كيف دخل التتر بلاد المسلمين

سليمان بن حمد العودة

مقدمة

مقدمة ... بين يدي البحث إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين. وبعد: فإن دراسة التاريخ لا ينبغي أن تكون ميدانا للسلوة وتزجية الفراغ، ومهما فصل عامل الزمن بين الحدث والحديث فالفرصة قائمة لأخذ الدرس والعبرة. وعلى دارسي التاريخ بشكل عام، والتاريخ الإسلامي على وجه الخصوص أن يتجاوزوا سرد الحدث والإكتفاء بإحصاء القتلى أو الجرحى لهذا الحدث أو ذاك، ويغوصوا في العمق باحثين عن الأسباب ومنتهين إلى نتائج تجعل دارسة الماضي سلّماً للنجاة بإذن الله في الحاضر والمستقبل. إن فقه المرويات، وعبر الحوادث، وتحليل الوقائع هدف كبيرٌ من أهداف دراسة التاريخ وبدونه تصبح الدارسة التاريخية تجميعا لا يسمن ولا يغني من جوع.

وإذ أخذ المتقدمون على عاتقهم رصد الحدث بمروياته المختلفة ورسموا الصورة بشكلها الإجمالي، ولم يسعفهم الوقت أو لم يكن في منهجيتهم تحليل هذه الرواية أو الحكم على تلك؛ فإن على المتأخرين استكمال هذا الجهد وسد هذا النقص، والخروج بنتائج تجعل من الحدث في الماضي عبرة للحاضر، ومؤشرا لاستصلاح المستقبل بإذن الله. ودخول التتر في بلاد المسلمين نموذج لهذه الأحداث التاريخية التي تحتاج إلى جلاء على الرغم مما كتب فيها، وأرجو أن يكون منهجي في هذه الدراسة التحليلية نموذجا لما أصبو إليه وما يتطلع إليه الدارسون في دراسة أحداث التاريخ الإسلامي. ولست بمستغن عن أي ملاحظة تسدد نقصا هو من طبيعة عمل البشر، والشكر أقدمه سلفا لكل من ساهم بملاحظة مفيدة أو لم يبخل علي بدعوة بظهر الغيب صادقة، أصلح الله أحوال المسلمين ووقاهم الشرور والفتن وصلى الله على سيدنا محمد. الباحث

توطئة كانت فاجعة "التتار"، وهمجية "المغول" من أعظم ما بلي به المسلمون. ولعل الذين عاشوا محنتها كانوا يظنون فيها نهاية للإسلام والمسلمين. وعلى الرغم من هذه المحنة وما سبقها من محن أو تلاها فقد بقي الإسلام كالطود الشامخ؛ تحطمت على صخراته الصماء مكائد الماكرين، وظهرت معجزة الإسلام حين عاد بعثه من جديد في الأجيال اللاحقة من أبناء المسلمين، بل لقد دخل في الإسلام طائفة من هؤلاء بعد أن كانوا من الرعاع المتوحشين. لقد أحجم – في البداية – العلماء المعاصرون عن الكتابة عن محنة التتار لهول الفاجعة، فبقي "ابن الأثير" ت 630هـ عدة سنين معرضا عن ذكرها استعظاما لها، وهو القائل: "فيا ليت أمي لم تلدني، وياليتني مت قبل حدوثها وكنت نسيا منسيا"1. ويقول أيضا: "فلو قال قائل إن العالم منذ خلق الله سبحانه وتعالى أدم وإلى الآن لم يبتلوا بمثلها لكان صادقا، فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا ما يدانيها"2.

_ 1 ابن الأثير: الكامل 12/358. 2 الكامل 12/358.

وهي عنده أعظم من فتنة الدجال1، بل لقد اقسم أن من سيجئ بعدها سينكرها وحق له ذلك: "وتالله لا شك أن من يجئ بعدنا إذا بعد العهد ويرى هذه الحادثة مسطورة ينكرها ويستبعدها والحق بيده ... ولم ينل المسلمين أذى وشدة مذ جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا الوقت مثل ما دفعوا إليه الآن"2. هذا الوصف كله من ابن الأثير وهو لم يشهد فاجعتهم الكبرى بسقوط بغداد سنة 656هـ وقتل الخليفة العباسي وسفك دماء المسلمين، وهي فاجعة تضاهي ما سبقها بل تزيد، ويمكن القول إنها فتن يرقق بعضها بعضها – وسيتضح – حين الحديث عنها – حجم مآسيها وضخامة أحداثها. كما أن ابن الأثير لم يشهد كذلك أحداث التتر في نهاية القرن السابع الهجري 699هـ حين عبروا الفرات إلى بلاد الشام وما حولها، وما حصل للمسلمين في هذه الفترة من البلاء والمحن، حتى أذن الله بزوال هذه المحنة وكشف الله عن المسلمين هذه الغمة. وهي فتنة بليت فيها السرائر وانقسم الناس فيها فرقا شتى، وقد أجاد شيخ الإسلام ابن تيمية –وهو شاهد عيان– في وصف الحدث وهوله، وموقف الناس بإزائه فقال: "فينبغي للعقلاء أن يعتبروا بسنة الله وأيامه

_ 1 الكامل 12/359. 2 المصدر نفسه 12/376،375.

في عباده، ودأب الأمم وعاداتهم لا سيما في مثل هذه الحادثة العظيمة التي طبق الخافقين خبرها، واستطار في جميع ديار الإسلام شررها، وأطلع فيها النفاق ناصية رأسه، وكشر فيها الكفر عن أنيابه وأضراسه، وكاد فيها عمود الكتاب أن يُجتث ويخترم، وحبل الإيمان أن ينقطع ويصطلم، وعقر دار المؤمنين أن يحل بها البوار، وأن يزول هذا الدين بإستيلاء الفجرة التتار. وظن المنافقون والذين في قلوبهم مرض أن ما وعدهم الله ورسوله إلا غرورا، وأن لن ينقلب حزب الله ورسوله إلى أهليهم أبدا، وزين ذلك في قلوبهم، وظنوا ظن السوء وكانوا قوما بورا، ونزلت فتنة تركت الحليم فيها حيران، وأنزلت الرجل الصاحي منزلة السكران، وتركت الرجل اللبيب لكثرة الوسواس ليس بالنائم ولا اليقظان، وتناكرت فيها قلوب المعارف والإخوان، حتى بقي للرجل بنفسه شغل عن أن يُغيث اللهفان. ومّيز الله فيها أهل البصائر والإيقان من الذين في قلوبهم مرض أو نفاق وضعف إيمان، ورفع بها أقواما إلى الدرجات العالية، كما خفض بها أقواما إلى المنازل الهاوية، وكفر بها عن آخرين أعمالهم الخاطئة، وحدث من أنواع البلوى ما جعلها قيامة مختصرة من القيامة الكبرى. فإن الناس تفرقوا فيها ما بين شقي وسعيد، كما يتفرقون كذلك في اليوم الموعود، وفر الرجل فيها من أخيه وأمه وأبيه، وإذ كان لك امرئ منهم شأن يغنيه. وكان من الناس من أقصى همته النجاة بنفسه؛

لا يلوى على ماله ولا ولده ولا عرضه، كما أن منهم من فيه قوة على تخليص الأهل والمال، وآخر فيه زيادة معونة لمن هو منه ببال. وآخر منزلته منزلة الشفيع المطاع. وهم درجات عند الله في المنفعة الدفاع. ولم تنفع المنفعة الخالصة من الشكوى إلا الإيمان والعمل الصالح والبر والتقوى. وبليت فيها السرائر. وظهرت الخبايا التي كانت تكنها الضمائر. وتبين أن البهرج من الأقوال والأعمال بخون صاحبه أحوج ما كان إليه من المآل. وذم سادته وكبراءه من أطاعهم فأضلوه السبيلا. كما حمد ربه من صدق ما جاءت به الآثار النبوية من الأخبار بما يكون، وواطأتها قلوب الذين هم في هذه الأمة محدثون، كما تواطأت عليه المبشرات التي أريها المؤمنون. وتبين فيها الطائفة المنصورة الظاهرة على الدين، الذين لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم إلى يوم القيامة؛ حيث تحزبت الناس ثلاثة أحزاب: حزب مجتهد في نصر الدين، وآخر خاذل له، وآخر خارج عن شريعة الإسلام. وانقسم الناس ما بين مأجور ومعذور، وآخر قد غره بالله الغرور. وكان هذا الإمتحان تمييزا من الله وتقسيما؛ {لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاء أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا} [الأحزاب:24] 1.

_ 1 انظر الفتاوى 28/328، 327.

كما كان دقيقا في وصف أحوال المسلمين ومواقفهم حين غزى التتر بلاد الشام فقال: "وهكذا هذا العام1 جاء العدو من ناحيتي علو الشام وهو شمال الفرات وهو قبلي الفرات، فزاغت الأبصار زيغا عظيما وبلغت القلوب الحناجر، لعظم البلاء، لا سيما لما استفاض الخبر بإنصراف العسكر إلى مصر، وتقرب العدو وتوجهه إلى دمشق. وظن الناس بالله الطنونا،؛ هذا يظن أنه لا يقف أمامهم أحد من جند الشام حتى يصطلموا أهل الشام. وهذا يظن أنهم لو وقفوا لكسروهم كسرة وأحاطوا بهم إحاطة الهالة بالقمر. وهذا يظن أن أرض الشام ما بقيت تسكن، ولا بقيت تكون تحت مملكة الإسلام. وهذا يظن أنهم يأخذونها، ثم يذهبون إلى مصر فيستولون عليها فلا يقف أمامهم أحد، فيحدث نفسه بالفرار إلى اليمن، ونحوها. وهذا – إذا أحسن ظنه – قال: إنهم يملكونها العام، كما ملكوها عام هولاكو سنة سبع وخمسين. ثم قد يخرج العسكر من مصر فيستنقذها منهم، كما خرج ذلك العام؛ وهذا ظن خيارهم. وهذا يظن أن من أخبره به أهل الآثار النبوية؛ وأهل التحديث والبشارات أماني كاذبة، وخرافات لاغية. وهذا قد استولى عليه الرعب والفزع، حتى يمر الظن بفؤاده مر السحاب؛ ليس له عقل يتفهم، ولا لسان يتكلم. وهذا قد تعارضت

_ 1 يعني سنة تسع وتسعين وستمائة للهجرة. انظر: الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية 28/410.

عنده الأمارات، وتقابلت عنده الإرادات، لا سيما وهو لا يفرق من المبشرات بين الصادق والكاذب، ولا يميز في التحديث بين المخطئ والصائب، ولا يعرف النصوص الأثرية معرفة العلماء، بل إما أن يكون جاهلا بها وقد سمعها سماع العبر، ثم قد لا يتفطن لوجوه دلالتها الخفية، ولا يهتدي لدفع ما يتخيل أنه معارض لها في بادئ الروية. فلذلك استولت الخيرة على من كان متسما بالإهتداء، وتراجمت به الآراء تراجم الصبيان بالحصباء {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب:11] .1 أما المنافقون فلهم شأن آخر، ولهم موقف لا يختلف كثيرا عن مواقف أسلافهم في غزوة الأحزاب حين ابتلي المؤمنون وبلغت القلوب الحناجر وظنوا بالله الظنونا2. وكانوا شيعا؛ فمنهم من قال: ما بقيت الدولة الإسلامية تقوم فينبغي الدخول في دولة التتر، وقالت بعض الخاصة: ما بقيت أرض الشام تسكن بل ننتقل عنها إما إلى الحجاز واليمن وإما إلى مصر، وقال بعضهم: بل المصلحة الإستسلام لهؤلاء كما قد استسلم لهم أهل العراق والدخول

_ 1 الفتاوى 28/447،446. 2 في صفحات عدة قارن ابن تيمية بين حادثة التتر وموقف الناس منها وغزوة الأحزاب وموقف المؤمنين والمنافقين منها. انظر الفتاوى 28/464 -440.

تحت حكمهم1. هذه الحادثة لهولها وشدتها وكثرة أحداثها وترابطها لا يمكن أن نأتي عليها بجملتها أو نفصل القول في كل حدث من أحداثها – فذلك ميدانه الكتب المختصصة- ولكن البحث سيتجه إلى بيان العوامل الظاهرة أو الخفية في دخول التتر بلاد المسلمين، شاملا في ذلك أصل التتر ومعتقدهم والبواعث الأولى لدخولهم ونماذج للمآسي التي خلفوها في البلاد المسلمة، ومركزا الحديث أكثر في عوامل دخلوهم "بغداد" حاضرة العالم الإسلامي والتي انتهت بقتل الخليفة وإسقاط الخلافة العباسية. ولعل الدارسة تكشف عن أدوار خفية لا تكفي كتب التاريخ المتخصصة وحدها في كشف رموزها وتفصيل مواقف أصحابها، وهذا يعني الإستفادة من كتب السير والتراجم والكتب المعينة بالعقائد والأديان أو الفرق والملل والنحل، فتلك حرية بكشف أدوار أصحاب العقائد ولا سيما الرافضة – موضع التركيز في هذه الدارسة -.

_ 1 انظر الفتاوى 28/451، 450.

أولا: أصل التتر وعقيدتهم

أولا: أصل التتر وعقيدتهم: هذه الأمة "التترية" خرجوا من أراضيهم بادية الصين وراء بلاد تركستان1، وأصولهم تركية، بل هم من أكثر الترك عددا2. وأول ملوكهم "جنكز خان"، وهو سلطانهم الأول، وليس للتتر، ذكر قبله، إنما كانت طوائف المغول بادية بأراضي الصين فقدموه عليهم.. وأول مظهره كان في سنة تسع وتسعين وخمسمائة، هكذا ذكر الذهبي3. أما ابن الأثير فهو وإن لم يذكر التتر إلا في سنة 604هـ، فقد تحدث عن التتر الأولى وملكهم "كشكي خان"، وأن هؤلاء خرجوا من بلادهم حدود الصين قديما ونزلوا بلاد تركستان، وكان بينهم وبين الخطا عداوة وحروب4. وتحدث عن التتر الآخرة وملكهم "جنكز خان" النهرجي، وأنهم خرجوا على التتر الأولى فانشغلوا بهم عن غيرهم5.

_ 1 سير أعلام النبلاء 22/225. 2 الكامل لابن الأثير 12/359. 3 سير أعلام النبلاء 22/243 – وذكر في موضع آخر أن أول ظهور التتر كان سنة 606هـ، السير 22/225 4 انظر: الكامل 12/269، 270، 271، وسيأتي تفصيل شيء من ذلك. 5 المصدر السابق 12/271.

ولم يغفل ذلك الذهبي بل نقل في أحداث سنة 606هـ محاربة ملوكهم للخطا، وأن رأسهم يدعى "كشلوخان" حتى خرج عليه "جنكز خان" فتحاربوا مدة وظفر جنكز خان وانفرد ودانت له قبائل المغول1. فهل ذلك نوع من التضارب في منقولات الذهبي، أم أنه أراد بخروجهم على يد جنكيز خان أنه بداية سماع المسلمين بهم، أو قصد أنه أول ملوك التتر الأقوياء الذين كان لهم أثر في تاريخهم وتنظيم حياتهم، لا سيما وقد ذكر الذهبي أن "جنكيز خان" هو أول من وضع لهم "ياسة" – أي شريعة- يتمسكون بها2. قصد التتر العالم من حولهم ووقعت لهم مصافات وحروب، تفوقوا على غيرهم في الغالب منها، وكانوا يُرهبون عدوهم لشدتهم وشجاعتهم وكثرتهم، وقد جود الموفق البغدادي وصفهم – كما قال الذهبي- حين قال: "حديثهم حديث يأكل الأحاديث، وخبر ينسي التواريخ، ونازلة تطبق الأرض"؛ هذه الأمة لغتها مشوبة بلغة الهند لمجاورتهم، عراض الوجوه، واسعو الصدور، خفاف الأعجاز، صغار الأطراف، إلى أن يقول: وهذه القبيلة الخبيثة تعرف بالتمرجي سكان

_ 1 السير 22/225، 226، 227. 2 السير: 22/228.

براري قاطع الصين ومشتاهم بأرغون1. أما عن عقيدة التتر وعوائدهم فيقول عنها ابن الأثير: "وأما ديانتهم فإنهم يسجدون للشمس عند طلوعها، ولا يحرمون شيئا؛ فإنهم يأكلون جميع الدواب حتى الكلاب والخنازير وغيرها، ولا يعرفون نكاحا بل المرأة يأتيها غير واحد من الرجال، فإذا جاء الولد لا يعرف أباه"2. ويرى ابن تيمية أن التتر خارجون عن الإسلام بمنزلة مانعي الزكاة وبمنزلة الخوارج الذين قاتلهم علي رضي الله عنه3. وهو لا ينفي وجود من ينتسب إلى الإسلام من عسكرهم، ويثبت كذلك أن عندهم من الإسلام بعضه، ويفصل القول في معتقدهم وعوائدهم وقربهم أو بعدهم من الإسلام فيقول: "هؤلاء القوم عسكرهم مشتمل على قوم كفار من النصارى والمشركين وعلى قوم منتسبين إلى الإسلام – وهو جمهور العسكر- ينطقون بالشهادتين إذا طلبت منهم، ويعظمون الرسول، وليس فيهم من يصلي إلا قليل جدا، وصوم رمضان أكثر فيهم من الصلاة، والمسلم عندهم أعظم من

_ 1 سير أعلام النبلاء 22/227. 2 الكامل 12/360. 3 الفتاوى 28/503، 504.

غيره.. وعندهم من الإسلام بعضه، وهم متفاوتون فيه لكن الذي عليه عامتهم والذي يقاتلون عليه متضمن لترك كثير من شرائع الإسلام أو أكثرها؛ فإنهم أولا يوجبون الإسلام ولا يقاتلون من تركه، بل من قاتل على دولة المغول عظموه وتركوه، وإن كان كافرا عدوا لله ورسوله، وكل من خرج على دولتهم استحلوا قتله وإن كان من خيرا المسلمين.. ولا ينهون أحدا من عسكرهم أن يعبد ما شاء من شمس أو قمر أو غير ذلك ... وعامتهم لا يلتزمون أداء الواجبات لا من الصلاة ولا من الزكاة ولا من الحج ولا غير ذلك، ولا يلتزمون الحكم بينهم بحكم الله بل يحكمون بأوضاع لهم توافق الإسلام تارة وتخالفه أخرى ... "1.

_ 1 انظر: الفتاوى 28/504، 505، ولمزيد التفصيل في الموضوع يمكن الرجوع لما كتبه د. سعد الغامدي في كتابه: المغول بيئتهم الطبيعية وحياتهم الإجتماعية والدينية من ص 121 – 158.

ثانيا: البواعث الأولى

ثانيا: البواعث الأولى مدخل ... ثانيا: البواعث الأولى: تستلزم الدراسة مقدمات مهمة تكشف البواعث الاولى لدخول التتر بلاد المسلمين، وتوضح بداية احتكاكهم وطبيعة علاقتهم مع بعض الدول المستقلة عن الخلاقة العباسية – كالدولة الخوارزمية- ومع ملوك الدول الأخرى- كملوك الخطا- وكيف قادت هذه البداية إلى وصول بغداد وإسقاط الخلافة العباسية.

1- بين الخوارزميين وملوك الخطا

1- بين الخوارزميين وملوك الخطا: وتبدأ أحداث الخوارزم شاه مع الخطا منذ أن حاربهم أرسلان ابن أتسز بن محمد بن نوشتكن، وتوفي سنة 568هـ1. ثم تلاه ابنه علاء الدين تكش بن أتسز الذي تملك بخارى وأخذها من صاحب الخطا بعد حروب عظيمة، ثم توفي سنة 596هـ2. كما نقل عنه الذهبي أنه تملك الدنيا من السند والهند وما وراء النهر إلى خراسان، وهو الذي أزال دولة السلاجقة 3. ثم جاء بعده ابنه محمد الذي قصد الخطا سنة أربع وستمائة في جيش عظيم فالتقوا وتمت بينهم مصافات، ثم وقعت الهزيمة على المسلمين وقتل خلق وأسر السلطان محمد وأمير من أمرائه، ولم يخرج من الأسر إلا بحيلة وعاد إلى خوارزم4. وفي سنة 606هـ عبر خوارزم شاه محمد جيحون بجيوشه فالتقاه طاغية الخطا طاينكو فانهزمت الخطا وأسر ملكهم وهزموا

_ 1 سير أعلام النبلاء: 20/323. 2 المصدر السابق: 22/218، 219. 3 المصدر السابق: 21/331. 4 المصدر السابق: 22/ 224.

هزيمة منكرة، وقتل منهم وأسر خلق لا يحصى، وعلى أثرها تملك خوارزم شاه بلاد ما وراء النهر مدينة مدينة ناحية ناحية1. أما ملوك الخطا هؤلاء فهم قوم كفار، وقد طالت أيامهم في بلاد تركستان وما وراء النهر وثقلت وطأتهم على أهلها حتى ضاق المسلمون ذرعا بهم وكتب سلطان سمرقند وبخارى- وكان كما ذكر ابن الأثير: عريق النسب في الإسلام والملك- يقول الخوارزم شاه: إن الله عز وجل قد أوجب عليك بما أعطاك من سعة الملك وكثرة الجنود أن تستنقذ المسلمين وبلادهم من أيدي الكفار، وتخلصهم مما يجري عليهم من التحكم في الأموال والأبشار، ونحن نتفق معك على محاربة الخطا، ونحمل إليك ما نحمله إليهم، ونذكر اسمك في الخطبة والسكة. فأجابه محمد بن خوارزم شاه وعبر إليه نهر جيحون ووقعت المعركة كما سبق2.

_ 1 الكامل لابن الأثير 12/ 267. 2 الكامل 12/259.

2- بين ملوك الخطا والتتر

2- بين ملوك الخطا والتتر: استفاد التتر من كسر الخوارزميين لملوك الخطا وتقووا بكسر خوارزم شاه لهم، ووقعت بينهم حروب، وكان رأس التتر حينها يدعى "كشلوخان" فكتب ملك الخطا إلى خوارزم شاه يخوفه بالخطر

الجديد ويطلب إليه أن يتعاون معه في كسر التتر ويقول: "ما جرى بيننا مغفور؛ فقد أتانا عدو صعب فإن نصر علينا فلا دافع لهم عنك والمصلحة أن تنجدنا". فكتب إليه "خورزم شاه" ما يفيد بموافقته، وأنه قادم لنصرته، وكتب لـ"كشلوخان" التتري رسالة أخرى قال فيها: إنني قادم وأنا معك على الخطا – قال الذهبي: وكان بئس الرأي1 - فالتقى الجمعان ونزل خوارزم شاه بإزائهما يوهم كلا من الفريقين أنه معه وأنه كمين له، فوقعت الكسرة على الخطا، فمال خوارزم شاه حينئذ معينا لكشلوخان، واستمر القتل بالخطا، وانضم منهم خلق إلى خوارزم شاه، وخضع له كشلوخان وقال: نتقاسم مملكة الخطا، فقال خوارزم شاه بل البلاد لي وسار لحربه، ثم تبين له قوة التتار فأخذ يراوغهم، فبعث إليه كشلوخان يقول: ما هذا فعل ملك؛ ذا فعل اللصوص، فإن كنت ملكاً فاعمل مصافاً بيننا فإما أن تهزمني وتملك البلاد التي بيدي، وإما أن أفعل أنا بك ذلك، فلم يجبه خوارزم شاه إلى ما طلب2.

_ 1 انظر: سير أعلام النبلاء 22/225، 226، وقال ابن كثير: ولم يكن ما فعله خوارزم شاه فعلا جيدا. البداية والنهاية 13/80. 2 انظر: الكامل لابن الأثير: 12/270، 271.

3- بين الخوارزميين والتتار

3- بين الخوارزميين والتتار: خرج على ملك التتر الأول "كشلوخان" تتر آخرون بزعامة

"جنكز خان" النهرجي، فانشغل بهم كشلي خان وتحاربوا مدة وظفر "جنكز خان" وطغى وتمرد وأباد البلاد والعباد، وأخذ أقاليم الخطا، ودانت له قبائل المغول بعد أن ظفر جنكز خان بابن كشلوخان ولم يكن له معه كبير أمر1. أما أول مصاف كان بين خوارزم شاه وجنكز خان فقد كان بقيادة ابن جنكز خان دوشي خان سنة 606هـ هكذا ساقها الذهبي ضمن أحداث هذه السنة وإن لم يصرح به، وعلى الرغم من انتصار خوارزم شاه في هذه المعركة إلا أنه عاد مهموما قلقا لما رآه من قوة هذا العدو وكثرتهم وشجاعتهم2. ولذلك خطر ببال خوارزم شاه أن يكتشف التتار بنفسه فدخل فيهم هو وثلاثة معهم متسترين بزي التتر، فقبض عليهم وقتل اثنان منهم وفر خوارزم وآخر معه في الليل، وذلك سنة 615هـ3. أ_ دور الخوارزميين في دخول التتر بلاد المسلمين: قويت شوكة خوارزم شاه وتملك سنة 611هـ كرمان ومكران والسند وخطب له بهرمز وهلوات، وكان يصيف بسمرقند، وإذا قصد بلدا سبق خبره.

_ 1 الكامل 12/271، سير أعلام النبلاء 22/226، 228. 2 سير أعلام النبلاء: 22/228. 3 المصدر السابق نفسه 22/229.

وفي العام الذي يليه توثب خوارزم شاه على "غزنه" فتملكها، وهزم صاحب الروم كيكاوس الفرنج وأخذ منهم "أنطاكية". ثم قصد بغداد واستعد له "الناصر" ولكن الله صرفه عن بغداد1. أما الحادثة المهمة في هذا السياق والتي كانت بداية غزو التتار فهي حين أحس جنكز خان بقوة خوارزم شاه وسعة ملكه، وبعث إليه رسولا يطلب الهدنة معه لإعمار البلاد وإصلاح الإقتصاد ويقول: إنه ما يخفى عليّ عظم سلطانك، وأنت كأعز أولادي، وأنا بيدي ممالك الصين فاعقد بيننا المودة، وتأذن للتجار وتنعمر البلاد، فأجاب خوارزم شاه إلى الصلح – بعد أن عرف من الرسول سعة ملك جنكز خان – فأعجب ذلك جنكز خان ومشى الحال2. لكن هل استمرت الهدنة؟ وكيف نقضت؟ وما أثر هذا النقض في دخول التتر بلاد المسلمين؟ هذه أسئلة مهمة؛ والإجابة عليها تكشف لك البواعث الأولى لمجيء جحافل المغول ودخول التتر بلاد المسلمين. ذكر ابن الأثير – وهو من أقرب المصادر لهذه الفترة 3 – أن

_ 1 سير أعلام النبلاء: 22/229 – 231. 2 المصدر السابق: 22/233. 3 وقد امتدح ابن كثير عرضه لأحداث التتر وحسنه: البداية والنهاية 13/83، 84.

جنكز خان سير جماعة من التجار والأتراك ومعه شيء كثير من النقرة والقندر وغيرهما إلى بلاد ما وراء النهر: سمرقند وبخارى ليشتروا له ثيابا للكسوة، فوصلوا إلى مدينة من بلاد الترك تسمى "أوترار" وهي آخر ولاية خوارزم شاه، وكان له نائب1 هناك فلما ورد عليه هذه الطائفة من التتر أرسل إلى خوارزم شاه يعلمه بوصولهم ويذكر له ما معهم من الأموال، فبعث إليه خوارزم شاه يأمره بقتلهم وأخذ ما معهم من الأموال وإنفاذه إليه، فقتلهم، وسير ما معهم وكان شيئا كثيرا، فلما وصل إلى خوارزم شاه فرّقه على تجار بخارى وسمرقند وأخذ ثمنه منهم، فلما قتل نائب خوارزم شاه أصحاب جنكز خان أرسل جواسيس إلى جنكز خان لينظر ما هو؟ وكم مقدار ما معه من الترك؟ وما يريد أن يعمل؟ فمضى الجواسيس، وسلكوا المفازة والجبال حتى وصلوا إليه، فعادوا بعد مدة طويلة وأخبروه بكثرة عددهم، وأنهم يخرجون عن الإحصاء، وأنهم من أصبر خلق الله على القتال لا يعرفون هزيمة، وأنهم يعملون ما يحتاجون إليه من السلاح بأيديهم2.

_ 1 هو خال خوارزم شاه كما ذكر الذهبي في سير أعلام النبلاء 22/233. 2 الكامل 12/361، 362، وسير أعلام النبلاء 22/233 مع اختلاف عنده في قتل الرسل إذ يذكر أن خال خوارزم ومتولي ما وراء النهر شرهت نفسه إلى أخذ أموال هؤلاء التجار والقبض عليهم وهو يظن أنهم =

ب- ندم خوارزم شاه ومشورته: وعلى الرغم من تجلد خوارزم شاه وفعلته فقد ندم على ما صنع، وأصابه همٌّ وغمٌّ وتحفز استشار لأجله من حوله من العلماء والأمراء. فقد أحضر الشهاب الخيوفي – وهو فقيه فاضل كبير المحل عنده، لا يخالف ما يشير به – فحضر عنده فقال له: قد حدث أمر عظيم ولا بد من الفكر فيه وأخذ رأيك في الذي نفعله؛ وذاك أنه قد تحرك إلينا خصم من ناحية الترك في كثرة لا تحصى، فقال له: في عساكرك كثرة وتكاتب الأطراف، وتجمع العساكر، ويكون النفير عاما، فإنه يجب على المسلمين كافة مساعدتك بالمال والنفس، ثم نذهب بجميع العساكر إلى جانب "سيحون" – وهو نهر كبير يفصل بين بلاد الترك وبلاد الإسلام – فنكون هناك فإذا جاء العدو وقد سار مسافة بعيدة لقيناه ونحن مستريحون وهو وعساكره قد مسهم النصب والتعب. وجمع خوارزم شاه أمراءه ومن عنده من أرباب المشورة فاستشارهم فلم يوافقوه على رأيه، بل قالوا: الرأي أن تتركهم يعبرون "سيحون"

_ = جواسيس للتتار، وأن رسول جنكز خان جاء إلى خوارزم شاه وقال له: إنك أمنت تجارنا والغدر قبيح، فإن قلت فعله خالى فسلمه إلينا وإلا سترى مني ما تعرفني به، فحارث نفس خوارزم شاه وتجلد وأمر بقتل الرسل، فيا بئس ما صنع – كذا قال الذهبي في السير 22/233.

إلينا، ويسلكون هذه الجبال والمضايق، فإنهم جاهلون بطرقهم، ونحن عارفون بها؛ فنقوى حينئذ عليهم ونهلكهم فلا ينجو منهم أحد1.

_ 1 الكامل لإبن الأثير 2/362، 363.

ثالثا: غزو التتر ومآسيهم في بلاد المسلمين

ثالثا: غزو التتر ومآسيهم في بلاد المسلمين مدخل ... ثالثا: غزو التتر ومآسيهم في بلاد المسلمين: وقطعت جهيزة قول كل خطيب، وبينما السلطان الخوارزمي ومن حوله يتشاورون بشأن التتر إذ ورد رسول جنكز خان ومعه جماعة يتهدد خوارزم شاه ويقول: "تقتلون أصحابي وتجاري وتأخذون مالي منهم، استعدوا للحرب فإني واصل إليكم بجمع لا قبل لكم به". فلما سمع خوارزم شاه الرسالة أمر بالرسول فقتل، وأمر بحلق لحى الجماعة الذين كانوا معه، وأعادهم إلى صاحبهم جنكز خان يخبرونه بما فعل بالرسول ويقولون له: إن خوارزم شاه يقول لك: أنا سائر إليك ولو أنك في آخر الدنيا حتى أنتقم وأفعل بك كما فعلت بأصحابك. وبالفعل تجهز خوارزم شاه، وسار بعد الرسول مبادرا ليكسبهم وسار أربعة أشهر حتى وصل إلى بيوتهم فلم يجد فيها إلا النساء والصبيان والأثقال فأوقع بهم وغنم الجميع وسبى النساء والذرية. وكان غيبة التتر الكفار عن بيوتهم أنهم ساروا إلى محاربة ملك من ملوك الترك يقال له كشلوخان، فقاتلوه وهزموه – كما سبق

البيان – فلقيهم في الطريق خبر خوارزم شاه وما صنع بمخلفيهم، فجدوا السير فأدركوه قبل أن يخرج عن بيوتهم فتصافوا واقتتلوا قتالا عظيما لم يسمع بمثله، مدته ثلاثة أيام، وأحصي من قتل من المسلمين في هذه الوقعة فكانوا عشرين ألفا، وأما من الكفار فلا يحصى من قتل منهم، وجرت الدماء غزيرة على الأرض حتى كانت الخيل تزلق فيه من كثرته1.

_ 1 الكامل 12/363، 364.

1- مأساة التتر في بخارى المسلمة

1- مأساة التتر في بخارى المسلمة: عاد المسلمون بعد هذه المنازلة إلى بخارى وطلب إليهم خوارزم شاه التحصن بها وحمايتها ريثما يعد العدة للتتر من خوارزم وخرسان، ولكن هؤلاء التتر عاجلوا المسلمين بالتوجه إلى بخارى وحين وصلوها حاصروها واقتتلوا مع حاميتها قتالا شديدا على مدى ثلاثة أيام فر على أثرها العسكر الخوارزمي إلى خراسان حين أحسوا أنه لا طاقة لهم بهؤلاء التتر. واشتد الأمر على أهل بخارى حين أصبحوا وقد ترك العسكر الخوارزميون مواقعهم فارين إلى خراسان، ولم يكن أمام أهل البلد إلا أن يطلبوا الأمان، فأعطوا الأمان بواسطة أحد القضاة بدر الدين قاضي خان. وعلى إثر ذلك فتحت أبواب المدينة في الرابع من ذي الحجة عام ست عشرة وستمائة، فدخل التتر الكفار

بخارى المسلمة وأظهروا لأهلها العدل حسن السيرة، ثم توجه "جنكز خان" إلى القلعة التي احتمى بها طائفة من العسكر كانوا نحوا من أربعمائة فارس لم يتمكنوا من الهرب مع أصحابهم، وطلب جنكز خان من أهل البلد الخروج معه لمحاصرة هذه القلعة ومن تخلف قتل، فكانت تلك بداية الإستخفاف والإستذلال لأهل بخارى، فخرجوا خوفا من بطشه، وأمرهم بردم الخندق المحيط بالقلعة ففعلوا وبلغ من سوء التتر واستهتارهم أن استخدموا كل شيء في ردم هذا الخندق حتى ألقيت المنابر وريعات القرآن في الخندق. وبعد جهد جهيد وقتال مرير، دخل جنكز خان وأصحابه القلعة وقتلوا من بقي بها من جند المسلمين الذين أصروا على الدفاع عن القلعة بكل ما يملكون وحتى آخر لحظة! وقل توقفت مأساة التتر ببخارى عند هذا الحد؟ كلا، فحين فرغوا من القلعة طلب جنكز خان أن يُكتب له وجوه القوم ورؤساؤهم، فلما عُرضوا عليه أمر بإحضارهم فحضروا، وطلب منهم إحضار "النقرة" التي باعهم إياها خوارزم شاه وقد أخذت من تجار التتر – كما سبق البيان – فأحضر كل من كان عنده شيء منها بين يدي "جنكز خان" ثم أمرهم بالخروج من البلد فخرجوا مجردين من أموالهم ليس مع أحد منهم غير ثيابه التي عليه، ودخل الكفار البلد فنهبوه وقتلوا من وجدوا فيه، وأحاطوا بالمسلمين فاقتسموهم ونسائهم، وكان يوما شديدا على

المسلمين حتى قال ابن الأثير: وكان يوما عظيما من كثرة البكاء من الرجال والنساء والولدان ... وتفرق المسلمون قددا وتمزقوا كل ممزق، وأصبحت بخارى خاوية على عروشها كأن لم تغن بالأمس، وارتكبوا من النساء العظيم والناس ينظرون ولا يقدرون على فعل شيء، ورضي بعض المسلمين بالموت دون ذلك فقاتلوا حتى قتلوا؛ ومن هؤلاء الفقيه الإمام "ركن الدين إمام زاده" وولده، وكذلك فعل القاضي "صدر الدين خان"، ومن استسلم أخذ أسيرا. ولم يرحل التتر عن بخارى حتى ألقوا النار في البلد والمدارس والمساجد وعذبوا الناس بأنواع العذاب في طلب المال - فإنا لله وإنا إليه راجعون1.

_ 1 انظر: الكامل لإبن لأثير 12/365-367.

2- مأساة التتر في سمرقند

2- مأساة التتر في سمرقند: ولم تقف المأساة عند حدود بخارى، بل رحل هؤلاء التتر الرعاع إلى سمرقند يستصحبون معهم من سلم من أهل بخارى أسارى ويسوقونهم مشاة على أقبح صورة وكأنهم قطيع من الغنم، فكل من أعيا وعجز عن المشي قتلوه. فلما قاربوا سمرقند قدموا الخيالة وتركوا الرجالة والأسارى والأثقال وراءهم حتى تقدموا شيئا فشيئا ليكون أرعب لقلوب المسلمين فلما رأى أهل البلد سوادهم استعظموه فلما كان اليوم

الثاني وصل الأسارى والرجالة والأثقال ومع كل عشرة من الأسارى علم، فظن أهل البلد أن الجميع عساكر مقاتلة. وأحاطوا بالبلد وفيه خمسون ألف مقاتل من الخوارزمية، وأما عامة البلد فلا يحصون كثرة فخرج إليهم شجعان أهله وأهل الجلد والقوة رجالة، ولم يخرج معهم من العسكر الخوارزمي أحد لما في قلوبهم من خوف هؤلاء الملاعين، فقاتلهم الرجالة بظاهر البلد فلم يزل التتر يتأخرون وأهل البلد يتبعونهم ويطمعون فيهم، وكان الكفار التتر قد كمنوا لهم كمينا، فلما جاوزوا الكمين خرج عليهم وحال بينهم وبين البلد، ورجع الباقون الذين أنشبوا القتال أولا فبقوا في الوسط وأخذهم السيف من كل جانب فلم يسلم منهم أحد؛ قتلوا عن آخرهم شهداء رضي الله عنهم وكانوا سبعين ألفا على ما نقل ابن الأثير1. فلما رأى الباقون من الجند والعامة – في سمرقند - ذلك ضعفت نفوسهم وأيقنوا بالهلاك فقال الجند – وكانوا أتراكا -: نحن من جنس هؤلاء ولا يقتلوننا، فطلبوا الأمان فأجيبوا إلى ذلك ففتحوا أبواب البلد ولم يقدر العامة على منعهم، وخرجوا إلى الكفار بأهلهم وأموالهم، فقال لهم الكفار: ادفعوا إلينا سلاحكم وأموالكم ودوابكم ونحن نسيركم إلى مأمنكم، ففعلوا ذلك، فلما أخذوا أسلحتهم ودوابهم وضعوا السيف فيهم وقتلوهم عن آخرهم،

_ 1 الكامل 12/367، 368.

وأخذوا أموالهم ودوابهم ونسائهم. ثم نادوا – في اليوم الرابع – في البلد أن يخرج أهله جميعهم ومن تأخر قتلوه فخرج جميع الرجال والنساء والصبيان ففعلوا معهم مثل ما فعلوا مع أهل بخارى من النهب والقتل والسبي والفساد، وأحرقوا الجامع، وافتضوا الأبكار، وعذبوا الناس بأنواع العذاب في طلب المال، وقتلوا من لم يصلح للسبي، وكان ذلك في المحرم سنة سبع عشرة وستمائة للهجرة فلا حول ولا قوة إلا بالله1.

_ 1 الكامل: 12/368.

3- مآسي وأحداث أخر

3- مآسي وأحداث أخر: ولم تكن فاجعة التتار لتنتهي عند حدود هاتين المدينتين من مدن العالم الإسلامي رغم ما فيهما من مآسي وأحزان تكفي الواحدة منهما لتكون ملحمة ترويها الأجيال، ويتعب في سبيل تدوين أحداثها المؤرخون والكتاب، لكن الفاجعة سرت في الأقطار الإسلامية سريان النار في الهشيم، فإثر أحداث سمرقند سيّر "جنكز خان" مجموعة من جنده يقال لهم "المغربة" لأنهم ساروا إلى "غرب خرسان" في طلب "خوارزم شاه" وقال لهم: "اطلبوا خوارزم شاه أين كان ولو تعلق بالسماء حتى تدركوه وتأخذوه". وسار هؤلاء يقطعون الفيافي والقفاز ويحتالون على عبور المياه

والأنهار، وحين اعترضتهم المياه الخمسة في "ينج آب" ولم يجدوا سفينة يعبرون عليها عمدوا إلى عمل أحواض من الخشب وألبسوها جلود البقر لئلا يدخلها الماء، ووضعوا فيها سلاحهم وأمتعتهم وألقوا الخيل في الماء وأمسكوا أذنابها، وتلك الحياض من الخشب مشدودة إليهم، فكان الفرس يجذب الرجل، والرجل يجذب الحوض المملوء من السلاح وغيره، فعبروا كلهم دفعة واحدة، فلم يشعر خوارزم شاه إلا وقد صاروا معه على أرض واحدة1. ومع أن المسلمين قد ملئوا رعبا من هؤلاء إلا أنهم كانوا يتماسكون بسبب أن نهر "جيحون" يحجز بينهم، فلما عبروه إليهم لم يقدروا على الثبات، وواصل التتر مسيرهم وفسادهم؛ يرحلون من بلد إلى آخر وقل أن تسلم بلدة من شرهم، وعاثوا فسادا في نيسابور، وما زندران، والري وهمذان، وأذربيجان، وإربل وغيرها من بلاد المسلمين. وكان للتتر عوائد سيئة وجبارة، وحيل ماكرة وخبيثة؛ فمن عوائدهم أنهم إذا قصدوا مدينة ورأوا مناعتها عدلوا عنها إلى غيرها، ومنها أنهم إذا قاتلوا مدينة قدموا من معهم من أسارى المسلمين بين أيديهم يزحفون ويقاتلون فإن عادوا قتلوهم فكانوا يقاتلون كرها2.

_ 1 الكامل 12/369. 2 الكامل 12/377.

وكانوا يتقون بهؤلاء الأسارى من الرمي وغيره، ومن سلم منهم قتلوه بعد انقضاء الحرب1. وأسوأ من ذلك أنهم يستخدمون الأسارى أداة في استخراج المختفين من بطشهم، فكانوا يقولون للأسرى نادوا في الدروب أن التتر قد رحلوا، فإذا نادى أولئك خرج من اختفى فيؤخذ ويقتل2. وهل أسوأ من هذا وأذل؟ وقد تركت هذه الأحداث المؤلمة أثرها وخلفت حالة من الرعب والهلع عمّ الناس كلهم – إلا من رحم الله -، وأصيبوا بالضعف والمسكنة والمذلة والهوان، ويكفي شاهدا على ذلك ما سطره المؤرخون المعاصرون للحدث وغيرهم؛ فقد نقل ابن الأثير رحمه الله أن رجلا من التتر دخل دربا فيه مائة رجل، فما زال يقتلهم واحدا واحدا حتى أفناهم ولم يمد أحد يده إليه بسوء3. وأن آخر من التتر أخذ رجلا ولم يكن مع التتري ما يقتله به فقال له: ضع رأسك على الأرض ولا تبرح، فوضع رأسه على الأرض حتى جاء التتري بسيف وقتله به4.

_ 1 البداية والنهاية 13/87. 2 المصدر السابق 12/378. 3 الكامل 12/378، 500. 4 المصدر السابق 12/501.

قال ابن الأثير: بلغني أن امرأة من التتر دخلت دارا وقتلت جماعة من أهلها وهم يظنونها رجلا فوضعت السلاح وإذا هي امرأة فقتلها رجل أخذته أسيرا1. وقال: وحكى لي رجل قال: كنت أنا ومعي سبعة عشر رجلا في طريق، فجاءنا فارس من التتر، وقال لنا: حتى يكتف بعضنا بعضا فشرع أصحابي يفعلون ما أمرهم فقلت لهم: هذا واحد فلم لا نقتله ونهرب؟ فقالوا: نخاف، فقلت: هذا يريد قتلكم الساعة فنحن نقتله فلعل الله يخلصنا، فوالله ما جسر أحد أن يفعل فأخذت سكينا وقتلته وهربنا فنجونا. هذه حكاية يرويها ابن الأثير عن شاهد عيان، ثم يعلق عليها بقوله: وأمثال هذا كثير2. وقال أيضا: ووصل الخبر إلينا ونحن بالموصل أن التتر ارتحلوا من مدينة "مراغة" خوفا من السيف3. أما أهل إربل فضاقوا بذلك ذرعا وقالوا هذا يوم عصيب4. وما بالهم لا يخافون، ولم لا يكون الفزع بشكل عام من هذه

_ 1 الكامل 12/378. 2 المصدر السابق نفسه 12/501. 3 المصدر السابق نفسه 12/378. 4 البداية والنهاية 13/86.

الأمة المتوحشة الظالمة، وقد أحصى بعض المؤرخين ما قتلوه في يوم واحد في مدينة واحده وهي "مرو" فبلغ سبعمائة ألف إنسان1!!!

_ 1 البداية والنهاية: 13/87.

رابعا: أحداث بغداد وسقوط الخلافة العباسية

رابعا: أحداث بغداد وسقوط الخلافة العباسية: هذه المآسي الموجعة وهذه الأحداث المزلزلة لم تكن نهاية المطاف لمصائب التتر في بلاد المسلمين؛ فقد أعقبتها الكارثة الكبرى والفتنة العظمى بوصول التتر إلى بغداد وسقوطها في أيديهم وقتل الخليفة العباسي. وانتهاء الخلافة الإسلامية لبني العباس ويحيط الأسى بالقارئ وهو يطالع أحداث هذه السنة، ويكاد الألم يقطع قلب الكاتب وهو يدون أحداث هذه الفترة بآلامها وكوارثها وآثارها ونتائجها. وأسوق نموذجا لوصف الكارثة: قال ابن كثير: "ومالوا على البلد فقتلوا جميع من قدروا عليه من الرجال والنساء والولدان والمشايخ والكهول والشبان، ودخل كثير من الناس في الآبار وأماكن الحشوش، وقني الوسخ، وكمنوا كذلك أياما لا يظهرون. وكان الجماعة من الناس يجتمعون إلى الخانات ويغلقون عليهم الأبواب فتفتحها التتار إما بالكسر وإما بالنار، ثم يدخلون عليهم فيهربون منهم إلى أعالي الأمكنة فيقتلونهم بالأسطحة، حتى

تجري الميازيب من الدماء في الأزقة، فإنا لله وإنا إليه راجعون. وكذلك في المساجد والجوامع والربط، ولم ينج منهم أحد سوى أهل الذمة من اليهود والنصارى ومن التجأ إليهم إلى دار الوزير ابن العلقمي الرافضي، وطائفة من التجار أخذوا لهم أمانا، بذلوا عليه أموالا جزيلة حتى سلموا وسلمت أموالهم. وعادت بغداد بعد ما كانت أنس المدن كلها كأنها خراب ليس فيها إلا القليل من الناس، وهم في خوف وجوع وذلة وقلة. وقد اختلف الناس في كمية من قتل ببغداد من المسلمين في هذه الوقعة؛ فقيل ثمانمائة ألف، وقيل ألف ألف وثمانمائة ألف، وقيل بلغت القتلى ألفي الف نفس، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وكان دخلوهم إلى بغداد في أواخر المحرم، وما زال السيف يقتل أهلها أربعين يوما، وكان قتل الخليفة المستعصم بالله أمير المؤمنين يوم الأربعاء رابع عشر صفر وعفي قبره، وكان عمره يومئذ ستا وأربعين سنة وأربعة أشهر، ومدة خلافته خمس عشرة سنة وثمانية أشهر وأيام، وقتل معه ولده الأكبر أبو العباس أحمد وله خمس وعشرون سنة ثم قتل ولده الأوسط أبو الفضل عبد الرحمن وله ثلاث وعشرون سنة، وأسر ولده الأصغر مبارك، وأسرت أخواته الثلاث فاطمة وخديجة ومريم، وأسر من دار الخلافة من الأبكار ما يقارب ألف بكر فيما قيل - والله أعلم – فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وقتل أستاذ دار الخلافة الشيخ محيي الدين يوسف بن الشيخ أبي الفرج ابن الجوزي، وكان عدو الوزير، وقتل أولاده الثلاثة: عبد الله وعبد الرحمن، وعبد الكريم، وأكابر الدولة واحدا بعد واحد، منهم الديودار الصغير مجاهد الدين أيبك، وشهاب الدين سليمان شاه وجماعة من أمراء السنة وأكابر البلد. وكان الرجل يستدعي به من دار الخلافة من بني العباس فيخرج بأولاده ونسائه فيذهب به إلى مقبرة الخلال، تجاه "المنظرة" فيذبح كما تذبح الشاة، ويؤسر من يختارون من بناته وجواريه. وقتل شيخ الشيوخ مؤدب الخليفة صدر الدين علي بن النيار، وقتل الخطباء والأئمة، وحملة القرآن، وتعطلت المساجد والجماعات والجمعات شهور ببغداد. ولما انقضى الأمر المقدر وانقضت الأربعون يوما بقيت بغداد خاوية على عروشها ليس بها أحد إلا الشاذ من الناس، والقتلى في الطرقات كأنها التلول، وقد سقط عليهم المطر فتغيرت صورهم، وأنتنت من جيفهم البلد، وتغير الهواء، فحصل بسببه الوباء الشديد حتى تعدى وسرى في الهواء إلى بلاد الشام، فمات خلق كثير من تغير الجو وفساد الريح، فاجتمع على الناس الغلاء والوباء والفناء والطعن والطاعون، فإنا لله وإنا إليه راجعون. ولما نودي ببغداد بالأمان خرج من تحت الأرض من كان بالمطامير والقني والمقابر كأنهم الموتى إذا نبشوا من قبورهم، وقد أنكر بعضهم

بعضا، فلا يعرف الوالد ولده ولا الأخ أخاه، وأخذهم الوباء الشديد فتفانوا وتلاحقوا بمن سبقهم من القتلى، واجتمعوا تحت الثرى بأمر الذي يعلم السر وأخفى، الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى"1.

_ 1 انظر: البداية والنهاية 13/192، 193.

خامسا: أسباب المحنة وعوامل الإنتشار

خامسا: أسباب المحنة وعوامل الإنتشار 1- اسباب قدرية كونية ... خامسا: أسباب المحنة وعوامل الإنتشار: يستطيع المتأمل في محنة التتر أن يرصد عددا من الأسباب ساهمت في دخول التتر بلاد المسلمين، وأعانت على سرعة انتشارهم ومن هذه الأسباب: 1- أسباب قدرية كونية: ولا شك أن كل ما يقع في هذا الكون لا يخرج عن تقدير الله وإرادته الكونية القدرية يهيء أسبابه ويقدر أحداثه. ومن هذه الأسباب التي هيأها لهؤلاء التتر أن زمن خروجهم اتفق مع خلو الأرض من عدد من الملوك؛ وذلك أن خوارزم شاه كان قد قتل الملوك من سائر الممالك واستقر في الأمر، وكانت جميع البلاد المتاخمة لبلاد التتر تحت أيدي نوابه، فلما انهزم أمامهم في النهاية وهرب من أرضه وتخلى عن سلطانه خلت البلاد ولم يبق لها من يحميها فساهم ذلك ولا شك في سرعة انتشارهم واستئصال

شأفة المسلمين من حولهم1. والذي يلفت النظر ويؤكد أهمية هذا السبب أنه انتشار مذهل عجب منه المؤرخون، ولم يستطيعوا مقارنته بما فعل "بخت نصّر" ببني إسرائيل على الرغم من كثرة قتله وتخريبه بيت المقدس. ولم يبلغ "الإسكندر المقدوني" مبلغ هؤلاء القم على الرغم من ملكه الدنيا كلها؛ وذلك أنه لم لم يملكها في سنة واحده، إنما ملكها في نحو عشرين سنة، ولم يقتل أحدا بل رضي من الناس بالطاعة، وهؤلاء التتر ملكوا أكثر المعمورة في نحو سنة، وأوسعوا الناس قتلا وإرهابا – كما سلف – ولم يتفق لأحد من أهل البلاد التي لم يطرقوها بقاء إلا وهو خائف يترقب وصولهم. فكيف إذا أضفنا إلى ذلك طبيعة هؤلاء التتر وكثرة عددهم – إذ هم يخرجون عن الإحصاء – وقوة بأسهم، وشده صبرهم على القتال؛ فهم لا يعرفون هزيمة، وعدم حاجتهم إلى غيرهم؛ فهم يعملون ما يحتاجون إليه من السلاح بأيهديم، ولا يحتاجون إلى ميرة ومدد يأتيهم؛ فمعهم الأغنام والبقر والخيل وغير ذلك من الدواب؛ يأكلون لحومها لا غير، وأما دوابهم التي يركبون فإنها تحفر الأرض بحوافرها

_ 1 الكامل 12/361، البداية والنهاية 13/84، 85.

وتأكل عروق النبات؛ لا تعرف الشعير؛ فهم إذا نزلوا منزلا لا يحتاجون إلى شيء من خارج.

2- ضعف همم ملوك الإسلام وانحسار سلطان الخلافة

2- ضعف همم ملوك الإسلام وانحسار سلطان الخلافة: وفي مقابل قوة هؤلاء التتر وشدة بأسهم واجتماع كلمتهم فقد ساهم في سرعة انتشارهم وسيطرتهم على مدن العالم الإسلامي وحواضره ضعف ملوك الإسلام في تلك الفترة بعامة، وانشغالهم عن الجهاد باللهو واللعب. وهذا المؤرخ ابن الأثير – يرحمه الله – ينعي على الإسلام وأهله، ويصف أحوال ملوكه قبيل وفاته بسنتين فيقول معلقا على أحداث سنة 628هـ ما نصه: "فالله تعالى ينصر الإسلام والمسلمين نصرا من عنده، فما نرى في ملوك الإسلام من له رغبة في الجهاد، ولا في نصرة الدين؛ بل كل منهم مقبل على لهوه ولعبه وظلم رعيته، وهذا أخوف عندي من العدو، وقال الله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً ... } 1. وليست أوضاع الخلافة العباسية ولا الخلفاء العباسيين بمعزل عن هذا الوضع المتردي؛ فقد انحسر سلطان الخلافة وانكمشت حدود العباسيين، واستقل غيرهم بالسلطة في حكم أجزاء من العالم الإسلامي، وهو أمر لم يكن سائغا في ظل حكم الدولة الأموية، هذا

_ 1 الكامل 12/497، 361، والآية 25 من سورة الأنفال.

فضلا عن اشتغال الخلفاء العباسيين بالشهوات وجمع الأموال في أكثر الأوقات. هذه الحقائق يجليها لنا ابن كثير عليه رحمة الله في محاولة منه لتلمس أسباب نهاية الدولة العباسية على أيدي التتر فيقول: "ولم تكن أيدي بني العباس حاكمة على جميع البلاد كما كانت بنو أمية قاهرة لجميع البلاد والأقطار والأمصار، فإنه خرج عن بني العباس بلاد المغرب ... وكذلك أخذت من أيديهم بلاد خراسان وما وراء النهر وتداولتها الملوك دولا بعد دول حتى لم يبق مع الخليفة منهم إلا بغداد وبعض بلاد العراق، وذلك لضعف خلافتهم واشتغالهم بالشهوات وجمع الأموال في أكثر الأوقات"1. ويقول "الكتبي" في وصف آخر خلفاء بني العباس وما كان عليه من ضعف الهمة والإشتغال بما لا ينبغي الإشتغال به: "كان المستعصم متدينا متمسكا بمذهب أهل السنة والجماعة على ما كان عليه والده وجده، ولم يكن على ما كانوا عليه من التيقظ والهمة، بل كان قليل المعرفة والتدبير والتيقظ، نازل الهمة محبا للمال، مهملا للأمور يتكل فيها على غيره"2

_ 1 البداية والنهاية 13/195. 2 ابن شاكر الكتبي: فوات الوفيات 1/496 نقلا عن المغول في التاريخ دز الصياد ص252.

ويقول "قطب الدين اليونيني" قريبا من ذلك ويضيف: ".. وإنما قدموه على عمه الخفاجي لما يعلمون من لينه وانقياده وضعف رأيه ليستبدوا بالأمور"1. وإذا صح ما ينسبه إليه "ابن العبري" من ضعف الهمة وزهده بأقطار الخلافة عدا بغداد فهي طامة كبرى؛ إذ ينسب إلى "المستعصم" قوله: "أنا بغداد تكفيني ولا يستكثرونها لي إذا نزلت لهم عن باقي البلاد، ولا أيضا يهجمون عليّ وأنا بها، وهي بيتي دار مقامي"2. وعلى كل حال فيبدو أن ضعف "المستعصم" معروف حتى عند "التتر" ولذا كانوا يسمونه "الأَبْلَه"3. ولا شك أن استخفاف وزيره "ابن العلقمي" به، ومخادعته له وخيانته إياه وتصريف الأمور دونه ساهمت في إيصال الخليفة والخلافة إلى ما صارت إليه4. وفي الوقت الذي كان التتر فيه يحاصرون بغداد ويحيطون بدار الخلافة يرشقونها بالنبال من كل جانب ذكر أن جارية كانت

_ 1 انظر: الذهبي: سير أعلام النبلاء 23/175. 2 ابن العبري: تاريخ مختصر الدول ص255 عن د. الصياد: المغول في التاريخ ص252. 3 سير أعلام النبلاء 23/183. 4 انظر نموذجا لهذه المخادعة والخيانة في سير أعلام النبلاء 23/180، 181.

تلعب بين يدي الخليفة وتضحكه وكانت من جملة حظاياه وتسمى "عرفة" فجاءها سهم من بعض الشبابيك فقتلها وهي ترقص بين يدي الخليفة، فانزعج الخليفة من ذلك وفزع فزعا شديدا، وأحضر السهم الذي أصابها بين يديه فإذا عليه مكتوب: إذا أراد الله إنفاذ قضائه وقدره أذهب من ذوي العقول عقولهم1. وأمر الخليفة عند ذلك بزيادة الإحتراز وكثرت الستائر على دار الخلافة، ولكن الأمر أكبر من ذلك وأعظم. ولم يقف هذا الضعف والهوان عند حدود دول المشرق الإسلامي، أو ينتهي بضعف مركز الخليفة العباسي، وضمور سلطان الخلافة العباسة، بل جاوز ذلك إلى ملوك وسلاطين المسلمين في بلاد الشام ومصر، فقد ذكر ابن كثير – في أحداث سنة 658هـ - أن سلطان دمشق وحلب الملك الناصر بن العزيز، وملك الكرك والشوبك الملك المغيث بن العادل قد عزموا على قتال المصريين وأخذ مصر منهم، ومعهما الأمير ركن الدين بيبرس البندقداري2. وقبل ذلك ذكر "الذهبي" أن عسكر الناصر سار سنة 656هـ

_ 1 البداية والنهاية 13/190. 2 المصدر السابق: 13/207.

وعليهم "المغيث" بن صاحب الكرك، ليأخذوا مصر، فالتقاهم المظفر قطز وهو نائب للمنصور علي ولد المعز بالرمل فكسرهم وأسر جماعة أمراء فضرب أعناقهم1. وقبل ذلك كذلك في سنة 642هـ كان حصار "الخوارزمية" على "دمشق" في خدمة صاحب "مصر" واشتد القحط حتى التقى بهم "الشاميون" ومعهم عسكر من "الفرنج" بين "عسقلان" "وغزة" فانهزم الجمعان وحصدت "الخوارزمية" "الفرنج" واندك صاحب "حمص" ونهبت خزائنه وبكى وقال – معبرا عن سر الهزيمة – "قد علمت بأنا لا نفلح لما سرنا تحت "الصلبان"2. قال ابن الأثير واصفا أحوال المسلمين في هذه الفترة بشكل عام: "فمن سلم من المسلمين من هاتين الطائفتين التترـ والفرنج فالسيف بينهم مسلول والفتنة قائمة على ساق"3. إذا علم ذلك كله أمكن تصور سرعة انتشارهم وضعف المقاومة أمامهم، وملء الرعب في قلوب الناس من حولهم، والله غالب على أمره.

_ 1 سير أعلام النبلاء 23/181. 2 المصدر السابق 23/176. 3 الكامل في التاريخ 12/361.

3- أسباب سياسية وظروف اقتصادية

3- أسباب سياسية وظروف اقتصادية: وخلاصة هذا السبب اجتهاد خاطئ وقع فيه خوارزم شاه في سياسته مع هؤلاء التتر، ولا سيما في حادثة قتل التجار وأخذ ما معهم من الأموال – كما سبق البيان-. وأضيف هنا ما ذكره ابن الأثير كذلك في هذا الصدد، وخلاصته التضييق الإقتصادي على جند التتر ومنعهم الميرة والكسوات وغيرها مما كان يصل إليهم من قبل؛ وذلك أن خوارزم شاه بعد أن ملك ما وراء النهر وخلصها من ملوك "الخطا" سد الطريق عن بلاد تركستان وما بعدها من البلاد، وأن طائفة من التتر كانوا قد خرجوا قديما والبلاد للخطا، فلما ملك خوارزم شاه البلاد منهم وقتلهم، واستولى هؤلاء التتر على تركستان: كإشغار وبلاساغون وغيرها وصاروا يحاربون عساكر خوارزم شاه، فلذلك منع الميرة عنهم من الكسوات وغيرها1. وليس بغريب أن يدعوهم هذا التضييق إلى التحرش بمن ضيق عليهم والإنتقام لأنفسهم، وتأمين أسباب العيش لهم ولجندهم فكان ما كان والله المستعان. وبعد، فيصح القول بأن الظلم مرتعه وخيم، وأن الله يعاقب عليه بخراب البلاد وفناء الأمم الظالمة إن عاجلا أو آجلا، ولا يسلم من ذلك المسلمون.

_ 1 الكامل 12/362.

والعدل به قامت السماوات والأرض، وقد يُمكّن الله لأصحابه وإن كانوا كافرين، وقد نقل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة"1. كما نقل: "الدنيا تدوم مع العدل والكفر، ولا تدوم مع الظلم الإسلام"1. واستشهد بقول النبي صلى الله عليه وسلم "ليس ذنب أسرع عقوبة من البغي وقطيعة الرحم" 2. ثم قال: "فالباغي يصرع في الدنيا وإن كان مغفورا له مرحوما في الآخرة؛ وذلك أن العدل نظام كل شيء فإذا أقيم أمر الدنيا بعدل قامت وإن لم يكن لصاحبها في الآخرة من خلاق، ومتى لم تقم بعدل لم تقم وإن كان لصاحبها من الإيمان ما يجزي به في الآخرة". وليس بمستبعد أن يكون قتل التجار المستأمنين – وإن كانوا غير مسلمين – على أيدي المسلمين سببا في تسلط هؤلاء التتر على المسلمين وخراب بلادهم وسقوط الخلافة العباسية على أيديهم.

_ 1 انظر: الحسبة في الإسلام لشيخ الإسلام ابن تيمية نشر: قصي محب الدين الخطيب ص46. 2 رواه البخاري في الأدب المفرد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، وابن حبان، والحاكم، وأحمد وابن المبارك في الزهد.

4- مواقف الملأ وخيانات أصحاب الملل والنحل والأهواء

4- مواقف الملأ وخيانات أصحاب الملل والنحل والأهواء الخليفة العباسي (الناصر) ... 4- مواقف الملأ وخيانات أصحاب الملل والنحل والأهواء: وتلك قاصمة الظهر، والحدث الذي يحتاج إلى جلاء، والأدوار الخفية التي تحتاج إلى بيان، وهو السؤال المهم في هذا البحث: كيف دخل التتر بلاد المسلمين؟ ولا أدري أيقصد ابن الأثير الإشارة إلى شيء من ذلك أم لا حينما قال: "وقيل في سبب خروجهم إلى بلاد الإسلام غير ذلك مما لا يذكر في بطون الدفاتر" وامتنع عن كشفه وهو يقول: فكان ما كان مما لست أذكره فظن خيرا ولا تسأل عن الخبر1 وأيا كان الأمر فسنتتبع هذا الأمر، ونجيب على هذه التساؤلات من خلال بيان المواقف التالية: أ- الخليفة العباسي الناصر: هو أبو العباس أحمد بن المستضيء بأمر الله، ولي الخلافة سنة خمس وسبعين وخمسمائة للهجرة وله ثلاث وعشرون سنة، وتوفي سنة اثنتين وعشرين وستمائة، ولم يل الخلافة – من بني العباس – أطول مدة منه2 فكانت خلافته سبعا وأربعين سنة3.

_ 1 الكامل 12/362. 2 الذهبي: سير أعلام النبلاء 22/192. 3 الصفدي: الوافي بالوفيات 6/310.

أما عن تشيعه فقد قال ابن واصل: كان الناصر لدين الله يتشيع ويميل إلى مذهب الإمامية، وهو خلاف ما كان عليه آباؤه من القادر إلى المستضيء؛ فإنهم كانوا يذهبون مذهب السلف، وللقادر عقيدة مشهورة في ذلك1. وسئل "ابن الجوزي" و"الناصر" يسمع: "من أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أفضلهم من كانت بنته تحته"2 وبهذه الإجابة الجيدة قطع ابن الجوزي الطريق على السائل الذي كان يريد منه إجابة تخالف رأي الخليفة الناصر، لأن الإجابة تنطبق على أبي بكر، وعلي رضي الله عنهما. ومن المؤشرات على تشيع "الناصر" كذلك أن الشيعة يعتبرونه من أعلام المائة السابعة للشيعة3، ويرون أن "الشيعة" في عهده أخذت بالظهور والإنتشار في بغداد من جديد بعد الإضطهادات التي لاقوها بعد زوال آل بويه!! 4.

_ 1 مفرج الروب 4/166، وعنه الذهبي في سير أعلام النبللاء 22/200، وابن العماد الحنبلي: شذرات الذهب 5/98. 2 مفرج الكروب 4/166، 167. 3 ترجم له صاحب: الأنوار الساطعة في المائة السابعة طبقات أعلام الشيعة أغابزرك الطهراني ص4-6. 4 الأنوار الساطعة ص6.

ويقول "ابن الطقطقي": كان من أفاضل الخلفاء، يفاوض العلماء، وكان يرى رأي الإمامية1. وحين كتب إليه ابن صلاح الدين نور الدين علي – ويقال إنه كان يتظاهر بالتشيع - شكاية عن أخيه العزيز وعمه العادل قال فيها: مولاي إن أبا بكر وصاحبه ... عثمان قد غصبا بالسيف حق علي ذي سنة بين الأنام قديمة ... أبدا أبو بكر يجور على علي أجابه الناصر: غصبوا علياَ حقه إذ لم يكن ... بعد النبي له بيثرب ناصر فابشر فإن غدا عليه حسابهم ... واصبر فناصرك الإمام الناصر2 قال ابن كثير: وكان الناصر شيعيا مثله3، كما ذكر الصفدي أن التشيع ظهر في خلافة الناصر بسبب ابن الصاحب ثم انطفى بهلاكه وظهر التسنن المفرط، ثم زال وظهر الفتوة والبندق والحمام الهادي

_ 1 الآداب السلطانية ص 4. 2 الأنوار الساطعة ص5، 21. 3 البداية والنهاية 13/104، ولئن كان ابن كثير نقل هذه المكاتبة بينهما من ابن خلكان فلم أحد في الوفيات 3/420 هذه العبارة، مما يوحي أنها من كلام ابن كثير.

وتفنن الناس في ذلك1. كما نقل أيضا أن رسول صاحب "مازندران" لما دخل بغداد في عهد الناصر كان يأتيه ورقة كل صباح بما عمل في الليل، وصار يبالغ في الكتم والورقة تأتيه، فاختلى ليلة بإمرأة دخلت إليه من باب السر فصبحته الورقة بذلك وفيها: كان عليكم دواج فيه صورة الفيلة، فتحير وخرج من بغداد وهو لا يشك أن الخليفة يعلم الغيب؛ لأن الإمامية يعتقدون أن الإمام المعصوم يعلم ما في الحامل وما وراء الجدار2. أما عن موقفه مع "التتر" فيقول ابن الأثير: "وإن كان3 ما ينسبه العجم إليه صحيحا من أنه هو الذي أطمع التتر في البلاد، وراسلهم في ذلك فهو الطامة الكبرى التي يصغر عندها كل ذنب عظيم4. وفي مرآة الزمان قال سبط الجوزي: قال لي المعظم بن العادل: كتب إلى جلال الدين] بن خوارزم شاه [يقول: تجيء أنت واتفق معي حتى نقصد الخليفة] الناصر [فإنه كان السبب في هلاك أبي] خوارزم شاه [، وفي مجيء التتار وجدنا كتبه إلى الخطا وتواقيعه لهم بالبلاد

_ 1 الوافي بالوفيات 6/311. 2 المصدر السابق 6/313. 3 الذي في الكامل وكان سبب ما ينسبه وهذا لا تستقيم به العبارة، والتصويب من البداية والنهاية 13/103. 4 الكامل 12/440.

والخلع والخيل، فلم يوافقه المعظم على ذلك1. وبالجملة فقد حمّل عدد من المؤرخين القدامى والمحدثين الخليفة العباسي الناصر مسؤلية اختراق المغول لبلاد المسلمين حينما حرضهم على غزو الأراضي الخوارزمية، ورأي فيهم القوة القادرة على رد السلطان الخوارزمي علاء الدين محمد – خصمه – إلى صوابه. فمن القدامى أمثال: ابن الفرات وأبي الفداء، والمقريزي. ومن المحدثين أمثال: حافظ حمدي. ومن الأوربيين أمثال: دوسون، وهورث، وبروان، وكيرتن، وميور، وجرينا، وهارولد لام. وفي مقابل ذلك كله يرفض الدكتور القزاز ما نسب إلى الخليفة الناصر، لكنه يوجهه بتقصير الخليفة وعدم تقديره لمسؤليته كخليفة للمسلمين2.

_ 1 السير 22/242، البداية 13/101. 2 انظر تفصيل ذلك فيما كتبته الدكتورة/ عفاف سيد صبره في كتابها: التاريخ السياسي للدولة الخوارزمية ص155-158، ويلاحظ أن الدكتورة لم ترجح رايا معينا وإن كانت أقرب إلى الرأي الأول حيث قالت: وسواء أصح الرأي الأول أم الثاني إلا أن الحقيقة تثبت أن هناك قوى بدأت تلفت نظر المغول إلى القوى الكبيرة التي تجاور حدودهم وهي قوى الخوارزمية. هذا فضلا عن حشدها لعدد من المؤرخين المؤيدين لاتهام الناصر وعدم ذكرها سوى القزاز مخالفا في الرأي.

موقف الملك الرحيم

ب- موقف الملك الرحيم: البدر لؤلؤ صاحب الموصل1 والملقب بالملك الرحيم، ملك الموصل نحوا من خمسين سنة، وهو الذي أزال الدولة الأتابكية عن الموصل – وهم أسياده – وكان فيه نزعة تشيع إذ كان يبعث في كل سنة إلى "مشهد علي" قنديلا ذهبا زنته ألف دينار، قال ابن كثير: وهذا دليل على قلة عقله وتشيعه2. أما أصله فكان أرمنيا حتى نقل عنه الذهبي أنه كان يحتفل لعيد الشعانين لبقايا فيه من شعار أهله، وكان يمد سماطا عظيما للغاية ويحضر المغاني وتدار في غضون ذلك أواني الخمور، ويتخاطف الناس ما ينثره من الذهب في ذلك اليوم، فمقت لإحياء شعار النصارى وقيل فيه: يعظم أعياد النصارى محبة ... ويزعم أن الله عيسى ابن مريم إذا نبهته نخوة أرْيحيّة ... إلى المجد قالت أرمنيته: نم3 أما عن مساهمته في دخول التتر بلاد المسلمين، فقد ذكر الحافظ

_ 1 هو السلطان بدر الدين أبو الفضائل لؤلؤ الأرمني النوري الأتابكي مملوك السلطان نور الدين أرسلان شاه ت657هـ. سير أعلام النبلاء 23/356و357. 2 البداية والنهاية 13/203. 3 سير أعلام النبلاء 23/357، وانظر في أرمنيته: البداية والنهاية 13/203.

ابن كثير أن جنود التتر حين نازلت بغداد سنة ست وخمسين وستمائة جاءت إليهم أمداد صاحب الموصل – يساعدونهم على البغاددة – وميرته وهداياه وتحفه؛ وكل ذلك خوفا على نفسه من التتار ومصانعة لهم1. وقال الذهبي عنه: وكان يصانع التتار وملوك الإسلام2. بل نقل بعض المؤرخين أن "صاحب الموصل" كان من بين المحرضين لهولاكو على قتل الخليفة العباسي.3 وحين انفصل هولاكو خان عن بغداد – بعد الوقعة الفظيعة العظيمة – سار الملك الرحيم إلى خدمته طاعة له ومعه الهدايا والتحف، فأكرمه واحترمه ورجع من عنده فمكث بالموصل أياما يسيرة، ثم مات4. ونقل الذهبي أنه قلد هولاكو جوهرة يتيمة قدمها هدية له وطلب أن يضعها في أذن هولاكو فأتكأ ففرك أذنه وأدخل الحلقة في أذنه،

_ 1 البداية والنهاية 13/190. 2 سير أعلام النبلاء: 23/356. نقل الذهبي أن لؤلؤ كاتب الخليفة العباسي المستعصم سِرًّا حين قصد هولاكو بغداد ينصحه فما أفاد وقضي الأمر سير أعلام النبلاء 23/181. 3 الجوزجاني: طبقات ناصري ص430 نقلا عن د. الصياد: المغول في التاريخ ص269. 4 البداية والنهاية 13/203.

وأن الملك الرحيم عاد إلى بلاده الموصل متوليا من قبل هولاكو، وقرر عليه مالاً يحمله1. بل زاد مستوى العلاقة بين الملك الرحيم وأسرته وبين التتر حتى بلغ المصاهرة فقد تزوج ولده الملك الصالح إسماعيل ابنة هولاكوا، لكن ذلك لم يدم طويلا إذ أغضب الصالح إسماعيل ابنة هولاكو وأغارها، فنازلت التتر الموصل واستمر الحصار عشرة أشهر ثم أخذت، وخرج إليهم الصالح بالأمان فغدروا به واستباحوا الموصل2. وتلك عاقبة المواطأة مع الكفار، ونتيجة معجلة لممالأة الفجار، ممن لا يرقبون في المسلمين إلاًّ ولا ذمة، فلا حول ولا قوة إلا بالله.

_ 1 سير أعلام النبلاء: 23/357. 2 سير أعلام النبلاء 23/357.

الوزير ابن العلقمي

جـ- الوزير ابن العلقمي: هو أبو طالب مؤيد الدين محمد بن أحمد بن علي بن أبي طالب ابن العلقمي البغدادي الرافضي1. خفف من رافضيته "الصفدي" حين قال: أظهر الرفض قليلا. وبالغ في تسنن خصمه الدوادار حين قال: إنه كان يتغالى في

_ 1 المصدر السابق 23/361، 362 وفيه محمد بن محمد بدل محمد بن أحمد كما في البداية والنهاية 23/201.

السنة 1 فخالف في ذلك غيره – كما سيتضح. قال السبكي: كان شيعيا رافضيا في قلبه غل على الإسلام وأهله2. تولى الوزارة للخليفة العباسي "المستعصم" مدة أربع عشرة سنة أفشى خلافها الرفض فعارضته السنة فكبت فتنمّر3. وكان – كما قال ابن ثير – رافضيا خبيثا رديء الطوية على الإسلام وأهله4. وقال في موضع آخر: "كان شيعيا جلدا ورافضيا خبيثا"5. مولده في شهر ربيع الأول سنة إحدى وتسعين وخمس مائة، وهلك في أوائل سنة سبع وخمسين وست مائة6.

_ 1 الوافي بالوفيات 1/184. 2 طبقات الشافعية ص262. 3 سير أعلام النبلاء 23/362. 4 البداية والنهاية 13/202. 5 البداية والنهاية 13/194. 6 الوافي بالوفيات 1/185 – وبهذا يتبين أن عمره ست وستون سنة كما نص عليه الذهبي: سير أعلام النبلاء 23/362، خلافا لما ذكره ابن كثير أن عمره ثلاث وستون سنة: البداية والنهاية 13/202.

موقف ابن العلقمي وخطواته: أما عن موقفه مع التتر فهو موقف الخزي والعار؛ إذ سعى في دمار الإسلام وخراب بغداد كما قال الصفدي1. ومالأ على الإسلام وأهله الكفار حتى فعل ما فعل بالإسلام وأهله2. وهو الذي حفر للأمة قليبا فأُوقِع فيه قريبا – كما قال الذهبي -3. المكاتبة: لقد كاتب "هولاكو" وجسّره وقوى عزمه على قصد العراق ليتخذ عنده يداً وليتمكن من أغراضه3. بل لقد جر هولاكو وقرر معه أمورا انعكست عليه4. واستخدم في هذه المكاتبات شتى الحيل وبلغ نهاية المكر، قد حكي أنه لما كان يكاتب التتار تحيّل مرة إلى أن أخذ رجلا وحلق رأسه حلقا بليغا وكتب ما أراد عليه بوخز الأبر كما يفعل بالوشم، ونفض

_ 1 الوافي بالوفيات 1/184. 2 البداية والنهاية 13/202. 3 سير أعلام النبلاء 23/362. 4 الوافي بالوفيات 1/184.

عليه الكحل وتركه عنده إلى أن طلع شعره وغطى ما كتب فجهزه وقال: إذا وصلت التتر مرهم بحلق رأسك ودعهم يقرأون ما فيه، وكان في آخر الكلام: قطِّعوا الورقة، فضربت رقبته، وهذا غاية في المكر والخزي – كما قال الصفدي1 -. الخطوات السابقة: ولم تكن سياسة المكاتبة مع التتر هي الأولى في هذا السياق، بل سبقتها خطوات مهَّدت لها وكانت بمثابة الأرضية والمقدمة لما بعدها؛ فقد اتخذ ابن العلقمي سياسة خبيثة – في إضعاف جيش الخلافة ساهمت في دخول التتر بغداد دون مقاومة تذكر، إذ اجتهد قبتل مجيء التتر في صرف الجيوش وإسقاط اسمهم من الديوان وصرفهم عن إقطاعاتهم، ونجح في ذلك إذ كانت العساكر في آخر أيام المستنصر قريبا من مائة ألف – منهم من الأمراء من هو كالملوك الأكابر الأكاسر – فلم يزل ابن العلقمي مجتهدا في تقليلهم إلى أن لم يبق سوى عشرة آلاف في أواخر أيام المستعصم2. ويقول الذهبي: "استوزر "المستعصم" ابن العلقمي الرافضي فأهلك الحرث والنسل، وحسّن له جمع الأموال، وأن يقتصر على

_ 1 الوافي بالوفيات 1/186. 2 البداية والنهاية 13/192.

بعض العساكر، فقطع أكثرهم"1. وبلغت حالة الجيش وعساكر الخلافة بالذات مبلغا من الذل والهوان، حتى استعطى كثير منهم في الأسواق وأبواب المساجد، وحق للشعراء أن ينشدوا فيهم الشعر ويرثوهم بالقصائد، وينعوا على الإسلام وأهله2. وكان ذلك بسبب سياسة هذا الرافضي المغرض الذي عبر عن سياسته وأثر وزارته على المستعصم ابن كثير حين قال: "إنه لم يعصم المستعصم في وزارته، ولم يكن وزير صدق ولا مرضي الطريقة"3. وقال في موصع آخر: "إنه كان وزير سوء على نفسه وعلى الخليفة وعلى المسلمين"4. فلما تحقق لابن العلقمي ما أراد، كاتب التتار وأطمعهم في أخذ البلاد وسهل عليهم ذلك، وحكى لهم حقيقة الحال، وكشف لهم ضعف الرجال5.

_ 1 سير أعلام النبلاء 23/175. 2 البداية والنهاية 13/191. 3 المصدر السابق نفسه 13/157. 4 المصدر السابق نفسه 13/201. 5 المصدر السابق نفسه 13/192.

وهكذا تبدو سياسة ابن العلقمي بعيدة الغور سيئة القصد، ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله – كما سيتضح بعد. الخطوة الثالثة: الغدر بالقضاة والفقهاء وقتل الخليفة: ولم تقف سياسة ابن العلقمي عند هذا الحد، فقد بادر بإتخاذ الخطوة العملية حين قدم التتار، وكان أول من برز إليهم فخرج بأهله وأصحابه وخدمه وحشمه فاجتمع بهولاكو ثم عاد فأشار على الخليفة بالخروج إليه والمثول بين يديه لتقع المصالحة على أن يكون نصف خراج العراق لهم ونصفه للخليفة، فخرج الخليفة في سبعمائة راكب من القضاة والفقهاء والصوفية ورؤساء الأمراء والدولة والأعيان، فلما اقتربوا من منزل هولاكو حُجِبو عن الخليفة إلا سبعة عشر نفسا خلص بهم الخليفة، وأنزل الباقون عن مراكبهم ونهبت، وقتلوا عن آخرهم، وأحضر الخليفة بين يدي هولاكو فسأله عن أشياء كثيرة، ويقال إنه اضطرب في كلامه من هول ما رأى من الإهانات والجبروت، ثم أعيد إلى بغداد تحت الحوطة والمصادرة يحيط به الطوسي وابن العلقمي الرافضيان، ونهب من دار الخلافة أشياء كثيرة من الذهب والحلي والأشياء النفيسة، ثم أشار هؤلاء الرافضة على هولاكو بعدم مصالحة الخليفة وقال الوزير: متى وقع الصلح على المناصفة لا يستمر هذا إلا عاما أو عامين ثم يعود الأمر إلى ما كان قبل ذلك، وحسنوا له قتله،

ويقال إن الذي أشار بقتله الوزير ابن العلقمي، ونصير الدين الطوسي، فلما عاد الخليفة إلى هولاكو أمر بقتله1. ويقال إن الخليفة قتل رفسا وهو في جوالق لئلا يقع على الأرض شيء من دمه فيؤخذ بثأره وقيل بل خنق، ويقال إنه أغرق. والله أعلم2. أسباب المؤامرة: ويبقى بعد ذلك السؤال المهم: لماذا فعل ابن العلقمي ما فعل وأحل بدار الخلافة ما حل؟ وإجابة السؤال تتضح من خلال منظورين، عام، وخاص، وإليك البيان: المنظور العام: أما العام فخلاصته خبث طوية الروافض بشكل عام على أهل السنة وتظرف معتقدهم فيهم، وعدم تحرجهم من التعاون مع الكفار على إبادة المسلمين السنة، ويكشف لنا هذه الحقيقة بجلاء شيخ الإسلام ابن تيمية في أكثر من كتاب، وفي أكثر من موضع في الكتاب

_ 1 البداية والنهاية 13/191، وسير أعلام النبلاء 23/183. 2 البداية والنهاية: 13/192.

الواحد. وينقل من معتقداتهم أنهم يكفرون كل من اعتقد في أبي بكر وعمر والمهاجرين والأنصار العدالة أو ترضيّ عنهم كما رضي الله عنهم ... ويستحلون دماء من خرج عنهم، ويسمون مذهبهم مذهب الجمهور ... ويرون في أهل الشام ومصر والحجاز والمغرب واليمن والعراق والجزيرة وسائر بلاد الإسلام أنه لا يحل نكاح هؤلاء ولا ذبائحهم ... ويرون أن كفر هؤلاء أغلظ من كفر اليهود والنصارى لأن أولئك عندهم كفار أصليون وهؤلاء مرتدون ... ولهذا السبب – كما قال ابن تيمية – يعاونون الكفار على الجمهور من المسلمين؛ فيعاونون التتار على الجمهور، وهم كانوا من أعظم الأسباب في خروج جنكز خان ملك الكفار إلى بلاد الإسلام وفي قدوم هولاكو إلى بلاد العراق، وفي أخذ حلب ونهب الصالحية وغير ذلك بخبثهم ومكرهم لما دخل فيه من توزر منهم للمسلمين وغير من توزر منهم1. وقال أيضا: "وهؤلاء – يعني الرافضة – من أعظم من أعان التتار على المسلمين باليد واللسان، بالمؤازرة والولاية وغير ذلك؛ لمباينة قولهم لقول المسلمين واليهود والنصارى، ولهذا كان ملك الكفار هولاكو يقرر أصنامهم "2.

_ 1 الفتاوى 28/477، 478. 2 الفتاوى 28/484.

ونقل أيضا أن الرافضة – بشكل عام – من أهل الجبل، والجرد، والكسروان، وأهل جزين وما حواليها وسائر أهل هذا المذهب فرحوا بمقدم التتار إلى بلاد المسلمين1 ... ويربط ابن تيمية بين موقف الرافضة بشكل عام من أهل السنة وموقف ابن العلقمي وأمثاله بشكل خاص ويكشف عن عوامل ذلك فيقول: "والرافضة تحب التتار ودولتهم لأنه يحصل لهم بها من العز ما لا يحصل بدولة المسلمين، والرافضة هم معاونون للمشركين واليهود والنصارى على قتال المسلمين، وهم كانوا من أعظم الأسباب في دخول التتار قبل إسلامهم إلى أرض المشرق بخراسان والعراق والشام، وكانوا أعظم الناس معاونة لهم على أخذهم لبلاد الإسلام وقتل المسلمين وسبي حريمهم، وقضية ابن العلقمي وأمثاله مع الخليفة، وقضيتهم في حلب مع صاحب حلب مشهورة يعرفها عموم الناس ... وإذا غلب المسلمون النصارى والمشركين كان ذلك غصة عند الرافضة، وإذا غلب المشركون والنصارى المسلمين كان ذلك عيدا ومسرة عند الرافضة. 2

_ 1 الفتاوى 28/400، 401. 2 المصدر نفسه 28/527، 528.

وفي "منهاج السنة" قال شيخ الإسلام ابن تيمية يرحمه الله "وكثير منهم – يعني الروافض – يواد الكفار من وسط قلبه أكثر من موادته للمسلمين، ولهذا لما خرج الترك الكفار من جهة المشرق وقتلوا المسلمين وسفكوا دماءهم ببلاد خراسان والعراق والشام والجزيرة وغيرها كانت الرافضة معاونة لهم على المسلمين، وكذلك الذين كانوا بالشام وحلب وغيرهما من الروافض كانوا أشد الناس معاونة لهم على قتال المسلمين ... إلى أن يقول: فهم دائما يوالون الكفار من المشركين واليهود والنصارى ويعاونونهم على قتال المسلمين ومعاداتهم"1. السبب الخاص: فإذا اتضح المنظور العام أمكن فهم السبب الخاص في موقف ابن العلقمي مع التتر في إطاره ولم يفصل عنه، وقد ذكر المؤرخون أن الذي حمل ابن العلقمي على موقفه من التتر أن أبا بكر بن الخليفة المستعصهم والدويدار الصغير قد شدا على أيدي السنة حتى نهب الكرخ وتمّ على الشيعة بلاء عظيم، فحنق لذلك ابن العلقمي وأراد الثأر بسيف التتار من السنة2. وكاتب هولاكو، وطمّعه في العراق،

_ 1 منهاج السنة 2/104. 2 سير أعلام النبلاء 23/362.

فجاءت رسل هولاكو إلى بغداد، وفي الباطن معهم فرمانات لغير واحد والخليفة لا يدري ما يتم1. ونقل الذهبي – في إطار العلاقات السريّة المشبوهة أنه قدم إلى بغداد رسولان من التتر واجتمعا بابن العلقمي وتعمّت الأخبار2. وقال الصفدي: فحصل عنده – بسبب ذلك – من الضغن ما أوجب له أنه سعى في دمار الإسلام وخراب بغداد على ما هو مشهور أنه ضعف جانبه وقويت شوكة الدوادار بحاشية الخليفة حتى قال في شعره: وزير رضي من بأسه وانتقامه ... بطي رقاع حشوها النظم والنثر كما تسجع الورقاء وهي حمامة ... وليس لها نهي يطاع ولا أمر3 وقال ابن كثير: "ولما كان في السنة الماضية [يعني سنة خمس وخمسين وستمائة] كان بين أهل السنة والرافضة حرب عظيمة نهبت فيها الكرخ ومحلة الرافضة حتى نهبت دور قرابات الوزير ابن العلقمي فاشتد حنقه على ذلك فكان هذا مما أهاجه على أن دبّر على

_ 1 سير أعلام النبلاء: 23/180. 2 المصدر نفسه 23/177، وجاء في تاريخ الإسلام عبارة: وتعمت على الناس بواطن الأمور المصدر نفسه هامش 5. 3 الوافي بالوفيات: 1/184.

الإسلام وأهله ما وقع من الأمر الفظيع الذي لم يؤرخ أبشع منه منذ بنيت بغداد وإلى هذه الأوقات"1. وربما اجتمع إلى هذه وتلك الوعود الطيبة التي بذلها "المغول" وأغرت "ابن العلقمي"، والوفاق والتعاون مع نظيره في المعتقد والتعصب "الطوسي" والذي أصبح وزيرا لهولاكو2. المكر السيء يحيق بأهله: ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله، ودخل التتار وجندهم بغداد ووقع ما وقع من الظلم والفساد وسفك الدماء وهتك الأعراض، ولم يكن ابن العلقمي بعيدا عن ذلك كله ولا سالما منه ألبتة، وقد أحسن الظن الذهبي في تعبيره وكان دقيقا في وصف حالته حين قال: "وحفر للأمة قليبا فأُوقِع فيه قريبا، وذاق الهوان، وبقي يركب كديشا وحده بعد أن كانت ركبته تضاهي موكب السلطان؛ فمات غبنا وغما، وفي الآخرة أشد خزيا وأشد تنكيل3. ونقل "الصفدي" ندم "ابن العلقمي" حيث لا ينفعه الندم – وكان كثيرا ما يقول: وجرى القضاء بعكس ما أمّلته – لأنه عومل

_ 1 البداية والنهاية 13/191. 2 د. الصيد: المغول في التاريخ ص277. 3 سير أعلام النبلاء 23/362.

بأنواع الهوان من أراذل التتار والمرتدة؛ حكي أنه كان في الديوان جالسا فدخل بعض التتار ممن لا وجاهة له راكبا فرسه، فساق إلى أن وقف بفرسه على بساط الوزير وخاطبه بما أراد، وبال الفرس على البساط وأصاب الرشاش ثياب الوزير وهو صابر لهذا الهوان يظهر قوة النفس وأنه بلغ مراده ... 1. ولم تكن الشيعة بشكل عام – وهم أهل وعشيرته – بمنأى عن هذه الجرائم والمآثم، وعجيب أن يكون حنقه على أهل السنة، وحميته للشيعة تبيح له ذلك كله. ويروى أن بعض أهل بغداد قال له: يا مولانا أنت فعلت هذا جميعه وحميت الشيعة حميّة لهم، وقد قتل من الأشراف الفاطميين خلق لا يحصون، وارتكب من الفواحش مع نسائهم وفضّت أبكارهم مما لا يعلمه إلا الله تعالى، فقال: بعد أن قتل الدوادار ومن كان على مثل رأيه لا مبالاة بذلك2. ويقول ابن الوردي: "أراد "ابن العلقمي" نصرة الشيعة فنصر عليهم، وحاول الدفع عنهم فدفع إليهم، وسعى ولكن في فسادهم، وعاضد ولكن على سبي حريمهم وأولادهم، وجاء بجيوش سلبت عنهم النعمة ونكبت الإمام والأمة، وسفكت

_ 1 الوافي بالوفيات 1/184. 2 المصدر السابق 1/185.

دماء الشيعة والسنة"1. وأخيرا ذهب ابن العلقمي ضحية ما اقترفته يداه، ومات بعد دخول التتر بغداد بثلاثة أشهر غما وغبنا. ويقال إن امرأة رأته وهو في الذل والهوان وهو راكب في أيام التتر برذونا وهو مرسم عليه، وسائق يسوق به ويضرب فرسه فوقفت إلى جانبه وقالت له: يا ابن العلقمي، هكذا كان بنو العباس يعاملونك؟ فوقعت كلمتها في قلبه وانقطع في داره إلى أن مات كمدا وغبينة وضيقا وقلة وذلة.2 وبلغ إذلال "التتر" له أن جعلوه تابعا لشخص يدعى "ابن عمران" كان خادما في دولة المستعصم.3 بل نقل "النويري" ما هو أشد من ذلك، إذ استدعاه "هولاكو" فلما مثل بين يديه سبّه ووبخه على عدم موافاته لمن هو غذي نعمته، وأمر بقتله فقتل، وقيل لم يقتله4 وذكر "السيوطي" أنه صار معهم في صورة بعض الغلمان، وأنه مات كمدا5.

_ 1 تتمة المختصر في أخبار البشر 2/196 عن د. الصياد: المغول في التاريخ ص274. 2 البداية والنهاية 13/202، الوافي بالوفيات 1/185. 3 عبد الله الشيرازي: تاريخ وصاف ص41،42 عن المغول في التاريخ ص274. 4 نهاية الأرب في فنون الأدب ج26 عن المغول في التاريخ ص275. 5 تاريخ الخلفاء للسيوطي ص378.

إنكار الحقائق خلل في المنهج: وعلى الرغم من وضوح الحقيقة، وتضافر المصادر على ذكر هذا الموقف المخزي لابن العلقمي، فثمة آراء غريبة لبعض الشيعة المعاصرين تحاول توهين الحقيقة، وتظن بذلك أنها تدفع عن الشيعة عار هذا الموقف وخزيه، ولكن الحقيقة فوق هذا التوهين، وهي من الثبوت في مصادر الشنة والشيعة أيضا بحيث لا تقبل النقض والإبرام، وإليك نموذجا لهؤلاء: يقول الدكتور القفاري: "ومن الغريب أنه نبتت نابتة في هذا العصر من الروافض وحاول توهين القصة، وحجته أن الذين ذكروا الحادثة غير معاصرين للواقعة، وحينما جاء على من ذكر الحادثة من معاصريها مثل أبي شامة شهاب الدين عبد الرحمن بن إسماعيل ت665هـ كان جوابه عن ذلك بأنه وإن عاصر الحادثة معاصرة زمانية لكنه من دمشق فلم تتوفر فيه المعاصرة المكانية"1. يقول الدكتور القفاري: "ثم بحثت في كتب التاريخ فوجدت شهادة هامة لأحد كبار المؤرخين تتوفر فيه ثلاث صفات: 1_ أن الشيعة يعتبرونه من رجالهم.

_ 1 انظر: محمد الشيخ حسين الساعدي: مؤيد الدين ابن العلقمي وأسرار سقوط الدولة العباسية، عن مسألة التقريب بين أهل السنة والشيعة 2/263 د. ناصر القفاري.

2- أنه من بغداد. 3- أنه متوفى سنة 674هـ؛ فهو شيعي بغدادي معاصر للحادثة ذلك هو الإمام الفقيه علي بن أنجب المعروف بابن الساعي الذي قال: " ... وفي أيامه – يعني المستعصم – استولت التتار على بغداد وقتلوا الخليفة وبه انقضت الدولة العباسية من أرض العراق، وسببه أن وزير الخليفة مؤيد الدين ابن العلقمي كان رافضيا ... "1. على أن إنكار الحقائق ليس سمة الشيعة المعاصرين فحسب بل سبقهم إلى ذلك شيعة آخرون؛ فهذا "ابن العلقمي" العلوي ألف كتابه "الفخري في الآداب السلطانية" سنة 701هـ في الموصل، ودافع بحماس عن موقف ابن العلقمي، بل غالى في الثناء على دولة المغول بشكل مثير أبعده عن الإنصاف كما يقول الزركلي2. ومما قاله في سبيل الدفاع عن موقف ابن العلقمي: "ونسبه الناس إلى أنه خامر، وليس ذلك بصحيح، ومن أقوى الأدلة على عدم مخامرته سلامته في هذه الدولة؛ فإن السلطان هولاكو لما فتح بغداد وقتل الخليفة سلم البلد إلى الوزير وأحسن إليه وحكَّمه، فلو كان قد

_ 1 مختصر أخبار الخلفاء ص136-137، عن: د. ناصر القفاري مسألة التقريب بين أهل السنة والشيعة 2/263. 2 الأعلام 7/174.

خامر على الخليفة لما وقع الوثوق إليه"1. ويظهر للمتأمل أن هذا الدليل من علائم التهمة والمواطأة لا من دلائل البراءة والنزاهة، ولكن "ابن الطقطقي" لا يقف عند هذا الحد، بل يسوق رواية تفيد أنه ظل وفيّاَ للمستعصم إلى آخر لحظة، وأنه لم يلبِّ دعوة هولاكوا إلا تحت ضغط الخليفة! 2. وقد سبق بيان ما يكشف تهافت هذه الآراء والمرويات، ومع ذلك فقد تصدى الدكتور الصياد للرد على ابن الطقطقي ومما قاله: "إذا كان صاحب "الفخري" قد دافع بحرار عن موقف ابن العلقمي وسقى جاهدا لدفع تهمة الحيانة عنه، فما ذلك إلا لأنه شيعي مستنير حس بفداحة الجرم الذي أقدم عليه صاحبه إذ كان بتصرفه هذا عاملا هاما في ضياع دولة وذهاب شخصية لها مقام ديني كبير في نفوس المسلمين، خصوصا وأن هذا التحول الخطير قد تم على أيدي قوم من الكفرة، ثم أن النكبة لم تكن مقصورة على أهل السنة وحدهم بل كانت عامة شاملة قاسى منها أهل السنة وأهل الشيعة.."3.

_ 1 الفخري في الآداب السلطانية ص295 عن د. الصياد: المغول في التاريخ ص273. 2 المصدر السابق، الصفحة نفسها. 3 المغول في التاريخ ص273، 274.

ويبقى بعد ذلك ردّ الشيعة بعضهم على بعض وتضارب آرائهم دليلا لا يستطيع الشيعة رفضه بحجة أنه من خصومهم أهل السنة؛ فهذا "الششتري" ت1019هـ القاضي – وهو مؤرخ شيعي كبير – يعترف صراحة بدور الرافضة في سقوط بغداد ويقول: "إن ابن العلقمي كاتب هولاكو، والخواجة نصير الدين الطوسي وحرضهما على تسخير بغداد للإنتقام من العباسيين بسبب جفائهم لعترة سيد الأنام صلى الله عليه وسلم وآله"1. وبمثل ذلك يمكن إسقاط محاولات الدفاع والتبرير الساذج عند "أغابزرك الطهراني" الذي قال: " ... ولو لم يكن دهاء ابن العلقمي لما اختلف مصير بغداد عن مصير "تيسفون" التي انقطع عنا جل أخبارها"2. وبهدا يتبين تهافت هذا الإنكار، وتضافر كتب الشيعة مع كتب السنة على إثبات دور ابن العلقمي في سقوط بغداد ودخول التتار. هذا فضلا عن ثبوته في المصادر الأوربية3.

_ 1 مجالس المؤمنين ص 400 عن الدكتور الصياد: المغول في التاريخ ص276. 2 أغابزرك الطهراني: الأنوار الساطعة في المائة السابعة طبقات أعلام الشيعة ص152، وهل يريد هذا الكاتب لبغداد أكثر مما حصل! 3 أمثال: Lestrange: بغداد في عهد الخلافة العباسية، ترجمة بشر يوسف فرنسيس ص292، ونسيمان: تاريخ الحروب الصليبية ص 522 عن د. الصياد: المغول في التاريخ ص272، 275.

النصير الطوسي

د- النصير الطوسي: هو محمد بين محمد بن الحسن نصير الدين الطوسي، أبو عبد الله، أو أبو جعفر، أحد الفلاسفة والمنجمين، ولد بطوس – قرب نيسابور – سنة سبع وتسعين وخمس مائة، ووفاته ببغداد سنة اثنين وسبعين وست مائة1. كان له اهتمام بالعلوم العقلية، وكان رأسا في علوم الأوائل، وله اهتمام بالفلسفة، وقد عدد الزركلي طائفة غير قليلة من كتبه2. أما عقيدته، فكان فاسد المعتقد، حكم عليه بعض العلماء بالإلحاد ونسبوا إليه عبادة الأصنام، ورام تغيير القرآن والصلاة فلم يقدر عليه؛ يقول ابن القيم: "نصر في كتبه قدم العالم، وبطلان المعاد، وإنكار صفات الرب جل جلاله من علمه وقدرته وحياته وسمعه وبصره، وأنه لا داخل العالم ولا خارجه وليس فوق العرش إله يعبد ألبتة! واتخذ للملاحدة مدارس، ورام جعل إشارات إمام الملحدين ابن سينا مكان القرآن فلم يقدر على ذلك فقال: هي قرآن الخواص، وذاك قرآن العوام، ورام تغيير الصلاة وجعلها صلاتين فلم يتم له الأمر، وتعلم السحر في آخر الأمر فكان ساحرا يعبد الأصنام"3.

_ 1 انظر: الوافي بالوفيات للصفدي 1/179، 183، الأعلام للزركلي 7/257. 2 الأعلام 7/257، 258. 3 إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان 2/263.

وقف ابن القيم على كتاب له سماه "مصارعة المصارعة" عارض فيه الشهرستاني في كتاب "المصارعة" الذي رد فيه على ابن سينا في القول بقدم العالم وإنكار المعاد، ونفي علم الرب وقدرته، وخلقه للعالم. يقول ابن القيم: "وقفت على الكتابين فوجدت الطوسي قد نصر أن الله تعالى لم يخلق السموات والأرض في ستة أيام، وأنه لا يعلم شيئا، وأنه لا يفعل شيئا بقدرته واختياره، ولا يبعث من في القبور"1. ثم يختم ابن القيم القول في معتقده ويقول: "وبالجملة فكان هذا الملحد هو وأتباعه من الملحدين الكفارين بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر"2. ولعل هذا يفسر لنا علاقته "بالإسماعيلية" وتأليفه كتاب "أخلاق ناصري" لمحتشم الإسماعيلية ناصر الدين أبو الفتح عبد الرحيم ت655هـ3. بل تحدثنا كتب التاريخ أن الطوسي كان يقيم مع الإسماعيلية في قلعة "ميمون دز"4.

_ 1 إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان 2/263. 2 المصدر السابق نفسه. 3 انظر: فؤاد الصياد: المغول في التاريخ ص240 حاشية رقم 1. 4 انظر: ميرخواند: روضة الصفا 5/76 عن المغول في التاريخ ص 241.

أما القول بأن إقامته – ومن كان معه – مجبرين، وأنهم سئموا الإقامة عند الإسماعيلية1 فذلك يحتاج إلى دليل يعضده. وإلا فكيف نفهم أن الإسماعيلةي لفرط ثقتهم فهي وتقدمه عندهم كان هو مبعوثهم إلى هولاكو حينما هدد زعيمهم "خورشاه" الذي استشار أركان دولته فاستقر رأيهم على أن يرشل إلى هولاكو الخواجة نصير الدين الطوسي مع طائفة من الوزراء والأعيان والأئمة ومعهم الهدايا والتحف، فوصلوا إليه في شوال سنة 654هـ2. وكان الطوسي كذلك على صلة "بالنصيرية" وقد ألف كتابا وضعه لهم، وليس بمقنع مقولة الصفدي – وهو ينقل هذا الخبر – "وأنا أعتقد أنه ما يعتقده؛ لأن هذا فيلسوف وأولئك يعتقدون إلهية علي"3. فعقيدة الطوسي – السالفة- تخوله لمثل هذا وأزيد. ويبدو أن الطوسي يجيد التلوّن ولديه القدرة على العيش في أي بيئة، بدليل أنه أظهر الصدق والإخلاص عند مقابلته لهولاكو، الأمر الذي جعل له عند هولاكو منزلة عالية، فكان يقربه ويستشيره ويطيعه4.

_ 1 الصياد: المغول في التاريخ ص241. 2 المصدر السابق ص242. 3 الوافي بالوفيات 1/181. 4 الوافي بالوفيات 1/179، الأعلام 7/257.

وهو وإن وزر "للإسماعيلية"1 فقد كان مرافقا لـ"هولاكو" حين افتتح قلاعهم "الألموت"2، وانتقل من الوزارة عند "الإسماعيلية" إلى الوزارة عند "هولاكو التتري" إذ انتخبه ليكون في خدمته كالوزير المشير3. والطوسي هو مبعوث "هولاكو" إلى الحلّة4. وحين عاد هولاكو إلى بغداد كان الطوسي مع ابن العلقمي في صحبته، ويقال إنهم هم الذين حسَّنوا له قتل الخليفة العباسي وعدم المصالحة معه5. ويحدد "ابن القيم" دور "الطوسي" مع التتر في محنة بغداد ويقول – إثر حديث عن الرافضة عموما-: "ولما انتهت النوبة إلى نصير الشرك والكفر الملحد وزير الملاحدة، النصير الطوسي وزير هولاكو، شفا نفسه من أتباع الرسول وأهل دينه فعرضهم على السيف حتى شفى إخوانه من الملاحدة واشتفى هو؛ فقتل الخليفة والقضاة

_ 1 البداية والنهاية 13/254. 2المصدر السابق 13/192. 3 المصدر نفسه 13/192. 4الأنوار الساطعة في المائة السابعة ص155. 5البداية والنهاية 13/191 يلاحظ تردد ابن كثير في الجزم بدور الطوسي مع التتر في قتل الخليفة العباسي حتى قال في موضع آخر: وعندي أن هذا لا يصدر من عاقل ولا فاضل البداية والنهاية 13/254.

والفقهاء والمحدثين، واستبقى الفلاسفة والمنجمين والطبائعيين والسحرة ونقل أوقاف المدارس والمساجد والربط إليهم وجعلهم خاصته وأولياءه"1 ...

_ 1 إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان 2/263، وانظر: شذرات الذهب لإبن العماد الحنبلي 5/339، 340.

مواقف وأدوار أخرى

هـ - مواقف وأدوار أخرى: لم يكن دور "الرافضة" ينتهي عند حدّ هؤلاء، فثمة شخصيات ومواقف أخرى نذكر منها: * موقف الشيخ الرافضي "الفخر محمد بن يوسف بن محمد الكنجي" الذي كان يصانع "التتر" على أموال الناس، وكان – كما قال ابن كثير – خبيث الطوية مشرقيا ممالئا لهم على أموال المسلمين، فقتلته "العامة" وسط الجامع إثر انتصار المسلمين في معركة عين جالوت1. * وموقف "محمد بن الحسن المعروف بابن طاووس الحلي" الذي أهدى كتابه "البشارة" إلى "هولاكو" المغولي، فسلم الحلة والنيل والمشهدين من القتل والنهب حين سقوط بغداد سنة 656هـ، وردّ إليه "هولاكو" النقابة بالبلاد الفراتية فحكم في ذلك قليلا ثم مات دارجاً2.

_ 1 البداية والنهاية: 13/210. 2 الأنوار الساطعة ص157.

*و"محمد بن أبي العز الحلي" الذي نقل الرافضة أنفسهم أنه اشترك مع "سديد الدين" والد العلامة الحلي، في كتابة الرسالة إلى هولاكو وطلب الأمان لأهل الحلة1. *ويعترف "الرافضة" مرة أخرى أن بلدة "كاشان" قد نجت من فتنة هولاكو بسبب "أفضل الدين الكاشاني" الذي كان معاصرا للطوسي ويقال إنه خاله2. وهل تسلم ديار الرافضة ومشاهدهم من بطش التتر لولا المصانعة والمواطأة والمكاتبة؟ ولقد بلغ الأمر أن من دخل دور الرافضة فهو آمن، وكذلك تخلّص "ابن أبي الحديد" صاحب "شرح نهج البلاغة" من مقتلة المغول لكونه في دار ابن العلقمي، ثم حضر عند الخواجة نصير الدين الطوسي ففوّض إليه خزائن الكتب ببغداد مع غيره ... 3. *وابن أبي الحديد هذا وصفه ابن كثير بالغلو في التشيع وذكر علاقته بابن العلقمي فقال: "كان حظيا عند الوزير ابن العلقمي لما بينهما من المناسبة والمقارنة والمشابهة في التشيع والأدب والفضيلة"4.

_ 1 الأنوار الساطعة: ص165. 2 المصدر نفسه ص30. 3 أغابزرك الطهراني: الأنوار الساطعة ص88. 4 البداية والنهاية 13/190.

ونقل "المجلسي" أن ابن أبي الحديد ألف "شرح نهج البلاغة" وأنشأ قصائد "السبع العلويات" لأجل ابن العلقمي وباسمه1. * بل كان منهم من ولي للمغول كما كان "محمد بن محمد بن محمد الجويني" حاكما لـ"أصفهان" في عهد "أبقاخان المغولي"2. وكذلك يبدو أثر التقارب والممالأة واضحا جليا بين الرافضة والتتر، ولئن لم يستسغ بعض المؤرخين من أهل السنة ذكره كله أو بعضه في بطون الكتب كما أشار ابن الأثير، فها هم المؤرخون الرافضة لا يرون بأسا من ذكره بل ربما اعتبروه مفخرة ودهاء كما وصف "الطهراني" دور ابن العلقمي، وكما حاول "ابن الطقطقي" المدافعة لكن دون جدوى3.

_ 1 انظر: أغابزرك الطهراني: الأنوار الساطعة ص88، 150. 2 المصدر السابق ص173. 3 انظر ص 68 من هذا البحث.

دور الإسماعيلية

و دور الإسماعيلية: ومع التقارب بين الرافضة الإسماعيلية في المعتقد فقد كشف ابن الأثير بجلاء عن دور مبكر "للإسماعيلية" بدخول التتر بلاد المسلمين؛ فقد أرسل مقدم الإسماعيلية الملاحدة سنة 628هـ إلى التتر يعرفهم ضعف جلال الدين بالهزيمة الكائنة عليه من علاء الدين

كيقباذ ومن الأشرف، ويحثهم على قصده عقيب الضعف، ويضمن لهم الظفر به للوهن الذي صار إليه1. ويعلق ابن الأثير على سياسة جلال هذا ويقول: "وكان سيىء السيرة، قبيح التدبير لملكه، لم يترك أحدا من الملوك المجاورين إلا عاداه ونازعه الملك وأساء مجاورته"2.

_ 1 الكامل في التاريخ 12/495. 2 المصدر السابق 12/495.

الخاتمة

الخاتمة الحمد لله الذي هدى ووفق وأعان ويسر. وبعد: فإن في دراسة التاريخ بعمق استجلاءً لأحداث الماضي، وأخذ العبرة للحاضر واستصلاحا للمستقبل بإذن الله.. ولئن مرت في تاريخ المسلمين فواجع يندي لها الجبين فلا يكفي نعي هذه الأحداث أو التباكي على ما حصل لحواضر العالم الإسلامي، بل يجدر بالدارسين والباحثين أن يجلُّوا الصورة، وأن يتعمقوا في بحث أسبابها الظاهرة والخفيّة، وأن يحذّروا أمتهم كيد الكائدين، ويكشفوا لهم أساليب الماكرين. فالتاريخ سجل محفوظ، والأحداث تتكرر، والمأساة إذا وقعت مرة بسبب أو آخر من المسلمين فلا يليق أن يتكرر الخطأ، وأن تغمض الأعين عن مكمن الداء. والحادثة – قيد الدراسة – كشفت عن أدوار خفية أحاط صانعوها بالخليفة واستهدفت الخلافة، والمكر السيىء يحيق بأهله. كما تكشف عن أثر الظلم والتنازع بين المسلمين واستثمار الخصم لهذه الأجواء وسهولة الإجتياح والإفساد في بلاد المسلمين، إذا أصبح

العدو صديقا، وأُمِّن الخائن، واستعين بغير المسلم. ولئن توقفت الدراسة عن بيان الفصول الأخيرة لحدث التتار في بلاد المسلمين، وكيف تمّ النصر عليهم بعد حين من الزمن رصت فيه الصفوف، واجتمعت الكلمة، وقصد المجاهدون؛ فلاآن الدراسة مركزة على بيان أسباب الكارثة دون التفصيل في نهايتها. – فثمة بحوث أخرى تعني بهذه القضية، ولكن المتأمل يلاحظ بين البدء والنهاية اتصالا وثيقا؛ فضعف المسلمين وخيانات بعضهم وتنازعهم في البداية؛ كل ذلك ساهم في الهزيمة. ثم ساهم في النصر عليهم في النهاية تمحيص الصفوف، وصدق النوايا، والتوكل على الله، ومن يتوكل على الله فهو حسبه، فهل يعي المسلمون أسباب النصر وعوامل الهزيمة؟. أرجو أن يسهم هذا البحث في بيان ذلك.

§1/1