً طيب الأعراق هذا البيت لـ حافظ من قصيدة ذكرها في مدح مصر، وبيان حبه لها، إذا كان شوقي قد نال حظوة فـ حافظ اجتماعياً لم يكن بتلك الصورة، لكن قُدِّر أن شوقي تأخر موته عن حافظ، وقبل ذلك بويع شوقي بإمرة الشعر، وكان حافظ سليم الصدر، بل كان أول المبايعين، وقال في قصيدة يمدح فيها أمير الشعراء: أمير القوافي قد أتيت مبايعاً وهذي وفود الشرق قد بايعت معي وقدر الله موت حافظ قبل شوقي، فرثاه شوقي، وقال قصيدة يرثي بها أخاه حافظاً: يا حافظ الفصحى وحارس مجدها وإمام من نجلت من البلغاء هنا ندم شوقي ندماً شديداً على أن حافظاً مات قبله، لماذا؟ لأن حافظ وجد من يرثيه، فكأنه صدّر شوقي لرثائه، لكن شوقي كان يعلم أنه لا أحد يعقل بعده له صدى في الشعر يمكن أن يرثي شوقي إذا مات، فكان يتمنى لو أنه مات قبل حافظ حتى يرثيه، لكن هذا قدر الله هذا ما تيسر إيراده وتهيأ إعداده حول رمزين كبيرين من رموز الشعر العربي، هما أحمد شوقي وحافظ إبراهيم، وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.

[الإسراء والمعراج]

سلسلة لطائف المعارف [الإسراء والمعراج] حادثة الإسراء والمعراج من أبرز أحداث السيرة النبوية، وفيها من التثبيت لنبينا عليه الصلاة والسلام ما لا يخفى. وفيها كذلك معجزة ظاهرة للنبي عليه الصلاة والسلام، وإظهار للقدرة الربانية، التي تخرق كل التصورات والمعقولات. ومعلوم أن هذه الحادثة جاءت عقب ما حدث لنبينا عليه الصلاة والسلام من إيذاء من سفهاء أهل الطائف وأراذلهم، فكانت مواساة لنبينا عليه الصلاة والسلام، وإشعاراً له بأن الله القادر على كل شيء في صفه، فمن يغلبه؟!

حكمة الإسراء والمعراج

حكمة الإسراء والمعراج بسم الله الرحمن الرحيم اللهم لك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرضا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين أما بعد: فعنوان حديثنا هذا المساء المبارك هو الإسراء والمعراج. نحن نعلم ما لنبينا صلى الله عليه وسلم من مقام جليل ومنزلة عظيمة عند ربه، وهو صلى الله عليه وسلم أرفع الأنبياء ذكراً، وإن كان آخرهم ظهوراً صلوات الله وسلامه عليه، هذا النبي الكريم خصه الله بخصائص، ومنحه -جل وعلا- عطايا لم تعط لأحد قبله عليه الصلاة والسلام، ولن تعط لأحد من الناس بعده، ولا نبي بعده عليه الصلاة والسلام. ومما أكرم الله به نبيه رحلة الإسراء والمعراج، ورحلة الإسراء والمعراج قد مرت على كثير من الناس مراراً، لكن يحسن التنوع في قراءة حادثة الإسراء والمعراج، وأظن أن أخذها عن طريق المقارنة يورث رقة في القلب، وزيادة في المعرفة. فنقول: قبل رحلة الإسراء والمعراج ذهب النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف، والطائف بلدة مرتفعة عالية عن مكة، وكان معه زيد بن حارثة، في حين أن رحلة الإسراء والمعراج -بدلاً من الطائف وهي مرتفعة- عُرج به صلى الله عليه وسلم في السماوات السبع، وعوضاً عن زيد أعطي أو كان معه صلى الله عليه وسلم جبريل، وأهل مكة عندما عاد عليه الصلاة والسلام إليهم سبوه، وأهل الطائف من قبل رموه، ففتح الله جل وعلا لنبيه أبواب السماوات السبع كلها. سريت من حرم ليلاً إلى حرم كما سرى البرق في داج من الظلم صلوات الله وسلامه عليه، هيأه الله جل وعلا فشق صدره، وأُخرج قلبه وغُسل بماء زمزم، وملئ إيماناً وحكمة، ثم أعيد القلب مكانه، ولا يقدر على هذا إلا الله؛ ثم قدمت له دابة يقال لها: البراق، وذهب صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الأقصى، أي: أسري به كما قال الله: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء:1]؛ لأن هناك خطباً عظيماً سيقع، فقدمها الله بقوله: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} [الإسراء:1] والسرى لا يكون إلا ليلاً؛ فلماذا قال الله كلمة ليلاً؟ الظاهر: أنه لا حاجة لها، لكن الحاجة العظيمة لها هنا أنها بينت؛ لأنها نكرة فبينت أن هذا الأمر كله حدث في برهة من الليل، والأمر كما قال بعضهم: مشيئة الخالق الباري وصنعته وقدرة الله فوق الشك والتهم وآخرون من أهل الصناعة البلاغية يقولون: التنكير في (ليلاً) هنا للتعظيم والتهويل، أي: ليل وأي ليل، ليل التقى به محمد صلى الله عليه وسلم بجبرائيل، وعُرج به إلى السماوات السبع، وكلمه ربه وناجاه وقربه وأدناه، وصلى عليه الصلاة والسلام بالنبيين إماماً؛ ليقول الله للأنبياء: هذا سيدكم وإمامكم، وإن كان مبعثه آخر المبعث، وأمته آخر الأمم.

أدب الاستئذان

أدب الاستئذان ثم عُرج به إلى السماوات السبع مع جبريل، فاستفتح له السماء الدنيا، وقال له الخازن: من أنت؟ قال: أنا جبريل، قال الخازن: أو معك أحد؟ قال: نعم معي محمد. فقال الخازن: أو قد بُعث؟ قال: نعم، فتأمل هنا، يقول العلماء في الاستنباط هنا: إن جبريل ومحمداً عليهما الصلاة والسلام أفضل من الخازن، أي: أفضل من ذلك الملك، لكن الأدب في الاستئذان مهم، فالإنسان له حق في ملكه وسلطانه أن يستأذن عليه، وأن يُطلب إذنه ولو كان الداخل عليه أفضل منه؛ فإن جبريل ومحمداً عليهما السلام أفضل من ذلك الخازن، لكنهما استأذنا تأدباً.

لقاء نبينا عليه الصلاة والسلام بالأنبياء في السماء

لقاء نبينا عليه الصلاة والسلام بالأنبياء في السماء لقي صلى الله عليه وسلم في السماء الأولى أو في السماء الدنيا رجل، وهذا الرجل عن يمينه أسودة وعن شماله أسودة، إذا رأى جهة يمينه ضحك، وإذا رأى جهة شماله بكى، وهو لا يعرفه، فقال صلى الله عليه وسلم يسأل جبريل عنه: (من هذا يا جبريل؟ قال: هذا أبوك آدم -فكلم آدم نبينا صلى الله عليه وسلم- فقال: مرحباً بالابن الصالح والنبي الصالح)، ثم عُرج به إلى السماء الثانية، فإذا بابني الخالة يحيى بن زكريا وعيسى بن مريم فرحبا به قائلين: مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح. ثم عُرج به إلى السماء الثالثة فرأى أخاه يوسف، وإذا بيوسف قد أعطي شطر الحسن، وعندما نقول: شطر الحسن، أي: نفس الحسن، فالله جل وعلا خلق آدم بيده فلا أحد أبهى منظراً من آدم؛ لأن الله خلقه بيده، فيوسف عليه الصلاة والسلام على الشطر، أي: على النصف من جمال آدم، وهذا الذي نعتقده على التحقيق والعلم عند الله. ثم عُرج به إلى السماء الرابعة فرأى أخاه إدريس، وكل من يوسف وإدريس قد رحبا به قائلين: (مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح). ثم أتى السماء الخامسة فإذا أخاه هارون رحب به كإخوته. ثم أتى السماء السادسة فإذا أخوه موسى فرحب به قائلاً: (مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح)، ثم لما جاوزه بكى موسى فقيل له: (ما يبكيك؟ قال: أبكي لأن غلاماً بُعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخل من أمتي)، وقد قالها موسى غبطة؛ لأن التنافس في الخير محمود يقول الله تعالى: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26]. ثم أتى السماء السابعة فوجد رجلاً قد أسند ظهره إلى البيت المعمور، قال صلى الله عليه وسلم: (ما رأيت أحداً أشبه بصاحبكم منه ولا منه بصاحبكم، قلت: من هذا يا جبريل! قال: هذا أبوك إبراهيم) فسلّم عليه، لكن قال إبراهيم كما قال آدم: (مرحباً بالابن الصالح والنبي الصالح)؛ لأنه صلى الله عليه وسلم من ذرية إبراهيم، وهو أبو الأنبياء عليهم السلام جميعاً.

أدب نبينا عليه الصلاة والسلام

أدب نبينا عليه الصلاة والسلام ثم إنه صلى الله عليه وسلم تجاوز سدرة المنتهى، وقد قال العلماء: إن سدرة المنتهى إليها ينتهي ما يعرج من الأرض، جاوزها صلى الله عليه وسلم حتى وصل إلى مستوى يسمع فيه صريف الأقلام، وهناك كلمه ربه وناجاه وقربه وأدناه، وفي تلك الرحلة رأى النبي صلى الله عليه وسلم جبريل على هيئته التي خلقه الله تعالى عليها، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} [النجم:13] وقد أظهر النبي صلى الله عليه وسلم في رحلة المعراج أدباً جماً، ولهذا قال الله: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم:17] أي: أنه صلى الله عليه وسلم في تلك الرحلة المباركة لم يلتفت ميمنة ولا ميسرة؛ تأدباً مع ربه، حيث فرض الله عليه في ذلك الموضع الجليل والمكان العظيم الصلوات خمسين صلاة في اليوم والليلة، وفي أوبته قابل موسى، وكأن الله أراد أن يرحمنا بموسى، وأخبره موسى أنه بلى الناس قبله وأن أمته لا تطيق هذا، فما زال صلى الله عليه وسلم يُراجع ربه حتى استحيا، فاختصم عنده صلى الله عليه وسلم أمران: حياؤه من ربه، وشفقته على أمته، فاختار الحياء مع ربه وقال لأخيه موسى: (إنني استحييت من كثرة مراجعة ربي) فإذا بمناد: أن أمضيت فريضتي، وأنني كتبت لهم أجر خمسين صلاة؛ فهي خمس صلوات في اليوم والليلة بأجر خمسين صلاة؛ رحمة من الله وفضلاً علينا، وإكراماً لنبينا صلى الله عليه وسلم.

امتحان الكفار نبينا عليه الصلاة والسلام

امتحان الكفار نبينا عليه الصلاة والسلام ثم عاد صلى الله عليه وسلم إلى بيته على مرقده، فأصبح وخرج إلى الملأ من قريش على غير عادة وتنحى، فجاءه أبو جهل عمرو بن هشام كأنه شعر بشيء فقال: يا محمد! هل من خطب؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (نعم أُسري بي البارحة إلى المسجد الأقصى) هذا أمر لا تتصوره العقول، فوجدها أبو جهل فرصة للتهكم بنبينا صلى الله عليه وسلم، وأنى له ذلك؟! قال: يا محمد! أرأيت لو جمعت لك قومك أكنت محدثهم بما حدثتني به؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (نعم) فنادى أبو جهل في أندية قريش يناديهم بأسماء من ينتسبون إليه، يا بني عبد مناف! يا بني كذا فلما اجتمعوا قال: استمعوا لأخيكم، يقولها طمعاً في أن يكذب الناس النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، فلما قال صلى الله عليه وسلم ذلك صُعقوا معنوياً، فبين مصغ وواضع عشره على رأسه، أي مشبك بين أصابعه؛ وهو صلى الله عليه وسلم ثابت يخبرهم بما وقع، فقال بعضهم: صف لنا بيت المقدس كبرهان، أو كحجة بيننا وبينك، وهو صلى الله عليه وسلم دخله ليلاً، ولم يكن مثله لينظر في البنيان والعمار، وإنما دخل وجلاً خائفاً يصلي، لكن الله جل وعلا رحمه بأن قرب له بيت المقدس، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم ينظر إلى المسجد ويصفه لقريش، فقال من ذهب قبل إلى بيت المقدس ويعرف المسجد قال: أما المسجد فكما وصف، أو أما المسجد فكما قال. قال الله جل وعلا: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} [الإسراء:1] فأراد الله جل وعلا أن يُري نبيه صلى الله عليه وسلم كثيراً من الآيات الدالة على عظمته سبحانه، والتي تزيد نبينا صلى الله عليه وسلم يقيناً بربه، حتى يبلغ الرسالة على أكمل وجه وأتمه، فقال سبحانه: {لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء:1]. وقال في النجم: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم:1 - 11] إلى أن ذكر الله جل وعلا كيف أنه صلى الله عليه وسلم بلغ سدرة المنتهى، وأنه تأدب هنالك، ووصف الله أدبه بقوله: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم:17] فهو صلى الله عليه وسلم أشرف الخلق مقاماً وأكرمهم أدباً، وبعض العلماء يقارن هنا ما بين مقام التكليم الذي أُعطيه موسى ومقام المعراج الذي أُعطيه نبينا صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إن موسى عليه الصلاة والسلام لما أُعطي مقام التكليم طمع في مقام الرؤيا فقال: {رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} [الأعراف:143] أما نبينا صلى الله عليه وسلم فقالوا: إنه لم يطلب من الله شيئاً، قالوا: وهذا معنى: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم:17] فهو أكمل أدباً؛ وممن نص على هذا من العلماء ابن القيم رحمة الله تعالى عليه، والذي يعنينا أن الأنبياء عليهم الصلاة جميعاً في الذروة من الأدب الجم والخلق العظيم، وليس هذا محل اختلاف بين المسلمين، لكن النبي صلى الله عليه وسلم -وهذا إجماع من الأمة- أفضل أولئك النبيين أدباً، وأعظمهم تقوى، وأجلهم شرفاً، وأكرمهم مقاماً، صلوات الله وسلامه عليه. وقد مر معنا أن الإسراء والمعراج حدث عظيم، استشعره شعراء الإسلام، وذكروه كثيراً في شعرهم، ومما قالوه في ذلك: يا أيها المسرى به شرفاً إلى ما لا تنال الشمس والجوزاء يتساءلون وأنت أطهر هيكل بالروح أم بالهيكل الإسراء بهما سموت مطهرين كلاهما روح وريحانية وبهاء هذا ما تيسر إيراده وتهيأ إعداده حول الحديث عن الإسراء والمعراج، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه، والحمد لله رب العالمين.

[القمران]

سلسلة لطائف المعارف [القمران] الشمس والقمر آيتان من آيات الله، أجرى الله عليهما منافع عظيمة منها معرفة مواسم الزراعة، ومعرفة المواقيت. ومن ذلك أن الله جل وعلا جعل كسوف الشمس وخسوف القمر آيتين يخوف بهما عباده، حتى يفزعوا إليه ويعود إليه بالذكر والصلاة والاستغفار.

تعلق الشمس بالحياة المعيشية وتعلق القمر بالجوانب العبادية

تعلق الشمس بالحياة المعيشية وتعلق القمر بالجوانب العبادية الحمد لله الذي أحكم كل شيء خلقه وأحسن كل شيء صنعه، وأشهد أن لا إله إ لا الله، لا رب غيره ولا شريك معه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمد عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فإن عنوان هذا اللقاء: القمران. ندرك أن الصناعة العربية يكثر فيها ما يسمى بالتغليب، والتغليب أن يؤتى إلى اثنين، فيعمد إلى تسميتهما بأحدهما، لاشتراك كثير بينهما، ثم إن التغليب له طرائقه، يعني: يختلف من حال إلى حال لأسباب، فمثلاً: يقال للسبطين الكريمين الحسن والحسين يقال لهما: الحسنان؛ لأن الحسن أكبر من الحسين، ويقال لمكة والمدينة المكتان؛ لأن مكة عند جمهور العلماء أفضل من المدينة، ويقال للشمس والقمر القمران؛ لأن القمر مذكر والشمس مؤنث، قال المتنبي: وما التأنيث لاسم الشمس عيب ولا التذكير فخر للهلال ولو كل النساء كمن فقدنا لفضلت النساء على الرجال. الذي يعنينا أنهم قالوا: القمران؛ لأنهم القمر مذكر والشمس مؤنث، وقد يقال غير ذلك، يقال: العمران في حق أبي بكر وعمر، ونسب إلى عمر؛ لأن لفظ أبي بكر مركب تركيب إضافي، واسم عمر مفرد. وسنتحدث عن القمرين، الشمس والقمر. فنقول والله الموفق: إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، مخلوقتان لله تبارك وتعالى، خلقهما الله جل وعلا، جعل أحدهما آية مبصرة، وهي الشمس، وجعل الآخر منهما آية ممحوة وهي القمر، وقال جل وعلا يخبر عن عظيم صنعته وجليل قدرته: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس:38 - 40]. الشمس جعلها الله جل وعلا آية للحياة المعيشية، والغرس والحصاد مبني على البروج الشمسية، وثمة أنوا من الحبوب والثمار لها مواسم معينة تزرع فيها، ولها مواسم معينة تحصد فيها. أنا لست أنسى قريتي السمراء في عود الحصاد والسنبل المتجمد الشرقي يحلم بالرقاد وخطى الكماة الكادحين تروح تضرب في ارتياد هي ذكريات لم تزل محفورة في خاطري هي ذكريات لم تزل تسقي خريف الشاعر يا واحة العمر الجديد على الطريق الساحر أنا عائد يوماً إليك مع الربيع الزاخر في نسمة الشمس الوضيـ ـئة ثم النسيم العابر في لهفة خفقت بها روح المحب الذاكر الغاية: أن هناك مواسم غرس، ومواسم حصاد مبنية على بروج الشمس، أما القمر فقد جعله الله جل وعلا ميقاتاً لحياتنا الدينية، {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة:189]، (صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته)، فالقمر جعله الله جل وعلا عنواناً وميقاتاً لحياتنا المتعلقة بالعبادة. هذا من الفوارق بين الشمس والقمر.

الشمس تحبس لنبي من أنبياء الله

الشمس تحبس لنبي من أنبياء الله الشمس حبسها الله جل وعلا لنبي يقال له: يوشع بن نون، ويوشع بن نون هو فتى موسى الذي ورد ذكره في قول الله جل وعلا: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ} [الكهف:60]، وقد حكم بني إسرائيل قبله. ومن المعلوم أن الله جل وعلا أمر بني إسرائيل بالدخول على الجبارين فامتنعوا، فحكم الله جل وعلا عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض، وفي خلال الأربعين سنة هذه مات هارون أولاً ثم مات موسى، ثم حكم وساس بني إسرائيل بعد موسى وهارون يوشع بن نون عليه السلام، فحارب الجبارين، وكانت اليهود تعظم يوم السبت وتجعله إجازة أي: لا يقاتلون يوم السبت، فلما كان مساء الجمعة، وكادت الشمس أن تغيب، فإذا غابت وهو لم تفتح له البلدة اضطر إلى أن يقاتل يوم السبت، ولا قتال عندهم يوم السبت، فقال يخاطب الشمس: إنك مأمورة وإنني مأمور، أي: أنت مأمورة بأن تغيبي، وأنا مأمور أن أفتح هذه البلدة وأقود هذه الجيوش، اللهم احبسها عني، فحبس الله عنه الشمس، وأخر غروبها تكرمة له، هذا مما أتاه الله جل وعلا بعض أنبيائه، ولهذا قال شوقي: قفي يا أخت يوشع خبرينا أحاديث القرون الغابرينا فأخت يوشع في مصطلح شوقي مبني على خلفية ثقافية تاريخية هي الشمس، حبسها الله جل وعلا ليوشع بن نون، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا أبا ذر! أتدري أين تذهب الشمس؟ قال: قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإنها تأتي فتسجد تحت العرش، ثم تستأذن ربها فيأذن لها، حتى يأتي يوم لا يأذن الله لها، فيقول: ارجعي من حيث غبت)، فتخرج على الناس من المغرب، وهذا معنى قول الله: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ} [الأنعام:158].

القمر مضرب للجمال

القمر مضرب للجمال القمر لا يتعلق به شيء من هذا، لكن القمر عند جماهير الناس، أو عند عموم أهل الأرض مضرب للجمال، فإذا أرادوا أن يشبهوا أحداً أو يذكروا جمال أحد من الناس وصفوه بالقمر ليلة البدر، وهذا حتى في السنة، فإن جابر بن سمرة رضي الله تعالى عنه وأرضاه قال: خرجت في ليلة أضحيان -أي: ليلة القمر فيها مكتمل- فرأيت القمر ورأيت النبي صلى الله عليه وسلم عليه حلة حمراء، فجعلت أنظر إلى البدر وأنظر إلى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فلهو عندي أجمل من القمر، كما أن البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه وأرضاه قيل له: أكان وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل السيف؟ قال: لا، بل مثل القمر. يقول عمرو بن أبي ربيعة وهو شاعر حاد كثيراً عن الصواب في شعره: قالت الكبرى أتعرفن الفتى قالت الوسطى: نعم هذا عمر قالت الصغرى وقد تيمتها قد عرفناه وهل يخفى القمر فعجز البيت الثاني شهير بين الناس، ويجري مجرى الأمثال، والشاهد أن الناس يضربون المثل بالقمر في قضية الجمال.

كسوف الشمس وخسوف القمر آية من آيات الله

كسوف الشمس وخسوف القمر آية من آيات الله إن الله تبارك وتعالى جرت سنته أنه يظهر النقص في خلقه حتى يستبين للناس الكمال في وجهه جل وعلا، فالشمس تكسف، والقمر يخسف، ولهذا ذكر الله في سورة القيامة أن القمر يخسف، وذكر في سورة التكوير: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} [التكوير:1]. وهذا كله حتى يعلم الناس أن الوجه الذي لا يحول ولا يزول ولا يتغير هو وجه ربنا الأكرم جل جلاله، بل إن نبينا صلى الله عليه وسلم، هو أكرم المخلوقين قاطبة شج وجهه وكسرت رباعيته، فنحن نرى في كل هذا كمال صفات ربنا جل وعلا، وصدق الله القائل: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27]. وقال جل ذكره: {وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88].

الشمس والقمر في خبر إبراهيم الخليل

الشمس والقمر في خبر إبراهيم الخليل ورد ذكر الشمس والقمر في خبر خليل الله إبراهيم يوم ناظر قومه، قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ} [الأنعام:75 - 76]، وإبراهيم يعلم أن هذا سيأفل لا محالة، قال: {قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ [الأنعام:76] {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي} [الأنعام:76]، هو يوهم عبدة الكواكب أنه يريد الخير، وهو فعلاً يريد الخير، لكن يتنزل لهم رغبتة في دعوتهم، فلما أفل أظهر التضرع، وقال: {لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً} [الأنعام:77 - 78]، ونحن نعلم أن إبراهيم رأى الشمس مراراً قبل ذلك اليوم، لكنه تعامل معها على قدر عقول من يخاطبهم، كأنه يراها لأول مرة، {فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام:78 - 79].

كسوف الشمس في عهد محمد رسول الله

كسوف الشمس في عهد محمد رسول الله الشمس كسفت في عهد نبينا صلى الله عليه وسلم، ووافق يوم كسوفها وفاة إبراهيم بن النبي صلى الله عليه وسلم، وإبراهيم ولد للنبي صلى الله عليه وسلم من جارية يقال لها: مارية، مكث مسترضعاً في عوالي المدينة ثمانية عشر شهراً، فما أتم ثمانية عشر شهراً توفاه الله، فلما توفاه الله بكى النبي صلى الله عليه وسلم وقال -الحديث الشهير-: (وإنا على فراقك يا إبراهيم لمحزونون)، لكنه قال صلى الله عليه وسلم: (ولا نقول إلا ما يرضي ربنا). فلما كسفت الشمس في ذلك اليوم قال بعض الناس: (إنما كسفت الشمس لموت إبراهيم)، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم على الناس يعلمهم مسألة عقدية، وهي أن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، يخوف الله بهما عباده، لا يكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم مثل ذلك فافزعوا إلى الصلاة، ثم فزع صلى الله عليه وسلم إلى الصلاة يجر رداءه، وصلى بالناس صلاة بركوعين، وسجود كالمعتاد، لكن زاد في الركوع ركوع آخر، ثم خطب في الناس يعضهم ويذكرهم بالآخرة، ويقول لهم: إنه ما من شيء توعدون به إلا وقد رأيته في مقامي هذا، وحديثه ليس هذا موضع بسط القول فيه، لكن الغاية منه أن تعلم أن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، تجريان بقدر الله تبارك وتعالى، كما قال الله: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} [يس:38]، وكما قال الله: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ} [يس:39]، ومع ذلك عبدا من دون الله، ولهذا قال الله: {لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [فصلت:37]، ومن المعلوم أن الهدهد أنكر على قوم بلقيس أنهم يعبدون الشمس، ودعته فطرته إلى أن يستنكر ذلك منهم، وأن يخاطبهم بقوله: {أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [النمل:25].

الشمس والقمر آية مبصرة وآية ممحوة

الشمس والقمر آية مبصرة وآية ممحوة الشمس والقمر ذكرهما الله جل وعلا بأنهما آية مبصرة، وآية من ممحوة، قال الله تعالى: {فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا} [الإسراء:12]؛ ولهذا ترد في القرآن كلمة ليلة كثيرا؛ لأن الأنبياء خاصة في قصص الأنبياء؛ لأن هذا تعلق بشرائع الناس، ويتعلق بمعادهم لا بمعاشهم، والأنبياء إنما يعنون أعظم عناية بما يكون من أمور الدين؛ ولهذا قال الله جل وعلا: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} [الأعراف:142]، ولم يقول جل وعلا: واعدنا موسى ثلاثين يوماً. والمشهور أن الله جل وعلا واعد موسى ثلاثين ليلة، وهي ليالي شهر ذي القعدة، وأتمها الله بعشر، وهي ليالي شهر ذي الحجة، وبهذا يكون الله جل وعلا قد كلم موسى في يوم النحر، ومعلوم أن لموسى ميقاتين: ميقات زماني، وهو عاشر ذي الحجة على الأظهر، وميقات مكاني على قول واحد، وهو جبل الطور الذي كلم الله جل وعلا عنده موسى. الذي يعنينا -كما بينت- أن القمر آية جعلها الله جل وعلا لأمور حياتنا الدينية، كما جعل الشمس آية لحياتنا المعيشية التي فيها أرزاقنا وفيها معاشنا. فتحرر من هذا كله أن الشمس والقمر ذكرا في الشعر العربي، لكن الشمس كانت أقل حضاً من القمر؛ لأن القمر يتعلق بالجمال، أما قول المتنبي اللي ذكرناه في الأول: وما التأنيث لاسم الشمس عيب ولا التذكير فخر للهلال ولو كل النساء كمن فقدنا لفضلت النساء على الرجال. فقد قاله مجاملة في رثاء إحدى قريبات سيف الدولة الحمداني، ونحن نعرف أن المتنبي كان له باع طويل في مدح سيف الدولة الحمداني، هذا ما تيسر إيراده، وتهيأ إعداده حول آيتين عظيمتين من آيات الله: هما الشمس والقمر. وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.

[المسجد النبوي]

سلسلة لطائف المعارف [المسجد النبوي] المسجد النبوي هو مسجد النبي محمد صلى الله عليه وسلم الذي كان أول خطوة من خطوات بناء الدولة الإسلامية في المدينة المنورة، فيه الروضة الشريفة التي جعلها النبي صلى الله عليه وسلم روضة من رياض الجنة، الصلاة فيه بألف صلاة فيما سواه.

المحاريب الثلاثة في المسجد النبوي حاليا

المحاريب الثلاثة في المسجد النبوي حالياً الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمد عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره، واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فإن عنوان هذا اللقاء هو: المسجد النبوي، وهو ضمن سلسلة لطائف المعارف. المسجد النبوي أحد المساجد الثلاثة التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الرحال لا تشد إلا إليها، المسجد الحرام والمسجد النبوي والمسجد الأقصى، وقد رفع الله شأن هذه المساجد فقال جل شأنه: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ} [النور:36 - 37]. المسجد النبوي هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن ندرك أن الله جل وعلا اختار البلدة المباركة طيبة ليهاجر إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث دخلها النبي صلى الله عليه وسلم ضحى الإثنين، فأسس في جنوبها مسجد قباء، ثم مكث فيها الثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة، ثم أتى داخل البلدة حتى بركت ناقته القصواء في موضع المنبر اليوم، ثم لم ينزل صلى الله عليه وسلم فقامت الناقة فجال جولة صلى الله عليه وسلم، ثم عادت الناقة بعد أن جالت جولة إلى مدركها الأول، ثم نزل صلى الله عليه وسلم بعد أن أخذ أبو أيوب الأنصاري متاعه وقال عليه الصلاة والسلام: (المرء مع رحله)، في تلك البقعة أسس صلى الله عليه وسلم وبنى مسجده والصحابة معه، وهم يرتجزون: لئن قعدنا والنبي يعمل إن هذا لهو العمل المضلل وهو صلى الله عليه وسلم يجيبهم: اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة فارحم الأنصار والمهاجرة وسأتكلم عن واقع المسجد النبوي الآن، حتى إذا كتب لك أن تزور هذا المسجد تكون -على الأقل- على علم بكثير مما فيه. المسجد اليوم فيه ثلاثة محاريب، المحراب الذي يصلي فيه الأئمة الآن، وهو محراب بناه عثمان بن عفان رضي الله عنه، وتحرر من هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر لم يصلوا في هذا المحراب؛ لأن المحراب من جهة الجنوب في التوسعة التي وسعها عثمان بن عفان الخليفة الراشد رضي الله عنه وأرضاه، وأقره الصحابة وصلوا وراءه في ذلك الزمان، هذا المحراب الأول. المحراب الثاني: يوجد في الروضة الشريفة، وهو موضع صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، في ذلك المكان كان صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس إماماً، وهذا الموطن في الروضة الشريفة إذا استقبلته استقبلت القبلة، وتكون حجرة عائشة التي فيها القبور الثلاثة على شمالك، ويكون منبره صلى الله عليه وسلم عن يمينك. وحجرة عائشة فيها القبور الثلاثة، قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقبر أبي بكر وقبر عمر. المحراب الثالث: المحراب الذي خارج الروضة عن يمينك وأنت مستقبل القبلة، أي غرب المسجد، وهذا المحراب لا يتعلق به شيء قديم أثري، إنما هو محراب بناه أحد سلاطين آل عثمان، وهو الآن خارج الروضة شرق المسجد النبوي. والمكان المفروش الآن باللون الأخضر هو ما يسمى بالروضة الشريفة، قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة)، هذه الروضة اختلف في سبب تسميتها روضة، والأظهر من أقوال أهل العلم أنها قطعة من الجنة. هذا الذي يحمل عليه الحديث؛ لأننا إذا حملنا معنى روضة على أنها التي يقام فيها دروس العلم عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا، قالوا: يا رسول الله! وما رياض الجنة؟ قال: حلق الذكر)، فهذا لا يقتصر على ذلك المكان الطاهر، وإنما يكون في كل مكان يذكر فيه الله جل وعلا وتقام فيه حلق الذكر، وعلى هذا نقول: إن الأظهر أنها روضة من رياض الجنة أي: قطعة من الجنة.

منبر الرسول صلى الله عليه وسلم

منبر الرسول صلى الله عليه وسلم المنبر كان جذع نخلة يتكئ عليه النبي صلى الله عليه وسلم، ثم صنع له صلى الله عليه وسلم منبر من مرقاة من خشب، فكان يرتقي خشبها فيخطب الناس، وهو موضع المنبر اليوم.

حجرات أمهات المؤمنين

حجرات أمهات المؤمنين كذلك حجرات أمهات المؤمنين أكثرها في جهة الشرق، أي: عن شمالك وأنت مستقبل القبلة، وكان هناك عن غربك وأنت جهة خوخة أبي بكر بيتان أو أقل أو أكثر من بيوت أمهات المؤمنين، لكن أكثر البيوت كانت في جهة المشرق، كبيت عائشة، ثم بعض حجرات أمهات المؤمنين، هذه الحجرات كان يتنزل فيها الوحي، يقول حسان: بطيبة رسم للرسول ومعهد منير وقد تعفو الرسوم وتهمد بها حجرات كان ينزل وسطها من الله نور يستضاء ويوقد معارف لم تطمس على العهد آيها آتاها البلى فالآي منها تجدد

فضل الصلاة في المسجد النبوي

فضل الصلاة في المسجد النبوي الصلاة في المسجد النبوي بألف صلاة، والصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف، ومن العلماء من ذهب إلى أن الصلاة في المسجد الأقصى بخمسمائة صلاة، لكن هذا الحديث في سنده بعض الضعف، وأصح منه أن النبي صلى الله عليه وسلم كما في الخبر الصحيح مما رواه الحاكم وصححه -وهو صحيح الإسناد-: خرج على الصحابة وهم يتذاكرون أي الصلاة أفضل في المسجد النبوي أم في المسجد الأقصى؟ فقال صلى الله عليه وسلم يتحدث عن المسجد الأقصى: (لنعم المصلى هو) أي المسجد الأقصى (لصلاة في مسجدي هذا بأربع صلوات فيه).

مشاهد وأحداث في المسجد النبوي

مشاهد وأحداث في المسجد النبوي إن المسجد النبوي المبارك شهد أحداثاً عظاماً، من أعظمها بلا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى فيه، وخطب الجمعة على منبره، وتلقى الصحابة منه صلى الله عليه وسلم العظات المحمدية، والآيات القرآنية، تقول إحدى الصحابيات: (لم أحفظ سورة (ق) إلا من في رسول الله صلى الله عليه وسلم من كثرة ما يرددها على منبره) أي: في خطبة الجمعة. وصلى بهم صلى الله عليه وسلم سنين عمره التي قضاها في المدينة إماماً في ذلك الموضع الشريف، ثم صلى أبو بكر ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي بين أظهرهم أيام مرضه عليه الصلاة والسلام، وكانت آخر صلاة صلاها النبي صلى الله عليه وسلم حي هي صلاة الفجر. ثم إن عمر رضي الله تعالى عنه تولى الخلافة بعد وفاة أبي بكر، فصلى بالناس في نفس البقعة المحمدية التي كان يصلي فيها نبينا صلى الله عليه وسلم إماماً، وفيها طعن، وكان يقرأ رضي الله عنه وأرضاه بسورة يوسف، جاء أبو لؤلؤة المجوسي، وطعنه، فقيل له: يا أمير المؤمنين! ألا نحملك إلى دارك، فقال: لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة، وبقي يصلي وجرحه ينزف دماً حتى انتهت الصلاة، حيث أكمل بهم الصلاة عبد الرحمن بن عوف ركعتين خفيفتين، ثم حمل رضي الله تعالى عنه وأرضاه إلى بيته. موضع الشاهد: أن هذه أحداث عظام كانت في ذلك المسجد المبارك، مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

عناية المسلمين بالمسجد النبوي

عناية المسلمين بالمسجد النبوي المسلمون خلفاء وعامة اعتنوا عظيم العناية بهذا المسجد، فوسعه عثمان، وسعه من قبله عمر، ووسعه الوليد بن عبد الملك، حيث أمر عامله على المدينة عمر بن عبد العزيز أن يوسعه، وهو الذي أدخل فيه حجرات أمهات المؤمنين. وفي هذا العهد الميمون دولة آل سعود أدام الله توفيقهم عني بالمسجد عناية عظيمة، فإذا جئت إلى المسجد الآن وخرجت منه من جهة الغرب، ستلحظ في الشمال الغربي قطعة أرض بها نخل وزرع غير مبنية، مع أن البناء عن يمينها وشمالها ومن جميع الجهات، إلا الجهة التي تستقبل بها هذا الموضع الحرم مكتوب عليها: سقيفة بني ساعدة، وبني ساعدة بطن من الخزرج، ينسبون إلى جد يقال له: ساعد، ولم يسكن المدينة، في هذه السقيفة بويع للصديق رضي الله تعالى عنه ورأضاه عندما اجتمع الأوس والخزرج بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وحضر الاجتماع بعد ذلك أبو بكر وعمر وأبو عبيدة، ونجم عن ذلك الاجتماع المبارك مبايعة الصديق بالخلافة. المقصود أن موضع سقيقة بني ساعدة باق لم يتغير إلى اليوم، وهو في الجهة الشمالية الغربية من المسجد النبوي الشريف، ثم إن التوسعة أوصلته إلى القبر الشريف، وإلا فالقبر ما وضع في المسجد، بمعنى أن الصحابة لم يدفنوا النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد حتى يحتج علينا محتج فيقول: يجوز دفن الموتى في المساجد، أو يحتج علينا أنه يجوز أن نبني مسجداً على قبر، فهذا كله باطل، فلا يدفن أحد في مسجد، ولا يبنى مسجد على قبر، إنما غاية الأمر أن المسجد النبوي من جهة الشرق عمد الوليد إلى توسعته، فوصلت التوسعة إلى أن بلغت حجرات أمهات المؤمنين؛ لأنها كانت قريبة جداً من المسجد، ونحن نعلم أن الوليد لم يوفق في هذا، لكن هذا قد مضى بقدر الله، وليس فيه حجة لأحد أن يبني مسجداً على قبر أو أن يدفن ميتاً في مسجد، فهذا كله لا أصل له شرعاً، فالموتى يدفنون في المقابر، والمساجد تبنى على أرض فضاء ليس فيها مقابر، بل إن الصلاة في المقبرة لا تجوز، اللهم إلا أن تكون صلاة على ميت فيسن أن يصلى عليه فيها، كما صلى النبي صلى الله عليه وسلم على قبر المرأة العجوز التي كانت تقم المسجد. فالصلاة في المسجد النبوي -كما سبق- بألف صلاة، لكن كذلك يذهب جمهور العلماء إلى أن الصلاة في المسجد الحرام مائة ألف صلاة، وذلك في المسجد المحيط بالكعبة وفي أي مكان في مكة، فمساجد مكة سواء في الأجر، فمن صلى -عند جمهور العلماء- في أي مسجد من مساجد مكة كمسجد ذي جرول مثلاً فصلاته عند جمهور العلماء بمائة ألف صلاة، وذلك كمن صلى في المسجد الذي يحيط بالكعبة، وهو المعروف بالمسجد الحرام، في حين أن العلماء متفقون على أن الصلاة في المسجد النبوي بألف صلاة، أما الصلاة في غير المسجد النبوي فليست إلا بسبع وعشرين درجة، شأنها شأن سائر الصلوات، وهذا من الفوارق بين مسجد المدينة ومسجد مكة. أما الساحات المحيطة بالحرم فلأنها مسورة ولها أبواب فإن الصلاة فيها كالصلاة في المسجد. هذا ما هيئ إيراده، وما أعان الله على قوله حول مسجد رسولنا صلى الله عليه وسلم. وفقنا الله وإياكم لكل خير، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

[المعلقات]

سلسلة لطائف المعارف [المعلقات] الشعر يهز المشاعر، ويهيج الخواطر. رب قصيدة حقنت دماء، ورب قصيدة أرملت نساء. كم من بيت شعري جعل البخيل كريماً، والجبان شجاعاً، والظالم الجبار وديعاً عادلاً. من أعظم ما اشتهر من الشعر الجاهلي: المعلقات العشر، فقد تداولها الناس عبر العصور، فحفظها الحفاظ، وعلق عليها الأدباء النقاد.

التقسيم التاريخي للأدب

التقسيم التاريخي للأدب الحمد لله على فضله والصلاة والسلام على خير خلقه. أما بعد: فإن هذا اللقاء -الذي هو ضمن لقاءات لطائف المعارف- أشبه بالسياحة الأدبية، وعنوانه: المعلقات. والمعلقات عنوان عام أطلق على قصائد طوال في الجاهلية، قالها الشعراء آنذاك، وقبل أن نعرج أو على بعض أبياتها وعلى التعليق على تلك الأبيات فإننا نقول: إن أهل الصناعة الأدبية والذين يعنون بتاريخ الأدب يقسمونه إلى أطوار فتلك الحقبة التي كانت قبل البعثة اصطلح على تسميتها بالأدب الجاهلي أو الأدب في العصر الجاهلي، ثم يقولون: الأدب في صدر الإسلام وبني أمية، وبعضهم يفصل ما بين الأدب في صدر الإسلام والأدب في العصر الأموي. وينتقلون بعد ذلك اتفاقاً إلى العصر العباسي الذي كان فيه العمالقة الكبار: أمثال المتنبي، وأبو تمام، والبحتري. ثم كانت تلك الفترة التي حكم فيها المماليك والعثمانيون وغيرهما، وهذه الفترة تسمى عند أهل الصناعة الأدبية -في الغالب- بعصر الانحطاط، ثم هيأ الله جل وعلا للشعر العربي أن بعثه محمود سامي البارودي من مرقده، وما كان من البارودي وما بعده إلى عصرنا الحالي يسمى كله: بالعصر الحديث، هذا التقسيم التاريخي للأدب. والذي يعنينا هنا أن عنوان إن المعلقات من تلك القصائد الطوال التي كانت تقولها العرب في الجاهلية أو قالها بعض شعراء العرب في الجاهلية، والحديث عنها ذو شجون لكننا سوف نتكلم عن بعضها. هناك شعراء أعطوا قدرة على العطاء الشعري، ولهم مطولات، لكن لماذا سميت بالمعلقات؟ قيل: لأنها علقت في الصدور، وأن الناس حفظوها، وهذا قول قوي، وقيل: إنها كانت تكتب بماء الذهب وتعلق على الكعبة، وهذا عندي بعيد، وإن قال به بعض النقاد، لكن كون الأبيات تكتب بماء الذهب في ذلك الزمن الغابر الذي قل ما يوجد فيه مثل هذه الآلة يصعب الحكم على هذا بالصحة. وقيل: لأنها كانت تعلق في الأسواق التي كانت تجتمع فيها العرب، كسوق عكاظ وسوق المجاز وغيرهما. هذه المعلقات حفظها أكثر من رووا الشعر، ودخل بعضها شيء من اللحن، لكن الذي يعنينا أن هذه المعلقات كانت صورة ناطقة لحياة العرب التاريخية والاجتماعية وكثير مما كان عليه العرب في عادتهم وتقاليدهم وأعرافهم.

وقفة مع معلقة امرئ القيس

وقفة مع معلقة امرئ القيس أشهر شعراء المعلقات امرؤ القيس، يقول أصحاب الأدب: أنه أول من وقف واستوقف وبكى واستبكى وهو القائل في معلقته: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل بسقط اللوى بين الدخول فحومل وقوفاً بها صحبي عليّ مطيهم يقولون لا تهلك أسىً وتجلد وفيها الأبيات الشهيرة: وليل كموج البحر أرخى سدوله علي بأنواع الهموم ليبتلي فقلت له لما تمطى بصلبه وأردف أعجازاً وناء بكلكل ألا أيها الليل الطويل ألا انجل بصبح وما الإصباح منك بأمثل المشهور عن امرؤ القيس أنه كان ابن أحد ملوك كندة، وكان الملوك آنذاك، يأنفون أن يقول أبناؤهم الشعر فكان نوع من الجفوة بينه وبين أبيه، فلما مات أبوه قال قولته الشهيرة: ضيعني صغيراً وحملني دمه كبيراً وقد مات في الطريق إلى بلاد الروم وهو يطلب من يعينه على استرداد ملك أبيه. وأكثر شعره كان في الغزل وشرب الخمر أو في اللهو والركب والصيد، وهذه الأمور تجتمع بعضها إلى بعض في حياة الجاهليين آنذاك.

وقفة مع معلقة طرفة بن العبد

وقفة مع معلقة طرفة بن العبد من شعراء المعلقات طرفة بن العبد البكري، وهو أصغرهم سناً، وقد مات صغيراً يقال: إنه قد مات وعمره 26 سنة، وله أبيات خلدها التاريخ؛ لأنها جرت مجرى الحكمة، فيقول في مطلع معلقته: لخولة أطلال ببرقة ثهمد تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد ومن شعره ما جرى مجرى المثل والحكمة: ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً ويأتيك بالأخبار من لم تزود وكذلك قوله: وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على النفس من وقع الحسام المهند فهذا البيت صورة ناطقة لحياة اجتماعية تتكرر، أو حدث اجتماعي يتكرر على مر الدهور وكل العصور، والبيت إذا كان يلامس الواقع ويشهد له فإن الواقع والتاريخ والشواهد تبقي ذلك البيت؛ لأن الناس يستحضرون ذلك البيت عند الأحداث التي تمر بهم. وكل من ظلم من قرابته يرد بقول طرفة: وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على النفس من وقع الحسام المهند

وقفة مع معلقة لبيد بن ربيعة

وقفة مع معلقة لبيد بن ربيعة من شعراء الجاهليين: لبيد بن ربيعة، ولبيد بن ربيعة يختلف عن بقية الشعراء الجاهليين أصحاب المعلقات؛ لفارق عظيم وهو أنه أدرك الإسلام، فأسلم، أما الأعشى فقد أدرك الإسلام -كما سيأتي- لكنه لم يسلم، أما لبيد فقد من الله عليه بالإسلام وهو القائل: الحمد لله الذي لم يأتني أجلي إلا وقد كسيت من الإسلام سربالا هذا لبيد من المعمرين، حتى قيل: إنه مل من طول حياته، وأن الناس كلما قابلوه، قالوا له: كيف أنت؟ كيف حالك؟ ما أخبارك؟ ولهذا قال: ولقد سئمت من الحياة وطولها وسؤال هذا الناس كيف لبيد؟ قال في مطلع معلقته: عفت الديار محلها فمقامها بمنى تأبد غولها فرجامها وله فيها بيت خالد في تصوير فني بديع: وجلا السيول عن الطلول كأنها زبراً تجد متونها أقلامها ويزعم أهل الأدب والرواة الإخباريون أن الفرزدق الشاعر الأموي الشهير مر ذات يوم على مسجد لبني زريق في البصرة أو في الكوفة، فلما مر سمع منشداً ينشد الشعر والناس حوله، فأتى المنشد على قول لبيد: وجلا السيول عن الطلول كأنها زبراً تجد متونها أقلامها فخر الفرزدق ساجداً، وتعجب الناس، فلما رفع رأسه قالوا: يا أبا فراس ما هذا؟ قال: أنتم تسجدون لجيد القرآن وأنا أسجد لجيد الشعر، والمعنى أن هذا البيت فيه صورة بديعة تبين اتصال الجاهليين عموماً بالبيئة وأثرها في شعرهم، وفي لبيد أكثر وصفاً، وله في معلقته أبيات جميلة جداً، لكن المقام لا يتسع للإطالة في حقه أكثر من غيره.

وقفة مع معلقة زهير

وقفة مع معلقة زهير من شعراء المعلقات زهير بن أبي سلمى، وقد عرف بالحكمة وعرف بالحواليات، وكان يتأنى ويتروى في إخراج قصائده للناس وهو القائل في صدر معلقته: أمن أم أوفى دمنة لم تكلم بحومانة الدراج فالمتلثم ومن ضمن معلقته أبيات جرت مجرى الحكم والأمثال، وهي تردد إلى اليوم أكثر من شعر طرفه: من لم يذد عن حوضه بسلاحه يهدم ومن لا يظلم الناس يظلم ومن يك ذا فضل فيبخل بفضله عن قومه يستغنى عنه فيذمم هذا من روائع ما قاله زهير بن أبي سلمى، وقد كان عمر رضي الله تعالى عنه وأرضاه فيما يرون عنه يحب شعر زهير؛ لأن زهيراً كان يتمثل الحكمة وواقع الناس في أشعاره.

وقفة مع معلقة الأعشى

وقفة مع معلقة الأعشى من شعراء المعلقات: الأعشى وقد قلنا: إن لبيبداً أدرك الإسلام وأسلم، أما الأعشى فقد أدرك الإسلام، وهيأ قصيدة يمدح فيها النبي صلى الله عليه وسلم، لكن لا يقع في الكون إلا ما أراد الله، والهداية بيد الله. قال في قصيدته التي يمدح فيها النبي صلى الله عليه وسلم: ألم تغتمض عيناك ليلة أرمد وبت كما بات السليم المسهد وما ذاك من عشق النساء وإنما تناسيت قبل اليوم حلة مهددا إلى أن قال في مدح نبينا صلى الله عليه وسلم: نبي يرى ما لا ترون وذكره أغار لعمر في البلاد وأنجد متى ما تناخي عند باب ابن هاشم تريحي وتلقيى من فواضله يدا يخاطب ناقته. هذا الأعشى اشتهر بحبه للخمر وكثرة شربه لها، ولهذا عني في شعره كثيراً بالخمر والتلذذ بالنساء، وفي مطلع معلقته الشهيرة: ودع هريرة إن الركب مرتحل وهل تطيق وداعاً أيها الرجل غراء فرعاء مصقول عوارضها تمشي الهوينا كما يمشي الوجي الوحل كأن مشيتها من بيت جارتها مر السحابة لا ريث ولا عجل من أبياته التي جرت مجرى المثل والحكمة في معلقته قوله: كناطح صخرة يوم ليفلقها فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل فـ الأعشى ويقال له: أعشى قيس، وهو من أشهر شعراء المعلقات، وكانوا يقولون: إن الأعشى إذا طرب أبدع كما يقولون: إن امرؤ القيس إذا ركب أي: خرج للصيد يلحقه الإبداع أو يأتيه الإبداع، ثم يثلثون بـ النابغة إذا رهب -أي: إذا خاف- فإنه يضطر للاعتذار، وكأن هذه الحالة النفسية تنعكس على أبياته، فيبدع ويقول ما لم يقله في فن آخر. والنابغة أحد شعراء المعلقات الكبار. وقد اعتذر للنعمان بن المنذر في وقيعة وقعت بينهما، نجم عنها قوله لتلك الأبيات.

وقفة مع معلقة عنترة

وقفة مع معلقة عنترة الأعشى، والنابغة، وامرؤ القيس كل هؤلاء أكبر رموز شعراء الجاهليين، ويمكن أن يضاف إليهم عنترة، وهم أكثر من ذلك، والبعض أوصلهم إلى العشرة، وبعضهم يقف عند السبعة. إن عنترة اشتهر بشجاعته، وله قصيدة مشهورة مطلعها: هل غادر الشعراء من متردم أم هل عرفت الدار بعد توهم يا دار عبلة بالجواء تكلمي وعمي صباحاً دار عبلة واسلمي دار منعمة غليظ طرفها طيق العناق لذيذة المتنسم هذا عنترة من أكثر الناس ذيوعاً، ومن الناس إلى اليوم في تاريخنا العربي ينسبون كل شجاعة إلى عنترة، كما ينسبون كل سخاء إلى حاتم، وكما ينسبون كل ذكاء إلى إياس، وكما ينسبون كل فكاهة إلى أشعب، وغير ذلك. وهذا شيء بدهي أن يجعل الناس رمزاً من الرموز فتفيء إليه بكل ما يتعلق بالرمز الذي وضع له. إن عنترة عرف بشجاعته، ولده أبوه من جارية، والإنسان من حيث انتسابه ينسب إلى أفضل أبويه ديناً، وينسب إلى أمه حرية أو عبودية، وفي المطعم والمشرب كما في الدواب ينسب إلى الأخبث، ولذلك لحم البغال لا يؤكل؛ لأنه ينسب إلى الحمار ولا ينسب إلى الخيل. تعلق عنترة بـ عبلة كما هو مشهور ذائع، لكن الذي يعنينا هو الأبيات التي قالها، والتي كان يبين فيها شجاعته وعفة نفسه في نفس الوقت: هلا سألت الخيل يا ابنة مالك إن كنت جاهلة بما لم تعلم يخبرك من شهد الوقيعة أنني أغشى الوغى وأعف عند المغنم أغش الوغى أي: الحرب، وأعف عند المغنم: هذا مدح عظيم، فإذا اقتسم الناس الغنائم وهبوا إلى فتات الدنيا عفت نفسي وأحجمت، أما عندما يكون الموضع ساحة قتال لا يبرز فيه إلا الشجعان ولا يتقدم إلا الفرسان يقول: كنت أقرب منه؛ لأنه يجد في ذلك راحة نفسية. يقول: ولقد شفى نفسي وأبرأ سقمها قيل الفوارس ويك عنتر أقدم وقد نسب إلى عنترة حادثة طريفة بصرف النظر عن صحة هذه الحادثة، فالعاقل يزن خطواته ولا يضع قدمه اليمنى حتى يعلم قبل أين سيضع قدمه اليسرى. كان العبسيون إذا داهمهم العدو يدعون عنترة، كما قال في شعره، فيفزع إليهم ويفك ما أصابهم، وفي يوم خرج ثور هائج فتنحى عنترة إلى جبل هارباً من الثور، فقيل له: يا عنترة مثلك يفر من الثور! قال: ومن يفهم الثور أني أنا عنترة! هذه الحكاية على طرافتها لها معان عظيمة: وهي أن الإنسان ينبغي أن يكون عاقلاً، وليس كل ميدان يقتحمه، وليس كل مقال يصلح لكل مقام. هذا ما تهيأ إيراده حول المعلقات وتيسر إعداده. وفقني الله وإياكم لما يحبه ويرضى، وألبسني الله وإياكم لباسي العافية والتقوى، وصل الله على محمد وعلى آله والحمد لله رب العالمين.

[المهدي]

سلسلة لطائف المعارف [المهدي] من رحمة الله سبحانه وتعالى بالمسلمين أن بشرهم بأن النصر للمسلمين وأن العاقبة للمتقين؛ حتى يظل المسلم على يقين بأن هذه الأمة مهما أصيبت فإن العاقبة لها في نهاية الأمر، ومن البشارات التي بشر بها المسلمون رجل يخرج في آخر الزمان اسمه محمد بن عبد الله المهدي، فيملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً.

خروج المهدي علامة من علامات الساعة

خروج المهدي علامة من علامات الساعة الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومن والاه. وبعد: فقد بينا أن لطائف المعارف يُعنى بالنظرة الموسوعية لبعض الأعلام والأحداث التاريخية، ولا ينزع من قنن واحد، وإنما هو أقرب إلى ذوات أفنان. لقاؤنا اليوم يحمل عنوان: المهدي. ونحن نعلم أن الله جل وعلا لم يُطلع أحداً من خلقه على الساعة، قال الله جل وعلا: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الأعراف:187]. وسيد الملائكة جبريل سأل سيد الرسل صلى الله عليه وسلم: أخبرني عن الساعة؟ فقال عليه الصلاة والسلام، وهو يعلم أن السائل جبريل: (ما المسئول عنها بأعلم من السائل) والمعنى أن علمي وعلمك فيها سواء. لكن الله جل وعلا قال: {فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} [محمد:18] أي جاء بعض علاماتها، أي أن الله جل وعلا جعل للساعة أمارات وأشراطاً، كما قال جبريل للنبي عليه الصلاة والسلام: فأخبرني عن أماراتها؟ وقال الله لموسى: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا} [طه:15] وقول الله جل وعلا: {أَكَادُ أُخْفِيهَا} [طه:15] يُشعر وفق قوانين اللغة وقواعد الإعراب أن الله لن يخفيها بالكلية، فوقتها المحدد أخفاه الله بالكلية، لكن جعل لها أشراطاً وعلامات، وهذا معنى قول الله: {أَكَادُ أُخْفِيهَا} [طه:15]. هذه العلامات قُسِّمت من قبل العلماء إلى صغرى وكبرى، ومن أشهر العلامات الكبرى: خروج المهدي. والمهدي بشر من بني آدم، لكنه ينتسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ يقول النبي عليه الصلاة والسلام في الخبر الصحيح: (المهدي مني، أجلى الجبهة، أقنى الأنف، يواطئ اسمه اسمي، يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جورًا وظلمًا) فنفهم من هذا أن الله جل وعلا يُخرج قبل قيام الساعة رجلاً من آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يجري على يده خير عظيم.

اختلاف المسلمين في المهدي

اختلاف المسلمين في المهدي قبل أن نشرع في قضية تحديد أوصافه خلقياً نقول: إن المسلمين -سواء المنتسبون إلى الإسلام حقيقة وهم أهل السنة، أو غيرهم ممن ينتسبون إليه- اختلفوا في قضية المهدي مع اتفاقهم على خروج رجل من آل البيت، فالشيعة يقولون: إن المهدي من ذرية الحسين، وهو عند الشيعة الاثني عشر آخر الأئمة الاثنى عشرية عندهم، واسمه عندهم محمد بن الحسن العسكري، ويقولون: إنه حاضر في الأمصار، وغائب عن الأبصار، دخل سرداباً في سامراء، وينتظرون خروجه ليملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً وظلماً. وفرقة أخرى ممن يطلق عليهم شيعة -ويسمون بالكيسانية- يقولون: إنه من ذرية علي رضي الله تعالى عنه وأرضاه، لكنه رابع الأسباط، ويقول كثير عزة وهو شاعر أموي معروف، وسمي بـ كثير عزة لتعلقه بامرأة يقال لها عزة، وله فيها قصائد مشهورة، والذي يعنينا أن هذا الرجل كان يؤمن بها المذهب وهو القائل: ألا إن الأئمة من قريش حماة الدين أربعة سواء علي والثلاثة من بنيه هم الأسباط ليس بهم خفاء فسبط سبط إيمان وبر وسبط غيبته كربلاء فسبط سبط إيمان وبر يعني الحسن. وسبط غيبته الكربلاء. يعني: الحسين. وسبط لا يذوق الموت حتى يقود الخيل يقدمها اللواء يعني: محمد بن الحنفية، وهو محمد بن علي أما الحنفية فهي أمه، أي أن أمه ليست فاطمة الزهراء. إن أهل السنة سلك الله بنا سبيلهم يرون أن المهدي رجل من آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، لكنه من ذرية الحسن، فهو فاطمي من جهة أمه، ثم إلى جده صلى الله عليه وسلم، وعلوي من جهة أبيه، يخرج في آخر الزمان يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً وظلماً، فيتحقق فيه خبر النبي صلى الله عليه وسلم. على الإنسان أن يفهم القضية فهماً صحيحاً، فما أخبر الله أو رسوله عنه سيقع لا محالة، ولا حاجة إلى أن نستقدمه أو نسعى في استقدامه، هذا الأمر الأول. الأمر الثاني: وهو أن هناك شخصيات عبر التاريخ الإسلامي تمسكت بهذا الاسم، وسمعنا عن بعض خلفاء بني العباس ومن جاء بعدهم كلهم يريد أن يكون هو المهدي فيتسمى باسمه. وليست القضية أن يتسمى الإنسان بالمهدي حتى يكون مهدياً هذا محال؛ فالله قد قدّر في الأزل وأخبر جل وعلا على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم أن رجلاً من آل بيته سيكون هو المهدي، وآل البيت كثيرون، لكن هذا يقع بقدر الله. فـ المهدي شاء أم أبى سيخرج بقدر الله تبارك وتعالى وبإلهام يلهمه الله جل وعلا إياه. الأمر الثالث: أن نزول عيسى بن مريم في الغالب يكون في زمن المهدي؛ فالذي يظهر من سياق النصوص الشرعية أن الدجال يخرج في زمن المهدي فيقاتله المهدي، وتكون هناك أشبه بالملحمة في بيت المقدس، فينزل عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام فيقتل الدجال، وعيسى عليه السلام -في الغالب- يصر على أن يتقدم المهدي ليصلي بالناس، أما كون عيسى لم يصل فهذا ثبت في الأحاديث الصحيحة الصريحة عن نبينا صلوات الله وسلامه عليه.

انقسام الناس تجاه المبشرات

انقسام الناس تجاه المبشرات إن الناس في زماننا يشاهدون الضيم الذي تعانيه الأمة، وحالة الانكسار التي تكاد تكون جلية ظاهرة في تاريخ الأمة في عصرنا إلا في بعض المواطن، وفي نفس الوقت يسمعون عن غيب موعود؛ أي أن الأمة ما بين الواقع المشهود والغيب المنشود؛ فالواقع المشهود قد لا يساعد الكثيرين على التفاؤل وهذا خطأ فيهم، والغيب المنشود على أن الأمة ستعلو، وهذا وعد من النبي صلى الله عليه وسلم لأمته، بل وعد من الله {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [التوبة:33] فانقسم الناس في هذا الأمر إلى ثلاثة أقسام: قسم يقول: لا حاجة للسعي ولا حاجة للبذل، ولا حاجة للتربية؛ لأن الأمة لا محالة ستنتصر، وهذا وعد! ويريدون منا أن نركن إلى الكسل، وهذا محال، ومطلب غير صحيح، وفقه غير مستقيم. وقسم يقول: لا نريد أن نؤمن بهذا الغيب كله، ولا تحدثونا عن المهدي، ولا عن الوعد، ولا عن عيسى بن مريم؛ لأن هذا يجعلنا نتكل كما اتكل الأولون ولهذا أرادوا أن يردوا تلك الأحاديث حتى لا يصيب الناس نوع من التصديق، وهذا خلاف الحق؛ لأن هذه البشارات يجب أن تزرع فينا التفاؤل. القسم الثالث: من الناس من يستبشر بتلك الوعود الإلهية والوعود المحمدية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى، وفي نفس الوقت لا يركن إليها ركوناً كلياً، ولا يكسل عن العمل للدين، بل يعمل. ثم إنه ينبغي أن يُعلم أن المهدي لن يكون أفضل من النبي صلى الله عليه وسلم قطعاً، بل لن يكون أفضل من أبي بكر وعمر، ولا من كبار الصحابة، بل لن يكون أفضل منهم كلهم على هذا فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم احتاج بقدر الله إلى أن يعينه الأصحاب رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، حتى بنى دولة الإسلام في ثلاث وعشرين سنة لبنة لبنة، إذاً فما حال المهدي؟ وما المهدي إلا أحد أتباع نبينا صلى الله عليه وسلم، فالنظرة الموزونة العقلانية التي تعتمد على ضوء النقل من الكتاب والسنة هي التي تعيننا على السير في مثل هذه المنعطفات التي عادة ما يختصم الناس فيها -كما قلنا- بين واقع مشهود وغيب منشود.

الحكم على أحاديث المهدي

الحكم على أحاديث المهدي بعض مؤرخي الإسلام ممن ليس لهم دراية بالصناعة الحديثية يردون مثل هذه الأحاديث، ويقولون إنها ليست في الصحيحين. ومعلوم أن الصحيحين لم يستوعبا جميع الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فـ ابن خلدون رحمة الله تعالى عليه أسرف في رد الأحاديث الصحيحة التي تُخبر بخروج المهدي، وتبعه على ذلك أفراد في الأمة، وكلهم عفا الله عنا وعنهم لم يوفقوا للصواب في هذا المنحى؛ لكن الذي عليه حفاظ الأثر كشيخي الصحيح وأهل النظر كلهم يرون صحة الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم في شأن خروج المهدي، بل قال شيخنا العلامة عبد العزيز بن باز رحمة الله تعالى عليه: إن هذه الأحاديث تفيد التواتر المعنوي في صحة خروج المهدي، وأنه من آل بيت نبينا صلى الله عليه وسلم.

ما يتبع المهدي من علامات الساعة

ما يتبع المهدي من علامات الساعة إن خروج المهدي من أشراط الساعة الكبرى؛ ويتبع ذلك نزول عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام، ثم يكون بعد ذلك -وقد يكون بعيداً بعض الشيء- طلوع الشمس من مغربها، فإذا طلعت الشمس من مغربها لم يقبل الله جل وعلا توبة تائب، قال الله تعالى: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام:158]. ثم تتوالى الأشراط والعلامات والأمارات الكبار، ومن أظهرها أن ذا السويقتين من أهل الحبشة يهدم الكعبة فينزعها حجراً حجراً، ويستخرج كنوزها ولا يُطاف بالبيت بعد ذلك، ويرفع القرآن ويطوى وشي الإسلام، ثم لا يبقى إلا همج رعاع يأمر الله إسرافيل أن ينفخ في الصور فينفخ، قال الله جل وعلا: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:68].

من أوصاف المهدي

من أوصاف المهدي المقصود من هذا أن المهدي من أعظم علامات الساعة الكبرى، وهو في الإجمال يواطئ اسمه اسم النبي صلى الله عليه وسلم، أي أن اسمه محمد بن عبد الله، ويخرج في مكة، وقد جاءت بعض الأحاديث أنه يبايع له بين الركن والمقام. وبعض صناع الأثر أو المعنيين بالدراية في علم الحديث يقولون: إن المهدي من أهل المدينة، لكنه يبايع له بين الركن والمقام، لكن ليست المبايعة له بين الركن والمقام هي وحدها الأمارة والعلامة على أنه المهدي، فاعتقاد ذلك من الخطأ، وقد تشبث بذلك كثيرون لا حاجة لذكرهم. فالإنسان أحياناً يرى وصفاً واحداً وتغيب عنه أوصاف فيقع في الخطأ من حيث لا يدري، ومثال ذلك: لو أن أخاً لك أردت أن تبعثه إلى حي لا يعرفه، ودللته على عمارة لكنك قلت له: إنها مكونة من أربعة طوابق بابها جهة الشرق، ليس عن يمينها ويسارها بناء، ثم إنه ذهب إلى هذا الحي، فأول ما رأى عمارة أو بناية لها أربعة أدوار ظنها هي المقصودة ولم يلتفت إلى بقية الأوصاف، فاستعجل في وصف واحد؛ وهذا هو الذي يقع فيه الخلط كثيراً، وعندما يقرأ البعض الأحاديث قراءة ليست كاملة يكون غالب أمره مبنياً على الهوى، لا على العلم الشرعي. هذا ما تيسر إيراده وتهيأ إعداده، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله، والحمد لله رب العالمين

[إمام النحاة]

سلسلة لطائف المعارف [إمام النُّحاة] من الناس من يموتون ولا يبقى لهم أثر بعد موتهم، ومنهم من إذا مات خلف آثاراً وبصمات واضحة في الحياة، فكل من ذكره قال عنه: يرحمه الله. من هؤلاء الذين تركوا أثراً واضحاً في الحياة الإمام الجليل سيبويه، فقد خلف علماً يدرسه الناس على مر العصور، ويتداوله طلاب العلم على مضي الأزمنة.

علم النحو عبر العصور

علم النحو عبر العصور الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين وإله الآخرين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد: فإن هذا اللقاء من لقاءات لطائف المعارف يحمل عنوان إمام النحاة. إن الله أنزل القرآن بلسان العرب، قال الله جل وعلا: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [يوسف:2]، والحاجة إلى حفظ لغة العرب ضرورة ولزام؛ لأنه ينجم عن ذلك حفظ كلام الله تبارك وتعالى، وحديث رسوله صلى الله عليه وسلم، والنحو العربي مر بأطوار، وشهد أئمة ومشاهير علماء أسهموا بقليل أو بكثير في نشأة النحو، وأهل الصناعة النحوية يقولون -على خلاف بينهم لكن الأكثرين يرون-: إن أول من وضع أسس علم النحو هو أبو الأسود الدؤلي، وكان الناس في أول الأمر لا يكاد يلحن منهم أحد، ولا يكاد أحد منهم يخرج عن قواعد الإعراب التي سمعها بعضهم عن بعض، جيلاً بعد جيل مما كان يردده الجاهليون، ثم أهل الصدر الأول من الإسلام، ثم لما اختلطت العرب بالحضارات الأخر وانتشر الموالي والأعاجم، وجاور الناس فارس والروم، دخل فيهم اللحن، فبعد أن كانوا يحصون من يلحن، أصبحوا لا يكادون يحصون إلا من لا يلحن، ولهذا قال الأصمعي: أربعة لم يلحنوا في هزل ولا جد، وذكر منهم الحجاج بن يوسف وذكر منهم الشعبي، وغيرهما، ثم قال: وكان الحجاج أفصحهم.

سيبويه إمام النحاة

سيبويه إمام النحاة يكاد يجمع أهل الصناعة النحوية على أن سيبويه رحمة الله تعالى عليه هو إمام النحاة، وإن كان هذا الأمر ليس فصل خطاب، إنما شهد النحو علماء كثير. سيبويه لقب ومعناه: رائحة التفاح، ويقال: إن أمه كانت ترققه كما ترقق كل أم ولدها بهذا اللقب، واسمه: أبو بشر عمر بن عثمان بن قنبر فارسي الأصل، مات في ريعان شبابه كما سيأتي. هذا العلم في علم النحو طلب -أول حياته- علم الحديث وجلس عند حماد، فلما جلس عنده كأن حماداً طلب منه أن يقرأ حديثاً، فقال سيبويه وهو يقرأ: (كل أصحابي ليس أبو الدرداء) فقالها سيبويه بالرفع ظناً منه أن (أبو) اسم للفعل ليس، فخطأه حماد وقال له: أخطأت يا سيبويه، إنما هو استثناء، أي: أن المعنى ليس أبا الدرداء، أي: إلا أبا الدرداء، فقال: لأطلبن علماً لا ينازعني فيه أحد، فتوجه إلى الأكابر في زمانه ممن يؤخذ عنهم النحو، ولحق بـ الخليل بن أحمد ويونس، وغيرهما، وأخذ عنهم العلم. والخليل بن أحمد أحد أئمة النحو الكبار الذين آتاهم الله جل وعلا العلم والحكمة، والنظر في دقائق المسائل. وقد أورثها الله جل وعلا من الخليل إلى سيبويه، فأخذ سيبويه عن الخليل بن أحمد وكان ذلك كله في البصرة، وفي البصرة أسس سيبويه علم النحو حقاً، وكتب كتاباً في النحو لكنه لم يخرجه للناس، ثم إنه أصابه ما أصاب أهل زمانه من الاستشراف في الخروج إلى بغداد، وكانت بغداد آنذاك حاضرة العباسيين وعاصمة دولتهم، ويؤمها العلماء والأدباء والمحدثون، وينالون من عطاء الأمراء والخلفاء، ويكون الإنسان فيها ذائع الصيت.

المسألة الزنبورية ووفاة سيبويه

المسألة الزنبورية ووفاة سيبويه خرج سيبويه رحمة الله عليه إلى بغداد وهو في ذهنه يؤمل أمجاداً عريضة وآمالاً كبيرة، فقابل الكسائي، والكسائي أشبه بالند له، حيث كان إماماً في القراءات وفي النحو، وهو من أئمة أهل الكوفة، فحل ضيفاً عند يحيى بن خالد البرمكي، فبدءا يتحاوران وكانت المناظرات آنذاك شائعة ذائعة، وبها يميز العلماء بعضهم من بعض، فقال الكسائي لـ سيبويه: ما تقول في قولهم: كنت أظن أن العقرب أشد لسعاً من الزنبور فإذا هو هي -بالرفع- أو إياها بالنصب؟ فقال سيبويه: فإذا هو هي -بالرفع- ولم يجز أن تقال بالنصب، فأصر الكسائي على أنها يصح فيها الوجهان: الرفع والنصب، فلما طال بينهما الاستشهاد والنزاع، قال يحيى بن خالد البرمكي، وهو الأمير وصاحب المجلس: من يفصل بينكما وقد تنازعتما وأنتما رئيسا ما لديكما؟ فقال الكسائي: وجوه الأعراب بالباب، أي أن الأعراب على السليقة لا يخطئون، ويقال هنا: إن إصبع السياسة دخل في هذه القضية، فلما حكم الأعراب، ليحكموا بين سيبويه والكسائي، وكان الأعراب يعرفون منزلة الكسائي عند يحيى بن خالد بخلاف منزلة سيبويه؛ لأن سيبويه لم يكن من أهل بغداد وكان قادماً لتوه من البصرة، والأعراب يظنون أن يحيى لا يعرف سيبويه وهو كذلك، فلما حكم هؤلاء الأعراب، حكموا بصحة ما قال الكسائي، فكأن سيبويه انكسر، فأراد الكسائي أن يشمت به من غير ما قصد أو بقصد، فقال لـ يحيى بن خالد: إن صاحبنا -أي: سيبويه - أتى ليطلب مالاً ونوالاً من عندك فأرضه، وهذا زاده حنقاً، وهذا ما عبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم بقهر الرجال. فخرج سيبويه يتوارى من سوء ما لحق به، وتوجه إلى إحدى القرى ونزل ضيفاً على تلميذه الأخفش، هناك أصابه كمد، وأراد الله بذلك الكمد أن يعجل بوفاته، فمات رحمه الله وهو في ريعان شبابه، قيل: إنه كان في الرابعة والثلاثين، وهو ليس معمراً قطعاً، ويقال: إنه قال قرب احتضاره يتكلم عن حاله وكيف وصل إلى ما وصل إليه، وكان قد انتهى به المطاف إلى ما انتهى إليه قال: يؤمل دنيا لتسعى له فوافى المنية دون الأمل حثيثاً يروي أصول الفسيل فعاش الفسيل ومات الرجل شبه نفسه برجل عنده فسيل، وهو صغار النخل، وهو يزرعه ويكد في سقيه يريد منه أن يعمر، لكن الرجل مات وبقي الفسيل حياً ثم كبر.

كتاب سيبويه

كتاب سيبويه بعد أن مات أخرج تلميذه للناس ما ألفه سيبويه وهو كتاب الكتاب، هذا الكتاب طاف صناع النحو حوله ولقب: بقرآن النحو، وقد ضمنه سيبويه درراً. ولأنه مات قبل شيوخه، ونسب كثيراً مما قاله للخليل بن أحمد قال بعض الناس: إن سيبويه يكذب على الخليل، فقالوا لـ يونس أحد شيوخه: فقال: ما أظن هذا الغلام إلا قد كذب على الخليل، قالوا له الطلاب: وقد نقل عنك، قال: أروني ماذا نقل، فلما أروه ما كتب سيبويه أقر له بالعلم والمعرفة، وأنه حقاً قد أملى عليه ذلك. المقصود أن سيبويه قد أخرج للناس هذا الكتاب الذي علا به سيبويه من قبله، ولم يستطع أحد بعده أن يدركه، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

الخليل بن أحمد الفراهيدي

الخليل بن أحمد الفراهيدي الخليل بن أحمد -وهو أحد أكبر شيوخ سيبويه - إمام عظيم من أئمة اللغة والنحو، طاف البوادي والأمصار يجمع اللغة والعلم، ثم إن الله جل وعلا رزقه الزهد في الدنيا، فلم يكن يحفل بأن يكون له ثروة أو مال أو جاه، فكان الناس ينتفعون بكتبه التي ألفها وهو في بيته ليس فيه من معالم الثراء والجاه شيء، حتى إنهم قالوا: إن سليمان بن علي عم أبي العباس السفاح الخليفة العباسي المعروف ووالي الأهواز في زمانه بعث إلى الخليل رسولاً يطلب منه أن يؤدب ولده، فدخل داره، وأخرج خبزاً يابساً، ثم قال للرسول: ما دام هذا موجوداً فأنا في غنىً عن سليمان وخرج. الذي يعنينا هنا أن ترى زهد هذا العالم الجليل في الدنيا، هذا العالم هو الذي ألف وابتكر وأسس علم العروض، ووضع أصوله، ولم يسبقه إليه أحد، وهو قائم على نظام الموسيقى العربية، ويقال: إنه كان يأتي الأسواق التي يباع فيها الأواني، فينظر لنغمات صوت الأواني، حتى أسس البحور الشعرية المعروفة كالوافر والكامل وغيرهما، ثم أخرج للناس علم العروض. من طرائف ما يروى في هذا المجال أن أحد أبنائه دخل عليه، فلما رأى الابن أباه على هذه الحالة، وكان هذا أشبه بالإيقاعات اليوم، ظن أن أباه مجنون، فخرج، فناداه الخليل وقال له: لو كنت تعلم ما أقول عذرتني أو كنت أجهل ما تقول عذلتك لكن جهلت مقالتي فعذلتني وعلمت أنك جاهل فعذرتك والأبيات ظاهرة المعنى، وإن كان في ألفاظها نوع من التشابه، ومعناها: أنك لا تعلم ما أنا فيه فتلومني، وأنا أعلم أنك تجهل ما أنا فيه فلا ألومك وإنما أعذرك، ولو كنت تعلم ما أنا فيه حقاً لما لمتني، ولو كنت أجهل ما أنت فيه لما عذرتك، هذا معنى البيتين. الذي يعنينا أن الخليل بن أحمد كان له باع طويل بإثراء شخصية سيبويه، وقد كان سيبويه يتأدب مع شيخه الخليل بن أحمد، ولذلك كان يقول في الكتاب عنه: عفا الله عنه، فإذا قال هذا من غير أن يذكر القائل، قال أهل النحو من شراح الكتاب: ينصرف هذا إلى الخليل بن أحمد، فهو من إجلاله للخليل، يذكر الفعل: قال، ولا يذكر قائله في كثير من المواقف.

ما يستفاد من سيرة سيبويه

ما يستفاد من سيرة سيبويه نستفيد نحن من هذا كله أن أقدار الله غالبة، وأن الإنسان أحياناً يطلب شيئاً ويكون هلاكه فيما يطلبه، ولذلك يحسن بالمرء أن يستعين بالله في كل أمره، ومع ذلك أقدار الله غالبة، ويحسن بالإنسان أن يسأل الله جل وعلا التوفيق، فلا يدري في الخطوات التي يخطوها أو الخطوات التي يفر منها أين مواطن الخير؟ وما أدري إذا يممت أرضاً أريد الخير أيهما يليني أألخير الذي أنا أبتغيه أم الشر هو الذي يبتغيني وقال أحسن من نصح ابنه: وسل من ربك التوفيق فيها وأخلص في السؤال إذا سألت وناد إذا سجدت له اعترافاً كما ناداه ذو النون بن متى فالإنسان في حياته هذه يسأل الله جل وعلا الإخلاص والتوفيق، وليعلم أنه ما ارتفع من الأرض إلى السماء شيء أعظم من الإخلاص، وما نزل من السماء إلى الأرض شيء أعظم من التوفيق، ولهذا قال الله جل وعلا حكاية عن شعيب خطيب الأنبياء أنه قال: {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ} [هود:88]، فالإنسان مهما جمع من علوم الآلة، ومهما أوتي من مال، ومهما أعطي من جاه، ومهما رزق من سلطان فإنه مخلوق يحتاج إلى توفيق الله. وسيبويه رحمة الله تعالى عليه مات في ريعان شبابه، وهو إن مات صغيراً إلا أن الله جل وعلا أورث بركة في كتابه، فالناس ينتفعون به إلى اليوم. هذا ما تيسر إيراده وتهيأ إعداده، وأعاننا الله على قوله، وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.

[آية الكرسي]

سلسلة لطائف المعارف [آية الكرسي] القرآن كتاب الله المجيد، وفي قراءته وتدبره من الفضل ما لا يخفى، إلا أن الشرع عظم شأن بعض آياته وسوره؛ لعظم ما تضمنته من معان، وكل معاني القرآن عظيمة. فمن تلك الآيات آية الكرسي التي من قرأها عقب الصلاة المكتوبة فليس بينه وبين دخول الجنة إلا الموت، ومن قرأها عند إيوائه إلى فراشه فلن يضره شيء ليلته تلك؛ لأنها جمعت كل معاني الأسماء الحسنى والصفات العلى، وتضمنت شرط كلمة التوحيد وهو الإيمان بالله والكفر بالطاغوت.

أعظم آيات القرآن معناها وفضلها

أعظم آيات القرآن معناها وفضلها بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خالق الكون بما فيه، وجامع الناس ليوم لا ريب فيه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله, آخر الأنبياء في الدنيا عصراً، وأرفعهم وأجلهم يوم القيامة شأناً وذكراً، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فعنوان حديثنا هذا اليوم (آية الكرسي)، وقد مر معنا أن بعض آيات القرآن الكريم أخذت اسماً خاصاً بها، زيادة على أنها وقعت في سورة لها اسم، وقد مر معنا آية المباهلة، وهي المذكورة في سورة آل عمران، ومن آيات القرآن التي وسمت آية السيف، وهي الآية الرابعة في سورة البراءة، أي: سورة التوبة، وآية المجادلة وهي الآية التي افتتح الله جل وعلا بها سورة المجادلة. ومن أعظم آيات القرآن التي سميت باسم خاص بها آية الكرسي، هذه الآية المباركة قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم -كما في الخبر الصحيح الذي رواه ابن حبان بسند صحيح-: (من قرأ آية الكرسي دبر كل صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت). وآية الكرسي وردت في سورة البقرة، قال الله جل وعلا -وهو أصدق القائلين-: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة:255].

معنى الله والحي القيوم

معنى الله والحي القيوم أما قول ربنا جل وعلا: ((اللَّهُ)) فهذا علم على ربنا تبارك وتعالى، لم يسم ولن يسمى أحد به غيره سبحانه، قال ربنا تبارك وتعالى في سورة مريم: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا * رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم:64 - 65]، أي: ليس له سمي جل وعلا. قوله تعالى: ((اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ)) هذه (لا) نافية للجنس، ومعنى الآية: لا إله معبود بحق إلا الله؛ لأن الآلهة التي تعبد غير الله كثيرة في الأرض، كما قال الله على لسان القرشيين: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} [ص:5] لكن لا معبود بحق إلا الله. وقوله سبحانه: ((الْحَيُّ)): هو اسم من أسماء الله جل وعلا الحسنى، وحياة ربنا تبارك وتعالى صفة ذاتية لازمة له، وهو حي حياة لم يسبقها عدم ولا يلحقها زوال. وأما قول ربنا جل وعلا: ((الْقَيُّومُ)) فإنه تبارك وتعالى كل أحد غيره مفتقر إليه، وهو جل وعلا قائم على كل نفس، وهو تبارك وتعالى استغنى بحمده عن كل أحد، وافتقر كل أحد إليه جل وعلا. ثم قال الله: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:255]، قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، حجابه النور -أو النار- لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه). وقوله: {لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [البقرة:255] هذه اللام لام الملكية المطلقة، والله جل وعلا جعل الملك صورياً وحقيقياً، فالملك الحقيقي له وحده تبارك وتعالى دون من سواه، أما ما نملكه اليوم مما ملكنا الله جل وعلا إياه من أمر عظيم أو حقير، فلابد أن ينزع منا أو ننزع منه، فيرد الخلائق على ربهم في ساحة العرض الأكبر، وليس معهم شيء، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (حفاة عراة غرلاً بهماً)، ومعنى: بهماً أي: غير ممولين أو ليس معهم شيء، وقد ذكر الله ذلك في قوله جل وعلا: {وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الانفطار:19]، وفي قوله تبارك وتعالى: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنزِيلًا} [الفرقان:25]. الملك الحقيقي لله وحده، قال سبحانه: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا} [الفرقان:26]، فالذي أفادته اللام هنا هو أن الملك المطلق له تبارك وتعالى، فالخلق كلهم عبيد مقهورون له. ثم قال تعالى: {لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [البقرة:255]، وذكرت (ما) وإن كانت لغير العاقل من باب التغليب؛ لأن غير العقلاء أكثر من العقلاء في المخلوقات.

إحاطة علم الله بكل شيء

إحاطة علم الله بكل شيء ثم قال الله سبحانه: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255]، وهذا أسلوب استفهامي إنكاري أي: لا أحد يشفع عنده جل وعلا إلا بإذنه، وهذا أحد شرطي الشفاعة. ثم قال تعالى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [البقرة:255] فيعلم الله جل وعلا ما قد كان وما يكون وما سيكون، ويعلم تبارك وتعالى ما لم يكن لو كان كيف يكون. ثم قال تعالى: {وَلا يُحِيطُونَ} [البقرة:255]، أي: خلقه، {بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [البقرة:255]، وقد مر معنا في قصة الخضر وموسى، أنه لما ركبا في تلك السفينة من غير أجرة، قبل أن تحدث تلك الحوادث العظام التي رآها موسى مع الخضر، جاء طائر فنقر بمنقاره في البحر نقرتين أو ثلاثاً ثم مضى، فقال الخضر لموسى -معلماً ومرشداً-: (ما علمي وعلمك من علم الله إلا كما أخذ هذا الطائر من البحر)، ويقول الله ربنا هنا: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [البقرة:255] فلا يمكن لأحد أن يأتي بعلم من جيبه، وقالت الملائكة بين يدي ربها جل وعلا كما قاله الله عنهم: {سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [البقرة:32]. فعلم الرسل وعلم الملائكة إنما هو بما علمهم الله جل وعلا، ولهذا العاقل من انتهى إلى حدود علمه، وسنقف إن شاء الله تعالى في لقاء منفرد عند قول الله تبارك وتعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء:36]، لكننا هنا ننيخ المطايا عند قول الله جل وعلا: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [البقرة:255]. فالإنسان لا سبيل له إلى معرفة شيء إلا ما علمه الرب تبارك وتعالى إياه، يقول الله: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} [النحل:78] والنبي صلى الله عليه وسلم على رفيع قدره، وجليل مكانته كان يسأل فكان لا يعرف الجواب؛ لأن الله لم يأذن بتعليمه بعد في ذلك الموقف، فيسأل جبريل فيخبره جبريل فيخبر صلى الله عليه وسلم بناء على تعليم جبريل له أصحابه صلى الله عليه وسلم بما كان.

المراد بالكرسي

المراد بالكرسي ثم قال الله تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [البقرة:255] اختلف في معنى الكرسي فقيل: هو موضع القدمين للرب تبارك وتعالى، وهذا منحى المفسرين الذين تغلب عليهم الصناعة الحديثية، وبعض العلماء فسر الكرسي بمعنى العلم، وهذا اختاره ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى، وبعض أهل الفضل من العلماء يتجنب أو يحتاط لنفسه، فلا يصل إلى مفهوم معين للكرسي. والذي ينطبع في القلب والذهن أن الله جل وعلا يعظم شأنه، فيخبر عن عظيم ذاته العالية، هذا الذي ينقدح في قلب كل مؤمن ابتداء، وهو الغاية المقصودة من القرآن جملة. ثم قال ربنا: {وَلا يَئُودُهُ} [البقرة:255] أي: لا يعجزه تبارك وتعالى حفظهما، أي: حفظ السموات والأرض، وكل المخلوقات إنما هي بين السموات والأرض. ثم ختم الآية بقوله سبحانه: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة:255] وهذان اسمان من أسمائه الحسنى تبارك وتعالى، فهو جل وعلا له علو القهر، وعلو الذات، وله تبارك وتعالى علو المكان، وهو العظيم الذي لا يبلغ عظمته أحد كائناً من كان. وهذه الآية العظيمة هي أفضل آيات القرآن، وقد سأل النبي صلى الله عليه وسلم أبي بن كعب رضي الله تعالى عنه وأرضاه: (أي آية في القرآن أعظم؟ قال: قلت: يا رسول الله! {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255]، فضرب صلى الله عليه وسلم براحة يده صدر أبي وقال: ليهنك العلم يا أبا المنذر)، وهذا من طرائق تقرير الخطاب، وتقرير صحة الإجابة التي وفق لها أبي رضي الله تعالى عنه وأرضاه.

تفسير قوله تعالى: (لا إكراه في الدين)

تفسير قوله تعالى: (لا إكراه في الدين) بعد أن ذكر الله جل وعلا هذه الآية المباركة التي فيها أصول العقائد، وفيها التمجيد والتعظيم والتحميد لرب العزة والجلال جل جلاله، قال الله جل وعلا: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة:256]، بعض العلماء كـ الشعبي وغيره يجعلون هذه الآية في اليهود والنصارى، فيقصرونها عليهم، أي: لا تكرههم يا محمد وأتباعك على الدين، ما داموا يؤدون إليك الجزية. وأكثر أهل العلم وهو الحق أن هذا منحى غير صحيح؛ فإن الآية عامة، وإنما المقصود منها: أن مسائل العقائد لا يمكن فرضها، فإنه يمكن لنا أن نجبر الناس على مسألة عملية كأن نطعمهم ما نريد؛ فيأكلونه قهراً، أو أن يقهر على أن يخطو خطوات إلى مكان ما، أو أن ينزل من علو، أو ما أشبه ذلك مما يمكن جبر غيرك عليه، لكنه لا يمكن لأحد كائناً من كان أن يجبر أحداً على عقيدة يقرها في قلبه؛ لأنه لا سبيل إلى معرفة ما في قلوب الناس، إلا إذا تلفظوا وأفصحوا عما تكنه ضمائرهم وتحويه سرائرهم، على ذلك قال الله جل وعلا: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة:256]. ولم يا ربنا {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة:256]؟ لأن التوحيد دين الفطرة ظاهر لا يحتاج لأن تكره الناس عليه، ولا سبيل أصلاً إلى إكراه الناس عليه. ثم قال ربنا: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ} [البقرة:256] فلابد من الجمع بين هذين الأمرين العظيمين، أي: الكفر بالطاغوت والإيمان بالله، فإذا تحقق من امرئ أن كفر بالطاغوت ونبذ كل إله يعبد دون الله وآمن بالله، {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ} [البقرة:256]، أي: بصنيعه هذا {بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [البقرة:256]. وقال الله: {لا انفِصَامَ لَهَا} [البقرة:256]، (لا) هذه نافية وقد مرت معنا. وهناك فصم وقصم، فكلاهما يعنيان النزع، لكن الفصم يقع ثم يبقى تعلق من ذلك المفصوم بأصله، ولو خيطاً دقيقاً أو رفيعاً، أما القصم فهو إزالته بالكلية، والبينونة ما بين ما قصم وما بين أصل الشيء، فلما نفى الله جل وعلا الانفصام كان ذلك من باب أولى نفياً للانقصام. فيصبح من حقق هذا الأمر وهو نبذ الطاغوت والكفر به، وتوحيد الله جل وعلا والإيمان به، فقد استمسك بالعروة الوثقى استمساكاً عظيماً لا يشوبه شائبة، عبر القرآن عنها بقول الرب تبارك وتعالى: {لا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:256] أي: سميع للأقوال عليم بالأفعال، وهو الرب الجليل العظيم الكبير المتعال.

خلاصة معنى الآية

خلاصة معنى الآية نخلص من هذا كله أن الإنسان ينبغي أن يعلم أن هناك يقينيات كبرى، لا سبيل إلى الأمن يوم القيامة إلا باعتقادها، والإيمان بها والذود عنها، وتمثلها في حياتنا، ومن ذلك أنه لا رب يعبد ولا إله يستحق العبادة إلا الله جل وعلا، وأن هذا الرب الكريم والإله العظيم له أسماء حسنى وله صفات علا، فإذا آمنا بتلك الأسماء على مراده جل وعلا وعلى مراد رسوله صلى الله عليه وسلم كما كان الشافعي يقول: آمنت بالله وبما جاء عن الله على مراد الله، وآمنت برسول الله صلى الله عليه وسلم، وبما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، على مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقر الإيمان في القلب وملأ ذلك القلب خشية وتقى، وحق له برحمة الله وفضله أن ينجو يوم العرض الأكبر، والوفادة على الرب جل وعلا. فهذه الآية العظيمة الجليلة التي هي أعظم آيات القرآن -الموسومة بآية الكرسي- تلاوتها وتدبرها يورث في القلب خشية وفضلاً كبيراً يشعر به المرء في غدوه ورواحه، وإلا لم يكن لها ذلك الشأو العظيم، كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من قرأ آية الكرسي دبر كل صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت)، فبهذا يفزع المؤمنون إلى ربهم جل وعلا دبر كل صلاة في تلاوة هذه الآية، فإذا صحب تلك التلاوة تدبر وفهم وفقه وإدراك لمعان عظيمة حوتها هذه الآية الكريمة، كان ذلك أنجح في الطريق، وأعظم تأثيراً في القلب، ويجد به المرء الخشية التي يريدها، حتى يصل إلى مرقى عظيم يؤمله، وهو أن يرضى الرب تبارك وتعالى عنه. هذا ما تيسر إيراده وتحرر إعداده، وأعان الله على قوله حول هذه الآية المباركة آية الكرسي. وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.

[خصائص الأنبياء]

سلسلة لطائف المعارف [خصائص الأنبياء] لقد اصطفى الله الأنبياء والمرسلين من بين البشر، وأمرهم بتبليغ رسالته ووصيته، وأيدهم بمعجزاته، ونصرهم فكانوا هم الغالبين، وجعلهم أئمة مهديين، يدعون الناس إلى كل خير، ويحذرونهم من كل شر، ويدلون إلى الجنة بإذن ذي المنة، وقد خصهم الله بخصائص، وميزهم بأشياء لا يشاركون فيها أحداً غيرهم، فصلى الله وسلم وبارك عليهم أجمعين.

من خصائص الأنبياء والمرسلين

من خصائص الأنبياء والمرسلين

الأولى خصيصة الوحي

الأولى خصيصة الوحي الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره، واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فهذا لقاء متجدد أيها المباركون! من برنامجكم: لطائف المعارف، وحلقة هذا اليوم تحمل عنوان: خصائص الأنبياء، ونحن ندرك جميعاً أن أنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه عليهم سادة الخلق، والدعاة إلى الحق، والله جل وعلا اختارهم واصطفاهم واجتباهم وفضلهم على العالمين، والأنبياء المذكورون في القرآن 25 نبياً ورسولاً. قال الله جل وعلا في الأنعام: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ} [الأنعام:83 - 86]. وسبعة آخرون غير الذي ذكرناهم وذكرهم الله في هذه الآيات المباركات من الأنعام، ذكروا في مواطن متفرقة، والذي يعنينا هنا في هذا اللقاء المبارك: خصائص هؤلاء الأنبياء بما ميزهم الله، ولا ريب أن الوحي الذي يأتيهم من السماء أعظم ما ميز الله به أنبياءه، ولقد عرف التاريخ مصلحين لكنهم إنما يستمدون ما يعطونه الناس من تجارب وقراءات وتعليم وهم عرضة للصواب والخطأ، أما أنبياء الله فيتلقون الوحي من السماء، قال تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:4]، ولذلك هم معصومون كل العصمة فيما يبلغون عن الله، قال تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} [الحاقة:44 - 46]. فأنبياء الله ورسله يستمدون هذا النور الذي يقولونه للناس، هذا النور العظيم الذي هو الدين والتوحيد والشرائع يتلقونه بواسطة جبريل، والوحي الذي يتنزل على ثلاث صور: إما أن يكلم الملك مباشرة ذلك النبي بالوحي، وإما أن ينفث في روع ذلك النبي ما يريد الله تبليغه إليه، وإما أن يقع وحياً كصلصلة الجرس، قال الله جل وعلا: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} [الشورى:51]، فهذا النبي صلى الله عليه وسلم أحياناً يلقاه جبريل فيعطيه الخبر، وأحياناً يأتيه جبريل كما كان يأتي جبريل كثيراً في صورة دحية الكلبي، ودحية الكلبي رضي الله عنه كان وسيماً جداً، والملائكة موسومون ومعروفون بالجمال، قال تعالى: {إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ} [يوسف:31]، ولهذا اختاروا أقربهم إلى هيأتهم، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في مدح جرير بن عبد الله البجلي وكان وسيماً: (عليه مسحة ملك)، هذا تخريج، وتخريج آخر يقول: إن دحية الكلبي كان يكثر الدخول على الملوك، فلهذا اختار جبريل أن يأتي بهيئته، ولا نستطيع أن نجزم؛ لأن هذه معطيات نحكم عليها، كما أن النبي صلى الله عليه وسلم تكلم عن ذلك الوحي الذي ينفث في روعه فقال عليه الصلاة والسلام: (إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها)، وغاية ما نريد تأصيله ههنا أن الوحي أعظم خصائص الأنبياء، ولهذا أبو بكر وعمر لما زارا أم أيمن رضي الله عنها وأرضاها قالت: إني لأعلم أن ما عند الله لرسوله خير له مما له عندنا، لكن أبكي لانقطاع الوحي من السماء. لأنه لا وحي إلا على نبي أو رسول، فلما مات صلى الله عليه وسلم وهو آخر الأنبياء قطعاً لم يكن بعده وحي ينزل من السماء. فالمقصود: أن الوحي أعظم ما خص الله به أنبياءه ورسله.

الثانية أن أعينهم تنام ولا تنام قلوبهم

الثانية أن أعينهم تنام ولا تنام قلوبهم ثم تأتي خصائص أخرى منها: أن أعينهم تنام ولا تنام قلوبهم، يقول أحد الشعراء المسلمين في مدح النبي صلى الله عليه وسلم: الليل تسهره بالوحي تعمره وشيبتك بهود آية استقم إلى أن قال: تنام عينك أما القلب لم ينم فهو صلى الله عليه وسلم وإخوته من الأنبياء والمرسلين قبله تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم.

الثالثة أنهم يخيرون عند الموت

الثالثة أنهم يخيرون عند الموت الأمر الثالث: أن الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام يخيرون عند الموت، فلا تقبض روح نبي حتى يخير، وكلهم يختار لقاء الله، ونبينا صلى الله عليه وسلم كان يقول لـ عائشة دوماً: (إن الأنبياء يخيرون عند الموت)، وهي لم تستشعر معنى هذا جيداً كما استشعرته يوم وفاة النبي صلى الله عليه وسلم: فقد سمعته وهي الصديقة بنت الصديق وهو يقول: (مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً)، قالت رضي الله عنها وعن أبويها: فعلمت أنه يخير. فقد كان يخبرها من قبل أن أنبياء الله ورسله يخيرون عند الموت، هذه ثالث الخصائص لأنبياء الله ورسله.

الرابعة أنهم يدفنون حيث يموتون

الرابعة أنهم يدفنون حيث يموتون من خصائصهم كذلك وهو الرابع: أنهم يدفنون حيث يموتون؛ ولهذا دفن صلى الله عليه وسلم في الجهة الجنوبية الغربية من حجرة عائشة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم مات في الجهة الجنوبية الغربية من حجرة عائشة، وقد مر معنا: أن عائشة رضي الله تعالى عنها وأرضاها رأت قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم: أن ثلاثة أقمار سقطوا في حجرها، فذهبت إلى أبيها الصديق تخبره فاعتذر عن الإجابة تأدباً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم آنذاك كان حياً، فلما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ودفن في حجرة عائشة جاء الصديق لـ عائشة ليقول لها: هذا أول وخير أقمارك يا عائشة! والغاية منه: أن تعلم -أيها المبارك- أن من خصائص أنبياء الله ورسله أنهم يدفنون حيث يموتون.

الخامسة أن الأرض لا تأكل أجسادهم

الخامسة أن الأرض لا تأكل أجسادهم تعقب ذلك خصيصة لهم: وهو أن الأرض لا تأكل أجسادهم؛ لأن الله حرم -تحريم منع لا تحريم شرع- على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء، قال عليه الصلاة والسلام يوصي أمته: (إذا كان يوم الجمعة أو ليلتها فأكثروا من الصلاة والسلام علي، قالوا: يا رسول الله! كيف نصلي عليك وقد أرمت، قال: إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء)، فهم عليهم الصلاة والسلام أجسادهم في الأرض وأرواحهم في أعلى عليين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. من هذا المجمل تفقه -أيها المبارك- أن هذه الخصائص لهم وحدهم، لكن ثمة أشياء اشتركوا فيها، وجعل الله جل وعلا لهم فيها حظاً ونصيباً، لكن لا يمنع أن يكون لغيرهم فيها حظ، مثل: أنه صلى الله عليه وسلم كما في الحديث يقول الصحابي: (كنا نجني الكباث -نوع من الثمر- فقال صلى الله عليه وسلم: عليكم بالأسود منه فإنه أطيبه، قالوا: يا رسول الله! كأنك كنت ترعى الغنم)، لأن هذه الأمور لا يعرفها إلا رجل مارس الرعي، فقال صلى الله عليه وسلم: (وهل من نبي إلا وقد رعاها)، يعني: كل الأنبياء قبلي رعوا الغنم، لكن هذه وإن كانت صفة مشتركة في الأنبياء والرسل جميعاً، إلا أنها ليست مقصورة عليهم ولا محصورة فيهم، وهذا أمر لا يحتاج إلى دليل، فكم من الناس من رعى الغنم، لكن الله جل وعلا أراد برعي أنبيائه للغنم أن يتعلموا السكينة وكيف يسوسوا الناس، فإذا ساسوا الغنم وصبروا على نفور هذه ونفور أخرى قدروا بعد ذلك بتوفيق الله لهم أن يسوسوا الأمم، كما أن النبي صلى الله عليه وسلم علم أمته أن ترعى الأمم بعد أن كانت ترعى الشاء والغنم. المقصود من هذا أن هذه بعض المزايا التي هي لأنبياء الله ورسله، ويمكن أن يشترك معهم فيها غيرهم.

المكلمون من الأنبياء

المكلمون من الأنبياء على هذا يتحرر أن الله جل وعلا خص هؤلاء الأنبياء والرسل بتلك الخصائص الخمسة التي ذكرناها، لكن تلك الخصائص وقف عليهم، ولا يمنع أن يكون للأنبياء عليهم الصلاة والسلام بعد ذلك خصائص متفرقة بمعنى: أنها تكون مميزات لنبي دون نبي، ولهذا قال الله: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [البقرة:253] ثم فصل فقال: {مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ} [البقرة:253]، والتكليم إذا أطلق ينصرف إلى موسى؛ لأن الله قال: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء:164]، لكن العلماء يقولون: من الذين ثبت أن الله كلمهم: محمد عليه الصلاة والسلام، وموسى، وآدم، كما في الحديث: (قيل: يا رسول الله! أكان نبياً هو؟ قال: كان نبياً مكلماً)، أي: أن آدم عليه السلام نبي مكلم بخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما موسى فقد صرح القرآن به: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء:164]. فالتكليم إذا أطلق ينصرف إلى كليم الله موسى، قال الله في شأنه: {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي} [الأعراف:144]، في حين أن عيسى عليه الصلاة والسلام ميزه الله جل وعلا بأنه ولد من غير أب، ولهذا نسب إلى أمه: {إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [آل عمران:45]، فأيوب عليه الصلاة والسلام ابتلي فصبر، وسليمان وأبوه داود عليهما السلام أعطيا الملك، بخلاف أيوب وصبره، وهكذا اختلفت حياة الأنبياء؛ لأنهم جميعاً يمثلون ما في الإنسانية في أعلى ذروتها، وأكمل رقيها، يجمعهم جميعاً قول الله: {وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ} [الأنبياء:73]، فكانوا عليهم الصلاة والسلام أعظم الخلق عبادة لربهم تبارك وتعالى، معصومين بعصمة الله جل وعلا لهم، فأنبياء الله ورسله اجتباهم الله بقوله: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام:124]، يحكون في هذا: أن الحسن والحسين سبطا رسول الله صلى الله عليه وسلم شاهدا رجلاً طاعناً في السن يريد أن يتوضأ ولا يحسن الوضوء، وهو يظن أنه يحسن، فقدما إليه فقالا له: يا عماه! اختصمنا أنا وأخي في أينا أحسن وضوءاً، فتوضأ الاثنان أمامه ففقه ذلك العجوز من وضوئهما أنهما يريدان أن يعلماه؛ لأنه رأى فرقاً بيناً شاسعاً بين وضوئهما ووضوئه فقال: من أنتما؟ فقالا: الحسن والحسين سبطا رسول الله صلى الله عليه وسلم فما كان من ذلك العجوز إلا أن قبل رأسيهما، وصدق الله: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام:124]، فهذان السبطان كان هذا صنيعهما، فكيف بأنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه عليهم، والله الذي اختارهم على علم على العالمين، وجعلهم سادة للخلق، ودعاة للحق عليهم الصلاة والسلام أجمعين. ويونس بن متى كذلك ذكره الله جل وعلا في القرآن قائلاً لنبيه: {وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ} [القلم:48]، لكن قول الله جل وعلا عن هذا النبي الكريم يونس: {وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ} [القلم:48] ليس على إطلاقه؛ لأن الله قال بعدها: {وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ * لَوْلا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ} [القلم:48 - 49]. والمعنى: أن يونس عليه الصلاة والسلام جاء لقومه فلم يستجيبوا له فخرج مغضباً، قال الله: {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} [الأنبياء:87]، و ((نَقْدِرَ)) هنا بمعنى: نضيق أي: ظن يونس أن الله لن يضيق عليه بسبب صنيعه هذا، فركب سفينة فألقى في البحر فالتقمه الحوت، وقد أمر الله الحوت ألا يأكل له لحماً، ولا يهشم له عظماً، ثم لفظه الحوت بأمر من الله: {فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ * وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ * وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات:145 - 147]. فالقضية في يونس: أنه خالف الأولى في مقام معين محدد، وليس على إطلاقه، ولهذا جاء مقيداً، {إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ} [القلم:48]. غاية الأمر -أيها المباركون- أن نعرف شيئاً عن أنبياء الله ورسله، وإلا فالحديث عنهم لا يمله قلب، ولا تسأم منه أذن، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. هذا ما تهيأ إيراده، وأعان الله على قوله، وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.

[زيد بن حارثة رضي الله عنه]

سلسلة لطائف المعارف [زيد بن حارثة رضي الله عنه] لقد كان زيد بن حارثة حب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أوائل المؤمنين به، المصدقين خبره، الذابين عنه صلى الله عليه وسلم، ولقد كان له مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبار وأسرار، وهو الذي كرمه الله عز وجل في حادثة لم يسبق إليها أحد: أن ذكره ربه سبحانه في القرآن الكريم باسمه صراحة، فحري بنا أن نعرف شيئاً من سيرته العطرة، وأخباره الزكية.

زيد بن حارثة ابن الإسلام وحب رسول الله

زيد بن حارثة ابن الإسلام وحب رسول الله الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جامع الناس ليوم لا ريب فيه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. هذا أيها المباركون! لقاء متجدد من لقاءاتكم الموسومة: بلطائف المعارف، وعنوان حلقة هذا اليوم تحمل اسم صحابي جليل هو: زيد بن حارثة. نحن ندرك جميعاً أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم أمثل جيل، وأكمل رعيل؛ ذلك أنهم من الله تبارك وتعالى عليهم بنصرة نبيه صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم يزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، كما هي دعوة خليل الله إبراهيم. والصحابة كما نعلم جم غفير، لكن القرآن وهو مائة وأربعة عشر سورة لم يرد فيه ذكر اسم صحابي واحد باسمه الصريح، فقد جاءت آيات في مدح الصحابة عموماً مثل قوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ} [الفتح:29]، لكن لم يرد في القرآن ذكر صحابي باسمه الصريح إلا زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنه وأرضاه. ولـ زيد أخبار قبل الإسلام، وأخبار بعد البعثة، وله أخبار قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه مات قبل النبي عليه الصلاة والسلام، ومن هذه الأخبار: أن نعرف المكانة الجليلة لهذا الرجل رضي الله تعالى عنه وأرضاه. بداية القصة أن خديجة بنت خويلد رضي الله عنها وأرضاها أم المؤمنين طلبت من ابن أخيها حكيم بن حزام أن يشتري لها غلاماً وهو ذاهب إلى سوق عكاظ، وقبل أن أستطرد، فـ حكيم بن حزام هذا ولد في الكعبة، حملته أمه وجاءها المخاض وهي في جوف الكعبة، فولدت حكيماً هذا في جوف الكعبة. موضع الشاهد: أن حكيماً اشترى زيداً لـ خديجة، ثم أهدته خديجة لنبينا صلى الله عليه وسلم، وكان أعمامه وأبوه من قبل يسألون عنه حتى عرفوا أنه عند محمد بن عبد الله، وهذا كله والنبي عليه الصلاة والسلام لم يبعث بعد، لكن زيداً بنور الله الذي آتاه تفرس في أن النبي سيكون له شأن، والقصة معروفة بأنه خُيِّر فاختار النبي صلى الله عليه وسلم، وما كان مشتهراً لا أحب أن أقف عنده كثيراً؛ لأن العبرة بالعظات وليست في سرد التاريخ، فالتاريخ موجود في طيات الكتب. المقصود من هذا أن زيداً تمسك بالنبي صلى الله عليه وسلم وقدمه على أبيه وأعمامه فانصرفوا، فلما قدم زيد نبينا صلى الله عليه وسلم وموالاته على أبيه وأعمامه قال عليه الصلاة والسلام في نوادي قريش: (أشهدكم أن زيداً ابني يرثني وأرثه) من باب رد الجميل، وحينها لم يكن قد بعث نبينا صلى الله عليه وسلم، فأصبح زيد يعرف بـ زيد بن محمد. وعندما من الله على نبيه بالنبوة كان زيد من السابقين إلى الإسلام، وذهب مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف ورأى تلك المعاناة التي لقيها النبي صلى الله عليه وسلم في الطائف، ثم عاد معه إلى مكة وبقي باراً برسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم جاءت الهجرة فانتقل النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة ومنهم زيد إلى المدينة، وفي المدينة تغير الوضع ونزلت أحكام شرعية؛ لأن العهد المكي كان يعنى بالعقائد أكثر الأمر، وجاء العهد المدني فعني بالعقائد، ثم جاء التنظيم للمجتمع والدولة، فكان مما أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب:40]، فذلك التاج الذي كان يعلو على مفرق رأس زيد من أنه ينادى بـ زيد بن محمد نزع منه، وأصبح يدعى باسم أبيه زيد بن حارثة، ولا يدعى بـ زيد بن محمد، ولا ريب أن هذا أحدث في قلب زيد حزناً شديداً؛ لأن كونه ينادى بـ زيد بن محمد هذا شرف وأي شرف، لكنه أمر الله وقدره وقضائه وتعليماً للأمة، قال الله جل وعلا: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ} [الأحزاب:40]، وقال تعالى: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} [الأحزاب:5]، فنزع منه هذا اللقب.

تطليق زيد لزينب بنت جحش وزواج النبي بها

تطليق زيد لزينب بنت جحش وزواج النبي بها وقدر لـ زيد قبلها أن يتزوج زينت بنت جحش الأسدية، وزينب رضي الله عنها وأرضاها قرشية، وزيد مولى، فكانت تجد في نفسها أنفة عليه، فتحدث بينهما النزاعات، وكان الله جل وعلا قد أوحى إلى نبيه أن زيداً سيطلق زوجته زينب وأنه سيتزوجها، وهذا الوحي نزل على النبي صلى الله عليه وسلم وأخبر به وعرفه، ولكنه كتمه، فكان زيد إذا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشكو إليه زوجته أمره النبي أن يصبر عليها وألا يطلقها، فأنزل الله جل وعلا قوله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا} [الأحزاب:36]، ثم قال الله: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} [الأحزاب:37] (وَإِذْ تَقُولُ) إذ: ظرفية زمنية بما قد سلف. (إذ تقول) أي: يا محمد! (لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ) أي: زيد الذي أنعم الله عليه بنعمة الإسلام. (وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ) أي: بالعتق؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أعتق زيداً. (أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ) تنصحه وترشده أن يبقي على زوجته. (وَتُخْفِي) أي: يا محمد! (فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ) أي: ما الله مظهره، والشيء الذي سيظهره الله أنه سيطلقها وأنك ستتزوج زينب لا محالة. (وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ) تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: لو كان النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يخفي شيئاً من القرآن لأخفى هذه الآية، لكن النبي صلى الله عليه وسلم مؤتمن على وحي الله. (فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا) تزوجها وأصابها. (زَوَّجْنَاكَهَا) أي: بعد انفكاكها عن زيد. (لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا). من هذا نفهم: أن الله جل وعلا ذكر اسم زيد؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام بعث زيداً بعد أن طلق زينب يخطبها له، ولنا أن نتخيل كيف لرجل أن يخطب امرأته السابقة لرجل آخر؟ هذا صعب جداً على الأنفس، لكن أنفس الصحابة وفي مقدمتهم زيد كانت محبة معظمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قدم إليها أعطاها ظهره، هيبة لحرمة امرأة ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم فبعثه ليخطبها إليه، فتزوجها صلى الله عليه وسلم وكانت تفتخر على أمهات المؤمنين بأن الله جل وعلا تولى أمر زواجها واختارها لنبيه من فوق سبع سماوات رضي الله عنها وأرضاها. هذه الأمور التي فقدها زيد: كونه كان ينادى بـ زيد بن محمد، وفقد زوجته وذهبت للنبي صلى الله عليه وسلم، لكن الله عوضه عنها وهو أكرم الأكرمين جل جلاله بأن ذكر اسمه في القرآن، فأصبح اسمه من جملة قرآن يتلى ويتعبد الله جل وعلا به في المحاريب وفي صدور المؤمنين إلى يوم القيامة، فنحن نقرأ: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ} [الأحزاب:37]، وهو زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنه وأرضاه. فانظر كيف عوض الله جل وعلا زيداً في الدنيا، أما في الآخرة فلا ريب أن زيداً في الجنة، قال صلى الله عليه وسلم: (دخلت الجنة، فإذا جارية شابة، قلت: لمن هذه؟ قالت: أنا لزيد بن حارثة). وزيد بن حارثة كان أحد القادة الذين أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم وهم متوجهون إلى مؤتة لقتال الروم، وكان جعفر بن أبي طالب ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزيد بن حارثة مولى النبي صلى الله عليه وسلم ومن أحب الخلق إليه، وعبد الله بن رواحة رضي الله تعالى عنهم جميعاً وأرضاهم ممن قضوا نحبهم شهداء في تلك المعركة، أي: أن زيداً مات قبل النبي صلى الله عليه وسلم.

أسامة بن زيد ابن حب رسول الله

أسامة بن زيد ابن حب رسول الله كان النبي عليه الصلاة والسلام يحب زيداً ويحب ابنه أسامة، حتى ورد: أن رجلاً ممن لهم معرفة في القيافة، وهي: قضية معرفة الأنساب، ومعرفة الرجل، والقبيلة التي ينتسب إليها، وكان رجلاً من بني مدلج، جاء ذات يوم وأسامة وزيد رضي الله تعالى عنهما نائمان، وكان زيد أبيض وأسامة أسود، وهذا يثير الريبة عند الناس، هذا الرجل لا يعرف أن هذا زيداً ولا أن هذا أسامة؛ لأن رأسيهما قد غطيا وهو أصلاً ليس من المدينة، ولا يعلم مكانتهما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما رأى أقدامهما، فقال وهو صاحب علم في هذا الشأن: هذه الأقدام بعضها من بعض، فانفرجت أسارير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودخل على عائشة مستبشراً فرحاً وهو يقول: (أما سمعت أن فلان المدلجي نظر إلى قدمي أسامة وزيد فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض)، وكان هذا أمام الناس تطميناً له صلى الله عليه وسلم، وإلا فهو عليه الصلاة والسلام كان يعلم أن أسامة ابن لـ زيد، وأسامة بن زيد وزيد بن حارثة من أعظم من أحب النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في حق أسامة: (اللهم إني أحبه فأحبه)، فنحن نعلم أنه في حجة الوداع والنبي صلى الله عليه وسلم أراد أن ينفر من عرفة إلى مزدلفة وهو على ناقته، وأهل الموقف ينتظرون أن يبدأ النبي صلى الله عليه وسلم حتى يتبعوه؛ لأنه لا يمكن أن ينفروا قبل إمامهم عليه الصلاة والسلام، وهو عليه الصلاة والسلام كأنه ينتظر، فتساءل الناس: ماذا ينتظر صلى الله عليه وسلم؟ فجاء أسامة بن زيد أسود نحيلاً خفيفاً ظريفاً رضي الله عنه وأرضاه، فركب ناقة نبينا صلى الله عليه وسلم، وضمه من الخلف، ثم أمر النبي صلى الله عليه وسلم الدابة أن تمضي، فأردفه من عرفة إلى مزدلفة، وفي الطريق نزل صلى الله عليه وسلم يتوضأ ولم يصل، فذكره أسامة بالصلاة، فقال صلى الله عليه وسلم: (الصلاة أمامك) أي: في مزدلفة جمع تأخير والذي يعنينا من هذا: هو العناية المحمدية بهذا النشء والشاب، فقد كان عمره آنذاك ثمانية عشر تقريباً، الذي هو ابن زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنه وأرضاه، حب رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن هنا نعلم أن القلوب أوعية، وأحياناً يجد الإنسان في قلبه محبة عظيمة لبعض من حوله تزيد على محبته لغيره، وهذه أمور يقذفها الله جل وعلا في قلب من يشاء، وأحياناً يجد الإنسان ألفة تجذبه إلى الغير، ومحبة تتبعه إلى بعض من حوله، وقد تكون محبته لبعض قرابته، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف). والمهم في المؤمن من حيث الجملة من هذه الأخبار عن زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنه وأرضاه: أن يكون محباً للناس، محباً لغيره، يحب لهم ما يحب لنفسه، وهذا من دلائل صفاء قلبه، وسلامة معتقده، وهو من دوافع وبراهين الإخوة الإيمانية. هذا ما تسير الحديث عنه، وتهيأ إعداده عن زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنه وأرضاه. والله أعلم، وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.

[سليمان وجنوده]

سلسلة لطائف المعارف [سليمان وجنوده] في خبر سليمان وجنوده وما آتاه الله من الملك والحكمة عبرة للمعتبرين، وخاصة وجهاء الناس وكبارهم، فهو صورة لمن استخدم ملكه ووجاهته في الدعوة إلى الله وخدمة دينه.

خبر النملة في قصة سليمان

خبر النملة في قصة سليمان الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، والصلاة والسلام على خير خلقه وأفضل رسله. أما بعد: فهذا لقاء من لقاءات لطائف ومعارف، يحمل عنوان سليمان وجنوده، وهو مقتبس من قول الله جل وعلا: {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ} [النمل:17]. سليمان عليه الصلاة والسلام أحد أنبياء بني إسرائيل، وهذا النبي الكريم هو ابن لنبي، وهو داود عليه الصلاة والسلام، وكان الله جل وعلا قد آتى داود الملك والكتاب والحكم والنبوة، وهو من أعظم أنبياء بني إسرائيل صلوات الله وسلامه عليهم، هذا النبي الكريم -أي داود- آتاه الله جل وعلا الرغبة في العبادة والقدرة عليها، وهو من أعبد خلق الله، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (أحب الصلاة إلى الله صلاة داود، وأحب الصيام إلى الله صيام داود). ذكر الله جل وعلا خبر سليمان في مواطن متفرقة، أشهرها في سورة النمل، قال الله جل وعلا: {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [النمل:17 - 18]، وهذا من أدبها؛ لأنها أشفقت على قومها وتأدبت مع نبي الله سليمان بقولها، وهم لا يشعرون. لكن الحدث الجلل في خبر سليمان هو قصته مع الهدهد وقوم بلقيس أي: قوم سبأ.

خبر الهدهد مع سليمان

خبر الهدهد مع سليمان إن سليمان عليه الصلاة والسلام بدا له ذات يوم أن يتفقد جيشه، قال الله جل وعلا: {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ} [النمل:20]. وهذا يدل على أن المرء إذا أوكل إليه عمل إما أن يأخذه بقوة أو يتركه، ولا يحسن بالعاقل أن يتولى عملاً ثم يقصر في أدائه، قال الله جل وعلا: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم:12]، وقال الله جل وعلا: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص:26]. وسليمان عليه السلام رغم ما أورثه الله جل وعلا من العصمة والنبوة والملك إلا أنه كان حريصاً على أن يتفقد ملكه، فقال الله: ((وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ))، أي: موقع الطير من الجند، ((فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ))، ثم توعده حتى لا يضعف غيره فقال: {لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ} [النمل:21]. يقال: إنه قيل له: يا نبي الله، وأي عذاب هذا الذي يوازي الذبح؟ قال: أضعه مع قوم لا يعرفون قدره. والأحرار لا يقتلهم شيء مثل أن يوضعوا في موضع لا يعرف من حولهم فيه قدرهم، ولهذا فإن إخوة يوسف، وأولئك الذين وجدوا يوسف في البئر -وهو نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله- لم يأبهوا له وبيع {بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ} [يوسف:20]. هنا قال نبي الله: ((لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ))، لكن العاقل يضع لنفسه خط رجعة، لهذا قال سليمان: {أَوْ لَيَأْتِيَنِي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [النمل:21]، أي: أن يأتي بعلوم، فلا ذبح ولا عذاب. قال الله جل وعلا: {فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ} [النمل:22]، أي: لم تمض مدة زمنية كافية، فإذا بالهدهد بين يدي سليمان، {فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} [النمل:22]. الغيب لا يعرفه إلا الله، فهذا نبي الله ابن نبي الله ولديه ملك وجن يخدمونه وغابت عنه مملكة بأكملها عرفها طائر من الطيور، ((فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ)). ثم قال: {إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [النمل:23]، أي: مما يؤتى الملوك عادة، فكل وإن كانت من ألفاظ العموم لكن السياق يدل على المعنى المراد منها، فلا يعقل أن بلقيس لا يوجد شيء في الدنيا إلا وهو عندها؛ فإن ملك سليمان أعظم من ملكها، لكن مما جرت أن يكون في قصور الملوك موجود عندها. إلا أن الهدهد أنكر عليهم أنهم عبدوا الشمس من دون الله، وتعجب وهو على فطرته كيف يتأتى لقوم أن يعبدوا ويشركوا مع الله جل وعلا غيره. فلهذا قال: {أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [النمل:25]. ومن لطائف التفسير كما يقول العلماء: إن الإنسان يخبر عادة بالشيء الذي يعرفه، فالهدهد له علاقة بالحب؛ لأنه يأكله، فلما أراد أن يعرف بربه، قال: ((يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ))؛ لأنه هذا الذي يناسب البيئة التي يعرفها الهدهد. وقد تلقى سليمان هذا الخبر من الهدهد بحكمة، {قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [النمل:27] لأن قول الهدهد يقبل الصدق والكذب. قال تعالى: {اذْهَب بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ} [النمل:28] خرج الهدهد بالكتاب الذي كتبه سليمان، ودخل قصر بلقيس ووضعه في ناحية بطريقة مؤدبة، وأهل الصناعة العقلية يقولون: إن العاقل يعرف أو الرجل يعرف بثلاثة أمور: بكتابه، بهديته، برسوله الذي يبعث. فقامت هذه المرأة فقالت لقومها: {إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ * إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [النمل:29 - 30]، فقدم سليمان هنا اسمه على اسم الله؛ لأنه يخاطب قوماً وثنيين وعباد شمس، وليسوا أهل كتاب يعرفون الله، فحتى يلقي فيهم الهيبة، وينظرون إلى رسالته ولا يهملونها ولا يطرحونها فتكون هناك مصلحة دعوية أكبر قال: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} [النمل:30 - 31]، والمرأة كانت عاقلة: {قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ} [النمل:32]، أصابتهم عزة وأرادوا أن يظهروا لها أنهم معها في السراء والضراء: {قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ * قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً} [النمل:23 - 34]، فصدقها الله، وإن كانت عابدة شمس، قال ربنا: {وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [النمل:34]؛ لأن أي إنسان يحكم في قرية أو يحتل بلداً أو ينال منصباً، فإن غالب أمره أن يغير حال من سبقه، وهذا معنى قولها كما حكى الله: ((إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ))، رأت أن تبعث بهدية؛ فترى ردة فعل سليمان. {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} [النمل:35]، منها أنها تهدئ من غضبه، ومنها أن هؤلاء الرسل الذين يحملون الهدايا يطلعون على ملك سليمان فيقدمون لها تصوراً كاملاً قبل أن تتخذ قراراً. أخذوا الهدايا، قال الله: {فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ} [النمل:36] أي: جاء الرسل سليمان {قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ} [النمل:36] أي: الإسلام، {خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ * ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ} [النمل:36 - 37]. ثم بدا لسليمان أن يرى مزيد فضل الله عليه، فقال لمن حوله: {أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} [النمل:38] فاختصم عنده اثنان. قال الله: {قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ} [النمل:39] لديه قوة، لكن ليس لديه علم: {أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ} [النمل:39] أي: لا تكاد تنتهي من هذا المجلس الذي أنت فيه إلا وعرش بلقيس عندك. {وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ * قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} [النمل:39 - 40]، وهذا أسرع، لكنه في غالب الظن -عندي والعلم عند الله- جني أوتي علماً، فجمع ما بين القوة العلمية والقوة الجسدية. {فَلَمَّا رَآهُ} [النمل:40] أي: رأى سليمان العرش {مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ} [النمل:40] نسب الفضل إلى الله، وكذلك المؤمن النقي التقي إذا رأى النعمة في نفسه وفي ماله أو ولده أو أهله أو أي شيء حوله نسبها إلى ربه جل وعلا. {قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ} [النمل:40]، فهو الذي يدخل الجنة إذا شكر {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} [النمل:40]. فالله جل وعلا لا تنفعه طاعة طائع ولا تضره معصية عاص، ولا يبلغ مدحته قول قائل، تنزه عن الصاحبة والولد، وتقدس فلم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد. فالمقصود أن سليمان أراد أن يختبر بعد ذلك ذكاء بلقيس. {قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا} [النمل:41] أي: غيروا في العرش، فلما جاءت بلقيس سألها سليمان: {أَهَكَذَا عَرْشُكِ} [النمل:42]؟ لأنها تركته وراءها في صنعاء، وكانت ذكية، {قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ} [النمل:42]، وهذا جواب بتعبيرنا اليوم: دبلوماسي؛ لأنه لو قالت: ليس بعرشي، لقال لها: كيف لا تعرفين عرشك؟ ولو قالت: هو عرشي، لقال لها: كيف كان عرشك، لم يكن على هذه الحال. فالسياق يدل على أنها كانت فطنة. قال الله جل وعلا: {وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا} [النمل:42] أي: سليمان، {وَكُنَّا مُسْلِمِينَ} [النمل:42] وهذا أعظم فخراً وأشد موئلاً وأعظم اتكاء. {وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ} [النمل:43] أراد أن يدعوها إلى الله، وهذه غاية ومهمة ووظيفة عظمى؛ لكن هذه ملكة ينبغي أن تدعى بما يناسب حالها، فأمر الجن أن يبنوا له صرحاً ممرداً من قوارير. ثم لما أحكم البنيان، والصرح الممرد بني على البحر، قال الله جل وعلا: {قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ} [النمل:44]، فلما دخلت الصرح، قال الله: {فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً} [النمل:44] أي: حسبت هذا الصرح بحراً، واضطرت إلى أن تتعامل مع اللجة بأن تكشف عن ساقيها حتى لا تتضرر ثيابها، {وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا} [النمل:44] هنا قال لها سلي

وقفة مع إسلام ملكة سبأ

وقفة مع إسلام ملكة سبأ قال الله تعالى: {قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي} [النمل:44] وهذا من أعظم طرائق الدعاء. {قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل:44]. ولننخ المطايا هنا لنعرف عظيم صبر الله. الذي أخرج هذه المرأة من أرض اليمن هو الحفاظ على ملكها وعرشها، فأورثها الله جل وعلا الهداية في قلبها وأن تموت على الإسلام، فانظر الدافع في الخروج والغاية التي كانت تريدها، ثم انظر ما النوال الذي أعطيت، وما الفود الذي عادت به، ((قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ))، فأصبحت مؤمنة بعد أن كانت كافرة. وأنت ترى فضل الله الواسع في بلادنا، فكثير من العمال والمهندسين وغيرهم يأتون إلى بلادنا طلباً للقمة العيش، ممن ليسوا على دين الإسلام من شتى أقطار الأرض، ويمن الله جل وعلا على كثير منهم بالإسلام فيؤمنون، فانظر لماذا أتوا وماذا كسبوا وبما سيعودوا، أما من منَّ الله عليهم بالهداية وماتوا بعد ذلك عليها فهذه نعمة عظيمة واصطفاء واجتباء، فربما لو مكث في بلاده لما عرف الدين ولما آمن، لكن لما قدر له أن يأتي طلباً للرزق من الله عليه بالهداية إليه. هذا ما تيسر إيراده، وتهيأ إعداده، وأعان الله على قوله حول قول الله جل وعلا: {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ} [النمل:17]. وصلى الله على محمد وعلى آله والحمد لله رب العالمين.

[عالم الملائكة]

سلسلة لطائف المعارف [عالم الملائكة] الملائكة خلق من خلق الله تعالى خصهم الله تعالى بخصائص وأوكل إليهم القيام بأمور في الكون، وهم عباد مكرمون لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، ووهبهم الله تعالى عظم الخلقة، والقدرة على التشكل، وخص تعالى بعضهم بالرفعة على غيرهم، فسادتهم جبريل وميكال وإسرافيل وملك الموت، وسيد الملائكة جميعاً جبريل عليه السلام، كما أن لهم وظائف وأعمالاً يقومون بها امتثالاً لأمر الله تعالى.

ماهية الملائكة وعددهم ومساكنهم

ماهية الملائكة وعددهم ومساكنهم بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً. وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له، أراد ما العباد فاعلوه ولو عصمهم لما خالفوه، ولو شاء أن يطيعوه جميعاً لأطاعوه. وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، بلغ عن الله رسالاته، ونصح له في برياته، فصلى الله وسلم وبارك وأنعم عليه وعلى آله وأصحابه. أما بعد: فعنوان هذا الدرس: (عالم الملائكة). فالله تبارك وتعالى خلق العقلاء ثلاثة أقسام: الملائكة والجن والإنس، والملائكة خلق من خلق الله ليسوا بناتاً لله ولا أولاداً ولا شركاء معه ولا أنداداً، قال الله جل وعلا: {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء:26 - 28]. ويمكن تناول الحديث عنهم وعلاقتهم بنا من عدة أوجه. أولاً: أنه يجب أن تعلم أن الملائكة جند من جند الله لا يعلم عددهم إلا الله، قال الله جل وعلا: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31]. ومساكنهم السماء، قال الله: {فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا} [فصلت:38] أي: أهل الأرض {فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ} [فصلت:38] أي: أهل السماء.

رؤساء الملائكة

رؤساء الملائكة ورؤساء الملائكة أربعة: جبريل وإسرافيل وميكال وملك الموت، وملك الموت لا يعرف خبر صحيح في اسمه، ولكن اشتهر عن بعض الإسرائيليات أنه عزرائيل، ولا يبعد ذلك، ولكن يصعب إثباته لعدم وجود النقل الصحيح. أما جبريل فهو سيد الملائكة فيما يظهر، وقد أوكل الله جل وعلا إليه ما يتعلق بحياة القلوب، فهو الذي ينزل بالوحي، ولذلك لما عرضت خديجة رضي الله تعالى عنها وأرضاها نبينا صلى الله عليه وسلم على ابن عمها ورقة بن نوفل، وقص النبي عليه الصلاة والسلام على ورقة رؤيته الملك قال: أبشر، هذا الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى. والمعنى: أن جبريل عليه السلام أوكل الله جل وعلا إليه إنزال الوحي على رسله، فلهذا ينزل بما فيه حياة القلوب. وميكال ينزل بالقطر من السماء، فقد أوكل الله إليه أرزاق الناس وقطر السماء. وأما إسرافيل فقد أوكل الله جل وعلا إليه النفخ في الصور، فلهذا قال صلى الله عليه وسلم: (إن صاحب الصور قد أصغى أذنه وحنى جبهته ينتظر متى يؤمر بالنفخ فينفخ، قالوا: ما نقول يا رسول الله؟ قال: قولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل). وأوكل الله إلى ملك الموت قبض الأرواح، وهو عليه السلام له أعوان، والله جل وعلا قد ذكره لوحده، وذكره بأعوانه، فقد قال الله جل وعلا في سورة (الم تَنزِيلُ) السجدة: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} [السجدة:11]، فهذا ذكر لملك الموت وحده، وذكره الله مع أعوانه في سورة الأنعام فقال جل وعلا: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ * ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} [الأنعام:61 - 62]. فهؤلاء الأربعة هم رؤساء الملائكة.

ذكر بعض آثار مكانة جبريل عليه السلام

ذكر بعض آثار مكانة جبريل عليه السلام وقد ثبت أن جبريل عليه السلام أول من يسمع وحي الله، وفي هذا الخبر ما يضفي على قلب المؤمن خشوعاً وإذعاناً لعظمة ربه وجلاله، قال صلى الله عليه وسلم كما عند ابن جرير بسند صحيح من حديث النواس بن سمعان: (إن الله إذا أراد أن يتكلم بالوحي أخذت السماوات منه رجفة شديدة، فإذا سمع بذلك أهل السماوات صعقوا، فيكون أول من يرفع رأسه جبريل، فيوحي الله جل وعلا إليه ما شاء، ثم يمضي جبريل بذلك الأمر على كل سماء، كلما مر على سماء سأله ملائكتها: ماذا قال ربنا يا جبريل؟ فيقول: قال الحق وهو العلي الكبير)، قال الله جل وعلا تصديقاً لهذا الخبر في سورة سبأ: {وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ:23]. وذكر المفسرون في سبب نزول قول الله جل وعلا: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ} [البقرة:97] أن طائفة من اليهود بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة قدموا إليه، فقالوا: (يا أبا القاسم! إنا سائلوك عن مسائل لا يعلمهن إلا نبي، فسألوه فأجابهم، فقالوا: بقيت واحدة إن وافقتنا فيها اتبعناك وإلا فارقناك، فأخذ عليهم النبي صلى الله عليه وسلم العهد والمواثيق على أن يتابعوه، فقالوا: من وليك من الملائكة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: جبريل، قالوا: هذا الذي ينزل بالحرب والقتال؟ لو كان وليك من الملائكة ميكال الذي ينزل بالرحمة والقطر لاتبعناك، فأنزل الله جل وعلا رداً عليهم: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ * مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:97 - 98]).

ذكر بعض وظائف الملائكة وأدبهم مع ربهم

ذكر بعض وظائف الملائكة وأدبهم مع ربهم ومن عظماء الملائكة حملة العرش، والعرش كبير ذو قوائم تحمله الملائكة، قال الله جل وعلا: {وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} [الحاقة:17]، وقال تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ} [غافر:7]، فالله هنا ذكر طائفتين، طائفة تحمل العرش، وطائفة تطوف حول العرش. فقوله تعالى: ((الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ)) هؤلاء طائفة، ((وَمَنْ حَوْلَهُ)) أي: طائفة من الملائكة آخرون يطوفون حول العرش، وكلتاهما قال الله في وصفهما: {يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [غافر:7]، فهذه بعض وظائف أولئك الملائكة الكرام، ونحن نعلم أن الملائكة لكل منهم وظائف، وهم مؤدبون بين يدي ربهم، فقد أخبر الله جل وعلا عنهم أنهم يقولون: {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ} [الصافات:165]، وأخبر عنهم أنهم يقولون عن أنفسهم: {وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ} [الصافات:164] أي: مقام لا يتجاوزه وعمل لا يتعداه. ولا شك في أنهم جبلوا على عبادة الله فطرة، قال الله تبارك وتعالى: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6].

قدرة الملائكة على التشكل

قدرة الملائكة على التشكل وقد أعطاهم الله جل وعلا القدرة على التشكل، ولهذا جاء جبريل إلى الصديقة مريم في صورة رجل حسن الخلقة سويها عليه السلام. وجاءت الملائكة إلى إبراهيم في صورة رجال فلم يعرفهم، وجاء في الحديث: أن رجلاً ذهب إلى أخيه يزوره في الله فجعل الله في طريقه ملكاً على صورة رجل ليخبره بمحبة الله له. والمقصود: أن الملائكة أعطاهم الله جل وعلا القدرة على التشكل، ويقول بعض أهل العلم: إن الفرق بين تشكل الملك وتشكل الجني: أن الجني تحكمه الصورة، أما الملك فلا تحكمه الصورة، ومعنى ذلك أنه لو قدر أن الجني ظعن وهو متشكل في أي صورة فإنه يموت؛ لأن الصورة تحكمه، أما الملك فلو قدر أن يقع هذا فإنه لا يتأثر؛ لأن الصورة لا تحكمه. وقد رزق الملائكة الأدب مع الله، فجبريل على علو قدره ورفيع منزلته كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب أن يأتيه كثيراً، فقال صلى الله عليه وسلم لجبريل: (ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا؟)، فأنزل الله جل وعلا قوله: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم:64].

جمال الملائكة

جمال الملائكة ومن الأمور المتعارف عليها التي دل عليها القرآن وتوارثها الناس جيلاً بعد جليل منذ أن كان الخلق أن الملائكة رمز للصورة الجميلة الحسنة، من دلائل ذلك وقرائنه وبراهينه أن النساء اللواتي طلبت منهن امرأة العزيز أن يحضرن في بيتها لتمهد لدخول يوسف عليه السلام عليهن، قال الله جل وعلا عنهن: {فَلَمَّا رَأَيْنَهُ} [يوسف:31] أي: رأين يوسف {أَكْبَرْنَهُ} [يوسف:31] أي: استعظمن هيئته {وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ} [يوسف:31]، ومعلوم أن أولئك النسوة لم يرين الملائكة قط، ولكنه استقر في الأذهان عند العقلاء جميعاً بصرف النظر عن أديانهم ومللهم أن الملائكة رمز للجمال، وهذا حق. وهؤلاء الملائكة الكرام لهم وظائف يوكلها الله جل وعلا إليهم، ومن ذلك ما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأحد أصحابه: (أما رأيت هذا العارض؟! إنه ملك لم ينزل من السماء قط، استأذن ربه في أن ينزل ويبشرني بأن الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة)، فهذا الملك استأذن ربه في مهمة ليؤديها؛ لأنه يعلم مكانة الحسن والحسين عند رسول الله صلى الله عليه وسلم.

عظم خلق الملائكة

عظم خلق الملائكة وهؤلاء الملائكة الكرام عظيمو الخلقة، قال الله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [فاطر:1] وليس هذا مدار الاكتفاء، بل قال الله بعدها: {يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ} [فاطر:1]. والنبي صلى الله عليه وسلم رأى جبريل عليه السلام على هيئته التي خلقه الله تعالى عليها مرتين: المرة الأولى: في أيام الوحي الأولى، فقد رآه على كرسي بين السماء والأرض له ستمائة جناح قد سد الأفق. ثم قدر له صلى الله عليه وسلم أن يرى جبريل في رحلة الإسراء والمعراج، ولهذا دون الله ذكرها في كتابه، فقال الله جل وعلا: {وَلَقَدْ رَآهُ} [النجم:13] فالرائي محمد والمرئي جبريل {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} [النجم:13]، فقول الله جل وعلا: ((نَزْلَةً أُخْرَى)) أي: مرة أخرى، وهذا يدل على أن هناك مرة سبقتها، وهذه المرة التي سبقتها هي التي أثبتها الله في سورة التكوير، حيث قال الله جل وعلا: {وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ} [التكوير:23]، أي: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى جبريل على هيئته التي خلقه الله عليها قد سد الأفق. وفي الحديث أن مسروقاً رضي الله عنه جاء إلى عائشة أم المؤمنين، فقال لها: يا أماه! هل رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه؟ فقالت: لقد قف شعر رأسي مما تقول. فقال لها: ألم يقل الله: ((وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ))؟ فقالت: أنا أول هذه الأمة سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية، هذا جبريل. فالمعني بالآية هنا هو جبريل عليه الصلاة والسلام.

جبريل سيد الملائكة

جبريل سيد الملائكة ومن دلائل كون جبريل سيد الملائكة أنه ثبت في الحديث عند مسلم: (أن الله إذا أحب عبداً نادى جبريل: إني أحب فلاناً فأحبه، فيحبه جبريل، ثم ينادي جبريل في أهل السماء: إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يكتب له القبول في الأرض). فتقديم جبريل على غيره قرينة ظاهرة على أنه أعظم الملائكة قدراً، وأنه سيد الملائكة.

ذكر بعض خصائص الملائكة

ذكر بعض خصائص الملائكة والملائكة عليهم الصلاة والسلام لا يأكلون ولا يشربون، ولهذا لما أتوا أضيافاً على إبراهيم لم يستطيعوا أن يقربوا طعامه، قال تعالى: {فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ} [هود:70] أي: إلى الطعام {نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} [هود:70]. كما أن الملائكة لا يتناكحون ولا يتناسلون.

ذكر طواف الملائكة بالبيت المعمور

ذكر طواف الملائكة بالبيت المعمور وهناك بيت معمور في السماء السابعة، يقال: إنه لو سقط لسقط على الكعبة؛ لأنه محاذٍ للكعبة، وهذا البيت يطوف حوله كل يوم سبعون ألف ملك. ومن هنا تعلم -يا أخي- أن الله جل وعلا غني عن عبادة خلقه، وأنه تبارك وتعالى استغنى بحمده، ولهذا أخبر جل وعلا أن الملائكة يعبدونه ويسبحونه، وقد قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: (أي الذكر أعظم؟ قال: ما اصطفى الله لملائكته سبحان الله وبحمده). فسبحان الله وبحمده كما أمرنا ربنا وأمرنا رسولنا، وكما كانت الملائكة تصنع بين يدي ربها. ونسأل الله لنا ولكم التوفيق، وهذا ما تيسر إيراده وتحرر إعداده حول عالم الملائكة الأبرار. وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.

[عيسى عليه السلام]

سلسلة لطائف المعارف [عيسى عليه السلام] يظهر القرآن الكريم في آياته الكريمات الحكمة في دعوة غير المسلمين، ومن جملة ذلك ذكر مسائل الاتفاق مع المدعو إن وجدت والازدلاف منها إلى مسائل الخلاف، ويظهر هذا في أنموذج دعوة النصارى، حيث ذكر تعالى لهم ما يتفقون والمسلمين فيه في شأن عيسى عليه السلام. ثم ذكر تعالى ما خالف فيه النصارى في عيسى، مبيناً تعالى في ذلك الحق المبين آمر رسوله بدعوتهم إلى المباهلة إن أصروا على ضلالهم فيه.

الحكمة في دعوة غير المسلمين

الحكمة في دعوة غير المسلمين بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: فقد قدم وفد من نصارى نجران إلى النبي صلى الله عليه وسلم في مسجده في المدينة، والنبي صلى الله عليه وسلم خير داع وخير هاد بأمر الله، يحمل في طيات قلبه السكينة والرحمة والعقل صلوات الله وسلامه عليه، فجاء النصارى وأناخوا مطاياهم في المدينة، وصلوا في مسجده صلاتهم ولم ينكر عليهم، وتوجهوا شرقاً، وكل ذلك تركهم عليه ليصل وإياهم إلى طريق بين، ثم أتوه يجادلونه في أن عيسى ابن الله، فكانوا يزعمون أن عيسى ابن الله، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إنما عيسى عبد الله ورسوله)، فنزل القرآن يعلمنا كيف ندعوا إلى ربنا، ونزل القرآن بالأمور المتفق عليها بيننا وبين النصارى، فقال الله: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [آل عمران:33 - 35]، فالآيات تتابع تثني على مريم وعلى آل عمران، والنصارى يعظمون مريم ويعظمون آل عمران. فبدأ القرآن بنقاط الاتفاق، ثم وصل إلى قضية الخلاف، وهي في عيسى ابن مريم عليه السلام.

تفسير قوله تعالى: (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم)

تفسير قوله تعالى: (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم) قال الله جل وعلا: {ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَليْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ * إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران:58 - 59]. كلمة (مثل) هنا ليس المقصود بها المثل المعروف الذي يضرب، فيقال: ضرب مثل، بل المقصود بكلمة (مثل) هنا الحال والصفة، والمعنى أن حالة عيسى وصفته عند الله كصفة آدم، فالنصارى تقول: إن عيسى ابن الله، بدلالة أنه ولد من غير أب، فجاء القرآن وقال: لو كانت المسألة بهذا المفهوم؛ لكان آدم أولى بالبنوة من عيسى؛ لأنه إن كان علة النبوة أن عيسى لا أب له؛ فإن آدم لا أب له ولا أم، فليست القضية بهذا المنطق، فالله جل وعلا ينزه عن الصاحبة والولد، وهو مقدس لم يلد ولم يولد، قال الله: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ} [آل عمران:59]، والمخلوق من تراب هو آدم، وقد مر بثلاث مراحل، فخلق أولاً من التراب، ثم مزج التراب بالماء فأصبح طيناً، ثم ترك الطين فأصبح فخاراً، وبكل ورد القرآن، قال الله: (من تراب) وقال الله: (من طين) وقال الله: (من صلصال كالفخار). يقول الله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [آل عمران:59 - 60]. قوله تعالى: (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) أي: يا محمد.

تفسير قوله تعالى: (فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم)

تفسير قوله تعالى: (فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم) ثم وصلت القضية إلى فصل الخطاب، فقال تعالى: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [آل عمران:61]. قوله تعالى: (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ) أي: في عيسى. (مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) أي: هذا القرآن. (فَقُلْ) أي: قل لهم. (تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ) وقد كان النبي عليه الصلاة والسلام على يقين من ربه، وعلى يقين من الحق الذي يدعو إليه، وفاطمة أحب بناته إليه، وعلي زوجها، فدعا صلى الله عليه وسلم فاطمة وعلياً والحسن والحسين، هؤلاء أربعة وهو الخامس عليه الصلاة والسلام، فواعد النصارى وأتى بأهل بيته، وقال لـ علي وفاطمة والحسن والحسين: (إذا أنا دعوت فأمنوا)، فقدموا وقدم وفد النصارى، وقد كانوا قرابة خمسة أو ستة، وكان عندهم شيء من العلم، فلما رأوا النبي صلى الله عليه وسلم والوجوه الطاهرة التي معه قال بعضهم لبعض: إن هذه الوجوه لو سألت الله أن يزيل الجبال لأزالها، فامتنعوا عن المباهلة. قال الله تعالى: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [آل عمران:61]، فخرجوا من عنده من المدينة، واتفقوا معه على صلح وعلى أن يبعثوا له كذا وكذا.

دلالة الآية الكريمة على فضيلة علي وفاطمة وابنيهما

دلالة الآية الكريمة على فضيلة علي وفاطمة وابنيهما وهذه الآية لها فوائد ودلائل، ومن أعظم ذلك فضيلة هؤلاء الأربعة، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جلل الحسن والحسين وفاطمة وعلياً بكساء وقال: (اللهم هؤلاء أهل بيتي، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا) فآل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم مقام عظيم، وأهل السنة -سلك الله بنا وبكم سبيلهم- لا يغلون فيهم ولا يجفون عنهم، وهذا هو المذهب الحق، ولكن ليس كل أهل السنة يصنعون هذا، فمن الناس من هو من أهل السنة حقاً، لكن فيه جفاء لأهل البيت، ومن الناس من يغلو فيهم، ودين الله بين الجافي عنه والغالي فيه. ولذلك يروى عن أحمد بن حنبل الإمام المعروف رابع الأئمة الأربعة ظهوراً أنه جلده المعتصم وآذاه، وكان المعتصم من ذرية العباس عم الرسول صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك كان يقول: عفا الله عني وعن المعتصم، وجعلت المعتصم في حل. فيقال له: لم تفعل ذلك يا أبا عبد الله؟! قال: إنني لأستحي من الله أن ألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم القيامة وبيني وبين أحد أبناء عمومته خصومة. ولا ريب في أن أبناء العمومة من آل بيت رسول الله، ولكنهم ليسوا في منزلة علي وفاطمة والحسن والحسين، فهؤلاء آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ثبت في المسند أن النبي صلى الله عليه وسلم (قام في الليل فسقى الحسن ثم سقى الحسين)، وهو رأس الملة وإمام الأمة صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك لا يستنكف ولا يستكبر عن أن يسقي هذين الصغيرين في الليل، فسقاهما فتنبهت أمهما فاطمة وكانت حجرة علي وفاطمة قريبة من حجرة عائشة، فقال صلى الله عليه وسلم لـ فاطمة: (إنك وهذين -وأشار إلى الحسن والحسين - وهذا الراقد -وأشار إلى علي - وأنا لفي مكان واحد -أو في مقام واحد- يوم القيامة) وهذا كله يدل على فضيلة آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم.

اختلاف أهل الملل الثلاث في عيسى ابن مريم

اختلاف أهل الملل الثلاث في عيسى ابن مريم ولم يختلف الناس منذ قديم الدهر في أحد كما اختلفوا في عيسى ابن مريم، فاليهود زعمت أنها قتلته، والنصارى تزعم أنه قتل وصلب وهو ابن الله، والمسلمون يقولون: إنه عبد الله ورسوله، قال الله جل وعلا عن اليهود: {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا * وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء:156 - 158]، فأخبر الله أن عيسى رفع.

ذكر أخبار نزول عيسى عليه السلام في آخر الزمان

ذكر أخبار نزول عيسى عليه السلام في آخر الزمان وقد أخبر نبينا صلى الله عليه وسلم بأن عيسى ينزل في آخر الزمان علماً وشرطاً من أشراط الساعة، وقد قال الله تعالى: {وَإِنَّهُ} [الزخرف:61] أي: عيسى {لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ} [الزخرف:61]، أي: علم من علامات قرب قيام الساعة، فينزل عليه الصلاة والسلام واضعاً يديه على أجنحة ملك، إذا طأطأ رأسه يظهر كأنه خرج من ديماس، أي: كأنه توضأ لتوه، وبيده حربه، وينزل والدجال يوم ذاك يحارب المسلمين، فإذا رآه الدجال ساح، وذاب، فيتبعه عيسى فيقتله، فلماذا يقتله وقد مات أصلاً؟ قال بعض أهل العلم: إذا قتله وعلق دم الدجال بحربة عيسى اطمأن الناس إلى أن الدجال الذي يدعي الإلهية قد قتل حقاً، وأن هذا دمه عالق بحربة عيسى عليه السلام. وينزل عيسى ابن مريم والمسلمون يومئذ يريدون أن يصلوا العصر، فيأبى أن يتقدم، ويتقدم إمامهم، قال صلى الله عليه وسلم: (إن منكم لمن يصلي عيسى بن مريم خلفه تكرمة من الله لهذه الأمة)، ومن الحكم التي ذكرها العلماء في قضية تقدم المهدي أو هذا الرجل الصالح على عيسى ابن مريم أن المهدي أو هذا الرجل الصالح في قلبه القرآن، وعيسى في قلبه الإنجيل، والقرآن مقدم على الإنجيل، وهذا عندي تعليل حسن، ولكنني لا أجزم به، فالعلم الفصل عند الله. وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن عيسى يمكث في الأرض يحكم فيها قرابة سبع سنين، حتى إذا قربت تلك السبع يخبره الله جل وعلا عن خروج أقوام ليس لك بهم يدان، وهم قبائل يأجوج ومأجوج، فيحرز عيسى المؤمنين الذين معه إلى جبل الطور في أرض سيناء، حتى يهلك يأجوج ومأجوج، ثم بعد ذلك ينزل عيسى ابن مريم، وظاهر الأمر أنه يستوطن المدينة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن عيسى ابن مريم سيمر على فج الروحاء، وفج الروحاء الآن موجود في طريق المدينة إلى جدة القديم، ويبعد قرابة سبعين كيلو متر عن المدينة، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام سيمر به حاجاً أو معتمراً، وهذا يؤكد أن عيسى يستوطن آخر الزمان في مدينة النبي صلى الله عليه وسلم. هذا ما تهيأ إيراده وأعان الله جل وعلا على قوله، وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.

[كذبت ثمود بالنذر]

سلسلة لطائف المعارف [كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُر] يخبر الله تعالى في كتابه الكريم عن أحوال الأمم السابقة المكذبة، ومن جملتها قوم صالح عليه السلام، وهو ثمود القبيلة العربية التي كانت تسكن شمال جزيرة العرب، فقد أتاهم نبيهم بالدلائل القاطعات، والبراهين الواضحات، والمعجزات الباهرات على صدق رسالته ليؤمنوا بالله تعالى، فكان جوابهم هو التكذيب، وعقروا الناقة فحل بهم عذاب الله الذي لا يرد عن القوم المجرمين.

تفسير قوله تعالى: (كذبت ثمود بالنذر)

تفسير قوله تعالى: (كذبت ثمود بالنذر) الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شعار ودثار ولواء أهل التقوى، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله بلغ عن الله رسالاته، ونصح له في برياته، فجزاه الله بأفضل ما جزى نبياً عن أمته، وبعد: فربنا تبارك وتعالى أرسل الرسل مبشرين ومنذرين؛ لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، وقد دل القرآن والسنة على أن أول الرسل نوح وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم، قال الله: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [النساء:163]. وأما الآية التي نحن بصدد التأمل فيها فهي قول الله جل وعلا: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ} [القمر:23]. وثمود قبيلة عربية كانت تسكن شمال جزيرة العرب، وأهل التاريخ يقسمون العرب إلى ثلاثة أقسام: عرب بائدة، وعرب عاربة، وعرب مستعربة، أما ثمود فهم ينضمون -حسب التصنيف التاريخي المتأخر- إلى العرب البائدة، والكلام عنهم هنا قبل أن يبيدوا. وقد بعث الله فيهم نبياً ورسولاً اسمه صالح، وقد كان صالح عليه السلام وجيهاً في قومه محبوباً لديهم، كما قال الله جل وعلا عنهم: {قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا} [هود:62]، أي: قبل أن تدعي النبوة. يقول ربنا تبارك وتعالى: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ} [القمر:23]، وثمود قبيلة، ولذلك أنث الفعل في قوله جل وعلا: (كَذَّبَتْ) ومعلوم أن ثمود لم يأتهم إلا نذير واحد هو صالح، ولكن التكذيب برسول تكذيب بالرسل كلهم، وهذا من سياقات القرآن وأساليبه المتكررة.

تفسير قوله تعالى: (فقالوا أبشرا منا واحدا نتبعه)

تفسير قوله تعالى: (فقالوا أبشراً منا واحداً نتبعه) قال تعالى: {فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ} [القمر:24]. قوله تعالى: (فَقَالُوا) أي: ثمود. وهذه النعرة -إن صح التعبير- التي وجدت في قوم ثمود كأنها أشبه بالموروث التاريخي في الأمم كلها، فإن كل الأمم من الذين حكى الله جل وعلا عنهم أنهم كذبوا أنبياءهم ورسلهم كانوا يعتمدون في تكذيبهم ويتكئون على مسألة أن من بعث إليهم بشر مثلهم، وهذا الأمر قاله القرشيون، وقاله الفراعنة، وقاله قوم ثمود، وقاله غيرهم من الأمم. قال تعالى عنهم: (أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إنا إذاً) أي: إن حصل منا هذا، فوقع منا الاتباع (لفي ضلال وسعر). والتنوين في قوله تعالى: (إِذًا) عوض عن جملة، أي: إنا إذا اتبعناه لفي ضلال وسعر.

تفسير قوله تعالى: (أؤلقي الذكر عليه من بيننا بل هو كذاب أشر)

تفسير قوله تعالى: (أؤلقي الذكر عليه من بيننا بل هو كذاب أشر) ثم إن الله تبارك وتعالى ذكر أنهم وصفوا نبيهم الكريم الذي أرسل إليهم وكانوا يعرفون خصاله وأخلاقه وقالوا فيه: {قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا} [هود:62]، وصفوه بقولهم: {بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ} [القمر:25] و (بَلْ) للإضراب وللانتقاص، و (كَذَّابٌ) صيغة مبالغة من (كذب)، والعرب تأتي بصيغة المبالغة لمن يكثر منه الفعل، فيأتون بصيغة معينة يفهم من خلال عرض كلامهم أن هذه الصيغة تحمل الكثرة والترداد، فهذا معنى قولهم: (بَلْ هُوَ كَذَّابٌ)، وهذا ظاهر ولا يحتاج إلى مزيد بيان. والذي يحتاج إلى مزيد بيان هو إخبار الله جل وعلا عن هؤلاء الكفرة بأنهم وصفوا نبيهم بأنه كذاب أشر، فما الذي أفادته عبارة (أَشِرْ) في هذا السياق؟ إن الإنسان أحياناً يكذب بصرف النظر عن كونه له دليل أو ليس له دليل، ولكن الغالب فيمن يكذب أنه يكذب ليدفع عن نفسه الضرر، ومثال ذلك: رجل رأيته في مكان ذي حرمة، فعندما هتك تلك الحرمة ووصل إليها واجهته وسألته: لم أنت هنا؟ فاضطر إلى أن يذكر عذراً حتى يخرج من ذلك المأزق الذي أوقعته فيه، فيصبح كذبه هنا لسبب، وهو دفع الضرر عن نفسه، وإن كان هو قد وقع في الضرر بنفسه وسعى إليه بقدميه، فهذا يسمى كذاباً ولا زيادة عليها. ولكن إذا كان الإنسان لا يحتاج إلى الكذب، وإنما يريد بالكذب أن يرتقي ويزداد مقاماً ورفعة أو ليحصل على أشياء لا حاجة له إليها في الأصل، لا ليدفع ضرراً قائماً؛ فإنه يسمى (أَشِراً)، فهذا معنى قولهم: (كذاب أشر)، أي: أنهم قالوا: إنك -أيها المتنبئ الذي يزعم النبوة ويدعيها- مكرم بيننا ومرجو، ولك الجاه والحظ الأكبر بيننا، فلا حاجة لك إلى أن تكذب لتدعي النبوة. وهذا من منطلق زعمهم وظنهم الفاسد أن صالحاً عليه الصلاة والسلام أراد بذلك الكذب ليصل إلى مقام أرفع بينهم، فهذا معنى قول الله جل وعلا: {بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ} [القمر:25].

تفسير قوله تعالى: (سيعلمون غدا من الكذاب الأشر)

تفسير قوله تعالى: (سيعلمون غداً من الكذاب الأشر) قال ربنا تعالى: {سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنَ الْكَذَّابُ الأَشِرُ} [القمر:26]. قوله تعالى: (سَيَعْلَمُونَ) السين للمستقبل القريب. (غَدًا) كلمة (غداً) هنا لا تعني اليوم التالي للحديث، والعرب تقول في كلامها: إن من الكلام ما إذا عرف نكر، وإذا نكر عرف، ككلمة (أمس)، فإذا قال الرجل: (رأيت صاحبي أمس)، فهو يعني اليوم الذي قبل أن يتحدث فيه، فإذا حكى هذا الكلام يوم الخميس فإنه يقصد يوم الأربعاء، وإذا حكاه يوم الجمعة فإنه يقصد يوم الخميس، مع أن كلمة أمس هنا نكرة لم تعرف، وإذا عرفت أريد بها النكرة، كقوله تعالى: {كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ} [يونس:24]، أي: فيما مضى، ولا يُقصَد اليوم الذي قبل أن يحكي الله جل وعلا فيه الآية. فهنا يقول ربنا تباركت أسماؤه وجل ثناؤه: (سَيَعْلَمُونَ) أي: قوم ثمود (غَدًا) أي: في مستقبل أيامهم (من الكذاب الأشر). ومنه قول الله جل وعلا: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف:23 - 24].

تفسير قوله تعالى: (إنا مرسلوا الناقة فتنة لهم)

تفسير قوله تعالى: (إنا مرسلوا الناقة فتنة لهم) قال تعالى: {إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ} [القمر:27] والناقة ليست الآية فيها أنها ناقة، فالنياق في الأرض كثير، وقد كانت هناك نياق عديدة في قوم ثمود، ولكن الآية والمعجزة فيها أنها خرجت لهم من صخرة صماء، وهذا ينبغي أن يستصحبه المرء وهو يتدبر آيات الله التي أيد الله بها رسله، كما قال الله جل وعلا في قصة نبيه موسى عليه الصلاة والسلام مع فرعون: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ} [الأعراف:133]، فقول الله جل وعلا: (آيَاتٍ) هو الذي يعنينا هنا؛ لأن القمل والضفادع والجراد تكون في كل زمان وفي كل مكان، ولكن الآية فيها أنها خرجت عليهم على شيء غير مألوف، وعلى حال غير معهودة، ولهذا أصبحت آية. وكذلك الناقة هنا، قال الله جل وعلا: (إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ) وقال في الإسراء: {وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً} [الإسراء:59]، و (مبصرة) صفة لموصوف محذوف، أي: وآتينا ثمود الناقة آية مبصرة. فقوله تعالى: (إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ) أي: اختباراً وابتلاءً.

تفسير قوله تعالى: (ونبئهم أن الماء قسمة بينهم)

تفسير قوله تعالى: (ونبئهم أن الماء قسمة بينهم) قال تعالى: {وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ} [القمر:28]. قوله تعالى: (وَنَبِّئْهُمْ) أي: نبئ قومك. (أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ) بين الناقة من وجه، وبين قومك من وجه آخر، بمعنى أن أهل القرية كلهم يشربون في يوم، واليوم الآخر تكون البئر كلها من نصيب الناقة، وكون الناقة تشرب ما تشربه القبيلة كلها في يوم من قرائن وبراهين أنها ناقة معجزة، وأنها آية أُيِّد بها رسولهم، ولكنهم لم يكونوا يلتفتون إلى هذا المعنى؛ لأن الله جعل قلوبهم غلفاً، نعوذ بالله من ذلك.

ذكر ما صنعه قوم صالح بالناقة وذكر هلاكهم

ذكر ما صنعه قوم صالح بالناقة وذكر هلاكهم وقبل ذكر ما صنعوه نقول: إن الناس قد يحاولون أن يتبنوا نظرية، ثم إذا اقتنعوا بها في أول الأمر حملوها أحدهم، فيختلف الناس هنا على ضربين، فمن الناس من ينظر في ذلك الأمر الذي يحمله، فإذا رآه عظيماً جليلاً وراء ما وراءه من العزة والرفعة في الدنيا والآخرة تقلده، وهو الذي يجب أن تنصرف إليه الهمم، قال الشاعر: إذا غامرت في شرف مروم فلا تقنع بما دون النجوم فطعم الموت في أمر حقير كطعم الموت في أمر عظيم وهناك أناس غلبت عليهم الشقوة، فيتقلدون أي أمر؛ لأنهم يسارعون إلى الظهور في أي حال، ولهذا حذر الله تعالى أولياءه بقوله: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا} [القصص:83]. فهؤلاء القوم -قوم ثمود- تبنوا مسألة عقر الناقة، ولكنهم لم يستطيعوا أن يحملوا ذلك الهم ويقوموا به، فما زالوا يتدافعونه حتى انحصر في تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون، ثم انحسر في هؤلاء التسعة حتى أصبح في شخص، ولكن التسعة وباقي القبيلة من غير المؤمنين كلهم كانوا بقلوبهم وجوارحهم مع ذلك المعروف بـ أحيمر ثمود عاقر الناقة، قال الله جل وعلا: {فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ} [القمر:29]، أي: عقر الناقة، فحق عليهم العذاب، قال الله تبارك وتعالى: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا * إِذْ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا * فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا * فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا} [الشمس:11 - 14] أي: كذبوه فيما قال. وفي سورة القمر التي بين أيدينا نسب الله ذلك إلى واحد منهم، وفي سورة الشمس نسبه الله إلى الجماعة، فنسبته إلى الفرد -وهو قدار بن سالف أحيمر ثمود عاقر الناقة- باعتبار أنه باشر عقر الناقة، أما نسبته إلى الكافرين من القبيلة فباعتبار أنهم كانوا راضين تمام الرضى، وقلدو صاحبهم ذلك، فقال الله جل وعلا: {فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا * وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا} [الشمس:14 - 15]، أي أن الله جل وعلا أهلكهم وجعل ديارهم حصيداً كأن لم تغن بالأمس، جزاء لهم على أنهم كذبوا ذلك الرسول الذي بعث إليهم، وتلك سنة الله جل وعلا في سائر من كذب رسله، إلا فيمن كذب نبينا صلى الله عليه وسلم، لأن الله قد علم أزلاً أن هذا النبي هو خاتم الأنبياء، وأن أمته آخر الأمم، ولم يكن الله قد أذن بهلاك العالم آنذاك، ولذلك لم تبسل أمة محمد صلى الله عليه وسلم بآية ظاهرة حتى لا تهلك، وهذا أمر بينه الله جل وعلا في سورة الإسراء، وهو محرر في دروس خلت. والذي يعنينا أن هذا ما ذكره الله جل وعلا في سورة القمر عن خبر عبده ونبيه صالح عليه الصلاة والسلام.

ذكر أشقى الأولين وأشقى الآخرين

ذكر أشقى الأولين وأشقى الآخرين وبقي هنا شيء هو ارتباط بين حدث وحدث سبقنا إليه ودلنا وأرشدنا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن النبي عليه الصلاة والسلام قال في حق أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وأرضاه: (أشقى الأولين أحيمر ثمود عاقر الناقة، وأشقى الآخرين -وأشار إلى رقبة علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه- من يفصل هذه عن هذا) أي: من يكون على يديه قتلك يا علي، وقد قتل على يد عبد الرحمن بن ملجم المرادي في خبر مشهور مستفيض معروف، قتله وهو غاد إلى صلاة الفجر. والعجب أنه كان لأمير المؤمنين ابنة اسمها أم كلثوم، وقد تزوجها عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، وكانت تقول: ما لي ولصلاة الفجر. وذلك لأن زوجها عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وأرضاه قتل في صلاة الفجر، وأبوها علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وأرضاه قتل وهو غاد إلى صلاة الفجر، وهذا من باب اللطائف المتعلقة بخبر النبي صلى الله عليه وسلم: (أشقى الأولين أحيمر ثمود، وأشقى الآخرين من يفصل هذه عن هذا) وأشار إلى علي رضي الله تعالى عنه وأرضاه. هذا ما تحرر إيراده، وأعان الله على قوله، وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.

[ويسألونك عن الجبال]

سلسلة لطائف المعارف [ويسألونك عن الجبال] لقد خلق الله جل وعلا الجبال في غاية العظمة والدقة، وجعلها رواسي للأرض أن تميد ببني آدم. وقد ذكر المولى سبحانه في كتابه كيف ينهي هذه الجبال الرواسي بقدرته وقوته، فكيف الحال بالإنسان الضعيف، وفوق هذا يتكبر ويتعالى على أوامر ربه سبحانه، وهذه الجبال لو أنزل عليها شيء من آيات الكتاب لتصدعت فرقاً ووجلاً من مولاها، والإنسان قد وقع له ذلك وهو ساهٍ لاهٍ.

سبب ذكر الله للجبال في كتابه

سبب ذكر الله للجبال في كتابه بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي أحسن كل شيء خلقه، وأحكم كل شيء صنعه، وأشهد أن لا إله إلا الله لا رب غيره ولا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره، واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فسنتكلم -بعون الله- هذا اليوم عن قول الله جل وعلا: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ} [طه:105]. فبادئ ذي بدء نقول: استقر في أذهان العقلاء أن الجبال ترمز إلى الأشياء العظيمة الثابتة، التي يصعب تغييرها، فلهذا قلما أراد أحد أن يتحدث عن مجد أو أن يذكر أمراً سامقاً شامخاً يفخر به إلا وشبهه قريباً من الجبال، ومنه قول حسان رضي الله تعالى عنه وأرضاه -وهو في جاهليته، يتكلم عن مجد قومه الخزرج-: (شماريخ رضوى عزة وتكرماً) ورضوى: جبل يقع إلى الشمال الغربي من المدينة، فالجبال استقر في الأذهان -كما بينا- أنها رمز للأمر المصحوب بالأنفة، ومنه أيضاً قول الفرزدق يخاطب جريراً: فادفع بكفك إن أردت بناءنا ثهلان ذا الهضبات هل يتحلحل فثهلان جبل، وقصد الفرزدق بهذا أن يبين أن المجد الذي بناه قومه لا يمكن أن يزحزح فشبهه بذلك الجبل. يقول الله جل وعلا في هذه الآية المباركة من سورة طه: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ} [طه:105]، لما استقر في الأذهان -كما قلت- أن الجبال رمز عظيم، كان بدهياً أن أولئك المنكرين للبعث الناسين للنشور الذين يرتابون في قيام الساعة يتساءلون عن أمور كثيرة حولهم، فانصرفت أذهانهم وأبصارهم إلى هذه الجبال التي يشاهدونها قائمة، ففزعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم -من باب المكابرة- يسألونه عنها، فحكى الله جل وعلا ذلك السؤال بقوله: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ} [طه:105] فكان الجواب القرآني والرد الإلهي: {فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا} [طه:105]، فما استقر في أذهانكم من ذلك العلو، فإنه سيصبح هباء منثوراً. لكن ذلك النسف إنما هو مرحلة، وإلا فذكر الله جل وعلا مراحل أخر تسبق نسف الجبال، فمنها: ما في قوله تبارك وتعالى: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل:88]، وقوله جل وعلا: {يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ} [المعارج:8 - 9]، فهذه مرحلة أخرى حتى تصل إلى مرحلة الاندكاك الكلي.

ما صرح القرآن باسمه من الجبال

ما صرح القرآن باسمه من الجبال وهذه الجبال جاء ذكر بعض منها في القرآن، أي: أن هناك جبالاً صرح الله باسمها في القرآن، ومن أشهرها جبلان: جبل الطور، وجبل الجودي. أما جبل الطور: فإنه يقع في أرض مباركة، هي شبه جزيرة سيناء، وفي شبه جزيرة سيناء واد يقال له: وادي طوى، نعته الله بأنه واد مقدس، وفي ذلك الوادي الذي هو قطعة من شبه جزيرة سيناء يقع جبل يقال له: الطور. والطور في اللغة: كل جبل نبت فيه الشجر، لكن الطور إذا أطلق ينصرف إلى ذلك الجبل المبارك، الذي كلم الله جل وعلا عنده نبيه موسى عليه الصلاة والسلام، ومعلوم أن موسى أحد أعظم أنبياء بني إسرائيل، وقد سمى الله جل وعلا سورة مكية في القرآن باسم ذلك الجبل، قال الله جل وعلا: {وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ} [الطور:1 - 2]، وينصرف الألف واللام في قول الله جل وعلا: {وَالطُّورِ} [الطور:1] إلى المعهود الذهني، وهو ذلك الجبل الذي كلم الله جل وعلا عنده موسى عليه الصلاة والسلام. الجبل الآخر المذكور في القرآن: جبل الجودي، وهو قطعاً الذي رست عنده السفينة التي كانت تحمل نبي الله نوحاً عليه الصلاة والسلام. لكن الخلاف في تحديده، فقد قال الله جل وعلا: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَاسَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} [هود:44]، فما الذي استوت على الجودي؟ السفينة، لكن أين الجودي؟ يقول بعض العلماء: إنه في تركيا، ويقول بعض العلماء: إنه في العراق، وأكثر أهل الصناعة التفسيرية يقولون: إنه في العراق. لكن أصحاب الصناعة التاريخية الذين في زماننا، لديهم بعض النظر الذي نجم عن المعرفة الجغرافية، فقد وقعت هناك آثار، وقع الناس عليها وهي آثار لتلك السفينة، ولذلك يذهبون إلى أن جبل الجودي في تركيا؛ لمكان المعرفة بهذه الآثار. بعض أهل الصناعة اللغوية تغيب عنهم أمور لا ينبغي أن تغيب على أمثالهم، لكن الله جل وعلا ينبئنا ضعفنا. الصهاينة مثلاً وكذا بعض أهل التفسير يقولون: إن الجودي كلمة عربية مأخوذة من الجود وهو العطاء وكثرة النوم؛ لأنه معلوم أن نوحاً عليه الصلاة والسلام لم يكن في زمنه أحد يتكلم العربية، والله جل وعلا يخبر عن أن السفينة استقرت ورست في زمن نوح، ولم يكن يعرب -الذي تكلم العربية والذي ينسب إليه العرب- قد ولد بعد، فإن الله جل وعلا قال في حق نوح: {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ} [الصافات:77]، فما يعرب إلا من ذرية نوح عليه الصلاة والسلام، أو فلنقل: من ذرية الناجين من قوم نوح، فعلى هذا لا سبيل إلى القول: إن الجودي سمي بالجودي نسبة عربية، وإنما هي كلمة أعجمية غير عربية، لكن كيف غاب هذا عن الأكابر؟ هذا لا يجعلنا نشتم من جهلوا هذا، فليس هذا صنيع أهل الفضل، وإنما نعرف من ذلك ضعف العقول البشرية، ونحن وإن كنا نستدرك اليوم على غيرنا، سيأتي بعدنا من يستدرك علينا، فنحن لم نوف النقص حتى نطالب بالكمال للآخرين. وهذه سنة الله جل وعلا في خلقه، أي: أن يعلم الإنسان ضعفه وعجزه، وكيف يغيب عنك ما يراه غيرك واضحاً جلياً؟ فنقول: إن الطور والجودي جبلان ذكرهما الله جل وعلا نصاً في كتابه.

ما ذكر في السنة من الجبال

ما ذكر في السنة من الجبال ثم هناك جبال لم تذكر في القرآن وإنما ذكرت في السنة، ومنها جبل أحد، وهذا الجبل يقع في شمال المدينة، وقيل: إنه سمي أحد لتفرده عن الجبال، وقد ارتقى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك الجبل ومعه أبو بكر وعمر وعثمان، فرجف الجبل فرحاً به، فقال صلى الله عليه وسلم: (اثبت أحد، فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان)، وهذا من الغيب الذي أطلع الله جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم عليه، فقد مات عمر وعثمان كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم شهيدين. فأحد جبل ذكر في السنة ولم يذكر في القرآن. كذلك قال صلى الله عليه وسلم: (المدينة حرم من عير إلى ثور)، فحدد صلى الله عليه وسلم حرم المدينة شمالاً وجنوباً بجبلين، هما جبل عير وجبل ثور. أما جبل عير: فسمي بهذا الاسم؛ لاستواء قمته، فأشبه ظهر الحمار، وأما جبل ثور: فاختلف الناس فيه، وبعضهم بمجرد أنه لم يعلم به نفاه، وقال: إنه لا يعرف إلا في مكة، وهذا بعيد عن الصواب، فالنبي صلى الله عليه وسلم هنا لا يحدد مكة، وإنما يضع حدود ومعالم حرم المدينة، فحدودها الشرقية والغربية مقطوع بها؛ لوجود الحرتين، وقد ورد في الحديث: (ما بين لابتيها)، فبقي الشمال والجنوب، فحدده صلى الله عليه وسلم بعير وثور، فعير في الجنوب ولا خلاف في تحديده، لكن الخلاف في تحديد ثور إلى يومنا هذا، فبعض العلماء يرى أنه ما يسمى الآن في المدينة بجبل الخزان، وسمي بذلك لأنه قد بني عليه خزان، وآخرون يقولون: إنه من جهة أحد من الشمال، وآخرون يقولون: إنه في طريق ما يسمى بطريق الخليل اليوم، وهو على يمين الذاهب إلى سد الغابة، وأكثر من أدركت من المعاصرين -رحمهم الله- ممن لهم دربه وصناعة جغرافية أكثر من غيرهم -وقد أدركوا أقواماً يظن بهم معرفة هذا الجبل- يذهبون إلى أنه الجبل الواقع على يمين الذاهب اليوم إلى سد الغابة بطريق الخليل. الذي يعنينا: أن جبل أحد ورد ذكره في السنة، كذلك جبل ثور وجبل عير. وأما رضوى فهو جبل يقع في شمال غربي المدينة، وقد مر معنا أن حسان قال: (شماريخ رضوى عزة وتكرماً) وسيمر عليك في باب العقائد جبل رضوى، وذلك أن فرقة من الفرق الباطنية -يقال لهم: الكيسانية- يذهبون إلى أن المهدي المنتظر -عندهم- وهو محمد ابن الحنفية أي: ابن علي رضي الله تعالى عنه من زوجته، التي هي من بني حنيفة، أنه في ذلك الجبل. ويقول قائلهم وهو كثير: ألا إن الأئمة من قريش حماة الدين أربعة سواء علي والثلاثة من بنيه هم الأسباط ليس بهم خفاء فسبط سبط إيمان وبر وسبط غيبته كربلاء ثم قال: وسبط لا يذوق الموت حتى يقود الخيل يقدمها اللواء تغيب لا يرى فيهم زماناً برضوى عنده عسل وماء موضع الشاهد من هذه الأبيات قوله: برضوى، أي: أنه يزعم أن هذا المهدي المنتظر موجود الآن في جبل رضوى، شمال غرب المدينة، وأنه لديه عسل وماء يقتات بهما، حتى يأذن الله جل وعلا بخروجه، وهذا ما تمجه عقول الصبيان فضلاً عن عقول أهل الفضل والحكمة والرأي والإنصاف. وهكذا أكثر من ينتمي إلى مذاهب الباطنية يحتاج -عياذاً بالله- إلى أن يتخلى عن عقله وإدراكه، حتى يؤمن بمثل هذه الأمور، التي لم يأت بها نقل ولا يقبلها عقل. كذلك هناك جبلا طيء، الوردان في السنة، وهما أجا وسلمى؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه عروة بن مضرس -وهو من سكان حائل اليوم- ولم يكن قد سكن المدينة بعد، فكان يغيب عنه العلم؛ لأن السنة مهدها المدينة في الأصل، (فلما لقي النبي صلى الله عليه وسلم في المزدلفة قال: يا نبي الله! إنني قد أتيتك من جبلي طيء -وهذا موضع شاهدنا- أكللت وأجهدت نفسي، وأكللت راحلتي، ولم أترك جبلاً إلا وقفت عليه، فقال صلى الله عليه وسلم: من أدرك معنا صلاتنا هذه -يقصد صلاة الفجر في مزدلفة- وكان قد وقف بعرفة ساعة من ليل أو نهار، فقد تم حجه وقضى تفثه)، الذي يعنينا هنا: أن النبي صلى الله عليه وسلم أنبأ عروة بن مضرس بأهم أركان الحج وهو الوقوف بعرفة. أما هو فقد قال: أتيتك من جبلي طيء، ونحن نتكلم عن الجبال المذكورة في القرآن، والمذكورة في السنة، فجبلا طيء جاء ذكرهما عرضاً لا على لسان نبينا صلى الله عليه وسلم، وإنما جاء على لسان عروة بن مضرس رضي الله تعالى عنه وأرضاه. هذه بعض الجبال الوارد ذكرها في الكتاب أو السنة، وقد قلت في أول اللقاء إن الجبال تلفت النظر إلى كل مبصر، ولهذا سأل القرشيون النبي صلى الله عليه وسلم عن حالها يوم القيامة. وبقي أن نقول أنه ورد في الحديث: أن الله لما خلق الأرض جعلت تميد، فخلق جل وعلا فيها الجبال، فتعجبت الملائكة منها فقالت: أي رب! هل في خلقك خلق أعظم من الجبال؟ فقال الله جل وعلا: نعم، الحديد، فسألت الملائكة عن الحديد، فأجاب الرب: النار، ثم قال جل وعلا: الماء؛ لأنه يطفئ النار، ثم ذكر الله جل وعلا الريح؛ لأنها تحمل الماء وتحمل السحاب، ثم قال الله جل وعلا في جوابه لملائكته: ابن آدم، يتصدق بصدقة فيخفيها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه. وهذا يبين لك أن العمل الصالح إذا كان مصحوباً بالإخلاص لا يعدله شيء. وفقني الله وإياك للإيمان والعمل الصالح، وهذا ما تيسير إيراده وتهيأ إعداده، وأعان الله على قوله، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه. والحمد لله رب العالمين.

[ويسألونك عن الروح]

سلسلة لطائف المعارف [ويسألونك عن الروح] لله سبحانه وتعالى في خلقه أسرار، لا يستطيع المخلوق بعقله القاصر معرفة كثير منها، ومن أعظمها الروح، فقد اختلف الناس في كنهها اختلافاً كبيراً، وقد حسم الله سبحانه وتعالى الأمر فيها، بأن رد علمها إليه سبحانه. والوقوف في المغيبات على النصوص الشرعية سلامة وأمان؛ لأن طائفة من الناس رامت معرفة كنه بعض المغيبات بإعمال العقول، فضلت في وديان من الانحراف لا آخر لها، ولو حصرت إعمال العقل في إطاره، وآمنت بالنقل فيما وراء ذلك لاهتدت.

سبب نزول قوله تعالى: (ويسألونك عن الروح)

سبب نزول قوله تعالى: (ويسألونك عن الروح) بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شعار ودثار ولواء أهل التقوى، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره، واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فيا أيها الإخوة المؤمنون والأخوات المؤمنات! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. هذا لقاء متجدد مع برنامج لطائف المعارف، وقد تبين مما سلف أن كل حلقة تحمل عنواناً نأخذ من خلاله بنظرة موسوعية ما يمكن أن نلتقطه من هنا وهناك، من وقفات إيمانية أو تاريخية أو معرفية أو غير ذلك مما يتسنى ويفتح الله في الحديث عنه. لقاؤنا اليوم يحمل عنوان قول الله جل وعلا: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ} [الإسراء:85]، هذه الآية ذكر أهل العلم من المفسرين أن سبب نزولها هو ما حكاه عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه وأرضاه بقوله: (مر صلوات الله وسلامه عليه على نفر من يهود فقال بعضهم لبعض: سلوه عن الروح. فقال بعضهم: لا تسألوه -فأجمعوا أمرهم أن يسألوه- فقالوا: يا أبا القاسم)، وهم لا ينادونه بلفظ النبوة؛ لأنهم -أبعدهم الله- لا يقرون بنبوته، فقالوا: (ما الروح؟ فاتكأ صلى الله عليه وسلم على عسيب نخل، قال ابن مسعود: فعلمت أنه يوحى إليه ثم تلا: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:85]). ومعنى قول الله جل وعلا: {مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء:85]، أي: من العلم الذي اختص الله جل وعلا به نفسه، فلم يكل هذا العلم أو الأمر لأحد لا لملك مقرب ولا لنبي مرسل، هذا معنى قول الله تعالى: {مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء:85]. فإن سألت ما معنى الروح؟ ف A الروح مخلوق من مخلوقات الله، أودعها الله جل وعلا الجسد، فالبروح والجسد تدب الحياة.

أطوار الروح مع الجسد

أطوار الروح مع الجسد ثبت علمياً وشرعياً أي: نقلاً وعقلاً واستقراء أن الروح لها أطوار مع الجسد كالتالي: الطور الأول: أن الأرواح خلقت قبل الأجساد، فأبونا آدم -عليه السلام- خلق جسداً قبل أن يخلق روحاً، فقد خلق آدم عبر مراحل ثلاث بيناها في لقاءات سبقت، وهي الترابية والطينية والفخارية، ثم نفخ الله جل وعلا فيه من روحه، وإضافة الروح هنا إلى رب العزة والجلال إنما هي إضافة تشريف. أما بني آدم فقد كان خلق أرواحهم مقدماً على خلق أجسادهم؛ ولهذا مسح الله جل وعلا على ظهر أبينا آدم وأخرج من ظهره كل نسمة كائنة إلى يوم القيامة، قال الله جل وعلا: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} [الأعراف:172 - 173]، فهذا عالم الذر، أو عالم الأرواح الأول، والذي جاء فيه الحديث الذي عند الترمذي وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله لما مسح على ظهر آدم أخرج من ظهره كل نسمة كائنة إلى يوم القيامة، فرأى في عيني أحدهم وبيصاً من نور قال: يا رب! من هذا؟ فقال الله جل وعلا له: هذا رجل من ذريتك يكون في آخر الزمان، يقال له: داود)، إلى آخر الحديث. الذي يعنينا أن هذا هو الطور الأول في خلق الأرواح. الطور الثاني: خلق الله جل وعلا أجساداً من نطفة من ماء مهين، وكذلك كتب الله جل وعلا أن يخلق بنو آدم، ثم يكون ذلك الملك الذي يوكل إليه نفخ الروح في الجسد، فإذا التأم الروح مع الجسد دبت الحياة، فتشعر الأم وهي حامل بأن الحياة تدب في جنينها الذي في بطنها، وأنه يتحرك، وهذا لا يكون إلا بعد أربعة أشهر من الحمل، كما ثبت بذلك الحديث الصحيح، وهو أيضاً ثابت طبياً، وسواء ثبت طبياً أم لم يثبت، فقد أخبر بذلك المعصوم صلوات الله وسلامه عليه. وتأمل -أيها المبارك- عناية الله جل وعلا بالروح، فالروح ينفخها في الأجساد ملك، وكذلك يأتي ملك إذا كتب الله الموت فينزع الروح. المقصود: أن هذا طور من أطوار علاقة الروح بالجسد، والمرء يوم ذاك جنين في بطن أمه. الطور الثالث: إذا كتب الله لذلك الجنين أن يبقى ويحيا، فيخرج بعد فترة حمل، وغالبها تسعة أشهر، فإذا خرج نجم من ذلك التواصل والتوافق بين الروح والجسد طوراً ثالثاً، خلاف الطور الذي كان وهو جنين في بطن أمه. وفي هذا الطور لا يعقل المولود ولا يدري شيئاً، ويمضي معه الطور حتى يصل إلى مرحلة البلوغ، فإذا وصل مرحلة البلوغ ذكراً كان أو أنثى جرى عليه قلم التكليف. والروح إذا دبت في الجسد وهي داخله فالأفضل أن يطلق عليها نفس، قال ربنا جل وعلا: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس:7 - 8]، وقد أخبر الله جل وعلا أن هذه النفس تطالب يوم القيامة بإظهار الحجج، وتجادل عن نفسها كما قال الله: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا} [النحل:111]، فأخبر الله جل وعلا أن النفوس تجادل عن نفسها يوم القيامة. إذاً: فما دام الإنسان حياً والروح متصلة بالجسد فتسمى نفساً، فإذا فارقت الجسد وفارقت النفس الحياة، فلا تسمى حينئذٍ نفساً، أي: عند فراق الروح الجسد لا تسمى الروح نفساً، وإنما تسمى روحاً، ومن الأدلة على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم (لما توفي عثمان بن مظعون رضي الله تعالى عنه وأرضاه -وهو أول من دفن من المهاجرين في البقيع- أغمض النبي صلى الله عليه وسلم عيني عثمان وقال: إن الروح إذا صعد تبعه البصر)، فسماها روحاً؛ لأنها خرجت من الجسد. الطور الرابع: ما بعد الموت، وما الموت؟ الموت: أن تفارق الروح الجسد، فإذا فارقت الجسد انطلقت أو ذهبت إلى طور آخر غير الطور الذي كانت في اتصال بالبدن، فيكون هناك طور آخر، وهو المعروف بحياة البرزخ، قال الله تبارك وتعالى عنه: {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:100]، والبرزخ دائماً -أيها المبارك- يكون فاصلاً بين شيئين، قال الله جل وعلا: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ} [الرحمن:19 - 20]، أي: فاصل بينهما. أتسمعون عن وادي محسر؟ هو واد ما بين مزدلفة ومنى، وهو برزخ ما بين منى ومزدلفة، أي: فاصل بينهما. المقصود من هذا: أن حياة البرزخ تكون علاقة الروح بالجسد علاقة شبه كلية، لكننا لا نعرف كنهها؛ لأننا لم نصل إليها، والأموات الذين سبقونا إلى ربنا فوصلوا إليها لم يعودوا حتى يخبرونا، وما بين أيدينا من النقل الصحيح هو المعتمد الوحيد في هذا الباب، كقول الله جل وعلا: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} [ق:19 - 21] إلى أن قال ربنا: {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق:22]، فأهل القبور يعيشون حياة حق، ويطلعون على أمور حق، أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن بعضها، كإخباره صلى الله عليه وسلم عمن يكذبون، وعمن تتثاقل رءوسهم عن الصلاة، وعمن يأكلون الربا، وغيرهم ممن ذكرهم النبي صلى الله عليه وسلم، إما رآهم في رؤيا أو مر عليهم في رحلة الإسراء والمعراج. والمقصود من هذا كله: أن هناك طوراً من أطوار حياة الروح يتعلق بفترة البرزخ.

حالة اتصال الروح بالجسد بعد الموت

حالة اتصال الروح بالجسد بعد الموت ثم بعد ذلك يأمر الله ملكاً -يقال له إسرافيل- أن ينفخ النفخة الأخرى -أي: الثانية- فتعود الأرواح وتخرج من مستقرها، وأين مستقرها؟ أرواح المؤمنين إجمالاً في عليين، قال ربنا: {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ} [المطففين:18 - 21]، وأخبر قبلها أن كتاب الفجار في سجين، فأرواح الكفار في سجين وأرواح المؤمنين في عليين، فتخرج الأرواح كافرة ومؤمنة من مستقرها ثم تعود إلى الأجساد، فإذا اتصلت الروح بالجسد دبت فيه الحياة، فإذا دبت في الجسد الحياة مسح أهل القبور عن أعينهم الموت، كما يمسح أهل الدنيا اليوم عن أعينهم النوم، قال الله جل وعلا -وهو أصدق القائلين-: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ * إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} [يس:51 - 53]. الغاية من هذا: أن الناس يخرجون إلى أرض المحشر على أرض بيضاء نقية، لم يعص الله جل وعلا فيها طرفة عين، ثم يكون الحساب، يسر الله حسابي وحسابكم. فإذا انصرف أهل الموقف فريقين -كما قال الله جل وعلا: {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى:7]، وأدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار -عياذاً بالله منها- يؤتى بالموت على صورة كبش أملح، كبداية الخلود. فهذا هو الاتصال بين الروح والجسد، والناس في الدار الآخرة سواء أهل الجنة أو أهل النار إنما هم نتاج الاتصال الكامل للروح مع الجسد: (فيؤتى بالموت على صورة كبش أملح، ثم ينادى: يا أهل الجنة!) فيطلعون فزعين؛ لأنهم ذاقوا نعيمها فيخشون أن يقال لهم: اخرجوا منها، فإذا أبصروا ونظروا قيل لهم: (أتعرفون هذا؟ قالوا: نعم هذا الموت، ثم يقال: يا أهل النار!) فيطلعون فرحين لعلهم يخرجون منها فيقال لهم: (أتعرفون هذا؟ فيقولون: نعم هذا الموت، فينادي: أن يا أهل الجنة! خلود بلا موت، وأن يا أهل النار! خلود بلا موت)، فلو أن أحداً مات حسرة لمات أهل النار حسرة، ولو أن أحداً مات فرحاً لمات أهل الجنة فرحاً، قال الله جل وعلا في محكم تنزيله: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} [مريم:39 - 40].

تصوير حالة اتصال الروح بالبدن وانفصالها عنه

تصوير حالة اتصال الروح بالبدن وانفصالها عنه هذه الروح قد شغلت الناس قديماً وحديثاً في البحث عن كنهها، رغم أن الله جل وعلا قد قال من قبل: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء:85]. وابن سينا الطبيب المسلم الفيلسوف المعروف -وله بعض الشطحات لكن ليس هذا مجال الحكم عليه- ابن سينا يقول -وهو يتكلم عن الروح في نظرة فلسفية-: هبطت إليك من المحل الأرفع ورقاء ذات تعزز وتمنع وصلت على كره إليك وربما كرهت فراقك وهي ذات تفجع أي: أنها أتتك أولاً وأنت لم تخترها، فالأجساد لا تختار الأرواح، وإنما الأمر بقدر الله، وسيأتي عليها يوم تفارق الجسد، ومعلوم أن الروح لا تختص بجزء من البدن، فليست في الأظافر، ولا في القلب، ولا في القدمين، ولا في غيرهما، بل هي منتشرة في الجسد كله، كما حرره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله. فإذا أخرجت كأنها تخرج من الجسد كله، ولهذا قال ابن سينا: كرهت فراقك وهي ذات تفجع أي: تريد ألا تخرج، والله جل وعلا أبلغ من هذا كله في تصويره لقضية خروج الروح، قال الله جل وعلا في خواتيم سورة الواقعة: {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ} [الواقعة:83]، ما التي بلغت الحلقوم؟ الروح، {وَأَنْتُمْ} [الواقعة:84] من أنتم؟ من حول الميت، {حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ} [الواقعة:84]، أي: تنظرون إلى الميت، {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ} [الواقعة:85]، هذا قرب الله إلى الميت بملائكته، {وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ} [الواقعة:85]، أي: لا تبصرون الملائكة وهي تقبض روح الميت، يقول ربنا: {فَلَوْلا إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ} [الواقعة:86]، أي: تزعمون أنه لا جزاء ولا ثواب ولا عقاب، {فَلَوْلا إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ} [الواقعة:86]، أي: كما تقولون، {تَرْجِعُونَهَا} [الواقعة:87]، أي: ارجعوا الروح، فهذا أيسر لكم من نفي الحساب، {إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الواقعة:87]، ولم يأت بعد الآية تعقيب؛ لأنهم غير صادقين، ولا يمكن لهم أن يرجعوا الروح. هذا ما حرره ابن سينا وقد عقبنا بالآية؛ لنبين أن كلام الله جل وعلا هو الفيصل في كل أمر. أحمد شوقي -رحمه الله- اشتهر بالمعارضات، فعارض القصيدة العينية التي قالها ابن سينا، قائلاً: ضمي قناعك يا سعاد أو ارفعي هذي المحاسن ما خلقن لبرقع هذه المقصود منها التكلم عن الروح، ثم أغرق في نظرة فلسفية، لكنها تفيء إلى متكأ إسلامي أكثر مما كان يتكئ عليه ابن سينا في نظرته. الذي يعنينا أن الروح والجسد شغلا الناس، لكنهما متصلان مع بعضهما، وقد بينا الأطوار التي تمر بها حالة الروح مع حالة الجسد، وأخبر الله جل وعلا أن هناك ملائكة يقبضون الأرواح، ونبينا صلى الله عليه وسلم أخبر -كما مر معنا- أن ملكاً ينفخ الروح في الجسد، ويؤمر بأربع كلمات: بكتابة الرزق والأجل والعمل، وهل هو شقي أو سعيد، وهذا الملك هذه هي مهمته، والله يقول على لسان ملائكته: {وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ} [الصافات:164]، فكل ملك له صبغة ووظيفة معينة، فهناك ملائكة تقبض الأرواح، كما أن ملكاً أودعها ملك يقبضها، والله ذكره مفرداً فقال سبحانه: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} [السجدة:11] وذكره مع أعوانه، فقال جل وعلا: {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ} [الأنعام:61]. ختم الله لي ولكم بخير، ورزقني وإياكم الخاتمة الحسنة، والحياة الطيبة، وقبل ذلك العمر المديد المعمور بالعمل الصالح. وصلى الله على محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. والحمد لله رب العالمين.

§1/1