لبيك حج الفقراء

مالك بن نبي

مالك بن نبي لبيك: حج الفقراء رواية ترجمة: د. زيدان خوليف دار الفكر آفاق معرفة متجددة

بسم الله الرحمن الرحيم مالك بن نبي لبيك: حج الفقراء رواية

القدس دار الفكر - دمشق - البرامكة لبيك: حج الفقراء رواية مالك بن نبي ترجمة: د. زيدان خوليف الرقم الاصطلاحي: 536. 2199 الرقم الدولي: 7 - 079 - 10 - 9933 - 978: ISBN الرقم الموضرعي: 813 (القصة والرواية) 156 ص، 12 * سم الطبعة الأولى: 1430 هـ - 2009 م جميع الحقوق محفوظة لدار الفكر دمشق

مالك بن نبي لبيك حج الفقراء رواية ترجمة الدكتور زيدان خوليف دار الفكر آفاق معرفة متجددة

لبيك حج الفقراء/ مالك بن نبي؛ ترجمة زيدان خوليف, - دمشق: دار الفكر، 2009.- 156 ص، 20 سم ردمك: 7 - 079 - 10 - 9933 - 978 1 - 843 جز ب ن ن ل 2 - العنوان 3 - بن نبي مكتبة الأسد

المحتوى

المحتوى الإهداء .............................................. 7 تصدير بقلم معالي عمر مسقاوي ...................... 9 مقدمة المترجم ........................................ 17 نص رسالة المؤلف بن نبي إلى الناشر .................... 24 لبيك: حج الفقراء .................................... 27

الإهداء

الإهداء إلى زوجتي العزيزة اعترافا مني، بحنانها الأمومي تجاه المتواضعين في بلدي. إلى أختي الحاجة لطيفة بن نبي. إلى السيد بيلار، مع احترامي وإعجابي. المبجل. إهداء بن نبي في الأصل باللغة الفرنسية عن دار النهضة سنة 1947 م.

تصدير

تصدير تقوم دار الفكر في دمشق بنشر (لبيك) باللغة العربية وقد كتبها فيلسوفنا مالك بن نبي عام 1947؛ أي بعد عام واحد من إصدار كتاب (الظاهرة القرآنية) عام 1946 باللغة الفرنسية. لقد بادر صديقنا الدكتور زيدان خوليف إلى ترجمة القصة إلى العربية، وهو من الشباب الجزائري الذي اهتم بفكر فيلسوفنا، وقدم أطروحته بالفرنسية عام 2006 تحت عنوان حياة وأعمال مالك بن نبي من عام 1905 - 1973)، وذلك بإشراف البروفسور برهان غليون في جامعة السوربون الجديدة باريس 3. وقد زارني في طرابلس الشام وتعرفت عليه عام 2002 لغرض في إتمام بحثه ودراسته، فأطلعته كما أفعل مع كل باحث على ما توفر لي من خلال صحبتي لمالك بن نبي في

القاهرة منذ عام 1956 حين التقينا به طلابا فأسس لنا سبلا جديدة في الرؤية والتفكير حول مشكلات الحضارة ومستقبل العالم الإسلامي. لقد تميز الدكتور (زيدان) بالبحث الجاد عن المصادر في كل ما يتصل بموضوعه حول حياة بن نبي وفكره. وإذ تفضل فنوه بمساعدتي له في مفتتح أطروحته؛ فإنني أنوه بالمقابل بما تفضل به، وقد زودني لأول مرة بقصة (لبيك) حين فتش عنها في المكتبات القديمة فوجدها لأول إصدار لها باللغة الفرنسية عام 1947؛ وكنت أسمع بقصة (لبيك) ولم يكن بن نبي يحدثنا عنها ونحن من حوله طلابا سوى إشارة عابرة حول موضوعها. وقد ارتسم خيالنا حول تلك القصة منذ أن أشار إليها بن نبي في جملة تعداد مؤلفاته، وقد قيل لنا تواردا بأنها إحدى إبداعات بن نبي في الأدب الفرنسي. فقصة (لبيك) رسمت عمق الروح الجزائرية وشخصيتها المنتمية إلى تراث الثقافة والحضارة الإسلامية المنشدة إلى منازل الوحي.

فمكة والكعبة مثلتا في فكر بن نبي أنشودته وروحه والمنطلق في مشروعه والمعاد إليها في بناء جديد لحضارة الإسلام وهي تبعث من جديد. فقصة (لبيك) في أعقاب (الظاهرة القرآنية) كانت في زمن مبكر من تأمل بن نبي ترسم الطريق والاتجاه بعصر جديد يكتبه الجيل القادم بعد أن تستسلم الحضارة المادية الغربية لمصيرها في مسيرة القرن كما توقع بن نبي في دراساته أنه مسرى حج الفقراء تلبية للنداء الإلهي (لبيك اللهم لبيك) في عفوية روحهم وأصالتها؛ في شخصية الجزائر التي غلفتها ظلل من ليل الاستعمار المظلم لكنها بقيت تستبطن البواعث في قيم الرسالة مع الظاهرة القرآنية التي كانت - كما يقول بن نبي في شهادته - أول إنجاز علمي وأدبي مقاوم للاستعمار ومؤسس لمفهوم البداية في أفق النهاية. لذا بدت (لبيك) هي المعين الثابت الذي يستجيب لنداء الغد في بناء نهضة إنسانية تعم العالم كله. فكتاب (الظاهرة القرآنية) هو المنطلق في البحث العلمي المفضي إلى الثقة بالمصدر العلوي المطلق

للقرآن الكريم، الهادي لنور الاستقامة في شخصية المجتمع كما في بناء عالم جديد بعد انهيار عصرنا الحاضر، وهنا تأتي قصة (لبيك) خطابا جديدا لرؤية المسلم في مساحة الإنسانية. خطابا لا ينغمر في تناقضات حاضر العالم بعد الحرب العالمية الثانية كما لا يستريح متكلا على بهاء الماضي. فقد تورط جيلنا بمعطيات الحضارة الغربية الأوربية وتداعياتها؛ لذا على الجيل الذي سيأتي أن يستعيد مسيرته سندا لرسالة القرآن الكريم وبلاغها في صبح عالم جديد يتأهب للخروج من مأزق العصر بدفع من روحه نحو خلاص البشرية. فالجيل القادم عليه أن يعرف منذ بداية خطواته الأولى إلى أي هدف بعيد قد انطلق؛ لأن عصرنا الحاضر لم يعد عصر المجتمعات التي تعيش بانتظار أن يأتيها رغدها من الحياة في مصادفة من الزمن كيما تتلمس وجهتها التاريخية، كما يقول بن نبي في مقدمة الطبعة الجديدة لوجهة العالم الإسلامي بالفرنسي عام 1970.

ويرى بن نبي أن المسلم في عمق روحه وانعكاسه الاجتماعي والنفسي في نمونج إبراهيم و (زهرة) في قصة (لبيك) وكذلك الإطار الذي رافق حركة الحجيج في مرفأ عنابة (بونة سابقا)، هذا العمق يسستطبن روحا متحضرة في شبكة علاقات إنسانية، وهو في عمقه هذا نموذج تحضير في أفق الحضارة الإنسانية. من هنا فالظاهرة القرآنية مثلت في فكر بن نبي الهدف البعيد منذ البداية؛ لذا جاءت قصة (لبيك) هي نداء البداية والنهاية معا، وقد استخلصها بن نبي من روح عفوية الشعب الجزائري والفقراء؛ إذ يرى فيهم المنهل الصافي لماء الحياة الحضارية الإنسانية، لذا فـ (لبيك) نموذج الفطرة في (أفلو) في الجزائر، وصفاء شبكة العلاقات الإنسانية في عفويتها، كما قصها لنا في شهادته وكما هي نموذج روح حجاج إفريقية حين تقودهم لبيك رجالا مشاة إلى مكة في هجير الصحراء في اشتياق واحد مع دمع سكان المدن إلى حج العام القادم وهم يستقبلون قوافل الحجاج من أطراف الجزائر في طريقهم إلى مرفأ مدينة عنابة (بونة سابقا) لتمخر بهم الباخرة عباب

الأمل والرجاء في تلبية النداء، أو لتعود بهم إلى وطنهم في فرح الغفران. لقد مرت هذه العصور جميعها في آدب بن نبي حين منحها روحه ودمعه في المرحلة الأولى من كتابه (شاهد على القرن)، أو فيما قص وروى له سليل الأمير عبد القادر في مقاله وقد نشرناه مترجما إلى العربية تحت عنوان (أخوة في الإسلام) في مجموعة مقالات بني (من أجل التغيير). فالظاهرة القرآنية هي مطالع الأفق، و (لبيك) هي زاد المسار، وتبقى شروط النهضة خطة البناء التربوي إلى مرتقى المسيرة في وحدة الثقافة والاتجاه، بعد أن تصفي سلبية (القابلية للاستعمار) لترسم من جديد (وجهة العالم الإسلامي) في تضامن (الفكرة الآسيوية والإفريقية) التي هي المدى الذي يجد فيه العالم الإسلامي حضوره في العالم كله وهو يرث هزيم الحضارة الاستعمارية الغربية، وقد أوشكت بها النهاية، وتبقى سلسلة مشكلات الحضارة في كل ما أنتج بن نبي في مسار حياته في مصر وسورية وجزائر الاستقلال مجرد معالم إرشاد في طريق (لييك).

وإذ تظهر ترجمة (لبيك) إلى العربية بمبادرة من المترجم، فقد طلب إلي وضع كلمة في مناسبة صدورها باللغة العربية، وأجبته إلى طلبه لأنها تمنح قراء العربية مزيد تعريف بمسار فكر بن نبي، ومزيد تشجيع لإنتاج تلاميذ بن نبي حول مضامين فكره وأبعادها، مع الشكر الجزيل للمترجم. رحم الله بن نبي وأجزل ثوابه. عمر مسقاوي طرابلس في 10/ 4/ 2009

مقدمة المترجم

مقدمة المترجم عزيزي القارئ، (لبيك اللهم لبيك). كلمات يناجي بها المسلم ربه خلال فريضة الحج. اختار بن نبي هذه العبارة عنوانا لرواية كتبها بعجالة وبين سفرتين في غرفة فندق. وتم نشرها سنة 1947 م عن (دار النهضة) بالجزائر. لم يتسن لهذه الرواية أن يعاد نشرها إلا بمناسبة الذكرى المئوية لوفاة بن نبي. تدور أحداث القصة في مدينة عنابة (بونة إبان الحقبة الاستعمارية)، حيث وضع بن نبي القارئ آنذاك وحتى اليوم في الأجواء التي كان يعيشها الإنسان الجزائري البسيط في كل مدينة جزائرية كعنابة، حيث مؤثرات النمط الأوربي قد طغت على الجو العام. فالعم محمد، والطفل هادي والسكير إبراهيم وزوجته، كانوا يمثلون الشعب الجزائري بمختلف فئاته. فالعم محمد يمثل الأصالة المتجذرة في

الأمة. أما إبراهيم فهو يمثل - وعلى انحرافه عن الطريق السليم - الجيل الذي احتك وعايش المجتمع الأوربي في الجزائر حيث كان في حيرة من أمره. فكل ما تعلمه منذ الصغر وإن كان غائصا في أعماقه، فإن ما يطفو على السطح لا يتناسب مع أحاسيسه العميقة. إنه الفرع الذي يعانيه كل امرئ غير مقتنع بعقيدته ومقوماته الأخلاقية. لكنه استدرك الأمر، وأدى إبراهيم فريضة الحج. والقارئ المتأمل في سيرة إبراهيم، يجد أنه مهما حاد المؤمن عن سواء السبيل، فإن إخلاصه لذكريات ما - عائلية كانت أم فكرية - يمثل غرسا للفرد وعودة للهداية من طال زيغه. ألقى بن نبي التفاتة إلى النشء المتمثل في شخصية هادي. هذه الشريحة من المجتمع التي ما فتئ بن نبي ينادي بأن تكون بمثابة رأس الحربة في كل عمل نهضوي. ففي كتابه (شروط النهضة) خص الجيل الصاعد بفصل تطرق فيه إلى دور الكشافة، وما يمكن أن تقوم به من عملية إحياء لدور الجيل الناشئ. لقد عايش بن نبي إرهاصات ثورة التحرير، وأدرك أن من قاموا بثورة الجزائر الخالدة، والصحوة التي

سبقتها، كانوا قد تتلمذوا داخل أفواج الكشافة، وفي التجمعات السياسية للحركة الوطنية مع اختلاف توجهاتها، مادام هدفها الأسمى والأوحد هو (الجزائر). إنه ذلك الجيل الذي يستطيع أن يواجه التحديات من خلال ما يقدمه من عمل موجه لبناء وطنه مستخدما مقوماته الأساسية: الإنسان، والتراب والوقت. لم ينس مالك بن نبي دور المرأة، فـ (زهرة) زوجة إبراهيم - وعلى ما عانته من ويلات وعربدات إبراهيم الليلية - ظلت تكن لزوجها كل الاحترام، وتتمنى له كل الخير وتعامله وكأنه أخوها أو ابنها، وإن اختلفت نظرتها للحياة. فمسبحة أم إبراهيم تمثل بالنسبة إليها ذلك الرصيد الثقافي المتوارث عبر الأجيال. والمرأة من الدعائم الأساسية للأمة، والأمينة على أصالتها. ألم يقل الشاعر: الأم مدرسة إذا أعددتها ... أعددت شعبا طيب الأعراق لم تخل كتابات مالك بن نبي من (عقيدة الآخر) (¬1). فالحوار الذي دار خلال الرحلة بين الربان ¬

_ (¬1) محاضرة ألقاها المترجم غي جامعة أكسفورد في جولية (تموز / يوليو) 2003 م بعنوان: (عقيدة الآخر في فكر =

ومجموعة الحجيج، لم يخل من إشارات الود والتفاهم على اختلاف المبادئ ووجهات النظر. فالإسلام يقوم على أسس التعايش بين فئات البشر مع اختلاف أعراقهم ولغاتهم ودياناتهم، ويرفض العزلة والانطواء. فالعصور الذهبية التي ميزت الحضارة الإسلامية كانت قد عرفت بودها تجاه موسى بن ميمون اليهودي والراهب هربرت. إن ترجمتنا أول مرة لهذه القصة إلى اللغة العربية - حسب مصادرنا - تمكن القارئ العربي من الاطلاع على أسلوب (بن نبي) الروائي، الذي لا يختلف كثيرا عن أسلوبه القصصي الذي تميز به في كتابه (مذكرات شاهد قرن). فرواية (لبيك: حج الفقراء)، تميزت بسلاسة الأسلوب في سرد الأحداث، وغناها بعنصر التشويق، إذ لم تخل كذلك من التنكيت والطرافة وتلك خاصية امتاز بها سكان الجنوب القسنطيني خاصة في مدينة تبسة والمدن المحيطة بها، كدوار (قساس) - آنذاك- التي عمل فيها بن نبي مع خاله في مطحنة حبوب بعد تخرجه في مدرسة قسنطينة.

_ = مالك بن نبي). صدرت كدراسة في مجلة Maghreb Review، 29، عدد 1 - 4، 2004 م.

ولذكر هذه الأحداث، فإن بن نبي لم يكن يسعى لأن يكون مفكرا، يدرس مشكلات مجتمعه وينظر لها، بقدر ما كان ساعيا لأن يكون (كاتب قصة)، - كما صرح بذلك لابنه الروحي السيد عمر كامل مسقاوي كما كان يناديه - ولكنه أبى أن يكون كذلك، (لأنه كان صاحب قضية يدافع عنها). إن الأستاذ عمر مسقاوي لم يدخر أي جهد في إيصال الأمانة - الأفكار - إلى أصحابها وذلك منذ نصف قرن، فلقد كانت - ومازالت - قضيته بعد وفاة أبيه الروحي بن نبي. فإذا لم يسمح الاستعمار يوما لبن نبي بمزاولة دراسة القانون في فرنسة، فإن تبليغ الأمانة لم يسمح أيضا للأستاذ مسقاوي بمزاولة دراسته العليا يوما بفرنسة. لذلك يحسن بنا أن نقول: إنه إذا شاء الله بمفكر أو بأفكار خيرا فليرسل إليهم الأستاذ عمر كامل مسقاوي. فهل نتوانى نحن في الدفاع عن قضيتنا، ولا نسعى للنهوض بأمتنا إلى الأمام وإن كثرت الصعاب؟. أنركن إلى الكسل وإلى الهوان، ننتظر ونحيا حياة الحجر؟. إذا كان إبراهيم السكير قد تاب وعاد إلى التشمير عن سواعده، ليباشر العمل في حمام يبيع

فيه المشروبات لرواده. ومن ثم فإن السواعد الجزائرية ينتظر منها أن تقوم بما قام به إبراهيم: أي العمل. فالعمل وإن كان بسيطا، فإن توجيهه الصحيح يمكن أن يثمر إذا كان من أهدافه هدف اجتماعي لا كسب للقوت اليومي فحسب. إن العمل وتوجيهه لا يؤتي أكله إذا لم يكن مصحوبا ومدعما بنزعة تحد، يخالجها نبذ للعوامل الداخلية كالقابلية للاستعمار والروح الانهزامية وقلة الفاعلية. فالطفل هادي تحدى رفاقه وصعد إلى المركب ليحج هو الآخر، وإن كان بينه وبين البيت الحرام بحر. فتحدي هادي، ونقاوة نفس إبراهيم دفعت بهما إلى أبعد الأمصار، لأن العزيمة أقوى من أن تقهر. فالشاعر الشاب (¬1) لم يخطئ عندما قال: ومن يتهيب صعود الجبال ... يعش أبد الدهر بين الحفر ¬

_ (¬1) ابو القاسم الشابي الشاعر التونسي الشاب الذي توفي وعمره 20 ربيعا.

وشاءت الأقدار أن يشارك في صياغة نص هذه الترجمة بعض المثقفين من محور طنجة - جاكرتا مثل الأخوين الطيب ولد عروسي وعثمان عبد المجيد، اللذين أقدم لهما كل امتناننا وتشكراتنا. كما أشكر الأصدقاء الذين لم يدخروا أي جهد، أذكر منهم الأساتذة: حاج عبد الرحمن، وبديار، وبن حجة. رحم الله بن نبي إذ كان يقول: (الصعوبات من علامة النمو)، فإذا كان نمو أمتنا محفوفا بالصعاب، فإن المسلم عامة والجزائري خاصة، لا يبالون على أي جنب يكون مصرعهم للإيفاء بهذه المهمة وهذا من طباعهم المعهودة. ونأمل التوفيق والعمل المثمر من أجل بلدنا وأمتنا. المترجم (ز. خ) باريس، 5 جويلية (تموز/ يوليو) 2007 م.

نص رسالة المؤلف بن نبي إلى الناشر

نص رسالة المؤلف بن نبي إلى الناشر سيدي الناشر، إن الرواية التي أتقدم بها إليكم قصة مرتجلة لحج بطلي القصة، كتبت القصة في غرفة فندق بين سفرتين متقاربتين جدا. فبالإضافة إلى الأخطاء التقنية هنالك أخطاء أخرى قد لا يكون مفر منها، خاصة عندما نكتب في عجالة. ولم يكن لدي متسع من الوقت لأتعرف على الأشخاص بصورة كافية، خاصة الشخصيتين اللتين قامت حولهما القصة وهما الفحام والطفل اللذان عاشا في مدينة عنابة. أما الجانب الخيالي الوحيد فيتمثل في الصلة التي وضعتها بين الأشخاص في المكان والزمان، حتى

مغامرة الحاج التونسي الذي منع من الحج فهي حقيقة قد شغلت الصحافة التونسية آنذاك. وإذا كانت هذه التفاصيل المادية للأحداث معروفة لدي بمنتهى الإتقان، فليست بالمثل فيما يتعلق بمجراها العاطفي والروحي. فقد أسيت كثيرا عندما حاولت اكتشاف الأشخاص في مرحلة خاصة من حياتهم، بينما لم أستطع اكتشافهم في الوقت القصير الذي خصصته لهم أي حوالي الشهر. ومع هذا، فقد خالجني شعور حسبما هو متعارف عليه، بأن التلقائية كانت تنقصهم. وحقيقة فإذ هذا راجع إلى وضع آخر أي الإطار المتفق عليه في الحج الذي يتحرك فيه إبراهيم والهادي، وخصوصا إذا كان تجمع حجاجي فوق المركب يبدو غير متحرك وكأنه متكون من جسم واحد وليس من أفراد مختلفين، فإن هذا يرجع إلى الإطار حيث الأشكال والأفكار والمشاعر متقاربة بعض الشيء. ولم تكن لي النية بصورة سطحية على الأقل أن أنظر في روح المجموعة ما عدا شخصيتي إبراهيم والهادي، ولكن كان علي أن أتمعن في هيئتهم الأكثر

لقد أردت أن أمس جزءا مهما من الفلكلور الجزائري، لذلك بدا لي أن مقدمة قصيرة تعد ضرورية حتى نستطيع وضع القارئ الأجنبي في أجواء الحج في الإسلام. فالإنسان يقترح والله يهيئ .... تقبلوا مني سيدي الناشر وصديقي العزيز فائق الاحترام وعظيم التقدير.

لبيك: حج الفقراء

لبيك: حج الفقراء إن التقويم القمري يجعل الأعياد والتقاليد الدينية الإسلامية تتعاقب منذ ثلاثة عشر قرنا على مختلف مراحل السنة. ففي عائلة ما، حيث يكون الأب قد أدى فريضة الحج بالأرض المقدسة في فصل الصيف بإمكان الابن أن يؤديها في عز الشتاء، ولهذا باستثناء المقيمين في الجزيرة العربية والمعتادين على مناخها القاسي، فإن المسلمين يخشون الحج في موسم الحر. كم من نية مبرورة تتلاشى، وأكثر من أمنية تنسى أمام فكرة السعي تحت شمس مكة. ينبغي الإحساس بالنداء الحقيقي للحج، النداء الذي لا يقاوم كي يلبى بقوة لا تقهر إن في الشتاء وإن في الصيف. (لبيك) أنا لك، إلهي.

منذ ثلاثة عشر قرنا وفي كل سنة ينبجس النداء العجيب داخل أعماق النفوس، ليؤثر غالبا في البسطاء، فيستجيب الذين هم في أقاصي البلاد المسلمة. (لبيك، لبيك). إنه هتاف الأرواح التي تقشعر عند سماع نداء هجرة ميمونة، فهو أشد غلبة من النداء العجيب الذي يتردد في غريزة بعض الأسماك ليقودها في هجرة تزاوج نحو بقعة ما بعيدة حيث تتم معجزة تحولها وتكاثرها. في كل عام أيضا، يترك آلاف المؤمنين قطعانهم وحقولهم، ومتاجرهم أو خيامهم وينفصلون عن عائلاتهم للالتحاق بالرحلة المبرورة التي تقوم بها الأرواح المؤمنة. في هذا العام وافق موسم الحج شهر أبريل، شهر البساتين المزهرة والنسيم العليل الذي ينثر على الأرض نوريات الورود وزهور شجر البرتقال، فيغمر السهل العنابي بعبقات بلسمية. إن حجيج القطاع القسنطيني القادمين إلى عنابة، ليستقلوا الباخرة، كانوا عندما يمر بهم القطار خلال

هذا الأريج يشعرون بأنه نسمة من روح الجنة وريحانها، وبشرى بالرحمات لعباده المخلصين. فيزدادون بذلك إيمانا على إيمانهم وهم يرددون بين طرفي القطار بصوت واحد: (لبيك اللهم لبيك). إن عنابة كانت تعيش في عرس وكانت تستقبل الحجيج الوافدين بالقطارات والذين كانت بواخرهم قد أرست. فينتشرون في المدينة للتزود بالزاد الذي يكفيهم للرحلة، أو للصلاة في المسجد. وكثير من الحجيج تستضيفهم عائلات المدينة، حيث تتشرف بتقديم آخر الوجبات للمتوجهين إلى البقاع المقدسة. فالحاج ليس ضيفا عاديا، لذا يجب أن تحفظ أصول الضيافة معه فحتى عجائز الدار المضيفة يخصصنه باستقبال حار مفعم بأجواء عائلية وكلهن حزن شديد لأنهن لم يفزن بسعادة (غسل عظامهن) بماء زمزم. - في العام المقبل إن شاء الله! - في العام المقبل إن شاء الله!

- إن شاء الله! إن شاء الله! ادع لنا عند قبر الرسول .. - العام المقبل، إن بقينا أحياء. - آه! كم أتمنى أن أموت هناك! هذه العبارات البسيطة تكشف عما تكنه النفس المؤمنة من حنين إلى واد بعيد (واد غير ذي زرع)، حيث ترك إبراهيم ذريته لكي يعبدوا الله. هذا الوادي الذي يدعو إليه دائما، القلوب الرحيمة التي تشدها الهجرة المبرورة كل عام. وفي هذه اللحظات حينما يتبادل الناس مثل هذه العبارات، كم من أعين للشيوخ والعجائز تفيض بالدمع. يقول قريب الحاج، وصاحبه، ومضيفه: (ادع لي، هناك). وكل عابر سبيل يلتقي في طريقه بالحاج يحمله الدعاء الذي ينوء صاحبه بحمله. في هذا اليوم، كانت عنابة تحتفل بالحجيج. وكانت الحركة غير عادية قرب محطة القطار، وعند المرفأ منذ اقتراب الباخرة. كان الجو رائعا في المساء، وكانت ليلة متوسطية

خفيفة وشفافة كأنها سجف مرصع بالمجوهرات يلف المدينة والميناء. الأزقة التي كانت تعج بالناس في الصباح، أمست الآن خالية وانطفأت أنوار المتاجر الواحد تلو الآخر كما تنطفئ أنوار فوانيس عرس قد انتهى. وقد لاح القمر ساحبا أشعته بين الأسطح المتقاربة. في واحد من هذه الأزقة، تراءى طيف شخصين مترنحين توقفا أمام باب دكان، وتأهب أحدهما لفتح الباب في حين تمايل الآخر لحظة ثم استلقى أرضا على امتداد حائط المتجر مخاطبا صاحبه بصوت مخمور: - دبر أمرك، أنا سأنام هنا ... أما الثاني الذي وجهت له هذه العبارة، فما زال يحاول عبثا فتح الباب، غير أن توازنه، غير الثابت، لم يسمح له بالوصول إلى ثقب قفل الباب فصب جام غضبه على المفتاح العاق، والباب المتمرد. وبدا له - وقد أتعبته الحرب - أن يترك المحاولة ليتأمل لحظة صاحبه المستلقي على الأرض. كان في نظرته شيء من الحقد ومن شفقة على هذا الرجل الذي لا يستطيع أن يقاوم الخمر.

هذه العجرفة، التي يشترك فيها كل الذين يتعاطون الخمر، ألهمته فرحة مفاجئة، فأنشد يغني بمقاطع غير مفهومة من اللغة وعلى إيقاع كل المخمورين. لقد أزعج صوته الهدوء الذي كان يسود على الشارع، وفجأة، فتحت نافذة مشربية المنزل المقابل، حيث لاح خيال شخص، تحت ضوء الستار المشدود والمصاريع المدفوعة. بدا الخيال منحنيا على الشارع هنيهة، ثم تراجع ساحبا وراءه المصاريع. وبعد دقائق فتح باب المنزل، فظهر شخص مرتديا لباسا أبيض تاركا خلفه صفق الباب نصف مفتوح واتجه بخطا صغيرة نحو السكير الذي كان يغني. - ماذا بعد يا إبراهيم؟ مرة أخرى ثملا؟!، ألا تفكر أنك في هذه الساعة المتأخرة تزعج جيرانك المساكين؟. - هل تدري أنني اضطررت إلى قطع صلاتي حتى لا أدعك تصرخ طوال الليل تحت نافذتي؟. صمت الرجل الثمل فجأة لدى رؤية مخاطبه الذي

كان قد ألقى عليه هذه الكلمات وهمهم بصوت خافت، وقال شيئا يشبه الاعتذار وصل بعسر إلى شفتيه. - آسف عمي محمد، إنه مكتوب على الجبين، والله إنه مكتوب، آسف .. لن أقوم بأي إزعاج. سأخلد إلى النوم. الذي يخاطبه كان شيخا له لحية بيضاء وحول عنقه سبحة مثل هؤلاء الشيوخ الذين نجدهم على درج مدخل جامع الباي ينتظرون نداء المؤذن وهم يحدقون بمتعة في الغادي والرائح في الساحة. أمعن الشيخ النظر برهة بحزن في السكير المسكين الذي كان يترنح أمامه، وكذلك صاحبه المستلقي على الأرض. كان وميض مصباح الشارع الضعيف كافيا ليضيء الظل المتمايل للسكير. وكانت سمات وجهه تتميز بتلك اللطافة الخاصة التي تدل على انحداره من هذا الوسط البرجوازي الإسلامي، الذي لا يشتغل، والذي كان يعيش حالة من التقوى والفرع والترف إلى أن حدث التحول الاجتماعي الذي هز الجزائر خاصة منذ سنة 1918 م. قد يكون في الثلاثين من عمره، لون

بشرته الباهت الخاص بسكان مدن شمال إفريقية يكشف عن أصوله الحضرية. كان يرتدي مئزرا طويلا يصل إلى الكعب ومنتعلا حذاء قماشيا ويضع فوق رأسه شاشية متآكلة وعليها دسم القرف، حيث تعكس ضوء المصباح. أخذ منه الشيخ المفتاح وهو يتمتم: أنت مسكين يا إبراهيم، أنت لا تستشعر ذكرى والديك اللذين كانا مؤمنين تقيين. كانا يريدان أن تكون شيئا آخر غير الذي أنت عليه الآن. وأردف الشيخ قائلا وهو يدخل المفتاح في القفل: (ليحفظك الله. ادخل، ادخل) مخاطبأ السكير وهو يمد يده إليه لكي يساعده على تجاوز العتبة. دخل الشيخ معه إلى الداخل وكأنه يعرف تفاصيل المكان. كان يتحسس في الظلام بيديه، تناول علبة الكبريت وبزند عود منها أشعل شمعة وضعت فوق صندوق حانوتي. كان إبراهيم يتوسط المحل الذي كان دكانا للفحم. وكانت تتدلى خيوط العنكبوت، من خشب السقف الذي لا يمكن التعرف من خلاله على طبقة

كلس الجير الممسوحة لكثرة تراكم غبار الفحم الذي صبغ المكان هناك في الداخل. وفي ركن منه، توجد كومة فحم بجانبها أكياس مملوءة لم تفتح بعد. أما الغربال وميزان الفحم، فقد أكملا تأثيث هذا الجانب من المحل. وفي الجانب الآخر، وضع صندوق فوقه الشمعة التي لا تكاد تضيء سريرا حقيرا وهو المتاع الشخصي الوحيد في هذا المتجر والذي يمثل حجرة نومه أيضا. وكأن إبراهيم، وهو واقف في وسط الغرفة بقميصه المدبوغ مع يديه بغبار الفحم، يجسد الروح السوداء لهذا المكان المعتم. غادره الشيخ دون أن يتبس بكلمة واحدة وأغلق الباب ثم ألقى تحته المفتاح. مكث إبراهيم في مكانه مترددا، تنهد بقوة وهو يترنح مرتين أو ثلاثا وتمكن من التوجه أخيرا نحو الركن؛ أي غرفة نومه. بترو، حاول أن يطفئ الشمعة قبل أن يتمدد على فراشه لكن نفسه الممزوج باللعاب لم يسعفه. وإذ تقطع

نفسه، ترك يده تسقط على الشمعة فانطفأت، وفي الوقت نفسه فقد التوازن وسقط على فراشه بالمصادفة. وبعد دقيقة، علا شخيره الذي ملأ المكان وكان بمثابة صدى لشخير صاحبه المضطجع في الخارج. كان الليل في آخره عندما تململ إبراهيم في ركنه. لقد انتابه إحساس مبهم، كأن أحدا قد أيقظه، فاستيقظ وهو يتألم من ذراعه نتيجة الوضعية غير المريحة التي اتخذها عند سقوطه حينما أراد إطفاء الشمعة. لقد خطرت بباله المخدر، ذكرى تلاشى بها إحساسه بالألم، بيد أنها بقيت ذكرى غامضة. - قال محدثا نفسه وهو يمسح عينيه: (لقد كان حلما). ولكي يطرد الظلمة التي تلف هذه الذكرى راح يتحسس الصندوق باحثا عن علبة الثقاب لكي يشعل الشمعة. أشعل الشمعة ثم اتخذ وضعية مريحة على فراشه، كان يحاول أن يمسك بأول خيط لحلمه الذي ترك في روحه لذة مبهمة. لكن حاول سدى الاستنجاد بذاكرته التي أنهكها الخمر. ورغم ذلك توافدت أفكار طفت إثرها حوادث ليلة البارحة.

كان طيشه قد بدأ في دكانه الصغير حيث تناول عشاءه رفقة جماعة من المخمورين: ممبار وفلفل حار وكله مخلل بكميات هائلة من الشراب الأحمر. إنه الطعام التقليدي لكل المشردين في المرافئ الجزائرية. كان إبراهيم قد خرج ثملا، عندما غادر المتجر كي يواصل شرابه في أماكن أخرى بالقرب من المحطة. فهو يذكر الآن الحشود الهائلة في ساحة المحطة حين كان يخترق الجموع التي تبدو كأنها تنتظر شيئا ما. وما لبث أن أحدث صفير القطار الداخل إلى المحطة، حركة جامحة، فانضم إبراهيم إلى تلك الجموع مازجا مقاصده المشوشة مع محاوراتهم. عندما خرج المسافرون من المحطة، اشتد صخب الجموع وتعالت أصواتهم بالهتاف للذين تعرفوا عليهم بأنهم حجاج مهمهمين لهم: - أنتم السابقون ونحن اللاحقون. - إن شاء الله!، إن شاء الله! وكان إبراهيم قد شاركهم أمنيتهم أيضا، وقد غمره، دون أن يعي الشعور الذي كان يخالج الحشد، حتى

إنه انتهر رفيقه الذي كان معه عندما جره بيده، مثرثرا باستهزاء وهو يحاول أن يأخذه إلى حانة أخرى فجمع كل كرامته التي فرضتها عليه حالته الحزينة تلك، ليجيبه قائلا: (أتظنني كافرا مثلك؟ أنت الذي لا تعرف شيئا عن دينك، فأنا قد حفظت ستين حزبا في حين أنك لا تحفظ ما يكفي لتأدية صلاتك). وأصلا، لم يفهم صاحبه أي شيء من هذه الخطبة، وأصر على أن يجره معه إلى الحانة. ولكن على غيرته على دينه استسلم إبراهيم لتناول كأس أخيرة. فجأة، وفي هذا المكان، انقطع مشهد الذكريات من ذهنه، وكأن ستارا حاجبا سقط فغطى ذلك المشهد وعاد إلى ذاكرته ذلك الحلم الذي حاول إبراهيم استشعاره: - وتذكر فجأة: (أجل، لقد حلمت بالكعبة ..). شيئا فشيئا بدأ حلمه يتضح، لقد رأى نفسه في لباس الإحرام، اللباس الذي يرتديه الحاج خلال أدائه لتلك المناسك.

ترك هذا الحلم إبراهيم في حيرة من أمره، كان يريد أن يجد تفسيرا لهذا الحلم فلا يوجد مسلم لا يؤمن بتأويل عملي لرؤاه. بل إنه يوجد علم تفسير الأحلام الذي تجلت فيه على مر العصور فطنة بعض علماء تأويل الأحلام. إن الإلهام موجود عند الصوفية بل هي أساليب لها طرقها وقواعدها. فالمسلم، إذا ما احتاج أن يتبين أمرا ما، استخار فيه الله ليلهمه عن طريق رؤيا في الحلم. لقد كان إبراهيم، على سوء تعرجات حياته، يحافظ على الروح الصوفية التي ورثها عن السلالة الصالحة لأسلافه. لقد كان مغزى حلمه يشغله: - ترى ماذا بعني أن أرى نفسي في لباس الإحرام؟ ظل فكره يطارد بلذة ذلك الحلم الذي يعتقد أنه رآه. وبعيتين نصف مغمضتين، كان إبراهيم يرى نفسه برفقة الحجيج، الذين سيبحر مركبهم صباح هذا اليوم قبل منتصف النهار كما سمع ذلك خلال جولته البارحة عندما كان برفقة جماعته.

غير أن شيئا ما لا يصدق كان قد أضاء في شعوره والذي استسلم بعده لسكون لذيذ. لكنه بذل جهدا ليكبح قفزة شعوره. وكان يريد أن يطلق العنان لروحه التي كانت تتمسك بدرب حلمه، كان يرى بين جفنيه وكأنه خارج من مرفأ عنابة والمركب يعج بهتافات الحجيج الملبية لدعوة الحج وصفارات الإقلاع من تلك الباخرة تصطحبهم مثل نغمات الأرغن L'orgue. وفعلا جسد إبراهيم، ودون وعي، المشهد مرددا بأعلى صوته: لبيك لبيك. لقد فاجأه صوته الشاذ الذي اخترق صمت المحل. لكن روحه واصلت ملاحقة حلمه، الذي أقحم فيه كل ما يعرفه من مفاهيم عن الحج، إذ تعد هذه المعارف جزءا من ميراث كل عائلة مسلمة. إن أجيالا من الحجاج حملوا من مكة انطباعاتهم ومفارقاتهم وبذلك كونوا جزءا مهما من التراث الشعبي الإسلامي. هل سيتابع إبراهيم حلمه كما يحلو له، أو بالأحرى سيوجهه نحو المسار العادي للحجاج؟

بالنسبة إلى المسلم العادي من شمال إفريقية، كما هو حال الفحام، تبدأ المرحلة الحقيقية للرحلة المقدسة من بور سعيد، الذي ينطقه عرب المغرب (البر السعيد). بالنسبة إلى الناس البسطاء من هذا المكان يبدأ الحج إلى الأراضي المقدسة، إن طائفة من التفاصيل المتعرجة تبدأ تسترعي اهتمام الحاج بدءا من دخوله البحر الأحمر، فتذكره تارة بحدث ديني من الماضي وتارة أخرى منسكا يجب القيام به. وهكذا الحال مع أجيال من الحجيج، هكذا كانت تسمي (حفرة فرعون) حيث التاريخ المقدس يشير إلى معبر موسى في البحر الأحمر، ويقولون إن فرعون مازال في هذه الحفرة حبيس الدوامة إلى آخر الدهر. عند هذا المكان، وفي كل سنة يراقب الحجيج من فوق مركبهم (حفرة فرعون) وبعضهم يدعي أنه حقا رآه. من هذا المكان، يمكن أيضا رؤية (جبل الطور) حيث كلم الله موسى بالوادي المقدس حيث رأى رسول بني إسرائيل (القبس). بعده يظهر الميناء الحجازي الصغير (رابغ) الذي ينبه الحجيج بأنهم قد دخلوا المنطقة المقدسة، حيث

يتخلى الحاج عن ملابسه العادية: الجبة، البرنس والعمامة حاسر الرأس ولا يتزيا إلا بلباس الإحرام. من هنا تبدأ حياته التعبدية وشعائره الدينية. وينسى كل شيء يربطه بالأرض، وبالعائلة وبمصالحه الدنيوية. لبيك اللهم لبيك. وانطلاقا من (رابغ) لا تنقطع هذه التلبية فوق المركب الذي يحمل الحجاج منها إلى جدة. هكذا أرخى إبراهيم العنان لذكرياته التي ورثها عن جدته التي كانت تحكيها لهم في ليالي سمرهم العائلي عندما كان صبيا. فتذكر جدته العجوز التي كانت تسحره بقصصها الرائعة، وذكريات عمر ذهبي تطربه، والحنين يجتاحه إلى ماضيه العائلي، إلى والده وأمه وإلى طفولته. فجأة تسلل إلى قلبه إحساس بالخطأ بسبب وجوده هنا، في محل الفحام، وعلى هذا الفراش الحقير. حاول جادا أن يتخلص من هذا الإحساس المؤلم والعودة إلى أحلامه. فوصله صوت شخير من الخارج، تذكر رفيقه، كان من عادته عندما يرجع من دورية أن يرقده في المتجر هذا إذا لم يستلق مصروعا بالخمر على حافة مجرى الماء. وعلم هذه المرة أيضا، أن

رفيقه لم يقو على اجتياز عتبة المتجر واستلقى على مدخله، وقد ملأ شخيره غرفة إبراهيم الذي لم يعد قادرا على التلذذ بحلم اليقظة الذي كان يريد أن يتابعه إلى جدة ومكة ثم المدينة ... لقد انقطع سحر الحلم لدى إبراهيم الذي عاد فكره مرغما، إلى أجواء المحل. والآن، إذ غيناه وهما نصف مغمضتين تريان صورا أكثر حسية. تجول بصره في دكانه المعتم الذي كانت تبثه الشمعة بضوئها الخافت ودخانها. بدأت نشوة الحلم الذي رآه في نومه ويقظته تتلاشى حين أدرك حالته الراهنة والأشياء القاتمة التي كانت تحيط به. انتابه إحساس بالاختناق جعله يعتدل جالسا متكئا على ذراعيه، فوقع نظره على رجليه الممدودتين والمنتعلتين حذاءه القماشي الذي لم ينزعه منذ البارحة حين تهاوى على فراشه. أحس إبراهيم بخجل مضاعف من فردتي حذائه: حذاؤه الذي لم يكن يلبس مثله سوى (أولاد الحرام) مثلما يطلق على السفلة في الجزائر. فحذاء كهذا بالنسبة إلى الناس الطيبين من الجيل السالف، لا ينتعله إلا قطاع الطرق وأشخاص في

منتهى النذالة لكي يفاجئوا غيرهم دون إصدار صوت أو للفرار بسرعة. هذا الحكم المسبق بقي في العائلات الشريفة، وقد ورثه إبراهيم خلال تربيته في أثناء الطفولة ومازال متأثرا به حتى هذه اللحظة. ابتلع إبراهيم ريقه، وكأنه جرعة من المرارة يصطحبها شعور بالخجل والألم، لم يعهدهما منذ زمن طويل. وأمعن النظر مرة أخرى في حذائه ثم انفجر ضاحكا وكأن نوبة جنون قد ألمت به. وكان يمتزج في فكره منظر حذائه ودكانه مع الإحساس المتناقض الذي أيقظته في نفسه كلمة (بوقرعة) وكلمة (الحاج) ليخطر بباله موضوع مثير للسخرية. بعد أن مرت نوبة الضحك، بقي مدة مبهوتا وتخلص - وهو يختنق غيظا - من حذائه مثلما يتخلص أي إنسان من خزي ووصمة العار، وكان يعتريه هذا الإحساس الغريب الذي ينتاب المرأة الساقطة والذي يجعلها تتقبل الحاجز الذي يوضع بينها وبين المرأة الشريفة في الحمامات الشعبية والأحياء المجاورة لها.

ومهما يكن انحطاطها فإن النفس المسلمة تحافظ على بعض من كرامتها في مواجهة الإحساس بالخزي، وهي ترزح تحته. كان لدى إبراهيم هذا الإحساس بالخزي الذي ينزل بهذه الشريحة المشبوهة من الناس الذين طبعتهم الحياة التي أخذت منعطفا عصريا والذين هم متشردون دون مأوى ولا عائلة على هامش مجتمعين: مجتمع مسلم وآخر أوربي. كان لديه إحساس بأنه ينتمي إلى الشريحة الثانية هذه. وقد تنهد الآن برغبة مبهمة منه في الهروب، لكن الحنين إلى الماضي ملك فكره إذ طافت صورتان في ذاكرته. فتراءى له أبوه وأمه عندما كانا على قيد الحياة. كانت حياتهما ميسورة، كلها تقوى وانتظام في هذا البيت المقابل الذي يقطنه العم محمد، وفي هذا البيت نفسه كان إبراهيم قد تزوج، لكنه طرد منه لأنه لم يعد مرغوبا فيه بسبب سوء سلوكه إذ إنه كان (زبنطوط) (¬1) ¬

_ (¬1) كلمة من أصل عثماني وهي تشير في الأصل إلى رتبة عسكرية.

أي أعزب، بعد أن طلبت منه زوجته الخلع وحصلت على الطلاق. استرجع الآن إبراهيم مشهدا واحدا ذلكم هو المشهد الأخير من حياته الزوجية: كانت الساعة الثانية زوالا، وفي البيت الذي يقيم فيه العم محمد حاليا، حيث كان يسكن مع زهرة في غرفتين في الطابق العلوي. في هذا اليوم دخل صباحا مخمورا إلى حد لم يبلغه قط من قبل. وفي الساعة الثانية بعد الظهر استيقظ كالعادة بعد ليالي عربدته، وكانت زهرة تنتظر استيقاظه لتضع (الميدة) (طعام الغداء). كانت جالسة على إهاب خروف موضوع في (الصحن)، هذا الرواق الذي تطل عليه غرف المنازل ذات الطراز المغاربي. كانت قد عادت بعد أن قامت بغسل بعض الملابس لقتل الوقت، وارتسمت على صنحات وجهها رقة وحزن كمن به مرض عضال. كانت تعاني منذ مدة من سلوك إبراهيم غير السوي الذي كان يعذبها خاصة بعد انتقال والديه إلى الرفيق الأعلى. في هذا اليوم، وعلى غير عادتها كانت هادئة بل مسرورة، دون ذلك التقطيب بين عينيها الذي يعتريها

عندما تستعيد الشريط المؤلم لحياتها الزوجية. كانت هادئة لأن (قزانة) أي قارئة حظ أنبأتها في الصباح أن معجزة ستقع في حياتها التي تتألم منها كثيرا، وأن سبب معاناتها سيزول. كان هذا شغلها الشاغل فكم من مرة كانت تنتقل إلى القبة لكي تشعل شمعة هناك على أمل أن ينتهي سبب معاناتها: فسوق إبراهيم. فلسنوات عديدة، كانت مع (القزانات) تجدد أملها. كانت مرة أخرى هادئة وكان الجو رائعا في هذا اليوم الربيعي، وبجوار أحد أعمدة الرواق كان هناك قفص معلق، بداخله كروان أصبح مع مر الزمن رفيقا لزهرة حتى إنها كانت تغني لتغريده وكانت كلما رأته ساكنا على أرجوحته تأتي لتكلمه. لقد تعودت على فهم حركات رأسه الصغير، كان يقول لها: (لا)، عندما يحرك رأسه يمينا ويسارا ويقول لها: (نعم)، عندما يخفض رأسه. كانت أجوبته وزقزقته كافية لتشعرها بالرفقة، خاصة عندما كانت تنتظر استيقاظ زوجها بعد الزوال أو عودته من الحانة.

وهي ترفع القفص، أطلق العصفور زقزقات تأثرت بها زهرة فطفقت تشدو بأغنية شجية تهدئ روحها دائمة الحزن. إن انسجام الأغنية الشجية مع النغمات شغلها إلى درجة أنها لم تسمع زوجها الذي ناداها مرتين أو ثلاثا من داخل الغرفة عندما اسيقظ وراح يتابع المشهد من العتبة وهو لا يزال نصف مخمور. إنه لمن أسوأ الظروف عندما يكون إنسان ما نصف مخمور حين يبدأ يفيق تدريجيا من سكره. أحس إبراهيم بأنه محتقر من قبل زهرة التي تبدو له وكأنها لا تعيره اهتماما كافيا مثل الذي تعيره للعصفور، فاستشاط غضبا من الإهانة التي تعرض لها كبرياؤه، فانقض على القفص دون أن ينبس بكلمة واحدة وألقى به في صحن البيت. فأطلقت زهرة صرخة ألم وهبطت في السلالم مسرعة لتأخذ القفص حيث لفظ العصفور آخر انغامه ... غير أنها لم تصعد مرة أخرى ولم يرها إبراهيم منذ ذلك اليوم إلا مرة واحدة عند القاضي الذي أعلن طلاقها منه.

هنا تدخل العم محمد ليضع حدا لفضائح إبراهيم وعربداته وكان تدخله هذا احتراما لجيرانه الشرفاء، امتثل إبراهيم طوعا لقرار طلب صديق العائلة الحميم الذي كان وراء حصوله على المتجر الذي يقيم فيه الآن. إن العم محمد كان يفكر في الوقت نفسه بإيوائه وأن يفتتح له بقالة بميزانية صغيرة على أمل أن تنقذه من هذا الوحل السيئ الذي غاص فيه. لكن إبراهيم واصل بصورة مستمرة تدنيه أكثر فأكثر نحو القاع، فقد بدد رأس المال واستطاع العم محمد بصعوبة أن يبقي له المحل. ولم يدفعه ويشجعه إلا بعد مدة من ذلك على أن يحول رأس ماله إلى تجارة بيع الفحم وعندما صفى إبراهيم كل أملاك العائلة أظهر نيته أيضا في بيع البيت إلا أن عمه محمد تمكن بجهد كبير من أن يمتعه من ذلك بواسطة مبلغ خصمه من إيجاره في المستقبل كي يساعده على إقامة مشروعه الحالي. مرت هذه الذكريات في مخيلة إبراهيم، الذي لم ينتبه إلى حاله الراهن منذ أمد بعيد، لقد تنبه إلى وضعه المزري الذي وصل إليه؛ هذا الوضع المخزي الذي يعيره به صبيان أزقة بونة بلقب (بوقرعة) (صاحب قارورة النبيذ).

في أول الأمر كان يجد في نفسه قوة ليسخط بطريقته على إهانة هؤلاء الصبية ووقاحتهم إذ كان يرد عليهم ببعض البذاءات أو بعض التهديدات. ولكن منذ وقت طويل تلاشت فيه هذه المجابهة وصار غير مبال بسخرية الأطفال. فعندما يحكم الوسط الاجتماعي على شخص ما، فالأطفال هم الذين يصدرون الحكم بشراسة فينعتون المجنون بالمجنون والسكير بالسكير. فهم القضاة المدافعون عن المصالح والأعراف والتقاليد. لقد كان إبراهيم منذ مدة يرضى بحكم الوسط الاجتماعي: في السخرية التي يعير بها في الشارع (يا بوقرعة). وتساءل في نفسه وهو يطفئ خيط الشمعة التي كانت تطلق دخانا منذ مدة: كيف يمكن التخلص من هذه الأحكام؟. فجأة انطلق صوت مؤذن الفجر الذي اخترق السكون الذي يلف المدينة النائمة وبث في أزقتها الخالية الصدى الداعي إلى الصلاة: الله أكبر! الله أكبر! استمع إبراهيم إلى هذا الصوت الذي يشدو كل صباح على امتداد آفاق الإسلام كأنه لم يسمعه منذ أمد

بعيد. سمعه كمن أيقظه بعد نوم عميق ليناديه إلى الصلاة. كان يحس وكأن الأذان قد أيقظه من سبات دام لسنوات طوال. هذا الصوت أيقظ فيه أيضا أصداء بعيدة، فتذكر أنه في مثل هذا الوقت كان ينهض والده لكي يتوضأ ويصلي. وردد الصوت نداءه الأخير على المدينة النائمة مناديا: - حي على الفلاح! الله أكبر، لا إله إلا الله. وهو يستمع إلى النداء الذي تلاشى ببطء في السماء، تراءى له بغموض تناقض ما كان قد تجلى بداخله من قبل. في هذه اللحظة كان إحساسه بالاستسلام إلى (المكتوب) وذلك الانجذاب الذي أحدثه صوت المؤذن في نفسه يتصادمان. لكن طبيعته حادت به عن التفكير في السر الموجود في مثل هكذا تناقض. فعقله كان يرفض حل هذا الجدال الشائك الذي تشمئز منه نفسه، واكتفى سرا فقط بترديد قول المؤذن: حي على الفلاح! هذه العبارة التي لخصت حالته النفسية في هذه الدقيقة تناهت إليه مثل صدى لحرار داخلي كان قد

أفلت من شعوره، فأحس بخفة روحه وكأنها تخلصت من قيودها الثقيلة التي كان يظن أنها لن تنفك عنه أبدا. وفي الشارع كانت هنالك خطوات يسمع وقعها وهي تبتعد، وكان دخان الشمعة يملأ المحل ويزعجه. فجأه أراد الخروج منه وقد أحس بنفور تجاه المكان وكل الأشياء القاتمة المحيطة به، تنبه إلى أنه ومنذ زمن بعيد لم يشهد طلوع الفجر ولم يستنشق النسيم العليل للصباح. فانتعل حذاءه، وخرج إلى عتبة المحل. النهار لم يطلع بعد وقد خيم ضباب خبازي على الزقاق. رأى إبراهيم رفيقه المستلقي على الأرض كأنه تكوم على كتفي الباب. رفع إبراهيم رأس صاحبه الذي فوجئ به إذ وجد نفسه جالسا فخاطبه متذمرا: - دعني وشأني يا إبراهيم! دفع الفحام بقدمه وبرفق الرجل الذي لم يكد يستيقظ، وأجبره على النهوض قائلا له: (قم، قم، لتنم في مكاني). امتثل الرجل أمر إبراهيم دون احتجاج، وذهب

للتمدد على الفراش. أطفأ إبراهيم الشمعة ثم خرج بعد أن أغلق الباب خلفه. تردد إبراهيم لحظة في الخارج، ثم اتجه بعفوية نحو الشمال باتجاه المسجد الذي لاحت له منارته السامقة في سماء لونها خبازي امتزج بلون وردي باهت. عندما انتهى إلى الساحة، رأى أطيافا بيضا تدخل المسجد من الباب المركزي الذي يؤدي إلى مدخل مغطى تنيره أضواء تنبعث من قاعة الصلاة. اتجه إبراهيم بعفوية نحو الأضواء صاعدا أدراج المدخل ولكنه لم يجرؤ على تخطي عتبة باب المسجد، حيث تناهت إلى مسامعه همسة عادة ما تسمع عند أبواب المساجد في أوقات الصلاة. تملكه إحساس بالضيق شله ومنعه من تخظي الباب وكأن قوة ما تدفعه إلى الوراء. إنه يعرف هذه القوة التي تمنع كل مسلم، من تجاوز عتبة المسجد أو تناول المصحف إذا لم يكن على طهارة. لكن إحساسه بالضيق راوده لأنه لم يكن طاهرا إذ لم يتوضأ. أثقله هذا الإحساس وأقعده عند عتبة باب المسجد. تناهى إلى مسمعه صوت المسمع الذي كان

يكرر ما يقوله الإمام ليسع من يليه كأنه نغمة أرغن (الله أكبر). تتبع إبراهيم مشهد صلاة الجماعة الذي كان مألوفا لديه، حيث ارتفعت همسات أهل المسجد مرددة مرة أخرى: (السلام عليكم). علم إبراهيم الذي يعرف جيدا تلك المناسك، أنه بعد الانتهاء من الصلاة يأتي الذكر والدعاء حين ترفع أياد متضرعة إلى الله راجين منه أن يستجيب لدعائهم. رفع إبراهيم يديه متضرعا وقد فاضت عيناه بالدموع التي انهمرت على خديه ثم رفع بصره إلى السماء متمتما: (يا رب اشفني من شروري فأنا مريض، اهدني سواء سبيلك فإني ضال). أضاء نور الصباح الجديد وجه إبراهيم الذي مازال مادا يديه إلى الله متضرعا، ويملؤه التأثر ويرجو هبة منه. شرع المصلون بالخروج. لمح أحدهم إبراهيم وهو على حالته تلك، فرجع على أعقابه ليضع في راحة يد إبراهيم قطعة من النقود ظانا أنه أحد المتسولين.

لم ينتبه إبراهيم إلى القطعة النقدية التي تدحرجت وسقطت بين رجليه. توالت أفواج أخرى من المصلين في الخروج من المسجد، يتحدثون فيما بينهم، وبينما يرمي بعضهم بقطع نقدية إلى إبراهيم، إذ علقت بأذنيه بعض أحاديثهم والتي ارتكزت أساسا على حدث اليوم: - إذن ستقلع باخرة الحجاج عند الساعة العاشرة؟. - هذا المساء أو غدا، سوف تقل حجاج تونس ... إن فكرة إقلاع الباخرة ثبتت بإصرار في ذهن إبراهيم وقد أوحت إليه أمرا مفاجئا، إذ تساءل فجأة في نفسه: ماذا لو ذهبت أنا أيضا معهم؟. كان يبرق وميض في عيني إبراهيم. لقد وجد أخيرا تفسيرا لحلم الليلة السابقة، وكأن تيارا كهربائيا قد صعقه. انتفض واقفا في حركة آلية وقد تناثرت بين قدميه القطع النقدية، التي كان قد تصدق بها عليه بعض المصلين وقد أشعرته بإحراج شديد لم يجرؤ على جمعها أو إرجاعها إلى أصحابها الذين تصدقوا بها عليه. غادر المكان وهو يقول في قرارة نفسه:

(سيأتي أحد المساكين ويأخذها). اتجه إلى حمام شعبي في الحي وبسرعة اغتسل ونظف كامل بدنه دون أن يمعن في التدليك، وعندما خرج كان يبدو كأحد الأشراف، وتقاسيم وجهه تدل على نبل، وكأنه لم يتخلص من طبقة غبار الفحم ولكن أيضا من القناع الذي كان يظهره على عكس حقيقته. لقد اقتلع قناع (بوقرعة) لكي يعود ببساطة إلى شخصية إبراهيم. غمره إحساس بأنه تخلص من ضيق كأنه كان يعيش في داخله حتى هذه اللحظة دور شخص بغيض فرض عليه في مسرحية كوميدية بذيئة. أحس إبراهيم بفخر في قلبه أضفى على هيئته وقارا وزاده كرامة. صعد الدرب الذي يؤدي إلى حانوته، وتوقف عند منزل العم محمد. أمسك إبراهيم بحلقة البرونز المثبتة على الباب والمخصصة لطرق الباب. فرد عليه صوت امرأة من الداخل: - من هناك؟. - أخبري عمي محمد أن إبراهيم الفخام يود رؤيته. بعد لحظة، ظهر الشيخ على عتبة

البيت وقد فوجئ بهذه الزيارة المبكرة لصاحب البيت. ازدادت دهشته عندما لاحظ على قسمات وجهه شيئا غير مألوف. كان يتوقع منه سلوكا غريبا تعوده ولا يصدر إلا عن شخص مخمور، لكنه أدرك في الحال أن الزيارة تحمل في طياتها أمرا غير الذي ألفه منه لما لاحظه على إبراهيم من جدية وصدق. حافظ الشيخ على هدوئه، فلم يلمه ولكنه تجرأ وسأله: - ماذا يا إبراهيم، أهي عربدة أخرى من عربدات هذه الليلة؟. أحس إبراهيم ببعض الحرج ورد عليه معتذرا: - لن أعود إلى ما كنت عليه يا عمي محمد.! رد عليه الشيخ مازحا وهو يود معرفة الغرض الحقيقي من هذه الزيارة: - يا إبراهيم، هذه يمين سكير. لكن إبراهيم رد عليه بحزم: - أبدا! هذه المرة هي يمين حاج.! تفحص الشيخ وجه محدثه بنظرات متشككة، فهو

لم يع أي شيء في هذا التصرف الغريب. فبادره إبراهيم يشرح له موقفه: - أجل يا عمي محمد، لقد جئت إليك في هذا الوقت غير المألوف لأنني مستعجل. إنها السادسة، وأنا أريد أن أذهب مع الحجاج الذين سيغادرون اليوم قبل الظهر مهما كلفني الأمر. - صعق…الشيخ من هذا الخبر الذي لم يرد أن يعتبره أحد نوبات إبراهيم الجنونية. فلقد كان طبيعيا على غير عادته، لم يراود الشيخ شك في أمر إبراهيم ولكنه لم يكن مقتنعا تماما. رد قائلا: - أجل إن الله قوي قدير، يهدي إلى طريقه من يشاء. تفهم إبراهيم حيرة الشيخ وقاطعه قائلا: - أنت محق في أن تفاجأ بالمسعى الذي أنا بصدده ولكني قد اتخذت قراري. فأجاب الشيخ: -أرى أنك مصر غاية الإصرار،، ولكن فرضا

أنك تود أن تسافر اليوم، فهناك شروط مادية، واجراءات و ... ومشكلة مادية. قاطعه إبراهيم مرة أخرى: - لأجل كل هذه الأسباب جئتك يا عمي محكد. أريد منك أن تبيع المنزل هذا الصباح، ومن جهتي سأتولى الإجراءات ... يعيننا الله. تأمل الشيخ إبراهيم الذي أحس في نبرات صوته، وفي هيئته علامات خفية وفي وجهه شيئا جديدا. أحس الشيخ بارتياح عميق لقد اهتزت روحه المومنة لوقع المعجزة التي تحققت أمام عينيه. الحاج إبراهيم؟!. كانت بحق معجزة بالنسبة إلى الشيخ الذي أمسك بمعصم محدثه في حركة أبوية وقال له: إذا أراد الله شيئا، فإنما يقول له كن فيكون. عليك الآن أن تتكفل بالإجراءات الإدارية وبالمحل. أما أنا فسأتولى أمر المنزل غير أني أظنني لا أستطيع بيعه هذا الصباح، فقط أعطني وكالة حتى أضمن لك بها قرضا لتسديد نفقات السفر، سنرى ذلك فيما بعد ...

لاح الرضا على وجه إبراهيم، وبدا أكثر سعادة بهذه الإرشادات الأبوية التي رأى فيها تأييدا لمشروعه وفأل خير لنجاحه. لم يكن يخيفه قلة توفر المال، على ضيق الوقت، فذلك أهون لديه من الخوف من الصعوبات التي قد تعترضه عند مفاتحة العم محمد بالموضوع. ولشد ما كانت فرحته كبيرة عندما قبل هذا الأخير رغبة بكل يسر وقبل مساعدته في تحقيقها. غادر إبراهيم وكله امتنان للشيخ ومخاطبا إياه بنبرة ممزوجة بالمزاح والجد في آن واحد: - أما المحل فقد حلت مشكلته، فالمدير الجديد الآن بداخله. أريد أن أتركه لذلك المسكين الذي ينام فيه الآن. قد يجلب له الحظ إن شاء الله. رد الشيخ على إبراهيم الذي ابتعد بضع خطوات: - لا تنس ان تشتري لباس الإحرام. كان هذا أحد الأمور التي نوى إبراهيم القيام بها خلال هذه الصبيحة. اتجه أولا إلى أحد باعة القماش، الذي قطع له أمتارا من نسيج قطني أبيض لتكون له لباسا للإحرام. هذا الرداء الذي يشده الحاج

حول جسمه عند أدائه شعائر الحج من الطواف حتى رمي الجمرات. كما اشترى إبراهيم من المحل نفسه (بلغة) وجبة وبعض أمتار من (الحرير الموصلي) ليجعل منها عمامة. لف إبراهيم مشترياته في لباس الإحرام ووضعه تحت ذراعه. عند خروجه من المحل كان باله منشغلا بالإجراءات الإدارية. كان على علم بالمشاكل التي قد تعترضه، فالمصلحة المسؤولة عن هذه الإجراءات لا تفتح أبوابها إلا على الساعة الثامنة. إن الله قدير. فكر إبراهيم في الاستعانة بأحد المنتخبين لكي يساعده في مسعاه. كان يعرف شخصا يشغل منصب مفوض مالي في بونة، وكان يعرف عنه أنه شخص خدوم وله نفوذ في مكاتب الإدارة. فكر إبراهيم بالذهاب إليه فورا غير أنه عدل عن رأيه لأنه لم يستسغ فكرة إيقاظ شخصية مهمة في مثل هذه الساعة المبكرة لكي يطلب منه خدمة. أراد أن يستغل الوقت المتوفر لديه ليأخذ صور هوية لجواز السفر. لكن الوقت ما زال مبكرا حتى بالنسبة إلى المصور الفوتوغرافي. إلا أن إبراهيم رأى إمكانية إيقاظه في هذه الحالة المستعجلة شريطة تعويضه عن الإزعاج.

قرر الذهاب عند مصور لا يسكن بعيدا عن المكان الذي اعتاد الشرب فيه، استقبله المصور دون أن يبدي الكثير من الغضب. في بادئ الأمر كان مندهشا لكن دهشته انقلبت إلى مزاح عندما روى إبراهيم قصته. غادر إبراهيم المصور الذي رفض أن يأخذ أجره. وبعد ذلك اتجه إبراهيم إلى بيت ذلك الرجل. التقى في طريقه الصبية الذين اعتادوا مطاردته والسخرية منه، تعجب منهم، لأنهم لم ينعتوه هذه المرة باسم العار (يا بوقرعة). تعجب الأطفال بدورهم من رؤية هذا الذي كانوا يضايقونه وقد بدا جادا، في هيئة تبعث على احترام شرفاء الناس. اعتبر إبراهيم هذا اليوم، يوم أبهة ونجاح فقد دغدغت حواسه بلطف جراء احترام الأطفال المفاجئ له. وهو يفكر في حاله، وصل إبراهيم إلى بيت المنتخب وطرق الباب قائلا للخادم الذي فتح له: - هل أستطيع أن أرى سيدك؟ أنا حاج وأود أن أراه لكي يعينني على إتمام إجراء إداري. استعمل إبراهيم لفظ (حاج) لأنه يدرك وقعها على الأنفس المسلمة، منتخبة كانت أو منتخبة، حتى في

الأوقات غير المناسبة. لم يتأخر المنتخب، الذي أخبره خادمه عن مقابلة إبراهيم الذي قص عليه قصته وأراه رزمة الثياب التي كانت معه مؤكدا على عزمه. أبدى محدثه اهتماما لا يخلو من الفكاهة بهذا الحاج المتأخر، لافتا انتباهه إلى أنه قد تأخر كثيرا لإنهاء الإجراءات، ومع ذلك طلب منه أن يوافيه على الثامنة والنصف عند باب المحافظة. توجه إبراهيم إلى المحافظة، وفي طريقه توقف عند بائع الفطائر تناول واحدة وأعطى أخرى إلى شحاذ عسى أن تتنزل عليه رحمات السماء وتشفع له بالحصول على جواز السفر. عند وصوله إلى المحافظة خالجه إحساس قوي بالتوفيق في مبتغاه. انتظر إبراهيم أمام المحافظة وعندما بدأ موظفو المصلحة بالدخول، أخذ يتصفح وجوههم متسائلا أي منهم سيكون مصيره بين يديه بـ (نعم) أو بـ (لا)؟ رفض إبراهيم أن يقف عند كلمة (لا) المشؤومة، خشية من سوء الحظ الذي قد يجلبه مجرد التفكير في ذلك. لهذا قرر في قرارة نفسه أن كل الموظفين أشخاص لطيفون، بشوشون ولا يتلفظون إلا بكلمة (نعم). في أثناء ذلك، أقبل المنتخب مبتسما من بعيد،

ابتسامة رأى فيها إبراهيم فأل خير لما هو آت. تبع إبراهيم الرجل الذي طلب منه صوره ووثائق هويته ودخل مكتبا تاركا إبراهيم عند الباب. بعد عشرين دقيقة، خرج إبراهيم من المحافظة بوجه مشرق متهلل سائلا الله البركة للمنتخب والمحافظ والموظفين. لم يحصل إبراهيم على جواز سفر الحاج المعتاد، بل على شهادة تثبت أن المعني مستوف لكل الشروط الإدارية، لم يعبأ إبراهيم بحجز مكانه على المركب لأنه يعلم أن الأماكن متوفرة حتى آخر لحظة. فاضت مشاعر إبراهيم شاكرا لله لكل الناس ولكل ما يحيط به لأنه وفق في مسعى كان يظنه صعب المنال. كان يعيش لحظة كلها نعيم، كان يفيض رقة لكل من يراه في الشارع وهو متجه صوب بيت العم محمد. انصرفت نفسه للإحساس بالحنين المسبق إلى هذه الأماكن، يخالطها شعور مبهم بعدم رؤيتها مجددا. امتلات عيناه وأذناه بهذه الانطباعات الحية عن الشارع ليحافظ عليها ذكرى لمن سيذهب بعيدا عن موطنه. عندما وصل إلى زقاقه، تبادر إلى ذهنه الذهاب إلى المحل لرؤية صاحبه أولا. كان يريد أن يرى دهشته ولاسيما عندما يعلمه بالحدث العظيم، وبالمحل الذي سيتركه له. وجده نائما، وقد أزعجه صوت المفتاح وهو يدور

داخل قفل الباب. ترك إبراهيم باب المحل مفتوحا حتى يتسلل ضوء النهار والضجيج، فيوقظ النائم. نهض هذا الأخير تلفه الدهشة مما يحدث، فلم يتعود ذلك في الأيام التالية لعربداته وتساءل: - ماذا؟ هل ستفتح محلك الآن؟. رد عليه إبراهيم بنبرة غامضة: - محلي أنا؟!، إنه لك منذ هذا الصباح. ذهل صاحبه متسائلا إذ لم يكن إبراهيم أكثر سكرا من الليلة السابقة. كان على وشك أن يطلب إيضاحا لما يحدث لولا دخول العم محمد. سأل الشيخ إبراهيم: - هل استلمت جواز سفرك يا إبراهيم؟. وأردف قائلا، وهو يشير إلى الرزمة التي يحملها إبراهيم: - أرى أنك قد اشتريت ملابس الإحرام، هذا جيد؛ لأنه لم يبق لك إلا خمس دقائق كي تأتي معي إلى المنزل من أجل أن تتناول آخر وجباتك قبل الرحيل.

وقف صاحب إبراهيم الذي أبكمه ما سمع، إذ لم يفهم أي شيء مما يدور داخل المحل، غير أنه أدرك أن شيئا جديدا طرأ على حياة الفحام. رسمت استضافة العم محمد على وجه إبراهيم ملامح تقدير إذ بدا متأثرا وقد ملأت الدموع عينيه محدثا نفسه: - لقد قبلوني في المنزل، ودعاني الشرفاء إلى مائدتهم. كانت هذه الدعوة تعبيرا عن تقدير الناس واحترامهم له. ولكنه هم بالاعتذار غير أن العم محمد قرر جازما: - يجب أن تخرج من المنزل ككل الحجاج وليس كمن لا بيت له. وفضلا عن هذا، فكل الجيران يدعونك ليودعوك. فاضت مناعر إبراهيم الذي مسح دمعه عن خده. في هذه اللحظة سمع صوت زفير مكتوم جعله يستدير، وإذا بصاحبه تجتاحه المشاعر نفسها. لقد كان يبكي لبكاء إبراهيم حزنا لفراق صاحبه في الشقاء. انفجر إبراهيم ضاحكا من منظر صاحبه المثير للشفقة ولكي يزيل عنه ما يشغله بادره قائلا: - أتدرك الآن لماذا قلت لك أن المحل

محلك؟ سأترك لك إدارته ومن يدري، قد تتبعني يوما .. ! هنا تدخل العم محمد قائلا: - لكما كل الوقت لتتكلما عن هذا فيما بعد، في أثناء الوداع، أما الآن فعليك يا إبراهيم أن تأتي معي إلى المحكمة لتوقع على التوكيل الذي أعددته حتى يمكنني التصرف في المنزل. قد ضمنتك واستخلصت لك مبلغ عشرة آلاف فرنك. أراد إبراهيم أن يبدو أكثر احتراما وشرفا في المحكمة، فطلب من العم محمد أن يمهله دقيقة حتى يغير ملابسه. خلع إبراهيم مئزره ونزع حذاءه وشاشيته وارتدى جبته ثم وضع عمامته وانتعل بلغته. أخذ معه ملابس الإحرام وكله حرص على ألا يتركها وسط غبار الفحم والتحق بالشيخ الذي كان ينتظره خارجا أمام الباب والذي خاطبه مبتسما: - يبدو عليك مظهر الحاج، فيك نفحة من نفحات الجنة. اتجها صوب المحكمة وهما يتحدثان عن أمور

الحج. كان العم محمد حريصا على أن يزود إبراهيم بكل التوصيات الخاصة بسلوك الحاج بالأماكن المقدسة: بمكة، بعرفات .... لم تأخذ الإجراءات في المحكمة وقتا طويلا. أحس إبراهيم بعناية الموجودين معه واحترامهم. بعدها، رجع العم محمد بضيفه إلى المنزل مستعجلا لأن وقت الرحيل قد اقترب. كانت زوجة الشيخ في انتظارهما وقد عبقت الغرفة التي خصصت لاستضافة الحاج بالبخور. كانت تكن له مشاعر أمومة لأنها رأته وهو يكبر، وكذلك بسبب أهله الطيبين الذين رافقتهم حتى آخر لحظة في حياتهم. استقبلته بحنان حرك فيها مشاعر عدة. كانت تغمر هذه العجوز الطيبة فرحة عارمة للمعجزة التي تحققت لضيفها والتي تشهد على حلم رب العباد بالأنفس البشرية. - لا بد أن والديك سعيدان الآن يا (سي) إبراهيم. خاطبته بـ (سي)، بهذه الكلمات، في حين تناول يدها وطبع عليها قبلة ابن، وهما ما زالا على عتبة الغرفة التي استقبلته فيها.

- فليرحمهما الله يا عمتي فاطمة. رد عليها إبراهيم وقد ملأته كلمة (سي) التي استعملتها العجوز قبل اسمه بالرضا والسرور. كانت (الميدة)، تلك الطاولة ذات الأرجل القصيرة، الخاصة بمسلمي شمال إفريقية، قد نصبت وأعدت. أجلسوا إبراهيم في المكان الشرفي من المائدة. كان العم محمد يأكل معه في حين كانت العمة فاطمة التي أحضرت كل شيء عند متناول يديها - حتى لا تتعب رجليها الضعيفتين وحتى لا تغيب عن ضيفها - جالسة على السجادة تتجاذب أطراف الحديث مع المدعوين، عن الماضي وذكرياتهم المشتركة التي عاشوها في هذا المنزل. لم يظهر لدى المدعوين، رغبة في الأكل. كان إبراهيم متأثرا باضطراب الصباح؛ إذ يشغله موعد مغادرة المركب أما العم محمد فكان يحيطه بآداب الضيافة. استأذن إبراهيم، ووقف شاكرا للعجوزين اللذين رافقاه. وحينما كان إبراهيم ينتعل حذاءه عند عتبة الغرفة أقبل العم محمد وهو يحمل قفة ممتلئة قائلا له: - هذه مؤونة الطريق، إنها لك.

احتج إبراهيم، فتدخلت العمة فاطمة معترضة على ذلك واقتربت منه وهي تحمل شيئا في يدها قائلة له: - لقد أصر كل الجيران على أن يهدوا لك هذه القفة، وهي تمد له بيدها. تعرف إبراهيم، الذي أربكته طيبة كل هولاء الناس على السبحة التي تحملها العمة فاطمة، لقد ظن أنها لفتة طيبة من العمة، وهدية منها كما بدا له. كما جرت العادة ألا ترفض سبحة في هذه الظروف، فقد قبلها إبراهيم وكأنه يريد أن يشكر العمة مرة أخرى، لكن هذه الأخيرة اقتربت منه وهمست في أذنه قائلة: - كانت هذه السبحة لوالدتك فليرحمها الله. حافظت زهرة عليها بحرص وعندما علمت برحيلك هذا الصباح، أصرت على أن ترسلها إليك لأنها أيقنت أنك جدير بأن تحتفظ بها الآن. تملكته الدهشة للحظة، كمن تلقى صعقة كهربائية. ضغط بقوة على السبحة على ذكر اسم زهرة، قفزت ذكرى من حياته إلى ذهنه. فكر في هذه الزوجة

المخلصة التي اختارها له والداه والتي قاست معه الأمرين. تراءت له من جديد مشاهد من حياته الزوجية التي صبغتها حالات سكره بالسواد كما تفعل السحب بالأفق في أيام عاصفة. مع أنها كانت مطلقة، فقد رفضت أن تتزوج مرة أخرى إكراما لذكرى حمويها اللذين أوصياها بابنهما وهما على فراش الموت. تشتغل زهرة بجد وتكسب قوتها بشرف خياطة للعائلات البرجوازية كما تتابع، عن طريق العم محمد، حال زوجها السابق وسوء تدبره لأمره. استرجع إبراهيم ماضيه في لحظة تدبر. امتزج في ذهن إبراهيم، وجه زهرة الحزين المبتسم مع وجه أمه المشرق والممتلئ بالرضا، ذاب الوجهان فيه وشكلا رمزا واحدا لطريق مضيء فتح أمامه فجأة، فأحس بأنه قد نفذ بجلده من إمبراطورية الظلام. تبسم إبراهيم للعجوز الطيبة حتى يحبس دمعة هربت من مقلته. بادلته العمة فاطمة ابتسامة وهي متأثرة ومدركة للحظات المثيرة للشجون التي يعيشها الحاج والتي جعلته يأتي قائلا: - أرجوك يا عمتي فاطمة أن تشكري زهرة عني

لأنها أرسلت إلي بهذا التذكار في مثل هذا اليوم، أخبريها أنني سأدعو لها عندما أكون عند النبي .... وسأدعو لكم جميعا. اتجه العم محمد الذي كان يتوسط ردهة المنزل بسرعة نحو الباب لكي ينتشل إبراهيم من دوامة المشاعر فتبعه هذا الأخير بطريقة آلية. عندما خرج إبراهيم، وضع السبحة حول عنقه ووجد صاحبه على عتبة المحل ينتظر خروجه. فتقدم نحو العم محمد آخذا القفة من يده. سلمها له العم محمد وخاطبه ممازحا: - هكذا تريد أن تسدد ثمن محلك؟. خلص إبراهيم صاحبه من الموقف الذي أزعجه وهو يتبع الرجلين إلى الميناء قائلا: - لا يا عمي محمد ليس عليه أن يسدد أي شيء. أريده فقط أن يوفر بعض المال حتى يتبعني يوما. شجعت كلمات إبراهيم صاحبه فقال متمتما: - إن شاء الله.

عندما وصل الرجال الثلاثة إلى الميناء كانت هناك حركة غير اعتيادية. كان هناك جمع غفير من أهل الحجاج وأصحابهم وحتى الفضوليون يملؤون مرفأ الركوب الذي تتقاطر إليه عربات الخيل مغطاة بمظلات، وسيارات كانت تنزل أناسا وأغراضا باتجاه العبارة التي كانت تشهد ذهابا وإيابا كثيفين. حتى إن عمال مصلحة المراقبة والنظام وجدوا صعوبة كبيرة في إخلاء العبارة، التي كان يتدافع فوقها الجموع خاصة بين متاريس المركب الذي تزين بالحجيج، ومحل الركوب حيث كانت النداءات الأخوية، والأماني تنبعث من هنا وهناك وتتقاطع بعضها مع بعض. اخترق العم محمد الحشد مبتعدا عن أماكن وجود الأمتعة، واتجه نحو حارس كان موجودا فوق العبارة حيث تسلم تذاكر المرور للمتأخرين. كان إبراهيم يسير خلف العم محمد حاملا أوراقه بيديه مرافقا صاحبه حيث وضعها على الشباك أمام مستخدم المصلحة. لم يطل بهم الأمر، عد العم محمد المبلغ المطلوب وسلمه إلى المستخدم وسلم إبراهيم ما بقي من المبلغ وهو يوصيه أن يحافظ عليه كما أخبره أنه قد سدد مبلغ الضمان المطلوب لقباضة الجباية وأودعه الإيصال المخصص لذلك. واصل العم محمد توصياته وتمنياته

الأخيرة لإبراهيم وهو يدفعه من كتفه نحو العبارة. بدأ قلب إبراهيم في الخفقان عند رؤية عمال المراقبة، فانتابه خوف شديد خشية ألا يجدوه مستوفيا للشروط لسبب أو لآخر، حتى إنه ارتعد لرؤية أحدهم وهو يتفحصه. أرعبته نظرات المراقب إليه فكاد يصرخ طالبا النجدة ليجتاز عائقا قد يمنعه من السفر. لم يبق لإبراهيم إلا خطوات من العبارة. تقدم وهو يردد دعاء في سره ثم توقف ليأخذ العم محمد في أحضانه ويودعه الوداع الأخير وهو يتلجلج: - سأدعو لك يا عمي محمد عند شباك النبي. كان يعني ذلك السياج الذي يحيط بالضريح الشريف. كانت هذه أقدس خدمة يمكن أن يقدمها الحاج لغير الحاج بأن يدعو له باسمه وهو متعلق بالسياج. هذا السياج المهيب الذي تهفو إليه قلوب كل المسلمين بعبارات مفعمة بالأماني وبالإيمان. حضنه الشيخ أيضا بشعور أبوي دون أن يقول كلمة واحدة. ثم التفت إبراهيم إلى صاحبه الذي صافحه للمرة الأخيرة وتناول منه قفة المؤونة، قال له صاحبه: - لا تنسني يا أخي إبراهيم في دعواتك عند سياج النبي، فليرحم الله والديك.

جذب أحد المستخدمين إبراهيم من كمه حيث كان خلفه يتساءل عن هذا الحاج الغريب الذي لم يكن معه متاع غير قفة، ليشير إليه أنه يعيق المرور. استدار إبراهيم والخوف ينتابه، غير أن بشاشة ظهرت على وجه المستخدم بددت إحساسه بالخوف فاستغل الفرصة لكي يسلمه أوراقه، فأشار إليه بالصعود وقد ألقى نظرة فقط على صورة الشهادة وعلى السبحة التي تحيط بعنقه. شعر إبراهيم بالأمان وهو يمر من فوق العبارة التي اعتبرها منقذته من العالم المتوحش والخطير الذي تنصل منه. عندما وضع رجليه على المركب شعر وكأنه تخطى عتبة عالم جديد، أطلق زفرة كلها رضا: الحمد لله! رجع بمخيلته إلى أصدقائه، وإلى العم محمد وإلى صاحبه اللذين كانا يترقبا محياه من فوق المركب من أجل الوداع الأخير ... انحنى إبراهيم على مترسة المركب، فرأى العم محمد وصاحبه يبحثان عنه بأعينهم، أشار إليها بيديه وصاح: عمي محمد! عمي محمد!. لفت إبراهيم بصوته انتباه الرجلين، وانتباه طفل كان على المركب يوصل رزمة لأحد الحجاج. كان

شعره أشعث ورجلاه حافيتين يرتدي سروالا كثرت ثقوبه كغالبية أطفال بونة. هم الطفل بتفحص إبراهيم باهتمام، شيئا فشيئا، ظهرت دهشة الطفل على وجهه فانفجر ضاحكا وصاح في اتجاه إبراهيم الذي كان يتبع بعينيه الشيخ وصاحبه اللذين كانا يشقان الجموع ليقتربا من جهته: يا بو قرعة، يا بو قرعة.! انتفض إبراهيم لهذا الصوت وأخذ يبحث عن صاحبه ولما وجده بادره الطفل قائلا: - يا بوقرعة! أنت أيضا ستذهب إلى الحج؟. اعتبر إبراهيم هذا السؤال فضولا من طرف الطفل أكثر منه وقاحة وقلة أدب واكتفى بالابتسامة، هذا الأخير دخل في حوار مع حاج مسن بدا وكأنه يريد أن يدفع له مالا لمساعدته على حمل متاعه، لكن الطفل رفض ورد عليه يده الممدودة بالمال، عند رؤية إبراهيم لهذا المشهد العفيف الذي صنعه الطفل حيال الشيخ، سامحه وغفر له ما صدر منه وعاد بانتباهه إلى العم محمد وصاحبه اللذين اقتربا من أسفل المركب. أعلن دوي الصفارة الأول عن قرب مغادرة المركب. علت ترانيم الحجاج مع صوت الصفارة التي غطت على

الكلام الذي كان يدور بين الحجيج وأهاليهم: لبيك! لبيك! اللهم لبيك.! ابتسم إبراهيم لصاحبيه، وهما يشيران إلى العبارة التي بدأت تسحب أمام الجموع الموجودة أمام العبارة، وهي تفصلهم عن أحبابهم فوق المركب إذ علت أصواتهم بالصراخ: - فليرجعكم الله إلينا سالمين، غانمين إن شاء الله! ادعوا لنا ... دوى صفير ثان، وبدأ المركب الذي ضج بصياح الحجاج بين ملب ومودع، يبتعد شيئا فشيئا عن الرصيف. مكث إبراهيم في مكانه، يجول ببصره في ميناء بونة الذي شهد ليالي ضياعه وسكره. ملكته سعادة لا توصف، لأنه لم يعد يشعر بالألم عند تذكره لماضيه الذي مكنه ابتعاد المركب من رؤية تفاصيله على الميناء. مرت بخاطره ذكرى، رسمت على وجهه ابتسامة، كان مشهدا مضحكا سبب رحيله من المنزل العائلي الذي كان يقيم فيه رغما عن كل ساكنيه عدا العم محمد. لم يتقبل الجيران أن يكون بينهم مطلق وسكير ولكنهم احتملوه لأنه كان صاحب المنزل وأيضا لأن

العم محمدا كبير البيت، كان يدافع عنه احتراما لذكرى والديه. لقد كان (فوق القلوب) أي لا يحبه أحد باللهجة المحلية. كان جيرانه يديرون وجوههم عند لقائه. وكانت جاراته يختفين عند دخوله وخروجه. كان إبراهيم يحس في أوقات صحوته بهذه العزلة المضروبة حوله. لكن حدثا غير متوقع حصل بعد طلاقه من زهرة جعلهم كلهم يقررون رحيله حتى إن العم محمد خضع لاحتجاجاتهم وخاصة الجارات، ولم يجد بدا من الرضوخ لمطلبهم. ذات يوم استيقظت إحدى صبايا المنزل التي كانت في سن الزواج، تطلب فأل خير يحمل لها خبرا عن زواج قريب. لقد أكدت (البوقالة) في الليلة السابقة على: ماء تحضره البنات في سن الزواج ويكشفن فيه أسرار قلوبهن ويضعنه قبالة النجوم قبل الذهاب إلى النوم. - هل سيتزوجني؟. هل سأطلب للزواج هذا العام .. ؟ هذا الشهر؟. وأول صوت يسمعنه بكرة في الشارع قد يحمل في طياته الإجابات عن هذه التساؤلات.

هذا ما فعلته جارة إبراهيم التي نزلت السلالم خفية، تحمل في يد شمعة وفي الأخرى إناء يحوي الماء السحري. كان عليها أن تفتح الباب بهدوء دون أن يسمعها أو يراها أحد، وتفرغ الماء على الطريق وتنتظر الإجابة من وراء الباب. .لكن في الوقت الذي وضعت فيه رجليها في سقيفة البيت، ارتسم خيال أسود على الجدران البيض المطلية بالجير. كانت لحظة مرعبة بالنسبة إليها، فسقط الإناء وانكسر وانطفأت الشمعة، أطلقت الفتاة صرخة بعدما ظنت أنها رأت شبحا فأغمي عليها. أيقظ الصراخ الجيران والجارات فهرعوا باتجاه الصوت بعد أن لفت النساء أنفسهن في شالات وارتدى الرجال الجبب والبرانيس، فوجدوا إبراهيم في الرواق وقد رجع من دوريته. كان إبراهيم يبحث في الظلام عن مفتاحه الذي سقط منه قبل لحظات من نزول الفتاة، فأفاق من سكره نتيجة الأضواء. تمتم معتذرا لكن الجيران كانوا قد أصدروا حكمهم ورأوا أنه قد تمادى كثيرا وحددوا أجلا للعم محمد لرحيل إبراهيم الذي امتثل للحكم وغادر البيت.

لم يعد يعنيه الآن هذا الماضي، وكأنه ماض لشخص آخر، إذ جنح فكره عند رؤيته منارة مسجد الباي إلى مشاهد الصبيحة. فجأة، تذكر المسبحة التي حول عنقه فتلمسها، لتأخذ بذكراه إلى الماضي، لكن هذه المرة، إلى ماض هادئ وكأنه يوم ربيعي. مرت بفكره مشاهد من حياته الزوجية. كانت سعيدة في بدايتها، لكن الندم على هذا الماضي لم يؤثر في إبراهيم الذي سمحت له حالته الوجدانية أن يربط آماله بالمستقبل، وباللحظات البعيدة والسعيدة وكأنه لم يكن غير هذا الشخص الذي هو عليه الآن: رجل مشدود إلى الله. كان إبراهيم في هذه اللحظة في حالة نفسية خاصة لمسلم متوسط الإيمان، قلبه ممتلئ بالثقة في رحمة الله وحلمه. إن زمن الخطيئة قد ولى بالنسبة إلى إبراهيم، منذ صبيحة هذا اليوم المشهود لم يبق للندم والإحساس بالخطيئة اللذين يعذبانه، غالبا عندما يكون ثملا في نفسه مكان بعد اليوم. فالمسلم، عندما يتخلص من خطاياه، تنتابه ثقة كبيرة في مغفرة الله، إلى درجة يتلاشى معها الندم على هذه الخطايا. ولكن تبقى خطيئة قتل النفس البشرية

مورثة للندم الأبدي، ولكن مع ذلك تظل النفس المسلمة متشبثة بالأمل دون أن تكف عن الإيمان، بعد أي خطيئة ترتكبها. هذه المعجزة المذهلة تبقى غير مفهومة لأولئك الذين لا يحملون بين ضلوعهم نفسا مسلمة، مهما يكن، فإبراهيم لم يشعر في هذه اللحظة بالقلق من ماضيه السيئ الذي ذكرته به تفاصيل علقت بالميناء الذي بدأ المركب يبتعد عنه ... بدأت المنازل تقترب بعضها من بعض، وشيئا فشيئا بدت وكأنها بقعة بيضاء واختفت من وراء الأمواج. تلاشى الميناء الذي لم يعد يراه، كما تلاشت ذكريات بونة من مخيلته ولم يبق له من المدينة التي غابت عن عينيه سوى ذكرى رقيقة يلفها حزن هادئ. تخيل أن زهرة تفكر فيه وتخيل أنها مازالت زوجته وأنه تركها كما يفعل الحجيج مع أزواجهن ليعودوا إليهن. أراد تأليف جملة كان يمكن أن يقولها لها لحظة الوداع، لكنه لم يجد الكلمات المناسبة. تذكر مجددا المسبحة وبينما كان يحاول جاهدا معرفة السبب الذي دفع بزهرة لترسلها إليه، إذ بيد توضع فوقه بلطف. استقام إبراهيم واستدار وقد سقطت منه ملابس

الإحرام التي كانت تحت إبطه، فوق القفة التي كانت بين رجليه. جاء الرجل، الذي وضع يده على إبراهيم، وهو حاج متقدم في السن، يطلب من إبراهيم أن ينضم إلى الجماعة التي ينتمي إليها، ليقيم الصلاة معهم. كان الحجاج قد بدؤوا في تنظيم حياتهم اليومية على المركب. فمنهم من ينضم إلى مجموعة تشكلت في الجزائر العاصمة، وآخرون يشكلون جماعات جديدة ليتناولوا الوجبات ويتسامروا ويقيموا الصلاة جماعة حتى وصولهم إلى ميناء جدة. عادة، تتشكل الجماعات حسب انتمائهم إلى مختلف الفرق الدينية: (التجانية) و (الأحباب) بعضهم مع بعض و (القادرية) و (الإخوان) بعضهم مع بعض. كلهم يجتمعون من أجل الذكر الخاص بكل فرقة، وأيضا فإن ااحتج قد يحتاج على ظهر المركب إلى الآخرين في حالة إصابته بمرض أو حانت لحظة الموت. لكن، في السنوات الأخيرة لم تعد هذه التجمعات تقام حسب الانتماءات الدينية وأصبح التجمع للتعايش على المركب لا غير. فإبراهيم الذي لم يكن له أي

انتماء، قبل على الفور عرض الحاج الذي ارتسمت على وجهه شكوك تجاه إبراهيم وقفته ظانا أنه مسافر من الدرجة الثالثة قال له: - أنا وجماعتي ركبنا من الجزائر العاصمة، ولقد اتخذنا مكانا خاصا بنا على المركب للصلاة. أبدى إبراهيم اهتماما بالعرض، كان سعيدا بهذا المرافق الذي أرسلته إليه العناية الإلهية. في الواقع، كان سعيدا لانضمامه إلى جماعة غريبة عن بونة الشيء الذي سيجنبه رؤية الاستغراب على الوجوه أو التساؤلات التي كانت ستحيط به لو كان الفوج من بونة. علا صوت المؤذن في هذه اللحظة عينها، داعيا إلى الصلاة. كان المؤذن على بعد خطوات من إبراهيم الذي ما زال يصغي إلى مرافقه الجديد وهو يقول: - هذا مؤذن جماعتنا ... هل توضأت؟. أراد الحاج أن يتم معروفه مع إبراهيم الذي لم يكن يعرف بعد الأشخاص على المركب فأشار بإصبعه إلى الباب وأضاف قائلا: - إن لم تفعل بعد، فاذهب إلى المطبخ، فإن به

عمالا في خدمة الحجاج سيعطونك الماء. اتجه إبراهيم إلى المكان المشار إليه مستعجلا لكيلا يضيع فرصة قيامه بأول صلاة مع مرافقيه الجدد. بدأ الفوج يستعد للصلاة، وتقدم الإمام الذي كان هو الموذن نفسه صفين كليهما من أربعة أشخاص. رجع إبراهيم بوجه وأطراف مبللة واتخذ مكانا في الصف الأول وهو يتذكر والده وفضل تأدية الصلاة خلف الإمام مباشرة. أخذ يقلد حركات مرافقيه، رفع يديه مفتوحتين إلى صدغيه وهو يتلفظ بالعبارة المقدسة التي تفصل المسلم عن العالم الأرضي: الله أكبر.! خلال صلاة الظهر، والتي كانت أول صلاة أقامها منذ سنين عديدة، أحس إبراهيم أنه انضم إلى عائلة الشرفاء مجددا تكسوه عزة الحاج. فالحركات التي كان يقوم بها، والكلمات التي كان يتمتم بها خلف الإمام، جعلته يحس برابطة الأخوة الإسلامية التي تربطه برفقائه الجدد وأيضا بالخزي لأنه انعزل طويلا عن الجماعة الصالحة كالجندي الفار من الجيش. عندما أنهى الإمام قراءة الفاتحة وختمها بـ (آمين)

رددها إبراهيم مع الجماعة ولكن بنبرة متحمسة وحارة. عند (السلام)، الذي يختم الصلاة، أحس إبراهيم بالألفة بين رفقائه الذين شاركهم في طلب المغفرة. كيف لا وقد بدأ أحدهم، كان يحاذيه عن شماله، يتودد إليه بحديث لطيف دون أن يعرف اسمه. كان يناديه الحاج، أعجب إبراهيم أن يخاطبه غيره بهذا اللقب النبيل، لا لإحساس منه بالكبرياء ولكن رضي به ليجد فيه الرجل الذي يسير في الطريق المستقيم: الحاج. كان إبراهيم في الحقيقة خجولا، وكان يهتم بحكم الآخرين ورأيهم فيه. كان بحاجة إلى آخر ليقر له بصلاحه. تقوم شريحة من شرفاء القوم بتقويم أنفسهم بموازاتها بالآخرين إذ يرتكزون في ذلك على المأثور اللاتيني الذي يقول: (ألسنة الناس هي ريشات القدر) (¬1). كان إبراهيم ينتمي إلى هذه الشريحة، ولهذا السبب كان يريد سماع رفيقه يناديه بالحاج. بادره إبراهيم بأدب قائلا: - يا سي الحاج، هل علي أن أذهب بنفسي لأبحث عن فراشي أم أن هناك من يدلني عليه؟ ¬

_ (¬1) يقابله في السنة (خيركم عند الله خيركم عند خلقه).

شرح له محدثه: - إمامنا هو وكيلنا في هذا المركب أيضا، هو الذي سيتكفل بإحضار فراشك إلى قمرتنا وسيضيف اسمك إلى قائمتنا كي تكون معنا وقت الطعام. على كل حال ها هو الجرس يدق ... أعتقد أننا قد تأخرنا في هذه اللحظة. خاطب الإمام إبراهيم قائلا: - أظنك مع فوجنا يا حاج؟ ناولني قسيمة التزويد بالمواد الغذائية لكي أسلمها للمطبخ. بانضمامك إلينا يصبح عددنا عشرة كعدد أصحاب الرسول. ناوله إبراهيم كل الأوراق التي كانت معه، لأنه لم يكن يعرف أيها هي القسيمة، فهو لا يعرف اللغة الفرنسية. اتجه الإمام نحو المطبخ وهو يصحب معه أحد الرجال ليساعده على حمل أطباق الطعام. عندما انتهى إبراهيم من تناول طعامه على ظهر المركب، أحس بالألفة مع أصحابه حتى إنهم صاروا ينادونه باسمه مصحوبا بلقب الحاج. سر إبراهيم برفقته وبمنظر البحر الممتد تحت عينيه، قضى مدة الزوال بين استكشاف المركب، الذي قطعه بحلول صلاة

العصر، وترتيب فراشه الذي أرشده إليه الإمام وفي مراقبة من على سطح المركب للسواحل التونسية التي بدأت تظهر. كان فكره يتقدم مثل المركب إلى الأمام دون التفات إلى الوراء، نحو آفاق جديدة يترقبها الحاج كل صباح مع استيقاظه وهو في الباخرة. لم تلح بونة بخاطره منذ صلاة الظهر. كان باله مشغولا بتفاصيل حياته الحالية أو بالتفكير في المرافئ التي سيتوقفون عندها ومراحل السفر القادمة. عندما أرخى الليل سدوله، كان إبراهيم لا يزال على سطح المركب رفقة الحجاج الذين كانوا يتنعمون بنسيم عرض البحر العليل. كانوا يريدون رؤية دخول المركب ميناء (حلق الواد) والمتوقع الوصول إليه في منتصف الليل. لكن النسيم العليل تحول إلى برد دفع بإبراهيم إلى اللحاق بأفراد جماعته الذين نزلوا بعد صلاة العشاء، الواحد تلو الآخر إلى مخادعهم. لحظات بعدها استسلم الحجاج إلى نوم هادئ إذ سمع شخيرهم يملأ ممرات المركب. وفي اليوم التالي، صعد إبراهيم إلى سطح المركب ليتوضأ بعد أن أيقظته جماعته باكرا للصلاة. كان المركب راسيا في (حلق الواد) حيث سيصعد آخر حجاج شمال إفريقية.

كان هؤلاء قد أمضوا الليلة الفائتة في فنادق قريبة من الميناء؛ لأن المركب يقلع باكرا. حتى إن منهم من وصل مع أمتعته إلى السطح الذي بدأ ينشط بحركتهم وهم يودعون أهاليهم ويتمنون لهم الخير بلهجة موسيقية طريفة اختص التونسيون بها. اختلط إبراهيم بعد إتمام الصلاة بالركاب الجدد، مقدما خدمة هنا وإرشادا هناك حتى إقلاع المركب. لقد وجد إبراهيم أن التونسيين أكثر روحانية وبشاشة. كان يفضلهم على أهل المغرب الذين وجدهم منطوين قليلا ومنزوين، وهذا بعد لقاء بعض منهم البارحة وهو يتجول في الممرات بين الحجاج الجدد. شد انتباهه رجل كان يضع (كشطة)، عمامة خفيفة تميز التونسي الذي له دور في الحياة الثفافية أو الدينية عن غيره، كان معه تونسي آخر يصغره سنا يلبس طربوشا، يبدو أنه يعرفه وكان يناديه بـ (الشيخ) وهو يعانقه باحترام. لم يمكث الشيخ طويلا على السطح، بل نزل إلى قمرته، في حين كان الذي يعانقه قد ذهب واتكأ على المترسة. كان يريد بعد إعلان المغادرة بدوي الصفارة أن يطبع ببصره آخر صور للميناء وللبلد. فجأة، علا صوت صراخ قريب من العبارة ولاح للحجاج

مشهد محزن بطله رجل ورقباء المدينة الذين كانوا يحاولون بكل طاقتهم الإمساك به وهو يحاول، بكل ما أوتي من قوة، إدراك العبارة التي بدأت تسحب. كان الرجل يصرخ ويتخبط ليتخلص من قبضة الرقباء عند رؤية العبارة التي سحبت، والمركب الذي بدأ يبتعد عن المرسى. تضاعفت قواه واستطاع أن يتخلص من قبضتهم. كان يشبه الحيوان الضاري في غدوه ورواحه خلف قضبان قفصه عله يجد مخرجا. كان يجري خلف المركب، الذي كان يبتعد وهو يحاول أن يمسك بأي شيء عالق بجوانبه ليصعد إلى السطح. وعندما فقد أمل اللحاق بالمركب، فبوجه مأساوي ونظرات حائرة، توجه نحو المركب مادا يديه كمن خطف منه شيء وهو يصرخ: - أرأيت يا رسول الله، لقد تركت خيمتي وأولادي كي آتي إليك. لقد قطعت 700 كلم مشيا على الأقدام، ولكني لا أستطيع أن أذهب أبعد من هذا يا رسول الله. اهتز الحجاج الذين كانوا فوق السطح للمشهد، وقد أصيبوا بذهول لمنظر الرجل الذي وصلت كلماته المؤلمة إلى عنان السماء. لم يكن يبكي، كان يشبه بدو

الجنوب، أسمر البشرة، ممشوق القوام ومفتول العضلات، يحيط بوجهه الجميل والممتلئ رجولة لحية سوداء. كان حافي القدمين إبهامه مبتعد عن أصابعه الأخرى، كما هو حال جميع مشاة الصحراء. كانت بيده عصا الراعي، ارتسمت على وجهه صور القوة والرقة والتعب واليأس، جعلته يبدو شخصا غير عادي. كل الأنظار كانت مصوبة تجاهه، وكأن الإيمان قد تجسد في شخصه، حتى إن بحارا كان يقف فوق السطح بجانب الضابط، خاطبه قائلا: - إن من القسوة صد هذا الرجل المسكين فقط لأنه لم يستوف جميع إجراءات الحج. رد الضابط الذي كان ينظر إلى الرجل متأملا قائلا: - أجل إنه أمر قاس ولكن هذا هو الصراع الأزلي بين ما هو دنيوي وما هو روحي. يقولون إن (تولستوي Tolstoi) عرف أكبر أزماته الأخلاقية عند رؤية شرطي يهين أحد الشحاذين في موسكو بحجة أن الشحاذة كانت ممنوعة. حركت الفتى التونسي الذي عانق الشيخ، هزة

الخشونة والعنف اللذين شابا المنظر. أبكمه المشهد فظل بصره مثبتا على الرجل، وكأنه أراد أن يشاركه حزنه ويتعاطف مع آلامه، في حين كان المركب يبتعد تجاه عرض البحر ردد صوته بصدى نشيد دافئ النبرة، مصري النظم شاع في شمال إفريقية. (متى يمكنني الرجوع إليك يا رسول الله). بكى إبراهيم لآلام الحاج المسكين المطرود ولألمه، ماذا لو أنه تعرض للموقف نفسه. بكى أيضا لغناء التونسي الشجي والمحمل بالحنين الذي ظل يكرر مقطع النشيد: (متى أعود يا رسول الله). ولكن شيئا فشيئا بدا الغناء يبدد الانطباع القاسي، الذي تركه المشهد المؤثر للبدوي والذي أبقى الأجواء حزينة. كان إبراهيم على عجلة من أمره ليختلط مع باقي الحجاج الآتين من أمصار أخرى. لقد سمع منذ زمن ليس ببعيد عن أهل (جاوة) الصالحين، عن (الهنود المترفين) عن (الصينيين الغامضين)، عن (أهل بخارى الكرام)، عن (العرب الفصحاء) وعن (البدو الصاخبين). كانت رغبته تشده لرؤية كل هؤلاء الناس، على اختلاف ألسنتهم وألوانهم وتنوعهم. كان المركب

قد أبحر في عرض البحر، وإبراهيم متكئ على المترسة يستنثق نسيم البحر المحمل برائحة اليود ويتأمل بإعجاب الموج وهو يصطدم بجنبات السفينة، تساءل: (هل ينطق الصينيون الحمد لله مثلنا؟). كان عنده شك في ذلك، لقد تذكر يوم لقائه شخصين منهم قبل الحرب، كانا يبيعان ألعابا رائعة صنعت من ورق بذكاء، دغدغت فضوله الصبياني واهتمامه. لقد سمع حينها الرجل والمرأة وهما يتحدثان إذ لم يفهم منهما حرفا واحدا. كان شغله الشاغل معرفة إن كان بإمكان هذه المرأة الصينية إتمام مناسك الطواف وخاصة السعي حين يجب الإسرع، كان يظن كل النساء الصينيات مسلمات. ولم يكن يتوقع أن استعمال اللغة الصينية يعيق المرأة أو يجعلها غير قادرة على أداء فرائضها الدينية. لم يجد إبراهيم حلا لهذه المعضلة الاجتماعية الصينية، فجنح بفكره إلى مواضيع أخرى. فأخذ يفكر في كيفية لباسه لو استقر في المدينة المنورة، تساءل إن كان سيواصل ارتداء (القندورة) الجزائرية والعمامة أو يستبدلهما بالزي الحجازي. كان لديه ميل إلى هذا الأخير، كانت تعجبه أبهة العباءة والعقال الحجازيين، فقد رأى مطوفا يرتديهما حل ضيفا على أبيه.

ثم إن ملابس أهل مكة تعطي أصحابها مظهرا دينيا يبهر رجلا جزائريا عاديا مثل إبراهيم. إذ ظن أن زهرة ستعجب به عندما تراه في لباسه الحجازي. لكنه تنبه إلى الغرابة التي طبعت تفكيره تجاه زهرة التي قد تركته ولم تعد زوجته، فراح يحدث نفسه قائلا: بما أنها فكرت في إرسال السبحة إلي، وهو يتلمسها، هذا يعني أنها لم تنس، ومتسائلا عما إذا كان إراهيم (بوقرعة) لا يزال يقرفها؟ .. فجأة انقطع حديثه الداخلي على ضجيج آت كما يبدو من الأسفل، من جهة ممرات الطابق الثالث السفلى، استدار خلفه وإذا بباقي الحجاج الذين كانوا بجواره قد أبدوا أيضا اهتماما بما يحدث. تساءل بعضهم: - ماذا فعل؟. قال آخرون: - لا تتركه يجرك، اذهب معه فلن يأكلك!. في هذه الأثناء ردد صوت طفل باك: (على وجه ربي، يا إخواني ...) ظهر وكأنه يطلب شيئا لم يفصح

دهش إبراهيم، الذي لم يبرح مكانه، على سطح المركب، حين تعرف على الطفل الذي كان يرتدي سروالا قصيرا، والذي لم يكن سوى الفتى الذي ناداه قبل مغادرة بونة بالأمس باسم يا (بوقرعة). احتار إبراهيم لبقاء هذا الولد داخل المركب وقد أبصره على المرسى، بعد موقفه النبيل مع الشيخ الحاج. شغل بال إبراهيم صراخ الطفل الذي كان يشده أحد عمال المركب من معصمه، والحجاج من حولهما يتفرجون، تأثر إبراهيم كثيرا بمحيا الصبي المثير للسفقة ورؤية استهزاء العامل فجمع بداخله بعض الكلمات بالفرنسية ليسأل العامل: - ماذا فعل هذا الطفل؟. هنا تدخل أحد المتفرجين الذي تعرف عليه إبراهيم إذ كان هو الشيخ الحاج الذي رفض الفتى قبول ماله بالأمس، قال وهو يدنو من إبراهيم وكأنه يود أن يقول له شيئا على انفراد: - لقد استقل الطفل المركب خفية. هكذا فهم إبراهيم الحكاية، ولاحظ القلق الذي ارتسم على وجه الشيخ، وأخذه جانبا وهو يستمع إليه:

- أنا سبب كل هذا، لقد سايرت جنون هذا الفتى وأنا الآن شريكه فيما فعل. لقد أغراني برغبته في الحج وتواطأت معه، عندما عرض علي أمره لم أستطع رفض مساعدته ... سأقص عليك تفاصيل الأمر فيما بعد، أما الآن فأنا لا أعرف ماذا يمكنني فعله من أجل هذا الصبي المضطرب؟ ... ربما ... قطع إبراهيم كلام الشيخ، وقد سحرته رومانسية الحكاية قائلا: وماذا بعد! مهما كانت طريقة مساعدتك له في هذه المغامرة، فأنت مشكور على نيتك ولو كنت مكانك لفعلت مثلك ... وكمن أراد أن ينفذ في الحال ما صدر منه، ترك محدثه واتجه بسرعة نحو الجماعة. اشتد صراخ الفتى الذي كان الهلع باديا عليه وكأنه يتوقع عذابا ما جزاء لما فعل، في حين كان العامل يشده إلى السطح وهو يقول: - هل أنت بحاجة إلى كل هذا الصياح؟. سوف نذهب لرؤية قائد المركب. أحس إبراهيم بالخطر الذي يحيط بالطفل الذي

كان لا يزال يصيح، فتقدم نحو العامل وخاطبه برقة والبسمة تعلو وجهه: - يا سيدي، هذا الطفل مسكين، يريد فقط أن يحج، ليس له أبوان يدفعان عنه المستحقات ولكن إن أردت سندفع بدلا منه ... أنا سأفعل ذلك. كان إبراهيم وهو يتحدث هكذا، يسأل الحجاج الذين كانوا يستمعون إليه. في حين كان الطفل يمعن في وجهه وهو يبتسم. حملت ابتسامته، في طياتها، الاعتراف والريب المتلاشي تجاه حاميه، الذي تعرف عليه. رد الحاج المتواطئ في هذه القضية، على حديث إبراهيم وهو يلتحق بدوره بالجماعة: - أنا أضا ... سأدفع مستحقات الطفل. لكن العامل التفت إلى الحجاج، وبنظرة ثاقبة رد عليهم: - أبدا، هذا الشقي سوف يوضع في الحبس حيث توجد فئران كبيرة، ولن يخرج منه حتى العودة إلى بونة.

عاود الطفل الصراخ عند سماعه كلام العامل وكان يظن أن مشكلته قد حلت بتدخل الحجاج. توقف هذا الأخير في تلك اللحظة أمام باب خرج منه رجل. عند رؤية الرتب على كتفي الرجل والقبعة العسكرية فوق رأسه، ظن الطفل أنه أمام المحافظ غير أن شكوكه قد تبددت عندما سمع العامل يخاطبه قائلا: - سيدي المحافظ جئت لأبلغكم بوجود هذا الفتى الذي ليس مسجلا على قوائم التفتيش، وهو يزعم أنه ركب من بونة عن طريق العبارة. لا أدري كيف؛ لأن المراقب كان سيمنعه. كان الطفل يظن أنه سيعرض على محافظ الشرطة كما حصل له عدة مرات في بونة عند قيامه ببعض الشغب، غير أنه أحس ببعض الاطمئنان عند رؤية هذا المحافظ. توقف الطفل عن الصراخ وانتظر الحكم الذي سيصدر في حقه وهو ينظر إليه، نظر إليه المحافظ أيضا وإذا بصورة من شريط ذكريات طفولته تمر بخاطره. تذكر الماضي عندما كان إقلاع سفن الشحن والسفن الشراعية يسحره، علت ابتسامة على وجهه دون أن يشعر، لقد مرت ذكرى هروبه على ظهر

سفينة شحن متجهة إلى (ليفربول Liverpool). كان هذا خلال عطلة الصيف، بعد حصوله على شهادته الدراسية. كان هروبه ذاك هو الذي أوصله إلى ما هو عليه الآن، والداه كانا قد قررا أن يكون ملاحا على أحد المراكب. وجد في نظرات الفتى الذي سيحكم عليه، تلك الروح الحالمة التي تسكن كل الأطفال المولعين باستكشاف الأصقاع البعيدة، أحلام تختلف من طفل إلى آخر من ملاح إلى بريطانية إلى حاج من بونة ... لكن المحافظ خاطب الفتى بشيء من الصرامة: - ما اسمك؟. - هادي سيدي. تمتم الولد، الذي أخافه صوت المحافظ الغليظ، وهو يستعطف بنظراته الحضور. أضاف المحافظ قائلا: - صعدت على المركب دون أي تصريح!. هل تعلم أن هذا ممنوع؟. رد عليه هادي بصوت مثير للشفقة: أجل .. ، لا .... ، سيدي المحافظ. وقد داخله شعور أنه موجود داخل قسم شرطة ببونة.

- نعم أم لا؟ سأله المحافظ. رد الفتى وهو يهمهم: - لا ادري سيدي المحافظ. كان يريد التهرب من السؤال، بتغطية ارتباكه وبإجابة مترددة. لاحظ المحافظ أن الفتى قد نال عقابا كافيا فطلب من العامل الذي كان يشده أن يقوده إلى المطابخ قائلا له: - يجب عليه أن يعمل في المطبخ حتى يأكل من عمل يديه. نظر إلى العامل نظرة ذكية وأضاف: - يجب أن نستخدمه في عمل شاق؟. أحس الفتى بارتياح للحكم الصادر بحقه وقال للمحافظ الذي التفت ليغادر المكان، وكله عرفان بالجميل: - شكرا لك سيدي المحافظ، سأعمل بجد فأنا أعرف تقشير البطاطا وأجيد الكنس أيضا. تيقن إبراهيم بأن تدخله غير مجد في هذه اللحظة لكنه شعر بالعرفان تجاه الطاقم. رأى إبراهيم أن من واجبه أن يقول للطفل الذي أطلق معصمه والذي يسير

خلف الرجل الذي جاء ليأخذه إلى المطابخ: - اسمع يا هادي، إذا احتجت إلى شيء فعليك أن تتصل بي. لم يكن إبراهيم يعرف إذا كان الطفل قد يحتاج إليه، ولكنه قال ذلك ليرضي ضميره. في التفاته إلى إبراهيم، تبسم هادي رادا عليه قبل أن يختفي خلف الباب الموجود وراءه الربان. كان من بين المتفرجين حاج حكيم علق على المشهد قائلا: - سبحان الذي سهل لهذا الولد المعوز الحج، حتى إنه سخر له المحافظ الكافر الذي أصبح أداة للإرادة الإلهية. أضاف حاج آخر مؤيدا للحاج الحكيم: - حلم الله يتجلى على الفتى المتهور كما يتجلى على الرجل الضائع في متاهات المعصية. أضاف إبراهم وهو يسترجع العبرة من قصته قائلا: - حتى السكير يمكن أن يتحول بفضل الله القادر على كل شيء إلى حاج.

وبينما هم مستمرون في تعليقاتهم على مغامرة هادي، إذ دق جرس وجبة الغداء ... بدأ الحجاج يتحركون استعدادا للغداء. كانوا في غدوهم ورواحهم يتبسمون ويتبادلون طريف الكلام الذي أضفى شيئا من الحركة على المركب. أما الحجيج الذين كانوا مصحوبين بنسائهم، أما كانت أم زوجة، فتراهم حاملين الأواني لإحضار الأكل لأنهم يفضلون الأكل مع أهاليهم في قمرتهم، أما الآخرون فكانوا يلتحقون بأماكنهم في قاعات الطعام. وأخيرا ركاب الدرجة الرابعة والذين لم يكن لهم مكان في القاعات كانوا يتداولون طعامهم في الهواء الطلق مكونين بذلك مجموعات على سطح المركب. اتخذ إبراهيم ومجموعته المكان نفسه الذي أقاموا فيه البارحة مكانا لتناول طعامهم، أما إمامهم فقد ذهب مصحوبا بأحد أعضاء المجموعة لإحضار الأكل. كان كل منهم قد استخرج شيئا من مؤونته، خاصة الحلويات التي اعتاد الحجاج حملها معهم. في الماضي عندما كان الحج يأخذ وقتا أطول، كان الحجاج يحملون معهم تموينا كاملا يشمل حتى الملح والفلفل، وكانوا يحضرون طعامهم بأنفسهم.

أما اليوم فالمؤونة اقتصرت على كعك وحلويات تحملها العائلات لحجاجهم، من البقلاوة الخاصة بالعائلات الغنية، و (المقروض) لقاطن المدينة والفقير، أما (الرفيس) فللريفي. أما مجموعة إبراهيم التي تحلقت حول الطعام، فلم يكن عندها غير المقروض والرفيس وهذا يدل على تنوع أفراد المجموعة وبساطتهم. لم يكن مع إبراهيم سوى خبز مصنوع في البيت مطل بصفار البيض وبعض الفواكه. لم يكن للعم محمد الوقت الكافي لتحضير شيء آخر ليملأ به قفة الحاج. عاد الإمام بعد قليل ومعه معاونه يحملان طبقين يحويان طعاما عاديا، كما فعلوا بالأمس، بدأ الحجاج يتفحصون الطعام وخاصة الريفيين لأنهم لم يكونوا معتادين على تناول طعام المطابخ. كان الإمام الرقيب على الطعام، إذ أخذ ملعقته وتناول بها كل قطع اللحم ثم أصدر قرارا: - ليس هذا لحم خنزير. وكرر إبراهيم الكلام نفسه قائلا: - أنا متأكد من أن اللحم ليس لحم خنزير. فقد رأيتهم يذبحون خرفانا وفقا للشريعة فلقد

أخبروني عند الصعود أن الكمية تكفي حتى وصولنا إلى جدة. أضاف الإمام وهو مازال يفحص القطع: - من يدري؟ ولكن لن نخسر أي شيء إذا ما تأكدنا. في هذه الأثناء كان أفراد الجماعة يتجاذبون أطراف الحديث حول الرفيس والمقروض. كان هناك بحار دفعه فضوله إلى الاقتراب من مجموعة إبراهيم، كان متكئا على المترسة يبحث عن شيء يقوله ليشاطرهم الحديث. حدق الإمام ببصره في هذا المتفرج غير المتوقع ورأى أن من واجبه تقديم تفسير لما بدا من شكوك حول الطعام: - نحن المسلمين لا نأكل الخنزير. مخاطبا إياه بالعربية ومناولا إياه قطعة من الرفيس. أما البحار الذي بدا عليه عدم فهم أي شيء مما قيل له، فقد قبل بأدب قطعة الحلوى الممدودة إليه. إنه سعيد لأن الحاجز الذي كان يفصله عنهم قد زال، وكان في الوقت نفسه متكدرا لأنه لا يجيد اللغة

العربية، رد وهو يتذوق الحلوى: إنه لذيذ! شكرا! شكرا. هل تتكلمون الفرنسية؟. الحجاج الذين لم يفهموا مما قيل غير كلمتي (merci و bon)، ظنوا أنه يجب تقديم المزيد من المقروض في حين أن إبراهيم رد عليه بفرنسية ركيكة: - أنا أفهم قليلا. ارتأى البحار أن فرنسية إبراهيم كانت كافية فسأله: - أنتم أيها المسلمون لا تأكلون الخنزير ولا تشربون الخمر، أمحمد هو الذي يمنعكم؟. التفت أصحاب إبراهيم إليه بنظرات كلها تساؤلات وهو يجيب البحار: يجب ألا نأكل الخنزير وألا نشرب الخمر وإلا ذهبنا إلى الجحيم ... كان البحار يتذوق المقروض في حين كان إبراهيم يترجم لأصحابه ما دار بينه وبين البحار. رأى الإمام أن الإجابة كانت ناقصة لأن إبراهيم لم يأت على ذكر كلمة محمد التي سمعها الإمام من

البحار والتي شدت اهتمامه، هنا أدرك إبراهيم أنه لم يجب عن كل السؤال الذي طرح عليه، كان الإمام وجماعته متفقين إذ إن الإجابة كانت غير كافية لذلك طلب من إبراهيم أن يبين أن المنع ليس من محمد إنما من الله. التفت إبراهيم إلى البحار الذي كان يتابع نقاش الحجاج دون فهم، ليقول له في هنيهة ما بين لقمتين: - ليس محمد من منع الخمر والخنزير بل إن الله هو الذي قد حرمهما على المسلمين. رد عليه البحار، بلهجة فيها سخرية، وهو يتابع بنظره حاجا آخر أقبل باتجاههم وقد وقف واتكأ هو أيضا على المترسة: - أجل ولكن محمدا هو من قال لكم هذا، فأنتم لم تسمعوه من الله. بدا على إبراهيم الضيق فابتلع لقمة كي يحافظ على رباطة جأشه. تدخل الحاج الذي كان متكئا على المترسة والذي كانت شاشيته الحمراء وشكله يدلان على أنه أحد المثقفين الجزائريين والذين يجيدون لغتين على الأقل.

- ليس محمد ولا الله ... لكن الرب هو الذي قرر المنع. ارتبك البحار لهذا التدخل غير المتوقع وسأله بشيء من الجدية: إذن فبالنسبة إليكم الله والرب ليس لهما المعنى نفسه؟. - بالنسبة إلي نعم ولكن بالنسبة إليكم فالأمر ليس كذلك، عندما تقولون الله يذهب بكم تفكيركم إلى صنم يعبد، المسلمون، لكن حين تقولون الرب فسيتبادر إلى أذهانكم الشيء نفسه عندما نقول نحن (الله). قاطعه البحار: أنا لا أهتم بتاتا لهذا الأمر، لدينا ما يكفي من المشاكل في هذه الحياة لنهتم بها، أنا أرى أنه لو لم تكن هناك ديانات لما كانت كل هذه الصراعات على الأرض، ولو كان هناك (رب) حقا لما كان كل هذا الظلم وكل هذا البؤس والشقاء. استمع الحجاج إلى الحديث وهم يأكلون ويتابعون باهتمام ترجمة إبراهيم، المقبولة إلى حد ما وهم يهمسون فيما بينهم استنكارهم لما صدر من لبحار.

عبر الإمام هو أيضا عن الاستنكار وهو يناول إبراهيم قطعة من اللحم: - لقد أفقدتهم الخمر وعيهم، وهو يشير إلى البحار كمن يشفق عليه وأضاف: - سوف يتذكرون الله في يوم رهيب آت وسيكتشفون حينئذ أن الحياة لم تكن سوى عصابة على أعينهم. ناول البحار أيضا قطعة من الرفيس وهو يقول: - خذ، كل هذا قبل أن تلتهمك نيران جهنم. ضحك الجميع لهذه الملاحظة وهم يجمعون أوانيهم بعد أن فرغوا من طعامهم. واصل الحاج المتكئ على المترسة كلامه: - إن مصاعب الحياة والصراعات والبؤس ليست وليدة المصادفة ولا من صنع الله، كل هذا هو نتاج المدنية المتحضرة التي خالفت القوانين الأساسية للسعادة. أما اليوم فهي تحاول تعويضها بقوانين مصطنعة لكن السعادة ليس لها بديل ... والحقيقة أيضا ... العلوم والسياسة لا يستطيعان أبدا إعادة بناء الأرواح البشرية المحطمة.

قاطعه البحار: - ماذا يمكن للدين أن يبني لو فرضنا أن هناك دينا عالميا؟ أستطيع الآن أن أخبرك ماذا سيحصل. كنيسة عالمية تخضع الشعوب وتقهرهم وتسلبهم ضمائرهم وأموالهم. قطع الحاج على البحار حديثه وهو يمده بسيجارة: - ماذا تريد أن تقول نحن غير متفقين على الألفاظ؟. نحن نقول الشيء نفسه ولكن من منطلقين مختلفين، بتجريمك للأديان، أنت تجرم الاختلاف أعتقد أنك تتهم التنوع اللغوي أيضا، لا بد أنك من أنصار (الاسبرانتو) (¬1)، اعلم أن برج بابل بقي فكرة طوباوية ... قدح عود الثقاب، وأشعل سيجارة البحار الذي سأله: - من دون شك أنث مؤمن بما أنك متجه إلى مكة، ولكن عند النقاش معك تعطي انطباعا ¬

_ (¬1) لغة أراد مخترعها زمنهوف Zamanhof في 1887 م، أن يجد وسيلة يسهل بها التواصل بين كل شعوب العالم.

بأنك رجل مثقف ومتعلم وحري بك ألا تكون مؤمنا. رد الحاج بقوة قائلا: - هذا انطباعك أنت وانطباع وسط ينظر إلى العلاقة المتبادلة بين الدين والعلوم بطريقة معينة. في مثل هذا الوسط ينظر إلى المسلم المثفف على أنه متشكك وإلى المسلم العادي على أنه متعصب. أما إبراهيم الذي كان يتابع باهتمام حديث الرجلين فلم يستطع أن يواكبهما لضعف مستواه في الفرنسية غير أنه كان مستحسنا لموقف الحاج ذي الشاشية، كان لديه انطباع غامض أن ما شهده كان صراعا بين الإسلام والكفر. لف إبراهيم ما تبقى من الحلويات في ورقة وهو يتحدث إلى أحد رفقاءه عن الرجلين اللذين ابتعدا وهما يتابعان النقاش: - لم أفهم جيدا ما دار بينهما ولكني واثق أن الحاج قد دافع عن الإسلام بحق، إنه يتكلم الفرنسية بطلاقة.

وضع إبراهيم صرة الحلويات التي جمعها جانبا ثم أضاف قائلا: - هذه الحلوى لهادي عند ما أراه، مؤكد أنه يأكل بما فيه الكفاية في المطابخ، ولكن الأطفال يحبون الحلويات. كأن ابراهيم يعد نفسه لصلاة الظهر وهو يتفكر فى أمر هادي وحكايتهما المتشابهة، غير أنه لم يفهم كيف أمكن لهذا الصغير أن يفكر بمشروع الحج ويحققه، الأمر بالنسبة إلي بدأ بحلم، ولكن ماذا عن الطفل؟. فكر كثيرا ولكنه لم يجد تفسيرا كافيا لكل ذلك. عندما اتخذ إبراهيم مكانه استعدادا للصلاة، ألقى نظره إلى صرة الحلويات المخصصة لهادي وهو يعد نفسه أن يطلب منه إيضاحا لتساؤلاته. عندما بدأ الإمام بالتكبير طرح إبراهيم الأفكار التي كانت تجول بخاطره جانبا واستغرق في صلاته حتى السلام الختامي، وعاد بعدها إلى سابق تفكيره وهو يتساءل إن كان هادي يصلي بما أنه سوف يصبح حاجا. لم لا يصلي مع فوجنا؟ المطابخ ليست بالمكان اللائق الذي يساعده على التركيز في واجبه الديني،

هذا واجب أي مسلم بأن يذكره بواجباته ويحرص على أن يكون حجه الذي بذل في سبيله كل الحيل، مقبولا، إنه طفل من بونة مثلي وهو أصغر مني بل أفقر مني أيضا. أجبر هذا الوضع إبراهيم على اتخاذ قرار، أخذ رزمة الحلويات وذهب على الفور يبحث عن هادي في المطبخ، لم ينفق وقتا طويلا لكي يجده، إذ سمع صوته من خلال كوة تطل على السطح وهو يغسل الأطباق. كان هادي يغني أغنية كانت لوقت غير بعيد شائعة بين أطفال بونة، تقدم إبراهيم وهو يمشي على أطراف أصابعه ونادى: هادي! يا هادي!. سمع إبراهيم صوت طاولة تسحب وظهر بعدها الرأس الصغير لطفل بونة، كان الفضول يثيره كي يعرف من يناديه ولكنه ضحك عندما عرف زائره. لم يكن الطفل يعرف اسمه ولم يشأ أن يناديه كعادته عندما كان يلتقيه في شوارع بونة، سأله: - هل أنت بحاجة إلي يا عمي الحاج؟. رد إبراهيم وهو يناوله الصرة: - لا، جئت هنا لأعطيك هذه الحلويات.

أكب الطفل من الكوة ليأخذها وقال له وهو يريد أن يشكره: - عمي الحاج، قل لي أين يمكنني أن أجدك كي أحضر لك قهوة ساختة، لكن لا تخبر أحدا. استطرد إبراهيم قائلا وهو يبحث عن كلمات: - أتعرف المكان الذي رأيتني فيه بالأمس عندما أحضرت الحزمة إلى الحاج الذي رفضت أن تقبل منه المال؟ ستجدني هناك، تعالى إلي إن استطعت قبل العصر حتى تتمكن من تأدية الصلاة معنا. وهو يقول هذا لم يشأ أن يذكر الفتى بوقاحته على المرسى عندما ناداه بـ (بوقرعة)، هذا الأخير أسعده أنه لم يذكره بقلة أدبه تجاهه وأعجبته الفكرة التيى أضفت على مغامرته طابعا مميزا. سحب هادي رأسه من الكوة لكي يخفي التأثر الذي هز صوته وقال: - أنا لا أعرف كيف أتوضأ، أرني كيف أفعل ذلك مرة واحدة، فأنا أتعلم بسرعة.

رد إبراهيم الذي أبهجه الاستعداد الطيب للفتى، وهو يغادره: - إنه أمر سهل، عليك أن تتبع ما أفعله في الوضوء مرة أو مرتين .. رأى إبراهيم أن لديه بعض الوقت قبل صلاة العصر، فقرر أن يقوم بجولة في المركب. كان يريد أن يتحدث إلى بعض التونسيين عن الحياة في المدينة، كان يعتبر التونسي أقدر من الجزائري أو المغربي على تزويده بالمعلومات التي يريدها. كان يمشي بين الممرات ويطل على المقصورات بحثا عن شخص تونسي. توقف بصرة عند أحد الأبواب على أحد الركاب. عرف الحاج الذي اتهمه بالتواطؤ مع هادي فتذكر إبراهيم التفاصيل التي كان وعده بها هذا الحاج عن مغامرة الفتى. عندما رأى الحاج إبراهيم، عرفه واستقبله وقد اعتدل جالسا على فراشه وخاطبه مبتسما: - أجئت من أجل قصة ذلك الفتى الصغير؟. رد عليه إبراهيم وهو يدخل المقصورة: - لا، لم آت لهذا السبب لكنني تذكرت وعدك

عندما رأيتك، وأضاف قائلا لمن كان حاضرا: - السلام عليكم. لمح مقعدا أمام الحاج الذي استقبله في حين سمع الحضور يردون عليه: - وعليكم السلام. أخرج الشيخ الحاج رجليه من تحت غطائه ولبس بلغته ثم صاح: - يا أحمد! إن كان بقي شيء من الشاي في الإبريق، فحبذا لو قدمت منه لهذا الحاج، وهو يشير إلى إبراهيم الذي جلس على المقعد، ثم واصل قائلا: - لقد خشيت على الولد هذا الصباح عندما اكتشف أمره ظننت أنهم سيحبسونه حتى الرجوع إلى بونة لكن الرحمة موجودة في قلوب مخلوقات الله، أليس كذلك؟. التفت إبراهيم أولا ليتناول كأس الشاي، قائلا: - أرجو من الله أن يسقبك من ماء زمزم يا حاج أحمد، قال مخاطبا الحاج الذي

ناوله الكأس، ثم أردف معلقا على كلام الشيخ الحاج: - حقيقة كل القلوب فيها رحمة، لولا إبليس الذي يفرق بينها. - اللعين! أضاف الحاج مؤكدا ما قاله إبراهيم: - يجب أن تعلم أن الفتى أخذ أمتعتي عنوة، لقد انتزعها انتزاعا من يدي عندما التقيت به غير بعيد عن المركب، كان يقبل يدي وعيناه تذرفان بالدموع، وبما أنني لم أفهم ما يجري طلبت منه توضيحا، عندها أخبرني أنه يريد الذهاب مع الحجيج. ظننت في قرارة نفسي أنها نزوة طفل وحاولت أن أعيده إلى صوابه عندما اقتربنا من المركب لكن حينما وصلنا رفض رفضا باتا أن يأخذ أجر حمله لأمتعتي ... تذكر إبراهيم المشهد وأكد قائلا: - فعلا لقد رأيته حين رفض أخذ النقود ... ظننت حينها أن الولد لم يشأ أن يأخذ الثمن من حاج تقربا من الله ...

- أظننت ذلك! رد عليه الشيخ متعجبا وهو يضحك: - كان يريد فقط دفعي إلى التواطؤ معه لأمكنه من الصعود إلى المركب، شرح لي أنني سأجد حبلا على سطح المركب وأنه علي فقط أن ألقيه من على السياج من جهة البحر، وبما أننا كنا على أهبة الإقلاع لم أشأ إطالة النقاش مع الولد الذي كان مصرا على رفضه العنيد. في حقيقة الأمر وأنا أصعد إلى المركب لم أكن قد قررت بعد ماذا أفعل. ملكني ملل من الموضوع ولكن لما وصلت إلى السطح رأيت حبلا من جهة البحر تماما كما قال لي الطفل وكأنه هو الذي وضعه، هناك بدا لي أن القدر قد تدخل مساعدا في تخطيط الولد الذي كنت فضلا عن ذلك مدينا له، أحسست بأني متورط في القضية ... فما كان مني إلا أن ألقيت الحبل، وأشرت إلى الطفل الذي كان ينتظر وقد ارتسمت الفرحة على قسمات وجهه؛ فقفز إلى الماء كالسمكة والتف حول عارضة المركب، تسلق الحبل بخفة القرد ووصل إلى

السطح وهو مبتل بالماء حتى العظام. قبل يدي مرة أخرى، لم يترك لي فرصة لأتفوه بأي كلمة، إذ اختفى بسرعة كالفأر عندما يدخل جحره. كان إبراهيم يستمع بشغف إلى ما قام به هادي، وضع الكأس فارغة بجانبه، وقال: - آه! هولاء هم أطفال بونة ... تناول الحاج أحمد كأس إبراهيم الفارغة، وقال معبرا عن رأيه: - على الأقل، مغامرة هذا الفتى لها معنى سوف يعود إلى وطنه بلقب حاج، كثير من أولاد الأغنياء لا يحملون هذا اللقب، فهو فقير وقد لا تسنح له الظروف لحيازة المال الكافي لكي يؤدي هذا الفرض. قاطع الشيخ الحاج قائلا: - ألم يحن وقت صلاة العصر بعد؟ على إثر هذا السؤال تذكر إبراهيم موعده مع هادي فقال معتذرا: - آسف، سيأتي الولد ليتوضأ معي كي يتعلم، لا بد أنه في انتظاري الآن.

- السلام عليكم، قالها وهو خارج، رد عليه الحضور: - وعليكم السلام؟ فليكافئك الله على صنيعك. عندما التحق إبراهيم بمجموعته، كانت تخالجه مشاعر أبوية نحو الولد مختلطة بإعجاب أحس به دون أن يشعر عندما كان الطفل يتحدث عن أعماله، وجد إبراهيم الطفل هادي على السطح، وقد تحلق حوله أعضاء المجموعة، كان يفرغ لهم في الكأس نفسه القهوة التي جلبها معه من المطبخ. عندما رأى الحجاج الذين كانوا مجتمعين حول دلو القهوة، صاحبهم قالوا له وهم يمازحونه بلطف: - كيف تتأخر يا إبراهيم؟، هذا تلميذك ينتظرك من أجل درس الوضوء. واحتفالا بأول درس له، أكرمنا بهذه القهوة اللذيذة، هل تعلم أنه لم يرد أن يشربنا منها قبل أن تأتي إلينا؟. رد إبراهيم وهو يضحك: - له كل الحق بالاحتفاظ بالخدمة لمعلمه، ثم خاطب الطفل: - هل استأذنت حتى تأتي لنا بهذه القهوة؟.

رد عليه الفتى وهو يمده بكأس القهوة: - إن رئيس المطبخ شخصيا هو الذي سمح لي بأخذها، كما سمح لي بإقامة الصلاة معكم. تناول إبراهيم رشفة ثم خاطب الفتى بصوت آمر كما يفعل المعلم مع تلميذه: - يا هادي بما أن لك سمعة جيدة في المطبخ، اذهب وأحضر لنا الماء كي نتوضأ. أحس هادي بحنان واهتمام في صوت إبراهيم الآمر كثيرا ما افتقدهما في بونة عندما كانت يرى أطفالا في مثل عمره يتمردون على السيطرة الرقيقة لآبائهم. كان كثيرا ما يطلق الزفرات على حريته المطلقة والمتردية خاصة عند أوقات الطعام والنوم، أو عندما يكون موجودا على أبواب المدارس يراقب الأطفال حين خروجهم وهم يصرخون ويقفزون هنا وهناك فرحا بوجودهم في الشارع ليمارسوا حريتهم حتى ولو كانت حرية لا ضرر فيها محمية ومتوازنة، لهذا تقبل أمر إبراهيم برضا وسرور؛ لأنه كان يجد رغبة لاشعورية في أن يستسلم لسلطة حنونة وواقية. وضع الولد دلو القهوة وجرى مسرعا نحو المطبخ وهو سعيد بأن يرى استعجاله لتنفيذ الأمر. رجع بسرعة

ومعه دلو ماء وناوله الحجاج الذين سكبوا منه في أوعيتهم لكي يتوضؤوا وكل في جهته. وضح إبراهيم لهادي بأن عليه أولا أن يقوم بالاستنجاء مشيرا إلى حاوية كبيرة فوق السطح وطلب منه أن يختفي خلفها عن أنظار الحضور. بعدها رجع إلى جوار مرشده وهو يتابع بانتباه حركاته ليفعل مثلها ويتم بذلك الوضوء، عندما فرغا من الوضوء كان الإمام قد استعد للصلاة ينتظرهما كي يرفع صوته بالتكبير .. التحق إبراهيم مسرعا بمكانه المعتاد حث هادي قائلا: - الأمر ليس صعبا، ما عليك إلا أن تفعل ما يفعله الآخرون. لكن الفتى الذي أخذ مكانه في الصف الثاني وراء إبراهيم جذب هذا الأخير من كمه قائلا: - ماذا يجب أن أقول؟ لم يفكر إبراهيم في سؤال كهذا، إذ أخذ يبحث عن إجابة صحيحة وسريعة حتى لا يطول انتظار الإمام، لكن هذا الأخير سمع سؤال الولد، وكان قد لاحظ حيرة الرجل فرد مكانه:

- لا تقل أي شيء، فقط كرر خلفي التكبير، نعلمك الباقي في الوقت المناسب، أما اليوم فلا حرج عليك، سيتقبل الله صلاتك. تقبل هادي الجملة التي زادته ثقة وسرورا. عندما ردد الطفل التكبير بوقار راوده انطباع وكأنه ينجز أول شيء جدي في حياته، حملته مخيلته إلى فضاءات سامية ومضيئة مليئة برؤى خاطفة للأبصار لا يمكن إدراكها بالعقول، كان يشعر بأن قوة الصلاة الخفية والغامضة قد حملت روحه في هذه اللحظة إلى جنة لم يستطع أن يحدد شكلها، غبطة بالغة اختلطت شيئا فشيئا مع وقاره الطفولي. عندما تلفظ الإمام بالسلام الختامي، أطلق هادي تنهيدة وكأنه يتأسف على انقضاء الصلاة التي كان يريدها أن تدوم إلى الأبد، كان إبراهيم ينتعل حذاءه، عندما توجه إلى هادي بالكلام قاطعا عليه الانبهار الذي كان يعيشه: - يا هادي، عليك بالرجوع إلى المطبخ الآن قد يكونون في حاجة إليك. لكنك سوف تعود من أجل صلاة المغرب. وإلى ذلك الحين إذا دخلت بيت الخلاء فعليك أن تستعمل الماء ... فأنت على علم الآن ...

- أجل، أجل أعرف ذلك. قاطعه الفتى الذي هم واقفا وقد أخذ الدلوين. وقد أضاف قائلا: - طيب، سأذهب إلى المطبخ، ولكن هذا المساء سوف تعلمني يا عمي الحاج إبراهيم أمور الصلاة. وعده إبراهيم بذلك دون أن يغيب عن سمعه أن هادي قد ناداه باسمه لأول مرة، أحس أن الولد وعلى الاحترام الذي أبداه تجاه لقبه كان يريد ربط علاقة ألفة عاطفية معه عندما ناداه بـ (يا عمي). حينما كان هادي يبتعد أحس إبراهيم بالأسف لأن هادي ليس بولده، تحسر إبراهيم لذلك وقد جنح بفكره إلى زهرة وقد مرت صورتها بخاطره وهو يتذكر بادرتها الجميلة بالأمس. تبادر إلى ذهن إبراهيم أن يستعمل السبحة التي أرسلتها إليه. كان جو صاف يغشى المركب الذي كان يرسم مجراه بلون الصدف على بحر ممتد. لم يعد يسمع أي ضجيج غريب في المركب، كأن كل الركاب مستغرقون في خشوع تام باستثناء أزيز الآلات الذي كان ينبعث فوق السطح مختنقا كأنه حشرجة.

كان إبراهيم جالسا على الحاوية التي كانت تستعمل ستارا لهادي عندما كان يستنجي وهو يسبح بصوت خفي. تهلل وجهه بتلك السعادة البسيطة التي تشع من وجوه الناس، شيوخا كانوا أو صغارا عند سماعهم نداء المؤذن على عتبة المسجد. كان إبراهيم يبذل كل جهده حتى يبقى مركزا في الذكر غير أن فكره كان يجول به في الماضي أو يدفعه نحو المستقبل. فجأة دق الجرس معلنا عن وقت العشاء في حين سمع خلفه صوت هادي يقول له: - هذا مزيد من الماء للوضوء يا عمي الحاج إبراهيم، لقد أحضرت لك قطعة من الجبن الذي أعطوني كثيرا منه في المطبخ ... باغته مجيء الولد ورد عليه والدهشة تعلو محياه: - عجبا، أنت هنا؛ هل انتهيت من طعامك؟ قال له مبتسما وهو يدفع بلطف قطعة الجبن الممدودة إليه وهو يقول: - لا، احتفظ بها، قد تجوع في الليل، سأعطيك خبزا من بونة.

أتى الإمام وقد جمع فوجه الذي التف أفراده عند سماع الجرس في مكان وجود إبراهيم وقال: - أظن أن علينا أولا أداء الصلاة حتى نأخذ راحتنا في الأكل فوقت المغرب قصير. هنا تدخل قائلا وكله سرور لفكرة متابعة إبراهيم في وضوئه: - عمي الحاج إبراهيم أتريد أن تراني إن كنت قد تعلمت الوضوء؟ دعني أبدأ أولا لترى إن كنت أعرف كيف أتوضأ. لم يكن إبراهيم في حاجة لأن يعيد وضوءه، قرر أن يعيده إرضاء للولد، هذا الأخير سارع إلى إظهار مهارته سابقا حركات إبراهيم وهو يعد بصوت عال: الأيدي ثلاث مرات .. الفم أيضا .. والأنف. كان إبراهيم يتبعه في حركاته وهو يضحك دون تدخل، لكنه عندما مرر الولد يديه المبللتين على رأسه مرة وكان سيفعلها ثانية تدخل إبراهيم مرشدا الطفل: - لا! الرأس والأذنين مرة واحدة. أرجع هادي شعره إلى مكانه بعد أن بعثره بيديه مخاطبا إبراهيم وهو يسأله:

- لماذا الرأس مرة واحدة؟. وكان قد بدأ في تنظيف أذنيه. أحرج السؤال إبراهيم الذي أجاب بعفوية: - دون شك لأن الشعر والأذنين لا يعلق بهم وسخ كثير. أنهى هادي غسل رجله اليسرى وقد التحق بمكانه خلف الإمام الذي بدأ يستعد للصلاة، لم يشأ أن ينتظر إبراهيم الذي ما زال ينتعل بلغته حتى لا يعطي انطباعا بأنه ما زال في حاجة إلى من يدله على مكانه. عند انقضاء الصلاة، عرض هادي خدماته على الإمام كي يصطحبه إلى المطبخ ليحضر معه الأطباق عسى أن يستعمل علاقاته المميزة في خدمة فوجهه اقترب الحجيج والتفوا للأكل حول مصباح مضيء. كان المركب قد أشعل جميع أضواءه وهو يبحر على صفحات بحر شديد السواد. كان الحجاج يأكلون ويتحدثون عن الاحتمالات الجوية أما هادي الذي كان ينظر إلى السماء وإلى النجوم التي تسطع، فقد صاح بصوت عال وهو يشير بسبابته إلى المنارة عجبا: - هذه النجمة كبيرة إنها تظهر وكأنها تتحرك.

نظر الحجاج في الاتجاه المشار إليه وبينوا له خطأه وهم يمازحونه. أحس هادي حينها بالخجل بعد هفوته تلك غير أنه ولكي يغطي على الحرج الذي أصابه، علق على جدوى هذا الضوء المثبت عاليا وكأنه جعل لإنارة السماء. لم يكن يوجد بين الحضور من كانت له معلومات بحرية كافية لشرح فائدة هذا الضوء، مما جعله يناقش الموضوع معهم وبحدة. كانت أحاديثه التي تصدر عن مخيلته الخصبة وبساطته العفوية والممتعة قد أبهجت الجميع، جلبت له قريحته تعاطف الحجاج الذين رأوا في هادي جلاب سعد. اتفق فوج الحجاج عندما انتهوا من الأكل على أن يهيئوا لهادي، باستعمال البرانس فراشا مؤقتا مع المجموعة. أسعد هادي لفكرة أنهم سيوقظونه باكرا في الصباح للصلاة كما يفعل الأولياء مع أولادهم عندما يرسلونهم إلى المدرسة القرآنية. كان متلهفا لأجل أن يتذوق نكهة الحياة العائلية التي طالما افتقدها في بونة عندما كان يرى الأطفال يدخلون أو يخرجون من بيوتهم حيث يوجد آباؤهم وأمهاتهم. كان يفيض عرفانا وتأثرا عندما قرر الحجاج

تخصيص مكان له بينهم كما اقترح إبراهيم غير أنه كان يريد ألا يثشغلهم كثيرا لذلك خاطبهم قائلا: - أنا لا أريد أن أوسخ برانسكم بقدمي، أستطيع أن أنام بينكم على الأرض كما كنت أفعل مع أصحابي في بونة. أبدى إبراهيم اهتماما كبيرا بالموضوع الذي فتحه هادي عن ماضيه، كانت الفرصة سانحة كي يشبع فضوله عن حياة الطفل فسأله: - أين كنت تنام في بونة؟. على إثر هذا السؤال، رأى هادي أنه من الواجب أن يقص عليهم ماضيه. بدأ يحكي كيف أن والديه أحضراه معهما من دوار داخلي إلى بونة هربا من المجاعة ليتمكن والده من البحث عن عمل وكان هادي صغيرا جدا وقتها. كان يحتفظ بذكريات غير واضحة عن خيمة بالية كانت ملجأ لهم ليست ببعيدة عن جسر يقطع وادي (السيبوس) (¬1) بجانب مصبه في البحر. ¬

_ (¬1) واد يمر بمدينة عنابة ويصب في البحر. غير بعيد عن المرفأ ومحطة القطار.

كان والده يذهب كل صباح إلى المدينة أو إلى مزارع الكروم المجاورة للعمل ولم يكن يعود إليهم إلا في المساء. أما والدته فقد كانت معه ترعاه وتحرس الثلاث أو الأربع دجاجات اللاتي كان بيضهن يدر عليهم بعضا من المال لشراء الملاس للعائلة الفقيرة. كان الحجاج ملتفين حول هادي يستمعون إليه وهو يقص عليهم ماضيه: - لكن أمي ماتت وباع أبي الدجاجات لأن بيضها كان يسرق من الزريبة التي ذهبنا لنقيم فيها لتكون داخل المدينة. ثم قص عليهم لحاق أبيه بأمه بعد وقت قصير. تذكر هادي كيف كان أبوه يسعل سعالا شديدا ويبصق دما ولم يعد قادرا على العمل. تذكر هادي تسوله وقد حمل إناء حارس المزراب ليستجدي طعاما لوالده، وعندما مات والده ظل هادي يتسول ليقتات. وبقي على هذا الحال لعام أو عامين إلى أن عرف بعض الأولاد أكبر منه سنا، كان يلعب معهم على أرصفة مرفأ بونة، واستمر لقاءه بهم وتعلم منهم كيف يكسب عيشه مثلهم من مسح الأحذية أو العمل عتالا. أعاد الجفنة إلى حارس المزراب ولم يرجع إليه قط.

لقد استحوذت عليه وضعيته الاجتماعية الجديدة وعلاقاته الجديدة. واستطرد هادي قائلا: - في البداية عندما كنت صغيرا كان أحد أصدقائي يترك لي علبة مسح الأحذية عندما كان يعمل عتالا في محطات القطار أو في الموانئ، كنت أمسح الأحذية في غيابه وأقسم معه الإيراد والطعام، وفي المساء كنا نذهب لننام مع أصدقاء آخرين لنا، لا أهل لهم مثلنا. في الصيف كنا ننام على عتبة المسجد أما في الشتاء ففي رواق أحد الجمامات. وعندما كبرت قليلا اتخذت لي علبة لمسح الأحذية تركتها بالأمس لآخر أصغر مني سنا ... قاطع أحد الحجاج الولد وقال له ممازحا: - وهل الذي ائتمنته علي علبتك سيقتسم معك الإيرادات حين عودتك؟. رد هادي ضاحكا: - آه كلا!، لم يكن بيننا أي اتفاق على هذا.

كان إبراهيم يتابع القصة باهتمام فسأله مرة أخرى: - وكيف قررت أن ترحل مع الحجاج؟. رجع الطفل إلى الجدية التي ميزت قصته من البداية وفي تلك اللحظة بدا يفكر كمن يبحث عن إجابة: - لا أدري ... أول أمس أنا وأصحابي أمضينا يوما ممتعا في حمل أمتعة الحجاج من المحطة إلى الفنادق. وفي المساء، عندما اجتمعنا في رواق الحمام للنوم، تحدثنا عن كل ما رأيناه، عن الحجيج، عن مكة ... قلنا ساعتها، لولا البحر لكان بإمكاننا الذهاب إلى مكة مشيا على الأقدام لأننا لا نستطيع دفع ثمن الرحلة على المركب لفقرنا، لكنني تحديتهم قائلا: - أنا أستطيع أن أذهب دون أن أدفع أي شيء. وتراهنت مع أصحابي الذين لم يصدقوا ما كنت أقول لهم. لذلك في الصباح راقبت شيخا حاجا رأيته بالأمس يلتحق بمكانه لينام في الحمام نفسه الذي كنا فيه، وعندما رأيته

يخرج بأمتعته سارعت نحوه وعرضت عليه أن أحمل عنه أثقاله من دون أي مقابل. طلبت منه فقط أن يمدني بحبل من فوق المركب حتى يمكنني أن أتسلق به لكنه لم يقبل بذلك فتوسلت إليه حتى قبل. فأنا أعرف جيدا المراكب ومخابئها وأعرف جميع المخابئ لأختفي في أحد المخازن ولولا الجوع والعطش اللذان دفعاني للخروج من مخبئي لما اكتشفوا أمري حتى وصولي إلى جدة. ختم الإمام حديث الولد قائلا: - على كل حال فأنت لست بالتعس بل بالعكس، ثم استدار إلى الجماعة مخاطبا إياهم لقد حان وقت صلاة العشاء فالجو أصبح أكثر برودة. حينها قام إبراهيم وهو يستعد للوضوء وقال مؤكدا، وهو يداعب بلطف شعر هادي: - إن الفتى محتاج إلى الراحة بعد كل ما لاقاه في حياته من آلام وبعد الليلة التي أمضاها في قاع السفينة.

أردف الإمام مؤكدا ما قاله إبراهيم: - كان رسول الله (ص) يسرع في صلاته حتى يخففها على الأم التي يبكي صغيرها، فنحن أيضا سنجعل في صلاتنا هذا المساء حتى يرتاح هادي. أثرت هذه اللفتة الطيبة في هادي، ومع ذلك كان يريد أن يطول وقت الصلاة ليستمتع بأجوائها الساحرة حتى إنه لم ينس أن يذكر إبراهيم الذي كان يعد له فراشه قائلا: - لا تنس أن توقظني لصلاة الصبح. أغمض هادي عينيه حاملا معه في نومه ذكريات هذا اليوم الذي لا ينسى. رد عليه إبراهيم بوجه مبتسم: - نم ولا تقلق نفسك سأوقظك للصلاة معنا. عبر المركب الليل على بحر هادئ وهو يؤرجح في لطف الحجيج النائمين. وعندما استيقظ الحجاج مع بزوغ الفجر لم يبق في نفوسهم وحشة الابتعاد عن الأرض، فقد ألفوا المركب والبحر المحيط بهم، بدأت الحركة تدب شيئا فشيئا على المركب، فيسمع همس صلواتهم وحثيث خطواتهم في غدوهم ورواحهم

حتى إن كثيرا منهم قد صعد إلى السطح بحثا عن نسيم الصباح في انتظار ساعة الإفطار. بعد مضي الليلة الهادئة اتسم الحجاج بمزاج عال إذ كانوا يتبادلون الابتسامات وكلهم فضول لمعرفة بعضهم أخبار بعض والسؤال عن أشغالهم وعن بلدانهم. نشأت بين الحجاج روح الجماعة التي زادتهم ترابطا أعلنوه في عبارة (الحجاج المغاربة)، كان إبراهيم موجودا على السطح رفقة هادي ومجموعتهما. يحب المسلم الاستغراق في تأمل السماء كحب الباسكي للمحيط: كلاهما يرنو للهروب إلى اللانهاية. لم يكن النهار قد طلع بعد كان هادي منشغلا بحملة تفتيش في المركب، أما إبراهيم فكان لسانه يردد الذكر الصباحي مستعملا السبحة وبصره يجول بين آخر نجوم الليل المتبقية. داعبت نسمة خفيفة وجهه أعطته إحساسا بلذة رقيقة. استدار إبراهيم جهة الإمام كي يشركه في إحساسه قائلا: - أتدري وكأنه نسيم الصبا ... كان أبي -رحمة الله عليه - يقول لي بأنه ريح من الجنة عندما يطل على الأرض يوم سعيد.

رد عليه الإمام: - كل أيام الحج سعيدة، يا حاج إبراهيم، ثم أضاف قائلا: - تمهل! استمع إلى هذا الصوت الذي يرتل القرآن ... ألقى إبراهيم السمع وعقب قائلا: - إنه بحق صوت سماوي. واصل الرجلان الاستماع حين التحق بهما حجاج آخرون وقد اتكئوا على المترسة. بدا الصوت وكأنه يخرج من أحد نوافذ السفينة الموجودة أسفل السطح مكان استماع الحجاج، كان الصوت يرتل آيات من سورة نوح حين رفض بعض قومه جراء كبريائهم الانصياع لندائه، الذي لم يجد حتى صدى ليهديهم إلى طريق الله. كان الصوت يرتل الآيات بنبرات مختلفة، فكانت ترتفع مرة متضرعة كأنين نوح ومرة مهتزة لعصيان الكفار الرافضين الاستماع إليه، وأخرى بطيئة، خفيضة وعميقة عند صدور القرار الإلهي المحتوم ضد الضالين والمفسدين. كان الموت يشرح الموضوع وتتخلله مقاطع صمت

أشد قوة من تسلسل الصوت، وعند معاودة التلاوة كان الصوت وباستمرار يأخذ بلب الحجاج. كانوا منبهرين، كانوا يستمعون وأفئدتهم معلقة مع كل مقطع وكلمة يترقبون فترات توقف تخلصهم من الضغط الذي يعصرهم ويدفع بهم في هوة الصمت ثم تراهم يترصدون الصوت الذي يأخذهم من جديد لكن هذه المرة إلى الحل الختامي ... عندما أطلق الصوت آخر تضرع لنوح إذ سكت بقي الحجاج في انبهارهم يعتريهم شعور بأن عقابا سينزل من السماء كي يضرب شرار الناس. لكن أخذوا أنفاسهم واسترجعوا وعيهم وتهامسوا كلهم بصوت واحد: - صدق الله العظيم. كان هادي قد عاد قبل هذا بزمن غير أنه مكث بعيدا عن قصد احتراما لمشاعر الحجاج المشدودة باهتمام نحو الصوت، أحس أن عليه أن يقدم تفسيرا لما حصل فقال: إن الصوت الذي سمعتموه هو لشيخ من تونس أخبرني بذلك آخرون عندما كنت في الأسفل مارا بمقصورته وهو يغني.

- لم يكن يغني يا بني بل كان يرتل القرآن. بدا الفتى وكأنه يريد أن يطرح سؤالا غير أنه اكتفى بالقول: - كان رائعا وكأنه يغني أغنية مصرية. كان إبراهيم يفكر دائما في ذلك الرجل التونسي لكي يزوده بالمعلومات عن شروط الهجرة إلى المدينة فنهض من مكانه وانطلق بحثا عن الأخبار التقى اثنين من التونسيين أو ثلاثة فسألهم غير أن إجاباتهم لم تشف غليله. لكنه لم ييأس من العثور على أحدهم ليفهمه بطريقة أكثر دقة. انتشرت قصة هادي بين مجموعات الحجيج، وكان إبراهيم سعيدا بتزويد كل من أراد بمعلومات أكثر حول الفتى ومغامرته كمن يريد أن يوفيه حقه جزاء لآلامه الماضية. أما هادي الذي لم يكن معتادا على اهتمام الناس به، فلقد كان سعيدا بهذه الشهره المفاجئة. لكن عندما دق جرس موعد القهوه مذكرا إياه بوجوب الالتحاق بالمطبخ، أحس بالحزن لفراقه الدور البطولي، غير أنه استرجع شعوره بالسعادة لأن صغر سنه كحاج وفقره أكسباه رأفة كل من في المطبخ، حتى إن رئيسه وقف في صفه حين

أوقع بعض الأطباق وتكسرت. خجل هادي لسوء تصرفه، وازداد خجله عندما استهزأ به مساعد الطباخ ووصفه بالأخرق وهو يتباهى أمامه ويعلمه كيف تغسل الأطباق فقاطعه رئيس المطبخ قائلا: - آه! تتكلم وكأنك لم تكسر صحونا بحياتك يا يونغ، الذي ارتبك بدوره جزاء للألم الذي سببه لهادي. هكذا استمر اليوم بأحداثه اليومية على ظهر المركب وانتهى كما بالأمس بصلاة العشاء وهذا بعد أن ألقى الإمام على مجموعته بطلب من إبراهيم درسا دينيا يخص الفروض والنصائح والممنوعات التي تمس مناسك الحاج. كان هادي مدفوعا بفضوله، يطرح عديدا من الأسئلة التي كانت تضحك رفقاءه لسذاجتها في حين كان إبراهيم يدافع عن الولد مذكرا الجميع بالقول المأثور: - اسأل عن دينك حتى ولو قيل عنك إنك مجنون. بعد مرور يومين تحت سماء صافية لا غيم فيها وبحر هادئ، كان الحجاج يلهجون بحمد ربهم الذي من عليهم برحلة طيبة كان أغلبهم قادمين من المناطق

الداخلية هما يفسر قلة معرفتهم أو جهلهم لها. استغربوا كعادة كل مسلم من شمال إفريقية والذي من طبعه دقة الملاحظة والاستنباط - من عدم ظهور اليابسة لأنهم وعلى مدى ثلاثة أيام لم يمتد بصرهم إلى غير البحر المحيط بهم من كل جانب، فخرجوا بنتيجة أن مساحة البحر أكبر من مساحة اليابسة. استغرب هادي لهذا الاستنتاج فعلق مخاطبا إبراهيم الذي غدا معلمه أكثر فأكثر، قائلا: - خلق الله الناس كي يعيشوا على الأرض وليس في الماء. رد عليه معلمه مفسرا: - نعم لكن عدد الأسماك يفوق بكثير عدد البشر لهذا يجب أن تكون اليابسة أقل مساحة من الماء. كان وقت الصلاة بالنسبة إلى هادي هو أفضل الأوقات، كان ينتظره بشغف كالتلميذ الذي يتطلع إلى وقت الاستراحة. كان فرحا لحضور الصلاة، كان قد توضأ قبلها في المطبخ وهو يعطي انطباعا بأنه شخص يعرف ماذا

يفعل، كان يحس بفرحة مميزة كمن وجد مدخلا لسعادة عارمة حتى ظن أن مصدرها الجنة. مع نهاية اليوم الثالث انطلاقا من تونس، أعلن البحارة للحجاج الموجودين على السطح أو في الممرات: - خلال هذا النهار سنصل إلى قناة السويس. بدأ الحجاج الذين كانت لديهم معلومات أكثر عن الموضوع يشرحون للآخرين. في الماضي، كان الحجاج المغاربة يسافرون إما برا وإما بحرا. بحرا كانوا يمرون ببونة وتونس وعند وصولهم إلى بور سعيد، كانوا يأخذون القافلة حتى قناة السويس ثم يستقلون (الشوقدوف) في البحر الأحمر باتجاه جدة، أبدى بعض الحجاج رأيهم معلقين على قصة القناة. أصبح الأمر في وقتنا الحاضر أكثر يسرا لأن الحجاج يركبون المركب نفسه من الجزائر إلى جدة مباشرة. غير أن بعض الحجاج كان لديهم رأي آخر، إذ يرون أن قناة السويس كانت حجر عثرة أمام استقلال مصر وحتى فلسطين كان هادي قد تابع مقطعا من هذا الحديث بعد مجيئه لصلاة المغرب، إذ شد انتباهه لفظ (شوقدوف) الذي احتار لغرابة نبرته. أراد

شيخ مسن ينتمي إلى مجموعة إبراهيم أن يشرح الأمر للولد إكراما له فقال: - أمي رحمة الله عليها، كانت قد أدت حجها زمن كان الحجاج يستقلون (الشوقدوف). كان عبارة عن قارب يتحرك على سطح الماء بفضل أشرعته التي تدفعها الرياح. رد عليه هادي وهو يضحك: - وماذا يحدث إن لم يكن هناك رياح؟. رد الحاج عليه مضيفا: - إن الله يرسل دائما رياحا للحجاج الذين يقصدون مكة. لم يشأ هادي أن يصر بعد هذه الملاحظة القاطعة. في اليوم التالي وبعد صلاة الظهر تم الإعلان عن ظهور اليابسة وحصل غليان كبير فوق المركب. صعد أغلبية الحجاج على السطح وعيونهم متجهة اتجاه مسار المركب، كانوا يحدقون باتجاه خط الأفق الذي اندمجت ألوانه بين زرقة الماء وزرقة السماء، بدأ خط الأس بالاتساع؛ كلما تقدم المركب بدأت أشكال تظهر شيئا فشيئا قاطعة بردائها الباهت امتداد الماء ومع

إحساس الحجاج بأن الأرض خلف هذا الستار، تعالت أصواتهم بالهتاف التقليدي: -لبيك اللهم لبيك!. صدر هذا الهتاف من أعماقهم وكأنه في الوقت نفسه نشيد طاعة وعرفان. تعني رؤية الأراضي المصرية للحجاج المغاربة أنهم على وشك بلوغ هدفهم. والآن يعبرون عن فرحتهم التي ملأت نشيد صوتهم المنخفض، وبدوره فإن صوته الطفولي الخافت يصاحب بنبرته الحادة الإنشاد الجماعي للرجال الذي كان أشد انخفاضا حتى مجيء وقت صلاة العصر الذي صرفهم عن هتافهم. عندما عاد الحجاج إلى السطح لمشاهدته اقترابهم من البر، شغل أمر آخر اهتمامهم. لقد تراءت لأعينهم مدينة مصرية. كان هذا الاسم محملا بالذكريات لكل من على المركب. ذكرى الأزهر، مركز الثقافة والحداثة الإسلامية، الموسيقا الساحرة المعروفة في مدن أهل المركب لأن الأسطوانات المصرية قد غزت الجماهير المغربية واللهجة الشعبية المميزة للقاهريين. كل هذا أضفى صدى متنوعا بين الحجاج والمدينة التي كانت تبرز الآن فيها المراسي والأحياء.

كان هادي وإبراهيم صامتين احتراما للسكون العام الذي كان يلف المكان، قلل المركب من سرعته في حين خرج زورق لملاقاته، كان الحجاج يراقبون القارب الصغير وهو يقترب من مركبهم، وكانت غالبيتهم غير معتادة على هذه الأمور فقد أبدوا اهتماما لما يجري. كان الحجاج متكئين على المترسة يقصون كل ما يرونه من أمور القارب على من خلفهم: - عجبا!؛ لقد رموا من على المركب سلما مصنوعا من الحبال نحو (الفلوكة). - أجل!، هناك رجل معتمرا طربوشا يتسلق السلم. عقب من كان لديهم علم بما يجري بقولهم: - أجل إنه الربان الذي سوف يدخل مركبنا إلى الميناء. تساءل آخرون: - الربان؟ - أجل؛ يوجد دائما ربان في كل الموانئ وظيفته إدخال المراكب إلى الموانئ. أضاف المخبرون.

كان هادي يتأمل الرجل ذا الطربوش وهو يصعد على المركب فاعترف قائلا: - لم أر في حياتي ربانا كهذا في بونة. ابتسم الحاج لبراءة الولد وخاطبه: - أكيد لم يكن بإمكانك رؤيته بما أنك لم تدخل أبدا ميناء بونة، بالإضافة إلى هذا فالربان هناك لا يلبس الطربوش. في هذه الأثناء توقف المركب على بعد أمتار من المرسى مغيرا بذلك موضوع الأحاديث التي كانت تدور بين الحجاج. كانوا على مصب القناة الممتدة كالشريط نحو الجنوب تساءل بعض الحجيج: - لماذا توقفنا هنا؟ أوليس لدينا الحق أن نرسو في بور سعيد؟. انطلق زورق من المرسى بأقصى سرعة وعلى ظهره رجال بطرابيش يرتدون بزات بيضا، ليقترب من المركب. كان الحجاج يتوقعون مفاجأة جديدة، في هذه اللحظة أقبل أحد ضباط المركب واتجه إلى المكان الذي مازال يتدلى منه السلم الذي تسلمه الربان، كان هناك بعض البحارة مختلطين مع الحجاج الذين أمطروهم بوابل من الأسئلة بالعربية ولغة (صبير)

التي هي مزيج من العربية والفرنسية والإسبانية، أو الفرنسية قصد الحصول على تفسير لما يحدث. جاء ضابط المركب كي يستقبل رجال مصلحة مراقبة القناة وموظفيها، وموظفي المصلحة الصحية والشرطة، استولت هذه اللحظات على فضول الحجاج وعلى أحاديثهم إذ أخذوا يتفحصون الوفود الجديدة التي كان الضابط يستقبلها فوق مركبه. كان انطباعهم أن المصريين يتكلمون الفرنسية بطلاقة ورددوا فيما بينهم وكلهم دهشة: - صحيح أن مصر هي بلد العلوم، فنحن أهل المغرب ليست لدينا التسهيلات نفسها كي نأخذ حظنا من التعلم. وازداد أسفهم إذ إنهم لا يستطيعون النزول إلى مدينة بور سعيد والتجول فيها ورؤية أهلها عن قرب والصلاة على الأقل في المسجد الذي لاحت منارته التركية لأنظارهم. انزعج بعض محبي مصر بقولهم: - في الماضي كان بإمكانهم- أي الحجاج-اجتياز كل البلاد أو الاستقرار فيها إن أرادوا ذلك، أما الآن فليس لدينا حق زيارة مدينة ولو عند التوقف!.

تنهد الإمام وهو يخاطب إبراهيم: - جاء الإسلام غريبا وسيعود غريبا، مذكرا بالمناسبة بحديث معروف. ثم أضاف بعد أن تنبه للوقت: - يا إخواني أظن أن وقت صلاة العصر قد أزف، فالشمس في دورانها كانت بين منتصف النهار والغروب. كانت الصلاة قد غيرت مجري الأفكار ومواضيع الأحاديث حتى إن الهدف من الرحلة بدأ يشغل عقول الحجاج الذين تبدأ رحلتهم المقدسة من هذا المكان. كانت رواية عريقة قد غيرت اسم بور سعيد إلى البر السعيد، وكما حصل للأجيال السابقة من الحجيج، فكثير منهم الآن، مثل إبراهيم كانوا يشعرون بانفعال لوجودهم أخيرا على (الأرض السعيدة). هذه الكلمات أضفت بعدا سحريا وروحانيا في نفس كل حاج، هذه الأرض كانت بالنسبة إليهم الجسر الذي يربط ماضي أرواحهم البعيد بمستقبلها الأكثر بعدا هناك إما في الجنة وإما في النار. بعد الإجراءات الاعتيادية أخذ المركب وجهته نحو البحر الأحمر، كان الحجاج يبدون أقل اهتماما

بما يجري على الأرض حتى إنهم لم يروا عن ميمنة المركب وميسرته أنوار المساء التي كانت تضيء شاطئ القناة. وفي صباح اليوم التالي؛ عندما كان المركب عند مخرج القناة تراءى لناظر الحجيج ذاك المشهد الضارب في القدم الذي يحيط بخليج السويس على اتساعه ومذكرا إياهم بالبطولات الدينية. كانوا يشيرون إلى شكل بعيد باتجاه الجنوب الشرقي بدا وكأنه جبل؛ إنه جبل الطور أو جبل سيناء حيث تلقى سيدنا موسى ألواح الشرع. فأضافوا قائلين: - يوجد هناك في أسفل الجبل، الوادي المقدس جث رأى موسى النار. استمرت التعليقات وهم يشيرون إلى مكان في الخليج: - هناك ربما حفرة فرعون؟. كان هاديء الذي أنهى عمله بالمطبخ إذ تركه رئيسه يخرج لأنه رأى أن الحاج الصغير في حاجة إلى أن يأخذ قسطه من المتعة، سأل إبراهم قائلا: - لماذا لا يقترب المركب أكثر من حفرة

فرعون لنرى إن كان فرعون لا يزال هناك؟ كان إبراهيم الذي طرح السؤال نفسه منذ زمن على شيخ حاج كان عند والده، تذكر الإجابة التي ما زالت محفورة في ذاكرته حتى الآن!. - لا يمكن للمركب أن يقترب أكثر من هذا مخافة أن تسحبه تلك الحفرة الدوامة. كان هادي يستمع إلى إبراهيم وقد ارتسم الانبهار على وجهه لفكرة أن هذه الحفرة المشؤومة لا يفلت منها أحد. كان المركب يشق مياها مائلة إلى الخضرة تنسي الحاج اسم البحر الأحمر ولا تبقي له سوى المنظر الموحش وغير الواضح لضفاف ممتدة في الآفاق البعيدة. كانت تظهر من وقت لآخر على سطح البحر، أمواج وفي أعلاها أضواء وكأن تدفقا مضيئا سرى فجأة على السطح السائل أعجبت تلك الأضواء هادي خاصة في المساء عندما تكون أكثر وضوحا للرؤية. شرحوا لهادي الأمر بتشبيه تلك الأضواء بأعواد الثقاب عندما تقدح، مع أن الإجابة أعجبت الولد إلا أنه في قرارة نفسه كان لديه إحساس مبهم بأن هناك معجزة مضيئة وضعتها الإرادة الإلهية على الطريق المؤدية إلى الأراضي المقدسة .... لكن فكره

عاد به إلى تلك الأضواء، فسأل إبراهيم وهو على أهبة النوم: - لماذا يوجد في هذا البحر أعواد ثقاب؟. فكر المعلم لحظة ثم أجاب الفتى المسترسل في نومه: - خلق الله كل شيء الماء وأعواد الثقاب. في اليوم التالي، كان الحجاج يستعدون لحدث متوقع. تحرر هادي نهائيا من الخدمة في المطبخ فلقد كان يمضي وقته في اكتشاف أماكن المركب وزواياه وهو يلاحظ أينما ذهب أن الركاب كلهم يتأهبون بالتحضيرات نفسها؛ فمجموعة من الحجيج كانت تأخذ حماما وأخرى تغتسل. وجميعهم كانوا بين من يقص شعره ويشذب لحيته ويقلم أظافره. أحس الولد أن هناك أمرا غريبا يحدث بسبب هذا الاستعداد غير المألوف فسأل الطفل أول حاج صادفه طامعا في الحصول على إجابة. كان شيخا حليق الرأس تماما، مرتديا قطعة قماش بيضاء معقودة عند حزامه وأخرى موضوعة فوق أحد كتفيه، كان يبدو أنه خرج للتو من غرفة الحمام الساخنة. نظر إليه الشيخ باستغراب ثم أخذ نفسه الذي قطعه ربو مزمن قائلا:

- يا ولدي كان ينيغي على والديك بما أنك أنت أيضا حاج أن يزوداك بالمعلومات الكافية. أخذ مرة أخرى نفسه بحشرجة وأضاف: - كما ترى فأنا الآن محرم ... كان هادي قد سمع هذه الكلمة من قبل فقاطع الشيخ قائلا: - آه!. أجل الإحرام. قال لنا إمامنا إنهم سيعلنون عن وقته بإطلاق صفارة الإنذار في رابغ. رد الشيخ قائلا وكأنه استاء من إجابة الولد: - قد أكون استعددت باكرا لكني لست في حاجة إلى سماع صفارة الشيطان. حينئذ ترك هادي الشيخ المتذمر وهو يفكر بالالتحاق بمجموعته على السطح لاستكمال معلوماته. وجد هادي إبراهيم وقد تحول إلى حلاق، كان يحلق رأس أحد أفراد مجموعته، كان الإمام ينظر في مرآة صغيرة ويشذب شاربه والآخرون يقلمون أظافر أيديهم وأرجلهم.

لما رأى حلاق المناسبة الولد قادما ناداه بلطف: -آه! هلا أتيت إلي لأجعل رأسك يشبه البصلة؟. فهم هادي المقارنة بين رأس حليق ورأسه الذي اعتاد عليه فرد بإجابة جمعت بين الهزل والجدية: - أنا أفضل أن تقصر شعري. كان الإمام قد انتهى من شاربه فتدخل قائلا: - لقد انتهيت، فتعال كي أخفف من شعرك. كان يتأمل خصلات شعر الولد التي كانت تغطي عينيه: - وكأنك لم تذهب عند حلاق قط. أضاف وهو يطقطق بمقصه وكأنه يهدد شعر هادي الذي كان يبتسم وهو يقدم رأسه إلى الحلاق وهو يجلس على الصندوق الكبير الذي كان قد استعمله ستارا أول مرة عند استنجائه. بدأت خصل الشعر تتساقط، واصل الإمام طقطقة مقصه وهو ينظر إلى الأخاديد التي خلفها في رأس الفتى غير أنه بدا محرجا من النتيجة وهو يرى رأسه قد أصبح أكثر شبها

بجلد عنزة لم تجز أشعارها بشكل جيد. غير أن دوي الصفارة الذي جاء في الوقت المناسب أنقذ كرامة الإمام الحلاق وما تبقى من شعر هادي الذي قفز واقفا وهو يصفق بيديه ويصيح بكل فرح: - عمي إبراهيم هذا صوت صفارة رابغ!. توقف الحجاج الذين يقلمون أظافرهم ويشذبون لحاهم وانضموا إلى صياح الولد: - رابغ .. رابغ ... كانوا كلهم ينطقون بهذا الاسم الذي أشعل فتيل الهيجان على المركب. وبطريقة لا شعورية توجه الإمام إلى رفاقه آمرا إياهم: - ماذا تنتظرون؟ يجب أن نذهب إلى الحمام لكي نرتدي لباس الإحرام، فنحن داخلون إلى الأراضي المقدسة. تقدم ليعطي المثل واتجه إلى المكان المخصص للاغتسال الشعائري للحاج. مكث هادي في مكانه مترددا وهو يتابع الحجاج بعينيه وهم يتتبعون خطا الإمام.

- وأنا، هل علي أن أفعل مثلكم؟. ليس لدي ملابس الإحرام. هنا شد استفهام الولد أنظار المجموعة الصغيرة التي فاجأها الأمر، أجابه إبراهيم: - بالطبع، يجب عليك أن تفعل الشيء نفسه!. أنت أيضا حاج، حتى إنك قاسيت الأمرين من أجل ذلك. أما فيما يخص لباس الإحرام فعندي كفاية لأقتطع لك منه جزءا يكفي قامتك الصغيرة، تعال! .. عقب الإمام مقترحا: أنا أيضا أستطيع أن أقتطع من قماشي جزءا لتغطي به كتفي الطفل، ثم أضاف قائلا: - سأترك لك القسم الأكبر من الفضل يا إبراهيم. رد عليه إبراهيم بنبرة مازحة: - أنا ممتن لك كثيرا لأني في الحقيقة محتاج الى رحمات ربي أكثر من احتياج هادي إلى قطعة قماشي. تبع الولد مجموعة الحجاج وهو لا يدري إن كان ينبغي عليه قول شيء

للمناسبة خشية من كشف مشاعر العرفان بالجميل والصداقة التي كان يحسها نحو رفقائه. كان يبحث عن موضوع مضحك، فواتته الفرصة عندما التقى بشيخ حاج صاعدا سلما باتجاه سطح المركب وهو محرم، فخاطب بوقاحة إبراهيم الذي كان يمشى أمامه قائلا: - لو تنفك عقدة حزام هذا الشيخ فهل سنراه عاريا؟. رد عليه إبراهيم: - لقد خلقنا كلنا عراة وسنمثل عراة يوم الحشر. بقي هادي مذهولا للحظة في حين كان إبراهيم، الذي كانت بين يديه قطعة القماش التي اشتراها من بونة يناديه: - يا هادي، تعال يا بني، حتى أقيس عليك ما يكفيك من القماش. عندما رجع مركب الحجاج إلى بونة، جاء حاج من طرف إبراهيم يطرق باب العم محمد.

سر هذا الأخير لما سمعه من أخبار عن الفحام وكذلك شرف استقبال حاج عائد لتوه من مكة. فدعاه العم محمد للغداء في بيته. كانت العمة فاطمة قد انهمكت في تحضير غداء مشرف غير أنها كانت تترك المطبخ من حين لآخر مرة حاملة ملعقة، وأخرى سكين مطبخ أو ممسحة يد لتغمر ضيفها المرقر بأسئلة عن الناس وعن أمور تلك البقاع. سلمها الحاج طردا من قبل إبراهيم، وعندما فتحته العمة فاطمة قال الضيف: - توجد سبحة لك وأخرى لزوجك، وهذا الخاتم لزهرة. ثم أضاف وهو يخرج من طيات ثيابه محفظة: - أخبرني الحاج إبراهيم أنك تعرف زهرة. مخاطبا العم محمد وهو يسلمه رسالة من إبراهيم أخرجها من المحفظة. بعد أن مسحت العمة فاطمة يديها ووضعت السكين أرضا، أخذت تقبل المسبحتين وتمررهما على وجهها الذي بللته الدموع. بدأ المم محمد يقرأ رسالة إبراهيم لزوجته بصوت جلي:

(الحمد لله وحده! إلى عمي العزيز محمد التقي، الوقور، الكريم، الشيخ العالم. السلام عليك وعلى أهلك. أنا سعيد بإخباركم أني قد وصلت إلى المدية المنورة منذ أيام بعد أن أديت جميع مناسك الحج كما علمتني عند مغادرتي بونة. أنا أحمد الله أن سهل لي العودة إلى الطريق المستقيم بعد أن سرت طويلا في طريق الزلل والخطايا. لعنة الله على إبليس!. أحس وكأني إنسان جديد وأرى من حولي عالما جديدا أريد العيش فيه إن شاء الله. هناك مغربي يملك حماما سمح لي بأن أضع فرنا في زاوية كي أبيع القهوة لزبائنه. لقد بدأت في هذا العمل منذ يومين وأريد أن أخبرك عن مدى سعادتي خاصة مع حجاج الهند وجاوة الذين لا يرجعون إلى بلدهم إلا بعد عودة حجيجنا. أريد أن أقول لك أيضا إن مهنة الفحام ليست متداولة في هذه الأمصار لأن الجميع

يستعملون إما البنزين وإما الكحول وقودا، هذا أفضل! فقد تركت الفحم مع الخمر في بونة، غير أني أفكر فيكم وفي أصدقاء والدي لقد جعلت لكم حظا من دعائي في مكة كما في المدينة، لن أنساكم كلما زرت قبر الرسول الذي أقصده كل يوم مع طفل صغير من بونة كان قد ركب المركب خفيه وقد قبل أن يصبح بمنزلة ابني، إنه سعيد أيضا إذ ترك علبة مسح الأحذية كما تركت أنا محلي ... لن أنسى أبدا (زهرة) وصبرها الرائع معي في محنتي، أتمنى لها حجة لأنها تستحق ذلك وإذا قبلت أن تلتحق بي في المدينة خلال الحج المقبل فأرجوك تسلم لها بقية ثمن بيع البيت حتى تتمكن من تحمل نفقات السفر. أسأل الله أن يجمعنا بالسعادة في هذه الدنيا أو في الآخرة). المدينة 25 ذو الحجة .... 13 (الحاج إبراهيم الذي يدعو لكم)

OBEDIENCE TO YOU! PILGRIMAGE OF THE POOR Labbayk: Hajj al-Fuqara' Malik bin Nabi TR.: DR. KHOULIF ZIDANE هذه الرواية ترسم عمق الروح الجزائرية وشخصيتها المنتمية إلى تراث الثقافة والحضارة الإسلامية وظهرت الرواية في زمن مبكر من تأمل بن نبي لترسم الطريق والاتجاه بعصر جديد يكتبه الجيل القادم بعد أن تستسلم الحضارة المادية الغربية لمصيرها في مسيرة القرن كما توقع بن نبي في دراساته أنه مسرى حج الفقراء تلبية للنداء الإلهي "لبيك اللهم لبيك" في عفوية روحهم وأصالتها: في شخصية الجزائر التي غلفتها ظلل من ليل الاستعمار المظلم لكنها بقيت تستبطن البواعث في قيم الرسالة مع الظاهرة القرآنية التي كانت - كما يقول بن نبي في شهادته -أول إنجاز علمي وأدبي مقاوم للاستعمار ومؤسس لمفهوم البداية في أفق النهاية.

§1/1