لب اللباب «مختصر شرح فصول الآداب»

عبد الله بن مانع الروقي

المقدمة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ المقدمة الحمد لله رب العالمين، قيوم السماوات والأرضين، مدبر الخلائق أجمعين، باعث الرسل إلى المكلفين؛ لهدايتهم وبيان شرائع الدين، بالدلائل القطعية وواضحات البراهين، أحمده على جزيل نعمه، وأسأله المزيد من فضله وكرمه، وأصلي وأسلم على البشير النذير والسراج المنير وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين. أما بعد؛ فإن المولى - عز وجل - شرع لنا دينًا قويمًا، وهدانا صراطًا مستقيمًا، أكمل لنا الدين، وأتم علينا النعمة كما قال -جلّ وعلا -: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا)

أرسل إلينا الرحمة المهداة - صلى الله عليه وسلم - فما من خير إلا دل الأمة عليه، وما من شر إلا حذر الأمة منه، ومن جملة ذلك ما جاء به من تكميل الآداب والحث عليها، قال عليه الصلاة والسلام: «إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق» (¬1)، وقد اعتنى علماء الملة بتأليف الكتب التي تُعنى في هذا الباب وأفردوا لها المؤلفات المطولة والمتوسطة والمختصرة، ومن هذه المؤلفات سِفرٌ مبارك، قليل العبارة، جزيل المعاني، جمع كثيرًا من مسائل الآداب، وقرن بعضها بالدلائل، ألا وهو كتاب "فصول الآداب" للإمام أبي الوفاء ابن عقيل الحنبلي المتوفى سنة 513هـ، إلا أن هذا الكتاب لم يُخدم الخدمة التي تليق بمكانته، مما دعا شيخنا صاحب الفضيلة الشيخ/ عبد الله بن مانع الروقي إلى القيام بشرحه. وقد تم ذلك في عدة مجالس جلّى فيها فضيلة الشيخ غامضه، وتبحر في دقائق مسائله، فقام بعض الإخوة بتفريغ الأشرطة المسموعة، وتخريج الأحاديث المذكورة ثم عُرض الكتاب بعد ذلك على فضيلة الشيخ فراجعه مشكورًا مأجورًا، فصحح ما كان فيه من خطأ، وزاد ما كان يحتاج إلى زيادة، حتى خرج لك الكتاب بهذه الحُلّةِ المباركة سائلين المولى - عز وجل- أن يبارك في جهود الشيخ، وأن ينفع به الإسلام والمسلمين. وكتب فهد بن الحميدي البراق ¬

(¬1) أخرجه أحمد 2/ 381 (8939)، و"البُخاري" في "الأدب المفرد" 273.

مقدمة المؤلف - رحمه الله -

(المتن) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِيْنَ، وصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمِّدٍ خَاتَمِ النَّبِيِّيْنَ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِيْنَ، وَسَلَّمَ تَسْلِيْمًا كَثِيْرًا إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ. هَذِهِ نُبْذَةٌ مِنْ فُصُوْلِ الآدَابِ، وَمَكَارِمِ الأَخْلَاقِ المَشْرُوْعَةِ. (الشرح) الأدب: اسم جامع لكل ما يحسن من الأقوال والأفعال، ومن اتصف به سُمي أديبًا. ثم قال: (ومكارم الأخلاق) المكارم: جمع مكرمة، وهي فعل الخير. والأخلاق: جمع خلق وهي - بضم اللام وسُكونها -: أي الدِّين، والطَّبْع، والسَّجِيَّة، وحقيقتُه أنه لِصُورة الإنسانِ الباطنة، وهي نفْسُها وأوْصافُها ومَعانِيها المُخْتصَّة بها، بمنزلة الخَلْق لِصُورته الظاهرة وأوْصافِها ومَعانيها، ولهما أوصاف حَسَنة وقَبيحة، والثَّواب والعِقاب ممَّا يَتَعَلَّقان بأوصاف الصُّورة الباطنة، أكثر مما يَتَعَلَّقان بأوصاف الصورة الظاهرة، فالمؤلف يشير إلى أنه ينبه في كتابه على هذه الآداب الكريمة. وقد روى الإمام أحمد من طريق عبد العزيز الدراوردي، عن ابن عجلان، عن القعقاع بن حكيم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: «إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق» (¬1). ¬

(¬1) أخرجه ابن أبي شيبة (رقم: 31773)، وأحمد (رقم: 8939)، وابن سعد (1/ 192)، وأخرجه الحاكم (رقم: 4221)، وقال: صحيح على شرط مسلم.

فصل السلام المبتدأ يكون من الماشي على القاعد

(المتن) فَصْلٌ السَّلَامُ المُبْتَدَأُ يَكُوْنُ مِنَ المَاشِي عَلَى القَاعِدِ، وَمِنَ الرَّاكِبِ عَلَى المَاشِي وَالجَالِسِ، وَالابْتِدَاءُ بِهِ سُنَّةٌ، وَإِذَا سَلَّمَ الوَاحِدُ مِنَ الجَمَاعَةِ المُشَاةِ أَوِ الرُّكَّابِ أَجْزَأَ عَنِ الجَمَاعَةِ، وَإِذَا رَدَّ وَاحِدٌ مِنَ الجُلُوسِ أَجْزَأَ عَنِ الجَمَاعَةِ. وَصِفَةُ السَّلَامِ: سَلَامٌ عَلَيْكُم، وَصِفَةُ الرَّدِّ: وَعَلَيْكُمُ السَّلَامُ. . وَالزِّيَادَةُ المَأْمُوْرُ بِهَا المُسْتَحَبَّةُ: وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ، وَلَا يُسْتَحَبُّ الزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ. . وَيُسْتَحَبُّ (وَرَحْمَةُ اللهِ)؛ لِيَتْرُكَ لِلْمُجِيْبِ الزِّيَادَةَ المَأْمُوْرَ بِهَا، وَهِيَ قَوْلُهُ: وَبَرَكَاتُهُ، بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رَدِّهَا. . وَإِذَا سَلَّمَ ثُمَّ حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ سَلَّمَ عَلَيْهِ شَجَرَةٌ أَوْ جِدَارٌ ثُمَّ اِلْتَقَوْا عَادَتْ سُنَّةُ السَّلَامِ، كَذَلِكَ كَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَرَضِيَ عَنْهُم. وَيُكْرَهُ السَّلَامُ عَلَى شَوَابِّ النِّسَاءِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ يَجْلُبُ جَوَابَهُنَّ، وَسمَاعَ أَصْوَاتِهِنَّ، وَعَسَاهُ يَجْلُبُ الفِتْنَةَ، وَكَمْ مِنْ صَوْتٍ جَرَّ هَوَىً وَعِشْقًا، وَلَا بَأْسَ بِالسَّلَامِ عَلَى العَجَائِزِ وَالبَارِزَاتِ؛ لِعَدَمِ الفِتْنَةِ بَأَصْوَاتِهِنَّ، وَلِأَنَّ البَرْزَةَ تَحْتَاجُ إِلَى السَّلَامِ عَلَيْهَا، وَرَدِّ سَلَامِهَا، وَلِلْحَاجَةِ تَأْثِيْرٌ بِذَلِكَ؛ لِجَوَازِ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِ المَرْأَةِ لِلشَّاهِدِ لِيَحْفَظَ الحِلْيَةَ فَيُقِيْمَ الشَّهَادَةَ، وَكَذَلِكَ الصَّائِغُ وَالمَغَازِلِيُّ، وَكُلُّ مَنْ تُعَامِلُهُ النِّسَاءُ مِنْ أَرْبَابِ التَّجَائِرِ وَالصَّنَائِعِ. وَلَا بَأْسَ بِالسَّلَامِ عَلَى الصِّبْيَانِ، تَعْلِيْمًا لَهُمْ لَلْأَدَبِ، وَتَحْبِيْبًا لِحُسْنِ الخُلُقِ، وَتَدْرِيْبًا عَلَى حُسْنِ المُعَاشَرِةِ. وَيَسْتَحَبُّ السَّلَامُ عِنْدَ الانْصِرَافِ، كَمَا يُسْتَحَبُّ عِنْدَ الدُّخُوْلِ، وَالدُّخُوْلُ أَشَدُّ اِسْتِحْبَاْبًا.

(الشرح) نأتي إلى حكم السلام في البداية وفضله، فقد جاء في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: «لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم» وجاء في الباب أخبار عدة. واختلف أهل العلم في حكم الابتداء بالسلام: فقال بعضهم: إنه واجب، وذهب أكثر أهل العلم إلى أن الابتداء إنما هو سنة مؤكدة، واتفقوا جميعهم على أن الرد فرض، والمؤلف هنا مشى على أن الابتداء بالسلام سنة، والقول بالوجوب قول قوي، ولكن عامة أهل العلم على أنه سنة مؤكدة. جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يسلم الصغير على الكبير، والمار على القاعد، والقليل على الكثير» (¬1). فالسنة جاءت بأن الصغير يسلم على الكبير، وأن الماشي على الجالس، وأن القليل على الكثير، وأن الراكب يسلم على الماشي، ومعناه أنه مؤكد في حق الصغير، ومؤكد في حق الماشي، وفي حق القليل، وحق الراكب. أما ابتداء السلام فيجوز: "سلام عليكم"، والأفضل أن يكون معرفًا: "السلام عليكم"، وكذلك يكون: "السلام عليكم ورحمة الله وبركاته"، وفي الرد إن شاء قال: "وعليكم السلام"، بالواو، وإن شاء قال: "عليكم السلام"، وترك الواو ما ينبغي، وإن ¬

(¬1) أخرجه عبد الرزاق (رقم: 19445)، أحمد (رقم: 8147)، والبخاري (رقم: 6231)، وأبو داود (رقم: 5198)، والترمذي (رقم: 2704).

شاء قال: "السلام عليكم"، حتى في الرد، لما جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «خلق الله آدم وطوله ستون ذراعًا، ثم قال: اذهب فسلم على أولئك من الملائكة فاستمع ما يحيونك، تحيتك وتحية ذريتك، فقال: السلام عليكم، فقالوا: السلام عليك ورحمة الله، فزادوه: ورحمة الله»، فيجوز في الرد أيضًا أن يقول الإنسان: "السلام عليك"، والأفضل أن يقول: "وعليكم السلام"، وسبق لنا أن هذا الرد فرض. قال بعض أهل العلم: أن الإنسان إذا سُلم عليه: "السلام عليكم ورحمة الله وبركاته"، فله أن يرد بما جاء من زيادة فضل في رد السلام، وهو أن يقول: "وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ومغفرته"، وذلك لما رواه البيهقي: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا سلم علينا فرددنا عليه السلام، قلنا: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته ومغفرته (¬1). ولكن هذا الحديث فيه أكثر من علة. وجاء في فضل درجات هذا الرد ما أخرجه أبو داود والنسائي وغيرهما من حديث عمران بن حصين: أن رجلاً أتى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: السلام عليك، ثم قال: «وعليكم السلام» ثم قعد، فقال: «عشر»، ثم سلم عليه مرة أخرى رجل آخر، فقال: «السلام عليك ورحمة الله» ثم قعد فرد عليه، وقال: «عشرون» ثم سلم عليه آخر، فقال: السلام ¬

(¬1) التاريخ الكبير (رقم: 1037)، الكامل لابن عدي (7/ 127) شعب الإيمان (رقم: 8491)، وقال الحافظ ابن حجر في الفتح (11/ 6)، وأخرجه البيهقي في الشعب بسند ضعيف من حديث زيد بن أرقم. أ. هـ.

السلام على النساء

عليك ورحمة الله وبركاته، ثم قعد، فرد عليه، ثم قال: «ثلاثون» (¬1)، وهذا هو القدر المحفوظ من حديث عمران. ثم قال المؤلف: (ويكره السلام. . . التجائر والصنائع). سبق أن ذكرنا أن السلام مشروع بعامة، وهو من حق المسلم على أخيه، فهل هذا يشمل السلام بين الرجال والنساء؟ نقول: الأصل العموم، فإن الإنسان يسلم على كل أحد؛ لكن في مسألة السلام على النساء تفصيل، فالنساء ينقسمن بالنسبة إلى المُسلم إلى أقسام: القسم الأول: أن يكن محارمًا. القسم الثاني: أن يكن أجانب عن الرجل لكنهن من معارفه. القسم الثالث: أجانب غير معارف. وتنقسم الأجنبيات إلى ثلاثة أقسام: 1 - الشابة فيترك السلام عليها بالاتفاق. 2 - العجوز الكبيرة فيسلم عليها. ¬

(¬1) أخرجه أحمد (4/ 439)، وأبو داود (رقم: 5197)، والنسائي في الكبرى (رقم: 10169)، والترمذي (رقم: 2689)، والدارمي (رقم: 2669) من حديث عمران بن الحصين، وقال البزار في مسنده (رقم: 3588): وهذا الحديث قد روي نحو كلامه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من وجوه، وأحسن إسناد يروى في ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا الإسناد، وإن كان قد رواه من هو أجل من عمران فإسناد عمران أحسن) أ. هـ

3 - الكبيرة غير العجوز فيشرع السلام إذا احتيج إلى ذلك؛ كأن يكون لها حرفة، وإن لم يكن لها شيء من ذلك، ولم تكن هناك حاجة، فقد يقال: لا يشرع السلام. والتسليم على الصبيان من إفشاء السلام، ومن حسن الأدب معهم، سواء غلب على ظنه أنهم سيردون أم لا، ويشمل هذا الصبيات أيضًا ما لم يكن هناك ريبة، وفي سلامه - صلى الله عليه وسلم - عليهم دلالة لما تقدم ذكره من أن المارّ هو الذي يسلم على القارّ كما تقدم تقريره في جميع الأحوال وهذا ظاهر بحمد الله.

فصل والمصافحة مستحبة بين الرجلين

(المتن) فَصْلٌ وَالمُصَافَحَةُ مُسْتَحَبَّةٌ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ، وَلَا تَجُوْزُ مُصَافَحَةُ النِّسَاءِ الشَوَابِّ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُثِيْرُ الشَّهْوَةَ، وَلَا بَأْسَ بِالْمُعَانَقَةِ، وَتَقْبِيْلِ الرَّأْسِ وَاليَدِ، لِمَنْ يَكُوْنُ مِنْ أَهْلِ الدِّيْنِ أَوِ العِلْمِ أَوِ كِبَرِ السِّنِّ فِيْ الإِسْلَامِ، وَيُسْتَحَبُّ القِيَامُ لِلإِمَامِ العَادِلِ، وَالوَالِدَيْنِ، وَأَهْلِ الدِّيْنِ وَالوَرَعِ وَالعِلْمِ وَالكَرَمِ وَالنَّسَبِ، وَلَا يُسْتَحَبُّ لِغَيْرِ هَؤُلَاءِ. (الشرح) المصافحة حكمها: أنها سنة مؤكدة، وقد جاءت الأخبار في مشروعية المصافحة منها ما جاء في صحيح البخاري عن قتادة، قال: قلت لأنس - رضي الله عنه -: أكانت المصافحة في أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: نعم. والمصافحة تكون بين المتصافحين باليد اليمنى، وهذا معلوم، وقد سألت شيخنا ابن باز - رحمه الله - عمن شُلّت يده اليمنى، أو بها علة هل يصافح باليسرى فأجاب: نعم. والمصافحة بكلتا اليدين عند الاحتفاء مباحة، لا سنة ولا بدعة. قلت: هو نوع احتفاء بالمصافَح. وفُهم من قول المؤلف: (ولا تجوز مصافحة النساء الشواب). أنه يجوز مصافحة النساء غير الشواب، وفي هذا نظر، والصواب أنه لا يصافح الإنسان إلا زوجه أو محارمه من النساء، ولا يصافح المرأة الأجنبية البتة. والدليل على هذا ما جاء في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها، قالت: ما مست يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يد امرأة قط.

مسألة مصافحة الكفار

وقال بعضهم: لا بأس أن يصافح المرأة الأجنبية من وراء حائل، وتمسكوا ببعض الأخبار التي ليس لهم فيها متمسك، وفي بعضها أنه كان على يده قطعة قماش، ولكن لا يصح في هذا الباب شيء. مسألة: من أحكام المصافحة: مسألة مصافحة الكفار: هل يجوز مصافحة الكفار؟ الجواب: نقول: مصافحة الكفار تابعه للسلام عليهم، ونرجع حينئذٍ إلى السلام عليهم، فأما ابتداء الكافر بالسلام فلا يجوز، وقد جاء عند مسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: «لا تبدؤوا اليهود ولا النصارى بالسلام فإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه» (¬1). فإذا كان لا يجوز ابتدائهم بالسلام فلا يجوز ابتدائهم بالمصافحة. وأما قوله: (ولا بأس بالمعانقة. . . في الإسلام). فهذا من باب الإكرام وليس له علاقة بالتحية لأن التحية الشرعية في الإسلام هي: (السلام والمصافحة) فالسلام بالكلام، والمصافحة باليد. أما تقبيل الرأس أو اليد فهذا من باب الإكرام، وبعض الناس يغلط، فيقابل كبير السن أو العالم، ويأخذ برأسه ويقبله، ويظن أن هذا سلام، فلا يصافحه ولا يسلم عليه، فإن قال: السلام عليكم، وأخذ برأسه وقبله، فهذا لم يصافحه، فنقول: السنة أن تصافح، ¬

(¬1) أخرجه أحمد (رقم: 8542)، ومسلم (رقم: 2167)، وأبو داود (رقم: 5205).

وتقول: السلام عليكم، فإن كان بعد ذلك إكرام من تقبيل الرأس أو اليد، فهذا لا بأس به، وهذا من باب الإكرام، وليس له علاقة بالسلام. والمعانقة إنما تكون عند القدوم من الأسفار، هذا ما فعله الصحابة. وتقبيل اليد موجود عند السلف على قلّته، وتقبيل اليد يباح لثلاثة: للعالم الورع، وللوالدين، والإمام العادل، أما فعل هذا لأهل المال والجاه والمناصب فمكروه، وأما فعله للولاة الظلمة ومن لا يقيم للدين قدرًا فمحرم. والقيام على أربع صور: الصورة الأولى: القيام على رأس من يراد حراسته، وهذا مباح. كقيام الصحابة على رأس النبي - صلى الله عليه وسلم - لحراسته عام صلح الحديبية أثناء عقد الصلح، وغيره. الصورة الثانية: القيام للقادم ونحوه تعظيمًا، وهذا محرم. وأعظم من هذا القيام تعظيمًا للعَلَم مع ما فيه من مشابهة الكفرة الآن، ومما يمنع: القيام للمعلم عند دخوله فصل الدراسة وقد أفتى شيخنا بمنعه. الصورة الثالثة: القيام للتكريم عند قدوم والد أو ولد أو غيرهما، وهذا مباح. الصورة الرابعة: القيام لأجل حاجة من يقام له، وهذا مباح أيضًا.

ومن المسائل الملحقة بهذا الفصل المهم

ومن المسائل الملحقة بهذا الفصل المهم: التحايا التي تبذل للناس ويكرمون بها (عند البشر بعامّة) فمن أشهرها. 1 - الركوع. 2 - السجود. 3 - الركوع الناقص. 4 - خلع القبعة التي على الرأس، أو وضع اليد على الجبهة. 5 - مصافحة الداخل للجالسين في المجلس. فأما الأول والثاني فمحرم بالنص والإجماع، والثالث محرم أيضًا وقد نصّ على هذا شيخ الإسلام -رحمه الله- وهو من صنيع العجم، والرابع فيه تشبه بالكفرة، والخامس وهو مصافحة الداخل للجالسين فلا أصل له من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه والسلف، والمشروع إلقاء السلام ثم الجلوس حيث ينتهي به المجلس، ومن قال إن هذا مشروع فعليه الدليل ولن يجد إلى ذلك سبيلاً، وممن نصّ على هذه المسألة شيخنا ابن عثيمين رحمه الله. وقس ما لم أذكر من التحيات على ما ذكرت.

فصل وينبغي للإنسان أن لا يدخل في سر قوم

(المتن) فَصْلٌ وَيَنْبَغِيْ لِلإِنْسَانِ أَنْ لَا يَدْخُلَ فِيْ سِرِّ قَوْمٍ، وَلَا حَدِيْثٍ لَمْ يُدْخِلُوْهُ فِيْهِ. وَلَا يَجُوْزُ الاسْتِمَاعُ إِلَى كَلَامِ قَوْمٍ يَتَشَاوَرُوْنَ. . وَمَنْ تَلَفَّتَ فِيْ حَدِيثِهِ فَهُوَ كَالمُسْتَوْدِعِ لِحَدِيْثِهِ، يَجِبُ حِفْظُهُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ تَلَفُّتَهُ يُعْطِيْ التَّفَلُّتَ وَالتَّفَزُّعَ. (الشرح) في هذا الباب مسائل: روى البخاري في صحيحه في باب حفظ السر في كتاب الأدب عن المعتمر بن سليمان بن طرخان عن أبيه عن أنس - رضي الله عنه -، قال: أَسَرَّ إلي النبي - صلى الله عليه وسلم - سرًا فما أخبرت به أحدًا بعده، ولقد سألتني أم سليم فما أخبرتها به، وهذا كله من شدة حفظ أنس - رضي الله عنه - لسر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفي رواية لثابت البناني وكان من تلاميذ أنس - رضي الله عنه - وكان أنس - رضي الله عنه - يحبه واسمه ثابت بن أسلم البناني، وكان رجلاً صالحًا، قال: لو حدثت به أحدًا لحدثتك به يا ثابت. وقوله: (ولا يجوز الاستماع إلى كلام قومٍ يتشاورون). هذا كذلك من الآداب المتعلقة بحفظ السر، وإنما تشاوروا وانحازوا رغبةً في عدم اطلاع غيرهم على هذا الكلام، وحينئذٍ يكون الاستماع إلى هذا الحديث من المحرمات، والاستماع المراد به طلب السمع، فلا يجوز للإنسان أن يطلب سماع كلام قوم انحازوا عنه، وفي حديث أيوب السختياني عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: «من استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون صب في أذنه الآنك يوم القيامة»

رواه البخاري في كتاب التعبير، فهذه عقوبة من استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون، ويعرف كونهم كارهين بالقرائن أيضًا، أو بالقول، أو بالفعل، والآنك هو الرصاص المذاب، ويختص الرصاص من بين المعادن بأنه ثقيل، ومؤذي، وهذا يدل على أن الاستماع إلى حديث الآخرين من الكبائر إذا كانوا يكرهون ذلك. ومن المسائل المهمة في السر: أولاً: يجب حفظ السر ويحرم البوح به، واتفق أهل العلم على أنه إن كان في إفشائه مضرة على صاحب السر أنه لا يجوز إفشاؤه. والسر عند كثير من الناس الآن لا قيمة له، لأنك قد تذكر هذا الكلام وتصرح به بأنه سر، ثم تفاجأ بالغد أن هذا على ألسنة الناس!! ولهذا ينبغي أن ينظر الإنسان إذا أراد أن يستودع سرًا أن يستودعه إلى شخص ذي دين ومروءة وعقل، والحاجة داعية إلى الاستسرار.

فصل ويكره الخيلاء والزهو في المشي

(المتن) فَصْلٌ وَيُكْرَهُ الخُيَلَاءُ وَالزَّهْوُ فِيْ المَشْيِ، وَإِنَّمَا يَمْشِيْ قَصْدًا؛ فَإِنَّ الخُيَلَاءَ مِشْيَةٌ يُبْغِضُهَا اللهُ تَعَالَى؛ إِلَّا بَيْنَ الصَّفَّيْنِ. (الشرح) الصواب أنه تحرم الخيلاء ويحرم الزُّهُو؛ لأنه من مظاهر الكبر، والكبر محرم بالنص والإجماع، وقد تُوعّد عليه بالنار والحرمان من الجنة، نسأل الله العافية. وفي صحيح مسلم من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر»، قال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا ونعله حسنةً، قال: «إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق، وغمط الناس» ومن صور الكبر: دفع الحق، ورفضه، وعدم قبوله، والالتفاف عليه، وتأويله، وازدراء الناس، واحتقارهم، والمشي بخيلاء وزهو، والإسبال. قال المؤلف: (فإن الخيلاء مشية يبغضها الله تعالى إلا بين الصفين). يعني أن الأصل في مشي الرجل خيلاء أنه محرم، ومن الكبائر، ويستثنى من ذلك القتال، وروي أيضًا أن أبا دجانة "سماك بن خرشة" - رضي الله عنه - كان يمشي بين الصفوف يتبختر، فنظر إليه النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: «إن هذه مشية يبغضها الله تعالى، إلا في هذا الموطن» (¬1). ¬

(¬1) أخرجه الطبراني (رقم: 6508).

فصل ومن مكارم الأخلاق

(المتن) فَصْلٌ وَمِنْ مَكَارِمِ الأَخْلَاقِ التَّغَافُلُ عَنْ ظُهُوْرِ مَسَاوِئ النَّاسِ، وَمَا يَبْدُو فِيْ غَفَلَاتِهِمْ، مِنْ كَشْفِ عَوْرَةٍ، أَوْ خُرُوْجِ رِيْحٍ لَهَا صَوْتٌ، أَوْ رِيْحٍ. . وَمَن سَمِعَ ذَلِكَ فَأَظْهَرَ الطَّرَشَ أَوِ النَّوْمَ أَوِ الغَفْلَةَ لِيُزِيْلَ خَجَلَ الفَاعِلِ، كَانَ ذَلِكَ مِنْ مَكَارِمِ الأَخْلَاقِ. (الشرح) وهذا الفصل يعالج الأخطاء التي تقع في المجلس من غير قصد، فمعلوم أن اجتماع الناس في المجالس على اختلاف أنواع الاجتماعات، في علم أو في حديث أو سمر أو مؤانسة أو ما أشبه ذلك، قد يقع فيه من العوارض التي قد يستحيا منها. فإذا حصل للإنسان في المجلس مثل هذا، كخروج ريح لها صوت، أو انكشاف عورة، أو شرق في مشروب، أو غصّ بمطعوم، أو خرج من أنفه شيء، أو سكب طعامًا، أو عثر فسقط، أو سقط منه شيء، أو ظهر منه ما يكره، فإنه ينبغي التغافل عن ذلك، وعدم الضحك، والاشتغال بأمر آخر حتى يكون فيه إذهاب الخجل واللوم عن هذا الشخص، وهذا من مكارم الأخلاق، ومن صفات كبار النفوس، وقد سمعت شيخنا ابن باز - رحمه الله - يقول: إذا حصل هذا في المجلس (الضرطة)، فينبغي عدم المبالاة بهذا الشيء، وإظهار التغافل، حتى لا يحرج صاحب الشأن. أ. هـ واللجاجة والتنقيب في هذا من العسر والنكد في الأخلاق.

فصل وعشرة من الفطرة

(المتن) فَصْلٌ وَعَشَرَةٌ مِنَ الفِطْرَةِ، خَمْسٌ فِي الرَّأْسِ وَخَمْسٌ فِي الجَسَدِ. فَالَّتِيْ فِيْ الرَّأْسِ: الْمَضْمَضَةُ، وَالاسْتِنْشَاقُ، وَالسِّوَاكُ، وَقَصُّ الشَّارِبِ، وَإِعْفَاءُ اللِّحْيَةِ. وَالَّتِيْ فِيْ الجَسَدِ: حَلْقُ العَاْنَةِ، وَنَتْفُ الإِبِطَيْنِ، وَتَقْلِيْمُ الأَظْفَاْرِ، وَالاسْتِنْجَاءُ وَالخِتَانُ. (الشرح) ذكر المؤلف - رحمه الله تعالى - هذا الباب هنا، ومحله في كتاب الطهارة، وهو يتعلق بآداب الجسد، ولاشك أن الآداب الجسدية، ومظهر الشخص، وريحه، ونظافة ثيابه، من الآداب العظيمة جدًا. قوله: (وعشر من الفطرة) يريد الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه، من حديث مصعب بن شيبة عن طلق بن حبيب العنزي عن عبد الله بن الزبير عن عائشة - رضي الله عنها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «عشر من الفطرة. . .». قول المؤلف: (فالتي في الرأس: المضمضة، والاستنشاق، والسواك، وقص الشارب، وإعفاء اللحية). فالمضمضة والاستنشاق من أفعال الوضوء، ومحلها عند غسل الوجه، وقد بينتها السنة، وهي واجبة في الوضوء والغسل من الجنابة، على الصحيح. والسواك يطلق على عود الأراك، وهو في الأصل سنة مؤكدة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد روى البخاري في صحيحه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: «أكثرت عليكم في السواك» وهو متأكد في عدّة مواضع، عند الوضوء، والصلاة، ودخول المنزل؛ كما روى ذلك مسلم في صحيحه من حديث الْمِقْدَامِ بْنِ شُرَيْحٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ

مسائل

سَأَلْتُ عَائِشَةَ قُلْتُ بِأَيِّ شَيءٍ كَانَ يَبْدَأُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا دَخَلَ بَيْتَهُ قَالَتْ بِالسِّوَاكِ. وفيه من الفوائد أن التسوك عند دخول المنزل مع كونه امتثالا لسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - ففيه أيضًا تطهير فم الإنسان لعشرة أهله. واختلف فيه هل يكون باليمين أو بالشمال؟. . منهم من فصَّل، فقال: إن كان يستاك لمجرد فعل السنة فباليمين، وإن كان لإزالة الأذى فبالشمال، وهذا التفصيل ليس ببعيد. قوله: (وقص الشارب). اختلف أهل العلم في السنة في الشارب هل يحلق أم يُقص؟ والصحيح أن السنة القص، وأما الحلق فمباح، لكنه خلاف الأولى، وله وجهة وسلف. قوله: (وإعفاء اللحية). هذه فيها مسائل: الأولى: أن العلماء - عليهم رحمة الله - اتفقوا على تحريم حلق الحية، وهي الشعر النابت على الخدين والذقن، فيشمل عظم اللحي إلى ملتقى العظمين في الذقن، ويشمل ما على الخدين، وخرج بهذا الشعر الذي على الحلق، فليس من اللحية، أما الشعر الذي على الفك السفلي فهو من اللحية. فالشعر على الخدين والفكين فهو من اللحية، والعنفقة - وهي الشعر النابت على الشفة السفلى- من اللحية أيضًا. ومن المسائل أيضًا مسألة حد الإعفاء، فالأصل في الإعفاء الترك، والإعفاء المراد به التكثير، وقد وردت ألفاظ تدل بمجملها على تركها مطلقًا؛ كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «أعفوا اللحى»،

«أوفوا»، «أرخوا»، «وفروا» فهذه أربعة ألفاظ تدل على ترك اللحية وعدم التعرض لها، وهذا المذهب الأول في صفة اللحية، واحتجوا أيضًا بأنه صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن لحيته كانت كثة، واللحية الكثة تدل على كثرة الشعر وطوله، والأخذ ينافي الكثرة والطول، واحتجوا أيضًا بأنه - صلى الله عليه وسلم - كانت لحيته ترى من خلفه، كما روى البخاري في صحيحه من حديث أبي معمر وهو عبد الله بن سخبرة، قال: سألنا خبابًا بأي شيء كنتم تعرفون قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الظهر؟ فقال: باضطراب لحيته. قالوا: واللحية القصيرة لا تضطرب. وأما المذهب الثاني في هذه المسألة: أن اللحية الشرعية تكون قبضة، فما فضل يؤخذ شرعًا، واحتجوا بأن ابن عمر - رضي الله عنه -: كان إذا حج أو اعتمر قبض على لحيته فما فضل أخذه. روى ذلك عنه مالك في الموطأ، ورواه البخاري. ولكن نقول أن المحفوظ عن ابن عمر - رضي الله عنه - أنه كان يفعله في الحج والعمرة فقط، وروي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - نحوه. ولكن نقول: هذا لا حجة لهم فيه لأمور منها: أن ابن عمر - رضي الله عنه - هو أحد رواة حديث: «وفروا اللحى». المذهب الثالث في هذه المسألة: أنه يجوز أخذ ما شذ ونفر وآذى من اللحية، وهذا لا ينافي الإعفاء في الحد والحقيقة فهو راجع إلى القول الأول، وهذا الذي بيّنه فعل السلف والأئمة كالإمام أحمد وغيره، فالمنقول عن السلف قولان التقبيض أحيانًا، وهذا القيد لابد منه - أعني أحيانًا - وهذا القول الذي حكيته أخيرًا، فصار خلاصة مذهب السلف في المسألة

والشعور في البدن تنقسم ثلاثة أقسام

قولان سائغان وإن كان أحدهما أرجح من الآخر، أما القول بأن أخذ شعرة واحدة محرم فهذا فيه نظر، بل لا يصح، فيجوز للإنسان أن يأخذ من شعر لحيته ما علم أنه زائد وشاذ، أو كانت لحيته طويلة تدخل في طعامه وشرابه، دون التقصيص الكثير الذي ينافي الإعفاء، فمتى كان القص منافيًا للإعفاء حرُم. قوله: (والتي في الجسد: حلق العانة، ونتف الإبطين، وتقليم الأظفار، والاستنجاء، والختان) وهذه الأشياء كلها تؤخذ. والشعور في البدن تنقسم ثلاثة أقسام: الأول: شعرٌ يؤمر بأخذه كالعانة والإبطين. والثاني: شعرٌ يُنهى عن أخذه كاللحية والحواجب. والثالث: شعرٌ مسكوت عنه. وقد اختُلف في هذا الثالث، فقال بعضهم: يُبقى، وهذا اختيار الشيخ محمد ابن عثيمين رحمه الله تعالى. وقال بعضهم: بل هو مما عفى الله عنه، وما سكت الله عنه فهو عفو، وهذا هو الصحيح. وقوله: (والاستنجاء): هو استعمال الماء لإزالة النجو من الدبر والقبل. وأما الختان: فهو قطع القلفة من الذكر، وهو في الذكور واجب؛ لأنه متعلق بالطهارة، فلا تكمل طهارة الذكر إلا بإزالته، وقد اختلف في حكمه بالنسبة للنساء، والصحيح أنه مستحب في حقهن.

فصل ويكره نتف الشيب

(المتن) فَصْلٌ وَيُكْرَهُ نَتْفُ الشَّيْبِ، فَقَدْ وَرَدَ فِيْ الْحَدِيْثِ أَنَّهُ نُوْرُ اللهِ. . وَهُوَ أَيْضًا نَذِيْرُ الْمَوْتِ، وَيُقَصِّرُ الأَمَلَ، وَحَاثٌ عَلَى حُسْنِ العَمَلِ، وَوَقَارٌ. وَيُكْرَهُ حَلْقُ القَفَا؛ إِلَّا لِمَنْ أَرَادَ الحِجَامَةَ، كَذَلِكَ رُوِيَ فِيْ السُّنَنِ. (الشرح) الأصل فيما ذكره المؤلف ما رواه أهل السنن وأحمد، والسياق عند أحمد مطولاً، من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن نتف الشيب. وفي لفظ: «لا تنتفوا الشيب فإنه نور المسلم، ما من مسلم يشيب شيبة في الإسلام إلا كتب الله له بها حسنة، ورفع بها درجة، أو حط عنه خطيئة». وحمل النهي جماهير أهل العلم على الكراهة، وعلّله بالنور، فالذي ينتف يذهب نوره على الصراط. مسألة: أما الصبغ بغير السواد للشيب إذا كثر، فهذا سنة، فإن قال قائل: قد ورد في الحديث التعليل بأنه نور المسلم، نقول: كونه نورًا لا يمنع من صبغه، فإنه يسمى شيبًا مصبوغًا، وليس بلازم اشتراك البياض بالنور، فمادام أن هذه الشعرة تسمى شيبة، فإنها تكون نورًا يوم القيامة، فإذا صبغها فقد صبغ الصحابة ومن بعدهم، فلا منافاة بين صبغ الشيب وكونه نورًا.

حكم حلق الشعر

وأما حكم حلق الشعر، فقد اختلف فيه أهل العلم - رحمهم الله تعالى - وقد قسّموه إلى أقسام: القسم الأول: هو حلق الرأس على وجه التدين والتعبد والزهد من غير حج ولا عمرة أو عند التوبة فهذا ونحوه من البدع. القسم الثاني: حلقه في نسك الحج أو العمرة، فيكون مخيرًا فيها بين الحلق وبين التقصير، وهذا واجب، وقربة. القسم الثالث: ما تدعو إليه الحاجة؛ كحجامة، أو تداوٍ بالحلق، أو ما أشبه ذلك، فهذا مباح. القسم الرابع: حلقه لغير حاجة فمن أهل العلم من كره حلق الرأس والمواظبة عليه، وهذا مشهور مذهب مالك، وجمهور أهل العلم على جواز الحلق بلا حاجة. وأما حكم حلق بعض الرأس وترك البعض، فقد ثبت في الصحيحين من غير وجه من حديث ابن عمر، من طريق نافع مولى ابن عمر عنه، ومن طريق مالك، عن عبد الله بن دينار عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن القزع.

فصل ولا ينبغي لأحد أن يهجم على أقارب أو أجانب

(المتن) فَصْلٌ وَلَا يَنْبَغِيْ لِأَحَدٍ أَنْ يَهْجُمَ عَلَى أَقَارِبٍ أَوْ أَجَانِبٍ؛ لِئَلَّا يُصَادِفَ بَذْلَةً مِنْ كَشْفِ عَوْرَةٍ. وَيَسْتَأْذِنُ ثلاثًا، فَإِنْ أُذِنَ لَهُ وَإِلَّا رَجَعَ. (الشرح) الاستئذان طلب الإذن من أجل الدخول في البيوت، والمحالّ التي يستتر فيها الناس كالحُجر، والأبنية، والمجالس المستورة، ومثله في عصرنا الاستراحات وما أشبه ذلك، فالأصل أن الإنسان لا يتقحم بيت غيره، ولا مكانًا يستتر به الناس عادة، سواء كان هذا المستتر واحدًا أو جماعة إلا بإذن، وهذا الإذن إما أن يكون إذنًا صريحًا، أو إذنًا جرت به العادة. وقد ثبت في السنة: أن الإنسان إذا أتى دار غيره أن يستأذن ثلاث مرات من أجل أن يسمع أهل الدار، وينظروا في الأمر ويتأملوا، فإن شاءوا بعد الثالثة سمحوا بالدخول، وإن شاءوا سكتوا، وعلى الذي في الخارج أن يرجع، كما قال تعالى: (وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ) (¬1). وصفة الاستئذان: إن كان الإنسان قريبًا يسمع الكلام أن يقول: السلام عليكم يا فلان أأدخل؟ ثلاث مرات، ويفرق بينها، فإن لم يجد جوابًا فليرجع، وإن لم يكن أهل الدار قريبين والباب مقفل أو به جرس فبالدق بحيث يغلب على الظن أن أهل الدار يسمعون. ¬

(¬1) النور: 28.

أما بالنسبة للاستئذان من داخل البيوت: فهو أشد على أهل الدار، وقد يقال أيضًا: الاستئذان من الخارج أشد؛ لأجل أنه أجنبي. واستئذان أهل الدار بعضهم على بعض، هذا جاء في قوله تعالى في سورة النور: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (¬1) ثم قال تعالى في الآية التي بعدها: (وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (¬2). هذه الآية دلت على وجوب الاستئذان داخل الدور إذا كان للشخص مكان خاص ليس مفتوحًا؛ كالصالة أو نحوها، يجب أن يعلم الولد أدب الاستئذان، فالذي لم يبلغ يستأذن في هذه الأوقات الثلاثة، وكذلك الخدم، فإن الناس في هذه الأوقات قد يدخلون أماكنهم الخاصة، ويستريحون فيها، ويضعون ثيابهم، وقد يكون المرء على أهله فيجب حينئذٍ الاستئذان؛ حتى على الصبية الذين لم يبلغوا، حتى ينشأ هذا الولد على الطهر والعفاف، ولا يألف المناظر السيئة بذاكرته، أما إذا بلغ الأطفال الحلم، فيجب أن يستأذنوا في كل وقت. ¬

(¬1) النور: 58. (¬2) النور: 59.

فصل ويحرم أن يتناجى اثنان دون ثالث

(المتن) فَصْلٌ وَيَحْرُمُ أَنْ يَتَنَاجَى اِثْنَانِ دُوْنَ ثَالِثٍ، لِأَنَّهُ يُوْجِبُ إِيْحَاشًا، وَكَسْرَ القَلْبِ. (الشرح) هذا من أدب التناجي والتخاطب بين الناس، وأصل هذه المسألة ما أخرجه صاحبا الصحيح، من طريق مالك عن نافع عن ابن عمر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا كانوا ثلاثةً، فلا يَتَنَاجَى اثنانِ دونَ الثالثِ» في هذه الأحاديث من الفوائد والأحكام تعليل الحكم فإن الحكم لا يتناجى اثنان دون الثالث من أجل أن ذلك يحزنه. فعُلِم أن كل شيء يجلب الحزن للمسلم أنه محرم، وعلم بالمفهوم أن كل شيء يدخل السرور على المسلم أنه مشروع ومستحب. (المتن) فَصْلٌ وَيُسْتَحَبُّ اِفْتِتَاحُ الأَكْلِ بِبِسْمِ اللهِ، وَخَتْمُهُ بِالحَمْدُ للهِ. وَأَنْ يَأْكُلَ بِيَمِيْنِهِ مِمَّا يَلِيْهِ، إِذَا كَانَ الطَّعَامُ نَوْعًا وَاحِدًا. وَلَا يَأْكُلُ مِنْ ذِرْوَةِ الطَّعَامِ لَكِنْ مِنْ جَوَانِبِهِ. وَكَذَلِكَ الكَيْلُ فَإِنَّهُ أَدْعَى لِلْبَرَكَةِ، كَذَلِكَ رُوِيَ فِي السُّنَنِ. وَلَا يَنْفَخُ الطَّعَامَ الحَارَّ وَلَا البَارِدَ. وَلَا يُكْرَهُ الأَكْلُ والشُّرْبُ قَائِمًا، وَيُكْرَهُ مُتَّكِئًا. وَإِذَا دَفَعَ إِنَاءَ الشَّارِبِ، أَوِ اللُّقْمَةَ، دَفَعَ إِلَى مَنْ عَنْ يَمِيْنِهِ، كَذَلِكَ كَانَ يَفْعَلُ النَّبِيُ - صلى الله عليه وسلم -. (الشرح) يستحب افتتاح الأكل: "ببسم الله". وختمه: "بالحمد لله". فيفهم من كلام المؤلف هنا أنه يستحب افتتاح الأكل ببسم الله، ولو تركها لم يأثم،

وهناك من قال: أن التسمية عند الأكل واجبة، وهذا هو الصحيح. وصفة التسمية عند الطعام- على الصحيح-أن يقول: "بسم الله"؛ لأنه لم يجئ عن النبي عليه الصلاة والسلام ما يدل على التكميل، بخلاف البسملة عند القراءة، ومما يُطلق عنده التسمية ولا تُكمَّل أيضًا عند الذبح، فتقول: "بسم الله"، وتضيف: "والله أكبر". وأما الختم بـ "الحمد لله" فهو مستحب ومؤكد. ذكر هنا أدبين: الأول: أن يأكل بيمينه، وهو من الواجبات فقد أمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - عمر بن أبي سلمة وكان ربيبه، قال: وكانت يدي تطيش في الصحفة، فقال لي النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يا غلام سم الله وكل بيمينك». قال المؤلف: (مما يليه إذا كان الطعام نوعًا واحدًا). وهذا الأدب الثاني: وقد أدَبَّ به النبي - صلى الله عليه وسلم - ربيبه عمر، فقال: «وكل مما يليك» فعُلم من هذا أن الأكل مما يلي الإنسان، إذا كان الطعام واحدًا واجب، ولأن الأكل مِمَّا يلي الآخرين فيه أذية وشره ونهم، ويكفي أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمر به، أما إذا كان الطعام متنوعًا، فلا بأس من تخطي الطعام الأول إلى الثاني. مسألة: يكثر عندنا الآن مسألة دفع اللحم، أو دفع الطعام للغير، ويفعلها الناس ابتغاء الكرم، كأن يقطع بعض الناس اللحم ويناولها غيره. فمن أهل العلم من كره هذا؛ لأن هذه اللقمة أو الطعام قد مس اليد التي مست فم

الشخص وقد يُتقزز من هذا؛ لأنه قد يعلق فيها شيء من اللعاب، فعلى كل حال يتنبه لمثل هذه الآداب؛ لأن بعض الناس يريد الخير لصاحبه، ولكن صاحبه لا يريد هذا الشيء، فنقول: رفقًا لأنه ليس كل أحد يحب هذا الشيء. قوله: (ولا ينفخ الطعام الحار ولا البارد). هذا أيضًا من آداب الأكل والشرب، أن الإنسان لا ينفخ في الطعام الحار لتبريده، والأصل في ذلك ما رواه الشيخان من حديث عبد الله ابن أبي قتادة عن أبيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا شرب أحدكم فلا يتنفس في الإناء». فالأحاديث تنقسم إلى قسمين: قسم فيه النهي عن التنفس في الإناء، وقسم فيه التنفس خارج الإناء. أما الأشربة الساخنة، فقد جرت عادة الإنسان أنه لا يستطيع أن يشربه دفعةً واحدةً، كالشاي مثلاً، فمنهيٌ عن تبريدها بالنفخ بها. واختلف في علة النهي عن النفخ في الشراب، فقيل: لأنه قد يقذِّر الطعام والشراب، فقد يخرج منه شيء فيقع على الطعام أو الشراب فيقذره. قوله: (ولا يكره الأكل والشرب قائمًا) فقد ثبت في الصحيحين من طريق الشعبي عن عبد الله بن عباس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: شرب من ماء زمزم قائمًا. واختلف أهل العلم في الجمع بين أحاديث النهي وأحاديث الإباحة، فمن أهل

العلم من غلّب أحاديث الجواز وطعن في أحاديث النهي كما تقدم، ومنهم من قال: إن النهي كان متقدمًا والإباحة جاءت بعد، فهي منسوخة. والقول الثالث، وهو: أصحها طريقة الجمع. ويقال: إن أحاديث النهي جاءت على خلاف الأولى، وليست الكراهة فقط، وأحاديث الإباحة دلت على الجواز، وهذا أصح ما جاء في المسألة. أما قول أنس - رضي الله عنه - كما أخرجه مسلم، لما قيل له: فالأكل؟ فقال: أشر وأخبث، فلا أعلم أحدًا وافق أنسًا - رضي الله عنه - على هذا، ولا أعلم أحدًا من أهل العلم كره الأكل قائمًا، والخلاف المعروف في الشرب، وهذا مذهب لأنس، وإلا فالأكل ليس أشر وأخبث، فهو أخف من الشرب بكثير، وليست المفسدة في الشرب موجودة في الأكل، للفرق بينهما. قوله: (ويكره متكئًا). الأصل في هذا ما رواه البخاري من حديث علي بن الأقمر عن أبي جحيفة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا آكل متكئًا» (¬1). وهذا الحديث فيه إخبار النبي عليه الصلاة والسلام أنه لا يأكل متكئًا، وليس فيه صيغة نهي، وقد اختلف في معنى الاتكاء، فقال بعضهم: الاتكاء هو لكل متمكن من ¬

(¬1) أخرجه أحمد (رقم: 18776)، والبخاري (رقم: 5084)، أبو داود (رقم: 3769)، والترمذي (رقم: 1830)، والنسائي (رقم: 6709)، وابن ماجه (رقم: 3262).

جلسة يريد التكثر من الأكل على أي صفة كانت، وهذا تفسير الخطابي، يقول: أي لا أقعد متكئًا على وطاء عند الأكل فِعلَ من يستكثر من الطعام، وهذا أحد الأقوال، وعلى هذا لو تربع فهو متكئ على هذا التعريف، ولو جلس جلسة غير هذه وفيها التمكن والتكثر من الطعام فهو متكئ، فضلاً عن أنه يميل على أحد الشقين، فهذا اتكاء بلا إشكال. وقيل: إن الاتكاء هو الميل على أحد الشقين؛ لأن هذا هو التعريف اللغوي، فعُلم بهذا أن الاتكاء ضرب من ضروب الجلوس، وفيه الميل، وهذا هو الصحيح وهو اختيار شيخنا -ابن باز- رحمه الله. وقد اختُلف في علة النهي عن الاتكاء. فقيل: إنه مخافة أن تعظم البطن؛ كما روى ذلك ابن أبي شيبة في مصنفه، عن إبراهيم النخعي أنه قال: كانوا يكرهون أن يأكلوا تُكاة، مخافة أن تعظم بطونهم (¬1). وظاهر إسناده لا بأس به. وهناك قول آخر: بأن الاتكاء خلاف الأولى، لأن الحديث الذي في صحيح البخاري هو أصح شيء في الباب. قوله: (وإذا دفع إناء الشُّرب أو اللقمة دفع إلى من على يمنيه، كذلك كان يفعل النبي - صلى الله عليه وسلم -). السنة إذا أتي بطعام يدور على مجموعة من الناس أنه يبدأ برئيس أو عالم أو والٍ أو ¬

(¬1) أخرجه ابن أبي شيبة (رقم: 25007).

أكبر من في المجلس أو صاحب الدار، ثم بعد ذلك من على يمين الشارب، ويستوي في هذا أن يكون هذا الإناء به الطعام كاملاً؛ كإناء الشرب، أو يكون يسقيهم شيئًا فشيئًا؛ كما هي حال القهوة والشاي الآن، ودل على هذا خبر أنس - رضي الله عنه - في الصحيحين، أنه قال: أُتي النبي - صلى الله عليه وسلم - بلبن قد شِيب بماء فشرب، وعن يمينه أعرابي، وعن شماله أبو بكر - رضي الله عنه -، ثم أعطى الأعرابي وقال: «الأيمن فالأيمن». وفيه من الفوائد أن التفضيل هنا بالجهة لا بالأشخاص، فيفضل من على اليمين مطلقًا، ولو كان الذي على الشمال أفضل.

فصل ومن أراد النوم يغلق بابه

(المتن) فَصْلٌ وَمَنْ أَرَادَ النَّوْمَ يُغْلِقُ بَابَهُ، وَيُوْكِيْ سِقَاءَهُ، وَيُغَطِّيْ إِنَاءَهُ، وَيُطْفِئُ سِرَاجَهُ، كَذَلِكَ رُوِيَ فِيْ السُّنَنِ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -. وَكَرِهَ أَحْمَدُ - رضي الله عنه - غَسْلَ اليَدِ لِلطَّعَامِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الخَبَرِ غَسْلُ اليَدِ لَهُ، وَلَعَلَّهُ مَا صَحَّ عِنْدَ أَحْمَدَ - رضي الله عنه -. (الشرح) الأصل في هذه المسألة ما أخرجه صاحبا الصحيح من حديث جابر - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا كان جُنح الليل فكفوا صبيانكم، فإن الشياطين تنتشر حينئذٍ، فإذا ذهب ساعة العشاء، فخلوا»، قال: «وأغلق بابك واذكر اسم الله، وأطفئ مصباحك واذكر اسم الله، وخمر إناءك واذكر اسم الله، ولو تعرض عليه عودًا»، وفي لفظ مسلم: «غطوا الإناء وأوكوا السقاء». . وفي لفظ: «خَمِّروا الآنية، وأوكوا الأسقية وأجيفوا الأبواب -أي أغلقوها- واكفتوا صبيانكم عند المساء فإن للجن انتشارًا وخطفة، وأطفئوا المصابيح عند الرقاد فإن الفويسقة ربما اجترت الفتيلة فأحرقت أهل البيت» (¬1). فالمصلحة ظاهرة في إغلاق الأبواب، ومن السنة أن الإنسان إذا أراد أن ينام أن يغلق من الأبواب ما يحتاج إلى غلقه. ¬

(¬1) أخرجه أحمد (رقم: 15206)، والبخاري (رقم: 3138)، والترمذي (رقم: 2857)، وأبو يعلى (رقم: 2130)، والبيهقي في شعب الإيمان (رقم: 6062)، والديلمي (رقم: 2845).

وهذا من حسن التدبير، وهو واجب من الواجبات، لأن مالا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فلا يتم حفظ النفوس، والعورات، والأموال، والأعراض، إلا بهذا، فحينئذٍ يكون من الواجبات. وهذه الأفعال مقرونة باسم الله، فتغلق الباب، وتقول: "بسم الله"، ويشمل إغلاق الأبواب إغلاق باب السيارة، فإن السيارة تُنزَّل على أنها بيت صغير، ولا تنزل على أنها دابة، فأحكام البيت الصغير فيها أكثر، ولها أبواب، فهي مشابهة للبيت الصغير، فتغلق الباب وتذكر اسم الله، سواءً أكنت تريد الركوب أو كنت تريد الخروج، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «فإن الشيطان لا يفتح بابًا ذكر اسم الله عليه» (¬1). وقد يكون من بركة هذا حفظ هذه السيارة من السرقة. قوله: (ويطفئ سراجه). وفي لفظ جابر: «وأطفئ مصباحك واذكر اسم الله». وقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بإطفاء النيران، وحُدِّث - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث أبي موسى عن قوم احترق عليهم بيتهم في المدينة، فقال: «إن هذه النار إنَّما هي عدو لكم فإذا نمتم فأطفئوها» (¬2). ¬

(¬1) أخرجه أحمد (رقم: 14266)، والبخاري (رقم: 5300)، ومسلم (رقم: 2012)، وأبو داود (رقم: 3731)، والنسائي (رقم: 10581)، وابن خزيمة (رقم: 132)، وابن حبان (رقم: 1274). (¬2) أخرجه أحمد (رقم: 19588)، والبخاري (رقم: 5936)، ومسلم (رقم: 2016)، وابن ماجه (رقم: 3770)، وابن حبان (رقم: 5520).

قلت: لأن في إبقاء بعض المصابيح إسراف، لاسيما بعض المصابيح المتوهجة التي قد يخشى من إحراقها. وقوله: (وكره أحمد - رضي الله عنه - غسل اليد. . . ما صح عند أحمد - رضي الله عنه -). الصواب أنه لم يصح في غسل اليد للطعام خبر وقد تتبعت هذا كثيرًا، فلم أجد حديثًا صحيحًا صريحًا سالمًا من المعارضة، ومن أصح ما ورد في هذا: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر الجنب إذا أراد أن يأكل ويشرب وينام أن يتوضأ وضوءه للصلاة (¬1). وهذا أيضًا ليس صريحًا؛ لأنه في حق الجنب، وهذا لمعنى آخر، فهو لتخفيف الجنابة لا لغسل اليدين، ولما سئل شيخنا ابن باز - رحمه الله -: هل يؤخذ من هذا الحديث غسل اليدين للطعام؟ قال: لا، هذا لأجل الجنابة. أما غسل اليد بعد الطعام فهو مشروع، وقد روى البخاري من حديث جابر - رضي الله عنه -، قال: كنا إذا طعمنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن لنا مناديل إلا أكفنا وسواعدنا. ¬

(¬1) أخرجه مالك (رقم: 151)، وعبد الرزاق (رقم: 1074)، والبخاري (رقم: 285)، ومسلم (رقم: 306)، والترمذي (رقم: 120)، والنسائي (رقم: 259).

فصل ويستحب تحويل غسل اليد من الزهام

(المتن) فَصْلٌ ويُسْتَحَبُّ تَحْوِيْلُ غَسْلِ اليَدِ مِنَ الزُّهَامِ، وَعِنْدَ النَّوْمِ أَشَدُّ اِسْتِحْبَابًا، فَقَدْ وَرَدَ التَّحْذِيْرُ مِنْهُ مِنْ أَجْلِ الهَوَامِّ. وَيُكْرَهُ لِمَنْ أَرَادَ الْمَسَاجِدَ لِلصَّلَاةِ، وَالاعتِكَافِ، أَنْ يَتَعَرَّضَ لِأَكْلِ الخَبَائِثِ مِنَ البُقُوْلِ، كَالبَصَلِ، وَالثُّوْمِ، وَالكُرَّاثِ، فَقَدْ نَهَى النَبَيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ قُرْبَانِ الْمَسْجِدِ مَعَهُ. وَيُسْتَحَبُّ الإِجَابَةُ إِلَى وَلِيْمَةِ العُرْسِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَجِيْبَ إِلَى وَلِيْمَةِ الخِتَانِ؛ فَإِنَّهَا مُحْدَثَةٌ. وَإِذَا حَضَرَ وَلَيْمَةَ العُرْسِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ الأَكْلُ، بَلْ إِنْ أَكَلَ وَإِلَّا دَعَا وَانْصَرَفَ، وَإِنَّمَا يُسْتَحَبُّ الإِجَابَةُ إِلَيْهَا؛ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيْهَا لَعِبٌ وَلَا مُنْكَرٌ وَلَا لَهْوٌ، فَإِنْ كَانَ فِيْهَا مُحَرَّمٌ حَرُمَتِ الإِجَابَةُ، وَإِنْ كَانَ فِيْهَا مَكْرُوْهٌ كُرِهَتِ الإِجَابَةُ. وَيُكْرَهُ لِأَهْلِ المُرُوْءَاتِ وَالفَضَائِلِ التَسَرُّعُ إِلَى إِجَابَةِ الطَّعَامِ، وَالتَسَامُحُ، وَحُضُوْرُ الوَلَائِمِ غَيْرِ الشَّرْعِيَّةِ؛ فَإِنَّهُ يُوْرِثُ دَنَاءَةً وَإِسْقَاطَ الهَيْبَةِ مِنْ صُدُوْرِ النَّاسِ. وَيُسْتَحَبُّ لِلْمُسْلِمِ عِيَادَةُ أَخِيْهِ المُسْلِمِ، وَحُضُوْرُ جَنَازَتِهِ إِذَا مَاتَ، وَتَعْزِيَةُ أَهْلِهِ. . وَلَا بَأْسَ بِعِيَادَةِ الذِّمِّيِّ، فَقَدْ عَادَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَهُوْدِيًّا، وَقَالَ: «كَيْفَ تَجِدُكَ يَا يَهُوْدِي». (الشرح) غسل اليد بعد الطعام لا شك في مشروعيته؛ كأن يكون في هذا الطعام زهومة سواء نام أو لم ينم، وعند النوم أشد، لحديث رواه الإمام أحمد والترمذي وابن حبان من طريق الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من بات وفي يده غَمَر فأصابه شيء فلا يلومن إلا نفسه».

وهذا الحديث في إسناده اختلاف كثير واضطراب، وهو يدل على التحذير من كون الإنسان ينام وفي يده دسومة طعام. والإنسان قد ينام ويكون في يده من بقايا الأكل، فربما أتت دابة وحسبت أن هذا طعامًا أو لحمًا فنهشته، فأصابه إما مرض، أو سمّته فمات. وهذا عام في وجود جزء من الزهومة على الجسم، سواء في اليد أو في الرجل، أو رائحة البدن فإنه يتأكد عند النوم تنظيف البدن. قوله: (ويكره لمن أراد المساجد للصلاة أو الاعتكاف أن يتعرض لأكل الخبائث من البقول؛ كالبصل والثوم والكراث، فقد نهى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - عن قربان المسجد معه). هذا يتعلق بآداب الحضور إلى المساجد، وقد جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من غير وجه من حديث جابر وحديث أنس وحديث ابن عمر، أنه قال: «من أكل ثومًا فلا يقربن المساجد» (¬1). وفي سياق حديث جابر عند مسلم: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أكل البصل والكراث، فغلبتنا الحاجة فأكلنا منها، فقال: «من أكل من هذه الشجرة المنتنة فلا يقربن مسجدنا» (¬2). وسميت هذه خبائث؛ لأنها طعام دنيء، وأيضًا لرائحتها، وقد يسمى الشيء الحلال خبيثًا باعتبار دناءته أو رائحته. ¬

(¬1) حديث جابر - رضي الله عنه -: أخرجه أحمد (رقم: 15334)، والبخاري (رقم: 817)، ومسلم (رقم: 564)، وأبو داود (رقم: 3822)، والنسائي (رقم: 6679)، وابن خزيمة (رقم: 1664). (¬2) أخرجه مسلم (رقم: 563).

والحكمة واضحة في النهي عن دخول المساجد لمن أكل بصلاً أو ثومًا أو كراثًا، والمراد مع بقاء الرائحة؛ لأن هذا النهي معلل بعلتين: أذية المؤمنين، وأذية الملائكة. وألحق أهل العلم كل ما له رائحة تؤذي المصلين، سواءً كان هذا المطعوم أو المشروب حلالاً أو حرامًا، وإن كان حرامًا فهو أشد وأخبث، فألحقوا السمّاك الذي يبيع السمك أو يصطاده، فإن رائحة السمك شديدة، وقد لا تخرج من الإنسان بسهولة، وفي الأعصار المتأخرة صاحب الدخان، وهو شارب التبغ، من أجل الرائحة الخبيثة التي تفوح من فيه، مع أن الدخان محرم، وتحريمه ظاهر، ومفاسده كثيرة، وعلى هذا يحرم دخول المسجد لمن فيه رائحة منتنة من بصل، أو ثوم، أو كراث، أو دخان، أو عرق، أو بخر شديد يظهر أثناء الكلام، أو اتساخ ملابس برائحة مطعوم أو مشروب أو غير ذلك لحصول الأذية للمسلمين والملائكة. ولكن هل يكتب له أجر الجماعة؟ قال بعض أهل العلم: إن كان عادته حضور الجماعة فإنه يكتب له أجر صلاة الجماعة؛ لأنه تأخر عن حضور صلاة الجماعة بسبب إعذار ومسامحة من الشارع، بل الشارع هو الذي نهاه. وسألت شيخنا ابن باز - رحمه الله - عن ملائكة البيوت وأن الإنسان قد يأكل ويصلي في البيت؟ فقال: ملائكة البيوت لا حيلة في ذلك، والمراد في الحديث ملائكة المسجد. قوله: (ويستحب الإجابة إلى وليمة العرس، وليس له أن يستجيب إلى وليمة الختان؛ فإنها محدثة).

قرر المؤلف أن إجابة وليمة العرس مستحبة، وفي هذا نظر، فقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من غير وجه من حديث ابن عمر وحديث جابر وغيرهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا دعي أحدكم إلى وليمة فليجب، ومن لم يجب فقد عصى الله ورسوله» (¬1)، وهذا صريح في الوجوب. وقد اختلف العلماء في دعوة الوليمة، هل هي عامة لكل فرح أم هي خاصة بطعام العرس؟ الصحيح أن الوليمة المراد بها دعوة النكاح والعرس، ولاشك أن الفرح بها والدعوة إليها لا يشاكل غيرها، وقد تكلم الناس في أسماء الأفراح والولائم فسموا الوليمة عند تمام البناء بالوكيرة، والنقيعة عند القدوم من السفر؛ وفي حديث جابر - رضي الله عنه - عند البخاري: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما قدم المدينة نحر جزورًا أو بقرةً. وأما في إجابة الدعوة لوليمة العرس فالصحيح أنها واجبة وأما ما سواها فاختلف أهل العلم في ذلك، والصحيح كما أسلفنا أن الوجوب معلق بوليمة النكاح للفرق بينها وبين غيرها. والحضور إلى وليمة العرس واجب إلا أنه يسقط بأسباب، كمشقة حضور، أو ¬

(¬1) أخرجه مالك (رقم: 1137)، وأحمد (رقم: 4712 و 4730)، والبخاري (رقم: 4878)، ومسلم (رقم: 1429)، وأبو داود (رقم: 3736)، والنسائي (رقم: 6608)، وابن ماجه (رقم: 1914) من حديث ابن عمر.

مسقطات الدعوة

عجز، أو ما أشبه ذلك من الموانع المعتبرة، وأيضًا يسقط عنه إذا أذن صاحب الدعوة؛ لأن الحق له. ومن مسقطات الدعوة: وجود منكر فيها لا يستطيع إنكاره، فإذا كان المدعو يستطيع إنكاره فيجب الحضور والإنكار؛ لأن في حضوره حينئذٍ مصلحتين: المصلحة الأولى: إجابة الدعوة. والمصلحة الثانية: إزالة المنكر. بل يتأكد على من علم أن في الوليمة الفلانية منكرًا وهو أحد المدعويين فعليه أن يحضر وينكر، فإن لم يستطع الإنكار أو علم مسبقًا أنه لا يستطيع فإنه لا يجوز له الحضور. قال: (وليس له أن يستجيب إلى وليمة الختان فإنها محدثة). وليمة الختان لم تكن في عهد النبي عليه الصلاة والسلام، ولا في عهد الصحابة، والصحيح أن الوليمة لها مباحة، لحصول القيام بواجب الختان ولسلامة الولد وهي ليست بسنة ولا بدعة، كوليمة نهاية البناء، على أن في المسألة تفصيلاً ليس هذا مكانه. ومما ينبغي التنبه له الحرص على تآلف القلوب، والحذر الشديد من زوال ذلك كأن يحصل منه حين الدعوة لهذه الوليمة، أن يقول: إنها بدعة وليست بسنة، وكان الأولى حين الامتناع أن يرد بلطف. وأيضًا على الطرف الآخر قبول العذر؛ لأن مثل هذه الولائم مباحة فكيف يكون التثريب عليه بعدم الحضور مع العلم أنها ليست واجبة.

مسألة

مسألة: اختُلف في رقص النساء للزواج، فمنهم من منعه، وكان شيخنا ابن عثيمين - رحمه الله تعالى - يشدد فيه، ويقول: يبلغني عنه مفاسد، منها أن بعض النساء يسقط في أثناء الرقص، ومنها أن بعضهن يفتن بعضًا، بحركاتها ولعبها، ومنها أن فيه إظهارًا لبعض المفاتن - كأن يكون اللباس غير كاسٍ. وسئل شيخنا ابن باز - رحمه الله تعالى - فقال: جائز، إن لم يكن فيه مضرة وهذا هو الصحيح. قوله: (إذا لم يكن فيها لعب. . . الإجابة). هذا عام فالمنكر بكل صوره حرام، وأما اللهو: فقد يكون منه ما هو مباح، فينبغي مراعاة المصلحة، وأما الولائم غير الشرعية فتحرم، ومن القدوة أشد؛ لأنه قد يكون فيها شيء من التغرير. ومن هنا كره بعض أهل العلم، الإتيان إلى الوليمة من غير دعوة؛ لأنه أكل طعامًا وحصل منه إتلافه من غير دعوة فهذا نوع من الغصب، وقد ذكر أهل العلم - رحمهم الله تعالى - أن الطفيلي في حكم السارق، وجاء فيه أخبار منها: «من جاء من غير دعوة دخل سارقًا وخرج مغيرًا» (¬1). والحضور من غير دعوة قد ينبئ عن دناءة النفس وصغرها. قوله: (وَيُكْرَهُ لِأَهْلِ المُرُوْءَاتِ. . . الناس). ¬

(¬1) أخرجه أبو داود (رقم: 3741)، والبيهقي (رقم: 13190).

نعم هو كذلك، وليس هذا تكبرًا وجفاءً، بل هو لحفظ المروءة وترك ما يسقطها، وأهل المروءات والفضائل إنما يسارعون إلى الفضائل من السخاء والجود وبذل العلم والإعانة في النوائب وهم لهم شأن ومن سواهم له شأن فافهم. قوله: (ويستحب للمسلم عيادة. . . يا يهودي). لاشك في استحباب هذه الأمور، واختلف أهل العلم في عيادة المسلم، ولعل خلافهم في المسلم المعين، واحتج من قال بوجوب عيادة المسلم بأدلة منها ما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «حق المسلم على المسلم ست. . .، ومنها: إذا مرض فعده»، وفي لفظ: «خمس تجب للمسلم على أخيه. . .» (¬1) الحديث. والأشبه أنها واجبة ولكن بشروط، أولها ألا يكون هناك مشقة، وأن يكون هذا المسلم معيّنًا؛ لأن مرضى المسلمين لا حصر لهم، والمشقة تجلب التيسير، وواجبات الشريعة تسقط بالعجز، فقد تكون من الواجبات الكفائية، وعلى ذلك يبدأ بالأقرب فالأقرب. وهذا الأرجح لما فيها من الخبر العائد على المريض من حسن الظن بالله والتنفيس له بالأجل. وقول المؤلف: (وتعزية أهله. . .). والتعزية هي التصبير، فتقول: عزّى فلان فلانًا، أي صبره، وعلى هذا المعنى تكون ¬

(¬1) أخرجه أحمد (رقم: 10979)، والبخاري (رقم: 1183)، ومسلم (رقم: 2162)، وأبو داود (رقم: 5030)، والنسائي (رقم: 10049)، وابن حبان (رقم: 241).

التعزية للمسلم والكافر، وهي مستحبة على الأرجح. قوله: (ولا بأس بعيادة الذمي؛ فقد عاد النبي - صلى الله عليه وسلم - ذمّيًا، وقال: «كيف تجدك يا يهودي» (¬1)؟ واحتج أهل العلم بهذا وغيره على جواز عيادة المشرك، سواءً كان ذمّيًا أو غيره، وقد عاد - صلى الله عليه وسلم - عمّه أبا طالب، وهو في السياق - يعني سياق الموت - فقال له: «يا عمّاه، قل لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله» فأبى، وقال له صناديد الكفر: أترغب عن ملّة عبد المطلب؟ فذهبت روحه وهو يقول: على ملّة عبد المطلب (¬2). - والعياذ بالله - ويشترط في عيادة الكافر ألا يكون هذا الكافر المريض حربيًا. والسنة في عيادة المسلم أن يقال له: لا بأس، طهور إن شاء الله. ¬

(¬1) ليس موجودا بهذا اللفظ ولكن معناه ثابت من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وقوله. (¬2) أخرجه البخاري (رقم: 3671)، ومسلم (رقم: 24).

فصل والغيبة حرام في حق من لم ينكشف بالمعاصي والقبائح

(المتن) فَصْلٌ وَالغِيْبَةُ حَرَامٌ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَنْكَشِفْ بِالمَعَاصِي وَالقَبَائِحِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا) (¬1). وَمَنْ ذَكَرَ فِيْ فَاسِقٍ مَا فِيْهِ لِيُحْذَرَ مِنْهُ، أَوْ سَأَلَ عَنْهُ مَنْ يُرِيْدُ تَزْوِيْجَهُ أَوْ شَرِكَتُهُ أَوْ مُعَامِلَتُهُ، لَمْ يَكُنْ مُغْتَابًا لَهُ، وَلَا عَلَيْهِ إِثْمُ الغِيْبَةِ، وَلَهُ ثَوَابُ النَّصِيْحَةِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «قُوْلُوْا فِيْ الفَاسِقِ مَا فِيْهِ يَحْذَرْهُ النَّاسُ». وَلَا يُظَنُّ بِعُمَرَ - رضي الله عنه - أَنَّهُ أَقْدَمَ عَلَى مَا هُوَ غِيْبَةٌ؛ عِنْدَ نَصِّهِ عَلَى السِّتَّةِ، وَجَعْلِ الشُّوْرَى فِيْهِم، وَذِكْرِ عَيْبِ كُلِّ وَاحِدٍ، بَلْ قَصَدَ بِذَلَكَ النُّصْحَ للهِ وَلِرَسُوْلِهِ وَلِأَهْلِ الإِسْلِامِ. (الشرح) قوله: (والغيبة حرام). أجمع العلماء على تحريم الغيبة، ودل على تحريمها النص والإجماع، فأما النص فما نقل المؤلف من آية الحجرات صدر الآية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ). ونقل بعض العلماء الإجماع على تحريمها، فقال بعضهم: إنها من الصغائر، ونقل القرطبي وغيره: أنها من الكبائر، والصحيح أنها من الكبائر (¬2). ¬

(¬1) الحجرات: 12. (¬2) انظر: الجامع لأحكام القرآن (5/ 6157)، والإحياء (4/ 42)، والنووي في روضة الطالبين (11/ 224)، وفتح الباري (10/ 470).

وأما حد الغيبة فأحسن من حدَّها هو النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد أخرج الإمام مسلم في صحيحه، وهو من مفاريده من طريق العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب الحرقي، عن أبيه، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أتدرون ما الغيبة»؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: «ذكرك أخاك بما يكره» قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: «إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهته». ولا غيبة لمجهول؛ لأن «ذكرك» تفيد التعيين. والكافر ليس أخا للمسلم، غير أنه ليس معنى هذا أن الإنسان يُغتاب ويُتكلم فيه، فيقيد بالحاجة والمصلحة؛ وإلا هو غير داخل في تعريف الغيبة. ولا شك أن غيبة العالم الورع ليست مثل غيبة آحاد الناس. وقوله: «بما يكره» فكل شيء يكرهه الآدمي لا يحل أن يتكلم فيه في حال غيبته. قوله: (ومن ذكر في فاسق ما فيه ليحذر منه أو سأل عنه من يريد تزويجه أو شريكته أو معاملته لم يكن مغتاب له ولا عليه آثم الغيبة، وله ثواب النصيحة، لقوله النبي - صلى الله عليه وسلم -: «قولوا في الفاسق ما فيه يحذره الناس»). والغيبة كبيرة، غير أنها قد تباح، ومن أهل العلم من حدّ هذه الأسباب، ومنهم من وضع قيدًا لحِل الغيبة، فمن وضع قيدًا لحِل الغيبة، قال: تباح الغيبة لكل غرض صحيح شرعًا حيث يتعين طريقًا للوصول إليه بها (¬1). ¬

(¬1) فتح الباري لابن حجر (10/ 472).

ذكر المؤلف صورًا مما تحل فيه الغيبة وقد نظمها بعضهم وذكر فيها: الذّمُّ ليس بغيبة في ستة ... متظلم ومعرف ومحذر ولمظهر فسقًا ومستفتٍ ومن ... طلب الإعانة في إزالة منكر وقوله: الذم يعني الغيبة. قوله: (ومن طلب الإعانة في إزالة منكر). كذا من طلب الإعانة في إزالة منكر فدعا غيره لزوال منكر واستعان بهم ولا يستطيع إزالته بنفسه؛ كأن يكون الواقعون على المنكر جماعة فحينئذ لا بأس بذكر المنكر ومن يقوم به ولا غيبة لهم. قول المؤلف قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «قولوا في الفاسق ما فيه ليحذره الناس» (¬1). لا يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بل هو خبر باطل. ولكن دلت الأحاديث على مقتضاه كما في صحيح مسلم، وذكره البخاري في ترجمة باب حديث أبي رقية ولمسلم من حديث أبي رقية تميم بن أوس الداري عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ¬

(¬1) ليس موجودا بهذا اللفظ، وجاء بلفظ مقارب له عند الطبراني (رقم: 1010)، والبيهقي في السنن (رقم: 21442)، وفي الشعب الإيمان (رقم: 9667) وغيرهم: عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال: قال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أترعون عن ذكر الفاجر اذكروه بما فيه يعرفه الناس».

«الدين النصيحة، قلن لمن يا رسول الله، قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم». قوله: (ولا يظن بعمر - رضي الله عنه - أنه أقدم على ما هو غيبة عند نصه على الستة الشورى فيهم، من ذكر عيب كل واحد، بل قصد بذلك النصح لله ولرسوله ولأهل الإسلام). لا أدري ما هو مراد المؤلف هل ذكر عمر كل واحد فيهم؟ ولا أعلم أن عمرًا - رضي الله عنه -، نص على هؤلاء الستة وذكر عيب كل واحد منهم، وفي خبر الصحيح بل هو خير لهم، وتزكية لهم، حينما نص عليهم، ولعله أراد هذا الخبر الذي عزاه صاحب الكنز (رقم: 14255) إلى ابن سعد، وفيه نظر من حيث الصحة أما من حيث المعنى فتقدم ما يدل على جواز مثل هذا، بل في هذا الحالة يجب نصحًا للمسلمين والله المستعان.

فصل فصارت الغيبة

(المتن) فَصْلٌ فَصَارَتِ الغِيْبَةُ: مَا يُذْكَرُ مِنَ النَّقْصِ وَالعَيْبِ؛ لَا يُقْصَدُ بِهِ إِلَّا الإِزْرَاءَ عَلَى المَذْكُوْرِ، وَالطَّعْنَ فِيْهِ. وَيُسْتَحَبُّ ضَبْطُ الأَلْسِنَةِ وَحِفْظُهَا، وَالإِقْلَالُ مِنَ الكَلَامِ إِلَّا فِيْمَا يَعْنِي، وَلَا بُدَّ مِنْهُ. وَأَفْضَلُ مِنَ الصَّمْتِ إِجْرَاءُ الأَلْسِنَةِ بِمَا فِيْهِ النَّفْعُ لِغَيْرِهِ، وَالانْتَفَاعُ لِنَفْسِهِ مِثْلُ قِرَاءَةِ القُرْآنَ، وَتَدْرِيْسِ العِلْمِ، وَذِكْرِ اللهِ تَعَالَى، وَالأَمْرِ بِالمَعْرُوْفِ، وَالنَّهْيِ عَنِ المُنْكَرِ، وَالإِصْلَاحِ بَيْنَ النَّاسِ. (الشرح) فإذا قصد الإزراء والطعن لا شك أنه آثم، وإذا لم يقصد الإزراء ولا الطعن وإنما ذكر مطلق القول فإنه آثم إذا لم تكن من الصور التي مرت معنا، ولهذا التعريف الذي سبق بيانه في ضابط إباحة الغيبة جامع مانع، وهو: إباحته في كل غرض صحيح شرعًا لا يمكن الوصول إليه إلا بها. فلو جلس مجموعة من طلاب العلم وأخذوا يتندرون ببعض الرواة الضعفاء دون الحاجة إلى جرحهم في دراسة إسناد أو غيره، فلان كذا، وأنت مثل فلان فهذا لا يحل. فتباح الغيبة بقدر الحاجة؛ لأن أعراض المسلمين حرام، ولهذا يقول ابن دقيق العيد في الاقتراح: "أعراض المسلمين حفرة من حفر النار، وقف على شفيرها المحدثون والحكام" (¬1). ¬

(¬1) الاقتراح 344.

قوله (ويستحب ضبط الألسنة. . . والإصلاح بين الناس). يجمع هذا الذي ذكره المؤلف قوله تعالى في سورة النساء: (لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) (¬1). في هذه الآية من الفوائد: أن الأعمال المتعدية بمجرد فعلها يؤجر عليها الإنسان، حتى لو لم ينو، لقوله تعالى: (لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ)، أي أن هذه الخصال فيها خير ثم قال: (وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا). فالأجر حاصل والخيرية حاصلة بمطلق القول، حتى لو ضعفت النية فإذا تضمن ابتغاء وجه الله كان الأجر أعظم، وهذه قاعدة في كل عمل متعد فافهم هذا فإنه عزيز. كما في حديث عبد الله بن يزيد الأنصاري عن أبي مسعود الأنصاري البدري في الصحيحين: «إذا أنفق المسلم نفقة على أهله وهو يحتسبها كانت له صدقة» (¬2). فالكلام على مراتب ثلاث: المرتبة الأولى: كلام في واجب أو مستحب، وهو أفضلها، من تعليم العلم وقراءة القران والإقراء والتدريس والإفتاء والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وما أشبه ذلك، ¬

(¬1) النساء: 114. (¬2) أخرجه أحمد (رقم: 17123)، والبخاري (رقم: 5036)، ومسلم (رقم: 1002)، والنسائي (رقم: 2325).

وهذا هو صنيع الموفقين من عباد الله من العلماء والأخيار ممن أراد الله رحمتهم. المرتبة الثانية: الصمت، ولا شك أن الصمت خير من قول السوء، وأما صمت الإنسان عن قول الحق إذا تعين عليه فمحرم. المرتبة الثالثة: كلام في محرم أو مكروه. وبعض الناس يتحفظ في كلامه إذا دخل مكة، وإذا دخل في إحرام تحفظ، وإذا جاء رمضان مثلاً، أو العشر الأواخر تحفظ، أو في الأشهر الحرم، وكذا إذا جاء في بقعة فاضلة؛ لأنه يخشى أن يؤخذ بفلتات لسانه، وكم من أسير ومحبوس في النار بسبب هذا فرحماك ربي رحماك.

فصل ولبس الحرير محرم على الرجال

(المتن) فَصْلٌ وَلُبْسُ الحَرِيْرِ مُحَرَّمٌ عَلَى الرِّجَالِ، مُبَاحٌ لِلنِّسَاءِ، وَكَذَلِكَ التَحَلِّيْ بِالذَّهَبِ حَتَى الخَاتَمِ، وَلَو بِقَدْرِ عَيْنِ الجَرَادَةِ. . وَلَا يُكْرَهُ لُبْسُ الخَزِّ الَّذِي يَشُوْبُهُ الوَبَرُ؛ وَكَذَلِكَ القَبَاطِيُّ الَّذِيْ يَكُوْنُ القُطْنُ فِيْهِ أَكْثَرَ مِنَ القَزِّ. وَلَا يَجُوْزُ جَعْلُ الصُّوَرِ فِي الثِيَابِ، وَلَا المَفَارِشِ وَالسُّتُوْرِ، وَهُوَ مَا كَانَ عَلَى صُوْرَةِ حَيَوَانٍ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لَا تَدْخُلُ المَلَائِكَةُ بَيْتًا فِيْهِ صُوْرَة». وَالاخْتِيَارُ: التَخَتُّمُ فِي اليَسَارِ، وَإِنْ تَخَتَّمَ فِي اليَمِيْنِ فَلَا بَأْس. . وَلَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَجُرَّ ثَوْبَهُ خُيَلَاءً وَبَطَرًا. . وَدُخُوْلُ الحَمَّامِ جَائِزٌ لِلرِّجَالِ بِالمَيَازِرِ السَّاتِرَةِ، وَيُكْرَهُ لِلنِّسَاءِ؛ إِلَّا مِنْ عِلَّةٍ وَحَاجَةٍ. وَلَا بَأْسَ بِالخِضَابِ بِالحِنَّاءِ، وَهُوَ يُسْتَحَبُّ، وَكَذَلِكَ الكَتَمُ، وَيُكْرَهُ بِالسَّوَادِ. وَلَا يَجُوْزُ أَنْ يَخْلُوَ الرَّجُلُ بِامْرَأَةٍ لَيْسَتْ لَهُ بِمَحْرَمٍ. . وَلَا يَجْتَمِعُ رَجُلَانِ وَلَا امْرَأَتَانِ عَرْيَانَيْنِ، فِي فِرَاشٍ وَاحِدٍ، وَلَا إِزَارٍ وَاحِدٍ. . وَلَا يَجُوْزُ تَعَمُّدُ حُضُوْرِ اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ، وَلَا شَيءٌ مِنَ المَلَاهِي المُطْرِبَةِ، كَالطَّبْلِ وَالزَّمْرِ، وَخُصَّ مِنْ ذَلِكَ الدُّفُ لِلنِّكَاحِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «أَعْلِنُوا النِّكَاحَ، وَاضْرِبُوْا عَلَيْهِ بِالدُّفِّ». وَلَا بَأْسَ بِالرُّقْيَةِ بِأَسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى، وَكَذَلِكَ التَعْوِيْذُ بِهِ. (الشرح) اتفق العلماء - رحمهم الله - على تحريم أن يلبس الرجل الحرير، وأن يجلس عليه، وأن

يلتحف به، أو أن يقعد عليه في حال الاختيار والسعة، والأدلة في ذلك كثيرة: منها حديث البراء - رضي الله عنه - المتفق عليه، قال: أمرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - بسبع، ونهانا عن سبع: ومنها: - خاتم الذهب ولبس الحرير. وكذلك ما أخرجه البخاري عن حذيفة - رضي الله عنه -، قال: «نهانا النبي - صلى الله عليه وسلم - أن نشرب في آنية الذهب والفضة وأن نأكل فيها وعن لبس الحرير والديباج وأن نجلس عليه». وكذلك في حديث عمر المتفق عليه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: «لا تلبسوا الحرير فإن من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة». أما في حال الحرج؛ كأن لا يجد ما يستر عورته إلا ثوب حرير فيجب أن يستر عورته به، وكذلك إذا كان به حكة ومشقة في لبس غيره، فلا بأس، وقد رخص النبي - صلى الله عليه وسلم - للزبير وعبد الرحمن بن عوف في لبس الحرير، لحكة كانت بهما. وأما لباس الذهب؛ كخاتم الذهب على الرجال، ففيه خلاف قديم، وجمهور أهل العلم على تحريم لبس الخاتم من الذهب على الرجال، وقد نُقلت الإباحة عن بعض الصحابة؛ ولكن الصحيح أنه محرم. والحكمة في تحريم الذهب والحرير على الرجال ظاهرة، ففيه سرف وتشبه بالنساء، وفيه كذلك التخنث والنعومة والليونة المنافية لشهامة الرجل وخشونته. قوله: (حتى الخاتم ولو بقدر عين الجرادة). الخلاصة أن الخاتم من الذهب لا يحل للرجال، ويجوز من لباس الحرير على الرجال

ما كان فيه أربعة أصابع في أربعة أصابع فما دون فقد رخص النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يكون في ثوب الحرير الأصبع والأصبعين والثلاثة والأربعة، يعني مجموع ما يكون في الثوب من الحرير أربعة أصابع في أربعة، يعني لو جمع لكان مجموعها أربعة في أربعة فهذا يجوز. قوله: (ولا يجوز جعل الصور في الثياب ولا في المفارش والستور وهو ما كان على صورة الحيوان لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تدخل الملائكة بيتًا فيه صورة» (¬1). المراد بالصورة هنا صورة الوجوه، والصورة إذا أطلقت في اللفظ فالمراد بها صورة الوجه. والمراد به الوجه والرأس جميعًا، ومما يدل على أن الصورة هي الوجه ما أخرجه النسائي بسند قوي من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - في قصة جبرائيل حينما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالتمثال بأن يقطع ويجعل كهيئة الشجرة (¬2). فإذا زال الوجه والرأس زال الحكم. وقوله: (لا يجوز جعل الصور في الثياب). أي: الملبوسة، ولا المفارش الموطوءة، ولا الستور المعلقة، وهو ما كان على صورة حيوان. ¬

(¬1) أخرجه أحمد (رقم: 16389)، والبخاري (رقم: 3054 و 5613)، ومسلم (رقم: 2106)، وأبو داود (رقم: 227 و 4154)، والنسائي (رقم: 5350)، وابن حبان (رقم: 5850)، والبيهقي (رقم: 14360). (¬2) الحديث أخرجه أحمد (رقم: 8032)، وأبو داود (رقم: 4160)، والترمذي (رقم: 2806) وقال: حسن صحيح، والنسائي (رقم: 5365)، والبيهقي (رقم: 14353).

واحتج بما ثبت في الصحيحين من غير وجه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: «لا تدخل الملائكة بيتًا فيه صورة»، وهذا يشمل الصورة المنحوتة، والصورة المعلقة. واتفق العلماء على تحريم الصور المنحوتة، وهو أصل شرك العالم، وشرك قوم نوح، وأجمعوا أيضًا على تحريم الصورة المرقومة، وهي المرسومة باليد؛ إلا ما روي عن القاسم بن محمد. وإذا امتهنت زال حكمها؛ لأنه يخشى من أن تكون وسيلة للغلو فيها وتعظيمها لاسيما صور المعظمين من الملوك والعلماء. وعليه فتكون الصور الآن الموجودة في الألبومات وما يحتفظ به لأجل الذكرى محرمة على القول الراجح. أما الصور التي للضرورة، كصور بطاقة الأحوال، وجواز السفر، فهذه للضرورة، وتكون بقدر الحاجة أيضًا، والصحيح أنه يدخل فيها الصور التي للحاجة، كالصور التي تفرض على العاملين في بعض المنشآت، فإن هذه قد تكون حاجة وليست ضرورة، لكن الصحيح جوازها أيضًا. ولكن ينبغي عدم إظهارها في الصلاة، وعدم وضعها على النحر مكشوفة، إلا عند الرؤية والمعاينة للتأكد من الشخصية. قوله: (والاختيار التختم باليسار، وإن تختم في اليمين فلا بأس). الذي يظهر لي أنه يكون في اليمين أكثر، وإن تختم باليسار أحيانًا فلا بأس.

والإسبال على قسمين

قوله: (ولا يحل لأحد أن يجر ثوبه خيلاءً وبطرًا). هذا الحكم مما يختص به الرجال. والإسبال: هو إرخاء الرجل لباسه تحت الكعب، فقولنا: "لباسه" يشمل السراويل والأزر والثياب والعمائم والمشالح وغيرها. اتفق العلماء على تحريم الإسبال، إذا كان للخيلاء وللعجب وللكبر، بل عدّوه من كبائر الذنوب، فهذه المسألة لا خلاف فيها، وحججهم ظاهرة: «من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة» أخرجه البخاري من حديث ابن عمر. والإسبال على قسمين: القسم الأول: الإسبال بخيلاء فيستحق الوعيد بعدم نظر الله إليه، وهو كبيرة مغلظة. القسم الثاني: الإسبال بغير خيلاء فهذا متوعد عليه بالنار، وهو كبيرة. مسألة: يجوز الإسبال في صور: الصورة الأولى: لستر جرح يتأذى بالذباب ونحوه، كما لو كان هذا الجرح على كعبه أو تحته، فيكون هذا من باب دفع الضرر. الصورة الثانية: يجوز أن يكون مسبلاً إذا انحنى الإنسان ونزل الثوب تحت الكعب - حال نزوله - فلا بأس؛ لأن هذا إسبال عارض، ومن أهل العلم من رخص في الإسبال عند الحرب، ولم أقف على دليل لهؤلاء.

قول المؤلف: (ودخول الحمام جائز للرجال في الميازر الساترة ويكره للنساء إلا من علة وحاجة). والأحاديث الواردة في الحمام فيها كلام. واختلف العلماء في دخول الحمام على أقوال، وأصح الأقوال في هذه المسألة القول بالإباحة مطلقًا، ولكن بشروط، وهذا الذي صححه ابن كثير في كتابه الآنف الذكر. وشروط جوازه: 1 - أن يكون دخوله لحاجة، كإزالة وسخ أو غسل حيض أو جنابة أو غسل مستحب، كجمعة وعيد. 2 - أن يكون مستور العورة. 3 - أن يكن النساء في الخروج إليه متسترات، غير متبرجات. 4 - أن لا يعهد في الحمام كشف العورات ولا وجود منكرات. 5 - أن يحفظ بصره عن عورات الناس. 6 - أن تكون حمامات الرجال مفصولة عن حمامات النساء. قوله: (ولا بأس بالخضاب بالحناء، وهو يستحب وكذلك الكتم، ويكره بالسواد). الخضاب: تغيير الشعر بشيء، إما بحناء، أو حناء وكتم، أو بصفرة، أو بسواد، واختلف العلماء - رحمهم الله - في الخضاب بغير السواد للشيب على أقوال:

الأول: أنه مسنون، وهذا المشهور من مذهب الجمهور عند الحنفية والشافعية والحنابلة. الثاني: أنه مباح، وهذا ظاهر مذهب المالكية. الثالث: أنه لا يسن تغيير الشيب. الرابع: أن خضاب الشيب واجب. وقد أدركنا جماعة من شيوخنا فمنهم من يصبغ ومنهم من يترك، وسئل شيخنا ابن عثيمين - رحمه الله - عن تركه الصبغ، فقال: له كلفة ويشق علي. وكذلك شيخه ابن سعدي - رحمه الله - لا يصبغ، وأما شيخنا ابن باز - رحمه الله - فهو وإن كان خفيف شعر اللحية فإنه كان يصبغ وقد يبطئ رحمه الله في صبغه فتبيض لحيته، وسمعته يقول إن من أدلة عدم وجوب الصبغ أن الصحابة قد يتأخرون في الصبغ. قوله: (ويكره بالسواد). ومن المسائل المهمة الخلاف في الخضاب بالسواد. أقول: الذي يتحرر لي أن ما وقع في مسلم من لفظه: «وجنبوه السواد» غير محفوظ، وأن أبا الزبير اضطرب فيها، وأحسن المذاهب عندي في هذه المسألة ما ذهب إليه الزهري، وهو إباحته للشباب ومن في وجوههم ماء الشباب وكراهته للشيوخ الذين ظهر عليهم الكِبَرُ.

قوله: (ولا يجوز أن يخلو الرجل بامرأة ليست له بمحرم). لحديث ابن عباس - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: «لا يخلون رجل بامرأة إلا مع ذي محرم» والحديث متفق عليه، وفي حديث عمر في سنن الترمذي وغيره وقال عنه: حديث حسن صحيح: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: «ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما» (¬1)، وهذا من باب تحريم الوسائل؛ لأن الخلوة بالمرأة وسيلة إلى وقوع الفجور بها، وهذا أيضًا يكون من الذرائع. قوله: ولا يجتمع رجلان ولا امرأتان عريانين في فراش واحد، ولا إزار واحد. ولا يجوز تعمد حضور اللهو واللعب، ولا شيء من الملاهي المطربة كالطبل، والزمر، وخُصّ بذلك الدف للنكاح؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أعلنوا النكاح واضربوا عليه بالدف» (¬2). لما نهى عن اجتماع الرجل بالمرأة الأجنبية أتى بما هو أخص من ذلك من اجتماع الرجلين في فراش واحد، ولا إزار بينهما، أو امرأتان في فراش واحد، أو امرأة ورجل، وهذا الأخير ينقسم إلى قسمين: الأول: امرأة ورجل أجنبي وهذا أظهر من أن يُسأل عنه. ¬

(¬1) أخرجه عبد الرزاق (رقم: 20710)، وأبو داود الطيالسي (رقم: 31)، والشافعي (رقم: 665)، وأحمد (رقم: 177)، وابن حبان (رقم: 5586)، والنسائي (رقم: 9219)، والترمذي (رقم: 2165) وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه، والحاكم (رقم: 387) وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين. (¬2) أخرجه أحمد (رقم: 16175)، قال الهيثمي (4/ 289): رجال أحمد ثقات، والترمذي (3/ 398، رقم 1089) وقال: غريب حسن، وابن ماجه (رقم: 1895)، وابن حبان (رقم: 4066)، والحاكم (رقم: 2748) وقال: صحيح الإسناد، والبيهقي (رقم: 14463)، والضياء (رقم: 263)، والبزار (رقم: 2214).

الثاني: رجل وامرأة من المحارم. وقد أمر الشارع بالتفريق بين الصبية في المضاجع كما في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: «مروا أبناءكم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر وفرقوا بينهم في المضاجع» (¬1). فلا يجتمع رجل ورجل في فراش واحد عريانَين، ولا يلبسان إزارًا واحدًا، فتلتقي بشرتهما، وكذلك لا يجتمع امرأتان عريانتان في فراش واحد، ولا تلبسان إزارًا واحدًا فتلتقي بشرتهما، وأفحش منه التقاء رجل بامرأة، سواءً كانت هذه من المحارم، كأخته أو عمته، أو كانت أجنبية، وهذا الأمر فيه أشد؛ إلا أنه يستثنى من هذا صورة واحدة كما هو معلوم، وهي اجتماع الرجل وأهله في فراش واحد، أو في لحاف واحد، أو في إزار واحد. وهذا كله من سد الوسائل المفضية إلى ما لا تحمد عقباه. وأكمل الصفات أن ينفصل هذا بفراش وهذا بفراش، وهذا بلحاف وهذا بلحاف، وأكمل منه أن يُجعل للنساء والبنات مكان مستقل، وللصبية غرفة مستقلة ينامون فيها، بل هذا متحتم سدًا لباب الفساد. قوله: (ولا يجوز تعمد حضور اللهو واللعب). والملاهي تنقسم إلى قسمين: الأول: ملاهٍ جائزة. والثاني: ملاهٍ ممنوعة. ¬

(¬1) أخرجه أحمد (رقم: 6689 و 6756)، وأبو داود (رقم: 495).

كما في حديث عقبة بن عامر الذي يُروى من غير وجه، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «. . . ليس من اللهو إلا ثلاث: تأديب الرجل فرسه، وملاعبته أهله، ورميه بقوسه ونبله، ومن ترك الرمي بعد ما علمه رغبة عنه فإنها نعمة تركها» أو قال: «كفرها» (¬1). والمراد باللهو هنا: هو كل شيء باطل ذاهب، إلا هذه الثلاثة، ومما جاء فيه اللهو المباح، اللهو بالدف في النكاح، وفي الأعياد كذلك. قوله - رحمه الله -: (ولا شيء من الملاهي المطربة؛ كالطبل، والزمر). يعني هذا ممنوعٌ منه مطلقًا، وخص من ذلك الدف، فدل كلام المؤلف على أن الدف من الملاهي، فالأصل أنه من الملاهي، وهو كذلك، فإن الدف آلة لهو لا شك، هو آلة لهو بالنصوص، لكن جاء استثناؤه في مواضع. استدل المؤلف بهذا الحديث فقد جاء بلفظ: «أعلنوا النكاح» (¬2). فهذا يدل على مشروعية الدف في النكاح، ومشروعية الإعلان، وكان هذا يُفعل في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبحضرة نسائه - صلى الله عليه وسلم -، والدف له وجه واحد، ويسمونه: (الطار)، وهذا يجوز عند جماهير أهل العلم، بخلاف الطبل؛ لأن الطبل له وجهان. مسألة: متى يجوز الدف؟ وما حكم الطبل؟ ¬

(¬1) أخرجه عبد الرزاق (رقم: 21010)، وابن أبي شيبة (رقم: 19779)، وأحمد (رقم: 17375)، وأبو داود (رقم: 2515)، والترمذي (رقم: 1637)، والنسائي (رقم: 3578). (¬2) سبق تخريجه.

ذكرنا أن الدف من الملاهي، والأصل في الملاهي المنع؛ إلا أنه جاء في غير موضع في العهد النبوي، وأقر النبي - صلى الله عليه وسلم - ضربه في غير مكان. اختلف أهل العلم في ضرب الدف، على أقوال: القول الأول: يستخدم في كل فرح حادث؛ كالعيد، والختان، والعرس، وقدوم الغائب، وانتهاء البناء، والولادة، إلى غير ذلك، فكل فرح يحدث للناس فإنه يستخدم فيه الدف، وهذا أوسع الأقوال. القول الثاني: يستخدم في العيد والعرس والختان وقدوم الغائب. القول الثالث: يستخدم في العرس والعيد وقدوم الغائب. وهو مشهور مذهب الحنابلة، واختيار الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله -. القول الرابع: أنه يستخدم في العيد والعرس فحسب، وهو اختيار شيخنا ابن باز - رحمه الله -. وأما استخدامه بإطلاق فالصحيح أنه من آلات اللهو التي لا يجوز استخدامها بإطلاق.

مباحث في ضرب الدف

مباحث في ضرب الدف: المبحث الأول: شروط ضرب الدف. الشرط الأول: أن لا يكون مصلصلاً، وليس فيه حِلق ولا صنج. الشرط الثاني: أن الذي يلي ضربه هم النساء وليس الرجال. وعُلِم بتصريح المؤلف: أن الطبل والزمر محرم، وهو كذلك، فالصحيح في الطبل أنه محرم، وهو مذهب أكثر أهل العلم، بل حُكي الإجماع على ذلك وفيه أخبار عِدّة، فعند أحمد من طريق علي بن بذيمة عن قيس بن حبتر قال: سألت ابن عباس عن الجرّ الأبيض. . . الحديث إلى قوله قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله حرم الخمر والميسر والكوبة، وكل مسكر حرام» (¬1)، والكوبة: الطبل. وأما بالنسبة للمزامير والمعازف ذوات الأوتار، فقد حُكي الاتفاق على تحريمها، وممن حكاه جماعة من أهل العلم؛ كالقرطبي، وشيخ الإسلام، وابن حجر، والموفق، وجماعة كثيرون من أهل العلم. وفيها أخبار عِدّة، منها حديث أبي مالك الأشعري - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: «يأتي زمان على أمتي يستحل فيه الحر والحرير والخمر والمعازف»، وقد أخرجه البخاري، وهو صحيح. والحكمة في تحريمها ظاهرة، لما فيها من إفساد القلب، والتطلع إلى المحرمات، وفتح ¬

(¬1) أخرجه أحمد (رقم: 2476)، وأبو يعلى (رقم: 2729).

باب الشهوات، والإعراض عن قراءة القرآن والذكر، ومن ألِف قلبه الغناء والمزامير والطبول، ابتعد عن القرآن وسماع الذكر، وهذا واضح لا يشك فيه أحد. وقد قال أحد السلف: الغناء رقية الزنا (¬1). وقال ابن القيم في نونيته: حُبُّ الكتاب وحُبُّ ألحان الغناء ... في قلب عبدٍ ليس يجتمعان (¬2) ولا يوجد في قلب أحد حُبُّ الغناء وسماعه؛ إلا وينصرف عن سماع القرآن. وعُلم مما سبق أن حضور هذه المجالس محرم، وإن اشتملت عليها دعوة فلا يجوز إجابتها؛ إلا أن يجيب وينكر، فإن لم يزل المنكر فلا يترخص بالقعود، فإن زال جاز له القعود. ¬

(¬1) أخرجه ابن أبي الدنيا في ذم الملاهي (رقم: 55) عن الفضيل بن عياض، وعزاه السيوطي في الدر المنثور (6/ 506) لابن أبي الدنيا والبيهقي. (¬2) القصيدة النونية (1/ 80).

فصل والتداوي بالحجامة والفصد والكي وشرب الأدوية جائز

(المتن) فَصْلٌ وَالتَّدَاوِيْ بِالحِجَامَةِ وَالفَصْدِ وَالكَيِّ وَشُرْبِ الأَدْوِيَةِ جَائِزٌ. وَلَا يَجُوزُ التَدَاوِيْ بِمُحَرَّمٍ وَلَا نَجِسٍ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ كَرَاهَةُ الكَيِّ وَقَطْعِ العُرُوْقِ. وَالرِّوَايَةُ الأُوْلَى أَصَحُّ. (الشرح) قال المؤلف: (والتداوي بالحجامة والفصد والكي وشرب الأدوية جائز). وقد جاء في الحجامة عدة أحاديث منها ما ثبت في الصحيحين من حديث جابر - رضي الله عنه - قال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إنْ كان في شيء من أدْوِيتكم خير، ففي شَرْطَةِ محجم، أو شَربةِ عسل، أو لَذْعَة بنار توَافِقُ الدَّاء، وما أُحِبُّ أن أكْتَويَ». والفَصْد: هو شق العرق بالطول، ويشبه التبرع، وهو: استفراغ كلي يستفرغ الكثرة، والكثرة هي تزايد الأخلاط على تساويها في العروق. والحجامة تنقي سطح البدن أكثر من الفصد، والفصد لأعماق البدن أفضل، والحجامة تستخرج الدم من نواحي الجلد. والكي: هو إحراق جزء من الجسد بشيء حمّي على النار. إذا كان الشفاء من المرض بالكي محتملاً وليس متحققًا، فيكره؛ لأنه من باب التعذيب بالنار، وأما إذا كان الكي سببًا في حصول الشفاء، فالكي هنا واجب.

قال ابن القيم في الهدي: "ولا تَعَارُض بينها بحمدِ الله تعالى، فإنَّ فِعلَه يدلُّ على جوازه، وعدمَ محبتِه له لا يدلُّ على المنع منه. وأما الثناءُ على تاركِه، فيدلُّ على أنَّ تَرْكَه أولى وأفضلُ. وأما النهيُ عنه فعلى سبيل الاختيار والكراهة، أو عن النوع الذي لا يُحتاجُ إليه، بل يفعل خوفًا من حدوث الداء. . والله أعلم" (¬1). قال المؤلف: (ولا يجوز التداوي بمحرم. . .). والتداوي بالمحرم إما أن يكون بالخمر أو بغيره من المحرمات، فأما الخمر فجمهور أهل العلم على تحريم التداوي به، وفي صحيح مسلم: «إنها ليست بدواء ولكنها داء». وأما غير الخمر فاختلف العلماء في التداوي به على قولين: الجواز، والمنع، واستظهر بعضهم جواز التداوي بغير الخمر من المحرمات عند الضرورة، بشروط: أن يكون به حاجة ملحة، أن لا يوجد غيرها يقوم مقامها، أن يحصل به غلبة الظنّ بالشفاء. ¬

(¬1) زاد المعاد في هدي خير العباد (4/ 66).

فصل ومن رأى من الحيات شيئا في منزله فليؤذنه ثلا

(المتن) فَصْلٌ وَمَنْ رَأَى مِنَ الحَيَّاتِ شَيْئًا فِي مَنْزِلِهِ فَلْيُؤْذِنْهُ ثَلَاثًا، إِنْ بَدَا لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ قَتَلَهُ. . وَقَدْ قَالَ الإِمَامُ أَحْمَدُ - رضي الله عنه - إِنْ كَانَ ذُو الطُفْيَتَيْنِ وَالأَبْتَرُ قَتَلَهُ، وَلَمْ يُؤْذِنْهُ. وَذُوْ الطُّفَّتَيْنِ: الَّذِيْ بِظَهْرِهِ خَطٌّ أَسْوَدٌ. . وَالأَبْتَرُ: الغَلِيْظُ القَصِيْرُ الذَّنَبِ. . وَصِفَةُ القَوْلِ الَّذِيْ يُؤذِنُهُ: اِمْضِ بِسَلَامٍ، أَوِ اِذْهَبْ بِسَلَامٍ. (الشرح) مما يُنهى عن قتله حيات البيوت، إذا لم تنذرها ثلاثًا ولم تقل: اذهب سالمًا غير معتد. بعض العلماء يرى أنه لا يجوز قتل حيات البيوت؛ إلا بعد إنذارها في أي مكان. وبعضهم يقول: إن هذا خاص بالمدينة، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن جِنًّا بالمدينة قد أسلموا»، والجن منهم من يكون على هيئة حيات، ومنهم من يكون على هيئة السحالي، ومنهم من يطيرون، ومنهم من يحلون ويظعنون مثل أهل البادية. فما دامت الجن تتمثل بالحيات والكلاب، فلابد من إنذار الحية قبل قتلها، علمًا بأن الكلب الأسود شيطان فيُقتل مباشرة ومعنى شيطان أي شيطان جنسه لكثرة خبثه لا أنه شيطان حقيقة، نعم، قد يتشكل الجن بصورته لكن الحديث المراد به الأول، لكن الحية قد تكون جنًا مسلمًا، وقد تكون جنًا كافرًا، وقد تكون حية أفعى حقيقية. وصفة الإنذار أن يقول: أُحرّج عليك بالله أن تخرجي، ثلاثًا، واختلف العلماء في معنى ثلاثًا التي جاءت في الحديث، هل هي ثلاثة أيام، أو هي ثلاث مرات، هل ينذرها ثلاثة أيام كل يوم يقول: أحرّج عليك بالله أن تخرجي، أي: أقسم عليك بالله أن تخرجي وتتركي بيتنا

مثلاً؟ إن كان جنًا مسلمًا فسيغادر، وإن لم يغادر فهو شيطان فاقتله، هكذا أمر النبي - صلى الله عليه وسلم -. لكن اختلفوا هل هي ثلاثة أيام أو ثلاث مرات؟ والصحيح الثلاث المراد عدد مرات التحريج. وهناك حيات تقتل مباشرةً سواء أكانت في البيت أو خارج البيت، وهي: ذو الطفيتين: وهو نوع معين من الحيات له خطان على ظهره، خطان متوازيان، قيل خطان أبيضان، وقيل خطان أسودان، هذا يسمى ذا الطفيتين، يُقتل مباشرة لا يُنذر ولا يُمهل. والأبتر: عظيم النهاية، والحيات تكون في العادة غليظة من فوق والمنتصف، وفي نهايتها تدق حتى يكون لها ذنبٌ أو ذيلٌ دقيق، أما الأبتر فكأنه مقطوع الذنب، فهو من جهة الذنب في النهاية غليظ؛ كأنه مقطوع الذيل، فهذا يقتل مباشرة؛ وذلك أن النبي عليه الصلاة والسلام قال في حديث في الصحيحين: «اقتلوا الحيات واقتلوا ذا الطفيتين والأبتر فإنهما يطمسان البصر ويستسقطان الحبل» أي: أن المرأة تسقط الولد الذي في بطنها بمجرد رؤيته، وكذلك يلتمسان البصر، قيل: إنه بمجرد النظر إليه يُعمي، وقيل: إنه يستهدف بصر الإنسان عند اللسع، ففيه قوةٌ سمية تسبب العمى، وقيل إنه ينفث سمًا من غُدده السمية التي في نابيه على وجه الشخص وعينه فإذا أصاب السم العين أصابها بالعمى، ونظرًا لضرره، ولأن الجني المسلم لا يتمثل بهذا النوع فإنه يُقتل مباشرةً. والفدفد: هي الفلاة، فالحيات في الفلاة تقتل مباشرة، لا يلزم تحريج ولا قسم ولا شيء، فالحكم إذًا بالتحريج خاصٌ بحيات البيوت، ويستثنى من حيات البيوت ذو الطفيتين والأبتر.

فصل ويجوز قتل الأوزاغ

(المتن) فَصْلٌ وَيَجُوْزُ قَتْلُ الأَوْزَاغِ. وَلَا يَجُوْزُ قَتْلُ النَّمْلِ، وَلَا تَخْرِيْبُ أَجْحُرَتِهِنَّ. وَيُكْرَهُ قَتْلُ القَمْلِ بِالنَّارِ. وَلَا يَحِلُّ قَتْلُ الضَفَادِعِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْ قَتْلِ الضِّفْدَعِ. (الشرح) الأوزاغ: جمع وزغ، وفي الصحيحين ورد تسميته بالفويسقة. وحكم قتل الدواب ينقسم إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: ما أُمر بقتله، مثل: الحية والعقرب والوزغ. . . وكل ما آذى يُقتل. فائدة: يكره قتل الوزغ باليد. القسم الثاني: ما نُهي عن قتله، مثل: النحل والنمل والهدهد والصرد، وفي الصحيحين قصة النبي الذي أحرق وادي النمل، قال أبو هريرة - رضي الله عنه -: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «قَرَصَت نملةٌ نبيًّا من الأنبياء، فأمرَ بقَريةِ النَّملِ فَأُحْرِقَت، فأوحى اللهُ إِليهِ: أَنْ قرَصَتْكَ نَملةٌ أَحرَقْتَ أُمَّة مِن الأُممِ تُسبِّح؟». وقد جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، من حديث ابن عباس: أنه نهى عن قتل أربع من الدواب النملة والنحلة والهدهد والصرد (¬1). وفي إسناده اختلاف، والأقرب أنه حسن. إلا أنه يستثنى منه النمل الذي عرف عنه الأذى؛ فإنه يُقتل ابتداءً. القسم الثالث: ما سكت عنه، وهذا القسم يُترك، فلله حكمة في خلقه، وقد أمر الله ¬

(¬1) أخرجه عبد الرزاق (رقم: 8415) والدارمي: 1999)، وأحمد (رقم: 3067)، وأبو داود (رقم: 5267)، وابن ماجه (رقم: 3224).

النبي نوحًا بأن يحمل من كُلٍّ زوجين اثنين، وهذا فيه استبقاء لحياته، ولو أراد الله إعدامه بعد خلقه أولاً لأمر نبيه نوحًا بأمر خاص بحمل كذا وترك كذا. وإن ربك حكيم عليم. وقول المؤلف: (ويكره قتل القمل بالنار. . .). يُفهم منه جواز قتل غير القمل بالنار، وهذا ليس بصحيح، بل يحرم قتل القمل وغيره بالنار لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، قال - صلى الله عليه وسلم -: «فإنه لا يعذب بالنار إلا رب النار» (¬1). قال المؤلف: (ولا يحل قتل الضفادع؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن قتل الضفدع). نعم، يحرم قتل الضفدع بجميع أنواعه حتى السام منها، والتعليل: ما جاء عن معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: كانت الضفدع تُطفئ النار عن إبراهيم وكان الوزغ ينفخ فيه فنهي عن قتل هذا وأمر بقتل هذا (¬2). إسناده صحيح. وجاء أيضًا عند عبد الرزاق في المصنف من قول ابن عمرو - رضي الله عنه -، قال: لا تقتلوا الضفدع فإن صوتها الذي تسمعون تسبيح وتقديس (¬3). وإسناده ثابت. وعند مسلم من حديث أبي هريرة مرفوعًا، (من قتل وزغًا في أول ضربة فله مئة حسنة. . .) الحديث (¬4). ¬

(¬1) أخرجه أحمد (رقم: 3476)، وأخرجه ابن أبي شيبة (رقم: 33816)، والبزار (رقم: 2009) عن ابن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تعذبوا بالنار فإنه لا يعذب بالنار إلا ربها». (¬2) أخرجه عبد الرزاق (رقم: 8392). (¬3) أخرجه عبد الرزاق (رقم: 8418)، وابن أبي شيبة (رقم: 24178). (¬4) أخرجه مسلم (رقم: 5984).

فصل ولا يجوز إخصاء البهائم

(المتن) فَصْلٌ وَلَا يَجُوْزُ إِخْصَاءُ البَهَائِمِ، وَلَا كَيُّهَا بِالنَّارِ لِلْوَسْمِ. وَتَجُوْزُ المُدَاوَاةُ حَسْبَ مَا أَجَزْنَا فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ (الشرح) أما الإخصاء فهو (سَلُّ الخصية) من الذكور، فهذا فيه خلاف بين أهل العلم. وفي هذا بحثٌ قرأته على شيخنا ابن باز - رحمه الله - ثم قال بعد نهاية البحث: الصحيح أنه جائز إذا كان للمصلحة. والمصلحة في إخصاء البهائم تتضمن شيئين، وهما: 1 - منع الذكور فيما بينهما من المقاتلة والعضاض. 2 - تطييب اللحم وإبعاد الزهومة عنه، وقطع الرائحة عنه. وعند هذا ينبغي أن يكون بأقل ما يمكن من الإيلام؛ لأن من منع الخصاء، قال: لما فيه من الإيلام للحيوان. ولكن نقول: ليس كل إيلام للحيوان ممنوع، فالإيلام اليسير الذي فيه مصلحة للإنسان لا بأس به. قوله: (ولا كيها بالنار للوسم). الوسم: هو الكي بالنار، وأن تُجعل لها سمة، والوسم منقلبة عن واو، والصحيح جواز وسم الدواب، وقد قال البخاري في صحيحه: "باب وسم الإمام إبل الصدقة"، ثم أسند عن أنس - رضي الله عنه - وفيه: فوافيته وفي يده الميسم يسم إبل الصدقة، وفي لفظ

للبخاري: فرأيته يسم شاة حسبته في أذنها. والخلاصة في مسألة وسم الدواب بالنار، أنه يجوز بشروط: 1 - أن يكون هناك حاجة، مثل أن يعرف الحيوان، ويميز مثلاً إبل الصدقة عن إبل الجهاد، أو إبل الناس. 2 - أن يكون الوسم في غير الوجه؛ لأن الوسم في الوجه حرام، ولذلك لعن النبي - صلى الله عليه وسلم - من وسم الحمار في وجهه ونهى عن ذلك. 3 - أن يكون الوسم بمقدار الحاجة، بقدر ما يحرق الشعر، ويفضي إلى الجلد ولا يتجاوزه إلى العظم، ويسمه وسمًا واضحًا لا يذهب، وقد كان يلي الوسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكذلك أصحابه رضوان الله عليهم من بعده، وعلى هذا يكون ما ذكره صاحب المتن ليس بسديد.

فصل ويكره إزالة الأوساخ في المساجد

(المتن) فَصْلٌ وَيُكْرَهُ إِزَالَةُ الأَوْسَاخِ فِي الْمَسَاجِدِ كَتَقْلِيْمِ الأَظْفَارِ، وَقَصِّ الشَارِبِ، وَنَتْفِ الإِبِطِ، وَالعَمَلِ وَالصَنَائِعِ؛ كَالخِيَاطَةِ، وَالخَرَزِ، وَالحَلَجِ، وَالتِّجَارَةِ، وَمَا شَاكَلَ ذَلِكَ؛ إِذَا كَثُرَ. . وَلَا يُكْرَهُ ذَلِكَ إِذَا قَلَّ مِثْلُ رَقْعِ ثَوْبٍ، أَوْ خَصْفِ نَعْلٍ، أَوْ تَشْرِيْكِهَا إِذَا انْقَطَعَ شِسْعُهَا. (الشرح) استقرت العناية بالمساجد في الشريعة الإسلامية، وتظاهرت بذلك الأخبار، فقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بتطييبها، وأثنى على من كان يلي تنظيفها، بل في الصحيحين من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما فقد امرأة كانت تقم المسجد، فقالوا: ماتت، فقال: «دلوني على قبرها» ثم أتى وصلى عليها تكرمة لها. ونهى عن البصاق فيها، واستفاضت الأخبار في النهي عن ذلك، بل قد باشر عليه الصلاة والسلام إزالة البصاق وحكه بيده الشريفة، وكان قد أمر بتخليقها بزعفران، وكان السلف يُجمِّرون المساجد ويطيبونها، ونُدِب إلى ذلك. واشتهر عند الناس خبر لا يثبت، أن قمامة المسجد مهور الحور العين، وهذا لا يصح (¬1)، ولمّا بال رجل في المسجد قال - صلى الله عليه وسلم -: «أهريقوا على بوله ذنوبًا من ماء» ثم قال: «إن هذه المساجد لا يصلح فيها شيء من قذر الناس» وكما قال - صلى الله عليه وسلم -: «إنما هي لذكر الله، والصلاة، وقراءة القرآن» (¬2)، وأنكر أصحابه على من بال في المسجد. ¬

(¬1) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (2/ 113): رواه الطبراني في الكبير وفي إسناده مجاهيل. (¬2) أخرجه أحمد (رقم: 7786)، والبخاري (رقم: 5777)، ومسلم (رقم: 284 و 285)، وأبو داود (رقم: 380)، والترمذي (رقم: 147).

فصل وبر الوالدين واجب

غير أنه لا يكره إذا قل شيء من ذلك، كرقع الثوب، أو خصف النعل، أو تشريكها إذا انقطعت، فهذا لا بأس به؛ لأنها أعمال يسيرة لا تنافي حرمة المسجد. (المتن) فَصْلٌ وَبِرُّ الوَالِدَيْنِ وَاجِبٌ، سُئِلَ الإِمَامُ أَحْمَدُ - رضي الله عنه - عَنْ بِرِّ الوَالِدَيْنِ: أَفَرْضٌ هُوَ؟ فَقَالَ: لَا أَقُوْلٌ فَرْضٌ، وَلَكِنَّهُ وَاجِبٌ. وَلَا يَجُوْزُ طَاعَتُهُمَا فِي مَعْصِيَةِ اللهِ تَعَالَى، كَذَلِكَ نَصَّ عَلَيْهِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوْقٍ فِي مَعْصِيَةِ اللهِ تَعَالَى». (الشرح) وبر الوالدين لا شك أنه فرض، ولعل الإمام أحمد - رحمه الله - توقف لعارض، وإلا فقد قرن الله جل وعلا برهما بطاعته وعدم الإشراك به، حيث قال سبحانه: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) (¬1)، وفي الآية الأخرى قال تعالى: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) (¬2)، وأما الأخبار في بر الوالدين في السنة النبوية فهي مستفيضة. ويمكن أن نقسم طاعة الوالدين إلى أقسام: 1 - أن يأمره الوالدان بما يجب لله؛ كأن يأمره الوالدان بصلاة الفريضة فهذا واجب لا إشكال فيه. ¬

(¬1) الإسراء: 23. (¬2) النساء: 36.

2 - طاعته في ترك ما حرم الله؛ كأن يأمره والداه بترك محرم، فلا إشكال في وجوب الطاعة هنا أيضًا. 3 - طاعته في المستحب؛ كأن يأمره أبوه بفعل المستحب، كما لو أمره بفعل الصلاة النافلة فهذا الأصل فيها الوجوب. 4 - إذا أمره بترك مكروه وعدم فعله فهذا الأصل فيها وجوب الامتثال. 5 - إذا أمره بأمر مباح، فاختلف أهل العلم في ذلك هل يجب على الولد الطاعة أم لا؟ فقيل الوالد يُطاع في كل شيء ليس معصية، وقال ابن مفلح: (¬1) ولا يجوز لوالد منع ولده من حج واجب، ولا تحليله منه، ولا يجوز للولد طاعته فيه، وله منعه من التطوع كالجهاد. والذي يتحرر لي في هذه المسألة أن طاعة الوالد في المباح فيه تفصيل، أن الوالد يُطاع فيما كان للوالد فيه نفع وغرض صحيح ولا ضرر على الولد. وعُلم من هذا أنه إذا كان الوالد ينهى عن شيء ليس له فيه نفع ولا غرض صحيح، وللولد فيه مصلحة أو نفع - دنيوي أو ديني-، كما لو نهاه عن السنن الرواتب، أو عن الصيام النافلة، وليس للوالد نفع في ترك الولد ذلك، وليس على الولد ضرر في فعل ذلك فحينئذٍ الأقرب هو الرواية الثانية عن أحمد أن له أن يصوم، ولكن يداري الوالد، ويقول لهما قولاً ميسورًا. ¬

(¬1) الفروع (5/ 228).

فصل ويكره الاتكاء على يسرى يديه من وراء ظهره

(المتن) فَصْلٌ وَيُكْرَهُ الاتِّكَاءُ عَلَى يُسْرَى يَدَيْهِ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ. وَيُكْرَهُ الجُلُوْسُ بَيْنَ الشَّمْسِ وَالظِّلِّ. (الشرح) ذكر المؤلف كراهية الاتكاء على اليسرى من وراء ظهره، والأصل في هذه المسألة ما أخرجه أبو داود، ومن طريقه البيهقي في السنن وفي الآداب، وأحمد، وابن حبان، والطبراني في المعجم الكبير، والحاكم، كلهم من طريق عيسى بن يونس، قال: حدثنا جريج عن إبراهيم بن ميسرة، عن عمرو بن الشريد بن سويد، عن أبيه، قال: مر بي النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا جالس هكذا وقد وضعت يدي اليسرى، واتكأت على إلية يدي فقال: «أتقعد قِعدة المغضوب عليهم» (¬1). وهذا الإسناد إسناد لا بأس به، وبوب عليه أبو داود في آخر سننه في كتاب الآداب: "باب في الجلسة المكروهة" (¬2). وقد اختلف العلماء في هذه الجِلسة - وهي وضع اليد اليسرى خلف الظهر والاعتماد عليها. إلية اليد: هي اللحمة التي في أصل الإبهام وأصل الكف. فالذي يظهر لي أن هذه الجلسة إنما نهي عنها في الصلاة فقط. ¬

(¬1) أخرجه أحمد (رقم: 19472)، وأبو داود (رقم: 4850)، وابن حبان (رقم: 5674)، والطبراني (رقم: 7242)، والحاكم (رقم: 7703) وقال: صحيح الإسناد. ووافقه الذهبي، والبيهقي (رقم: 6131). (¬2) سنن أبي داود (4/ 413).

قوله: (ويكره الجلوس بين الشمس والظل)

وممن اختار العموم أيضًا شيخنا ابن باز - رحمه الله - واللجنة الدائمة والشيخ ابن عثيمين - رحمه الله - فهم يرون أن المنع في هذه الجلسة منع مطلق، والذي يظهر لي ما تقدم، وهذا اختيار الشيخ ناصر الدين الألباني - رحمه الله - في السلسة الضعيفة، وأن المنع فيها إنما هو في الصلاة فقط. والحكمة ظاهرة لأجل التشبه بأنه يفعله الكفرة في عباداتهم أو صلاتهم، فلا يكون منهيًا عنه خارج الصلاة، وهذا هو الأقرب. قوله: (ويكره الجلوس بين الشمس والظل): جاء في ذلك عدة أخبار، فمنها حديث بريدة الذي أخرجه ابن أبي شيبة، ومن طريقه ابن ماجه، عن زيد بن حباب، عن أبي المنيب العتكي، عن ابن بريدة -وهو عبد الله بن بريدة- عن أبيه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يقعد بين الظل والشمس» (¬1)، وأبو المنيب هو عبيد الله بن عبد الله العتكي، والصحيح أنه حسن الحديث. ومنها أيضًا ما أخرجه أحمد في المسند عن بهز، وعفان، قالا: حدثنا قتادة، عن كثير بن أبي كثير، عن أبي عياض، عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يجلس بين الضَّحِّ والظل، وقال: «مجلس شيطان» (¬2). ¬

(¬1) أخرجه ابن أبي شيبة (رقم: 25728)، وابن ماجه (رقم: 3722). (¬2) أخرجه أحمد (رقم: 15459) قال الهيثمي (8/ 60): رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح، غير كثير بن أبي كثير، وهو ثقة.

وأخرجه الحاكم (¬1) أيضًا من طريق عبد الله بن رجاء الغداني دون قوله: «مجلس شيطان» وسمى الصحابي المبهم -الذي هو رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - سماه أبا هريرة، لكن التسمية هنا غير محفوظة؛ لأن بهز بن أسد العمي وعثمان بن الصفار خالفا عبد الله بن رجاء، فالصحيح أن الصحابي مبهم، وفي إسناده مقال. وقد أخرج ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- أنه قال: القعود بين الظل والشمس مقعد الشيطان (¬2). مسألة: هل النهي عن الجلوس بين الشمس والظل للكراهة أو التحريم؟ بمجموع هذه الطرق الخبر لا بأس به، والذي يظهر لي أنه يكره كراهية شديدة، أو يحرم لأمور: أولاً: نسبته إلى الشيطان. ثانيًا: أنه يضر بالجسم، خصوصًا إذا اعتاده الإنسان، قال ابن القيم (¬3): والنوم في الشمس يثير الداء الدفين، ونوم الإنسان بعضه في الشمس وبعضه في الظل رديء. ثالثًا: وأيضًا فهو منافي للعدل بين الجوارح، فإما أن يكون جميع البدن في الشمس، أو في الظل، وهذا من كمال الشريعة، ولهذا نُهي عن المشي في نعل واحدة. ¬

(¬1) أخرجه الحاكم (رقم: 7710) وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقال الذهبي: صحيح. (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة (رقم: 26478). (¬3) زاد المعاد (4/ 243).

فالحكمة من هذا أنه مشابه للشيطان، وأنه خروج عن الاعتدال، وقال الذهبي في المهذب في اختصار السنن الكبير على حديث بريدة: أراد بذلك العدل في الجسد كما نهي عن المشي في نعل واحدة عدلاً بين الرجلين. ويشمل النوم والجلوس وكيفما كان، فلا يكون بين الشمس والظل، ومن أهل العلم من قال: أنك إذا جلست أنه إنما نهي عنه إذا قلص الظل عنه وبدأ يزحف، أما إذا جلست مباشرة بين الشمس والظل فلا بأس، وهذا ليس بصحيح، فإن هذا مصادم للنص. مسألة: هل هذا يشمل الجالس في مجلس يجب عليه الجلوس فيه كالجالس لخطبة الجمعة؟ نعم، هذا يشمل كل جلوس، سواءً كان هذا الجلوس جلوسًا واجبًا، أو جلوسًا مستحبًا، أو جلوسًا مباحًا، فإنه يتحول ويكون هذا من الأمر الشرعي، فيتحول إذا قلص عنه الظل في مسجد مكشوف، أو في خارج المسجد، فيتحول قدر الاستطاعة.

فصل ويستحب أن يقول عند النهوض من المجلس

(المتن) فَصْلٌ وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُوْلَ عِنْدَ النُّهُوْضِ مِنَ المَجْلِسِ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوْبُ إِلَيْكَ، فَهِيَ كَفَّارَةُ المَجْلِسِ. وَيُكْرَهُ الجُلُوسُ فِي ظِلِّ المَنَارَةِ، وَكَنْسُ البَيْتِ بِالخِرْقَةِ، وَالشُّرْبُ مِنْ ثُلَمَةِ الإِنَاءِ. فَهَذِهِ جُمْلَةٌ مِنَ الآدَابِ، وَاللهُ تَعَالَى المُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ. (الشرح) قوله: (ويستحب أن يقول. . . فهي كفارة المجلس). أما كفارة المجلس، فجاءت فيها أخبار كثيرة، واشتهر عن البخاري - رحمه الله - أنه ضعف هذا الخبر، وهذا من عدم فهم ما نقل عن البخاري، فإنه نقل عنه أنه أعل حديث أبي هريرة، فإن الحاكم أخرجه في المستدرك، وهو عند الترمذي أيضًا، والنسائي في عمل اليوم والليلة، كلهم من رواية حجاج بن محمد - وهو المصيصي - عن ابن جريج، عن موسى بن عقبة، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من جلس في مجلس وكثر فيه لغطه، فقال قبل أن يقوم من مجلسه ذلك: سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك، إلا غفر الله ما كان في مجلسه ذلك» (¬1) هذا لفظ الترمذي، وقال: حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من حديث سهيل من هذا الوجه. ¬

(¬1) أخرجه الترمذي (رقم: 3433)، وأخرجه أحمد (رقم: 10420)، والنسائي (رقم: 10230)، وابن حبان (رقم: 594)، والبيهقي في شعب الإيمان (رقم: 628).

يقول الحافظ: ورأيت أن أختم الفتح بطريق من طرق هذا الحديث ثم ساق إسناد حديث عائشة، الذي رواه النسائي في سننه من طريق خالد ابن أبي عمران، عن عروة، عن عائشة، قالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا جلس مجلسًا أو صلى تكلم بكلمات، فسألته عن ذلك فقال: «إن تكلم بكلام خير كان طابعًا عليه -يعني خاتمًا عليه- إلى يوم القيامة، وإن تكلم بغير ذلك كانت كفارة له، سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك» (¬1). (¬2). وهذا من آخر كلام الحافظ في شرح البخاري، فيكون هذا الحديث ثابت من حديث أبي برزة وحديث عائشة، وجماعة من الصحابة. ويقال عند نهاية المجلس، وهذا الدعاء يكفر الصغائر، وإن كان بتوبة كفّر الكبائر التي ليست متعلقة بالمخلوقين، فإن فيه: «أستغفرك وأتوب إليك». فإن كان هذا يتعلق بكلام يختص بمخلوق، فإنه لا بد من رد حقوق المخلوقين، ولكن إذا كان هذا كلامًا سيئًا وفحشًا من القول فإنه يُكَفَّر إذا كان صادقًا فيما يقول، دون أن يكون فيه غيبة أو نميمة أو سب أو قدح. فإن كان صاحبه يقول هذا الذكر وليس مستحضرًا لمعنى التوبة فهل يقال إنه ما يكفر إلا الكبائر التي ذكرناها قبل قليل، التي تتعلق بحقوق المخلوقين؟. نقول: فيه وجهان عند أهل العلم، فإن الإنسان إذا قال: أستغفر الله، فلا يخلو ¬

(¬1) أخرجه النسائي (رقم: 1267). (¬2) فتح الباري لابن حجر (10/ 410).

استغفاره أن يكون عن ندم وتوبة، أو يكون مجرد دعاء، فإن كان مجرد دعاء، فالدعاء قد يستجاب وقد لا يستجاب، وإن كان مقرونًا بندم أو توبة فإنه يتضمن التكفير، وهذا يقال في مطلق المجالس، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقوله في بعض مجالسه، فإنه ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من فعله، وأمر به ورغّب فيه، فيقال في مجلس الخير وفي غيره من المجالس، ويقال في آخر المجلس. وهذا الذكر بعينه جاء مما يقال أيضًا عند الوضوء، كما أخرجه النسائي في الكبرى (¬1) بسند صحيح، عن أبي سعيد موقوفًا عليه، أن هذا مما يقال عند نهاية الوضوء، فيكون أحد النوعين اللذين يقالان بعد الضوء منها: «أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله» ومنها «سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك» والموقوف عن أبي سعيد له حكم الرفع؛ لأن هذا لا يقال بالرأي. قوله: (ويكره الجلوس في ظل المنارة وكنس البيت بالخرقة). أما الجلوس في ظل المنارة فيحتمل لما تقدم من أن المنارة قد لا تستره إلا قليلاً، فيكون من الجلوس بين الشمس والظل، وتقدم الكلام عليه، وأما كنس البيت بخرقة فلا يتبين لي العلة، وليس في النصوص ما يدل على هذا الشيء، وقد يقال إنه يخشى من هذا جرح في اليد، وأذيتها، أو ربما يصادف دابة أو ما أشبه ذلك، ولا أعلم في هذا خبرًا. قوله: (والشرب من ثلمة الإناء). ¬

(¬1) النسائي (رقم: 9911)، وابن أبي شيبة (رقم: 19).

جاء في ذلك أخبار، منها ما رواه أبو داود من طريق عبد الله بن وهب، قال: أخبرني قرة بن عبد الرحمن - وهو ابن حيوه - عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن أبي سعيد - رضي الله عنه -، وفيه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الشرب من ثلمة القدح وعن النفخ في الشراب (¬1). وهذا الإسناد إن سلم من العلة الخفية فإنه لا بأس به، والنهي لا يتعدى الكراهة. والحكمة التشويش على الشارب بحيث لا يتمكن من الشرب ومجمع للأوساخ والزهومات، وقد تجرح الثلمة فم الشارب، وأيضًا قد ينسكب على الشارب مما في الإناء. وفي الختام نسأل الله أن ينفع به كاتبه وقارئه والحمد لله رب العالمين. وكتب أبو محمد - عفا الله عنه- ¬

(¬1) أخرجه أبو داود (رقم: 3724)، وأخرجه أحمد (رقم: 11777).

§1/1