كنز الكتاب ومنتخب الأدب

البونسي

بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا ونبينا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما. حدثنا الشيخ الفقيه الأستاذ المقرئ العلم أبو إسحاق إبراهيم بن الشيخ الصالح المرحوم أبي الحسن علي بن أحمد الفهري رضي الله عنه قراءة مني عليه في شهر صفرسنة ثلاث وثلاثين وستمائة. قال: الحمد لله المحمود في كل أوان، المسبَّح بكل لسان، الكائن قبل الأمكنة، والموجود في عدم الأزمنة، الدائم الذي لا يلحقه الفَوْت، والقيوم الذي قهر عباده بالموت، القادر الذي انقاد كل شي لأمره، والجَوَاد الذي نطقت الأَلسنةُ بشكره. مبدع السمع والأبصار، ومُكوِّرِ الليل على النهار، المُنْفَرِدِ بالإحسان والفضل، والحَاكمِ بين العباد بالعدل، جَلَّ عن المثلِ والنَّدِيد، وتعالى عن التكييف والتحديد. زَيَّنَ بالمصابيح السماءَ المَبْنِيَّة، وقَدَّر الأقوات في الأرض المَدْحُوّّة، يَبْسُطُ النِّعَمَ لعباده ترفيهاً وإنعاماً، ويُقَدِّرها إذا شاء تنبيهاً وإلهاماً. هَدَانا بمنهج الرُّشْدِ بتوفيقه فَسَلَكْنَاه، ونهانا عن سبيل الغيِّ بلطفه فتَرَكْنَاه، أشاد مَثْوى البلاغة في أجِنًّتنا، وحلَّى بالفصاحة عذبات ألسنتنا، وتَمَّم نعمتَه على عبادِه تتميماً، وعلًّمنا ما لم نكنْ نعلم، وكان فضلُه علينا عظِيماً. نحمَده حمداً يملأ الأفواه والصدور، ويفوق حمْدَ كلِّ حامدٍ وشَكُور، نستنزل به الرَّحمة التي وسِعتْ كلَّ شيء، ونستكْشِفُ الغُمَّة عن كل مَيْتٍ وحيّ، ونستوجبُ

به المزيد من نعمه، والعِصْمَة من نِقَمه، ونشكره شكراً يُحظِينا لديه، ويقرِّبنا زُلْفَى إليه، ونسأله النَّجاة من غِواية الشيطان، والتَّجاوزَ عن سيئاتنا والغفران. ونصلِّي على سيِّدنا محمّدٍٍ نبيِّه ورسوله المصْطفى، وصفيِّه أكرم الأنبياء وسَائِل، وأعظمهم فضائل، المبعوث لخير الأمم، بالمُعجِزات والحِكَمِ، خير من افْتُتِحَتْ بذكره الدَّعوات، واسْتُنْجِحَتْ بالصلاة عليه الطِّلْبَات، المرسول لأهل الإسلام قمراً منيراً، ولأهل والضَّلالِ قدراً مُبيراً، أزكى الأنام عوداً ونِجاراً، وأعلاهم منصباً وفخاراً. بعثه الْلَّهُ والآفاقُ بدَياجي الكُفر مُظْلمة، وراياتُ الباطِل مُنْجِدَة ومُتْهِمَة، فنسخ المِلَل، وأوْضَح السّبُل، ونقَل الناس عن عِبادة الأوْثان، إلى عبادة الرحمن، وصَدَع بالرِّسَالة، وبالغ في الدلالة، وجلا غيَاهِبَ الضَّلال والرَّدى، وأحيا القلوب بنور الإيمان والهُدَى، ودَمَغ الباطل بالحق، وحضَّ على الإيمَانِ والصِّدْق، فآمن به المُرْشِدون وكفر به المُلْحِدون، فالمُؤمِنون رَبَحوا وأمَروا، والكافرون خابوا وخَسِروا. صلَّى اللَّهُ عليه وعلى آله صلاة دائِمةَ الاتصالِ، تتكَرَّرُ تكَرُّرَ البُكَرِ والآصال. صلاةً لا يَلْحقها اضطرابٌ، ولا يستطيع حصرَها الحِسَاب، وعليه من لَطَائِفِ التسليم ما يُربِي كثْرةً على عدَدِ النُّجومِ، ويُزْرِي شَذَاهُ بالمِسْكِ المَخْتُوم، ويُوافِقُ احْتِفَاَله رِضَى الحَيِّ القَيُّوم. أما بعد، فإني رَأيْت حِلية الأدب السامي المحل والرتب أجمل ما يتحلى به أهل الهِمَم، ومطارفَه أحْسن ما يَلْبسه أُوُلُو المَجْد والكَرمِ، وذخَاِئرَه أنفسَ ما يقتنى، وأزاهِرَه أبهجَ مايُجْتنى، لأنه للإنسان بالصواب مُنطِق، وللسان من عقاله مُطْلِق. وله بدورٌ من الأفكار مطالعُها، وأنهارٌ من الألبابِ مشارعُها. فالقلوبُ لبُدورِه فَلَك، والخواطر لأنهاره مَسْلَك. تشتمل الصدور على بدوره اشتمال الكِمَاِم على النوار، وتدفق القَرائِح بأنهاره تدفُّقَ الدِّيمَة المِدْرار. وله مَيْدان تجول فيه الأذْهَان جَوَلان الكُمَاة في المَيْدان. وله بحْر تغُوصُ فيه الخَواطِرُ، فتَستخرجُ منه

اللالئ والجواهِر. تَنْظِمُ منْها الأَلْسِنة عقوداً ترُوق في العِيان، وتُحلَّى بها أجْيَاد الملُوك والأعْيَان. ولما أقَمْت على مُطالعة نَظْمِه ونَثْره، ومَرَيْتُ أَخْلاَفَه لاجْتِلاب دَرِّه، واقْتبسْتُ أَنْوار بدُورِهِ، وارْتَشفتُ العذْبَ الشَّهيَّ من ثُغُورِه، وحامَتْ مدَّةً على مشارِعِهِ طيْرُ جَناني، حَويْتُ خطيرَهُ وانقاد شارده في عِناني، وارتاض لي منه ما تشعَّبَ، وانفتح مقْفل ما تغلق وتأشَّب. فملكتُ منه حظاً وافراً، وعِلْقاً سنياً عن مثال نور البدر سافراً. على أن ميدانه في زماننا عاطل من الرهان، ومَصُونه قد عاد في قبضة الامتهان، وقد أفلت بدوره ونجومه، ودرست معالمه ورسومه، وعَرِيت الهمم من مطارفه، وزُهِدَ في اكتساب معارفه، وَأَبَتْه الطباعُ، ومَجَّته الأسماع، وأوضعت عنه القلوبُ أيْ إيضاع، وصدَّت عنه النفوس صدود الجَبَان عن ميدان الحرب، أو الخاشع الأوَّاه عن نديِّ الشُّرب. فحامله اليوم (أضْيَعُ من قمر الشتاء) وأهون مِمَّنْ دبَّ فوق البطحاء حين حظي أهل البطالة، وبَلغُوا البُغْية بغير آلة، ونالوا الدرك بغير سبب، وآثروا الراحة على الطلب، وصارت قيمةُ المرء على قدر فضَّتِه وذَهبِه، لا على قدْرِ معرفته وحسبه، وهان على كل إنسان أن يَثْلَمَ قَدْرُه، ويسلم له وفرُه. فكم من فَدْمٍ قد غلظ طبعه، وصمَّ عن الواجب سمعُه، وبعُد فَهْمُه، وطال في جمع المال هَمُّه، وأَدْلج في طِلاَبِه وأَسْرى، وتَكبَّر على الناس لمَاَّ أتْرَب وأَثْرَى، وجَهِل أن الدَّهر بالناس قُلَّب، وأن حِمَامه كلَمْح البَصَر أَوْ هُو أَقْرب. زمانٌ نُبِذَ فيه الطَّلبُ بالعَراءِ، ولحظ الطَّالبُ بعين الازْدِراء، ومالت النُّفوس مع الأهْواء، حتى تلاعَبت بالعقول تلاعب الأفعال بالأسماء. قلَّ فيه المتنَاظَرُون وعدم المُتذاكِرونَ:

وَاسْتَوْثَقَ النَّاسُ ممَّا في أَكُفِّهِم ... حتى لقد نبتوا بخلاً على العُقَدِ قد تَخَلَّقُوا باللوم، وزَهِدُوا في طلب العلوم، وصَمُّوا عن قول الرسول صلى الله عليه وسلم طلب العلم فريضَةٌ على كلِّ مُسلم. وعن قوله أيضاً عليه السلام "العالِم يدْعُو له كلُّ شيء حتَّى الحوتُ في البحر". وعن قوله أيضاً "مَا سَلَك أحدٌ طريقاً في طلب العِلم إلا سَلك اللَّه به طريقاً إلى الجنَّة". وعن قول أبي عبد الله الشافعي رحمه الله: (طَلبُ العلْم أفْضَل من صلاة النَّافِلة). وأشْبَاه هذه الأقوال كثيرة لا تُحصى، ولايَتَّسع الدِّيوان لأن تُستْقصى. وجدُّوا في الاكتساب، ولَهَوْا عن القائل بالصَّواب: العلمْ يَنْفع في دنيا وآخرة ... والمالُ لا بُدَّ يَرمي المرءَ في العَطبِ ويُرْوى في التعب. وعن قول الفطن الأريب الناظم المصيب: إذا المرءُ لم يكسب سِوَى المالِ وَحده ... فَأَلأمُ مكسوبٍ لِأَلْأَمِ كَاسِبِ

فلمَّا رأيتُه كلَّ يوم إلى نُقْصان، ومَصونه يزداد مهانَةً مع الأحيان، بادرْتُ لِلتَّأليف، وجمعْتُ في هذا التَّصْنِيف من لُبابِه الباهِرِ، وزَهْره العاطِرِ، لمُعَاً كَسَقْطِ الزًّنْد عند الاقْتِداح، أو المُرْهفات في ليل النَّقْع يوم الكفاح. وانتقيتُ من توليدِهِ المُخترِع، ونادِرِه المستبْدِع، لُمَحاً يُخَالُ بدرُ التَّمِّ في لبَّاتها، ويتَنشّق العنبر الهندي من هَبَّاتها. وشَّحْتُها توشيح الهَدِيِّ، وثقََّفْتُها تثقيفَ اَلقِسِيِّ، وألَّفتُ فيه من النثر البديع، والنَّظم المطبوع والحكايات المسْتطرفَة، والأخبار المسْتظرفَة، والنوادر المستحسَنَة المسَاق، والأشعار المهذَّبة الرقاق، ما يلتذ سُمَاعُهُ على التحقيق والاتفاق، وتجنح إليه القلوبُ والأذهانُ، جُنوحَ الطير إلى الأوكان، لمن نشأ في جزيرة الأندلس من الكتاب والأدباء، ولمن ورد عليها من جَِّلة الفُصحاء والبُلغاء المُتَحلِّين بحلية الأدب، المقيمين أَوَد لسان العرب، ممن طاف على رؤسائها في المائة الخامسة، ومن كان عَلمَاً بها في المائة السادسة. وأكثر ما عولت على المتأخرين من الأدباء والماهرين، تنبيهاً على محاسنهم وآثارهم، وترغيباً في رسائلهم وأشعارهم. وأضربت عن ذكر المتقدمين، لتكرُّر أخبارهم على المتأدِّبين. وربما ألممت بعض إلمامٍ بكلامِ مَنْ في عصرنا من مشاهير وأعلام. ولئن كانت سوقُ الأدب كاسدة، وجَمْرَتُهُ هَامِدة، فلا بد في كل حين من بنين، يُحْلُونَ عاطله، ويُجلون فضائله. ولكل مجالٍ من رجالٍ يُعْنَون بالأنباء، ويقومون بالأعباء. وعمدتُ إلى كتاب "الذَّخيرة في محاسن أهل الجزيرة" تأليف أبي الحسن علي بن بسام أحد صيارفة النُّثَّارِ والنُّظَّام، فألَّفتُ من جواهره المفترقة،

وقطفتُ من أزاهره المونقة. وكذلك تصفحتُ كتاب "قلائد العِقيان في محاسن الأدباءِ والأعيانِ" تأليف معاصره أبي النصر أحد أهل النظم والنثر. واغترفت من دُرَرِه السَّنيَّة، وغُرَره البهيَّة، ما استحسنتُ إثباثَه في كتابي، وحصلتُ به على مرغبي وطِلابي، ولم أقصد إلى الطَّعن على فاضلٍ، ولا للتعصبِ لقائلٍ على قائل. فقد سبقني المؤلفون إلى ترتيب المتقدّمين والمتأخرين، والتفضيل بين السابقين والمقصرين، في غير ما كتابٍ أَلَّفوه، وتصنيفٍ جامعٍ صنَّفوه، ولا تعرضْتُ إلاَّ لليسير من التفصيل، وللغامض من المعاني والتأويل، فشرحتُ أكثر ما ورد فيه من الغريب، وسلكتُ في ذلك سَنَنَ الاختصار والتقريب، لتكمل بذلك فائدة الكتاب، ويرغب في اقتنائه ذوو الألباب، وشرفته بالشاهد من القرآن العظيم، ومن حديث الرسول صلوات الله عليه والتسليم. وقسمتُه على أربعة عشر باباً، أودعتها من الآداب فنوناً عِجَاباً، وجعلتُ كلَّ باب منها متفرداً بمعناه لا يُشركه غيرُه في مقصِده ولامنحاه. ضَمَّنْتُها أسْنى الفوائد، وللبيان فيها مصادر وموارد، ولم أُخْلِه من مثلٍ سائر، وبيت من الغريب نادر، وتشبيهٍ مصيبٍ، واختراعٍ عجيب.

أول الأبواب: - باب في الفصاحة والشعر. - باب في رسائل من منتخب النثر. - باب في حكايات حسان. - باب في الحب وما قيل فيه. - باب في النسيب والتغزل. - باب في المعاتبة والاستعطاف. - باب في الأنوار وحدائق الأزهار. - باب في صفة الخمر وسقاتها. - باب في مدح الغلمان المعذرين. - باب في ذم الغلمان المعذرين. - باب في الفكاهة والمجون. - باب في أوصاف شتى وفنون. - باب في الاستدعاء. - باب في أيام الأنس ولياليه.

نظمتُ جميعَها نظم الدُّر في السِّلك، وأضفتُ الشيء إلى مثله إضافة الاستحقاق والملك ولم أمتّ سبيلي إلى الإسهاب، ولا تعلقتُ بإِطناب الإطناب، خيفة من الملل ورغبة عن الكسل. نخلتُ فيه نصيحتي، وبذلتُ جهد قريحتي. وإن لم أكُن اخترعتُ، فَلَعَلِّي قد انْطبعتُ، وأتقنتُ ما صنَّفتُ وجمعتُ. على أني ما ألّفتُه إلا بذَماءنفس تالفة، وحال متغيرةٍ كاسفةٍ، وقلب عليل، وذهن كليل، وصدر بنيران الخُطوب مشعول، وفكرٍ بحُسام النوائب مفلول، في زمان دَأْبُهُ عداوةُ الأحرار، والإساءة لذوي الأخطار، لاينفكُّ عن إحالة الأحوال، وأن يمْحَق بشاشة أهل الوفاء مَحْقَ اللّيالي سَمَاوةَ الهلال. واهاً له كم رفع من غبيٍّ، ووضع من عليٍّ، وأسعط من أُنوفٍ بالرَّغام، وأسقط من سادةٍ إسقاط حروف الإدْغَام: يحطُّ من لا تَفِي الدنيا بقيمته ... جوراً ويرفعُ أقواماً بلا قيمِ أُعاتبه فما يعتبنُي، وأُسالمه فيصول ويُرهبني، حتى أتعجَّبَ من أمري، وأُنشدُ في سري وجهري: من أين أُبخس لا في ساعدي قصَر ... عن المساعي ولا في مقولي خَطَلُ إنْ نظَمتُ الكلام أحكمته، وإن نثرثُه ثَقفتُهُ وقوَّمته: إنْ لم أكُن فارس الهيجاء من هوج ... فإنني فارس القرطاس والقلم ولي لسانٌ يظلُّ الدرُّ مقتسماً ... ما بين منتثرٍ منه ومنتظمٍ على أني لم أَرْضَ بالشعر بضاعةً، ولا اتخدتُ الاستجداء به حرفةً ولا

صناعةً، علماً بأن مرتَبتَه تَقْصُرُ عن غايات أهل الفضل، وتنقص عن درجات ذوي النُّبل؛ بل صُنْت نُطفةَ وجهي عن البذْل، ولم أعرضْ خدِّي بالتخدُّم للذُّلِّ، ورضيتُ بالقناعة مالاً وافياً، وبإقراء كتاب الله سبحانه وتعالى شُغلاً كافياً. فلما يسَّر الله المعينُ في جمعه وتحصيله، وترتيب أبوابه وفصوله سميته: "كنز الكتَّاب ومنتخَبُ الآداب"، روضتُ به بستان الأدب وكان ماحلاً، وحلَّيْتُ به جِيَد الزَّمان وكان عاطلاً، وقد أبرزتُه في معرض المُلح الأدبية مَجْلُواً، وبلسان الفصاحة متلواً. وأنا أسأل الله تعالى العصمة من الزَّلل، والنجاة من الهذر والخَطَل، وعلى الله أتوكل، وهو حسبي فيما أقول وأفعل.

الباب الأول: في الفصاحة والشعر

الباب الأول: في الفصاحة والشعر قال أبو إسحاق: الفصاحة ميدان لا يُقطع إلا بسوابق الأذهان، ولا يُسلكُ إلا ببصائر البيان. كما أن البلاغة كنزٌ لا يصل إليه إلا الجَهابِذة الحذَّاق، ولا يُتناول وبالأيدي، ولا يُبْصَر بالأحداق. ووجْه البلاغة للبليغ سافرٌ، ومعناها له واضح ظاهر. والبليغ من تشكو يده سرعة خاطِره، ويغمُر الدُّرُّ أرض قرطاسه بمواطرِه؛ إن دعا البيان أجابهُ طائعاً، وانثال عليه من كلِّ فجّ طالعاً، فإن أطال في الخطاب، ملك أعِنَّة القلوب بالصواب، وإن أوجز واختصر، لم يخل بالمعنى المراد ولا قصَّر، فأسمع باللفظ الفصيح، حقيقة المعنى الصحيح. وخير ماأوتي المرءبعد عقل راجح ودين صالح، خلقٌ رضيّ، وأدبٌ وضيّ، وذكاءٌ في جَنَانِه، وفصاحةفي لسانه. فمن تجمَّعَت فيه هذه الخصال، سلِم من آفات الجهال، وعدل عن المحال، وفاز بنَيْل الكمال، ونَسَقَ روائق الألفاظ نَسْقاً، وملك رقاب المعاني رِقاَّ. ولاشيء أحسن من ذهنٍ ثاقب، ومنطقٍ صائب.

وقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: فيم الجمالُ؟ فقال: في اللَّسان. وقال ابن المقفع: (الكلامُ أزمة القُلُوب التي تقودها إلى رشدها وغيِّها). وقال عامر بن شراحيل الشعبي: (الكلام مصائد العقل). وقال بعض الحكماء: (عقلُ المرء مدفونٌ تحت لسانه). وقال بعض البلغاء: (اللسانُ أداةٌ يظهر بها حسنُ البيان، وظاهرٌيُخْبر عن الضمير، وشاهدٌ يُنْبئُ عن غائب، وحاكمٌ يفصلُ به الخطاب، وناطقٌ يردُّ به الجواب، وشافعٌ تدركُ به الحاجاتُ، وواصفٌ يعرف الحقائق، وواعظٌ ينهى عن القبيح، ومزيِّن يدعو إلى الحسن، وزارعٌ يحرث المودة، وحامدٌ يستأصل الضغينة). وقال بعضهم: (الحظُّ للمرء في أذنه، والحظُّ منه لغيره في لسانه). وقال خالد بن صفوان لرجل: (يرحم الله أباك. فلقد كان يقرُّ العين جمالاً، والأذن بياناً). وتكلم أحد الفصحاء، فقال له رجل سمعه: (لكل شيء إدام، وكلامك إدام الكلام). وسمع أحدهم رجلاً بليغاً يتكلم. فقال: (كلام هذا الوبْل على المحْل، والعذبُ البارد على الظمأ). وقال مسلمة بن عبد الملك: (مُرُوءتان ظاهرتان: الرِّياشُ والفصاحة). يقال: ريشٌ وريّاش لما ظهر من اللباس. قاله أبو عبيدة. وقال

مجاهد: الرِّيشُ المال، والرِّيشُ أيضا مصدر قولهم: رَاشَه يريشُه ريْشاً. والرِّيشُ أيضا ما ستَر من لِباس أو معيشة. والرِّياش الخصب. والرياشُ أيضاً الأثاث. وقيل هو جمع الرّيش. وقرأ عاصم في رواية أَبَانٍ بن يزيد العَطّار والمفضل بن يَعْلَى الضبي عنه (وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى). في سورة الأعراف. وَروِيتُ هذه القراءة أيضاً عن الحسن قاله أبو عبيد. ورِيشُ الطائر ما ستره الله به. وقال الشاعر في معنى كلام هؤلاء البلغاء: كَفى بِالمرءِ عيباً أنْ تراه ... له وجهٌ وليس له لِسانُ وما حسنُ الرِّجال لهم بِزَيْن ... إذا لمْ يُسْعِدِ الحُسن البَيانُ وتكلّم بعض الأدباء في مجلس المأمون بكلام أعجبه. فقال له من تكون؟ فقال: ابن أَدَبٍ أعزَّ الله أمير المؤمنين. فقال له: (نِعْمَ النّسبُ اّلَذي

انتسبت إليه) قال: وهذا من كلام الحكماء؛ الأدبُ أشْرفُ النسب. وقال ميمون بن مهران: (من فاتَه الأدب لم ينْفعه النَّسب). وقال الشاعر في المعنى: لكلِّ شيءٍ حسنٍ زينة ... وزينَةُ العالم حسن الأدبْ قد يشرفُ المرءُ بآدابه ... فينا وإنْ كان دنيَّ النَّسَبْ وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (عزُّ الشُريف أدبُه). وقال بعض الحكماء: (منْ كثُر أدبُه كثُر شرفُه وإن كان قبْل ذلك وضيعاً). وقرأتُ في بعض تواليف الحافظ أبي الطاهر أحمد بن محمد السِّلفي، رحمه الله على شيخنا أبي الحسن علي بن هشام روايته عنه. قال عبد الله بن

عائشة: وُلِدَ لكسرى موْلودٌ فجِيء ببعض أهل الأدب وجيء بالمولود فوضع بين يديه. فقال له كسرى: ما خيْرُ ما أوتي هذا المولود؟ فقال: عقل يولد معه قال: (فإن عدِمَه ذاك) قال: مالٌ يستُرهُ. قال: فإن عدمه ذاك. قال: أدبٌ حسن يعيش به بين الناس. قال: فإن عدمه ذاك. قال: صاَعِقة مُحرِقة. وفي هذا المعنى يقول الشاعر: ما وَهَب الله لامرىءٍ هبةً ... أحسنَ من عقلِهِ ومن أدبه هما حياةُ الفتى فإنْ عُدما ... فإنَّ فَقْدَ الحياة أشبهُ به قال أبو إسحاق: وقَوْل ابن عائشة: ولد لِكَِسْرى، يقال بكسر الكاف وبفتحها. والكسر مذهب عبد الملك بن قريب الأصمعي فيما حكى أبو حاتم عنه. والفتح مذهب أبي العباس المبرد.

وقال أبو علي البغدادي هما لغتان. واختار أبو حاتم الفتح. وقال: هو الوجه عندنا. وأنشده: أَخْمَدْتَ كِسْرَى وأمسى قيصرٌ ... مُغْلَقاً من دونه بَابَا حَدِيدْ ومنع ابنُ قُتَيْبة الفتح. وكسرى اسم لملك الفرس، وقيصر اسم لملك الروم، وهرقل اسم لملكهم أيضا، والنجاشي اسم لكل ملك من ملوك الحبشة، وخاقان اسم لملك الترك وتُبَّع اسم لملك اليمن، والقَيْلُ اسم لملك حمير، وقيل: بل القيل أقل درجة من الملك، وفِرعَون اسم لملك العمالقة. كل هذا من قول أبي عمر المطرز وابن خالويه وكان اسم فرعون فيما ذكر المفسرون مصعباً وقيل الوليد بن مصعب.

وقال بعض الحكماء: (ماوَرَّثَتِ الآباء الأبناء شيئاً أفضل من الأدب، لأنها بالأدب تكتسِب المال، وبالجهل تُتْلِفُه). وفي الخبر أن سليمان بن داود عليهما السلام خيِّر بين العِلْم، والمال، والمُلْك فاختار العلم فأوتي الملكَ والمال معاً. وقال بعض الحكماء: (خيرُ ما أوتي العبد في الدنيا الحكمة، وخير ما أوتي العبد في الآخرة الجنة). وبهذا فسّر بعض أهل العلم قول الله تعالى (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً) الآية. وهو مذهب الحسن. وقيل المراد به نِعَم الدنيا ونِعَم الآخرة وهو مذهب قتادة وأكثر أهل العلم. وقال ابن مسلم بن شهاب الزهري (ما أحْدَثَ الناسُ مروءةً أَعْجَب إليَّ من الفصاحة). ورأيتُ بعض تَواليف الحافظ أبي عمر النمَري رحمه الله. قال:

أنشدني بعض الأدباء لخلف الأحمر: خيرُ ما ورَّثَ الرجالُ بنيهِمُ ... أدبٌ صالحٌ وحسنُ الثناءِ هو خيرٌ من الدَّنانير والأو ... راق في يوم شدَّة ورخاءِ تِلْك تَفْنَى والدّين والأدب الصَّا ... لِحُ لا يفنيانِ حتى اللقاءِ وقال بعض الأدباء المتأخرين: (العِلمُ أكرمُ منهاجٍ، وسراجٍ وهاج، ما صَدِيَ من سقاهُ صوبَ صفائه، ولاعَرِي من كساهُ ثوب بهائه، ولاحادَ عن الحقِّ لسانُ من يرويه، ولا خافَ من الخَلْقِ جَنانُ من يَحْويه. وجَمعُ العلوم كمالٌ، والأدبُ منها جمالٌ، وهو لسان النبيِّ العربي). (فقيهٌ يلحنُ حمار يَطْحَن)، (كاتبٌ غيرُ أديب، أشبهُ الحيوان بِذِيب). (رُبّ وزيرٍ يُعجب الناسَ وهو ساكتٌ، فإذا تكلَّم فكلُّ حاسدٍ شامتٌ)، وفي هذا المعنى يقول الشاعر: وفي الصمت سترٌ للْعَيِيِّ وإنما ... صحيفة لبِّ المرء أن يتَكَلَّما وقال الآخر:

لسان الفتى نصفٌ ونصف فؤاده ... فلم يبْقَ إلاّ صورةُ اللَّحم والدّم وكائن ترى من ساكتٍ لكَ معجب ... زيادته أو نقصه في التكلم وقال الخليل (رحمه الله): أي شيء من اللباس على ذي السَّ ... رْو أبهى من اللسان البهيِّ ينظمُ الحجة السنية في السلْ ... ك من القول مثل سلك الهدي وترى اللحن بالحبيب أخي الهي ... أة مثل الصديّ على المشرفيّ فاطلبِ النحو لِلْحِجَاج وللشِّعْ ... ر مُقيماً والمسندِ المرويِّ والخطابِ البليغِ عند جواب ال ... قولِ تُزهى بمثله في النَّديِّ قال ابن زياد الأعرابي: سمعتُ رجلاً يوصي بنيه، فقال: يابني أصلحوا ألسنتكُمُ، فإنَّ الرجل تَنُوبُهُ النائبة فيستعيرُ من أخيه دابَّته وثوبه، ولا يجدُ من يُعيرُهُ لسانَه. وقال محمد بن سيرين: ما رأيتُ على رجُل أحسنَ من فصاحة، ولا

رأيت على امرأة أَحْسَنَ من شحم وقال مسلمة بن عبد الملك: اللحنُ في الكلام أقبحُ من الجُذَري في الوجه. وروى الزهري عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه قال: أتى عمر رضي الله عنه على قوم يرمون رِشْقاً لهمْ فأساؤوا الرَّمي. فقالوا: يا أمير المؤمنين نحن قومٌ متعلمين، فقال لهم: لإساءَتُكُمُ في لحنكم شرٌّ من إساءتِكمْ في رميكُم أَوْ في رِشْقِكُمْ. رحم الله امرأ أصلح من لسانه. وكان عمر رضي الله عنه يقول: (تعلَّموا العربية فإنها تُثَبِّثُ العقل). وقيل للحسن البصري رحمه الله: (إنَّ لنا إماماً يلْحن)، فقال: أخِّروه. وروى زيد بن الحباب عن أبي الربيع السمان عن عمرو بن دينار أن ابن عمر وابن عباس كانا يضربان أولادَهما على اللَّحن.

وحكى النضر بن الشُّمَيل عن الخليل بن أحمد أنه قال لحن أيوب بن كيسان فقال أستغفر الله. وحكى يحيى بن أكثم عن نفسه قال: فبينما أنا جالسٌ مع المأمون إذْ دخل الدار فتى أبْرعُ الناس زِيّاً وهيئة ووقاراً وهو لا يلتفت إعجاباً بنفسه. فنظر إليه المأمون فقال: يا يحيى. إنَّ هذا الفتى لا يخلو أن يكون هاشمياً أو نحوياً. ثم بعثنا من يتعرَّف ذلك منه، فعاد الرسول إلينا فأخبرنا أنه نحويّ. فقال المأمون: يا يحيى. أعلمتَ أن عِلْم النحو قد بلغ بأهله من عزَّة النفس، وعُلُوّ الهمَّة منزلة بني هاشم في شرفهم. يا يحيى من قعد به نسبه، نهض به أدبه. وفي معنى قول المأمون هذا يقول الشاعر: كُن ابن من شِئت واتخذ أدباً ... يُغْنيكَ مَأْثورُه عن الحسبِ وقال الآخر: إنَّ الفتى من يقول ها أنذا ... ليس الفتى من يقول كان أبي

وقال الآخر: فما سوَّدتني عامر عن وراثةٍ ... أبى الله أنْ أسمو بأمٍّ ولا أب أسكن الواو من قوله: (أن أسمو) ضرورة على التشبيه بالألف. والوجه نصبها. وقال الآخر: ماليَ عقْلي وهِمَّتي حسبي ... ما أنا مولىً ولا أنا عَرَبي إِنِ انتمَى مُنْتَمٍ إلى أحدِ ... فإنَّني منتمٍ إلى أدَبي وقال أبو الطيب في هذا المعنى: ما بقومي شَرُفْتُ بلْ شَرُفوا بي ... وبنفسي فَخَرْتُ لا بِجُدُودي وفي معناه أيضا قول علي بن العباس الرومي: فَلاَ تتَّكِل إلا على ما فعلتَه ... ولا تحسِبَنَّ المجدَ يورثُ بالنَّسبْ وليس يسودُ المرءُ إلاَّ بنفسه ... وإن عدّ آباءً كراماً ذوي حسبْ وقال بعض الحكماء: (منْ كَثُر أدبُهُ دامَ شرفُه). وقال الشاعر: وخير ما يجمع الفتى أدبُ ... يَزِينُه حين تُعْرَضُ النُّوبُ لا يعرف الله حق معرفةٍ ... من لم يكن عاقلاً له أدبُ قال إبراهيم المأمون: (من قَعَدَ به نسبُه نهض به أدبهُ) من كلام الأصمعي.

وشرفُ بني هاشم الذي أشار إليه المامون معلومٌ وهو الشرفُ الباذِخ الصميم، لأنهم فَضَلُوا الناس بطيب الأُرُوم، لكونهم قبيلة المصطفى صلوات الله عليه والتسليم. جَاء في الحديث عن واثلة بن الأسقع بن عبد العزيز الليثي قال: قال رسول الله صلى الله وسلم: "إن الله اصطفى (كنانة) من ولد (إسماعيل)، واصطفى من بني (كنانة) (قريشاً)، واصطفى من (قريشاً) (بني هاشم)، واصطفاني من (بني هاشم) " الحديث. وفي الحديث أيضاً عن عثمان بن الضحاك عن ابن عباس: "إن قريشاً كانت نوراً بين يدي الله تعالى قبل أن يخلق آدم بألفي عام يُسبِّح ذلك النور فتسبح الملائكة بتسبيحه. فلمَّا خلق الله آدم ألقى ذلك النور في صُلْبِه" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فأهبطني الله إلى الأرض في صلب آدم وجعلني في صلب نوح وقذفني في صلب إبراهيم ثم لم يزل ينقلني من الأصلاب الكريمة والأرحام الطاهرة حتى أخرجني بين أبوين لم يلتقيا على سفاح قط". وفي الحديث أيضاً عن عمرو بن دينار عن عبد الله بن عمر قال: إنا لَقُعُودٌ بفناء النبي صلى الله عليه وسلم إذ مرت بنا امرأة فقال بعض القوم: هذه ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أبو سفيان: مَثَلُ محمد في بني هاشم مثل الريحانة في وسط النَّتن. فانطلقت المرأة فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم يعرف في وجهه الغضب فقال: "مابال أقوال تبلغني عن أقوام. إن الله عز وجل خلق السماوات سبعاً فاختار العليا منها فأسكنها من شاء من خلقه، ثم خلق الخلق فاختار من الخلق بني آدم

واختار من بني آدم العرب، واختار من العرب مضر واختار من مضر قريشاً واختار من قريش بني هاشم واختارني من بني هاشم. فأنا من خيار الخيار. فمن أحب العرب فبحبِّي أحبهم، ومن أبغضَ العرب فببغضي أبغضهم". قال الحاكم أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحافظ النيسابوري: (فليعلم صاحبُ الحديث أن كل مضريّ عربيٌّ، وأن مُضر شعبةٌ من العرب، وأن كل قُرشي مُضريٌّ، وأن قريشا شعبةٌ من مُضر، وأن كل هاشمي قرشي، وأن هاشما شعبةٌ من قريش وأنَّ كل علويٍّ هاشميٌّ). وقد اختُلف في العَلَوِيَّةِ لمَ سُمُّوا علوية، فقيل إنه انتماء إلى علي رضي الله عنه. وقيل إنه انتماء إلى أعلى الرُّتَبِ برسول الله صلى الله عليه وسلم. قال أبو إسحاق: فهذا بيان شرف بني هاشم قد جئت به، وأرجع بحول الله إلى ما كنت بسبيله وسببه. قال النبي عليه السلام: "الحكمة تزيد الشريف شرفاً، وترفع المملوك حتى تجلسه مجالس الملوك". وقال علي رضي الله عنه: قيمة كل امرئ ما يُحسن ومن حديث محمد بن مسلم بن شهاب الزهري في هذا المعنى قال: قَدِمْتُ على عبد

الملك ابن مروان فقال لي: من أينَ قدِمتَ يازهريّ؟ قلت: من مكة. قال: فمن خلفْتَ بها يَسُودُ أهلها؟ قال: قلتُ: عطاء بن أبي رباح. قال: فمِن العرب أم من المَوالي؟ قال: قُلت: من الموالي. قال: وبِمَ سادَهم؟ قال: قلت: بالدِّيانة والرواية. قال: إن أهل الديانة والرواية ينبغي أن يُسَوَّدُوا، فمن يسود أهل اليمن؟ قلت طاووس بن كيسان. قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قال: قلت: من الموالي قال: وبِمَ سادهم؟ قال: قلت: بما سادهم به عطاءُ، قال: فمن يسود أهل مصر؟ قال: قلت يزيد بن أبي حبيب. قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قال: قلت: من الموالي قال: فمن يسود أهل الشام؟ قال: قلت مكحول قال فمن العرب أم من الموالي؟ قال قلت: من الموالي، عبْدٌ أَعْتَقَتْهُ امرأة من هذيل. قال: قلت فمن يسود أهل الجزيرة؟ قلت: ميمون بن مهران. قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قال: قلت: من الموالي. قال فمن يسود أهل خراسان؟ قال: قلت: الضحاك بن مزاحم. قال فمن العرب أم من الموالي؟ قال: قلت: من الموالي قال: فمن يسود أهل البصرة؟ قال: قلت: الحسن بن أبي الحسن قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قال: قلت: من الموالي. قال: ويْحَك فمن يسود أهل الكوفة قال: قلت: إبراهيم

النَّخَعي قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قال: قلت من العرب. قال ويْلَك يا زهرّي فرَّجتَ عني، والله لتَسُودَنَّ الموالي على العرب، حتى يُخْطبَ لها على المنابر والعرب تحتها. قال: قلت: ياأمير المومنين إنَّما هو أمرُ الله ودينه، من حَفِظَهُ سادَ، ومن ضيَّعه سقط. وقال الحجاج لخالد بن صفوان: من سيِّد أهل البصرة؟ فقال: الحسن قال الحجاج: وكيف ذلك وهو مولى؟ فقال: احتاج إليه الناس في دينهم، واستغنى عنهم في دنياهم. وما رأيت أحداً من أشراف أهل البصرة إلا وهو يرومُ الوُصول إليه في حلقته ليستمع إلى قوله ويكتب عِلْمَه. فقال الحجاج: هذا والله السؤْدد). وحكي عن العباس بن مصعب قال: خرج منْ مَرْو أربعةٌ من أولاد العبيد ما منهم أحدٌ إلا وهو إمام عصره: عبد الله بن المبارك، ومبارك عبدٌ، وإبراهيم ابن ميمون الصائغ، وميمون عبد، والحسين بن واقد وواقد عبد، ومحمد ابن ميمون الشكري، وميمون عبد. وفي الحديث عن عمر بن الخطاب رضي الله عيه أنه قال: (عليكم بتعلُّم العربية، فإنها تدلُّ على المروءة، وتزيد في الموَدَّة). قال أبو سليمان حَمدَ بن محمد بن إبراهيم الخطابي: بقيتُ زماناً أقول ما

معنى زيادتها في المودَّة حتى ظَهَر لي أَنَّها المُشاكلة. وذلك أن المعرفة بكل صناعة تجمع بين أهلها. وفي هذا المعنى يقول الشاعر: أَدَبٌ بيننا تَوَلَّدَ منه ... نَسَبٌ والأديبُ صِنْوُ الأديبِ وقال الآخر: إذا كان التَّآلُفُ باتِّفاقٍ ... وحسنِ تشاكُلٍ ثَمَّ الإخاءُ وقرأت في شعر أبي تمام في هذا المعنى: إنْ يُكْدَ مُطْرَفُّ الإخاء فإننا ... نغْدو ونسري في إخاء تالدِ أو يَخْتَلفْ ماء الوصال فماؤنا ... عذبٌ تحدَّر من غَمامٍ واحدِ أو يَفْتَرقْ نسبٌ يؤلِّف بيننا ... أدبٌ أقَمْناه مقامَ الوالِدِ وهذه الأبيات في قصيدة له خاطب بها علي بن الجهم. فلمَّا وقف ابن الجهم على القصيدة أخذ في وصف أبي تمام وتفضيله. فقال له أحد الحاضرين: والله لو كان أبو تمام أَخَاكَ مازدْتُ على مدحك له. فقال له علي بن الجهم: إلا يَكُنْ أخاً بالنسبِ فإنه أخ بالأدب. وقول أبي تمام في هذه الأبيات التي ذكرناها مأخوذٌ من قول

الفرزدق: يا بِشْرُ أنتَ فتى قريشٍ كلِّها ... ريشي وريشك من جناح واحِدِ وتبع البحترى أبا تمام، فقال: وأقلُّ ما بَيْني وبينكَ أنَّنا ... نرمي القبائل عن قبيلٍ واحدٍ وقرأت في كتاب الذيل لأبي علي البغدادي، قول الشاعر: العِلمُ زينٌ وتشريفٌ لصاحبه ... فاطْلُبْ هُديتَ فُنونَ العلمِ والأدَبَا كم من حسيبٍ أخي عيٍّ وطمطمةٍ ... فدْمٍ لدى القول معروف إذا انتسبا في بيت مكرُمةٍ آباؤهم نُجُبٌ ... كانوا الرؤوس فأضحى بَعْضُهم ذَنَبا وحاملٌ مُعرَق الآباء في أدب ... قال المعالي به والمالَ والحسَبَا أمسى عزيزاً عظيم الشأن مُشْتهراً ... في خدِّه صعرٌ قد ظَلَّ مُحْتَجِبا وصاحبُ العلم معروفٌ به أبداً ... نعم الخليطُ إذا ما صاحبٌ صَحِبَا وقال الآخر: العلم يجلو العَمى عن قلبِ صاحبِه ... كما يُجَلِّي سوادَ الظُّلْمة القمرُ وليس ذو العلم بالتقوى كجاهلها ... ولا البصير كأعمى ماله بصرُ

وقال الآخر: العلم ذخرٌ وكنزٌ لا نفاد له ... نِعْم القرينُ إذا ما صاحبٌ صَحِبَا قد يجمع المرء مالا ثم يتلفه ... عمَّا قَليلٍ فيلقى الذلَّ والتَّعَبَا يا جامع العلم نعْم الذُّخر تجْمعُهُ ... لا تعدلنَّ به درّاً ولا ذهَبا ومما رَويتُ بالإجازة من شعر أبي الغنائم سالم بن المحسن المقرئ في فَضْل العِلْم والحثِّ على طَلَبِه، قوله: طلابُ العلم همَّة كل شخصٍ ... شريفِ النفس محمود الفعالِ وربَّتما تقمصه زريٌّ ... فطال به إلى رتَبِ المعالي وليس بنافع لَكَنٌ وعيٌّ ... عريقاً في الرياسة والجلالِ وربَّ مموِّلٍ وافى فقيراً ... لمعرفة الحرام من الحَلالِ فأيُّهما الغنيُّ غنيُّ علمٍ ... أم الساعي به جهل السُّؤالِ كلامُ الناس كُلِّهمُ سواءٌ ... ولكن ما تساوى في المقال فللعلماءِ ألسنةٌ طوالُ ... تطول على المثَقَّفَة العَوَالي على الجُهَلاَءِ للعلماء فَضْلٌ ... كما فُضِلَ اليمينُ على الشِّمَاِل فلا تقْصِدْ بِعِلٍْم تَقْتَنِيه ... سوى مَرْضَاةِ رَبِّكَ ذي الجلال فمكتسِبُ العلوم لِنَيْلِ دنيا ... غريقٌ في الجهالةِ والضَّلاَل

ومن يبغي بها الأخرى مفازاً ... فقد حاز المعاني والمعالي وقال بعْضُ الحكماء: حياة الرُّوح العفافُ، وحياةُ الحِلْم العِلْم، وحياةُ العِلْمِ البيانُ. قال أبو إسحاق: وَقَدْ بايَنَ اللهُ سبحانه بَيْن الخواطر كما بايَن بيَنْ َالبَصَائر، فجَبَلَ بعْضَها على الفَهْمِ والبيان، فظَهر فيها واستبان، وجَبَلَ بعضها على الجهْلِ والعيِّ، فما تعرِفُ الرُّشْدَ من الغَيَّ، ولا المَكْروه من المَحْبوب، ولا المَْتروك من المَطْلوب. ولذلك قال صعصعة بن صوحان العبدي لمعاوية بن أبي سفيان حين سأله أن يَصِفَ الناس، فقال: (خُلِقَ الناسُ أخْيافاًً. فطائفةٌ للعبادة، وطائفةٌ للتجارة، وطائفةٌ للبأْس والنجدة، وطائفةٌ خُطباء، ورَجْرِِجَةٌ يكدرون الماء ويُغلُون السِّعر، ويُضَيِّ قون الطريق فيما بين ذلك). قوله: (خُلق الناسُ أخْيافاً) سماهم: أخيافاً لاختلاف أصولهم وطبائعهم. وإذا كان الإخوة لأمٍّ واحدة وآباء شتى فهم أخيافٌ أيضاً. قال أبو محمد بن قتيبة وغيره، أصل الخَيَف في الخَيل. وهو أن تكون إحدى عيني الفرس زرقاء والأخرى كحلاء. وقال الشاعر: الناسُ أخيافٌ وشتى في الشِّيم ... وكلُّهم يجمعُهم بيتُ الأدَمْ

وقولُه: رجْرِجَة: أصل الرِّجْرِجة فيما قال أبو محمد بن قتيبة وغيره من أهل اللغة: بقيةٌ تبقى من الماء في الحوض كَدِرة خاثِرَة لا يقدر أحد أن يَشْرَبها. هذا هو أصلها. فشبه صعصعة شِرار الناس وسَقَطهُم بها. وقد شبههم بها أيضاً الحسن البصري وذلك أنه لمَّا خرج يزيد بن المهلب، ونَصبَ راياتٍ سوداً وقال: (أدْعُوكُمْ إلى سُنّة عمر). فقال الحسن في خبر طويل، نَصَبَ نَصْبا علَّق عليه خِرقاً ثم أتبعه رجرجة من الناس هباء. والرِّجْرَجة أيضاً: ما مجَّت الإبل مِنْ أفْواهها. قال ابن الأعرابي: كان صعصعة أحد الخطباء وتكلّم ذاتَ يوم في مجلس فأطال، فقال له بعض القرشيين: جَهِدْتَ نفسك أبا عمر حتى عَرِقْتَ وَرُبِّبَ صُدْغاكَ. فقال صعصعة: (إن العتاقَ نَضَّاخةٌ بالعَرق). وقال يحيى بن مَعِين: (صعصعة وزَيد وسيحان بنو صوحان كانوا خطباء من عبد القيس. قُتِل زيد وسيحان يوم الجمل).

وقال غير يحيى: كان صعصعة بن صوحان العبدي مسلماً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولم يلْقَه ولم يرَه، صغر عن ذلك، وكان سَيّداً من سادات قومه عبد القيس، وكان فصيحاً خطيباً عاقلاً لسناً ديِّناً فاضلاً بليغاً يعَدُّ في أصحاب علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وصعصعة بن صوحان هذا هو الذي قال لعمر بن الخطاب رضي الله عنه حين قسم المال الذي بعث اليه أبو موسى الأشعري. وكان المال ألف ألف درهم، وفَضُلتْ منه فَضْلة. فاختلفوا عليه حيثُ يَضَعُها فقام عمر خطيباً فحمد الله وأثنى عليه، وقال: (أيها الناسُ قد بَقِيَتْ لكم فَضلَةٌ بعد حُقوق الناس، فما تقولون فيها؟ فقام صعصعة بن صوحان هذا وهو غُلام شاب. فقال: ياأمير المومنين إنما يُشاَوَرُ الناسُ فيما لم يُنَزِّل الله فيه قرآناً، فأما ما أنْزَل الله فيه القرآن ووضعه مواضعهُ، فضَعْهُ في مواضعه التي وضَعه الله فيها. فقال له عمر: صَدَقْتَ، أنتَ منّي وأنا منك). وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (الناسُ ثلاثة: عَالِمٌ رَبَّانيّ، ومتعلّم على سبيل نجاة، وهمجٌ ساعٍ، لكلّ ناعِق أتباع يميلون مع كل ريح، لم يسْتضيئوا بنور العلم ولم يلجؤوا إلى ركْن وثِيق). قوله رضي الله عنه: (عالِمٌ ربَّاني). فالرَّبَّاني هو العالمُ الحكيمُ التَّقِي. وفي كتاب الله عز وجل (وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ) وقال الحسن؛ أَيْ فقهاء وقال: ابن جبير: أي حكماء

أتقِياء. وقال ابن زيد: أي كونوا مُدَبِّري أمر الناس. وقال مجاهد بن جبر: الرَّبَّانِيُّون فوْقَ الأحْبار وقيل: الرَّبَّانيُّ هو العالم الكامل العِلْم. وقال أبو عمر المطرز عن أبي العباس ثعلب: العربُ تقول: رَجُل ربَّاني وربِّي إذا كان عاملاً معلّماً. وقال محمد بن الحنفية حين مات ابن عباس: اليوم ماتَ ربَّاني هذه الأمة. وقال أبو العباس ثعلب: (إنما قيل للفقهاء ربَّانيُّون لأنهم يُرَبّون العلم؛ أي يقَومون به). وقال أبو إسحاق الزجاج: الرَّبَّاني: منسوب إلى عِلْم الرَّبّ، والألف والنون فيه للمبالغة، كما يقال للعظيم اللِّحْية لِحْياني، وللعظيم الرَّقبَة رقباني،

وكذلك صاحب علم الرَّبِّ، وهو الدِّينُ الذي أَمَرَ به الرَّبُّ سبحانه وتعالى، وقاله أيضاً أبو الحسن الرماني. وقال غيرهما: الربَّاني هو الذي يدير الأُمُور ويُصْلِحُها في الولاية. يقال: ربَّ أمْرَهُ يرُبُّه ِرَبابَةً ورَبّاًّ؛ وهو رَبَّان، إذا أصلحه بتدبيره، وقال علقمة: وكنتُ امرأ أفضت إليك ربابتي ... وقبلك ربَّتْني فضِعتُ رُبُوبُ الرُّبُوب جمع رَبّ. ونظيره: نَعِسَ يَنْعَسُ وهو نعْسان. وأكثر ما يجيء فعلان من فعِل يفْعل بكسر العين في الماضي وفتحها في المستقبل. نحو عَطِشَ يعطشُ فهو عَطشان، وغضِب يغضبُ فهو غضبان، وما كان مثله من بابه. وربَّ أيضا وأربَّ بمعنى دام، أقامَ. قرأتُ في كتاب (النوادر) لأبي علي البغدادي: دخل أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين على عمر بن عبد العزيز رضي الله عنهما. فقال: يا أبا

جعفر أوصني. قال: أُوصيكَ أنْ تتخِذ صغيرَ المسلمين ولداً، وأوسطهم أخاً، وأكبرهم أباً. فارحم ولدك وصِلْ أخاكَ وبِرَّ أباك. وإذا صنعتَ معروفاً فَربِّه. قال أبو علي: فربِّه أي أدِمْه. يقال: رَبَّ بالمكان وأرَبَّ؛ إذا أَقام وأدامَ. قال بشر: أرَبَّ على مغانيها مُلِثٌّ ... هزيجٌ وَدْقُه حتَّى عفاها ومنه قول أبي تمام الطائي، قرأته في شعره: بِمُلِثٍّ على الفِراق ِمربٍّ ... ولِشَأوِ الهوى البَعِيد طَلُوبُ وقول علي رضي الله عنه: (سَاعٍ لكل ناعقٍ) أي يعدو عَدْواً شديداً إلى كلِّ مُصَوِّت وصائح. ومنه قول الأخطل: فانْعِقْ بِضَأنِكَ ياجَريرُ فإنَّما ... منَّتْكَ نفْسُك في الخَلاَء ضَلاَلاَ وقال صاحب العين: نَعَقَ الراعي بالغنم ينْعِقُ نعيقاً: إذا صاح بها زَجْراً. ونعَق الغرابُ نُعاقاً ونَعيقاً. والناعقان: كوكبان من كواكب الجوزاء، أحدهما رِجلها اليسرى، والأخرى منْكِبها الأيمن، وهو الذي يُسَمى

الهنْعة. وهما أضوأُ كوكبين في الجوزاء. وأَصلُ النَّعيق: الصِّياحُ، فالنَّاعِقان الكوكبان المضيئان من الجوزاء، لأنهما كالرَّاعيين الصائحين بالغَنَم. وأنشدنا شيخنا أبو الحسن علي بن هشام. قال: أنشدنا الفقيه الحافظ أبو الطاهر أحمد بن محمد السِّلفي لنفسه في معنى قول علي رضي الله عنه وصعصعة: ترى فئة لدى الهيجاء أسْداً ... وآلافا منازلهم حجالُ وأقواماً خواطرهم جمادٌ ... وقوماً جُلُّ شعرهم ارتجال وللديوان كُتَّابٌ كفاة ... تعنَّوا في تأدّبهم وجالوا وللأخبار والسنَّن الجلايا ... ومعرفةِ الرجال كذا رجالُ تعالى الله لم يخلق كفاء ... وفي هذا البساط لنا مجالُ ونظر المأمون إلى الحسن بن رجاء في ديوانه، فقال له: من أنتَ ياغلام؟ قال له الحسن: الناشئُ في دوْلتك، المُتَقَلِّبُ في نِعْمَتِك، وصريح أدمِك، عَبْدُك وابنُ عبدك الحسن بن رجاء. فقال له المأمون: بالأدب تفاضلت العقول. وأمر له بألف دينار، وأمر أن يجعل له ديوان في خاصته من مجالس الدّيوان. فكان ذلك سبب حرص الحسن على الأدب والزيادة منه.

ودخل وفْدٌ من العرب على هشام بن عبد الملك، وفيهم درواس بن حبيب، وعليه شمْلَتان، وله ذُؤابة، وهو يومئذ ابن أربع عشرة سنة، فأحْجَمَ القوم وهابوا هشاماً، فوقعت عين هشام على درواس فاستصغره. فقال للحاجب: ما يشاء أحدٌ أن يصِل إِلَيَّ ألاَّ قَدِر حتى الصبيان. فعلم درواس أنه يريده، فقال: ياأمير المومنين إنَّ دُخولي لم يخْلُ منك بشيء، ولا أتنقصك. ولكنَّ هؤلاء القوم قدموا لأمر فأحْجَموا عنه. (وإنَّ الكلام نشر والسكوتَ طَيٌّ). لا يُعرفُ إلاّ بنشره. قال: فانْشُرْه لاَأَبَالك. وأعجبه كلامه فقال: ياأمير المؤمنين إنه أصابَتْنا سنون ثلاث: سنة أذابت الشَّحم، وسنة أكَلَتَ اللحم، وسنة أنْتَقَت العظم. وفي أيديكم فُضول أموال، فإنْ كانت لله ففرقوها على عباده، وإنْ كانت لهم فعلامَ تحْبسُونها عنهم، وإن كانت لكم فتصَدَّقوا بها عليهم، فإنَّ الله يجزي المتصدقين، ولا يُضيع أجرَ المحسنين. وإنَّ الوالي من الرَّعية لكالرُّوح من الجسد، ولا حياة له إلا بها. فقال هشام: ماترك الغلُاَمُ لنا في واحدة من الثلاث عُذْرا. وأمر أن تقسم في البوادي مائة ألف درهم، وأمر لدرواس بمائة ألف. فقال: ياأمير المؤمنين اردُدْها إلى جائزة العرب. فإني أخاف أن تعْجِزَ عن بلوغ كِفايتهم. قال: فهنا حاجة. فقال: ما لي في خاصة نفسي دون عامة المسلمين حاجة. قال:، ولمَّا أمر المأمون بِقَبْضِ ضِياع عبد الملك بن صالح الهاشمي دخل عليه ابنه محمد. فقال: السلام عليك ياأمير المومنين محمد بن عبد الملك ابن سليل نعمتك، وابن دولتك، وغصنٌ من أغصان دَوحَتِك. أتأذَنُ

لي في الكلام؟ قال نعم. فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على محمد صلى الله عليه وسلم، ثم قال: نسألُ الله تعالى حياطة ديننا ودُنْيانا، وَرعاية أقصانا وأدنانا ببقائك يا أمير المومنين، ونسأله أن يزيد في عمرك من أعمارنا، وفي آثارِك من آثارنا، ويقيك الرَّدى بأسماعنا وأبصارنا مقام العائذ بظنِّك الهارب إلى حَرَمِك وفضْلكَ، الفقير إلى رحمتك وعفوك. فأعجب المأمون بكلامه. وأمر بردِّ ضياع أبيه عليه. ودخل محمد بن معاذ الرازي على أبي محمد عبد الله العلوي العمري وهو بِبَلْخ، فقال له العمري: ما تقول فينا أهْلَ البيت؟ فقال: وما أقولُ في غَرْسٍ غُرسَ بماء الوحي، وطينٍ عُجنَ بماء الرسالة. فَهَلْ يفوح منها إلاَّ مِسْكُ الهُدى، وعَنْبَر التُّقَى. فقال له: أحسنْت. وأمر أن يُحشى فمُه دُرّاً. ثم زار العمري من غده محمد بن معاذ فقال له محمد: إنْ زُرتنا فَبِفَضلِكَ، وإن زُرناك فلفضلك. فلك الفضل زائراً ومزوراً. وحكى أن المعتصم صار ذات يوم إلى خاقان يعودُه وهو مريض، والفتح ابنه يومئذ غلامٌ صغير. فقال له المعتصم حين دخل إلى أبيه: أيُّما أملح؟ دار أمير المومنين، أوْ دار أبيك؟ فقال له: الفتح: إذا كان أمير

المؤمنين في دار أبي فهي أحسن. وكان في يد المعتصم فِصٌّ. فقال له: يا فتح رأيتَ شيئاً أحسن من هذا الفصِّ؟ فقال: نعم يا أمير المومنين، اليد التي فيها الفِصُّ أحسن. ومرَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه بصبيان يلعبون على الطريق، فيهم عبد الله بن الزبير فهرب الصبيان وبقي عبد الله. فقال له عمر لمَ لَمْ تفرَّ كما فَرَّ أصحابك؟ فقال له: لم يكن لي جُرْم فأفرَّ منك، ولا كان الطريقُ ضيقاً فأوسعه عليك. وكان إياس بن معاوية أذكى الناس، وأفهمهم وأفصحهم. حكي أنه دخل الشام وهو غلام صغير، فوصل إلى القاضي في حقٍّ له، فتكلَّم قبل خصمه، وكان الخصم شيخاً. فقال له القاضي: أَتَقْدُمُ شيخاً كبيراً؟ فقال له: الحقُّ أكبر منه. فقال له القاضي: اسكتْ. فقال: ومنْ ينطقُ بحُجَّتي؟ قال ما أظنكَ تقول حَقّاً، فقال: لا إله إلا الله، فقام عند ذلك القاضي، ودخل على عبد الملك، فأخبره بخبره. فقال: اقض حاجته الساعة. وأخرجه من الشام لئلا يُفسد على الناس. وحكى الأصمعي، قال: قَدِمَ أعرابيٌ إلى بعض الولاة، فقال له الوالي: قل

الحقَّ، وإلاَّ أَوْجَعْتُكَ ضرباً. فقال له الأعرابي: وأنت أيضاً، فاعمل بالحق، فَوَ الله لمَا تواعدك الله به من العقوبة إنْ أنت خاَلَفْتَهُ، أعظم مما تَواعدْتني به منْ ضَرْبكَ إيّاي. ولما ولى المامون يحيى بن أكثم قضاء البصرة أراد بعض أهلها أن يَضَعَ منه لحداثته، فقال له: كَمْ سنُّ القاضي؟ قال: كسن عتاب بن أُسَيْد حين ولاَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم مكَّة، فجعل ابن أكثم جوابه احتجاجاً. وكانت سن عتاب حين ولاه النبي عليه السلام مكة إحدى وعشرين سنة. وقيل ثلاثاً وعشرين. ودخل وفد العراق على عمر بن عبد العزيز رحمه الله، فافتتح شاب فيهم الكلام. فقال عمر: كبِّروا كبِّروا؛ أي يتكلم الكبير منكم. فقال الغلام: لو كان هذا بالسِّنِّ يا أمير المؤمنين لَتَقَدَّمَك شيوخُ بني مروان. وقال مروان بن الحكم لحُوَيْطب بن عبد العُزَّى: تأطَّر إسْلامُك، أيها الشيخ، حتى سبقك الأحداث. فقال حويطب: الله المستعان، والله لقد هَمَمْتُ بالإسلام غَيْرَمَا مَرَّة. كلُّ ذلك يعوقني أبوك عنه، وينهاني، ويقول: تَضَعُ شرفك، وتَدَعُ دين آبائك لدينٍ مُحْدث، وتصير تابعاً. فأُسْكَِت مروان وندم مروان على ما قال.

وحكى الصلت بن مسعود. قال: كنا عند سفيان بن عيينة فتضاجرنا. فقال سفيان: أليس من الشقاء أن أُجالِس التابعين ثم أجالِسُكم. جالستُ ضمرة بن سعيد وجالس أبا سعيد الخدري وجالست عبد الله بن دينار، وجالس جابراً حتى عدّ جماعة من التابعين. فقال له غلام كان في المجلس: أتُنصف يا أبا محمد؟ فقال: نعم. فقال الغلام: والله لَشقاء التابعين بمُجالستكَ بعد الصحابة أشدُّ من شقائك بمُجالستنا بعد التابعين، قال: فأبْلس ابن عُيَيْنَة، وتَمَثَّل بشعر أبي نواس: خَلِّ جَنْبَيْك لِرَامٍ ... وامْض عنه بسلامِ مُتْ بِدَاء الصَّمْت خيرٌ ... لَكَ مِنْ دَاءِ الكَلاَمِ قال أبو إسحاق: قوله: أبْلَسَ، يريد سكَّتَه. يقال: أبْلَسَ الرَّجُلَ فهو مُبْلس، إذا سكَتَ حُزْناً.

قال العجاج: يا صاحِ هلْ تعرف رَسْما مُكْرسا قال نَعَم أعرفه وأبْلَسَا وانجَلَتْ عيناه من فَرْط الأسَا وأنشد لرؤبة: وحضرتْ يوم الخميس الأخْماسْ ... وفي الوجوه صُفرةٌ وإبلاْسْ يعني اكتئاباً وكُسُوفاً. قال أبو عبيدة: المُبْلِس السَّاكت اليائس. وفي حديث عمران بن حصين فيما روى يحيى بن سعيد عن هشام

عن قتادة عن الحسن عن عمران أنه قال: كنا في سفر مع النبي عليه السلام، فرفع صوته بهاتين الآيتين، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ). فتأشب أصحابه حوله، وأْبلسُوا حتى ما أوْضَحوا بضاحِكة، أي سكتُوا حزْناً. ويقال: المُبْلِسُ الساكتُ المُنْقَطعُ الحُجَّة، ويقال: المبْلِس الحزين النادم. والإِبْلاَسُ أيضا: اليَأْسُ من رحمة الله. قال الله تعالى (أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ). أي آيِسُون من الخير والرحمة. فأما إِبْلِيسُ، فاسم أعجمي معرّف، يدل على ذلك تَرْك صرفه، لأنه لا ينصرف للعجمة والتعريف. هذا قول أبي إسحاق الزجاج وغيره من جِلَّة النحويين. وقال أبو عبيدة وغيره: إبليسُ مشتق من أبلس؛ أي يئس من رحمة الله، ولم ينصرف لأنه معرفة ولا نظير له في الأسماء، فشبه بالأسماء الأعجمية التي لا تجرى. وقال: إسحاق لا يجري، وهو من أسحقَه الله إسحاقاً. وأيوب من آب يؤوبُ على وزن فيْعول كقَيوم من قام يقوم. وردَّ هذا القول غيره من النحويين وأبو بكر بن السراج وأبو الحسن الرماني وغيرهما، وقالوا هي ألفاظ من العُجْمَة أُعربت ووافقت ألفاظ العربية.

وأما قول أبي عبيدة ومَنْ قال بقوله، لا نظير لإبليس في أسماء العرب، فمردود لأنهم يقولون: إِحْريض لصبغٍ أحمر قال الراجز: مُلتهب كَلَهب الإحريضِ ... يزجى خراطيم غَمَامٍ بيضِ وهو إفعيل مثل إبليس، وإغريض للَّطلع، وثوب إضريج مُشبَعُ الصَّبْغ، وقيل: هو من الصُّفرة خاصة. قال النابغة: تُحيِّيهمُ بيض الولائد بينهم ... وأكسية الإضْريجِ فوق المَشَاجِبِ وقال الآخر: والبغايا يركضن أكسية الإض ... ريج والشَّرْعبي ذَا الأذْيالِ وقالوا: سيفٌ إصليت للماضي الكثير المضاء. قال الراجز: كأنني سيفٌ بها إِصْلِيتُ وقالوا سيف إبريق، وهو إفعيل من البريق. قال ابن أحمر: تقلَّدْتَ إبريقا وعَلَّقت جعْبةً ... لتملك حياً ذا زُهاء وجامِل

وقالوا: إزميل ووزنه إفعيل. قال الشاعر: هُمُ مَنَعوا الشيخَ المُنَافِيَّ بعدما ... رأى حَمَّة الإزْمِيل فوق البَرَاجِمِ وأشبه هذه كثيرة. وإنما سبيل إبليس كسبيل إنجيل في أنه معرَّف غير مشتق، قاله الرماني وغيره. وقد قيل: إن إنجيل من النَّجْل وهو في الأَصْل. وقال أبو العباس ثعلب: أَبْلَسَ الرجل إذا سكت حزناً وكآبة. وأخْرَد إذا سكت حياء، وأقرد إذا سكت ذلاّ. وأنشدً. عن ابن الأعرابي: ولست بقَوَّالٍ لِمَوْلاَيَ إن جَنَى ... هلكت ولا إن ضامك القوم أقردُ ولست بقوال لذي الزَّاد أبْقِهِ ... فإنكَ إنْ لم تُبق زَادك يَنفَدُ وفي الحديث عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي عمرو الشيباني وفيه أيضاً عن عطاء الخراساني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "وإياكم والإِقْرَاد". قالوا يا رسول الله وما الإِقْرَادُ؟ قال: "الرجلُ منكم يكون أميراً أو

عاملاً فيأتيه المسكين والأرملة فيقول لهم: مكانكم حتى أنظر في حوائجكم. ويأتيه الشريف والغني فيُدْنِيه، ويقول: عجِّلوا قضاء حاجته ويترك الآخرين مُقْرِدين". ونظر الحطيئة إلى ابن عباس وهو يتكلم في مجلس عمر، فقال: منْ هذا الذي نزل عن الناس في سنِّهِ، وعلاهم في قوله؟ وقد روى هذا الخبر أبو عمرو بن العلاء رحمه الله. فقال: نظر الحطيئة إلى ابن عباس في مجلس عمر غالباً عليه. فقال: من هذا الذي برع الناس بعلمه ونزل عنهم بسِنِّه؟ فقالوا: عبد الله بن عباس. فقال فيه أبياتاً، منها قوله: إنِّي وَجَدتُ بيان المرء نافلةً ... تُهدى له وَوَجَدْتُ العِيَّ كالصَّممِ وكان عمر يقول: (نعم تُرجمانُ القرآن ابن عباس) وقال القاسم بن محمد: ما رأيتُ في مجلس ابن عباس باطلاً قطُّ، وما سمعتُ فتوى أشْبَه بالسُّنَّة من فتواه. وروى سليمان بن مهران الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق أنه

قال: كنتُ إذا رأيتُ ابن عباس، قلت: أجمل الناس، وإذا تكلَّم، قلتُ أفصح الناس، وإذا تَحدَّثَ قلتُ: أعلم الناس. وفيه يقول حسان بن ثابث من أبيات له: إذا ما ابن عباس بدا لك وجْهُه ... رأيتَ له في كلِّ أحواله فَضْلاَ إذا قال لم يَتْركْ مَقَالاً لِقَائلٍ ... بمنتظمات لا مدى بينها فَصْلاَ كَفَى وشَفَى ما في النُّفُوس فلم يدعلذي أربٍ في القول جِدّاً ولا هَزْلا وكان عمرو بن دينار يقول: (مارأيتُ مجلساً أجْمَع لكل خير من مجلس ابن عباس؛ الحلال والحرام وتفسير القرآن والعربية والشعر والطعام). وحَضَر مجْلِسَه رجلٌ من الزُّهاد فسمِع القارئ يقرأ (وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا). فقال الرجل: والله ما أنْقَذهمْ منها. وهو يريد رجوعهم إليها. قال ابن عباس: خذوها مِنْ غير حكيم. ووفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن الأهتم وقيس بن عاصم

والزبرقان بن بدر، فتكلم أحدهم بكلام أعجبه. فقال: "إنَّ منَ البيان لَسِحْراً". وفي حديث عبد الله بن عمر فيما روى زيد بن أسلم عنه. قال: أقْبَلَ رَجلان من المشرق فخطبا، فعَجِب الناس لبيانهما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ مِنَ البَيان لسِحْراً". وسمع عمر بن عبد العزيز رحمه الله رجلاً يتكلم فقال: "هذا والله السِّحْرُ الحلال". وهذا مِمَّا نظمه أبو تمام في قوله: فأينَ قصائدٌ لي فيكَ تَأبى ... وتأْنَفُ أنْ أُهان وأنْ أُذالا من السحْر الحلَال لمُجْتَنِيه ... ولم أرَ قبلها سِحْرا حَلالا وفي حديث أُبَيّ بن كعب فيما روى أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث عن مروان بن الحكم

عن عبد الرحمن بن عوف عن أُبَيّ بن كعب أنه أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ مِنَ الشِّعْر حِكْمَة". وهذا حديث اجتمع فيه من الصحابة من يروي بعضهم عن بعض. وفي حديث عبد الله بن مسعود فيما روى عبيدة السلماني عنه. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ من البيان سِحْراً وإنَّ من الشعر حكماً". قال أبو إسحاق: والسِّحْرُ في هذا الحديث والذي قَبْلَه، معناه: البيان في فطنة. وقال: وقال صاحب العين: السِّحر عَمَل يقرِّبُ إلى الشيطان ومن السحر: الأُخْذَة التي تَأْخُدُ العين حتى تظُنَّ أن الأمر كما ترى وليس كذلك، وجمعها:

الأُخْذ. والسِّحْرُ والحِيلَةُ والكَهَانَة نَظَائِر، وسمي سحراً لِخَفَاءِ سببه؛ ولذلك يوهم قَلْب الشيء عن حقيقته، كفعل السَّحرة في وقت موسى عليه السلام لما أوهموا أنَّ العِصيَّ والحبال قد انقلبت حيواناً. قال الله تعالى (يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى). ومعنى قوله عليه السلام: "وإنَّ من الشِّعْر حكماً"؛ أي موْعِظَة، لأن كل كلمة وعظتكَ أو زَجَرَتْك أو دَعَتْك إلى مَكْرُمةٍ وصلاح ونهتْك عن مُنْكر وقبيح، فهي حِكْمَة. وعلى هذا يتأول قوله: "الحِكْمَةُ ضالة المؤمن". فأما قوله (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ). فقال ابن عباس: الحكمة: هي المعرفة بالقرآن نَاسِخِه ومَنْسوخه ومُحْكَمِه ومتشابهه، وحَلالِه وحَرَامِه وأمثاله، ومقدّمه ومؤخره. وقال قتادة: الحِكْمَةُ: الفَهّم. وقال مجاهد: الحِكْمَةُ: العقل والفقه والإِصَاَبُة في القول. وقيل غير هذه الأقوال. وأما الحُكْمُ فمعروف. قال أبو بكر بن دريد: يقال للرجل إذا حكَم بين الناس: حَكَمَ يَحْكُم حُكْماً، فإذا صار حَكيماً يقال له: حَكُمَ يحْكُم، ومنه قول النمر بن

تولب: وَأَبْغِض بَغِيضك بُغْضاً رُوِيداً ... إذا أنْتَ حاولتَ أن تَحْكما وقد حَكُم الرجل يَحْكُم حِكْمَةً وحُكْماً وهو حَكِيم. ومنه قول النابغة: احْكُم كحُكم فتاة الحي إذْ نظرتْ ... إلى حمامٍ شراعٍ وارد الثَّمدِ أي كُنْ حكيما مصيباً كما كانت هذه الفتاة حكيمةً. ومنْ نظر بين اثنين بالعدل، والمنع من الجَوْر فهو حَكَمٌ. قال الله عز وجل (فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا). ويقال: حَكَم الحاكم بين القوم؛ أي ألْزَمَ كلَّ فريق منهم ما يجب عليه، ومنع من الجور. وقال صاحب العين: "الحَكَمُ: الله تبارك وتعالى وهو أحكم الحاكمين وهو الحكيم"، والحِكْمَةُ مرجعها إلى الِعْلُمِ والحِلْمُ والعَدْل. وقال أبو إسحاق الزجاج: أصل الحُكم في اللغة تَعْديل الشيء ومنْع الجور أن يدخله. فمن ذلك قولهم: أحْكمْتُ زيداً، أي منَعْتُهُ من أن يجهل على الناس، ومن هذا قول جرير: أبَنِي حَنيفَة أَحْكِمُوا سُفهاءَكُمْ إِنِّي أخاف عليكم أن أَغْضَبَا

أي امنَعُوهم أن يتعرضوا إليَّ. ويقال: حكَمتُ الفرس وأحكمْتُها، وفرسٌ مَحْكُوَمٌة ومُحْْكَمَة؛ إذا جعلتُ في رأسها الحَكَمَة. والحَكَمَةُ ما أحاط من اللجام بالحَنَكَيْن وفيهما العذَارَان، وسُمِّيت حَكَمَة لأنها تمنعه من الجَوْر مما يراد منه وفي الحديث المأثور: "في رأس كل عبد حَكَمَة"، إذا همَّ بسيئة فشاء الله أن يقْذَعه بها قَذَعه، ومعنى قَذَعه: منعه. قال أبو العباس: أَحْكَم فلان عمله، إذا بالغ فيه فأصاب حقيقته. وأمْرٌ مُحْكمٌ لاخلل فيه، وأمر مُسْتَحكم؛ إذا لم يكن فيه مَطْعن. ويُقال: قد أحكمتْ فلاناً التجاربُ؛ ومعناه أن التجارب قد جعلته مُحَكِّما يمنع من الجور عن القصد. وكلُّ عمل محكم فقد مُنع من الفساد. ويقال هذه قصيدة مُحْكَمة وحَكِيمة؛ بمعنى قول الأعشى: وغريبةٌٍ تأتي الملوك حكيمة ... قد قُلتُها لِيقال مَنْ ذا قَالَها وقال عمرو بن مالك: قوالُ محكمة نقَّاض مبرمة ... فتّاحُ مبهمة حبَّاس أَورادِ ويقال: احْتَكَم فلانٌ في مالِ فلان، إذا جاز فيه حُكْمُه. والاسم الأحكومة والحُكومة. والإِحكامُ والإتْقانُ والانتظام والاتساق نظائر في اللغة. فأما قولُه تعالى في قضاء يحيى بن زكريا عليهما السلام (وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا). فمعناه الفَهْم في قول أكثر أَهْلِ العِلْم. وقال معمر: قال الصِّبيان ليحيى:

تَعَاَل حتى نلْعَبْ. فقال يحيى: ما للَّعِبِ خُلِقْتُ. فهذا معنى قوله (وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا). وفي الحِكْمَةِ أقوالٌ شتى، وقد جئنا ببعضها. وقيل: إن الحكمةَ المَعْرِفَةُ بالدين والفقه. وقيل: هي العلم بالأَحْكَامِ التى لا يُدْركُ عِلْمُهَا إلاَّ من قبل الرسل عليهم السلام. وقيل: الحِكْمَةُ شيءٌ يجعله الله تعالى في القلب يُنَوِّره، كما يُنَوِّر البَصَر فيُدرك الشيءَ المبْصر. وقيل هي التي تقف بالمرء على مرِّ الحقِّ الذي لا يشوبُهُ باطل. قال الله تعالى (حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ). رجع وسئِلت عائشة رضي الله عنها، هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمثل بشيء من الشعر؟ فقالت: نعم، كان يتمثل بشعر ابن رواحة: سَتُبدي لك الأيام ما كنتَ جاهلاً ... ويأتيكَ بالأخبارِ منْ لم تُزَوِّدِ قال أبو إسحاق: كذا ورد هذا الخبر، والصحيح ما روى أبو بكر محمد بن يحيى الصولي

أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما كان يقول: (ويأتيك من لم تزود بالأخبار). فيقول له أبو بكر رضي الله عنه إنما هو (ويأتيك بالأخبار ما لم تزود). فيقول صلى الله عليه وسلم: (ذا وذاك واحد سواء) والدليل على صحة خبر أبي بكر الصولي قول الله تعالى (وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ). والمعنى أي أن يقوله. وجعل الله عز وجل ذلك علماً من أعلام النبي عليه السلام لئِلا تدخل الشُّبْهة على منْ أُرْسِل إليهم. فيظُنُّوا أنه صلى الله عليه وسلم قَويٌّ على القرآن، بِمَا في طبعه من القوة على إنشاء الشعر، ولا اعتراض على هذا الملحد فيما يتَّفق الوزْن فيه من القرآن، وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم، لأنَّ ما وافق وزْنُهُ وزْن الشعر، ولم يُقْصَدْ به إلى الشعر، ليس بشعر. ولو ثَبَثَ أن يكون شعراً، لكَان كلُّ مَنْ نَطَقَ بكلامٍ مَوْزُونٍ، من العامة الذين لا يعْرفون وزْنَ الشعر، شاعراً. وقد بين الأئمة المتقدمون هذا المعنى بياناً شافياً. والبيت المتقدم الذكر (ستبدي لك الأيام) ثابث في قصيدة طرفة بن العبد، أحد الشعراء الستة، وأول القصيدة: لخولة أطلال ببرقة تهمد ولما قال كعب بن مالك: جاءت سخينة كي تُغَالِبَ ربَّها ... فلْيغْلِبَنَّ مُغَالِبُ الغَلاَّبِ

قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد شكرك الله يا كعب على قولك هذا". وهذا البيت لكعب بن مالك في قصيدة له قالها في يوم الخندق، وهو آخر بيت منها، وفيها يقول: نأوي إلى ظِلِّ اللِّوَاء كأنَّهُ ... في صَعْدَةِ الخَطِّيِّ فيءُ عُقابِ ومَواعِظٌ مِنْ رَبِّنا تُهْدى لَنَا ... بِلِسان أزهرَ طَيِّبِ الأثْوابِ أعْيَت أباكربٍ وأَعْيَتْ تُبَّعاً ... وأبَتْ بسالَتُها على الأعرابِ عرِضت علينا فاشتهينا ذِكْرها ... من بعدما عُرضت على الأحزاب حِكَماً يراها المجرمون بِزَعْمِهمْ ... حرجاً ويفقهها أولو الألباب جاءت سخينة كي تغالب ربَّها ... فلْيُغْلبَّن مُغَالبُ الغَلابِ قوله: (نَأْوي إلى ظِلِّ اللواء)؛ أي نرجع إليه. واللِّواء؛ لِواء الحرب، ولواء الأمير وهو معروف، وجمعه ألوية مثل: سِقاء وأسْقية ووِعاء وأوعية، واللواء ممدود، ويجوز قصره. وقال زهير في مَدِّه: وتُوقَدْ نارُكم شَرَراً ويُرفَعْ ... لكم في كلِّ مَجْمَعَةٍ لوَاءُ وقال حسان بن ثابث في قصره، من أبيات له قالها في مسافع بن عياض بن صخر: لو كنت من هاشم أو من بني أسدٍ ... أو عبد شمسٍ أو أصحاب الِّلوَىَ الصِّيدِ يعني بأصحاب اللواء، بني قصي. وفي حديث أبي سعيد الخدري فيما روى عطية عنه قال: قال النبي

صلى الله عليه وسلم: "يرفع للغادر لواء بقدر غدرته يوم القيامة فيقال هذا لواء غدرة فلان". فأما اللوى بالقَصْر فهو ما الْتَوى من الرَّمل، ويكتب بالياء وجمعه أَلْواء. قال ذو الرمة: ولَم تُبق ألْواءُ الثَّمَانِي بَقِيَّة ... من الرُّطْبِ إلاّ بَطْنُ وادٍ وحاجِرُ وقوله: فَيْءُ العُقاب، فالعقاب الطائر المعروف. ويقال للراية العقاب تشبيها بالطائر،، ومنه قول الشاعر: مراسٌ لا يكون له كفاء ... إذا جال الكفيف عن العُقَابِ يعني: عن اللواء. والفيء: ما تحوَّل عن جهة الغداة برُجوع الشمس عنه. ويقال: تفَيَّأتُ في الشجر وفَيَّأت الشجر. قال الله تعالى: (يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ). قال قتادة وغيره من أهل العلم: يعني أول النهار وآخره. وجاء على توحيد اليمين، وجَمْع الشمال، لأن اليمين وإن كان واحداً هنا فمعناه الجمع، وقيل: لَمَّا كان تَفَيُؤ الظِّلِّ على ناحية الشمال وأكثرُ منه على ناحية اليمين، أَفْرَدَ اليمين وجَمَعَ الشمال، فالشمائل للكثرة والسَّعة، وقيل: ردُّ اليمين على لفظ ما، والشمائل على معناها. كقوله تبارك وتعالى (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ). ففي: يتخذ ضمير مفرد عائد على لفظ (مَنْ) والضمير الظاهر في يحبونهم عائد على

معناها، وذلك لإبهام من وما. مرة يجعل الكلام فيهما على اللفظ. ومرة على المعنى، لأن المُبْهَم موقوف على بيان غيره له، وقرأ أبو عمرو بن العلاء ويعقوب بن إسحاق تتفيَّأُ بتاءين؛ وجمهور القراء بياء وتاء، والتذكير والتأنيث معلوم. وقرأ عيسى بن عمر الثقفي بتاءين مثل أبي عمرو. إلاأنه قرأ ظُلاَلَهُ بضم الظاء وفتح اللام الأولى، جعله جمع ظُلَّة كقراءة حمزة والكسائي في سورة يس (هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ) فالظِّلال جمع ظِلّ أو ظِلَّة. والظُّلَلُ جمع ظُلَّة مثل ظُلْمَة وظُلَم. والظُّلَّة والسِّتْرةُ من النظائر. فأما قوله تعالى (لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ). فسمي ما تحتهم ظُلَلا لأنها تُظِلُّ مَنْ تحتهم. قال أبو العباس: (والفرق بين الظِّلَّ والفيْء، أن الفَيْء ما نُسِخَ بالشمس، لأنه هو الراجع، والظلُّ مالا شمس فيه. فكلُّ فَيْءٍ ظِلٌّ، وليس كل ظِلٍّ فيئاً). ولذلك يقال: أهل الجنة في ظِلٍّ لا في فَيْء، لأنها

لا شمسَ فيها، كما قال تعالى (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ) قال واصل: الفَيْءُ الرُّجُوع. قال الله تعالى (حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ) وقال (فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ). وجمع الفيء أفْيَاء وفُيُوء. وقال ابن مقبل: تظل الرجال القاعدين فُيُوءُهَا ... على الحوض مادَامَتْ قياماً كما هيا وقول كعب: (وأبت بسالتها) أي امتنعت، لأن أبَى وامْتَنَع، وتَرَكَ من النظائر، والإباءُ، والامْتِنَاع، والتَّرْك معناها واحد. يقال أَبَى يَأْبَى إباءً، وتأَبَّى تَأَبِّياً. قال الشاعر: بأي نُجُوم جودك يُسْتَضَاء ... أبا حسنٍ وشيمتك الإِبَاءُ وقال صاحب العين: أَبَى يَأْبى إباءً، إذا ترك الطاعة ومال إلى المعصية كقول الله عز وجل حكاية عن فرعون (وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى) وكُلُّ من ترك شيئاً فقد أباه. ومن امتنع عن أمر وردَّه، فقد أباه. يقال لرجل أَبِيّ وقوم أَبِيُّون وأباةٌ. قال الشاعر:

أَبِيُّ الضَّيْمِ منْ نَفَرٍ أُباة وكّل من أمر بشيء فلم يفعله متَعَمِّداً لذلك فقد أباه، وإذا أباه فقد امتنع من فِعْلِه، وذلك لقضاءالله سبحانه. وحقيقة الإباء؛ الانتفاء للشيء بإيقاع فعل بدلاً منه. قال: والأُبَى مقصوراً داءٌ يأخذ المعز في رؤوسها فلا تكاد تسلم. يقال: أبِيَت العَنْزُ تأبى أبىً شديداً. وعنْزٌ أبِيَّةٌ وتَيسٌ أبٍ. قال الشاعر: أقُولُ لكنَّاز توكَّلْ فإنَّه ... أبىً لا أظُنُّ الضَّأنَ منها نواجيَا وأصْل هذا كله الامتناع؛ فالعَنْزُ الأبِيَّةُ تَأْبَى الاستقرار للداء الذي بها فإذا أبت الاستقرار فقد امتنعت، ومنه قول المتلمس: تُعَيِّرُنى أمِّي رجالٌ ولَنْ ترى ... أخا كَرَمٍ إلا بأنْ يتَكرَّما وماليَ أمٌّ غيرها إن تركتُها ... أَبَى الله إلاَّ أن أكونَ لها ابنَ مَا فأما الأَبَاءُ بالفتح والمد ّوالهمز فأطرافُ القَصَب. وقوله: (بسالتها)، أي حُرمتها. والبَسْلُ: الحرامُ.

قال زهير: بلاٌدٌ بها نادَمتُهم و (أَلِفْتُهم) ... فإنْ تُقْويَا مِنْهُمْ فإنهم بَسْلُ وقال الآخر: بَكَرَتْ تلُومُكَ، بعْد وَهْنٍ في النَّدى ... بَسْلٌ عليكِ مَلاَمتِي وعِتَابِي وكلُّ شيء تَصَعَّبَ وتمنَّع فلم يقدر عليه فقد بَسَلَ، ومنه قول الأعشى: أجارَتُكُمْ بَسْلٌ علينا مُحَرَّمٌ ... وجارتنا حِلٌّ لكم وَحَليلُهَا وقال أبو تمام: يتْبع هواه ولا لَقاح لِرَهِْطِه ... بَسْلٌ وليْسَت أَرْضُه بِحَرامِ وحكى بعض الأدباء أنَّ البَسْل كان في الجاهلية في قبائل من العرب بثمانية أشهر حُرُماً من كل سنة. قد عرفت العرب ذلك لهم لا يُنكرونه ولايدفعونه، وكانوا يسيرون به إلى أي بلاد العرب شاؤوا ولا يخافون منهم سطوة، وعلى ذلك جاء قول زهير: (فإنَّهم بَسْلُ) وبهذا سُمي الشجاع باسلاً، ومنه قوله: ما غَركُم بالأسَد الباسِل

وتأويله أن يكون ممنوعاً من قِرْنه محرماً عليه قربه. والبَاسل أيضاً الكريه المَنْظَر. يقال: ماأَبْسَلَ وَجْهَ فلان، إذا كان قبيحاً. وجمع البَاِسل: البُسُل، ويثقل ويخفف، وقد يكون البَسْل الحلال، ومنه قول الشاعر: أيثبتُ مازِدتُم وتُلْغَى زِيادَتِي ... دَمي إنْ أُسيغَتْ هذه لكُمُ بَسْلُ أي حلالٌ، فيكون البَسْل من الأضداد، مثل (أسَرّوا الندامة) و (شاموا السيوف) وما أشبه ذلك. فأما قول الله تبارك وتعالى (وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ). فمعناه في قول مجاهد وغيره من أهل العلم: تسْلَمُ وهو المعروف في اللغة. تقول العرب: أبْسَلَ الرجل بِجَرِيرته، إذا أسْلَمَ لها. قال الشاعر: هُنالِكَ لا أرْجُو حياةً تَسُرُّني ... سَجيسَ اللَّيالي مُبْسَلا بالجَرَائِر وقال ابن عباس: معناه: تَفْضَح، وقال قتادة معناه: تَحْبِسُ. وقال

يحيى بن زياد الفراء معناه: ترْتَهِنُ. وقيل معناه: تُخْزى، وقيل: معناه ترْتهِن للهلكة. وفي الحديث أن أُسَيد بن حضير بن سماك بن عتيك مات فَأبْسل ماله بدينه، فبلغ عمر رضي الله عنه ذلك، وكان قد أوصى له فردَّه وباعه ثلاث سنين متوالية، وقيل أربع سنين فقضى دَيْنَه. فقوله: أَبْسَلَ ماله بدَيْنه؛ أي أسلَمَ، وذلك لما كان المال بالدَّيْن مستغرقاً ... قال الخطابي: وكان رَدُّ عُمر المال، بَيْعُ أُصول النَّخْل على وجه النَّظَر للورثة والإبقاء عليهم، ورأى أن يبيع ثمرها ثلاث سنين أو أربع سنين فَيُقضى منها دينه، أي يؤاجِرُها وإن كان. والحديث بلفظ البيع، والمراد به الإجارة. وبيع المنفعة كبيع الدَّينْ. قال: أمَّا قول عمر في دعائه (آمين وبَسْلا) فمعناه: إيجاباً ياربِّ وتحقيقاً له؛ وهو أن يدعو الداعي، فإذا فرغ من دعائه قال آمين وبسلاً. قال الراجز: لاَ خَابَ من نفعك مَنْ رَجَاكا ... بسلاً وعادى اللَّهَ مَنْ عاداكَا

رجع وروى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يضع لحسان بن ثابث منبراً في المسجد يقوم عليه قائماً يفاخر عن رسول الله صلى اللله عليه وسلم. أو يقال ينافح. وخرَّج مسلم في كتابه عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لحسان: "إنَّ روح القدس لا يزال يؤيدك ما نافحت عن الله ورسوله"، ومعنى يُنَافح: يُدافع ويَذُبُّ. يقال: نَفَحت الداَّبة بِرِجلها إذا رَمَحَت به. قالت عائشة، وسمعته صلى الله عليه يقول: "هَجاهم حسان"، يعني قريشاً، فَشَفَى واشْتَفَى حين قال في أبي سفيان: هَجَوْتَ مُحَمَّداً فأجَبْتُ عَنهُ ... وَعِنْد اللَّهِ في ذاَكَ الجَزاَءُ أَتَهْجُوهُ وَلَسْتَ لَهُ بِنِدٍّ ... فَشرُّكما لخيركما الفداءُ هجوتَ محمدا بَرآَّ حنيفاً ... رسولُ الله شِيمَتُه الوَفاء ويُروى: ولَسْتَ له بِسِيء عوض: بندٍّ، والسِّيءُ والندُّ المِثْلُ، والسِّيءُ أيضاً: المكان القفرُ. فإنّ أبي ووالدَه وعِرْضي ... لِعرْض محمدٍ مِنْكُم وقاءُ ثكلت بُنَيَّتي إن لم تَرَوْها ... تثير النَّقع غايَتُها كداءُ

ويروى: عدمنا خيلنا إن لم تَرَوها ... تُثيرُ النَّقع موعِدُها كَداءُ وكذا ثبث في شعره. تُبارين الأَعِنَّة مُصْعِدات ... على أكْتافِها الأُسُل الظِّماءُ ويروى: (ينازعن الأعنة مصغيات). تَظَلُّ جياَدُنا مُتَمطِّراتٍ ... يُلطمهن بالخُمُر النِّساءُ فإنْ أعْرَضتُم عنَّا اعْتَمَرنا ... وكان الفَتْحُ وآنْكَشَفَ الغِطاءُ وإلا فاصْبِروا لِجلادِ يَوْمٍ ... يُعِزُّ اللَّهُ فيه من يشاءُ وقال الله قد أرسَلْتُ عَبْداً ... يقول الحَقَّ لَيْس به خَفَاُء وقال الله قد يَسَّرت جنداً ... هُمُ الأنصارُ عُرْضَتُها اللِّقاءُ لنا في كل يوم من معدٍّ ... قتالٌ أوْ سِبابٌ أوْ هجاءُ أمن يهْجُو رسول الله منكم ... ويَمْدحه ويَنْصُرُه سواء وَجِبريل رَسول الله فينا ... وَرُوح القُدْسِ لَيْسَ لَهُ كِفاءُ قال حسان بن ثابث، هذه القصيدة يجيب بها أبا سفيان بن الحارث حين هجا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأولها: عَفَت ذاتُ الأصابِعِ فالجِواءُ ... إلى عَذْراءَ مَنْزِلُها خَلاءُ

وحكى أبو بكر محمد بن الحسين بن دريد عن السكن بن سعيد عن عبَّاد بن عبَّاد عن أبيه قال: أنشد النبي صلى الله عليه وسلم حسان بن ثابث قصيدته التي أولها: (عفت ذات الأصابع فالجواء) فلما انتهى إلى قوله: هَجَوتَ محمداً وأجبت عنه ... وعِنْد الله في ذاك الجَزاء قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "جَزاؤُك على الله الجَنَّة يا حَسَّان". فلما انتهى إلى قوله: فإنَّ أبي ووالده وعرْضي ... لِعِرْضِ محمدٍ منكم وقاءُ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وَقاك الله يا حسان حرَّ النار" فلما قال حسان: أَتهجوه وَلَسْت له بندٍّ ... فَشَرُّكما لخَيرِكما الفداءُ قال من حَضَر: (هذا أَنْصَفُ بيت قالتْه العربُ). قال مصعب الزبيري: (هذه القصيدة، قال حسان صَدْرَها في الجاهلية وآخرها في الإسلام). وقوله: (بَرّاً حنيفاً). فالحنيف المسلمُ الذي يستَقبل قِبْلَة البيت الحرام على مِلَّة إبراهيم وكان حنيفاً مُسلماً، والحنيفُ أيضاً كل من أَسْلَمَ في أمر الله فلم يَلْتَوِ في شيء. والجميع الحُنَفاءُ. وقال بعض أهل العلم؛ قيل له حَنيفٌ لأنه تَحَنَّفَ عن الأديان كُلِّها؛ أي مال إلى الحَقِّ. وفي الحديث: "أَحَبُّ الأديان إلى الله الحَنيفِيَّة السَّمحة وهي مِلَّة النبي صلى

الله عليه وسلم لاَ حَرَجَ فيها ولا ضيق". وقال عمربن الخطاب رضي الله عنه: حَمِدْتُ اللَّه حين هَدى فُؤادي ... إلى الإِسْلاَم والدِّين الحَنيفِ. وقال غيره: أَبَعْدَ حلم المسلم الحنيفِ ... راقتكَ ذات العقدِ والشنوفِ قال أبو حاتم: قلت للأصمعي من أَيْنَ عرف في الجاهلية الحَنِيف؟ فقال: لأنّه مَنْ عَدَلَ عن دين اليهود والنَّصارى فهو حَنيفٌ عندهم. وكان كُلُّ من حجَّ البيتَ سُمِّي حَنيفاً. وكانوا في الجاهلية إذا أرادوا الحجَّ قالوا: هَلْمُّوا نَتَحَنَّف. وقال أبو بكر بن دريد: الحنيف العادل عن دين إلى دين، وبه سميت الحنيفية لأنها مالت عن اليهودية والنصرانية. وقال صاحب العين: الحَنَفُ مَيَلٌ في صدر القدَم فالرَّجل أَحْنف، والرِّجْل حَنْفاء. وسُمِّي الأحنف لحنفٍ كان به. وقالت حاضنته وهي تُرقصه: والله لولا حَنَفٌ بِرِجله

ما كان في صِبْيانِكم كَمِثْلِهِ وأصل الحَنف الميَلُ، وقيل: الاستقامة. فسمي المستقيم حنيفاً على التفاؤل، كما سُّمِّي اللَّديغُ سليماً تفاؤلاً بالسلامة. وكما قيل للمَهْلَ كَة مفازة تفاؤلاً بالفوز والنجاة. هذا كله يحكى عن الرياشي وابن قتيبة وغيرهما. وقال الزجاج: أصله المَيَل، فالمعنى أنه حَنَفَ إلى دين الله وهو الإسلام، فلا شك أن معناه قد صار الاستقامة على دين إبراهيم، كيف تصرفت الحال في أصله. ولو استدل مُسْتَدِلٌّ على أن أصله الاستقامة لِشَرَف الحنيفية، فاشتق لها مما يليق بمعناه، كان وجهاً. قال هذا أبو الحسن الرماني. وقول حسان: فإن أبي ووالده وعرضي البيت. روي أن حسان بن ثابث استأذن على عائشة رضي الله عنها، بعدما كُفَّ بَصَرُه، فدخل عليها فأكرمته فلما خرج عنها، قيل لها: هذا من القوم، فقالت: أليس الذي يقول: فإن أَبي ووَالِدَهُ وَعِرْضي ... لِعِرْضِ محمدٍ منكمْ وِقَاءُ فهذا البيت يغفر له كل ذنب. وقوله: (وعرضي لعرض محمد صلى الله عليه وسلم)؛ عرضُ الرجل مختلف فيه. قيل عِرْضه ما يُمْدَحُ به أو يذم. وقيل: عِرْضُه خليقته المحمودة.

وقيل: عِرْضُه: حَسَبُه. وقيل عِرْضُه: ناحِيَتُه التي يصونها عن المكروه والنسب كأنها ترجع إلى قَدْره، وأصله. واختار الرماني هذا القول، وقال: هو أحسن الأقوال كأنك إذا قلت: عِرْضُه، فإنما قلت: الجهة التي يُمْدَحُ منها أو يُذم. فقد تكون حَسَبَه، وقد تكون دينه، وقد تكون أفعاله. وقولهم: عرْضُ الرجل رائِحَتُه الطَّيبة، أي الناحية التي أتَتْ بهذه الريح. وهذا الباب متسع، وفيه اشتراك. وقوله: فَمَنْ يهجو رسول الله منكم ... ويمدحه وينصره سَوَاءُ جاء على حذف (مَنْ). كأنه قال: مَنْ يهجوه ومَنْ يمْدحه. ومثله في القرآن العظيم قوله سبحانه (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا) أي: والذين ظلموا، لأنّ الوعيد مُسْتَحقٌّ على الكُفْر وعلى الظُّلْم، وقوله: وعند الله في ذَاكَ الجَزَاء أي على ذلك؛ لأنك تقول: جازيْتُه على كذا، ولا تقول جازيته في كذا. والكلام في معاني هذه الأشعار يخرجنا عمَّا قصدناه، ويؤُول بنا إلى غيرما أردناه. رجع وخرَّج أبو عيسى في (جامعه)

عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة في عمرة القضاء، وعبد الله بن رواحة يمشي بين يديه ويقول: خلُّوا بني الكفار عن سبيله ... فاليوم نضربكم على تَنْزيله ضرباً يزيل الهام عن مقيله ... ويُذْهلُ الخليل عن خليله فقال له عمر: يا ابن رواحة بين يديّ رسول الله، وفي حَرَم الله تقول الشعر. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خَلِّ عنه يا عمر فَلَهِيَ أسْرَعُ فيهم من وضَحِ النَّبْل). وفي حديث آخر (من وقع النبل). وعن جابر بن سَمُرة بن عمرو قال: جالستُ النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من مائة مرة، فكان أصْحابُهُ يتناشدون الشعر، ويتذاكرون أيام الجاهلية، وهو ساكتٌ، فربما تَبَسَّم معهم. وهذا كقول أبي سلمة بن عبد الرحمن. وذكر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال، لم يكونوا منخرقين ولا

مُتَماوتين، وكانوا يتناشدون الشعر في مجالسهم، ويذكرون أمر جاهليتهم، فإذا أُريدَأحدٌ منهم على شيء من أَمْر دينه دارت حماليقُ عينيه كأنه مجنون. ومثل هذا ما روى حماد بن عبد الرحمن عن الحسن أنه قيل له: أَكانَ أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يمزحون؟ قال: نعم، ويتقارضون، أي يقولون الشعر، وهو القريضُ، ومنه قول عبيد بن الأبرص حين استنشده النعمان قصيدته، وهو قد أمر بقتله فقال: (حال الجَريضُ دون القريض). وقال أبو زيد يقال: فلان يُقَرِّضُ فلاناً تَقْريضه، إذا مَدَحه أو ذمَّه، وهما يتَقارضان الخير والشر، وفلان يُقَرِّضُ صاحبه إذا مَدَحَه. وقال عمر بن الخطاب لعمرو بن معدي كرب حين أثنى على سعدٍ: لَشدَّ ما تَقَارضْتُما الثَّنَاء. وعن سفيان بن عيينة عن الزهري عن سعيد بن المسيب قال: مرَّ عمر بحسان بن ثابث، وهو ينشد الشعر في المسجد، فلحظ إليه، فقال له: قد كنت أُنْشِدُ فيه، وفيه مَنْ هُوَ خَيْرٌ منك، يعني رسول الله صلى الله عليه

وسلم، ثم التفت إلى أبي هريرة فقال له: أَنْشُدُكَ اللَّهَ. أسَمِعتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أَجِبْ عني يا حسان، اللَّهُمَّ أَيِّدْهُ بِروح القُدُس ... قال: نعم. وذكر عن علي بن زيد بن جُدْعان أنه قال: أنشد كعب بن زهير رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد: (بَانَتْ سُعاد فَقَلْبِي اليَوْمَ مَتْبُولُ). وعن عبد الوهاب بن عبد الله بن أبي بكر عن أبيه عن أبي بكرة قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم، وعنده أعرابيٌّ يُنْشِدُه، فقلت: يا رسول الله أَشِعْراً أم قرآناً؟. فقال: في هذا مرة، وفي هذا مرة. وعن عبد الله بن عبيد بن عمير الليثي أنه قال: كان الرَّجلان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يتناشدان الشعر، وهما يَطُوفان حول البيت. وعن محمد بن عبد الله المرادي عن عمرو بن مُرَّة وعن عبد الله بن

سلمة، فقال: كُنَّا عند عمّار بصفين، وعنده شاعر ينشده، فقال رجل: أَيُقَالُ الشعر فيكم وأنتم أصحاب محمد وأصحابُ بَدْرٍ. فقال له عمار: إِنْ شِئْتَ فاسْمَعْ، وإن شئت فاذهب، إنه لَمّا هجانا المشركون شَكَوْنا ذلكَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: قُولوا لهم كما يقولون لكم، فإن كنَّا لنعلمه الإماءَ بالمدينة. وعن الأعمش عن أبي خالد الوَالِبِي، قال: كنت أجلس في حلقة من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فلَعَلَّهم أَلاَّ يذكروا إلا الشعر حتى يَتَفَرَّقوا. وعن إسماعيل بن عليَّة عن أيوب عن محمد بن كثيِّر بن أفلح أنه قال: كان آخر مجلس جالسنا فيه زيد بن ثابث مجلساً تناشدنا فيه الشعر.

وعن عمر بن أبي زائدة عن عبد الله بن أبي السَّفْر عن الشعبي قال: كان أبو بكر شاعراً، وكان عمر شاعراً، وكان علي أشعر الثلاثة رضي الله عنهم. وكانت عائشة رضي الله عنها، وهي التي غَذَاها الإيمان وزَكَّاها القرآن، وفَضلها الرحمن ... وفي شعر العرب. وتتمثل بقول لبيد: ذهب الذين يُعَاشُ في أَكْنافهم ... وبَقِيتُ في خَلْف كجلد الأجْرَبِ قال أبو الزناد: ما رأيتُ أحداً أَرْوى لشعر من عروة. فقيل له ما أرواك يا أبا عبد الله؟ فقال: ومارِوايتي في رواية عائشة، ما كان يَنْزِل بها شيءٌ إلاَّ أَنْشَدَتْ فيه شعراً. وروى يوسف بن عمرو وكان من كبار أصحاب ابن وهب، عن ابن وهب عن أبي الزناد،

عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة، قالت: (رويْتُ للبيد اثنى عشر ألف بيت) قال هذا أبو عمر بن عبد البر. وكان بعض السلف يقول: إعطاء الشاعر من بِرِّ الوالدين. وأعطى الحسن بن علي شاعراً فأنكر ذلك عليه بعضُ جُلَسائِه، فقال: إنَّ خَيْر ما بَذَلْتَ من مالِك، ما وقيتَ به عرضَكَ. ومَدَحَ نصيب الشاعر عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، فأَجْزَلَ له من كُلِّ صنْفِ: أعطاه إبلاً وخيلاً وثياباً ودنانير ودراهم، فقيل له: أتَصْنَعُ هذا بمثل هذا العبد الأسود؟ فقال أما والله، إن كان جِلْدُهُ أَسود فإنَّ ثَنَاَءُه لَأَبْيَضََ، ولقد استحق بما قال أكثر مما قال، وإنما أخذ رواحل تُنْضى وثياباً تُبْلَى، وأعْطَى مديحاً يُرْوى وثناءً يبقَى. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لابنة هرم بن سنان المرِّي ما

وهب أبوك لزهير؟ فقالت: أعطاهُ مالاً وأثاثاً أفْناه الدهر. فقال لها عمر لكنْ ما أَعْطاكموه لا يفنيه الدهر. وقال معاوية لابن الأشعث بن قيس: ماكان جَدُّكَ قيس ين معدي كرب أعطى الأعشى؟ فقال: أعطاه مالاً وظهراً ورقيقاً وأشياء نسيتها، فقال معاوية: لكن ما أعطاكم الأعشى لا يُنْسى. ويروى عن بعضهم أنه قال: إني لا أُحِبُّ البقاء، وكالبقاء عندي حُسْن الغناء. وقال الشاعر في هذا المعنى فأثنوا عليه لا أباً لأبيكم ... بأفعاله إنَّ الثناء هو الخُلْدُ وقال ابن عباس: الشعر ديوانُ العرب، فإذا خَفِيَ عليهم الحرفُ من القرآن الذي أنْزَلَه الله بلُغَة العرب، رجعوا إلى ديوانها، والتمسوا معرفة ذلك منه. وعن سفيان عن أسامة بن زيد عن عكرمة مولى ابن عباس عن

ابن عباس قال: إذا أعيتْكُم العربية في القرآن، فالتمسوها في الشعر، فإنه ديوان العرب. قال أبو إسحاق: فإن احتجَّ أحدٌ علينا بقول الله تبارك وتعالى (وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ) وبقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لأن يَمْتلىء جوْفُ أحدكم قيحاً حتى يريه خيرٌ لَهُ من أن يَمْتَلِئَ شِعْراً" قلنا له: أمَّا الآية، فإنما أنزلها سبحانه في شعراء المشركين الذين كانوا يهجون رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين. والدليل على ذلك، أَنَّ الله تعالى قد استثنى المؤمنين منهم، فقال في الآية الأخرى (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا). إلى آخر الآية. ومعنى: وانْتَصَروا من بَعْدِ ما ظُلِمُوا، أي ردُّوا على الكفار الذين كانوا يهْجون النبي عليه السلام. قاله ابن عباس، وأما الغاوون، فقال: هم الكُفَّار يتبعهم ضُلاّلُ الإنْسِ والجِنِّ. وقال ابن زيد: الغاوون والشعراء هاهنا المُشْركون. لأنَّ الغاوي لا يَتْبَعُ إلاَّ غاوياً مِثله. وقال عكرمة: الغاوون عُصاة الجن. وروى عن مجاهد نحوه، وعن مجاهد أيضا هم الذين يتبعونَهم ويروون شعرهم. وعن الطبري: الشعراء، شعراءُ المشركين، يتبعهم غُواة النَّاس، ومَرَدةُ الشياطين، وعُصاة الجِن. والمراد بقوله: "إلاَّ الذين آمنوا وَعملوا الصالحات" فيما روى عن ابن عباس: ابن رواحة وحسان بن ثابث وكعب بن مالك.

ومعنى: (وذكروا الله كثيرا) فيما قال ابن زيد: أي في شعرهم، وقيل: لم يَشْغَلهُم الشعرُ عن ذكر الله عز وجل. إنَّما هاجوا من كذَّبَ رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأمَّا قول النبي عليه السلام: "لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا" الحديث، فذكر عن أبي عمرو عامر بن شراحيل بن عَبْد الشعبي أنه قال: إنَّما عُني به الشعرُ الذي هُجِي به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وردَّ أبو عبيدة معمر بن المثنى وغيره من أهل العلم هذا القول، وقال: تأويل الحديث عندي غير هذا؛ لأن الشعر الذي هُجي به النبي عليه السلام لو لم يكن إلا شطر بيت لكان كفرا، فكأنه إذا حُمِلَ وجهُ الحديث على امتلاء القلبِ منه، فقد رُخِص في قليله، ولكن وجهه عندي أن يمتلئ قلبه حتى يَغلب عليه فَيَشْغله عن القرآن، وعن ذكر الله، فيكون الغالب عليه مِنْ أَيِّ الشِّعْرِ كَان. فأمَّا إذا كان القرآن والعلم أكثر من الشعر في الجوف، فليس ممتلئاً منه. هذا قول أبي عبيدة وغيره، وهو صحيح موافق. ومعنى (يَرِيَهُ): يأكل القيح جَوْفَهُ. قاله أبو عبيد وأنشد لسحيم عبدِ بني الحسحاس بن هند: وراهُنَّ رَبِّي مثْلَ ما قَد وَرَيْنَني ... وأحْمَى على أكبادِهنَّ المكاوَِِيا وقال الفراء: الورى داءٌ يُصيب الرجل والبعير في أجوافهما. مقصور، يكتب بالياء. ويقال في دُعاء العرب (به الورى وحُمَّى خَيْبَرَى وشرُّ ما يُرى فإنُّه

خَيْسَرى). كان أبو عمرو الشيباني والأصمعي يقولان: لا نَعْرِفُ الورى من الداء بفتح الراء، وإنما هو الوَرْيُ بتسكين الراء. من قولهم وراه الداء يَرِيه ورْيا. وأنشد الأصمعي: قالتْ لَهُ ورياً إذا تَنَحْنَحْ ... يالَيْتَه يَبْقى على الدَّرَحْرَحْ وأنشد أبو عمرو: هَلُمَّ إلى أُمية إنَّ فيها ... شِفاءَ الوارياتِ من الغليلِ ومنه قول عبد بني الحسحاس وقد كتبناه. ويقال للسَّاعِلِ يَسْعَلُ وهو مُبْغَضٌ إليهم: ورْياً وقُحاباً، وللمحبوب: عُمْراً وشباباً. والعُمْر والعُمُر واحد. والقُحابُ: السُّعال. وقال أحمد بن عبيد الداءُ هو الوَرْيُ بتسكين الراء فصُرف إلى الوَرى. وقال أبو العباس أحمد بن يحي: الوريُ بتسكين الراء المصدر، والوَرَى بفتح الراء الاسم.

وقال يعقوب: إنما قالوا الوَرْيُ لمزاوجة الكلام، وقد يقولون في المزاوجة مالا يقولون في الإفراد. قالوا: إني لآتيه بالغَدَايا والعشايا، فقالوا الغَدايا لمكان العشايا، وغداة لا تُجمع على غدايا. وقال الأصمعي معنى: حتى يَريَه؛ أي حتى يَدْوَى جَوفُهُ. وقال صاحب الأفعال وَريَ الإنسانُ والبعير ورىً دَوِي جوفُه وَوَرَاه الماء وَرْياً: أفسد جوفه، ووَرِيَ الكلب سُعِر أشدَّ السُّعار. قال أبو علي والوَرى: الخلقُ مقصور، يكتب بالياء، ويقال ماأدري أيُّ الورى هو، أيْ: أَيُّ الخَلْق. وأنشد لذي الرمة: وكَايِنْ ذعرنا من مهاةٍ ورامِحٍ ... بلادُ الورى ليْستْ له ببلادِ

فصل في الكتابة

فصل في الكتابة قال: وأما الكتابة فهي تِلْوُ الخِلاَفة في القدر، وقريبة منها في الخطر، وهي أجلُّ ما طُلب وأشرف ما فيه رُغِّبَ، وأحسنُ ما عُمل وأفيَدُ ما انْتُحِل، وأبْهَجُ ما به تُحَلي، وأعذبُ ما سُمع ووُعي. ووصف الله تعالى بها ملائكته المقربين، فقال سبحانه وهو أصدق القائلين (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ). وهي منصوصة في غير ما موضع في كتابه المكرم، وبها فُسِرَ قوله تعالى (عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) ولا نشك أنها من الله تبارك وتعالى هبَةٌ وإلهامٌ، وزيادةٌ فيمن خَصَّ بها من الأنعام. لا تتعاطاها الأفهام، ولا ينفك بابها من استغلاقٍ واسْتِبهام، وما زال حامِلها للدولة قُلْباً، ولرحاها قُطْبا. جديراً أن يكون النُّجْحُ معقوداً بنواصي آرائه، واليُمنُ معهوداً في مذاهبه وأنحائه، يُبدي فوائدهُ، ويُخْفي مكائده، ويَنْطِقُ بفصل مُشكلات الأمور لسانه، وتخطُّ محْكماتها بنانُه، وتُقتَبَسُ أنوار السياسة منه، وتؤخَذُ آثارها عنه، وهو مُدبِّرُها ولِسانُها، وحامل لوائها

وتُرجُمانها، وشِهابُها المستنار، وحسامها الماضي الغرار، يحسم عِللها، ويَرُمُّ خَلَلها، ويُزَيِّنُ مراتِبها، ويُجَلِّي ترائبها، ويكسوها من جميل تدبيره بهجةً وبهاءً، ويُطلع بِرِقَّةِ سياسته في آفاقها نوراً وضياءً، ولذلك قال أبو تمام في محمد بن عبد الملك الزيات: أَلْقَى إليكَ عُرَى الأمر الإمام فقَد ... شُدَّ العِناجُ من السلطان والكَرَبُ يعشى إليكَ وضوء الراي قائده ... خليفَةٌ إنَّما آراؤُه شُهُبٌ إن تَمْتَنِعْ منهُ في الأوقات رُؤيتُهُ ... فكلُّ ليثٍ هَصورٍ غيلُهُ أشِبُ أو تُلْقَ من دونه حُجْبٌ مُكَرَّمَةٌ ... يوماً فقد ألقيتْ من دونكَ الحُجُبُ والصُّبْح تَخْلُفُ نورَ الشمس غُرَّتُه ... وقرنها من وراء الأفْقِ محتَجِبُ وهذه الأبيات في قصيدة له. وقوله: يعشى إليكَ؛ أي يلتمس نور الصَّوابِ فيما تأمُرُه به، وتشير عليه. قال أبو زيد يقال: عَشي الرجُلُ عشىً شديدا، ورجلُ أعْشى وهو الذي لا يُبْصر بالليل. وقرأ ابن عباس (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ) بفتح الشين وهو من عشِيَ يَعْشى، وقرأت الجماعة بضم الشين من عشا يَعْشو، ومعناه يعرضُ، قاله قتادة. وقال غيره: تُظْلِمُ عَيْنُه.

وقال أبو موسى هارون بن الحارث: يقال عَشاَ الرجلُ يعْشو عَشواً: وهو أن يستضيء ببصرٍ ضعيف، أو ضوء ضعيف في ظلمة. وقال أبو بكر بن دريد: العَشْوُ مصدر عَشَوْتَ إلى ضوء نارك، أعْشو عَشْواً: إذا قصدته بليل، ثم صار كل قاصد عاشياً. وقال صاحب العين العَشْوُ: إتيانك ناراً ترجو عندها هُدىً أو خيراً. والعاشيةُ كلُّ شيءٍ يعْشو بالليل إلى ضوء نارٍ من أصناف الخَلْقِ، من الفَراشِ ونحوه. وأنشدوا: متى تَأْتِهِ تعشو إلى ضوْءِ نارِه ... تَجِدْ خير نارٍ عندها خَيْرُ موقِدِ وقال ابن الأعرابي: فلانٌ يعشو إلى فلان، إذا أتاه طالباً ما عِنْدَهُ. قال: وجاء رجل من بني كُلاَب إلى عمر بن العزيز يشكو عاملاً له فقال له: أيْن كنت عن والي المدينة؟ فقال: عَشَوْتُ إلى عدْلِكَ، وعلمتُ إنصافك منه، فكتب إلى والي المدينة بعزله. قال أبو علي البغدادي: وهذه الأقوال الثلاثة متفقة في المعنى، وإن

اختلفت العبارات عنها وزادت ونقصت. قال: والعشا في العين مقصور يكتب بالألف لأنهم يقولون رجلٌ أعْشى، وامرأة عشواء. وأنشد: فإن يُمْس عندي الهَمُّ والشَّيْبُ والعَشَا ... فقدْ بِنَّ مِنِّي والسلامُ تَفَلَّقُ ويقال: فتنة عَشواء: أي يُعْشى فيها حتى لا يَهتَدي الطريق فيها، فظهور الواو في عشواء، يدل على أن العشا من الواو، وكذلك قلت: عَشِيَ يَعْشًى أصل الياء فيه واواً. وقال صاحب العين: العَشْواءُ من النُّوق التي لا تُبْصِر ما أمامها، وذلك أنها ترفع رأسها فلا تتعاهد موضع أخْفَافها. قال زهير: رأيتُ المنايا خَبْطَ عشْواءَ منْ تُصِبْ ... تُمِتْهُ ومنْ تُخطئ يُعَمَّرْ فيهرَمِِ قال أبو علي، وهذا صحيح في الاشتقاق، وأصله من عشا العين.

وقال أبو الحجاج الأعلم في تفسير بيت زهير وقوله: (خبط عشواء)، أي لا تَقْصد ولاتجئ على بَصر. يقال: عَشا يعشو إذا جاء على بصرٍ وهداية، وعشى يَعْشى إنْ أصابه العشا؛ يريد أن المنايا تخبط في كل ناحية كأنها عشواء لا تُبْصِر، فمن أصابته في خَبْطِها ذلك هَلَكَ، ومن أَخْطأته عاش وهرم. وإنما يريد أنها لا تترك الشاب لشبابه، ولا تقصد الكبير لكبره، وإنما تأتي لأجل معلوم). ومثل قول زهير قول الآخر: منْ لَمْ يَمُتْ عبْطةً يَمُت هَرِما ... للموت كأْسٌ والمرءُ ذائقُها وقوله: عَبطَة وهو فتى شاب. يقال: مات فُلانٌ عبطةً إذا مات في شبابه وطَرْأَة سنّه. والعبيطُ: الدَّمُ الطري. رجع وقال أبو تمام أيضاً في ابن عبد الملك: وأنتَ شِهابٌ في الملمات ثاقبٌ ... وسيْفٌ إذا ما هزَّه الحقُّ فاضلُ مُوَرِّث نارٍ والإمامُ يَشُبُّها ... وقائلُ فَصلٍ والخليفةُ فاعِل

فإنك إنْ صدَّ الزمان بِوَجْهِهِ ... لَطَلْقٌ ومنْ دون الخلافة باسلُ قوله: وأنتَ شِهابٌ: أي كالشهاب؛ وهو الكوكب المنقضي في أثر مُسْترق السمع. وقال أبو إسحاق الزجاج، كلُّ أبيض ذي نورٍ يقال له شهابٌ، ومنه قول الشاعر: إنّما مُصْعَبٌ شهابٌ من الل ... هـ تَجَلَّتْ عن وجهه الظلْماءُ فأما القَبَسُ فاسم لقطعة النار تُقْتَبَسُ في عودٍ أو في غيره، ومنه قول أبي زبيد: في كفِّه صعْدَةٌ مُثَقَّفَةٌ ... فيها سنان كشعلة القبسِ وفي معنى قول أبي تمام يقول أبو إسحاق المهدي: وقد علمَ السُّلْطانُ أنِّي لِسانُه ... وكاتبه الكافي الشديد الموفقُ

أُوازره فيما عرى وأُمِرُّهُ ... برأْيٍ يُريه الشمس والليل أغْسَقُ فيُمْنايَ يُمْناه ولفظي لَفْظُه ... وعَيْني له عينٌ بها الدَّهْرُ يَرْمُقُ ولي فِقَرٌ تُضْحي الملوكُ فَقِيرةً ... إليها لدى أحداثها حين تُطْرَقُ أَرُدُّ بها رأس الجَموح فينثني ... وأجعلها سَوْط الحَرُون فَيُعْنِقُ قوله: أُؤازره: أي أعاوِنُهُ. قال الله تعالى حكاية عن موسى عليه السلام (وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي) أي صاحباً ألجأُ إليه. والوزيرُ: مُشْتَقٌّ من الوزر، وهو الجبل، وقيل من العَذَر وهو الثِّقَل، ومعنى قوله (اشدد به أزْري) أي ظَهْري، يريد قُوَّتي، خص الظَّهْر لأن القوَّة فيه، ومنه قولهم: فلان شديد الأَزْرِ: أي القوَّة. وقال تعالى: (كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ) أي أعانه حتى ساواه. وقال امرؤ القيس: بِمَحْنِيةٍ قد آزر الضَّالُ نبْتَها ... مَجَرَّ جُيُوشٍ غانِمينَ وَخُيَّبِ وقرئ شَطْأَه بفتح الطاء وإسكانها، فَتَح الطاء ابن كثير إلا عبد الوهاب بن فليح وعبد الله بن ذكوان عن ابن عامر، وأبدل الهمزة واواً عيسى ين عمر الهمذاني الأعمى.

وأما قوله: فَآزَرَهُ، فتفرّد ابن عامر بقصره فقرأ: فازَرَهُ؛ فعله. وقد توهَّمَ قوم من أهل الضَّعفِ في النحو وعلم التصريف، أن الوزير من هذا اللفظ، وليس كذلك، لأن فاء الفعل من الأزر همزة، ومن الوزير واو. وتقول أزَرَني فلانٌ أي أعانني، ووازَرَني صار لي وزيرا، ولو كان منه لقيل فيه: أزيرٌ. فتدبَّرهُ. قال الله تعالى (كَلَّا لَا وَزَرَ) أي: لا ملجأ ولا جَبَل. قاله ابن عباس وغيره فالوَزيرُ من هذا دون ريب. فأما ما جاء في الحديث: "ارجِعْنَ مَوْزُورَات غير مأجورات" فهو من الوِزْر. وأكثر أهل اللغة يخطئ من رواه مأزورات بالألف. إلا أنه روى عن أبي العباس أحمد بن يحيى ثعلب أنه قال: يجوز على أن تتبعه مأجورات ليكون الكلام على لفظ واحد. وقوله: والليل أغسَقُ، يقال ليلٌ أغْسقُ وليل غاسِقٌ، وغَسَقُ الليل: اجتماعُ ظُلْمَتِه، وقيل بدْءٌ ظلمته، وقال زهير: ظَلَّتْ تجولُ يداها وهْيَ لا هيةٌ ... حتَّى أَنَارَ جنح الاِظْلاَِم والغَسَقِ وأصلُ الغَسَق: الجَرَيانُ بالضَّرَر، من قولهم: غَسَقَت القُرْحة إذا جرى صديدها. ويُقال غسقت عينُه غَسَقاً؛ إذا جرى دمعها بالضرر الباعث له. والغسقان صديد أهل النار، وفيه أقوال كثيرة. وفي كتاب الله تعالى (حَمِيمٌ

وَغَسَّاقٌ) قُرئَ يالتثقيل والتخفيف. وسمي الليل غاسقاً لجَرَيانه بالضَّرَر في إخراج السِّباع والهوام من آجامها وأماكنها. وكل شيء أسود فقد غَسَق. قال الله تعالى (أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ). والمراد بغسق الليل في هذه الآية: صلاة المغرب والعشاء، وبالدُّلُوك صلاة الظهر والعصر، وبقرآن الفجر صلاة الصبح. فهذه الآية متضمنة جميع أوقات الصلوات، لأن دُلُوك الشمس، وهو ميْلُها؛ هو من لدن زوالها إلى مغيبها. وقيل: الدُّلوك المَيَلُ وهو قول ابن عباس وجماعة من العلماء، وهو مذهب مالك رحمه الله، وهو اختيار الطبري. قال ابن مسعود وابن زيد دُلُوكها: غُرُوبُها. واختاره القتبي وقال: العرب تقول: دَلًكَ النجمُ: إذا غابَ. ذكر هذا أبو عباس المهدوي في كتابه، وقال فيه: (قال بعض أهل اللغة: من قال إن الدُّلوكَ الزَّوال، فإنما قيل له ذلك،

لأن الناظر إلى الشمس يدْلِكُ عينه لشدة شعاعها، ومن قال هو الغروب، فإنه يدْلِكُ عينه لِيَتَبَيَّنَها. والشاهد أن الدُّلوكَ الزَّوالُ، قول النبي صلى الله عليه وسلم "أتاني جبريل عليه السلام لِدُلُوك الشَّمْس حين زالت فصَلَّى بي الظهر" فهذا موافق لقول ابن عباس ومجاهد وغيرهما ومقوله. والاختيار الطبري. وإذا كان الدُّلوك الزوال، فالمراد به في الآية صلاة الظهر والعصر. قال الشاعر: بادَرَ قبل الدُّلُوكِ يتْبَعهُ ... وَسْنَانُ يمشي كمشية النَّزِفِ فهذا يحتمل القولين جميعاً. وسمِّى الله سبحانه صلاة الفجر (قرآناً) لأن الصلاة لا تَتِمُّ ولا تكْتَمل إلا بالقراءة؛ لأنها ركن من أركانها، وجزءٌ من أجزائها. وفي حديث أبي هريرة قال الله تعالى: "قَسَمْتُ الصلاةَ بيني وبين عبدي نصفين". الحديث، أي القراءة. فسمى القراءة صلاة. ووجْهُ القسمة فيما ذكر العلماء، أنَّ نِصْف سورة الحمد عبادة وثناء، ونِصْفُها مسألةٌ ودعاءٌ وطَلَب. ولم يُرد به التقسيط في آي السُّور، وحُروفِها وتَجْزِئتِ ها على السواء. فحقيقة القِسْمَة بالمعنى لا باللفظ. ودليل على أنه أراد قسمة المعاني دون الألفاظ.

قوله "فهذه بيني وبين عبيدي". يعني قوله: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) ولا يجوزُ أن يكون المتْلُوُّ بينه تعالى وجَلّ وبينَ عبده، لأن المتلوَّ كلام الله سبحانه وتعالى وليس للعبد فيه شركٌ. رجع وقال الأحنف بن قيس: حِلْيَةُ الوُلاة وزينَتُهم: وزراؤُهم، ومن فَسَدت بِطانَتُه لم يصلح شأنُه، وكان كمنْ غصَّ بالماء. وقال: ليس شيء أهْتَكَ للوالي من صاحب يُحْسِنُ القول ولا يُحْسِنُ الفعل. وما أحسن هذا من قول الأحنف وأبلغه! ولقد كان رحمه الله من دهاة الحكماء وجلة الحلماء وقدوَة النُّبلاء والفُصحاء، وخيرة العُقلاء، وأحد الشعراء، لأن النبي صلي الله عليه وسلم دعا له بالمغفرة، وذلك أنه بَعَثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قومه بني سعد، فَسَمِعَ رسوله إليهم وهو يدعوهم إلى الإسلام، فقال وهو شاب صغير: مَادَعاكم إلا لِخَيرٍ، وما حَسَّنَ إلا حَسَناً. فبلَّغ الرسول قوله هذا إلى النبي عليه السلام فقال: (اللهم اغْفِر للأحنف) وأُعْلِمَ بذلكَ الأحْنف وهو يطوف بالبيت في زمن عثمان فقال: هذا أوفى عملٍ عندي. وكانت وفاته رحمه الله بالكوفة سنة سبع وستين في إمارة مصعب بن الزبير، ومشى مصعب في جنازته وحضرها. وفي هذا المعنى من المنثور البديع والمزدوج المطبوع: أنا عين السلطان ولسانه، وعُنوانه وتُرجمانه. أُذْناي كمائمُ أسراره، وجوانحي عيبَةُ إعلانه وأسراره. أنا خاصته وصَفِيه وسمِيُّه. أنا المدير الحازم، والجليس

الملازم، ومطفئُ جمرة الحرب العوان، وقاتل العَدُوِّ بلا صارم ولا سِنانٍ، قلمي يفُلُّ القواصل، ويتخلَّلُ الأباطح والمعاقل، ويهُزُّ المحاضر والمحافل، ويَقْمعُ الحواسِد والعواذل. أنا كاهل الدولة وهاديها، ومجيبُ صارخها ومُناديها، ووسْطى سِلْكِها ومدير فَلَكِها؛ إن جالت أنامِلي في مهرق، أسمعت الصُّمَّ بلاغة وبياناً، واستنزلتِ العُصْمَ إِبْداعاً وإحساناً. أصردُ الصُّكوك فأُنَظِّمُها تنظيماً بلسانٍ أمضى من السنان اللَّهْذَم، وكلام أَقْطَعَ من الحُسام الأخْذمِ، تَخدِي بها الرِّفاق في الآفاق، وتهدي بها القَِطار في الأقطار. قد احتويتُ على المملكة بأسرها، وتَحَكَّمتُ في طيِّها ونشرها، أنا قُطْبُ مدارها و (جُهَيْنَةُ أخْبارِها) وسِرُّ اختيارها واخْتِبارها، ومُظْهِر مجْدِها وفَخارِها. أعقد عُقود الولايات لكل والٍ، وأَمْنَحُهم من المَبَرَّةِ كلّ صافية المنهل، ضافية السِّرْبالِ؛ إن تُلِيَتْ سُوَرُها في المحاضر، أو جُلِّيَتْ صوَرُها على المنابر، عقَلَت المُسْتَوفِز والعابر، وشغَلَت خاطر كلِّ خاطر. فلا غَرْوَ أنْ فُزْتُ منها بأعْلى القداح، وإنْ حَلَلْتُ محلَّ الأنْمُلة من الرِّماح. وفي المعنى أيضاً: أنا للخلافة يُمْناها النَّافِعة، وراحَتُها القابضَة والداّفِعة، صاحبُ ديوانها، ومُشَيِّدُ أركانها، ومِفْتاحُ نَيْلها، ومِصباحُ لَيْلها، أسْتَجْلِبُ فوائِدَها، وأُقَيِّدُ شَوارِدها، لولا قلمي لأصْبَح عَقْدُ الجراحات محلولاً، ودَمُ الجنايات مَطْلُولاً، ويَدُ التَّناصُف مغْلولَةً، وصوارمُ التعاطُف مفْلولَةً، وَرَسْمُ الرُّسوم دارِساً، وعِلْمُ التَّحْقيق مُتَشاكلاً مُتَلابساً. فأنا عارِضُها الماطِرُ، وبَحْرُها الزَّاخِر، مِفْتاحُ كلِّ غَلَقٍ مُبْهَمٍ، ومِصْباحُ كلِّ غَسَقٍ مُظْلم. أُقَسِّمُ بالسَّويَّةِ، وأعْدِلُ بين الرَّعِيَّة. أُحَسِّنُ المعاني وأُحقِّقُها، وأُناقش الحُسْبانات وأُدَقِّقُها. فأنا

القِسْطَاسُ المسْتَقيم، ومالك أَعِنَّة التَّأْخير والتَّقديم. أَحْتَلِبُ دُرَرَ الأَموال، وأسْتَجْلِبُها إلى بيت المال. أقتدحُ كلَّ زِنادٍ، وأهزُّ مُثْمِرَ الأعْوادِ، فإلى ساحتي تَرِدُ المطايا، وعن راحتي تََصْدُرُ الهِبَاتُ والعطايا. وَحَسْبُكَ من يَراعٍ يَرْزُقُ الجنود، ويَسْتَجْلِبُ الحُشودَ، ويُكْرِمُ الوُفودَ. فَلَولا قَلَمي لَعادت أغصانُ الإكتساب ذاوية، وبُيوتُ الأمْوال على عُروشها خاويةً. فَأَسْرَعَتْ إليها البُؤْسى، وأَصبَحتْ (كفُؤادِ أُمِّ موسى) فهو لا محالة مَتْجَرها الأربَحُ، وميزانها الأرْجَح، تَدِرُّ ألبانُها، وتُثمِرُ أفْنانُها، ويَسْتَمِرّ إفْضالُها وإحسانُها. فلا جَرَمَ أنِّي رأْسُ مالها، وقُطْبُ أَعْمالها وعُمَّالِها. وفي المعنى: كاتبٌ فَضْلُهُ راتِبٌ، وحَقُّه واجِبٌ. لسانُه لسان المُلْك، ومَكَانُه واسِطةُ السِّلْكِ، أَقْلامُه رِماحٌ، ورَسائلُه صِفَاحٌ، وألْفاظُه وأخلاقُه فِساحٌ. إن سُئِلَ أجابَ، وإن قَرْطَسَ أصابَ. وفي المعنى: الكِتابُ وَالِجُ الأبْواب، جرئٌ على الحُجَّابِ، مُفْهِمٌ لا يفْهَمُ، وناطِقٌ لا يَتكلَّم، به يشخص المُشتاقُ، إذا أقلَقَه الفِرَاقُ. القَلمُ مُجَهَّزٌ لجيوش الكلام، يسكتُ واقِفاً ويَنْطق سائراً. على أرض بياضها مُظلمٌ، وسَوَادها يُضيءُ كأنّما يُقَبِّل بساط سُلْطانٍ، أو يفتح نوار بُسْتانٍ. وقدْ قَسَّمَ ابن مقلة الكُتَّاب على خمسة أصناف: كاتب خَطٍّ، وكاتب

لَفْظٍ، وكاتب عَقْدٍ، وكاتب حُكْمٍ، وكاتبُ تَدْبير. وزاد أبو محمد بن السيد على هذه الخمسة كاتب المجلس، وكاتب العامِل، وكاتب الجيش، وكاتب المَظَالِم، وكاتب الديوان، وكاتِبُ الشرطة. وقال: كاتب الخطِّ هو الورَّاقُ والمُحَرر وكاتب اللفظ هو المُرسل وكاتب العَقْد هو كاتب الحِسَاب الذي يكتُب للعامل وكاتب الحُكْم هو الذي يكتب للقاضي ونحوه ممَّن يَتَوَلَّى النَّظَر في الأَحْكاَم. وَكاتبُ التَّدْبير هو كاتبُ الُّسلْطان، أوكاتبُ وزير دوْلَتِه. ثم قال: وهؤلاء الكُتَّابُ الخمسة، يحتاج كلُّ واحد منهم إلى أن يتَمهَّر في عِلْمِ اللِّسان، حتى يَعْلَمَ الإِعراب، ويَسْلَمَ من اللَّحن، ويعرفَ المقصور والممدود، والمقطوع والموصول والمذكر والمؤنث، ويكون لَه بَصَرٌ بالهِجَاء؛ فإن الخطأ في الهجاء كالخطأ في الكلام. وليس على واحد منهم أن يمعن في معرفة النَّحو واللغة إِمْعان المُعَلِّمين الذين اتخذوا هذا الشأن صناعة وصيَّروه بضاعَةً. ولا إِمْعانَ الفقهاء الذين أرادوا بالإغْراقِ في

الفقه؛ فَهْمَ كلاَمِ اللَّه، وفَهْم كلامِ رسوله، وكَيْفَ تُسْتَنْبَطُ الأَحْكام والحدود والعقائد بمقاييس كلام العرب ومجازاتها. إنما عليه أن يتَعَلَّم من ذلك ما لا يَسَعُه جهالتُه، ثم يُكْثِر بعد ذلك من معرفة ما يَخُصُّ صناعَتُه. ويحتاجُ كُلُّ واحد منهم أيضا إلى العِفَّةِ ونزاهَة النَّفس، وحُسْن المعاملة للناس، وَلِينِ الجَانب، وسَمَاحة الأخلاق، والنصيحة لِمَخْدومه فيما يُقلِّده إيَّاه، ثم يحتاجُ كُلُّ واحد منهم بعد ما ذكرناه إلى أمور تَخُصُّه لا يَحْتاج إليها غيرُه. ثم قسم أبو محمد رحمه الله أقْسامَهم وصَفاتِهم، ورَتَّبَ مراتِبَهم، رذَكر آلاتِهم كما قال هو في كتاب (الاقتضاب) بأَوْجز قَوْل، وأَقْرب بيان إن شاء الله. وإنما نَذْكُرُ مراتِبَ الكُتاب على ما كانت عليه في القِدَم. وأما اليوم، فقد تَغيَّرت عن وَسْمِها المعلوم. ولِكلِّ دهْرٍ دَوْلة ورِجال، ولكل حال إدبارٌ وإقْبال. انتهى كلامه. فمَنْ أراد أن يقف على ما خَصَّهم به من الصفات، وأوْجَبَ لهم من الآلاتِ في فُصُول على الحِكَمِ مُشْتَمِلات، وعلى أنواع الفوائد مُحْتَويات، فليطالع ذلك الكتاب لئلا يلحقه فيما ذكرناه شك، أو يخامره ارتياب. ومن كلام أبي حفص بن بُرد في وصف القلم والدواة والمداد: المِدادُ كالبحر، والقلم كالغَوَّاص، واللفظُ كالجوهر، والقِرطاسُ

كالسلْك، والدَّواة كالقلب، القلمُ كالخاطر، والصَّحيفَةُ كاللسان. والعقلُ أبٌ والعلْمُ أُمٌّ والفكر ابنٌ، والقلمُ خادِمٌ. ما أعْجَبَ سِنَانَ القَلَمِ! يُشْرِقُ ظُلْمَةً، ويَلْفِظُ نوراً. قَلمُ الكاتبِ أمضى منْ سِنَانِ المُحارب. القَلَمُ سَهْمٌ تُنَفَّذُ بِه المَقاتِل، وشَفْرةٌ تُطَبِّقُ بها المفاصل. إذا أخَدَ الكتَّاب شكَّتَهَم للكلام، واخْتَرطوا ظُباة الأَقْلام، فكم من عَرْشٍ يُثَلُّ، ودَم يُطَلُّ، وجيش يُفَلُّ، وجبَّار يُذَلُّ. وما عُبِّئَتْ كتائب، ولا سُرِّيَت مناقب، ولا انتُضِيَت سيوف، ولا ازدلفت صفوف، حتى تخُطَّ الأقلامُ في الطُّروس، ما تحبُّه أوْ تأباه النفوس. على غيثِ الأقلام يتفتح زهر الكلام. ما أصوغَ القَلَم يُجَلَّى الحِكَم. قَاتَل الله القلم كيف يَفُلُّ السِّنان، وهو يُكْسَرُ بالأسنان. القلم يُقَلِّم أظْفَار الدَّهر، ويتَمَلَّك الأقاليم بالنهي والأمر.

فصل ما يستحسن من صفات الأقلام

فصل ما يُستحسن من صفات الأقلام بِخط اليراعة يُنال حَظُّ البراعة، وأفْضل أقلامِ الكُتَّاب، المُنْتَخَبة للكتاب، مالم يَكُن في طُوله تَعَوُّجٌ، ولا في صلابتِه ترجُّج. وكانت خُصوصية العنصر الذي نماه، وسَجِيَّةُ المنبت الذي إليه مُنْتَماه، قد أخذت به بين الرِّقة المُتَناهية التي لا تُسْتَحْسَنُ، والغِلَظِ المفرط الذي يُسْتَخْشَنُ، وأقَرَّتْهُ على المقدار الذي لا يَقَعُ اختيارُ الكاتب على سواه، ولا يتَعَدّاه اقتراحُه ولا يَتَخَطَّاه. ثم انتحى بَرْيَه ذو يمين رفيقةٍ بسكينٍ رقيقةٍ، فأجادَ شَقَّه، وأحكمَ قَطَّهُ فجاء به غَيْر شاقٍّ ولاعاقِّ، سَلْسَ الجريان إذا أُرسِل، مُوافِقاً لِلْبَنانِ إذا أُعمِل، مُعْطِياً لقياده، غَيْر بخيل بِمِداده، تتبَنَّاه الأنامل فَتَرْأَمُهُ، وتُواصل العَمَلَ به فلا تَسْأَمَهُ. فهو للأنامل مطية، وعلى الكتابة مَعونةٌ قوية، قصَبََُه قد استوفى من الماء ريَّه، ومن الشمس حظَّه وزَيَّه، حتى اصفرَّ ليطُهُ، واعتدل خوطه، وتناصَفَ شَكْلُهُ فهو أولى باليد من البنان. قال: وسُمِّي قَلَماً لأنه قُلِمَ، أي قُطِعَ وسُوّي كما يُقْلمُ الظُّفْر. وكلُّ عودٍ

يُقْطَعُ ويُحدُّ في رأسه ويُعَلَّمُ بِعلامةٍ فهو قَلَمٌ، ولذلك قيل للسِّهام أقلامٌ. قال تعالى (وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ) وكانت سِهَاماً مكتوبة فيها أسماؤُهم. وقيل هي في هذه الآية الأقلامُ التي يكتبون بها التوراة. وإَلْقَاؤُهم الأقلامَ كان حين تنازعوا في كفالتها رغْبَة لِفَضْلها. فالقلم أيضا السهم الذي يحال بين القوم. كلُّ إنْسانٍ وقَلَمُه. وهو القِدْحُ. والقَلْم قَصُّ الظُّفْر، يُقال قَلَّمَه تَقْليماً، ومقالمُ الرُّمح كُعُوبُه، ويقال للقلم: المِزْبَرُ بالزاي، والمِذْبَرُ بالذال. سُمِّي بذلك لأنه يُزْبَرُ به ويُذْبر: أي يَكْتُبُ. وقد فرَّق بعض اللغويين بين زَبَرْتُ وذَبَرْتُ. فقال: زَبَرْتُ بالزاي أي كتبتُ، وذَبَرْتُ بالذال أي قرأتُ. ويقال للذي يُقْلَمُ به مَقْلَمٌ وللذي يُبْرى به مبرى ومِبْراة، وقد بَرَيْتُه أبْريه بَرْياً. ويقال لما يَسْقُطُ من التَّقْليم القلُامَة، وهي القُلُومَة من طَرَفِه، ولما يَسْقُطُ عن البَرْي البُرَاَيةُ. ويقال لعُقْدَة الكُعُوب، واحدها: كَعْبٌ. ويقال لما بين عُقْدة الأنابيب واحدها: أنبوبٌ والأنابيبُ، والكعوبُ تُسْتَعْمل أيضا في الرِّماِح، وفي كل عُودٍ فيه عَقْدٌ. وَلِيطُ القلم لَوْنُهُ، فإن قَشَّرْتَ منه قِشرة قُلْتَ: تَلَيَّطْتُ من القلم لِيطَهُ، ويقال لطرفيه اللذين يُكْتَبُ بهما السِّنان، واحدُهما: سنّ والشّعيرتان واحدتهما شَعِيرهٌ. وقيل لأعرابي: ما القلمُ؟ فَفَكَّرَ ساعة، وجعل يُقَلِّب يديه، وينظُرُ إلى أصابعه ثم قال: لا أدري؟ فقيل له: تَوَهَّمْه في نَفْسك. فقال: هو عودٌ قُلِمَ من جوانبه كتَقْليم الأظْفور. وجَمْعُ القلم أقلامٌ كقولك في جمع جَبَل أَجْبَال وجِبَال. وإذا قُطِّع طَرَفُ القلم

وهُيىء للكتابة بعد البَرْي قيل فيه: قَطَطْتُه أَقُطُّه قَطّا. والمَقَطُّ بفتح الميم ما قُطَّ من رأسه، ويقال: قَضَمْتُه أَقْضِمُه قَضماً. قال فيه المقنع الكندي: يَحْفَى فَيُقْضَمُ من شعيرةِ أَنْفِه ... كقُلامة الأَظْفُور في تَقْلامِه. فإن انكسرت سِنُّه قيل قَضِمَ يَقْضَمُ قََضَماً على مثل حَذِرَ يحْذَرُ حَذَراً، فإن جَعلت سِنَّه الواحدة أطول من الأخرى عند قَطِّه، قُلْتَ حرَّفْتُه تَحْريفاً، وقلم مُحَرَّفٌ، فإن جعلت سِنَّيْه مُسْتَوِيَتَيْن قُلْتَ: قَلَمٌ مَبْسُوطٌ، فإن سُمِع له صوتٌ عند الكتابة فذلك الصَّريفُ والصَّريرُ، فإذا كثر المِدَادُ في رأسه حتى يقطر قيل: رَعَفَ القلم يَرْعَفُ رِعَافاً، شُبُِّه برِعاف الأَنْف، ومَجَّ يَمُجُّ مَجّاً، وأرْعَفَه الكاتب إرْعافاً وأمَجَّه إمجاجاً. ويقال للكاتب: اسْتَمْدِدْ ولا تُرْعِفْ ولا تُمْجِج ولا تمُجَّ. أي لا تُكْثر من المداد حتى يقطُر. قال أبو إسحاق: ومن المنظوم البديع التَّهذيب، الرائق التذهيب، الصادر عن الطَّبع الذكي، المُؤيَّد بالأدب الوضي، الرفيع الدُّرَرِ، الواضح الغُرَر، الذي فاق كل وَصْفٍ، واحتوى على كل رِقَّةٍ ولُطْف، واطَّرد ماءُ الفَصَاحة على حواشيه، ولاحَ نورُ البلاغَة على ألفاظه ومعانيه في صفة الأقلام والكُتَّاب، الآخذين مجامع الإتقان والصواب، قولُ ابن المعتز: قلمٌ ما أراهُ أمْ فَلَكٌ يَجْ ... ري بما شاء قاسمٌ وَيسيرُ

خاضِعٌ في يديه يَلْثِمُ قرْطا ... ساً كما قبَّلَ البساط شَكُورُ ولَطِيفُ المعنى جليلٌ نحيفٌ ... وكبيرُ الأَفعال وهْوَ صغيرُ وهذا كقول الآخر: فزادت لدينا خُطوةً حين أقْبَلَتْ ... وفي إِصْبِعَيهَا أسْمَرَُاللّوْنِ مُرْهَفُ أصَمٌّ سميعٌ ساكنٌ متَحرِّك ... ينال جسيماتِ العُلا وهو أَعْجَفُ رجع كَمْ منايا وكَمْ عَطايَا وكم حَتْ ... فٍ وَعَيْشٍ تَضُمُّ تِلْكَ السطورُ نُقشَت بالدْجى نهاراً فما أَدْ ... ري أخطٌّ فيهنَّ أم تَصْويرُ هكذا منْ أبوه مثل عبيد الل ... هـ ينمي إلى العُلا وَيَصيرُ عَظُمتْ مِّنة الإله عليه ... فَأراك الأميرَ وَهْوَ الوزيرُ وفي هذا يقول الآخر: ذا المغتدي مَائِعُ الأنْفَاسِ مَنْهَلُهُ ... وصار أَعْلاَه في القرطاس أَسْفَلُهُ كساه من خَطِّهِ وَشْياً وقلَّدَهُ ... دُرّاً من اللَّفظ لَمْ بفصم مُكَلَّلُهُ

فَأَيُّ زَهّرَةِ بُسْتانٍ تُمَاِتُله ... وأَيُّ درٍّ على اللَّبات يَعْدِلُهُ وفي المعنى أيضا: قَصِيُر الأنابيبِ لَكِنَّه ... يطولُ مضاءً طوال الرماحِ إذا عُبَّ لِلنِّقْسِ في دَامِسٍ ... وَدَبَّ من الطِّرْس فوق الصَّبَاحِ تَجَلَّتّ له مشكلاتُ الأمور ... ولاَنَ لَهُ الصَّعْبُ عند الجِمَاحِ وأنشد الصولي لطلحة بن عبيد الله: وإذا أمَرَّ على المهارق كَفَّه ... بأناملٍ يحملن شَخْتاً مُرْهَفَا متقاصراً متطاولاً ومفصِّلا ... وموصلا ومشتتاً ومؤلّفا ترك العداة روا جفاً أحشاؤُها ... وقِلاعُها قَلْعاً هنالك رجَّفَا كالحية الرقشاء إلاَّ أنه ... يستنزِلُ الأرْوى إليه تَلَطُّفا بأبيات غير هذه. وفي المعنى: قَلَمٌ قَلَّمَ أظْفَارَ العِدَى ... وهو كالإبرة مَشْقُوقُ الظُّفُرْ

أَشْبه الحَيَّةَ إلاَّ أنه ... كلَّما عُمِّر في الأيدي قَصُرْ وقال أبو بكر الأصبهاني: أخْرسُ يُنْبيَك بإطراقِه ... عنْ كل ما شئْتَ من الأمْرِ يُذرِي على قرطاسه دمعةً ... يبدي بها السرَّ ولا يدري كعاشقٍ أخفى هَوَاه وَقَدْ ... نمَّتْ عليه عبرةٌ تجري تُبْصِره في كل أحواله ... عُرْيانَ يكسو الناس أو يُعْري يُرى أسيراً في دَوَاةٍ وَقَدْ ... أَطْلَقَ أَقْواماً مِنَ الأسْرِ في أبيات غير هذه. وقد أَكْثر الشعراء في صفة الأقلام، وفَضُّوا عن البيان كُلَّ ختام بألفاظ تريك السحر مسطوراً، والدُّرَّ النفيس منظوماً ومنْثوراً، ووصفوا الأقلام بأبْدَع الصفات، وبوَّؤا الكُتَّاب أرْفعَ الدرجات، وفَضَّلوا القلم على السيف في مذاهبه، وجعلوا له التَّقديم في مراتبه. فاخَر كاتِبٌ فارساً فقال الفارس: أنا أَقْتُلُ بلا غَرر، وأنْتَ تقتل على خَطَر، فقال الكاتب: القَلَمُ خَاِدٌم للسيف، إِنْ تَمَّ مُرادُهُ، وإلا إلى

السَّيْفِ مَعَاده، أَمَا سَمِعْتَ قول أبي تمام: السَّيْفُ أَصْدَقُ أنباءً من الكتبِ ... في حدِّه الحدُّ بين الجِدِّ واللَّعِبِ بِيضُ الصَّفائح لاَ سُودُ الصَّحائف في ... مُتُونِِهِنَّ جلاءُ الشَّك والرِّيَبِ والعِلْمُ في شُهُب الأرْماح لاَمِعَة ... بين الخَميسيْن لا في السَّبعة الشُّهُبِ فقال الكاتب: أما سَمِعت قول الآخر هو أبو الفتح البستي: إذا افْتَخر الأبطال يوماً بِسَيِفِهم ... وعدُوُّه مما يُكْسِبُ المجْد والكرَمْ كَفَى قَلَمُ الكتابِ مجداً ورِفْعَةً ... مدى الدَّهر أنَّ اللَّه أقْسَمَ بِالقَلَمْ قول أبي تمام: (السيف أصدق أنباء) يروى أنباء بالفتح، وإِنْباء بالكسر، والفتح أجود وهو المختار. والأنباء جمع نبأ، والنَّبأُ الخبر، والأنباء يُسْتدل بها كما يُسْتَدَل بالأخبار. وقال صاحب العين: النَّبَأ مهْموزٌ وهو الخبرُ. تقول: جاءني عن فلان نَبَأٌ أي خَبَرٌ، وإنَّ لِفُُلانٍ نبأ أي خبر. قال الله تعالى (وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ). أي بِخَبَر. وأَنْبَأُ زَيْدٌ عمْرواً، أي أخْبَرَه. والمنبئُ المُخْبِرُ، وهو أيضا المنَبِّئُ بسكون النون وبفتحها.

قال النابغة: وَأَنْبَأَهُ المنَبِّئُ أنّ حَيّاً ... حُلولاً من حَزَامِ أو جُذاَمِ والفعل منه أنْبأته، واستنبأته. والنَّبِيءُ بالهمز: الطريقُ الواضحُ يأخذ بك إلى حيث تريد. وقال بعضهم: النبئُ: الرسول من النَّبإ، فعيل بمعنى مُفْعِل أي مُنبِئ، كما قيل لِلمُدَبِّر الذي يُحْكِمُ الصنع بحسن تدبيره: حَكِيمٌ؛ بمعنى مُحَكِّم عُدِلَ للمبالغة، وكما قيل حبيب بمعنى مُحَبَّب، فإذا همزْت النبيّ جمعته على النُّبآء، لأنه غير معتل كقولك: حكيم وحكماء، وعليمٌ وعلماء، وعظيم وعظماء. قال العباس بن مرداس: يا خَاتِمَ النُّبَآء إنك مرسلٌ ... بالحق كل هُدى السبيل هُداكَا فإذا لم يُهْمز وهو الاختيار، جَمَعْته على الأنبيَاء، كما يُقال وصيٌّ وأوْصياء، ووليٌّ وَأَوْلياء، وتقي وأتْقياء. قوله: فإذا لم يُهْمَز وهو الاختيار، اتباعاً للحديث المأثور. قال أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب (القراءات): (القراءة المقروء بها عندنا بإسقاط الهمز من النبيَّ والأنبياء والنَّبيئين في كلِّ القرآن، لأن الجمهور

الأعظم من القُرَّاء والعامة عليها. وكذلك أكثر العرب مع حديث رَوَيْناه مرفوعاً إن كان حُفظ. حدَّثنا محمد بن ربيعة عن حمزة بن حبيب الزيات عن حُمْرَان بن أَعْين أن رجلاً أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا نَبِيءَ الَّله، فقال: لستُ بِنَبِيء الله، ولكني نبيُّ الله. قال أبو عبيد معناه أنه أنكر عليه الهمز). وقال أبو محمد يحيى بن المبارك اليزيدي: إنَّما سُمِّيت الأنبياء لأنهم قد ارتفعت منزلتهم، واستعلت درجتهم على سائر الخلق. قال: والقراءة بالهمز تفرَّد بها نافع وحده، وقال غيره: النَّبِيءُ الطريق، وسمي رُسل الله أنبياء لأنهم الطَّريقُ إلى الله عَزَّ وجلَّ. والنُّبُوءة بالهمز قياسها. قاله أبو الحسن الرماني.

والنبئ بالهمز، لأنه أَنْبَأَ عن الله أي أَخْبَر، والنَّبْأَةُ: صَوْتُ الكلام نَبَا بِه، قال الشاعر: يُصيخُ للنَّبْأةِ أَسْماعَه ... إصاخة النَّاشِدِ للمُنْشِدِ وفي الحديث: "لا تُصَلِّ على المكان النَّبيء" قال أبو سليمان الخطابي سمعت ابن سعدويهْ يقول سمعت ابن اليمان يقول: معناه المرتفع المُحْدَوْدَب، مأخوذ من النَّبْوة وهي الارتفاع، قال أوس بن حجر: لأصبح رثماً دُقاق الحصى ... مكان النبيء من الكاثبِ والكاثِبُ موضع. والإنباءُ بالكسر معناه الإظْهارُ للنَّبأ وهو الخبر، والإنباءُ والإخبارُ والإعلامُ نظائر.

وقال أبو علي الفارسي في (الحجة)، قال أبو زيد، يقال: نَبَأْتُ من أرض إلى أرض أخرى، فأنا أَنْبَأُ نَبْأً إذا خرجت منها، وليس اشتقاق النبي من هذا وإن كان من لفظه، ولكن، من النَّبَأ الذي هو الخبر، كأنه المخبر عن الله سبحانه. وقال غير أبي علي كلُّ ما جاء في القرآن من هذا اللفظ فهو بمعنى الخبر، وهوالذي يتعدّى إلى مفعولين، أحدهما بحرف الجرّ، وقد يحذف حرف الجر فيتعدى الفعل فينصب. قال الله تعالى (فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا) أي بهذا، وقال الشاعر: أدانَ وأنْبأه الأولون ... بأنَّ المُدان مليٌّ وفيُّ وتقول العرب: أنْبَأْتُ زيداً عمرواً أخاك بمعنى أَعْلَمْتُه قال عنترة: نُبِّئْتُ عَمْراً غير شَاكِر نِعْمَتي ... والكُفْرُ مَخْبَثَةٌ لنفس المُنْعِمِ فمن جعل نُبِّئْتُ بمعنى أُخْبِرْتُ نصبغير على الحال، ومن جعلها بمعنى أُعْلِمْتُ نصبغير على المفعول الثاني. وقول أبي تمام (بيض الصفائح): الصفائحُ جمع صفيحة وهي العِراض من السيوف. قال الشاعر: ضَرَبْناهُم حتَّى إذا ارْفَضَّ جَمْعُهُمْ ... عَلَوْنَاهُم بالمُرْهَفَاِت الصَّفَائِحِ وهي أيضاً الصَّفاحُ واحدتها صفْحَة، قال أيو العباس: أصلها ما كان من ظاهر

الشيء. يُقال لظاهر جلدة الإنسان: صَفْحَتُه، وكذا هو من كل شيء، ومن هذا قولهم صَافَحْتُهُ أي لَقِيَتْ صفحة كفِّه صَفْحَةَ كَفِّي. وفي الحديث فيما روى محمد بن كامل العماني، وعن أبان العطار عنثابث البُناني عن أنس بن مالك قال: صافحتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم أر خَزَّا ولا قَزّاً كان أَلْيَنَ من كفِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه التَّسْبِيح لِلرِّجَال، والتَّصْفِيحُ للنساء، أي التَّصْفِيقُ لأنها تضرب بَِِصْفَحة كفٍّ على صَفْحة كفٍّ أخرى. وتقول نظر إليه صَفْحَا؛ أي بقدر ما أبدى صفْحَتَه لم يجاوز ذلك. ويقال صَفَحْتُ عنه، أي لم أُؤَاخِذُْه بذنبه، وأبْدَيْتُ له على صفحةٍ جميلة. والصَّفْحُ التَّجَاوُزُ، ومنه صَفَحْتُ الورقة أي تجاوزتها إلى غيرها. وفي كتاب الله عز وجل (فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) وفيه (فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا) ومنه قول الحارث بن هشام أخي أبي جهل شقيقه:

فَصَفْحْتُ عنهم والأحبَّةُ فيهمُ ... طَمَعاً لهم بِعِقاب يومٍ مُفسدِ أي لم أجادلهم لأقبض صَفَاحَهم، أو أريهم ذلك في نفسي. والرواية الصحيحة في بيت الحارث بن هشام بن الحارث المذكور: (فَصَدَفْتُ عنهم والأحبةُ فيهمُ). وهذا البيت في أبيات له قالها معتذراً من فراره يوم (بدر) يقول فيها: الله يعلم ما تركتُ قِتالَهَمْ ... حتى رموا فَرسي بأشقرَ مُزْبِدِ ووجَدتُ ريح الموت من تلقائهمْ ... في مأزقٍ والخيلُ لم تتبدَّدِ وَعَلِمْتُ أَنِّي إن أُقَاتِلْ واحداً ... أُقتلْ ولا يَضْرُرْ عَدُوِّيَ مشْهدي فَصَدَفْتُ عَنْهُمُ، البيت. وقال الآخر: صَفَحْنا عنْ بني ذُهْلِ ... وقُلْنا: القومُ إخْوانُ والفعل منه صفَحَ يَصْفَح صَفْحاً، وتَصَفَّح تَصَفُّحاً وتَصَافَحُوا تَصافُحاً، وصافَحْتُه. مُصَافَحَةً والمراد به: التجاوُزُ عن الذنب. فأما قول لبيد يصف السحاب: كأنَّ مُصَفَّحاتٍ في ذُراهُ ... وَأنْواحاً بِأيْديها المآلي

فالمُصَفَّحَاتُ هنا النِّسَاءُ يُلْقينَ صفحات أكُفِّهن لِبَعْضِهِنَّ على بعض فيَضرِبن بها في المناحات. والأنْوَاحُ جمع نَوْح، ونُوَّحٌ جمع نائحة؛ والمآلي جمع مِئْلاة، وهي خِرْقَة تُمْسِكها النائحة تتلقى بها دمعها وتُشيرُ بها إذا ناحَتْ. فشبهلبيد لمعان البَرْقِ بِلَمْع النائحة بِمِئْلاتها إذا ناحَتْ. وفي هذا التشبيه يقول امرؤ القيس: وتخرجُ منه لامِعاتٌ كَأنَّها ... أكفٌّ تَلَقَّى الفَوْز عِنْدَ المُفِيضِ وقول أبي تمام أيضا: بين الخميسين لا في السَّبْعةٍ الشُّهُبِ يعني بالسَّبْعَة الشُّهُبٍ الدَّرَارِي السَّبْعَة، وهي أَعْلامٌ يستدل بها: زُحَل والمشتري وعطارد والمريخ والزهرة والشمس والقمر ... ولقول أبي تمام هذا خبر ذكره أبو بكر الصولي في شرح شعر أبي تمام. وللسَّبْعة تصرفٌ في جلائل الأُمور، فالأيامُ سبعة والسماوات سبع والأرضُون سبعٌ بدليل قوله تعالى (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ) والبحارُ سبعة. وأبواب جهنم - أعاذَنا الله منها - سبعة. في أشباه لهذا معروفة. ومن شأن العرب أن يبالغوا بالسبعة وبالسبعين من العدد كما قال الله جل وعز (إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ)

فأما قول الشاعر: يا مْعْطيَ الخير الكثير مِنْ سَعَهْ إليك جاوزنا بلاداً مَسْبَعَة وفلوات بعد ذاك مَضْبَعَهْ فالبلاد المسْبَعَة هي الكثيرة السباع، والفلوات المَضْبَعَة هي الكثيرة الضِّباع. ويقال أسبع الرَّاعيان، إذا وقع السَّبُعُ في مواشيهم، والمُسْبِعُ الذي أغارت السباع على غنمه. ويقال أَسْبَعَ فلان عَبْدَه إذا أَهْمَله. قال أبو ذؤيب: صَحِْبُ الشَّوارب لا يَزالُ كأنَّه ... عبد لآل أبي ربيعةَ مُسْبَعُ وقال رؤبة: إن تميماً لم يراضِع مُسْبَعَ ... ولم تلده أمُّه مُقَنَّعَا والمُسْبَعُ الذي تموت أُمُّهُ فَيَتَوَلَّى رَضَاعَه نِسْوةٌ فَيَغْتَذي بينهن. وقال بعضهم: المُسْبَعُ وَلَدُ الزِّنا. وعَبْدٌ مُسْبَعٌ في لغة هُذيل هو الذي ينتهي إلى سبعة آباء في العبودية. والمُسْبَ عُ أيضا المولود لسبعة أشهر، وأمه مُسْبِع.

وقال صاحب العين سبعتُ فلانا عند فلان، إذا وقَعْتَ فيه وقعةً مضرةً. وقاله يعقوب. وقال ابن قتيبة: سبعْتُ الرجل: وقعت فيه، وأطعمته السبع. وفي حديث عبد الله بن مسعود فيما روى الحميدي، عنس فيان، عن الأعمش، عن خيثمة، عن رجل عن عبد الله: أن الرجل ليهم بالأمر من أمر الإمارة والتجارة، فيقول الله تبارك وتعالى للملك اصْرِفْه عن عبدي، فإني إن أنا يسرته له أدخَلْتُهُ النار فيَصْرِفُه عنه فَيَظَلُّ يتَظنى بجيرانه: من سَبَعني من سَبَعَني، وإن صرَفَه عنه إلا الله. وقول الآخر (إن الله أقسم بالقلم)، يعني قول الله تعالى (ن وَالْقَلَمِ) فقد نوَّه به لما ذكره في الكتاب العزيز معتداً به في نعمه على خَلقه، وفي هذا دليل على شرفه وعظيم شأنه لما فيه من المنافع. وفي الخبر عنابن عباس أنه قال أول ما خلق الله القلم. قال له اكتب قال، وما أكتب، قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة. وقال تعالى (الْأَكْرَمُ

الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ)، أي عَلَّم الإنسان الخَط بالقلم. وشأنُ القلم رفيع. رجع وممن فضَّل القلم على السيف فأحسن علي بن العباس التنوخي حيث يقول: إن يخدم القلمَ السَّيفُ الذي خضعتْ ... له الرقابُ ودانتْ خوفَه الأممُ فالموت والموتُ لا شيءٌ يُغَالِبُهُ ... ما زال يَتْبع ما يجري به القلمُ بِذَاقَضى الله للأقلام قد بُرِيَتْ ... إنَّ السيوفَ لها مُذْ أُرْهِفَتْ خَدَمُ وقال أبو عبد الله محمد بن غالب الرصافي: قد يسكُتُ السيفُ والأقلامُ ناطقةٌ ... والسيفُ في لُغَِة الأقلام لحَاَّنُ وقال ابن الرومي في تفضيله:

لعمركَ ما السيف سيف الكَمِيِّ ... بأخوف من قلمِ الكاتب له شاهد إن تأمَّلْتُه ... ظَهَرَتْ على سِرِّهِ الغائبِ أداةُ المنية في جانبيه ... فَمِنْ مِثْله رهبة الرَّاهِبِ ألم تر في صدره كالسِّنَانِ ... وفي الردف كالمرهف القاضِبِ سنانُ المنية في جانبٍ ... وحَدُّ المنية في جانبِ وقد فضله التهامي على الرُّمح فأحسن حيث يقول: قلماً دبَّر الأقاليم حتَّى ... قال فيه أَهْلُ التناسُخ أَمْرَا يتبعُ الرمح أمْره إن عِشْرِي ... نَ ذراعاً بالرأْي تخدم شبرَا وناقضه أبو العلاء المعري فقال: دَعِ اليَرَاعَ لِقَوْمٍ يَفخرونَ به ... وبالطوال الرُّدَينياتِ فَافْتَخِِر فهن أقلامك اللائي إذا كتبت ... مجداً أتت بمداد من دم هَدَرِ وقد ذكرتُ في فصل الأوصاًف والتَّشْبيهات من مليح النِّظام، جُمْلة أبيات من أحسن ما قيل في السيف وأبْلغِه وأنفسه في سوق الأدب وأسْوَغِه، تنخرط في

سلك ما جمعتُ، وتَرْتَبِطُ مع ما في تحريره شرعْتُ. وقد ساوى بين الشيئين ومَدَحَ كِلْتا الخُطَّتين، أبو بكر بن قُزْمان، فقال: يُمسك الفارسُ رُمحاً بيدٍ ... وَأَنا أُمْسك فيها قَصَبَهْ وكلانا بَطَلٌ في فِعْله ... إنَّ الاَقْلاَمَ رماح الكتَبةْ وهذا مما تَظَرَّفَ فيه أبو بكر وحلَّى به جيد العصر، وراقَ له زًَهراً جَنِيَّا، وتَأوَّجَ عَرْفاً ذكياً، وأَلْهجَ على كلِّ لسان، وحلَّ من كلِّ عينٍ محلَّ الإنسان. وفي تفضيل السيف وتقديمه يقول أبو عبد الله بن أبي الخصال الكاتب المجيد في أول مُخَمَّسته المشهورة: الحمد لله أضْحى الدينُ مُعْتَلِياً ... وباتَ سيفُ الهدى الظَّمآن قد رويا إنْ كنتَ ترتاح للأمر الذي قُضِيا ... فخُذه نَشْراً ودعْ عنك الذي طُوِيا

السيفُ أصدق أنباء من الكتب هو المقَيِّد للآثار والحِكم ... لولا وقائعه في سائر الأُمم لم يحفل الناس بالقرطاس والقلم ... أينَ اليراعةُ من صمصامة خَذِمِ في حَدِّه الحد بين الجد واللعب والسَّمْهَرِية يتلوه ويتْبعه ... ما مال عَرشٌ رماحُ الخَطِّ يرفعه خُدْ ما تراه ودع ما كنت تسمعه ... فالعلْمُ في شُهب الأرماح أجْمَعُه بين الخميسين لا في السَّبعة الشهب وهذه المخَمَّسة طويلةٌ حَسنةٌ بديعَةٌ مُسْتَحْسَنَةٌ. وأحسن ما أذكر في صِفَةٍ القَلَم قول أبي تمام: لك القلم الأعْلى الذي بشَباته ... تُصابُ من الأمر الكُلَى والمفاصلُ له الخلوات اللاَّئِي لولا نَجِيُّها ... لما احتفلتْ للمُلك تِلكَ المحافلُ لُعابُ الأفاعي القاتلاتِ لُعابُهُ ... وأرْيُ الجنى اشتارَتْه أَيْدٍ عَوَاسِلُ له ريقة طَلٌّ ولكنَّ وقعها ... بآثاره في الشرق والغرب وابلُ فصيحٌ إذا استنْطقته وهو راكبٌ ... وأعجمُ إنْ خاطبته وَهْوَ راجلُ إذا ما امتطى الخَمْسَ اللطاف وأُفرغَتْ ... عليه شِعَابُ الفكر وَهْي حوافلُ أطاعته أطراف القَنا وتَقَوَّضَتْ ... بنجواه تقويضَ الخيام الجَحَافِلُ إذا اسْتَغْزَرَ الذهن الذكيَّ وأقبلتْ ... أعاليه في القرطاس وهي أسافِلُ

وقد رَفَدَتْه الخِنْصران وشَدَّدَتْ ... ثلاث نواحيه الثلاث الأناملُ رأيتَ جليلاً شانُهُ وهْوَ مُرهفٌ ... ضنى وسَميناً خَطْبُه وهو ناحِلُ وهذه الأبيات في قصيدة له في محمد بن عبد الملك الزيات قرأتها في شعره، وهي قصيدة اتخذها البيان قَلْباً، وضَمَّ عليها شِغافاً وخَلْباً، قصَّرَ عنها كل ناظمٍ، واغتَرَفَ منْ بحرها كلُّ ماهرٍ في النِّظامِ وعالم قوله. (لعاب الأفاعي القاتلات) البيت، أخذه أبو الحسن علي بن عطية بن الزقاق فقال: تَمُجُّ سُمّاً وجنى نخلةٍ ... فريقُها يُرجى كما يُرْهَبُ وبعد هذا البيت يُريك من صيغتها جوهراً ... يُنظمُ في الطِّرس ولا يثقبُ خرساءُ لكنَّ لها منطقاً ... أقرَّ بالسبْقِ له يُعْربُ كأنه اقتدى في البيت الثاني بقول ابن المعتز في سليمان بن وهب: إذا أخذ القرطاس خلْتَ يَمينه ... تُفَتِّح نَوْراً أو تنظِّم جوهرا

وهذا المعنى أخذ القاضي أبو الحسن علي بن أحمد بن لُبَّال الشريشي حين قال: إذا اضْطَربتْ سُمرُ اليَرَاعِ بِكفِّهِ ... تَرَى دُرَراً تَنْحَطُّ من فم أرقَمِ وخَطّاً كما ألْقَتْ عَلَى صَحْنِ خَدّها ... عروسُ الرُّبى وَشْيَ الرياض المنمَّمِ وفي معناه أيضاً قول الآخر: إذا اضطربت في كفه خِلْتَ صعدةً ... وإن سقطت من كفِّه خِلْتَ أرْقَما ومن قول شاعرنا أبي العباس أحمد بن شكيل في القاضي أبي حفص ابن عمر: له قلم تنقاد بيضُ الظُّبا لَهُ ... وإن لقحتْ حربٌ وزُرقُ اللَّهازم به عرف الأقوامُ ما هو كائن ... وما هو جار في نفوس العوالمِ علا فَهْو للآجال أصدق ناسخ ... وَنَاسٍ وللأرزاقِ أعْدلُ قاسِمِ إِذا جَالَ في القرطاس سَاقَطَ لؤلؤاً ... يُزَيِّنْ به أسلاكَه كلُّ ناظمِ وإن ظل سَاري الفكر أَطْلَعَ أحرفاً ... تنير النهى منها بِسُودٍ فواحمِ دعاه أناسٌ ترجمانَ ضميره ... وهل لبليغ حاجة في النواجم

وأنشدني بعض الأدباء: إذا بدا القلمُ الأَعلى براحته ... مطرزاً لرداء الفخر بالقلمِ رأيت ما اسود في الأبصار أبيض في ... بصائر لحظها للفهم غير عَمِ كروضة نمقت من وشي زهرتها ... وافترَّ نوارها عن ثغر مبتسمِ قوله: رأيت ما اسودَّ في الأبصار البيت، منظوم من كلام أحد البلغاء: صورة الخَطِّ في الأبْصار سوادٌ، وفي البصائر بياضٌ. ومن قول الآخر: بِضِياء الحِكْمة اسْتِنارَةُ المرادِ. وقال الشاعر في المعنى: لا عجيبٌ إنْ كان شعرك نوراً ... وهْوَ يغشَى البياض بالتسويدِ إنما النورُ بالسواد من العي ... نِ وهذا البياض للتأكيدِ وقال أبو الطيب في المعنى: دعانى إليك العلمُ والحِلْمُ والحِجَى ... وهذا الكلامُ النَّظْمُ والنائل النَّثْرُ وما قُلْتُ من شِعْرٍ تكادُ سُطُوره ... إذا كُتِبَتْ تَبْيَضُّ عن نورها الحِبْرُ وقال أبو الحسن التهامي، وهو مما استحسنته: يَا رُبَّ معنى بعيدِ الشأو تَسْلكه ... في سلكِ لفظٍ قريب الفهم مُخْتصرِ

لفظٌ يكون لِعِقْد القول واسطةً ... ما بين منزلةِ الإسهابِ والخَصْرِ إنَّ الكتابة صارتْ نحو أنمله ... والجود فالتقيا منه على قدرِ تردُّ أقلامُه الأرماح صاغرةً ... عكساً كعكسِ شعاع الشمس للبصر وفي كتابك فاعذر من يهيم به ... من المحاسن ما في أحسن الصور الطرسُ كالوجه والنوناتُ دائرةٌ ... مثلُ الحواجبِ والسيناتُ كالطُّرَرِ وفي معنى هذا البيت يقول الآخر: فَنُوناته من حاجِبيْه استعارها ... ولا ماتُه من قدِّه المتعاطِفِ وَمِنْ صُدْغِه الموحي اسودادُ مدادِه ... وَمِنْ وَصْلِه المحيي ابِيضَاضُ الصحائِفِ في المعنى أيضاً قول الآخر: انْظرْ إلى أثر المدادِ بطرسِه ... كبنفْسَج الخَدِّ المشوبِ بِوَرْدِهِ ما أخْطَأَتْ نوناتُهُ من صُدْغِهِ ... شيئاً ولا أَلِفاتُهُ من قَدِّه وكأنَّما أنْقاسُه من شعره ... وكأنَّما قِرطاسُه من خَدِّه وأنشدني بعض الأدباء: خَطُّه بهجةُ أزاهرِ روضٍ ... جاده من حِجَاه وبلٌ سكوبُ ما العوالي على خُدودِ الغواني ... غير ما حَازَ رَقُّه المكتوبُ

وقال أبو الفضل الدارامي وضمنه وصف مُعَذَّر: وكاتب أهديت نفسي له ... فَهْيَ من السوء فِدى نفسه سلط خديه على مهجتي ... فاستأصلْتُها وهي من غرسه كأنما خط على خدِّه ... مثل الذي قد خط في طرسه فلستُ أدري بعدما حلَّ بي ... بمسكه أتلفُ أم نِقْسِهِ وهذا كقول الآخر: وشادن أسْرفَ في صدِّه ... وزادَ في التيه على عَبْدِهِ الحسنُ قد بثَّ على خده ... بنفسجاً يرنو على ورده رأيتُه يكتب في طِرْسه ... خَطّاً يباري الدُّرَّ من عقدهِ فخِلْتُ ما قد خطَّه كفُّه ... للحسن قد خطَّ على خدِّه قوله: الحسنُ قد بث على خده، أي أَظْهَر وفَرَّقَ. قال أبو بكر بن دريد: كلُّ شيء فرَّقْتَهُ فقد بثَثْتَه، وفي التَّنْزيل (كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ).

ويقال: بَثثته سِرّي إذا أَطْلَعْتُهُ عليه. وانْبَثَّ الجرادُ في الأرْضِ: أي تَفَرَّقَ. والبَثُ أيضا ما يجده الإنسان من غَمٍّ أو كره في نفسه. قال الله تعالى (إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ). وأصل البثِّ: التَّفريق، فقولهم أبْثَثْتُه سري؛ لأنه فرق بينه وبين سره بإطلاع غيره عليه. والبثُ: الغمُّ الذي من شأنِ صاحبه أن يَبُثَّه إلى خليله. وقيل لتقسم القلب به، وهو تفريق أسباب الغم فيه. وقال بعضهم في صفة الكُتَّاب: قوم إذا أخذوا الأقلامَ من قَصَبٍ ... ثم استمدوا بها ماء المنياتِ نالوا بها من أعاديهم وإنْ بَعُدُوا ... ما لا يُنالبحدِّ المشرفياتِ ومما يُنْسَبُ إلى أبي تمام ولم أقرأه في شعره: مدادٌ مثلُ خافية الغرابِ ... وقرطاس كرقراق السرابِ وألفاظ كألفاظ المثاني ... وخطٌّ مثل وشي يد الكَعَابِ كتابٌ لو رأتْه الكتب قالت ... سرقت الحسنَ من أُمِّ الكتابِ

كزهر الروضة الغَنَّاء باتتْ ... ترشف نيلها ريقُ السحابِ كلامٌ تقرعُ الآذانُ منه ... بلفظٍ وقعه وَقْعَ الهضابِ إذا بلغ القلوب حَيين منهُ ... كَمَا يحيين من بَرَدِ الشرابِ ومما اخترْتُ في وَصف الكَتْب من المنثور المطبوع، والكلامِ الحر الرفيع رُقْعَةً لبعض الفصحاء، خاطبَ بها مراجعاً لبعض الفقهاء وهي: وردَ كتابك غاية الفَصاحة، ومنتهى البلاغة والرجاحة، فقبَّلْتُهُ عشراً، وأقبَلْتُهُ مني رَأْساً وشَعْراً، وحين فَضضْتُ ختامَهُ سقَطَ بَصري على شكل مُشِقَ خطُّه فاندمج، ووسِّع بين أسطاره فانفرج. فياله من كتاب قصُر وطال، وجَمَد قلمُ كاتبه وسال، نتيجة برهان. مقدِّمَتاه: الطَّبْعُ والبراعَةُ والجَزالة والإصابَةُ. جَمَع بين مبدإ البلاغة وآخرها، في سحاة طولها الشُّفْر، وعرضها الظُّفْر. ولا غرو، فمن علم الأصول استنبط الفروع، ومن انتقى القليل، استغنى عن شُعَب الجُموع، ولذلك جعلته إماماً اخْتَرْتُه، ومثالاً امْتَثَلْتُه، ولو أسْهَبْتُ ما بَلَغْتُ غاية الوصف، ولا أعْطَيْتُه من حقِّه النِّصْف. فلِلَّه فِطْنَةٌ فطرتْه، ويَدٌ سَطَّرَتْهُ، وصحيفَةٌ احتوته، وأنامل لوتْه. ما أبدعَ ما وَسَقَ، وأعجبَ ما نظم واتسق، (إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ) ودُرٌّ يُنْثَرُ، وأنفاس تَعْبَقُ، ونُفوسٌ تُسْبى وتُسْرَق. أعراضٌ كقِطَع الرَّوض، ومعانٍ كأبْكار الغواني أُدِرْنَ قُدوداً، وكُسِينَ من وشي الكلام عقوداً. ملك عيني نوراً، ويدي مسكاً وكافوراً، ودخلتْ نفسي منه قُوَّةٌ لا أعْرِفُها فَكَيْفَ أصفها ولا أدْريهَا، فكيف أحْكيها. ماأنْضر جَنَاهُ، وأزْهر سناهُ. وأبْهَرَ لَفْظَهُ ومعناه. ضَمَّن من بدائع الكلام فِقَراً شوارد، وقَلَّد من نواصع الحكم دُرراً فرائد.

قوله: (مُشِقَ خَطُّه فاندمج) المَشْقُ: خَط فيه خفة، والمشقُ: السرعة في الكتابة، وهو يُعْزى إلى أهل الأنبار. والعرب تقول مشقه بالرمح، إذا طعَنَه طعناً خفيفاً متتابعاً. ومنه قول ذي الرمة يصف الثور والكلاب: فَظَلَّ يمْشُقُ طَعْناً في جواشنها ... كأنَّه الأجر في الأعمال يحتسبُ ويروى (في الأقتال)، وهم الأعداء واحدهم: قِتْل. قال الأعشى: ربَّ رَفْدٍ هَرَقْتَهُ ذلك اليَوْ ... مَ وأَسْرى من مَعْشَرِ أَقْتَالِِ ويقال: إن المشق في الخط مدُّ الحروف، والقول الأول أوفق، لأن مد الحروف هو مَطُّها وتَعظيمها، فأما قولهم: رقمتُ الكتاب رقماً، ونَمَقْتُهُ نَمْقاً ونَمَّقْته تَنْميقاً، ونبََّّقْتُه تنْبَِيقاً النون قبل الباء، وبنَّقْتُهُ تَبْنيقاً: الباء قبل النون، وحبَّرته تحبيراً، ورقَشْتُهُ تَرْقيشاً، وزَبْرَجْتُهُ زَبْرَجَة وزِبْراجاً، وزَخْرَفْتُه زَخْرفة. فهذا كله كناية عن الكتابة الحسنة. والوشم والإعجام والترقيشُ كنايةٌ عن النقط. وقد استوفى أبو محمد بن السيد رحمه الله هذا النوع وأكمله وقوله: (في سحاة طولها الشُّفْر) يقال لقشرة تقشر من الكتاب: سَحَاةٌ وسِحَايَةٌ وسَحَاءةٌ. والجميع سِحَاءات وسِحايات. وسَحَاءٌ مكسور ممدود، وسحاً مفتوح مقصور وسحايا، ويقال: سَحَوت الكتاب سَحْواً وسَحَيْته سَحْياً، إذا قشَرْت منه قشرة. ويقال لها أيضاً خِزَامةٌ، ويقال لها أيضاً إضبارةٌ وضِبَارَةٌ

بكسر الضاد. ويقال ضبرْت الكتاب بالتخفيف وضبَّرته بالتشديد. والإضْبارَة هي السحاة، والإضبارةُ أيضا صُحُف تجمع وتشدّد وكما يقال: سحوت الكتاب، كذلك يقال: سحوت الشَّحم عن الجلد أسْحوه سحواً؛ إذا قَشَرْتَهُ عنه، ويقال أيضاً: سحوتُ الطين بالمسحاة سَحْواً. وقد يقال سحيتُ بالياء أَسْحيه سحياً. والسَّحاةُ أيضاً والمِسْحاةُ الماعون الذي يُسْحى به الطين؛ أي يُقشر. قال النابغة: رُدَّتْ عليه أناصيه ولبَّدَه ... ضَرْبُ الوليدة بالمسحاة في الثَّأَدِ وقوله، (ما أبهر لفظه ومعناه) أي ما أشد نوره وضياءه لأن الباهر الممتلئ نوراً. قال الأعشى: حكمتماني فقضى فيكما ... أبلجُ مثل القمر الباهر وفي الحديث المروي عنعبد خير عنعلي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قلتلعلي أُصلي الضُّحى إذا بَزَغَتِ الشمس؟ قال (لا حتى تَبْهر البُتَيْرَاءُ)، يريد بالبُتَيْراء: الشمس، أي حتى ترتفع الشمس ويشتد ضوؤها، ويقوى شعاعها. والباهر أيضاً المعلِنُ بالشيء، المظهر له حتى يعلم ويعرفه من كان يجهله،

وهو أيضاً المبْتَهِر، يقال منه ابْتَهر فلان لفلانة، أي ذكرها مُشتهراً بها، ومنه قول الشاعر: وقد بَهرتْ فما تَخْفى على أحدٍ ... إلاّ على أحد لا يعرف القَمَرا قاله الخطابي وحكى عن ابن الفارسي عن الغلابي عن ابراهيم بن عمر في قول عمر بن أبي ربيعة: ثم قالوا: تحبُّها قلت: بهراً ... عدد القَطر والحصى والتراب قال: كنت أحسب قوله: بهراً، دعاء عليهم، كقولهم جَدْعاً وتَعْساً وبُعْداً وسُحْقاً وما أشْبه ذلك، كقول ابن ميادة: فَبُعْداً لقَومي إذ يَبيعونَ مُهْجَتي ... بجارية بَهْراً لهم بَعْدَها بَهْرا يدعو عليهم، من قولهم: بَهَرَهُ الأمر يَبْهَرُهُ بهراً إذا غلبَه، حتى فسرهالأصمعي؛ قال: معناه قلت لَهُم مُعْلِناً غير مُكْتَتِم لذلك فأما حديث أبي موسى الأشعري وهوعبد الله بن قيس: حتى ابهارَّ الليل.

فقال أبو عبيد القاسم ين سلام الخزاعي البصري: بُهْرَةُ الليل: وسطه وقال أبو سعيد الضرير: قد يَبْهارُّ الليل قبل أن ينتصف، وإنما ابهرارُه: طلوع نجومه إذا تتامت، لأن الليل إذا أقبل أقبلت فَحْمَتُه، فإذا تطالعت نجومه واشتبكت ذهبت تلك الفَحْمَة. رجع وفي المعنى: كتابٌ كتَبَ إليَّ أماناً من الدَّهر، وهَنَّاني أيامَ العُمر. كتابٌ أوجَبَ من الاعتدادِ أوْفَرَ الأعداد، وأوْدَعَ بياضُ الوِدادِ سوادَ الفُؤادِ. عَدَدتُه من حُجُول العُمْر وغُرَرِهِ، واعْتَدَدْتُهُ من فُرَصِ العيْشِ وغُرَرِه، كِدْتُ أَبليه طيّاً ونَشراًً. قَبَّلْتُه ألْفاً ويَدَ حامِلِه عشراً. نسيتُ بحُسْنِه الرَّوْضَ والزَّهر، وغَفَرْت للزمان ما تَقَدَّمَ من ذنْبه وما تأخر، هو أنفس طالع، وأكرمُ متطَلِّعٍ، وأحْسن واقع، وأجلَّ مُتَوَقّعٍِ. سمْرٌ بلا سهر، وصفوٌ بلا كدَر. تمَتَّعْتُ منه بالنَّعيم الأبيض، والعيش الأخضر، واسْتَلَمْتُهُ استلام الحجر. هو نِعْمةٌ سابِغَةٌ، وحِكْمةٌ بالِغَةٌ، ألْصَقْتُهُ بالكبد، وشَمَمْتُهُ شميمَ الولد، أبْصرْتُ منه الزَّهر جنِياً، واستنشقته المسك ذكياً، ووردتُ الماء مرياً، والعيشَ هنياً، وسمعتُ السِّحْر بابِلياً. مَطْلَعُهُ مطلعُ أهِلَّةِ الأعياد، وموقِعُهُ مَوْقِعُ نيْلِ المرادِ. وفي المعنى: وردني أَعَزَّكَ الله كتابُكَ النير بسناكَ، والعاطرُ بشذاكَ. يَسْبي كل مُهْجَةٍ ومُقْلَةٍ بِمُعْجِز (الصَّابي)

ومُخْجِل (ابن مقلة) يختال من خُضْرِ السنادسِ في أرفع الملابس. زاهية أرضُهُ منْ رُقوم بَنانِكَ، حاليةٌ سماؤُه من نُجوم بيانك. كتابٌ يقود من البلاغة كتائب، لم يُعد مثلها مهلهل في الذنائب تلقَّيْتُه تَلَقِّي الأمير المعظم، وصافحته مصَافَحَةَ الأثير المُكَرَّم، لَمَحته فكان أحسن من وَرْدِ الأسِيلِ، واسْتَفَْحْتُهُ فكان أطيبَ منْ برْد الأصيل، وعايَنْتُ بِعُذوبتِهِ حر الغليل، فَصُنع صُنْعَ الزُّلال، عُرِضَ للشَّمالِ في الدِّمَن جنا النَّحل، وأطرف من بواكر النَّخْلِ. فيَالكَ من جديد جَدَّدَ أُنْسِي، وردَّ من عصرِ الشباب أَمْسِي، مَجَّدني بحديقة تَنِمُّ بأنفاسٍ عبيقة لأبْكارِ معانٍ حُلينَ بِدُرٍّ ألْفاظٍ، أسْحَرُ من غَوان، يَقْتُلْنَ بسحر ألحاظ. تَجْتَلي العيون ببستانه أبهى زَهْر، وتَجْتَني القلوب من أفْنانه أشهى ثَمر، رَوضٌ طَرَّزَ البنفسج بهاره، ونوَّر الليل نُواره، فَنِقْسُه نوره، والبياض كافوره، يُذَمُّ له الحَلْيُ المُزَيَّنُ، ويَحْسُدُ رقمه الوشيُ المُعَيَّنِ كالمِفصل ذي الشذور، على نُحُور الحور. قال أبو إسحاق: هذا كلامٌ فائقٌ، ومْزْدوج رائق، وليست هذه الألفاظ أظنها دُُرراً وغرَراً، أحظى عند النّفوس من يُسراها وأحْلى في العيون من كَراها. آمالٌ مجموعة، ومحاسن مزيَّنة مسموعة. رياحين أرواح، وصبوح تُعُوطِيَتْ على وجه الصَّباح.

وفي المعنى أيضاً: وافَتْني أطال الله بَقاءكَ، أحرفٌ كَأَنها الوشم في الخدود. تميس في حلل إبداعها كالغُصن الأملود، وإنك لسابِقُ هذه الحلبة التي لا يُدْرَكُ غُبارها في مضمارها ولايضاف سرارك إلى إبدارها. وما أنت في أهل البلاغَة إلا نكتة فلكها ومعجزة تتشرف الدول إلى تملكها وما زالت تشيد البناء، وتُخَلِّد الثَّناء، وَتحفظ الأرجاءَ، وتمُدُّ الرجاء. وفي المعنى أيضاً: ورَدَني - أعزك اللَّه - كتابٌ ألَذ من مراشِفِ الأحباب الأتراب جلوت منه زهر المعاني في رياض الشعر، وعروس الأماني، الربيع قبل أوانه فتقسم نظري بين شقائقه وحوذانِه ووَرْدِه من أبكارِ درر، وأنواع غُرر بعضها من بنات الفِكْر، وبعضها من آيات مبتسمة منه، وألْسنة سُرُركَ ناطقة عنه، فَطَرَد العبوس النفوس، وكان خطاباً ما أحسب، وبياناً ما أعذب! ملأ جوانحي مسرة، وبسط نكير أن يصير روض النهي في حُلى روض الرُّبا، ودُرر الأفكار البحار. ولما ارتفع ناظري

في تلك المراتع، ورَبَع خاطري في تلك المرابع، هَزَّتْني وازْدَهَتْنِي خِفَّةُ الأزمنة، فلو كنت ممَّن يشرب الراحَ، لطِرْتُ بلا جَنَاحٍ. وفي المعنى أيضاً: لَوِ اتخذتَ - أَيَّدَكَ الله - حُرَّ وَجْهي طِرْساً، وإنْسانَ عَيْني نِقْساً، وما في الأرض من شَجَرَة أقلاماً على حين ألْهمتُ الحكمة إلهاماً، لما بلغت ما في الضمير من كرَمٍ وخَيْر فَعُذْراً عُذْراً في الحصر، عن جلاء تلك الغُرر ذلك الغَمْر بالغُمَر. ووافاني خِطابُك الكريمُ نظماً ونثراً، رقيق الحواشي ولا نَزْراً فاقتطعتُ منه زَهراً وورَدْتُ به المُنى بَحراً. وما هذا الإعرابُ والكَلِمُ خطبة وشِعْرٌ، أم فِتْنَة وسِحْرٌ؟ شَدَّ ما أبْدعَ أحدهما. فَكَيْفَ إذا اجْتَمَعا: نَظْمٌ ونَثْرٌ رائعُ الأعلام، يَقْرُبُ من الأَفْهام، وَيَبْعُدُ نَيْلُه عن الأوهام. أحسَنُ ما أمْلاهُ خاطر، ناظر. يالها من ألْفاظ ومعانٍ، اطَّرَدَتْ في سلكِ إبداع وبيانٍ، نفعت به النِّعَمُ الروائح والغَوادي، وَوَرَيْتُ بِمُضَمَّنه زِنادي، وأخْصَبَ من مُسْتَوْدَعه مُرادي، وتصفَّحْتُ منه الطَّوْل

وَافِيَ الذَّوائب متَّصل السحائب، وألْبَسْتُ ثوب الإجمال سابِغَ الأذيال واسع الأظْلالِ، فلقد اشتَمَلْتُ على البيان، وأصبحت بديع هذا الزمان. وفي المعنى أيضاً: وقَفْتُ - أعَزَّك الله - على كتابك، فأجَلْتُ نظري حلال، وفتقت به ثبج بحر إلا أنه زلال، فرأيت كيف يَزْدَحم في العلم من البلاغة في المذهب الأَمَم، فما شئت من فقرة محذوة بأمثالها بأشكالها، مما اتصلت به يد الإحاطة، بصحة البراعة، وتزينت الصناعة. فهو مُؤْنسي، شغل مَجْلسِي. أخدْ بيانه بحاستي سمعي وناظري حافتي فكري وخاطري. وأراني الدُّرَ إلاَّ إذا لم ينظم، والسحر لو صيغ عقداً لأخْجَلَ الدُّر والعقيان، أوْحيك برداً لعطل الديباج يَهُزَّ أعطاف الضمائر، ويسري في الخواطر، وتتلقاه النفوس تلقي إلى بَدائِعِه، فِتْنَة بِمبادِئه ومقاطعه. فللَّه قريحةٌ أذْكتْ ناره. وأَطْلَعت أنواره لغير جَهام، وأن سيفها لغير كهام، وإنّ ثمدها لَعِدُّ وَبِحَار، وإن زَنْدَها لَمَرْخٌ وعفار. طلع علينا طلوع البدر في الغسق، وضمَّخ أُفُقَنا بخَلُوق ذاك الخَلَق، زند ذكائه فأورى، ولمحنا

كوكب سمائه فأعْشى، وشاهدنا به البلاغةَ والرئيس المتعاطي للفصاحة مرؤوساً، وتَحَقّقْنا أنَّكَ علم العلم وشهابُ لم يَزَل يجري قصبُ السبق في مَيَادينه، ويهدي الفصَّ من رياحينه. وفي المعنى أيصاً: وقَفْتُ على ما أتْحَفَني سيدي من نظْمه البديع، وخَطِّه المزري بزَهر الربيع، موشحاً بِغُرر ألْفاظِه التي لو أُعيرتْ حِلْيَتُها، لَعُطِّلْتْ قلائدُ النُّحُور، وأبْكار معانيه التي لو قُسِمَتْ حلاوَتُها، لأعذَبَتْ موارد البُحور. فَسَرَّحْتُ طَرْفي في رياض جادتها سحائبُ العلم والحكم، وهبَّ علينا نسيم الفضل والكرم، وابْتَسَمت عنها ثُغُورُ المعالي والهمم. فلم أدرِ، وقد حيرتْني أصنافُها، وبَهَرَتْني نُعوتها وأوصافها، حتى كستْني اهتزازاً وإعجاباً. وأنشأت بيني وبين التماسك ستراً وحجاباً. أَدَهَتني بها نشوة راحٍ؟ أم ازْدَهتني لها نخْوَةُ ارتياح، وانتظم عندي منها عقد ثناء وقريض؟ أم قَرَعَ سمعي غناء معبد وغريض فياله من كتاب حوى رُتْبة الإعْجازِ والإبْداع، وأصبحَ نُزْهة القلوب والأبْصار والأسْماع، فما منْ جارحة إلا تود لو كانت أُذْناً تَلْتَقِطُ دُرره وجواهره، أوعيناً تجْتَلي وتجتني مناظره، أوْ لساناً يدْرُسُ محاسنه ومفاخره. وفي المعنى أيضاً: كتاب كريْعان الشباب، وكلام كجريال المُدامِ، وخَطٌّ في رُقْعَتِه كزهر الربيع ووشم في صحيفة كدر النُّحور رُقِّقَ في نِظامه. روضٌ جاده من العَلْم

صَوْب قلمك، وهب فيه نسيم آدابك، وطلعت عليه شمس ذُكائك والْتهابك علمك، وافترَّ عنه صدف فهمك، نَظَمَتْه يدُ براعَتكَ، وأسلكته فَيَالك من روض صبرت قاطفه ناظري، وناهيك عن عقد جعلت حقه خاطري هو كتاب كريم، أُلْقي إليَّ من أخٍ حميم، ما زِلْتُ أنْظرُ من حبْره في ليل مسود عن صُبْح الود، فقلت عنْدَ ذلك: لِلَّهِ دّرّ مُهْدِيه، وبنفسي أَفْديه، من صديق صادق الإخاء، صحيح الوفاء، قَيَّدني بِقَيْد بِرِّه، فوَنَيْتُ عن غاية شُكْره. قوله: (وجعلت حُقه خاطري) الحُقُّ بضم الحاء، وعاء مستدير من خشب. قال: وثَدْياً مثلَ حُقّ العاج رَخْصاً ... حصانا منْ أَكُفِّ اللامِسيناَ وتُسَميه العامة حُقَّة. والجميع: الحُقَقُ. قال رؤبة بن العجاج: سوَّى مَساحِيهنَّ تَقطِيطَ الحُقَقْ الحُقَقُ والحُقُّ أيضا: أصل الورَكِ الذي فيه رأْسُ عَظْم الفخد. والأحَقّ من

الخيل الذي يضع حافر رِجله في موضع حافريه إذا مشى، وهو عَيْبٌ قال الشاعر: فَأقْدَرُ من عتاق الخيل نَهْد ... جوادٍ لا أحقُّ ولا شَئِيتُ الشئيت: الذي يَقْصُر موقع حافر رجله عن موقع حافر يده، وهو عيب. والأقدر الذي تجاوز حافرَ رجله موقع يده وهو مدح. وقال أبو بكر بن دريد الحِقُّ من الإبل هو الذي استحقتْ أمُّه من العام الثالث الحمل. سمي الذكر حِقّاً بكسر الحاء، والأنثى حِقَّةً وهو حينئذ ابن ثلاث سنين في قولالأصمعي، قال الراجز: إذا سهيْلٌ مَغْرب الشمس طَلَعْ ... فابنُ اللَّبُونِ الحقُّ والحِقُّ جَذَعْ وقال آخرون إنّما سمي حِقّاً لأنه استحق أن يحمل عليه. ويقال: أتت الناقة على حقَّها إذا جاوزت وقت نتاجها. وأجممعوا على أن الحِقَّ دون الجَذَع من الإبل بسنة، وذلك حين يَسْتَحقَّ الركوب. والأنثى حقة إذا استحقت الفَحْل. وتجمع أيضاً على الحقائق.

قال الشاعر: ليست بأنياب ولا حَقَائِقِ ... بِيضٌ جلاء ذات مخ زَاهقِ والفعل منها حقَّتْ تَحِقُّ حِقَّة. فالحِقَّةُ مصدر. وقال صاحب العين الحَقُّ نقيض الباطل. تقول: حقَّ الشيء يَحِقُّ ويَحُقُّ حقّاًً: معناه وَجَبَ وجوباً. والحقيقة ما يصير إليه حقُّ الأمر ووجوبه، تقول بلغْتُ حقيقة هذا أي بلغت يقين شأنه. وفي الحديث: "لا يبلُغُ أحدكم حقيقة الإيمان حتى لا يعيب على مسلم بعيب هو فيه) وحقيقة الرجل ما لَزِمَهُ الدفاع عنه، من أهل بيته. والجميع: الحقائق ويقال: أحق الرجل يُحِقُّ؛ إذا قال قولاً حقا وادعى حقاً يوجب له. وفي كتاب الله تعالى (الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ) والحَاقَّةُ اسم القيامة والنازلة التي حقت فلا كاذبة لها.

ويقال أحقَّ فلان الحق، إذا أظْهره حتى يعرف أنه حق. ومنه قوله تعالى (لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ) وأصل الباب كله وضع الشيء في موضعه. والحقُّ: الصدقُ والصواب والصحيح نظائر في اللغة. رجع قال أبو إسحاق: ومما اخترتُ في هذا المعنى من المنْظُوم، وانْتخَبْتُ من الكلام المفْهوم، الفائت شأْوُه، العذب صفوه، الذي مزَجَ من الفصاحة بالرِّقة والحلاوة، ولاحتْ عليه من البلاغة غَضارة وطلاوة، واشتملت أَلْفاظُه على أنواع الإبداع، كما اشتملت على النَّوْر الأقماع، وبدت عليه للبيان شواهدُ، أَيَّدها اختبارُ الناقد، بأنها أسنى الفوائد، وأنفس الذخائر والقلائد، كلام تعمر به أندية الأنس والسرور، وتشفى به من الأوصاب النفوس والصدور، ويَصْقُلُ صدى الألباب، وتوشح حدائق الآداب. فلو نُظِمَ في سلك لزُيِّنَتْ به النُّحور، وأغْنى عن درِّ البحور. لَفْظٌ كأنَّما شُربُ الشَّمول مَمْزوجة بالسَّلْسبيل. لو شاء أن يذهب في صخرة تسهل الطيب له مذهباً. يوقظ الأنس من نومته ويَشْتَهيه، ويوقد شهاب الذِّهن الخامد ويشهيه. فمن ذلك المنظوم العذب الذي يُسْني كُلَّ لبٍّ، قول أبي القاسم بن الجد:

أما ونسيمُ الروض طاب به فجر ... وَهَبَّ له من كل زاهرةٍ نَشْرُ تحامى له عن سره زهر الرُّبى ... ولم يدر أن السر في طيه نَشْرُ ففي كل شُهبِ من أحاديث طيبِه ... تمائمُ لم يعلقْ بحاملها وِزْرُ لقد فَغَمَتْني من ثنائك نفحةٌ ... يُنافسني في طيب أَنْفاسها العطرُ تَضَوّعَ منها العنبر الورد فَانثنتْ ... وقد أوهمتني أنَّ منزلها السحرُ سرى الكِبْر في نفسي بِهَا ولربما ... تجانف عن مسرى ضرائبي الكبْر وَشِيبَ بها معنًى من الراح مُطْرباً ... يُخَيَّل لي أن ارتياحي بها سُكْرُ أبا عامرٍ أَنْصِفْ أخاك فإنه ... وإياك في مَحْضِ الهوى الماءُ والخمرُ أَمثلك يبغي في سمائي كوكباً ... وفي جوك الشمس المنيرة والبدرُ وَيَلْتَمِسُ الحصباء في ثغَبِ الحصى ... ومن بحرك الفياض يُسْتَخرج الدُّرُّ عَجبتُ لمن يهوى من الصُّفر تومة ... وقد سال في أرجاء معدنه التبرُ

قوله، (سرى الكبر في نفسي) يقال: سرى وأسرى لغتان معاً نطق بهما القرآن. قال الله تعالى: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا) وقال تعالى وجل (وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِي) فهذا من أسرى. وأجمع القراء على الهمز في قوله تعالى (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ) في سورة (هود) و (الحجر) و (الدخان) (أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي) في (طه) و (الشعراء) إلا الحرميين، فإنهما لم يهمزا، لأنه عندهما من سرى يسري. وقال لبيد: إذا المرء أسرى ليلة ظنَّ أنه ... قضى عملاً والمرء ما عاش عاملُ وقال امرؤ القيس: سَرَيْتُ بهم حتى تكِلَّ مَطِيُّهم ... وحتى الجيادُ ما يُقَدْنَ بأرْسانِ فأما بيت النابغة: سَرَتْ عليهِ من الجوزاءِ سارِيَةٌ فيروى على الوجهين: سرتْ وأسْرَتْ. وقوله: أَمِثلُكَ يبغي في سمائي كوكباً البيت

كقول أبي تمام: أعندك الشمس قد راقت محاسِنُها ... وأنت مشتغلُ الأحشاء بالقَمَرِ وقال أبو القاسم أيضاً: سلامٌ كأنفاس الأحبة موهناً ... سرت بشذاه العنبري صبا نَجْدِ سَلامٌ كإيماض الغزالة بالضُّحى ... إلى الروضة الغناء غبّ الحيا العِدِّ على من تحَرَاني بمعجز شكره ... فأعجز أدنى عفوه منتهى جَهْدِي غَزَاني من السحر الحلال بلأمةٍ ... مضاعفة التأليف محكمة السَّرد دلاصٍ من النَّظم البديع حصيفَةٍ ... تردُ سنانَ السَّيف مُنْثلم الحَدِّ عليهامن الإحسان والحسن رونقٌ ... كماديسَ متنُ السيف من صدإ الغِمْدِ وفيها على الطبع الكريم أدلة ... كما افترَّ ضوءُ السقط عن كرم الزند أبا عامرٍ لا زال رَبْعُكَ عامراً ... بوفد الثناء الحرِّ والسؤددِ الرَّغْدِ لقد سُمتني في حومة القول خطةً ... لففتُ لها رأسي حياءً من المجدِ قوله: (غِبَّ الحيا العد) أي: آخر الحيا وعقبه، والحيا: المطر.

وقال النابغة الذبياني: إذا حل في الأرض البرية أصبحتْ ... كئيبةَ وجهٍ غِبُّها غيرُ طائلِ أي آخر أمرها. وكتب أبو الحسن بن الزقاق إلى صديق له: سلامٌ كما نَمَّ النّسيم عُلا الزَّهر ... وخاضت جُفُونُ العين إغفاءة الفجر وهزَّ هُبُوبُ الريح عطف أراكة ... فمالت كما مَالَ النزيفُ من السُّكْرِ على منْ إذا وَدَّعْتُه أوْدعَ الحشَى ... لَهيباً تَلَظَّى في الجوانح والصَّدرِ ومنْ لمْ يَزَل نَشْوانَ من خمرة الصبا ... كما لمْ أزَل نَشْوانَ منْ خَمْرة الذُِّكرِ عسى الله أَنْ يُدْني التَّزاور بيْنَنا ... فَأُنْقَلَ من عُسْر الفِراق إلى اليُسْرِ قال: وكتب أبو الحسين بن جبير إلى أبي عبد الله الرصافي مستنجزاً عدته في منظوم وعده به:

ألا هَلْ نسيمٌ للرصافيِّ مُبْلغٌ ... تحيةَ مشتاقٍ يُفَتِّقها زَهْرَا فتىً كلما استعرضْتُ بالخير ذاته ... زكتْ مثل ما خَلُصَت من سبْكه التِّبرا عَلقْتُ به في الدهر عِلْقَ مضنة ... فأعددته ذُخْراً وحَسْبي به ذُخرا فأدَّتني الأيام منه مودة ... عَقَدْنَا على حُكْم الإخاء بها صهرا على أن سيُهديها إليَّ عقيلة ... من الفكر يُثني الطرس من فوقها خدرا ولَمْ أَتَّهم تَسْويفَه غير أنني ... أَقُولُ له شوقي لعل له عُذراً فكتب إليه أبو عبد الله مراجعاً: لنعم القَوافِي الزُّهْرُ يَمّمَ راكبٌ ... فحلَّ فحيَّاني بها تُحفةً بِكْرا مَسَحْتُ على عيني مُسْتَشْفياً بها ... وقَبَّلْتُها، شُكْراً لِمُرْسِلها، عَشْرا وغُصتُ على مكْنونها فوجدتُهُ ... من الكَلم الرَّطب الذي يصفُ الدُّرّا خلا أنها كادتْ تسيل لُدُونَةً ... فَجَفَّ عليها حِبْرها صَدَفاً خُضْرا ملاح صفاتِ الخطِّ حتى كأنها ... تَصَوّر فيها الحُسْنُ سطراً يلي سطرا فوالله ما أَدْري أآيةُ كاتبٍ ... أم الا ... اسْتبدَّتْ به سحرا أمِ ابن جُبير إذْ وَشتْها يَمينه ... أراني بها غُصناً من النّور مُفْتَرا فإنَّ كثيراً ما تناول مهرقاً ... .........

وهل هي إلا نفحة من ودادِه ... تُطَيِّبُني عَرفاً وترجَح بي سُكْرَا تنفَّس ...... ... ......... أيا منهضي من حيث آتي مُقَصِّرا ... وقابل عذري ... العذرا ...... ... ......... فليتك في صدري كما أنت حاضرٌ ... وقد ركب ... وانتهبَ الشعرا ...... ... ......... لقد ... أني عنيت بأمرها ... فلم أُخْلِ من شغلي بها الفكر والصَّدرا ولكن لها عذرٌ سيبدو وإنَّما ... أشيرُ له نظماً لأذكره نثرا وكلام أبي عبد الله عذب سَهل، ونظمه مثقف ... الإصباح، بل كما انشق البدر ولاح، أعْبَقُ من المسك، وأعذبُ من صفْو المُدام، شيبَ بماء الغمام، وكان كثير ... كلامه، فائز المقداح في نثاره ونظامه. ذكرلي من طريف أخباره. وأنْشدني بديع أشعاره، من أثق به من بعض إخوانه مِمَّن يشهد مجالس أُنْسه في عصره وزمانه، وعمَّر معه أندية السرور بالغداة والعَشِيِّ، واختص به اختصاص الماء بالرَّيِّ. ومن شعره المليح الطَّيارِ، المَتْلوّ في الآفاق والأقطارِ، قوله:

طَرَقَتْ مطْلَعَ الثُّرَيَّا وَوَلَّتْ ... والثُّريَّا تَشُمُّ رِيحَ الوقوعِ تَحت جُنْحٍ منَ الدُّجى أَوْ رَثتهُ ... عَبقاً في قميصه المخلوعِ أَيُّها الليل هَلْ دَرى البَدْرُ أنِّي ... بتُّ من أُخْتِه مكان الضَّجيعِ أمكنتني من العناق فلما ... جلبَ الفجر ساعة التوديع عمدَتْ بردها بغصنٍ وقامتْ ... تنفضُ الطل أحمراً من دُمُوعِ وقوله: أيُّها الآملُ خَيْمات النَّقا ... خَفْ على قَلْبك تِلْكَ الحَدَقا إنَّ سِرْباً حُشيَ الحيُّ به ... رُبَّمَا غرك حتى تَرْمُقا لاَتُثِرْهَا فتنة من ربربٍ ... ترْعد الأسْدَ لديهم فَرَقَا وانجُ عنها لحظةً سهميَّة ... طالما بلَّتْ ردائي عَرَقََا وإذا قيل نجا الركْبُ فَقُلْ ... كَيْفَمَا سَالَمَ تلك الطُّرُقا يا رماةَ الحي موهوبٌ لكم ... ما سَفَكتم من دمي يوم النَّقا ما تعَمّدتُم ولكن سَبَبٌ ... قَرَّبَ الحَيْنَ وأمرٌ سَبَقا والتفاتاتٌ تلَقَّتْ عَرَضاً ... مَقْتَل الصَّب فَخَلَّتْهُ لَقَى وعذابٌ شاء أنْ ألْتَذّه ... سفَه الحبِّ ومحتوم الشقا

آه من جفنٍ قريح لم يزل ... بعدكم في بحر دمعٍ غرقا وحشاً غيرِ قريرٍ كلَّما ... رُمْتُ أن يهدأ عنكم خفقا وفؤادٍ لم أضَعْ قطّ يدي ... فوقه خيفة أن يحترقا ما بنجم عكَفَتْ عيني على ... رعْيه ليس يَريمُ الأُفُقا ولعين خلعت فيه الكرى ... كيف لم تخلع عليه الأرقا أيها النوام ما أهدأكم ... عن قلوبٍ سَهَّدَتْنَا قلقا ما الذي تبغون من تعذيبنا ... بعد أن ذابت عليكم حُرَقا قومنا فوزُوا بسلوانكُمُ ... وَدَعُوا لِلَّهِ من تشوقا وارحموا في غسق الظلماء مَنْ ... بات بالدمع يَبُلُّ الغَسَقَا علِّلونا بالمنى منكم ولوْ ... بخيَال منكم أن يَطرقا وعِدُونا بلقاءٍ منكم ... فكثيرٌ منكمُ ذِكْرُ اللِّقا لو خَشِينا الجَوْرَ من جيرَتنا ... لانْتَصفنا قبل أن نفترقا واصطبحنا الآن من فضلة ما ... قد شربنا ذلك المُغْتَبَقا فسقى الله عشياتِ الحمى ... والحمى أكرم هَطَّال سَقَى قد رُز قناها وكانت عيشةً ... قلَّما فازَبها من رُزقا

لا وَسَهمٍ جاء منكم نحونا ... إنه أقْتل سهم فُوِّقا وحُلَى نجدٍ سَنُجري ذكرها ... أوْسَعَتْنا في الهوى مُرْتَفَقا ما حَلاَ بعدكمُ العيشُ لنا ... مُذْتبا عدتُمْ ولا طابَ البقا فمن المنْبي إلينا خَبَرا ... وعلى مخبرنا أن يصدُقا هل درتْ بابلُ أنا فئةٌ ... تجعل السحر من السحر رُقى تنْقُشُ الآية في أضلاعنا ... فتقينا كلَّ شيء يُتَّقَى من بيان الوزر الأعلى ... الذي يخجل السحر إذا ما نطقا إلى غير هذا من كلامه الجزل، الدال على ذكاء الطبع والنبل. رجع وكتب إليه الأديب أبو بكر بن الأغر رحمه الله: رعى الله طِيباً زار في النوم مضجعي ... وقد رَنَقَتْ عيني ترومُ غِرَارَا يقولُ أنا العَبْقُ الرصافي فاغتنمْ ... حَدِيثِيَ دُرّاً تارةً وعُقارا فقلتُ له أهلاً وسهلاً ومرحباً ... بِأكرم طيب في التغبة زارا فمَتَّع سمعي لؤلؤاً منْ حديثه ... وخامر عِطْفِي نشوةً ووقارا

وسارَ وأَبقى من سنىً ومودَّة ... بعينيَّ نوراً وَِلقَلْبيَ نارا فراجعهُ أبو عبد الله رحمه الله: يضيءُ بعيني كُلَّما شقَّ لحظُها ... إذا أفُقِي، ياابنَ الآغَرِّ، أنارَا أخٌ شطَّت الأوطانُ بيني وبينه ... فلم نَغْنَ إلاَّ بالوداد جوارا إذا أتلفتْ منا النفوسُ سجيةً ... فما ضرَّنا في أن نُشتِّت ديارا أقيه بنفس قد نشرتُ إخاءه ... عليها دِثَارا في الورى وشِعَارا وقولُ أبي بكر رأيتكَ في الكرى ... وقد رنقتْ عيني ترومُ غِرارا ألم يدر أنِّي مذْ كَلِفتُ بقربه ... خيالٌ إذا اشتاق الزيارة زارا وأنَّ بعيداً أن ترى العينُ مثله ... أشدَّ اهتزازاً للعُلى ووقارا رجاحةُعلم صادفَ النُّبلُ عندها ... مكاناً فكانا مِعْصماً وسِوَارا يميناً أبا بكر، وأحلفُ صادقاً ... وقد قُلتها، فيما أظُنُّ مرارا لقد كِدْتُ، والرُكبانُ تَسْري بذِكْرِكم ... أطير إليكم لو وجدتُ مَطَارا فهل عندكم أنِّي أرى باجتماعنا ... ...... كبارا سُررتُ بكم حتى كأن لقاءكم ... ثَنَى مِعْطفى لدن المهز وحتى كَأَني من مُصَافَحتي لَكُم ... ......... ولما تنازعنا الأحاديث بيننا ... رأيتُ بياني في اللسان مُعَارا وأني في قَصْدِي سبيل خطابكم ... كمن غار ......

فلقَّطها منكم لآلئ منطق ... تُخَاضُ إليهن العلومُ بحارا فوالله ما أدري لحسن حديثكم ... أَأُلْقِيتُ سِحْراً أم سُقيتُ عُقارا ودارُ أبو إِسْحَاق لاذُمَّ عهدها ... سأشكر منهاللزمان نهارا وساعاتُ أُنس قد نَعمنا بها معاً ... جَنِيتُ بها بيضَ الأماني ثِماراَ الطرف من فرحي بها ... وتو جدأوقات السرور قصارا وكتب إليه الأديب أبو بكر الكُتَنْدي رحمه الله: أعندكمُ يا ساكنَ الرَّي أنكم ... بمرأًى على بُعْد المسافة من حِمْصِ أتقضي الليالي أن تُلِمَّ بمنزل ... ألفناه ما بين الأراكة والدِّعصِ وإني حريصٌ أن يَعودَ كما مضى ... زمانٌ وما حِرْصُ المقادير من حرصي فراجعهُ أبو عبد الله بقوله: سلامٌ أبا بكر عليك وَرَحْمَةٌ ... تحيةَ صدق من أخٍ بك مُخْتصِّ

لَعَمْري وما عمري بصدع زجاجة ... عليك فقد تُدني الليالي كما تُقصي لقد بان عنِّي يوم ودَّعتُ صاحبٌ ... بَرِئُ أساليب الوداد من النَّقْصِ أقول لنفسي حين طارتْ بك النَّوى ... أخوك فريشي من جناحك أوْ قُُصِّي فباتت على ظهر اليراع إليكمُ ... تطير بها في الوَكْر أجنحةُ الحرْص إليَّ أَبَا بَكْرٍ نَحومُ بِأَنْفُسٍ ... ظِماءٍ إلى عهد الأُجَيْرعِ أو حمص كأنْ لَمْ نَزُرْ تلك الرُّبى وكأنها ... عرائسُ تزهاها المواشِيطُ للنصّ ولا رتعت تلك الأراكة فوقنا ... تلوث إزار الظل في كَفَل الدِّعصِ وكانت لنا فيما هناك مآربٌ ... نُطيع الهوى العذريَّ فيها ولا نَعْصِي ليالينا بالرَّيِّ والعيشُ صالحٌ ... وظلُّكَ عنها غير منتقلِ الشَّخْصِ وما ذكْرُها إلا شفىً من علاقةٍ ... تَتَبَّعُها نفسي تتبُّع مستَقْصي وددتُ أبا بكر، لَوَ انَّنِي عالمٌ ... وللكونِ زندٌ ليس يُقْدَحُ بالخِرصِ هل الغيبُ يوماً فارجٌ لي بابه ... فأنظر منه كيف أُنْسُكَ في حِمْص

بأزرقَ مسلول الحسام معَرْبدٍ ... إذا عَبَّ في كأسٍ تحرك للرقص ومَا مٍعْصَمٌ ريَّانُ دارَ سِوَارُهُ ... على مثل ماء الورد في بَشَر رَخْصِ بأبهج منه في العيون إذا نهى ... ولا سيما والشَّمْسُ جانحةُ القُرصِ خليجٌ كخيط الفَجْر تنْجَرُّ فوقه ... ذُيُولُ عَشِياتٍ مُزَخرفةُ القُمْص وقال أيضاً: بانة الجِزْعِ هل لديك وفاءٌ ... فَيُدَاوي جوىً ويحفظ عهدُ هكذا تَنقضي حُشَاشَةُ نفسي ... ظَمَأ هكذا وماؤك عِدٌّ بانة الجزع كيف آملُ بُقْيَا: ... أملٌ لا عبٌ وشوقٌ مُجِدُّ بِدَمي أنت ما تَرَجَّح ظِلٌّ ... منْ كثيب وما ترنَّح قَدُّ ليت شعري هَلْ يمزجنَّ هجيرٌ ... شخص ظلي بشخص ظِلِّكَ بعدُ وقال أيضاً وهي من أَنْبل شعره، وأجمل بنيات فكره: أدِرْها فالغمامةُ قد أجالتْ ... سيوف الماء في لَمم البطاحِ وراق الروضُ طَيْلُوساً بهياً ... تُرَدّدُ فيه أنفاسُ الرياحِ تقول وقد ثَنى قزحٌ عليه ... ثياب الغيم مُعْلًمَةَ النواحي خُذوا للصحو أُهْبَتَكم فإني ... أعرتُ المزنَ قادمتيْ جناحِ

إلى غير هذا من كلامه المسبوك تبره، الرائق جمانه ودره. وقال أبو محمد بن سفيان في المعنى: باابن الملوك أَتَتْني منك معجزة ... تنأى وإن قربت في عين راجيها يشق سامعها من جيبه طرباً ... ويسمع الصخرة الصماء داعيها لو أن هاروتهم لاَحَتْ لناظره ... لقال ما السحر إلا بعضُ ما فيها سِجِلَّةٌ هي لا بل روضةٌ رشفت ... ريق الغمامة فاخضرَّتْ حواشيها وقال أبو بكر بن عمار في المعنى: لولا الصَّحِيفَةُ ما سلوتُ فإنه ... قد قام منها لو علمتَ مقامُ وصلتْ إليّ مع الأصيل وإنما ... وصلتْ إلي حديقةٌ ومُدامُ برْدٌ من الكافور نمنم درجه ... مسكاً ودر عليه عنه ختامُ

من قطعة هي قِطْعَةُ الديباج أو ... هي قطعة البستان وَهْيَ كلام فكأن أسطرها غصون أراكة ... ومن القوافي فوقهن حمام نادَمتها والراح يُلْهِبُ كأسها ... عذب اللمى سَاجي الجُفُونِ غُلامُ وتشاكلا حسناً فعانق قدَّه ... أَلِفٌ وعارض عارضيه لاَمُ وقال أبو بكر أيضاً: لله درُّ عقيلة أبرزتَهَا ... من خِدْرِ فكركَ في حُلى الإنشادِ فرعاءُ عاطرةُ الذوائب واللَّمَى ... غيداءُ حاليةُ الطُّلَى والهادي خَلُصَتْ إليَّ مع الأصيل فعارضتْ ... صِلة الحبيب أَتَى بلا ميعَادِ خَطٌّ من النظم البديع أفادني ... حَظ الكرام وخُطَةَ الأمجادِ وشيٌ سختْ يدك الصناع برقمه ... فَكَسَوْتنيه مُذَهَّباً بأياد يفدي الصحيفة ناظري فَبياضُها ... ببياضه وسَوادُها بسوادِ أهدي تحيتك الزكية طيبها ... كافور قرطاسٍ ومِسْك مدادِ وقال أبو بكر أيضا: ألفظُكَ أم كأسُ الرحيق المُعَتَّقِ ... وخَطكَ أم روضُ الربيع المنمَّقِ ونظمك أم سلكٌ من الدر ناصعٌ ... يروق على جيد العروس المطوَّقِ بعثت بها يا قطعةَ الروض قطعةً ... فَغَمتُ بها عرف النسيم المخلَّقِ

ثلاثة أبيات وهيهات إنما ... بعثت بها الجوزاء في صفْح مُهرقِ هي السحر أسرى في النفوس من الهوى ... وكيف يكونُ السحر في لَفْظِ مُنْطَقِ وهذه الأبيات في قطعة كتب بها إلى المعتصم جواباً على ثلاثة الأبيات التي ودعه المعتصمبها حين استأذنه ابن عمار في السراح من عنده (بالمرية). وأبيات المعتصم هي قوله: يا فاضِلاً في شكره ... أصلُ المساء مع الصَّبَاحِْ هلاّ رفقت بمهجتي ... عند التكلم بالسّراح إنَّ السماحَ بِبُعدكم ... والله ليس من السَّماحْ وقال أبو الحكم بن مذحج في المعنى: أمَا وعقيلةٍ لك غازَلتني ... بغُنْج السِّحر من جَفْنَي فلانِ لقد أهديتَ لي منها عروساً ... معرّسُها سُويداءُ الجَنَانِ

جَلَتْ من رقة التعريض صفحاً ... أرقَّ من الحسام الهندواني وَأَخْشَى أن أكون لها ظلوماً ... إذا سمّيتها سحرَ البيان وهذه الأبيات في قطعة له راجع بها ابن عمه أبا الوليد بن حزم عن أبيات كتب بها إليه، أولها: أَعمروٌ كم أُطامنها حياءً ... فَتُطْغِيها معاتبة الأماني وإنْ وقف الغَرامُ بها قليلاً ... فعذْرُ أخيك في جفنيْ فلان وقال أبو الحسين بن سراج في المعنى: كتابٌ يزدري بالسحر عيناً ... وسمتَ به زمانَك وهو غُفلُ معانٍ تَعْبَقُ الآفاق عنها ... يشيب لها حَسُودك وهو طفلُ وقال أبو الحسن بن الزقاق في المعنى: ومُوضحة كمثل النَّصل تجري ... مع الأبصار كالماء القَراح

ترى حُبُكَ المداد بجسم نورٍ ... كَمُخْضَرِّ الفِرند على الصِّفاح كأنّ سواده في صفْحتيها ... يقايا الليل في وجه الصَّباح وفي المعنى يقول بعضهم: الحُسْنُ أجمعه في رقعةٍ طويتْ ... على تباريح أشجانٍ وأشواقِ تقابل العين منها روضة أنفٌ ... لم يَسْقِ أزهارها غير الحِجَا سَاقِ وأحسن ما أذكر في المعنى قول أبي تمام في الحسن بن وهب، من قصيدة قرأتها في شعره يقول فيها: لعمرُ بني أبي دِنْيا وعمري ... وعَمْرُ أبي وعمر بني عديِّ لقد جلَّى كتابك كل بَثٍّ ... جوىً وأصاب شاكلة الرمي فضضْتُ ختامَهُ فتبلَّجتْ لي ... غرائبُهُ عن الخبر الجَليِّ وكان ألذَّ في عيني وأندى ... على كبدي من الزَّهَر الجنِيِّ وأحسنَ موقعاً منِّي وعندي ... من البُشْرى أتتْ بعد النَّعيِّ وضُمِّنَ صدره ما لم تُضَمَّنْ ... صدور الغانياتِ من الحُليِّ فَكَائِنْ فيه منْ معنى لطيف ... وكائن فيه من لفظٍ بهيِ

وكَمْ أفصحتَ من بر جليل ... به ووأيْتَ من وَأْيِ سَنِيِّ كتبتُ به بلا لَفظٍ كريه ... على أذُنٍ ولا خَطٍّ قَمِيِّ فَأَطْلَقَ من عقالي في الأماني ... ومن عقل القوافي والمطيّ رسالة من تمتَّع منذ حين ... ومتَّعنا من الأدب الرضي فيا ثَلَجَ الفؤاد وكان رَضْفاً ... ويا شبعي برونقه وَرِيِّ بيانٌ لم تَرِثْهُ تُراثَ دعوى ... ولم تُنْبِطْهُ من حِسْيِ بكي

الباب الثاني: في الرسائل المنتخبة

الباب الثاني: في الرسائل المنتخبة قال أبو إسحاق: قد جمعتُ في هذا الباب من الرسائل الفِصَاح، الفائزة القِداح، الممتزجة بالأَرْوَاحِ، امتزاج العذْب الزُّلال بصفْو الرّاح، المحتوية على أنواع الفصاحة، والمشتملة على فنون البلاغة والرَّجَاحةِ، والألفاظ المهذبة المساق، والفِقر الغريبة الازدواج والاتفاق؛ الباسقة الأفنان، المتناسقة الجمان، المهذبة الأعجاز والصدور، المقصرة بالدر على الترائب والنحور، الأنيقة الديباج، المعسولة المُجَاج فقراً رائقة بهجَة، وألفاظاً عَطِرةً أَرِجَة، جادَتْها ديم الأدب الموفَّى، وبرزتْ كالذهب المصفَّى. دُرَرٌ حيثما أُديرَتْ أضاءَتْ، ومُشَمٌّ من حيث ما شُمَّ فاحا. فكأنما خُلِقَتْ من السِّحر، حين صُوِّرَتْ في الطُّروس بالحبر. تُريكَ النُّجُومَ الزُّهر في أفلاكها، والجواهر المنظومة في أسلاكها، رائقة لمُجْتَليها، مفيدة لمُجْتَنيها. إنْ أبْصِرتْ قصرت بالوشي المحبر، أو تُنُسِّمَتْ زَهِدَتْ في نفحات المسك والعنْبَر، تكسب الخامل نباهة، وتُفيدُه رفعة ووجاهة، ألَمَّتْ بالإبداع إلمامَا، وأمسكتْ له عناناً وزماماً: ضُرب الحلم والوقار عليها ... دون عُورِ الكلام بالأسداد انتَخَبْتُها من كلام أعيان الأدباء المتأخرين، ومشاهير الكتاب الماهرين، مِمَّن

نَهَضَ به شرفه وحسبه، ورفعه علمه وأدبه، وسما به فهمه وذكاؤه، وألْحَفَهُ بأرْدِيَةِ المجد كَلَفُه بالأدب واعتناؤه، وجمع بين طريف البيان وتليده، وألقى إليه كل منْصف بإقليده، وَهَوِيَ فروع الأدب وأصولَه، وأحكمَ جُمَلَه وفصوله، وملك أعنة اليراع والعوالي، واستخدم الأحرار والموالي. فمنها رسالة كتب بها أبو القاسم بن الجد رحمه الله عن أحد الأمراء بولاية: كتابنا أبْقاكم الله وعصمكم بتقواه، ويَسركم لما يَرْضاه، وأَسْبَغَ عليكم نُعماه. وقد رأينا واللَّهُ بفَضْله يَقرُنُ جميع آرائنا بالتسديد، ولا يُخْلينا في كافَّة أحوالنا من النَّظر السَّديد، أنْ تُوَلِّي فلان بن فلان مَحَلَّ ابننا، الناشئ في حجرنا، أعزَّه الله، وسَدَّده، فيما قلدناه من مَدينتيْ فلانة وفلانة وجميع أعْمالهما، حرسهما الله على الرَّسم الذي تَوَلاهُ غَيْرُه قَبْله، فأنْفَذْنا ذلكَ له لما تَنَسَّمْناه من مخَايل النجابة قِبَلَه، ورَضيناهُ بما نَرْجو أن يَحْتذيه ويُمَثِّله، وجرى عليه قوله وعَمَله، ونحن من وراء اخْتِبَارِه، والفحص عن أخباره، لاَنَنِي - بحمد الله - في امتحانه وتَجْريبِه، والعناية بتخْريجه، وتَدْريبِه. والله تعالى يُحَقِّقُ مخِيلتنا فيه، وَيُوَفِّقَنا من سَدادِ القول والعَمَل لما يُرْضيه. فإذا وصَلَ إليكم خِطابنَا فالْتَزِموا له السمع والطاعة،

والنُّصْح وَاتباعَه، وعَظِّموا بحسب مكانه منا قدره، وامتثلوا في كل عمل من أعمال الحق نَهْيَه وأَمْرَه. والله تعالى يَمِدُّهُ بَتَوفيقه وهِدَايَتِهِ، ويُعَرِّفُكُم يمن ولايته بمنِّه وعزته. وكتب أيضاً في المعنى: كِتابُنا أطال الله في طاعته عُمْرَكَ، وشَدَّ بتَقواه أزْرَكَ، وعضَّدَ بالتوفيق والتسديد أمرك، من فلانة حَرَسَها الله، وقد رَأَيْنا، والله وليُّ التَّوْفيق، والهادي إلى سواء الطريق، أنْ تُجَدِّد عَهْداً إلى عُمَّالنا، عصمَهم الله، بالْتِزامِ أحْكام الحَقِّ، وَإِيثارِ أسبابِ الرِّفْق، لما نَرْجوه في ذلكَ من الصلاحِ الشَّامِل، والخَيْر العَاجِل، والله يُوَفِّقُنا لما يُرْضيه من قول وعَمَلٍ بِمَنِّه. وأَنْتَ - أعَزَّكَ الله - تَسْتَغْني بإشارة التَّذْكِرة، وتَكْتَفي بلَمْحَةِ التَّبْصرَة، بما تأوي إليه من السِّياسَّة والتَّجْرِبَة. فَاتَّخذِ الحقَّ إِماَمَكَ، وقلِّد يَدَهُ زماَمَك، وأَجْرٍ عليه في القوِيِّ والضعيف أحكامك، وارفعْ لِدَعْوَة المظْلُومِ حجابَكَ ولا تَسُدَّ في وجه المُضْطَهَدِ المَقْهورِ بَابَكَ، وَوَطِّئ للرَّعية، حاطها الله، أَكْناَفَكَ، وابذُلْ لها إنْصافكَ، واستَعْمِل عليها منْ يَرْفُقُ بِها ويَعْدلُ فيها، واطَّرِحْ كلَّ منْ يَحِيفُ علَيْها ويُؤْذيها، ومنْ سَبَّبَ عليها منْ عُمَّالك زيادَةَ، أوْ خَرَقَ في أمرها عادَةً، أوْ غَيَّرَ رَسْماً، أوْ بَدَّلَ حُكْماً، أوْ أَخَذَ لِنَفسه منها دِرْهماً ظُلْماً، فاعْزِلْهُ

عنْ أَعْمالِه، وعاقِبْهُ في بدنهِ ومالِهِ، والْزِمْهُ ردَّ ما أخذَ تَعَدِّيا إلى أهْلِه، واجْعَلْهُ نَكَالا لغِيْرهِ، لا يُقْدمُ أحد على مثل فِعْلِه، إن شاء الله. وفي المعنى لأبي مروان بن أبي الخصال: كتَبْناهُ، أَيَّدَكَ اللهُ بِنَعْمائِهِ، ووفَر حَظَّكَ منْ حبائِه وأوْجَبَ لَكَ رُتْبَةَ أوْلِيائه، ونحنُ نحمدُ الله إلَيْكَ الذي لا إله غَيْره، ولا مرْجُوَّ إلا خَيْرُهُ، ونستمده فضلَ إحْسانِه، وعوارِفَ امتنانِهِ، وهو بالإجابَةِ مليّ وبِأَوْلِيائه عَفِي. وقد بلَغَنا ما يَجْري بفلانَة وجِهاتها من استِطالة أهل العِدى وتَشْغيبِ ذوي الأهواء، وخُروجِهم عنْ حدود الاستواء، حتَّى صَارَ البَغْيُ ظَهراً تَمْتَطيه الغُواَةُ، وسَنَناً تَسْلُكُه العُتاةُ، وغَمَرَ مَنارَ الحَقِّ فصارَ موْضُوعاً، وخَفَضَ عَلَمَهُ وكانَ مرْفوعاً، فأَعْظَمْنا ما اتَّصَل، وبادَرْنا إلى حَسْمِ ما أعْضَلَ. فخاطَبْناكَ لتَطولَ في الحَقِّ يَدُكَ، ويَسهُل في تنفيذهِ مَقْصِدُكَ، مزاحِماً في الحَقَائق بمنْكَبٍ وصَدْرٍ، مُلْجِماً في الوفاء بأَكْمل عُذْرٍ، مُرْغِماً أنفَ المُبْطِل وإنْ كان في الدُّنيا ذا قدْرٍ. فَتَوَخَّ ذلك والْزَمَه حتَّى يَعْتَدل المائل، ويقصُرَ المُتَطاوِلُ، ويَتَعاطى الناسُ الحقائقَ بينهم مُنِيبينَ، ويأتُوا إليها مُذْعِنين، ولذلك ظَهر. والله كَفيلٌ، وعلى ما نَقول وَكِيل.

فانهضْ نهوضَ من يأوي من الحَقِّ إلى رُكْنٍ شديدٍ، وقَصْرٍ عتيدٍ، وسمِعَ بما وافاكَ منْ قِبَلِنا. ليكونَ أَهْيَبَ لمجانيك، وأذهَبَ معَ جانيكَ بحول الله تعالى. وله في المعنى: كَتَبْناهُ، أبْقاكَ الله وأَكْرَمَكَ بِتَقْواه، واعْتَمَدَكَ بسَوابِغ نُعْماه، ونحن بحمد الله على مذاهِبِهِ الحُسْنى، ونسأله العمل الذي هو إلى رضاهُ أقربُ وأهدى. وقد اتصل بنا أنَّكَ في إنْفاذِ الأحكامِ، بعيدُ المُنَّة واهِنُ القُوّة، حتى لقد اسْتشْرَى هنالكَ أهل الغواية، واستطال أُولُو البغْي في الإذايَة، فشقيَ المُحِقُّ بالمُبْطل، وأعْياكَ ذلكَ الدّاءُ المُعْضِلُ. فإذا وَرَدَ كِتابُنا هذا، فاصدَعْ بالحقِّ جارياً على السَّنَنِ، وانهضْ في الأُقْضِيَة غيرَ ضعيفِ المَنَن، وانْظُر من هُنالِكَ منَ المُتَصَرِّفينَ في غير معهودٍ، أوْ في أَمْرٍ من عندنا غير محدود. فاكْفُف عن الرَّعِيَّة يَدَيْه، واستظْهِرْ بِعَهْدنا هذا حُجَّةً عليه، ولا تُرْهِبْ في رَفْع الاعْتِداء أَحداً. ونَحنُ من وراء العَضْدِ لكَ كما يَجِبُ، وحمايَتِكَ كما تَظُنُّ وتَحْسِبُ. واعْلِنْ بقراءة ما وافاكَ من قِبَلِنا لِيَرْعَوِيَ الجاهل، ويَنْتَبِهَ منْ سِنَتِه الغَافِلُ، إن شاء الله. وله في المعنى: كَتَبْناه أعزَّكَ الله وأكْرَمَكَ بِتَقْواه، ووصَل آلاءَكَ وَنِعَمَكَ، وجَنَّبَكَ المحاذيرَ وعَصَمَكَ. والنعمُ مُكْتَنِفَة، والنُفوسُ بأجْزال السيادة مُسْتَشْرِفة.

وقدْ بَلَغَنا أنّكَ رُبَّما لِنْتَ في الأحكامِ، وأغْضَيْتَ منها على بعض الاهْتِضامِ، لطوائفَ هنالِكَ مجْبولةٍ على الجَدَل، مَجْدودَةٍ عن الخير في القول والعَمَل. ونحنُ نتقدمُ إليْكَ أنْ تُجْري الأحكامَ على مُقْتَضاها، وتُنَفِّذَ الأقضية مَنْ أباها، صادِعاً بأمر الله كما يَجِبُ، مُحْتَسِباً في ذاته، ومِثْلُكَ يَحْتَسِبُ غيرَ هائِبٍ ذا مكانَةٍ، ولا مُخل بِحقٍّ ذي اسْتِكانَة. وكُلُّ ما تأْتيه من ذلكَ فنَحْنُ لَكَ عليه ظهيرٌ، وأنْتَ بِهِ مُجْزىً ومَشْكور. فَتَفَقَّدْ ذلك لَدَيْكَ، واجعَلهُ أَوْكد الفروض عليك، ليَرْتَدِعَ الجَرِيءُ، ويذُوقَ وبالَ إساءتِه المُسيءُ، ويَسْكُنَ في ظِلِّ الأمن العفُّ البريءُ، وَأَعْلِنْ بما خَطَبْناكَ به، لِتَسْتَشْعِرَهُ القلوبُ القاسيةُ فَتَلينَ، وتَتَصَوَّرَهُ الفِئَةُ الباغِيَةُ فَتَذِلَّ وتَسْتَكينَ، إن شاء الله تعالى. وله في المعنى: كَتَبْنَاه، أَكْرَمَكَ اللَّهُ بِتَقْوَاهُ، ووصَلَ لَدَيْكَ نُعْماه، وآثَرَكَ بِحُسْناه. ونحنُ نَحْمَدُ الله على آلائِهِ، لا رَبَّ غَيْرُهُ، ثمَّ نؤكِّدُ لدَيْكَ التَّشَدد في أحْكامِكَ، وبَثَّ العَدلِ بين أَقْوامِك، وكُفَّ أيْدي أهل العداءِ، وحَمِّلْهم على طريق الاستواء، وأنْ تتَفَقَّدَ كذلكَ أَحْوال العُمَّال عِنْدكمْ، وتُراعيَ سَيْرَ المُتَصَرِّفينَ من ... سيباً بَيْنَكم، فإنْ جاؤوا عن الحَقِّ نَاكِبينَ، وتَوَلَّوا عنه مُدبرينَ، صَرَفْتَهم إلَيْنا بالاقْتِصار، واضطرَرَتَهُم إلى رُكوبِ الجَادَّة أشَدَّ الاضطرار. فإنَّ الله تعالى قدْ فَرَضَ ذلكَ على الوُلاة للرَّعية، وجعلَ الراعي مسْؤولاً عنِ الرَّعية المَرْعِيَّةِ.

فاصدَعَ بأَمْرِ الله غيرَ واهنِ الأيْد، ولا ضَعيفَ الكَيْدِ، ومَتى وافَقَكَ في حَقِّ مُوَافِقٌ، وتجانَفَ عنْ سبيل القصدِ مُتَجانفٌ، طالَعْتَنا بشَأْنِه لِنُريه طريق رُشْدِه، ونأخُذَ بالأدَبِ فوق يده. إن شاء الله. وله في المعنى: كَتبْناه، أَعَزَّكَ الله وأكْرَمَكَ بِتَقْواه، وسلَكَ بِكَ السَّبِيل المُؤَدِّيَةَ إلى رضاه. ونحنُ نَحْمَدُ اللَّهَ إليْكَ على مواهبهِ الجسيمَةِ، وعوارِفه المُقيمَةِ، ونَسْأَلُهُ لَكَ مزيدَ الآلاَءِ، ووفورَ الحباء. ثمَّ نُؤكِّدُ عليكَ أشَدَّ التَّأْكيد، ونأخُذُ بالمَوْثِقِ الشَّدِيدِ، في إجراء الأحكام لَدَيْكَ على حُدُودِها المحدودةِ، وشَرَائِطِهَا المَعْهودَةِ، منْ غير أنْ تَمُدَّ إلَيْها يَدَ القاصر، أوْ تُبالي فيها غَبْنَ الخاسر. فقد بَلَغَنا عن بَعض المُتَصَرِّفين هنالكَ اعتِداءٌ، وورَدَتْ منْهم أنباءٌ، وَرُبَّما قد قَبَضَ إليْهم منْ غُواةِ أهْل الجِهَةِ شيطانٌ، وكانَ لهم منْهُم على الشَّرِ أعْوانٌ وأَقْرانٌ. فَتَتَبَّع ذلك جاهداً واحْسِمْه، وَالزَمْ جانِب العدْل ولا تَرِمْهُ، وانْهض في الحقائق حَزْماً، وكُنْ في ذاتِ الله سَهماً، ولا تُحَمِّل رعيتنا ظُلماً ولا هضْماً. ومنْ عانَدَكَ من الوُلاةِ والمتَصرفين، ووافقَكَ من العُمَّال المشْتَغِلين، خاطَبْتَنا بِه، لنَحْمله على القصد، ونُريه سبيل الرُّشْد. فلا يَتَطَرَّقُ - بعد هذا العهد - أحدٌ إلى الرَّعِيَّة إلاَّ في معروف، أو أمْرٍٍ على الاجْتِماع موقوفٍ. ومتى هِنْتَ أوْ لِنْتَ، فَإِنَّما يَجْري بَعْدُ عليكَ مَحْبُوب، وإلى قُصُورِكَ مَنْسوبٌ. واللَّهُ تعالى يُحْسِنُ في طاعَتِهِ عَوْنَكَ، ويَصلُ يَدَكَ، ويوالي صَوْنَكَ بِعِزَّتِهِ.

وكَتبَ أبو عبد الله بن أبي الخصال في المعنى: كِتابُنا فَسَح الله في طاعَتِه مهَلَكَ، ووَجَّه إلى مرْضاتِه عَمَلكَ، وأنْهَضَكَ بما قَلَّدَكَ وَحَمَّلَكَ، وَتَمم عوارِفَهُ الحُسْنَى قِبَلَكَ، منْ حَضْرَةِ فُلانَة، حَرَسَها الله، وَنَحنُ نَحْمَدُ الله على ما أتانَا منْ فَضْله، ونَعْتَصمُ بِعُرْوَته وَحَبْله، ونُصلي أَعَمَّ الصلاة وأزْكاها على محمد رسولهِ المَخْصُوص بالفَضْل كُلِّه، ثمَّ نَعْهدُ إليكَ، وصَلَ الله توْفيقَكَ، أنْ تُحْضر لما قُلِّدْتَهُ ذِهْنَكَ، وَتَجْمَعَ لَهُ نَفْسَكَ، فإنَّ من رَتَّبَ من الأمْر حيثُ رَتَّبْتَ، وحسِبَ من القيام بالمُهِمَّاتِ حيثُ حَسِبْتَ، لمْ يَشْغَلْهُ أن يَنَامَ عنْ قضيَّةٍ تَجْري ببلَدِه، ولا أنْ تُدرِكَهُ غَفْلَةٌ عنْ تَفَقُّدِ ما تَحْتَ يَدِه. والرَّعِيَّةُ بكلِّ جِهَةٍ من جهاتِكمْ قدْ تَأَذتْ بما بَلَغَهَا من الضَّرر، وتُوُخِّيَ فيها منْ سوءِ السّيَر، حتّى نَفَدَتْ إليْنا طوائفُ الشاكينَ، وَكَثُرَتْ عنْدنا أرْفاعُ المُتَظَلِّمينَ، وَمِنْ أَمْرِهِمْ بَيِّنٌ ومُشْكلٌ، وفي النَّاس مُحِقٌّ ومُبْطلٌ، ويَتَعَذَّرُ عليْنا، بِتَنائي ديارِهم والبُعْدِ عنِ مساقِطِ أخْبارِهم، أنْ نَتَوَصَّلَ منْ أَمْرِهم إلى مَعرفة الصحيح من السَّقيمِ، والمُعْوَج منَ القويمِ. ولَمْ نَخَلْ كثيراً مِمّا يرْفَعُونَهُ منْ قَوْلٍ مُزَوّر، وباطِلٍ في صورةِ الحَقِّ مُصَوّر. وعِندما التَبَسَ الكِذْبُ منْ ذلكَ بالصدْقِ، والتَفَّ المُبْطِلُ بالمُحِقِّ، صَدَدْنا كثيراً منْ أرْفاعِهم عن الوصول، وصَرَفْنا دُونها وَجْه القَبول، وأَوْعَزْنا إلى جَماعَتِهم، لِما خِفْناهُ منْ تلَبُّسِهمْ في الأمور، وشَوْبِهم

المُباح بالمَحْظورِ، بِأنّا لا نَنْظُر لأحدٍ منْهم في حقٍّ يَدَّعيه، ولا أمْرٍ يُوجِبُه أَوْ يَنْفيه، إلاّ أنْ يأتي بِبَيانٍ من قاضي بَلَدِه، وكتابٍ يَنْطِقُ عن صِحَّة ما بِيَدِه. فأقْصروا وتَوَقَّفوا. وفي ونُفُوسِنا - عَلِمَ الله - منْ قِبَلِهم ما يَشُقُّ حِمْلُهُ، ولا يَخِفُّ مِثْلُهُ، وَيُمكِنُ أنْ يَكونَ فيهم الصَّادِقُ والبَرّ، والوَجلُ المُضطَرُّ، لكِنَّ الخيْرَ أرَدْنا، والبِرُّ قَصدنا، ولما وقع هذه رَسَمنا إلى كافّة القُضاة عُهوداً في تَصفُّح الشَّكاوي، والفحْص عنها، وألْزَمناهمْ القيام بها، وتَبَرَّأنا إلَيْهِم من وِزْرِها، وتَخَفَّفْنا بإسنادها إليهم منْ دَرَكِها وإصْرها. والقُرْبُ لَهم في ذلك مُعينُ، وتَعَرُّفُ الحقائقِ عندهم بِسبَبِ المُجَاوَرَة سهلٌ مَكينٌ. ولا امْتَراء عندنا أنَّ هؤلاء الرَّافعين لو وَجَدوا في بلادهم إشْكاء وألِفُوا عِندَ مُتَقَلِّدي الأُمورِ - فَرَدَّ ظُلاماتِهم وفاءً لَما تَجَشَّموا إلَيْنا بُعْد المَشَقَّةِ، ولا تَحَمّلوا نَحْوَنا عظيمَ الكُلْفَة والمشَقَّْة، ولولا أنّا لا نُخْلي بَعْضَهم منَ التَّعَسُّفِ، ولا نُبَرِّئُهم منْ سوء التَّكَلُّفِ، لَشَدَّدْنا في جِهَةِ عارِضة الكلام، ولثَقَّلْنَا عليهم وطْأة الملامِ. ونحنُ قَدْ قَلَّدْناكَ منْ شَكاوى العَامة بِعَمَلِكَ في اللَّطيفٍ والجَليلِ، وسُمْناكَ

القيامَ بالخفيف منها والثَقيل، فَتَفَقَّدْ ما قِبَلَكَ حَقَّ تَفَقُّدِهِ، وتَعَهَّدْه أَحفى تعهُّده. فإنكَ إذا أَمْعَنْتَ التَّطلُّعَ، وواليت إلى جانِبِ الرَّعية التَّلَفُّتَ والتَّسَمُّعَ، لم يَشِذَّ عن عملك متى يجري بِنَظَرك، لاجْتِماعه وانْحصاره، وقُرْب ما بين مسافاته وأَقْطاره. فتأمَّلْ بجهَتكَ الأحوال وصُوَرَها وتفقّد مع الأحيان شَأن الرعية وخَبَرها، وكُلّ ما رَفَعَتْه إليكَ من أحوالها، وتَظَلَّمَتْ فيه من عُمّالها، فأَجْرِهم على الحق كيف جرى، وعَمِّمْ بنظرِكَ، ولا تَخُصَّ قضية دونَ أُخْرى. فكلٌّ بكَ معصوبٌ، وأنتَ عليه مُحاسَبٌ، وبه مَطْلوب. ومِلاكُ أَمْركَ ومدارُهُ، على الحُكّامِ الذين استَنْبَتّهم في الأقطار الناصية، ونَصَّبتهم في الجهة النائية؛ فَشَرْطُهم الثِّقة والدِّيانَةُ، والصَّوْنُ والأمانةُ، فإنهم إذا كانوا بهذه الصفة، جَرَتِ الأمور على سيرها الرَّاشِدة، واستمرتْ على مناهِجها القاصدة، وأمِنَتْ في جهَةِ الرَّعيَّةِ، وأمِنّا بكَ فيها منَ اللَّبْسِ. فلا تُقَلِّدْ أمْرَ المُسلمين إلا معْروفاً بالدِّيانَة والعَفاف، وتقِيّاً لِيَقْنَع بالكفاف، ويَتَنَزَّهَ عن الإسْفاف. وتَحَفَّظْ منْ كُلِّ منْهومٍ لا يَشْبَع، ومُسِفٍّ لا يَتَوَرَّعُ؛ فإنَّ الجشَعَ أعمى لا يرى ولا يسْمَعُ. وبَعدَ توْليتك إيَّاهم، فأشْرفْ عليهم إشرافاً يَتَعَقَّبُ أعمالهم، ويتصفَّحُ أحوالهم. فإن رأيتَ منهم جَنَفاً، أوْ منْ نَقضَ عليكَ منْ أطراف الحَقِّ طرفاً، صرَفْتَهُ مَذْموماً، وأَخَّرْتَهُ مَلُوماً. فتَفَقَّدْ هذا منْ أَمْرهم، فإنّكَ مُضْطرٌّ إليهِ في تعرُّفِ أحوال الرَّعية التي لا نَرْضى بِهَضْمها، ولا نُقِرُّ أحداً على ظُلْمِهاَ، ولاَتتعهده.

وَنَتَقَدَّمُ إليكَ به مُراعَاة اللوازمِ الجارية هناكَ. فاجعل أهمَّ أُمورِكَ أنْ تتصفَّحها وتلْمَحَها، فما لم يَكُنْ منها في عهودنا موجوداً، ولا منْ قَبْلِنا مَحْدوداً، ولا في مصالح المُسلمين موضوعاً ولا معْدوداً، فهو ردٌّ على كلِّ والٍ رَسَمَه، ومَصْروفٌ على كلِّ منْ ألْزَمَهُ، لا يؤدى منه فتيلَ، ولا يُحْمَلُ منه نَقيرٌ، والزّكواتُ كُلُّها على تبايُنِها في الصِّفَّةِ، وأنْواعها المُختَلِفَة، تَجري على مُوجِبِ فريضتها، ويوقَفُ بها على حدِّ شريعَتها؛ لا تُحرَّفُ ولا تُبَدَّلُ، عنْ جهتها، ولا تُعدَّل. ولتُؤخَذْ منَ النِّصابِ بأَعْيانِها، ولتَنْهَ أشَدَّ النهي عنْ قَبْضِ أثْمانها. وقد ارْتفع في بَعض شكاوي الرَّعية أنها تَطْلُبُ برسم الحالي، وهو لا يُطْلب به الحاضرُ عن الغائبِ، ولا يؤخَدُ فيه الباقي بعدَ الذَّاهِبِ. فهذا الصنفُ منَ الجور ترفَعْهُ رفعاً تامّاً، وترُدُّ حُكْمَهُ، وتُعْفي أثره ورسمَه. وأيُّ عامل من عمّال الرعية تعدَّى بعد ذلك عليها، أو تَسبَّب بزيادة تخصُّه إليها، ويبينُ عندك تعدِّيه، وعلمت صحةَ استهدافه وتَصَدِّيه، فارفعْ أمْره إلى الوالي، فإنْ غَلَّ يَدَ أذيَّته، وأنْفذ عزله عن رعيته بذلك، وإلا رفعتَ أمره إلينا مع سائر ما يتَوَقَّفُ لديكَ من الأمور التي تَقْصُرُ عنها يدكَ، وتنْقطعُ دونَ النُّفوذِ عنها غايَتُكَ وأمرك، لينفذ في ذلك من عهدنا ما تَقِفُ منازِعُكَ عنْده، ويَسْهل لكَ كلُّ صعبٍ بعده. هذه - أعزَّك الله - أمثالٌ مضروبَةٌ، وهداياتُها منْصوبَةٌ، وقوانينُ موضوعةٌ، وأعلامٌ على طرُقِ الحقِّ مرفوعة. وفي أكثر ما كانت الأرفاعُ تردُ، وعصائب المتظلمين تَحْتَشِدُ. وأنْتَ إذا كَشَفْتَ غيبها، وتَقَصَّيتَ طُرُقَها، وأعْطيتَها من بحثكَ وتأمُّلِكَ حَقَّها، ارتَفَعَتِ الشُّبْهة، وراحَتِِ العلة، وتوفرتْ على المُتَظَلِّمينَ

الرحلة، وهَدَأَتِ الرَّعية، فتَفَرَّغَتْ لأشْغالها، ولزِمَتْ مصالح أعْمالها. فانظر - أعزّك الله - في هذه الأمثلة والجُمل إلى أقصى ما تنقسم إليه أقسامها. وَقِفْها على حدِّ ما تقِفُهُ عليه الشريعة وأحكامها. وتَطَلُّعُنَا وكيدٌ إلى ما يتَجدّدُ منْ نُفوذك، ونُهوضكَ بهذه الوصاة الجامعَة والحجة البالغة. فاستجْمع لإقامتها؛ فقد وقع إليكَ الإصْغَاءُ، وَستَبْلُغُنا منْ قِبَلِكَ الأنْباءُ، ويَتَّصل عندَكَ الذِّكرُ والثَّناءُ، وبَعْدَ هذا مَوْطِنٌ يكونُ فيه المَثُوبَةُ والجزاء. ولتَقْرأْ كتابنا هذا على الكَافَّة بالمسجد الجامعِ، شَرَّفهُ الله، ليَسْتَمِعَه منْ تَوَجَّهَ إليه الخطابُ، وتسير بأنبائه الرِّكابُ، وتَتَلَقَّاهُ بعد الشُّهودِ الغُيَّاب. وتَبَلَّغْ منّا أَعَمَّ سلامٍ وأجْزَلَه وأَزْكاه وأحفله. والسلام المُضَاعَفُ الأحفى علَيْكَ ورَحْمَة الله.

فصل ومن أحسن ما كتبوا في التقديم إلى أحكام مدينة

فصل ومن أحسن ما كتبوا في التقديم إلى أحكام مدينة قَلَّدنا فلانٌ بنُ فلان، سلَّمه الله، الأحكام بفلانة وجهاتها، وتَخَيَّرنَاهُ لذلك بعد أنْ خَبَرْناه، واسْتَخْلَفْناه عليها وقد عَرَفْناه، ووَثِقْنا بدينه، ورَجَوْنا حُسْنَ تَحْصينه، لأَنَّه إن احتاط سلِمَ، وإنْ أضاعَ أَثِمَ، فلْيُقِم الحَقَّ على أرْكانِه، ولْيَضعِ العدْل في ميزانه، ولْيُساوِ بينَ خُصومه، ولْيأْخُذْ من الظالمِ إلى مظلومه، ولْيَقِفْ في الأمر عند اشْتِباهه، ولْيُنَفِّذْهُ عند اتجاهه. ولا يَقْبَل غير المرضيِّ في شهادَته، ولا يَتَعَرَّفْ سوى الاسْتِقامة من عادته، ولْيَعْلَمْ أن الله مُطَّلِعٌ على خَفِياته، وَسائِلُهُ يومَ مُلاَقاتِه. وفي المعنى لأبي نصر كتابُ تقليدٍ وتَوْليَةٍ، وَتَشْييد رُتْبَةٍ علِيَّةٍ. أَمرَ بإنْفاذِه فلانٌ - أيَّدَهُ الله - لفلان بن فلان أَبْقاه الله، لِيَنْظُرَ في أحكامِ المدينة بفلانة وأقْطارها، ويَحْسِمَ عنها أَدواء مردَتِها ودُعَّارها ويَعُمَّ بالحِماية كلَّ جهة منها وناحية، ويُظلَّ من هِجِّير الإباحة أكْنافها الضَّاحية، وأَمره أنْ يَتَّقي الله حَقَّ تُقاته ويَخْشى يوماً يأتي فيه لِميقاته، وأنْ يحْذَرَ ما أعَدَّ منَ العذاب الأليم، (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) وحَدَّ لهُ رَعْيَ منْ

يَجِبُ رَعْيُه، ويُعْلَمَ جَرْيُهُ في ذات الله وسَعْيُهُ، وَمشَاوَرةَ الفُقهاء فيما أَشْكل، والاعْتِضاد بهم فيما حَامَ عنه ونَكَلَ، واسْتِفْتاءهم فيما يَقَعُ من الأمورالشَّرْعِيَّة، والقوانين المَرْعية، وأنْ يكونَ لأهل الشَّرِّ بِمَرْصدٍ، ويقفَ لهم في ثَنِيَّةِ كلِّ مَقْصِدٍ، ويفتح منْ تواريهم كُلَّ بابٍ مُوصِدٍ، وأنْ يَكْتَحل بالسهاد، وألاَّ يَنْتَحِل غير الجد والاجْتِهاد، وألاّ يُصيخَ إلى افتراء مُفْتَر، ولا يَقْضِيَ على اجْتِراء مُجْتَرٍ، وأَنْ يعمَّ الجِهةَ بالاحتراس، ويَضُمَّ إلى البَحْثِ عنِ الفُجَّار كلَّ عالِمٍ بالانتهازِ والافْتِراس، ممن لا يَعْلَقُ به اتَّهامٌ، ولا يقعُ عليه إبْهامٌ، ولِيَتَنَزَّه عنِ الرُّشى، ولا تَعْلَقْ له بِدلْوٍ ولا رشا، ولْيُقِم الحُدودَ، ولايَعْدُها باجتهاد غير مِحْدودٍ. فَمَنْ قَرَأَهُ، فلْيَقِفْ عِنَدَهُ ولا يَتَعَدَّه، ومَنْ عارضه بِتَعَدِّيه، أوْ ناقَضَه فيما يُعيدُه منْ إنْكاره ويُبْديه، فقد تَعَرَّضَ لنكالٍ يَسْتَقْبِلُه، وعِقابٍ يَسْتَوْبله. وله في المعنى: كتاب تأْكيدٍ واعْتِناءٍ، وتَقْليدِ ذي مِنَّةٍ وغَناء، أمَرَ بإنْفاذِه فلان، أَيّدَهُ الله، لفلان بن فلان، صَانَه الله، ليتَقَدَّمَ لِوِلايَةِ المدينة بفلانة وجهاتها، ويضرح ما تكاثَفَ منَ العُدْوان،

في جَنَباتِها، تَنْويهاً أحْظاه بِعَلائهِ، وكَساهُ رائقَ ملائه، لِما عَلِمَهُ منْ سَنائِه، وتَوَسُّمَهُ منْ غنائهِ، ورَجَاه منْ حُسْنِ منَابِهِ، وتَحَقَّقَهُ منْ طهارة ساحَتِه وجنابه، وتَيَقَّنَ، - أيَّدَه الله - أنَّه مُسْتَحِقٌّ بما ولاّه، مُسْتَقلٌّ بما تَوَلاّه، لا يَعْتريه كَسَلٌ، ولا يُثْنيه عن إمضاء صوارمُ ولا أَسَل، لمْ يكِل الأمر منه وإلى وَكِلٍ، ولا ناطهُ بِمناطِ عَجْزٍ ولا فشَلٍ، وأمَرَه أن يراقب الله تعالى في أوامره ونواهيه، ولْيَعلمْ أنَّه زاجرُه عنِ الجور وناهيه، وسائلُه كمّا حَكَمَ به وقضاه، (يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ). فَلْيَتَقَدَّمْ إلى ذلك بِحَزْمٍ لا يَخْمدُ تَوَقُّده، وعزْمٍ لا يُقَدُّ تَعَقُّده، ونفسٍ مع الخير ذاهبة، وعلى سَنَن البرِّ والتقوى راكبَة. ويُقَدِّمُ للاحتراس منْ عُرف اجتهاده، وعُلِمَ أرقُهُ في البَحْثِ وسُهاده، وحُمِدتْ أعماله، وأمِنَ تَفْريطُه وإهماله، ويَضُمَّ إليهم منْ يَحْذو حَذْوَهم، ويَقْفو شأْوهم، ممّنْ لا يُستراب بمناحيه، ولا يُصابُ خَلَلٌ في ناحِيَةٍ منْ نواحيه، وأنْ يُذْكي العيونَ على الجناةِ، ويَنْفِيَ عنها لذيذَ السنات، وأَنْ يَفْحَصَ عنْ مكامِنِهم، حتّى يُغَصَّ بالرَّوْع نفسُ آمنهم، فلا يستَقِرَّ بهم مَوضِعٌ، ولا يَقِرَّ منهم مُخِبٌّ ولا مَوْضَع فإذا ظَفِرَ

منهم بمَنْ ظَفَرَ، بحثَ عنْ باطنه، وبَثَّ السؤال في مواضعِ تصرُّفه ومواطنه، فإنْ لاحَتْ شبْهةٌ أبداها الكشفُ والاسْتِبْراءُ، وَتَعَدّاها البغْيُ والافْتراء، نَكَلَهُ بالعُقوبة أشدَّ نكالٍ، وأوضحَ له منها ما كانَ ذا إشْكال، بعدَ أَنْ يَبْلُغَ أناه، ويقفَ على طرفِ مداه، وحدَّ لهُ ألا يَكْشِفَ بَشرةَ بشرٍ إلا في حدٍّ يتعينُ، وإنْ جاءه فاسقٌ بنبأ أَنْ يتَبَيَّن، وأنْ لا يطمعَ في صاحب مالٍ موفُور، وأنْ لاَ يسمع مِنْ مكشوف في مستور، وأنْ يسْلُكَ السَّننَ المحمودِ، ويُنَزِّهَ عقوبته من الإفراط، وعفوه من تعطيل الحدود، وإذا انْتهت إليه قصَّة مشكلة أخَّرها إلى غَدِه، فهو على العقاب أقدَرُ منه على رده، فقدْ يَبينُ في وقْتنا ما لا يبينُ في وقْتٍ، والمعالجة بالعقوبة من المقت، وأنْ يَتَعَهَّدَ هفواتِ ذوي الهناتِ، وأنْ يَسْتَشْعِرَ الإشْفاقَ، ويَخْلعَ التَّكَبُّر، فإنَّه منْ ملابِسِ أهلِ النِّفاقِ، ولْيُحْسِن لعباد الله اعْتِقادهُ، ولا يَرْفُضْ زمامَ العدلِ ومَقَادَه، وأنْ يعاقب المجرم على قدر زَلَّتِهِ. ولا يَغْتَرَّ عنْدَ ذَلَّتِه. ولْيعلم أنّ الشيطانَ أغْواه، وزَيَّنَ له هواه، فيُشْفق منْ عَثَاره، وسوء آثاره، وسَيَشْكُرُ الله على ما وهبَ له منَ العافية، وأَلْبَسَهُ من ملابِسها الضَّافية، ويَذْكُرَهُ جَلَّ وتعالى في جميع أحواله، يُفَكِّرَ في الحشر وأهواله، ويَتَذَكَّر وعداً يُنْجَزُ فيه ووعيداً (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا)، والأمير -

أيده الله - وليٌّ له ما مدَّ عَدْلاً وبَسَطَ، وبَريء منه إنْ جارَ وقَسَطَ، فمَنْ قرأهُ فَلْيَقِفْ عند حدِّه ورسْمه، ولْيَعرف لهُ حَقَّ قطْعِ الشرِّ وحَسْمِه، ومنْ وافقَهُ منْ شريف أوْ مشروفٍ، وخالَفَهُ في نهيِ عنْ مُنْكرٍ أوْ أَمْرٍ بِمَعْروفٍ، فقد تعرض مِنَ العقابِ إلى ما يُذيقه وبالَ جهْلِه (وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ). وفي المعنى لأبي مروان بن أبي الخصال: كتابُ مَبَرَّةٍ مُجَدَّدَةٍ، وأثْرَةٍ مؤكدة، وحُرْمَةٍ مُتَّصِلَةٍ الأسبابِ ممُهّدَة، أمر به أبو فلان - أيده الله - لفلان ابن فلان صانه الله، وأمَدَّه بتقواه. قَدَّمه به إلى خُطَّةِ أحكام المدينة بحاضرة فلانة، حينَ أُخيفتْ سبل السيَّارَة، وظهر فيها أهل الفِسْق والدَّعارة، وصدُّوا المسلمين عنْ وجوه المعيشة والتِّجارة، لما رجاه من قيامه بالخُطَّةِ واضطلاعه، وتَوَقُّده على حسمِ الشَّرِّ واجتماعه، مع ما بلاهُ قديماً وحديثاً منْ حميد أثره، وَرَضِيِّه على الامتحان من مختبره، وتحققه من حُسْنِ مذاهبه وسِيَره، واعتقد فيه تَغْييرَ المُنْكراتِ، وقَطْعَ المُسكرات، وَكَفَّ أهل العدوان والاسْتطالاتِ، ورَدَّ الجائرينَ عنْ القصد إلى سواء الطريق. وعهِدَ إليه أنْ يَبُثَّ الاحتراس في سُبُلِ المسلمينَ ومسالكهم، ويُذْكيَ العيون في طُرُقِهم ومنَاكِبِهم، إرْصاداً للمحاربينَ، وأخْذاً فوق أيدي المُفْسدينَ، ليَتَصَرَّفَ الناسُ في معائشهم آمنين، ويمشوا في مناكبِ الأرضِ مطْمَئنينَ، وجعل عليه إقامة الحُدود، وإنفاذَ الأحكام فيها على واجب حقها المحدود، إلاّ ما كانَ قَتْلاً أوْ رَفْعاً، فإنه مأمورٌ فيه بردِّه إليه - أيده الله - يُشاملُهُ بِحُسْنِ نظره، وَيُقَابِلُ كُلَّ

إجْرَامٍ منَ العِقاب بقدرِهِ، حَذَراً أنْ تُوقِعَ الحدود في غير مواقِعِها، أوْ يُصابَ بها غيْرُ مواضعِها، فلْيَمْضِ أبو فلان في غَيْر ما استَثْناهُ عليه من الحدود ظاهرَ القنا والأيدِ، ولْيَتَولها غير ضعيف الكَيْدِ، دونَ أنْ يَرْعى في فاسقٍ شفاعة مثيل، وأنْ يَخِلَّ من حدود الله بِفتيلٍ، وأجْرى له منَ الوَرِق عشرة دنانير، يقبضها مشاهَرَةً من الخراج، ليرفع منْ همَّته، ويعفَّ بها في طُعْمَتِه، ولْيَسْتَمِرَّ على صيانته، ويزيدَ نزاهةً إلى نزاهَتِهِ، ولئلا يجِدَ ذُو الظِّنِّ لسوء ظنِّه مَسْلكاً، وَلاَ يجْعَلَ على نفسه للإساءةِ دَرَكاً. فمَنْ قرأَ هذا الكتابَ أوْ أَُقْرِئَهُ منْ جميع العمَّال وذوي الأمر، وأتباعِهم وكافَّة الناس على طبقاتهم وأصنافهم، فَلْيَقِفْ عندما يَسْمعُهُ، ولا يتَعَرَّضْ لعقابِ يكفُّ عناهُ ويَرْدَعُهُ، والله المُوفِّقُ. لا ربَّ غيرهُ. تجديد ولاية في المعنى: كِتابُنا أدامَ اللهُ احْتِماءَكَ، وأنارَ لِنُجومِ السَّعْد سماءكَ، وجعل إلى طاعَتِه اعْتِزاءكَ وانتماءك. وقدْ وردَ كتابُكَ الأثير، ووَقَفْنا على ما حواه، وعَرَفنا سرَّه ونجْواه، وما كانَ لفلانٍ أنْ يعْتَرِضَكَ ويَرْمي غَرَضكَ. وقدْ وجَّهْنا إليه ما يَكُفُّ اعتداءهُ، ويصْرفُ عنك إعادته بِمَكْروه وابتداءه، فشمِّرْ عنْ ساعِدِ الاكتفاء، وهُبَّ منْ ذلكَ الإغْفاء، وأرِنا مُنْتَهى غنائكَ، وتَوَخَّ بالاجتهادِ مُعارَضة تَقْريبكَ وإدْنائكَ، وشِفَّ الشِّدَّة ببَنَانٍ، ولا تَقْطعْ بأثر دونَ عيانٍ، وسُدَّ سَمْعكَ عن النمائم، ولا تَغْمِد النَّصل قبل شقِّ الكمائم، وأَقِلْ عثرات ذوي الهيآت، وادْرَإِ الحدود بالشُّبُهات، وتجاوزْ عنهم غير مُرْتابٍ، وخُذْ فيهم بِرُخُصِ السنَّة

والكتاب، وامزجْ لسواهم الصَّابَ بالضَّرَب، واقرعْ في نَكَالهم النَّبْعَ بالغَرَب، والله المستعانُ. وفي المعنى: ما وَقع بتِلكَ الجهة نَعْلَمُهُ، ولمْ يخْفَ عنكَ توَجُّعُ السلْطانِ منه وتَأَلُّمُهُ، فَانْهَدْ لتلافي الأمرِ، وإطْفاء ذلكَ الجمرِ، وَاسْعَ في حسْمِ عِلَلِهِ، وَرَمِّ خَلَلِهُ، واجْرِ إلى ما يُتَعَرَّفُ به حميدُ أثركَ، ويُعْرَفُ به حُسْنُ نَظَرِكَ، ولا يَغُرُّكَ عَرَضٌ ولا يكونُ لكَ في غير تهدينِ ما نشاءُ غَرَضٌ، وإياكَ أنْ يَرْتَفِعَ عليكَ أمْرٌ يُنْعى، أوْ يَبْلُغَ عندكَ ما يُلْقى به ما يُحْفَظُ لك ويُرْعى. وكتب أبو نصر بتولية مواريث، وهو مما أحسن فيه: كتابُ توجيهٍ وتَكريمٍ وتقْليدٍ وتَقْديمٍ. أمَرَ بإنْفاذِهِ فلان - أيده الله - لفلان - أبقاه الله - ليتقدَّمَ للمواريثِ بفلانة وأعمالها، ويَرُمَّ ما وجَدَ من اخْتلالها، ويَنْظِمَ ما تناثرَ منْ عقد فوائد اسْتِقْلالها، إحْظاءً أفاضَ عليه ملْبَسَه، وأوْرى لهُ زَنْدَه فاقْتَبَسَه، لِما عَهِدَه منْ حُسْنِ يقينِهِ، وعلِمَهُ منْ ورَعِهِ ودينِه، وتَحَقَّقَهُ منْ حياطَتِه وتَحْصينِه، فلْيتقدَّم إلى ذلكَ معظَّمَ القدر، منشرحَ الصدرِ، موثِراً للأمانةِ، مُسْتَكْثِراً للصيانَةِ، مُجْتَهداً فيما يعودُ على بيتِ المال بنَفعٍ، مدافعاً عنْ تَحَيُّفِهِ

أشدَّ دفع. لا يغْفَلُ منْ واجباته واجباً، ولا يُهْمِل من جَنَبَاتِ ارْتفاقِهِ جانباً، ولا يدعُ رسماً منْ رسومِهِ داثِراً، ولا يَتْرُكُ أحداً بحَقٍّ منْ حُقوقِه مُسْتَأثراً، وأنْ يَبْحَثَ عَمَّنْ يُتَوَفَّى بحْثاً يعْلَمُ به حقيقَةَ وارثِهِ وعاصبهِ، ويَسْلَمَ بِسَبَبِهِ بيتُ المال منْ غاصبِه. فإنْ وجَدَ مالاً لا وَارِثَ لَهُ ولا مُدَّعياً، ولا باحثَ عنْ وجوبِهِ له ولا مُسْتَدْعياً، رفعه إلى بيت المال، وحمله إليه أحقَّ احْتمال. وإنْ وَجَدَ مالاً يَدَّعيه مُدَّعٍ، وله شبهةٌ ربَّما اقتضتْ صدْقهُ، وأَمْضت له حقَّه، جعله في ثقافٍ، وصيره في جُمْلةِ الأوقاف، بعد الإشهاد على وزْنِه إنْ كانَ عيْناً، أوْ مبْلغه إنْ كانَ ديناً، حتّى يبينَ حقُّ مدَّعيه ويتَّضحَ، أوْ تثْبُتَ دعواهُ وتَفْتَضح. وحدَّ له افتقاد أراضيها، وارْتِجاع ذاهبها - بتعدٍّ إنْ كانَ - وماضيها، وتَثْمير عامرِها، وإنْفاذَ مبيعِ غامرها، بعد الشهادة فيها بالسداد، والمبالغة في الإشادة في تسويقها، والإنْشادِ، حتّى لا يُدْرَكَ فيها غَبْنٌ، ولا يَشْتَرِكَ في تَرْقيدها أبٌ وابنٌ، مُجَوِّزاً له في ذلكَ ما يُنَفِّذُهُ ويُمْضيه، مَحْمولاً فيه على ما تقتضيه صحَّةُ تقويمه وتقتضيه. لا اعتراض عليه فيما بدأه من ذلك أوْ تمَّمَهُ، ولا انتقاض لما عقده منه وأَبْرمه، ما لم تخْتَلَّ أعْمالُهُ، ولم يبِنِ انْهماله. فمنْ قرأه فلْيَسْلُكْ معه السَّنن القويم، ولْيتَقبَْلْ فيه الرأي الكريم. إن شاء الله.

فصل ومن أبلغ ما كتبوا لمن ثار وتعدى وتعرض للخلاف وتصدى

فصل ومن أبلغ ما كتبوا لمنْ ثارَ وتَعدَّى وتَعَرَّضَ للخلاف وتَصَدَّى أمّا بعد فكَّ الله غَرْبَ انْتزائكَ، وَعدَلَ بكَ عن انْتِمائكَ للضَّلالِ واعْتِزائكَ، فقد سلَكْتَ مَجْهلاً وذهَبْتَ مَذْهباً مُسْتَوْبلاً، دلاكَ في مهاوي الغرور، ومنّاكَ بأماني زور، حداكَ إلى ركوبها، وسَقاكَ بِذُنوبها، اسْتِصْغارُنا لأمْركَ، واحْتِقارُنا لِملتهب جَمْرِكَ، فوالله لئنْ لمْ تقِفْ في مكانِكَ، وتَنْحَرف عن طُغْيانِكَ، وتَصْحُ من تهَوُّرِكَ وخِذْلانِكَ، لَأُجْهِزَنَّ نَحْوَكَ كَتَائِبَ كالليل البهيمِ، (مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ)، تزْأَرُ زئير الضَّراغِم، وتزْخَرُ كالبحر المُتَلاطِمِ، فتَنْتَشِفُّ ماءكَ وتَكْتَشِفُ سماءكَ، وتَغْنَمُ طارِفَكَ وتِلادَكَ، وتُخَرِّبُ أرْضك وبلادَكَ، حتى تعودَ قاعاً صفصفاً ولا تجِدُ منها مجيراً ولا منْصفاً، فتَغْدو خاويةً على عروشها كأنْ لم تَغْن بالأمس وما منْ أهلها إلا حبيسٌ أوْرهينُ رَمْس، ولولا أنّا لا ندفَعُ إلا إِثْرَ وعيدٍ، ولا نوقِعُ إلا بعدَ نهي نُبْدئُ ونُعيدُ، لكانت مكانَ الكُتْبِ الكتائبُ، وسمعتَ بدلاً منْ معانيه اصطكاك الركائب، وما بعد هذا إلا منْ يُشيرُ إلى الوقائع، ويُثِيرُ لكَ غُبارَهُ الطَّلاَئِعُ، والسلامُ على من اتبع الهدى.

وله في المعنى: أما بعد، أراكَ الله إخفاقَ مخائلكَ، وأعلَقَكَ في شَرَككَ وحبائلكَ، وأراكَ وبالَ بَغْيِكَ وغوائلِكَ، فقدْ أوْرثكَ ضلالُكَ عنِ الرشاد وَسَناً، وأراكَ سيِّءَ أمْرِكَ حسناً، وثنى لكَ إلى مهالككَ عِنانا ورَسَنا، فركبْتَ لخلافنا ظَهْراً، وأبْديْتَ أسرارَ عِصياننا جَهْراً، وسيَحْدوكَ كيْدُكَ إلى الفرارِ فلا تُطيقُ نفاذاً، ويدعوكَ إلى الاعتصام فلا تجد ملاذاً، فما نَاوَأَنا مناوئٌ، ولا عارضنا من الغواية غاوٍ إلا عاجله حِمَامُه، وقاتله عنا رُمْحُه وحُسامُه، ولولا أنا لا نوقِعُ قبل وعيد، ولا نزْمَعُ إلا بعد نهي مُبْدِئٍ ومُعيد، لوجَّهنا إليكَ جيشاً تتزاحمُ أفواجه كالبحر إذ تتلاطمُ أمواجُه، تغْدو كقطعٍ الليل مواكبُه، وتبدو من الأسنَّة كواكبُه، فيُثيرونَ قَتَاماً يعتم به جوُّك إعْتاماً، فلا ترى إلا لَمْعَ سنان، ولا تسمع إلا صَوْلَةَ بطل فيها صدع جَنَانٍ، فيعود اغتباطكَ ندماً، ووجودُ أنصاركَ وأشياعكَ عَدَماً، فتَلومُ نفسك حين لا يغْني الملامُ، وتستسلمُ ولا ينْفَعكَ الاسْتِسلامُ، لكنا كففنا بأسنا حتى يقدمَه الإنْذار، وتوقَّفْنا حتى يُعربَ عنّا الإعذارُ، ثمَّ يأتي منْ بعد ذلك يومٌ عبُوسٌ قَمْطرير، لا يشرقُ فيه إلا ذابلٌ أوْ حُسامٌ طرير، وقد عَوَّدَنا الله سبحانه ذلك في أعْدائنا، وأراناه في إعادتنا وإبْدائنا، وهو بعِزَّته يولي صُنْعَهُ الجميل معنا، ويحمي من النوائب موْضعَنا، بمَنِّه وكرمه. وفي المعنى لأبي بكر بن القصيرة:

أمّا بعدُ يا أمَّةٌ لا تَعْقِل رُشْدها. ولا تَجْرِى إلى ما تَقْتََضي نِعَمُ الله عندها، ولا تُقْلِعُ عنْ أذى تفشيه قرباً وبُعْداً جُهْدَها، فإنَّكم لا ترْعونَ لجارٍ حرمة، ولا ترْقبون في مومِنٍ إلاَّ ولا ذِمَّة، قدْ أعْماكُمْ عنْ مصالحكم الأشرُ، وأضَلَّكمْ، ضَلالاً بعيداً البَطَر، ونَبَذْتُم المعروفَ وراء ظهوركم، وأتَيْتُمْ بما نُنْكِرُهُ مُقْتدياً في ذلك صغيركم بكبيركم، وخاملكم بمشهوركم، ليسَ فيكم زاجرٌ، ولا منكم إلا غويٌّ وفاجِرٌ، وما نرى إلا أنَّ الله عزَّ وجلَّ شاء مَسْخَكُمْ، وأرادَ فسْخَكم ووسْخكم فسلّط عليكم الشيطانَ الرجيم يغُرُّكم ويُغْريكم، ويُزَيِّنُ لكم قبيح معاصيكم، وكأنَّكم به، وقد نكص على عقبيه، وقال إني بريءٌ منكم، وَتَرَكَكُمْ في صَفْقَةٍ خاسرةٍ، لا تَستقيلُونَها إنْ لمْ تَتُوبوا لا في دنيا ولا في آخرة. وحَسْبُنا هذا إنْذاراً لكمْ، وإعْذاراً قبلَكُمْ، فتوبوا وأنيبوا وأَقْلِعُوا وانْزعوا، واقضوا من أنْفُسِكُم جميع منْ وترْتُموه، وانصفوا جميعَ منْ ظَلَمْتُموهُ وغَشَمْتُموه، ولا تَسْتَطيلوا على أحد بَعدُ، ولا يكُنْ منكم إلى أداة صَدَرٌ ولا وِرْد، وإلا عاجَلَكم منْ عقوبَتنا ما يَجْعلكم مثلاً سائراً، وحدثاً غابراً، فاتقوا الله في أنْفُسكم وأهْليكم، وإياكُم والاغترار فإنَّه يُوَرِّطُكمْ فيما يُوذيكمْ، ويُلْقيكم إلى ما يَشْمَتُ به أعاديكم، وكفى بهذه تبصرة وتذْكرةً، ليس لكم بعدها حُجَّةٌ ولا معْذرةٌ، وما توْفيقي إلا بالله. وفي المعنى لأبي القاسم بن الجد: كتابنا أبْقاكمُ الله وسَدَّدَكُمْ وأراكُمْ

مصالحكم وأرْشَدَكم، وجعل إلى سبيل التخلص مقْصدكم. وقداتصل بنا ما حملكم عليه الاغترار، وأنْكرناه، وحقُّه الإنْكار، منَ الجريرة التي جرَّها سُفهاؤكم، والفتْنة التي أثارها غَوْغاؤُكم، وضَعُفَ عنْ كفِّها حَلُماؤكم، في العبث بذلكَ الغلامِ والتخطي بعد ذلك إلى حزِّ رأسه، وتَفْريقِ أشْلائه، وتَحْريق أوصاله وأعْضائه، ورُكوبِكم الرُّؤوسَ في مُواقَعة الآثام، وسَفْكِ الدَّم الحَرَام، وما لكم في المعاصي من الجرأة والإقدام، بدعةٌ لم تُبْتَدعْ قَبْلها، ولاأتتِ الجاهلية مثْلها، وشقّاً لعصا الطاعة وقطعاً لحَبْلها، وتَحَوُّلاً إلى ظلِّ العصيان من ظلها، وتعرضاً للعقوبة ورغبة في الارتسام بدلها، فِعْلُ منْ غمطَ النِّعمة، واستعجل النِّقمَةَ، واخْتارَ على العافيَة المحنة. وسنفرغُ بحسم هذه الأمور، ونُحْدثُ لكم فيها الأحكام من قدر ما أحْدَثْتُمْ منَ الفجور، ونُعجل لكم الآن بعض مالَكم فيه أَدَبٌ يَزَعُكُم، وتقديمٌ يرْدَعُكم. فأوْجَبْنا في الخطيئة على من قتَل الغُلامَ ظُلْماً، وانتهَكَ حُرْمتَه جُرْماً، غرامَةَ ألْفٍ وخَمْسِ مائة دينار، ولا مناصَ لهم عنْ أدائها، ولا عُذْرَ في التَّأخر عن قضائها، وأمرنا فلانا أنْ يَسْتَوفي عددها، ويسْتَعجل أمدها، ويتحاشى منها أهل الصلاح والعفاف، ويؤخَذَ بها أهلُ التسرع إلى الشر والإسْفاف. فإنْ أخذ هذه على أيْدي السُّفهاء، وانقطعتْ بها أسبابُ العداءِ، وإلا أنْزَلْنا بهم العقاب الأشنعَ، والنكال الأوجع. فارتدعوا مما أنتم عليه مما لمْ تزالوا تجروا إليه منْ ثَوْرةٍ في الشرِّ إثْر ثورَةٍ، وفوْرَة في النِّفاقِ بعدَ فَوْرَة، واعلموا أنَّ استِطالَتَكم تُورِّثكم الندامة، وأنّ استقامتكم تُعَقِّبُكم السلامة، فاختاروا ما شِئتُم منَ الاعْوِجَاجِ أو الاسْتِقامَةِ. فإنَّ لكلٍّ عندنا جزاءً مَعْلوماً، وجُزْءاً منَ الثوابِ أوِ العقاب مقْسوماً. ولا حول ولا قوة إلاّ بالله. ومن إنشائه أيضاً في المعنى: كتابُنا أبْقاكم الله وَعَصَمَكم بتقواه، ويسركُم منَ الاتِّفاق والائتلاف إلى ما

يرْضاهُ، وجَنَّبَكم من الشَّقاقِ والخلاف ما يُسْخِطُهُ ويَنْعاه. من حضْرة فلانَة، حرسها الله، وقدْ بَلَغَنا ما تأكَّدَ بينَ أعْيانِكُم منْ أسْبابِ التَّباعد والتَّبايُنِ، ودواعي التَّحاقد والتَّباغُض، والتَّناقضِ والتَّدابُر، وتَمادي التَّقاطع والتهاجر، وفي هذا على فُقَهائكم وصُلَحائكم مطعنٌ بيِّن، ومَغْمَرٌ لا يَرْضاهُ مومِنٌ ديِّن. فهَلاّ سعوا في إصلاح ذات البين سعيَ الصَّالحينَ، وجَدُّوا في إبْطال أعْمال المُفْسدينَ، وبَذَلُوا في تأليف الآراء جُهْدَ المُجْتَهدينَ، ورَأَيْنا - والله المُوَفِّقُ للصَّواب - أنْ نُعْذرَ إليكم بهذا الخطاب، فإذا وصل إليكم وقرئ عليكُم (الأمارة بالسوء) وَارْغَبُوا في السُّكونِ والهدوء، ونَكِّبوا عن طريق البَغْيِ الذميمِ المشنوء، واحذَروا منْ دواعي الفِتَن، وعواقب الإحن، ما يجرُّ رديَّ الضَّمائر، وفساد السرائر، وعَمَى البصائر، ووخيم المصائر، وَأَشْفِقُوا على أدْيانِكم وأعْراضكم، وأَخْلصوا السمعَ والطاعَةَ لِوَالِي أُمورِكُمْ، وخَليفَتِنا في تَدْبيركُمْ وسياسَة جمهوركم، أبِي فلان الكريم علينا أَبْقاه الله وأدامَ عِزَّتَه بِتَقْواه. واعْلَموا أنَّ يدَهُ فيكم كَيَدِنا، ومَشْهده كَمَشْهَدِنا، فقفوا عندَما يَحُثُّكم عليْه، ويَدْعوكم إليْهِ، ولا تَخْتَلِفوا في أمر منَ الأمور لديه، وانْقادُوا أَسْلَسَ انقياد بِحُكْمه وعَزْمه، ولا تُقيموا على ثَبَجِ عنادٍ بينَ حَدِّه ورَسْمِه. والله

تعالى يفيءُ بكمْ إلى الحُسْنى، ويُيَسِّرُكُم إلى ما فيه صلاحٌ الدين والدُّنيا بِمَنِّه وكَرَمِهِ. ومن إنشاء أبي نصر في المعنى: كتَابُنا أَرَاكُمُ الله مرَاشِدَكُمْ، وحَسَّنَ منازِعكم ومقاصِدكم، وأَلْحَفَ السَّدادَ مصادِرَكم وموارِدَكُم. يوم كذا من شهر كذا عن جيش لجِبٍ، ونصْرٍ غيرِ مُحْتَجِبٍ، وبَأْسٍ إليكم مُنْسَرِبٍ، وحَنَقٍ عليكم مُضْطَرِبٍ مُلْتَهبٍ. والله تعالى يَكُفُّ طُغْيانَكُم، ويَكْفي عُدوانَكُم، ويَتَأَدَّى من قِبَلِ الأمير أبي فلان الذي أمَّرْناه عليكم ووَلَّيْناه، وأمَرْناهُ أنْ يَتَوَلَّى منَ أمْركم ما تَوَلَّيْناه، وهو يُمْنى يدينا، وأَسْنى منْ لدينا. لسانه لِساننا، وأعوانُه فيكم مُرْهَفُنا وَسِنانُنا، يُسْرِعُها لمَنْ اعتدى، ويَرْفعها عمَّن طاع واهتدى، حتى يُسوِّي عِوَجَكم، ويزيل هََرَجَكم، ويُسَكِّنَ وهَجَكم، ويُوَضِّح في الاسْتِقامة سَنَنَكم ومَنْهَجَكم. فَأَعْلِنُوا له بالسمع والطاعة، وابْلُغُوا في إقامة رَسومه والوُقوفِ عند حدُودِه أَبْعد غاية الاسْتِطاعَة. ولا تَحْمِلوا أمْره على ما حمَلْتُم عليه أمر منْ تقدَّمَ، فيَحِيقُ بكُمُ النَّكالُ ولا يَنْفَعُكُم النَّدَمُ. ولا تَغْتَروا بِمن أغْضى لكم عن أذى، وأطْبَقَ جفنه منكم عن قذىً فبِاللَّه إنْ سامَ منكم بارِقُ خلافٍ، ولم تأتَلِفوا لديه أحسنَ ائتلاف، لَيَجْزِيَنَّكُم أسْوأَ جزاءٍ، ويُزيلَ ما بِكمْ منْ انْتِزاءٍ، حتى تَعُودوا لحْماً على وَضَم، ولا يَبْقى منكم

غيرُ مهيض مهتضَم، كما قال رَبُّنا في قومٍ تَقَيَّلوا شياطينهم (فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ). فقد صحَّ عندنا أنَّكم في سَنَنِ الغدرِ سالِكون، وعلى وَثَنِ البَغْي والمكر عاكفون. فنَكِّبوا عنْ هذه السبيل، وتَبَرَّؤوا منْ هذا المذهب الوبيل، واسْتَشْعِروا إعْداداً للطاعة وإسْراعاً، وأَظْهروا اشْتِمالاً لِجَلابيبِها وادِّراعاً. وهو مُجازٍ لمحسنكُم بالإحسان الحميد، ولِمُسيئكُم بالعقابِ الشديد. وقول الله تعالى لكم حسيب، وعليكم شهيد (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) ومن إنشائه في المعنى: أمَّا بعدُ، فإنَّ الأيْدي قد امتدتْ، ودواعي التَّعدي قد اشْتَدَّتْ، وأموالُ الناس تُنْتَهبُ، وزواجِرُ كتاب الله لا تُرْتَهبُ، وأنتَ تَنامُ عنْ كفِّ هذا الانتِهاب، وتَلينُ في موضعِ السَّطْوة والإرهاب، تعْتَكِفُ على الراح وراحاتها، وتقفُ عندَ بُكَرِها وروَحاتِها، وقديما أفْسَدَتِ الراحة الأحوال، وجَرَّتْ إلى أهلها الأهوال فدعها فليس بأوانها، واكتفِ منْ صحيفة الشَّرِّ بعُنوانها،

وأكثرِ الصَّوْلةَ، واحْذَرْ أنْ تكونَ للمَكْروه عندك جَوْلَة، ولَينُبْ عنْ سوْطِكَ سَيْفُكَ، حتى يُرْهِبَ خيالُكَ وطيْفُك، والله الموفِّقُ للرَّشاد.

فصل ومن أحسن ما كتبوا في المبايعة

فصل ومن أحسن ما كتبوا في المبايعة ما أنشأ أبو عبد الله ابن أبي الخصال رحمه الله: الحمدُ لله الذي رفع ذكر الإسلام وأعلاه، وجعله دينه الذي اختاره واصطفاه، وتكَفَّل الأئمَّةُ هُداه، ليسْتَخْلِفَنَّهم في الأرض وليُمكننَّ لهم دينهم الذي ارتضاه، عهداً منه جلَّ وعلا مسْؤولاً، ووعداً بالإنجازِ موصولاً، وَميراثاً لعباده الصالحين مبْذُولاً. وصلّى الله على منْ أَيَّده بتَنْزِيلِه، وائتَمَنَهُ على تحريمه وتحليله، ودعا بالحكمة والموعظة الحسنة إلى سبيله، محمد نبيَّه المصطفى ورسوله الذي بينَ عنِ الرَّحمن، وأَوْضَحَ معالِمَ الإيمان، وسنَّ بيعة الرِّضوان، وأعْطى صَفْقَاتِ الأيْمان، وعَقَد على لُزُومِ الطَّاعة، وحَذَّرَ منْ مُفارَقة الجماعة، صلى الله عليه، وعلى سائر رُسُله وأنْبيائه، وعلى صَفْوَته وخِيَرته منْ أرْضه

وسمائه. فلن يزالَ الناسُ بخير ما سلكوا سبيله، وأمُّوا دليله، واتَّبَعوا قيله، وتمسكوا بما بلَّغَ إليهم، وكانوا شهداء على الناس، وكان الرُّسول شهيداً عليهم رضي الله عنِ الخلفاء الراشدين الذين قطعوا في الدين الاختلاف، وأوجبوا على أنفسهم الاسْتِخْلاف، ورأوا أنْ يَنْظُروا للمسلمين بعدَ مماتهم، كما نظروا لهم في حياتهم، فصار حقُّ الأئمة معَظَّماً، وعقد الأمَّة منْتَظِماً، وشَمْلُ الإسْلامِ مجموعاً، ودُعاءُ الإمام مسموعاً. وإنَّ الأمير الأجلَّ أبو فلان، أقْصى الله في أمره، وخَلَّدَ على الأنامِ جَمال سيره، لمّا انتظمَ أمره واتَّسَقَ، وتَمَهَّدَ مُلْكه واسْتَوْسَقَ، وقمعَ أهل الشقاء والعِنادِ، وقضى حقَّ الله في العباد، وغَرِقَت كَفُّهُ المبارَكةُ بالأعنَّةِ في الجهاد، وتَعَوَّد عاتِقه في سبيل الله حَمْل النِّجادِ، ووطِئتْ كتائبُهُ المنصورة أقاصي الأغْوارِ والأنْجادِ، اطلع في عواقبِ الأمور، وصدَّقَ نفسه - نفَّسَ الله مَهَلَها - عن المقدور، ولاحظَ قوْلَ القائلة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أرأيْتَ إنْ جئتُ ولمْ أجِدْكَ؟ فَتَلَقَّاها بالتَّصديقِ، وأجابها عنِ الصِّدِّيق، فاهتدى بهُدَاه،

واقتفى أَثره وجرى في مَداه، واحتمل - أيَّد الله أمره - وفَسَحَ طويلاً عُمْرَهُ في صلاح منْ وُكِلَ إلى فضْلِه، وَوُضِعَ على يَدَيْ رَأْفَتِهِ وعَدْلِه، نَصَبَ الارتياء والإرْتيادِ، وتَعَبَ الإصدارِ والإيرادِ، ولمْ يَسْتَبِدَّ دونَ المُشاورة، وهوَ أحقُّ الناس بالاسْتِبْدادِ. وما زال الفَضْلُ يَتَمَيَّزُ، إلى أهله يَتَحَيَّزُ، ونورُ الله بينَ يدي عقده وحله، يُُرْشِدُه إلى منْ رأى الناس دون مَحَلِّه، فقلَّدَ الأمير الأجلَّ أبا فلان، رفعَ الله أَعْلامَهما، وأطال أيّاَمهما، عهدَهُ ونَصَّبَهُ إماماً للناسِ بعْدَهُ. ولمْ يألُ نُصحاً لله ولمنْ اسْتَرعاهُ أمورهم، وَوَلاهُ تَدْبيرُهم، تَخَيُّراً أُسِّسَ على التَّقْوى، وشُدَّ بالعزمِ الأقوى. والله يَجْزيه على سعيه المبرور، وعمله المذْخور، أفْضَلَ ما جزى به إماماً اسْتَخْلَفَهُ في أرْضه، وقامَ بحقِّه وفَرْضِه، وعَدَلَ في بَسْطِه وقَبْضِهِ، وَأَعْمَلَ رايةَ الرِفْقِ فيما يَعُمُّ البِشْرَ، ويَضُمُّ النَّشْرَ. وورد عَقْدُهُ المطاعُ على عامله بفلانة وأعْمالها، أبي فلان بن فلان، وجماعة المسلمين بها، أعزَّهم الله، وحرسها، يتَضَمَّنُ ما انْشَرَحَتْ إليه الصدور، وسَكَنَ إليْه الجَمْهور، وأَمِنَ بِعَقْدِه المَحْذُورُ، وشَمَلَتْ به المَسَرَّة، واسْتَشْرَفَتْ نحْوَهُ المنابِرُ والأسِرَّةُ وأَمَدَّه بالبيعة له، وأخذها على منْ قَبْلَهُ فقامَ أبو فلان بهذا

المُهِمَ الجَسيمِ، والعهد الكريم، قيامَ المُجِدِّ المُشيحِ، المُجْتَهدِ النَّصيح، ودعا كافَّةَ الناسِ إلى هذه البيعة المبارَكَة التي وُصِلَتْ بالتَّقوى أسْبابُها، وفُتِحَتْ إلى الحُسْنى أبْوابُها، فأتوها عِجَالاً، وابْتَدَروها أرْسالاً، وأهلُّوا بالتكبير والتحميد إِهْلالاً، ودخلوا فيها مُسْرِعينَ، وأجابوا دَاعِيهَا مُهْطِعينَ، وشكروا الله تعالى على ما وُفِّقَ لَه أمير المسلمين وناصرُ الدين، منْ جَمْع كلِمَتِهم على منْ هو مُتَقَيِّلٌ رَأْيَهُ الأسْنى، وَتِلْوُهُ في الخلائقِ الحسنى، وسألوه تباركَ وتعالى أنْ يُديمَ في يديْ أمير المسلمين طِيالَها، ويُديم اتِّصالها، ويَمُدَّ بُكَرَها وآصالها، حتى لا يخْلعَ أثْوابَها إلا بعد مهْلٍ، لمْ يَبْلُغْه شأوُ الخلفاء، ولا تناوَلوه بيد الاسْتيفاء، ثُمَّ يصيرُ الأَمرُ إلى وارثِ مجْدِهِ، ووليِّ عهدهِ. والأمة راضية مُقِرَّةٌ، والإمامةُ في نِصابِها مُسْتَقِرَّةٌ، وصُنْعُ الله الجميل يُراوِحها ويُغاديها، ويَقْضي بإعْزازِ أوْلِيائِها، وإذْلالِ أعادِيها. وحين عمَّت المسلمين هذه البُشرى،

وجاءتْهم المذاهبُ بها تَتْرى، أَعْطَوْا صَفْقَةَ أيْمانِهم مُبْتَدِرينَ، واختاروا مَنِ اخْتارَ الله لهمْ وإمامُهم العادل مُسْتَبْصِرينَ، وبايعوا الأمير الأجلَّ، وليَّ عهد المسلمين على السَّمع والطاعة، وبَذْلِ الجُهد والاسْتِطاعَةِ، وعلى أنْ يكونوا لمنْ راده حزْباً، وعلى منْ حاده حرباً، ولا يألوهُ نُصْحاً في القُلِّ والكُثْرِ، والعُسْر واليُسْر والرِّضا والسَّخَط، والقربِ والشحط، والمَكْرَهِ والمَنْشَطِ، وفي كل منْحى منْ أنْحائه ومتوجَّه. وجعلوا الله على أَنْفُسِهم لذلك كفيلاً وأشْهدوا على الوفاء به. (وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا) (وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا) وكتب المَلَأُ منْ بني فلان، ومنْ تلاهمْ أسماءهم في هذا الكتاب، ليكونَ باقياً في الأعْقابِ وثابِتاً مع الأحْقابِ. ودانوا الله تعالى بما أمضوه وعَقَدوه، وارْتَضَوْه واعْتَقَدوه، والْتَزَموا الوفاء به وشَدَّدُوه، ورضى الله تعالى يَهديهم، وَيَدُهُ جَلَّ وتعالى فوقَ أيْديهم وذلك في شهر كذا من سنة كذا. قول أبي عبد الله رحمه الله: (ولاحظ قول القائلة لرسول الله صلى الله عليه وسلم) حديث مأثور، وخبر مشهور. روى الشافعي عن إبرهيم بن سعد بن إبراهيم ابن عبد الرحمن بن عوف

عن أبيه محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه، قال: أتت امرأة إلى رسول الله صلى عليه وسلم فسألته عن شيء فأمرها أنْ ترجع إليه. فقالتيا رسول الله أرأيْتَ إنْ جِئْتُ ولمْ أجِدْكَ؟ تعنى الموت. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنْ لم تجِديني فإيتي أبا بكر. قالالشافعي: في هذا الحديث دليلٌ على أنّ الخليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر رضي الله عنه. ومن إنْشَاءِ الفقيه الكاتب الماهر شيخنا أبي عمرو بن محمد عبد الله بن غياث ما كتب به عن أهل (شريش) في بيعة أمير المؤمنين أَبِي يوسف المنصور رحمة الله عليهم: الحمد لله الذي يَسَّرَ أَسْبابَ الخير وسَهَّلها، وأَدْنى قطافَ الأماني وذلَّلَها، وأَهَّلَ للخلافة خلَفاءَ كَمَالَهم أَهَّلها، وأَسَّسَ قواعِدها على قواعد البِرِّ والتقوى وأصَّلَها، وجَعَلَ الفُتوحات خُدَماءها وخَوَلَها (مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا

مُمْسِكَ لَهَا) والصلاة على سيدنا محمد المُبْتَعِثِ بشيراً ونذيراً إلى كافة الأمم. والكُفر قد أغواها وخَذَلَها، وحَمَّلها من الطُّغْيان والعصيان على ما حَمَّلها، فبين سَنَنَ السُّنن والفرائض وأوْضح سُبُلها، وصَدَعَ بأمر الله حتى شَفى أدْواءها، وحَسَمَ عِلَلَها، والرِّضا عنِ الإمام المعصوم، المَهْدِيِّ المَعْلُوم، القَائِم بأمر الله، آخِر الأَعْصار، وقد بشَّر به أوَّلها، الواضحِ العلامات والدَّلالةِ، عَلِمَها منْ عَلمِها، وجَهلِها من جَهَلِها. والدُّعاء لصاحبه وخليفته سيدنا ومولانا أمير المؤمنين الذي تَمَّمَ تِلكَ البِداءات وأكملها، وسقى نَفَسَ الخلافَة منْ ينابيع العدل نميرها وسلسلها. ولسَيِّدنا ومولانا الخليفة المُرتضى أمير المؤمنين ابن أمير المؤمنين، المُتَكَفِّل لطائفة التَّوحيد بالنَّصر الذي اكتفلها وكَفَلها، ومدَّ لها ظلالَ النَّجاة بجميع الأرجاء والجهات ورفع ظُلَلَها، ولابنه الأمير الأجل المنصور الناصر لدين الله أبي يوسف ابن الخليفة المرتضى مُبْلِِغِ الخلافةِ أمَلَهَا، ومُسَوِّغِها جَذَلَها، المُعَدِّ لطائفة الزَّيْغ من البيض والسُّمر قِرَاها ونُزُلها، المُجَلِّي غَيَاهبَها، والكفر قد أسْبَلها، وسَدَ لَها بفتوحات تَشْتَمِلُ على أقاليم لم تُصخْ للدعوة الإمامية أَسْمَاعَها، فسبق سَيْفُها عذَلَها، وإنَّ الله تعالى لما بعثَ محمداً صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذْنِه وسراجاً منيراً، دعا إلى الهدى، وأوضح طرق الشريعةِ منْفسحة المدى، ووعد وأوْعدَ، وألانَ وشَدَّدَ، ويسَّرَ وما عَسَّرَ، وبَشَّر وما نَفَّر، فهدى به منْ هدى إلى الصِّراط المُسْتَقيم، والمِنْهاجِ القويمِ، ثُمَّ بَشَّرَ بِذَخيرة الوجود، وسِرِّ النبإ المقصود، الإمام المعصومِ، المهديِّ المَعْلومِ، فلاحت بشائرُهُ بالمغرب الأقصى، وانتشرت أنوار هدايته فيما دنا منَ الأقاليم وقصا، متميزاً بالعلامات، مبرزاً بالدلالات، فَأَحْيَا السُّنن والفرائضَ بعد دروسها، وبسطَ وجوهَ الأماني بعد عُبُوسِها، على

حين انقراضِ الحقائقِ، وجَهْل الخلائقِ، فَقَطَعَ أسباب تلْك العلائق، وبسط العَدْلَ في المغارب والمشارق، ثم أكمل الله تلك البداية، وأبدأ الهداية بخليفته أميرِ المؤمنين المشرقِ الجبين، عن أنوار الفتح المبين، ثم وَلَّى أمْرَهُ العزيز احتياطاً للدين ابنَه الخليفة الأهدَى أمير المؤمنين ابن أمير المؤمنين الذي يأوِي العدلُ منه إلى (رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ)، المأثور الآثار، الواضح الآيات وضوح النهار. ثم انعقدت البيعةُ عنْ إِجْماعٍ من الجماعةِ الطَّاهرَة، والطائفةِ الظاهرةِ، عِلْماً منهم بمَخائِلِ الاعتِناءِ الإلهيِّ ودلالاته، إذ الخلفاء ورثَةُ الأَنْبِيَاءِ، و (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ) ونظراً لِدينِ الله وعِصْمَةً لعبيده، وأخْذاً بعقودِه - كما أمر - وعهودِه، للأمير الأجل المنصور الناصر لدين الله أبو يوسف بن الخليفة أمير المؤمنين بن أمير المؤمنين، أيَّد الله أمرهم، وأعزَّ نصْرهم، فاستقرَّ الأمر في قراره، وانتهى إلى قُطْبِ مدارِه، فاقْتدى بهم سَلَفُ الموحِّدين، وكافةُ المسلمين وبايعوه بيعةَ الرِّضْوان، وأعطوه صَفْقَةَ الأيْمَانِ ومَوَاثيقَ الأَيْمَان، فشدَّتْ أركان الإِيمَانِ، ونفخَتِ الأرْواحُ في الأجسام، ونادى مُنادي الحقِّ في الأنام، هي بيعة الرِّضوانِ يُشرعُ وسَطَها بابُ السلامةِ، فادخلوها بسلام، فتلقى عبيدُه كافةُ أهل (شريش) ذلك المنادي أفواجاً، وسلكوا إلى الطاعة منهاجاً، وبادرُوا إلى الفَرْض الذي إليه البِدارُ يجِبُ، بقُلوبِ تكاد شوقاً إلى ذكره - أيَّده الله - تَجِب، وبايعوه بيعة خالصة، أدّاها صفاءُ الاعتقادِ إلى الأَلسنة، وخطَّ الأيدي منْ حاضرٍ وبادٍ بإخلاصٍ من الضمائِرِ، في السرائر والظواهر، على الأمْنِ والأمانة، والعدل والسَّمْع والطاعَةِ، في المَنْشَطِ والمَكَْْرَهِ، والعُسر واليُسر، اقتداءً ببيعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم الرِّضوانية، وأخْذاً بالمواثيق والعُهُودِ الأَيْمَانِيَة،

وعلى ما بويع عليه إمامُنا المهدي رضي اللَّهُ عنه وخليفَتاه بعده، حسَبَ الوعْدِ السَّابِقِ له من الله، (وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ). تلوح البركاتُ في وجوه مساعيهمْ، وتَنْثالُ الخيراتُ عليهمْ بخلوص معتقدهم لها وتَصافيهمْ، وكلَّما مدُّوا أيْدِيَهُمْ للمُبَايَعة تلا عليهم لسانُ الإسلام (يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) وأَقْبَلوا على الطاعة، ومُوَافقةِ الجماعةِ، ورَسَموا الخُطُوطَ، وأَشْهدوا الله على ضمائرهم لِعِلْمِه بها، (وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا). (فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا). وذلك في مستهل جمادى الآخرة سنة ثمانين وخمس مائة. ومنْ إنْشاء بعض أهل العصر، وهو بلَدِيُّنا الفقيه الحافظ أبو الحسن علي بن إبراهيم بن الفخار: الحمد لله مُفِيض النِّعَمِ المتواتِرة، ومُسْبِغ المنن المتَكاثرة، ومرسل الآيات المُتَظاهرة، الذي وقفت الأوهامُ عن حمَى عظمته قاصرةً، وبقيت الأفهامُ دون جلالِه حائرة صاغرةً، وصلواتُه وبَركاته على محمد نبيه، وأمين وحْيه، المؤيَّدِ بالمعجزاتِ القاهرةِ، والبراهين البَاهرة، ورضوانُه عن الخلفاء الراشدين، الهادين المهتدين، الذين أرسلوا من الفضل سماء ماطِرة، فأحيتْ من العدل أرْضاً هامدة ورسوماً داثِرَة، ونَسْتَوْهِبُ الدُّعاء لسيدنا الخليفة الإمام المبارك

الأَوْحَدِ، الميمون الأسعد أهل المقامات الطاهرة، والكرامات الظاهرة، بالسُّنة ناطقة، ونياتٍ صادقة، بأن يؤتيه اللَّهُ خيرَ الدنيا والآخرة، ويُسْبِغ عليه نِعمهُ الباطنة والظاهرة، ويقْمَع به الطغاةَ والجبابِرة، والحمد لله الذي لم يُخْل بلاده، ولا أهمل عباده، من خليفة تجْتَمِعُ عليه الأمة، وتدوم به النِّعْمَةُ، يَحْفَظُ دينه القويم، وينهجُ بأهله صراطه المستقيم، ويَعصِمهم من تشعُّبِ الأهواء ويَمْنَعَهمْ من تَغَلُّبِ الأعداء، ويَحْتَقِنُ في أُهَبِها متحرم الدماء، ويقطع دونهم أيدي الاعتداء، ويقيم الشريعة على الطريقة الواضحة، ويُجري حدودها وأحكامها على سبيل أعلامها اللائحة. وأوجَبَ على الأمة طاعته فَرْضاً حَتْماً، وأمرهم بالذَّب عنه والقيام دونه أمراً حزماً، وجَعَلَها مقرونةً بطاعته وطاعة رسوله. فقال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ). عِصَاماً ربط به عِبَاده إلى سلوك سَبيلِه، وبَيَّنَ الرُّسُولُ عليه السلام أنَّ تقلد بيعته والقيام بدعوته أوْجَبَ خصال الملة الحَنِيفَة. فقال صلى الله عليه وسلم: "منْ ماتَ وليس في عُنقِهِ بيعة ماتَ ميتَةً جَاهِلية". قال أبو إسحاق: ذهب أبو الحسن في الآية التي استشهد بها، وهي قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ). إلى أنَّ أولي الأمر: الأمراء، وهو مذهب أبي هريرة وابن عباس وجماعة من الصحابة، وأولي العلم، ومذهب جرير بن عبد الله ومجاهد وغيرهما، أن أولي العِلْم هم العلماء،

وقيل أولو العلم بالقرآن وطاعة الله تعالى اتِّبَاع أوامره وامتثالها، والانتهاء عمَّا نَهَى عنه، وطاعة رسوله واتباع سنته رجع والحمد لله الذي أقَرَّها في نِصَابها الشريف، وقَدَّرها في بيتها المنيف، وجَعَلَها مُطَّرِدةٌ في أهلها، اطِّرادَ الكُعُوبِ، جارية بين باسطي فَضْلِها، وناشِري أهْلِها، على أُسلوب الذين عَرَفَتْهم وعَرَفُوها، وأَلِفَتْهم وألِفُوها، وكانوا أَحَقَّ بها وأهْلَها، إذْ صلُحَتْ بهم كما يَصْلُحونَ بها وتِلْكَ نِعْمةٌ لا يُقامُ بِشُكْرها، ولا يُحاطُ بقدْرِها. حَفِظَ بها حوزة الإسلام، وعَصَمَ بِبَرَكَتِهَا أُمَّةَ محمد نبيه عليه السلام، حين وقع الإجماعُ والإصفاقُ، وحَصَلَ الارْتباطُ والاتفاق، على مبايَعة من شهدت له خصائص الصفات، وقامت له حقائق السِّمات، بأنَّه مُسْتَحِقُّ الخلافة وَمُسْتَوْجِبُها، ونَجْمُها الثَّاقِبُ وكَوْكَبُها، ومستودعُ آياتها الصَّادقة، وحامِلُ رايتها الخَافِقَة، الذي يَمْلؤُها عَدْلاً، ويَسَعُها بفضله فَضْلاً، ويحْمي ذِمارَها، ويُؤَمِّنُ أكْنافَها وأقْطارها، ويُفْني أعْداءها، ويَحْفَظ أرْجاءها. الأمير الأجَلُّ الأسْعد أبو فلان المَخْصوصُ بالنَّصْرِ والتَّأْييدِ، المقْرونُ الآراء بالنُّجْحِ والتَّسْديد، جَعَلَ الله خِلافَته محْفُوفَةً بطول البقاء وامتداد العمر، مقْرونَة باتِّصال السَّعْدِ واسْتِيلاء الأَمْرِ، ولما سمعَ عبيدُها اللائذُونَ بأمْنِ حَرَمِها، المُعْتَصِمونَ بواقي عِصَمِها، المُسْنِدونَ لعَميمِ فَضْلها وامْتِنانها، المُتَعرِّفون عظيمَ عَدْلها وإحْسَانها، أهلُ فلانة منْ عَقْدِ هذه البيعة السعيدة، وارتباط عُقودها الحميدة، ووافى داعيها، فإنَّ بابها قد فُتِحَ لداخِليه بسلام، ولواءَها المَنْصورقد رُفِعَ لِمُبْتَغيه

الكرامِ، أجابوه مُسْرعين بألْسِنَةٍ ناطقة، ونِيَّاتٍ صادقة، وصدور مُنْشَرِحة، وقلوبٍ مُنْفَسِحَةٍ، مُبادرينَ الانْتِظَامَ في سلكِ الطَّاعة، مُسَارعينَ لاقْتِفَاءِ سَنَنِ الطَّائفَةِ المَنْصورة والجماعة، وأَعْطوا صَفْقَةَ أَيْديهم، ويَدُ الله فَوْقَها، مُتَطَوِّقينَ على ما يُرْضي الله تباركَ وتعالى طَوْقَها، والْتَزَموها بيعَةَ رِضْوانٍ، وعقيدة إِيمَانٍ، واعْتَقَدوا بها السمع والطاعة على كلِّ حال وفي كل زمانٍ، وعَلِموا أنَّ الله سبحانه قدْ صَنَعَ بها صُنْعاً كريماً، والْتَزَموا الوفاء بها. (وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا). وكَتَبَ العبيدُ المُسْتَبْشِرُون أَسْماءهم بِسَوادِ عيونِهم، في صفحات قلوبهم ويقينهم، شاهدين على أَنْفُسِهم بما الْتَزَموه منْ هذه البيعة السعيدة، وارْتَبَطُوا لهُ منَ العُهودِ الوَكيدَة، (وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا). وذَخَروها إلى (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا). وذلك في شهر كذا من سنة كذا. ثمَّ خَتَمَ الرُّقْعَةَ بهذا الدُّعاء: اللهمَّ اجْعلها خلافة عُقِدَتْ على التَّقوى معَاقِدُها، وعَمرَتْ بالوفاء معاهدها، واجْمَع القُلُوبَ على حُبِّ خَليفَتِكَ، على عبادِكَ وسُلْطانِكَ في بلادِكَ، وأَلِّفْ عليه كلمة الإسلام، وانْصُرْ به دينَ نبيِّكَ محمد عليه السلام، وآوِ العبادَ منه إلى رَبْوَةٍ ذاتِ قرارٍ وَمعينٍ، واجْعلها كلمةًَ باقية في عَقِبِه إلى يومِ الدينِ. اللهم وَفِّقْهُ للخيرِ وأعِنْهُ عليهِ، وأَصْلِحِ الرَّعيَّة به وعلى يديه، وأطل اللهمَّ عُمْره، وأَدِم تَأْييده ونَصْرَهُ، وأبْقِه خليفةً سعيداً مُجاهداً في سبيلِكَ، مُتَّبِعاً سُنَّةَ رَسولِكَ، وأَيِّدْه بجُنْدِكَ القوي، ونَصْرِكَ العلي، وأَعْل كَعْبَه، وانْصُرْ حِزْبَه، واهلكْ منْ حَادَهُ وأَعِدَّ حَرْبَهُ، (إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)، وأَنْتَ (نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ).

ومن إنْشاء الكاتب أبي بكر بن أَخْيَل من أهل عصرنا: الحمد لله الذي جعل الخِلافة نظاماً لا يَنحل، ولزاما لا يَخْتَلُّ، يُحْفظُ بها الإسْلام، ويَتَّصِلُ ما سَنَّهُ النبيُّ عليْهِ السلام، فهي، كمال الدين والدُّنيا، وجمالُ كلِمَة الله العُلْيا، تَحْقِنُ الدِّماءَ وتَحُوطُ الأموالَ، وتُقيمُ منْ أَوَدِ الحَقِ ما مالَ، وتَمْحو رسمَ الحرامِ وتُثَبِّثُ الحلالَ، وتَأْخُذُ للضعيف منَ القويِّ، وتُجْري الكافَّةَ على المَنْهَجِ الواضِحِ السَّوِيِّ، بالمبادَرة إلى انْعقادها وارْتِباطِها، والمُحافَظَة على قواعدها الموصلة وأَشْراطها، أوْكَدَ ما تتقدَّمُ إليه الأمْر، وتُسْتنزلُ به الرَّحْمَةُ

السابِغَةُ والنِّعْمَة، فهي كمالُ الكمالِ وتمامُ التَّمامِ، الجُنَّةُ الواقِيَةُ والعِصْمَةُ الباقية لجميعِ الأنامِ، والحمد لله الذي جَعَلَها في حُماة أمْره العظيم، ووُلاةِ حزْبِه الكريم على التَّوالي والدَّوام، والصلاة ُعلى محمد نبيه هادي الأمة بعد ضلالتها، ومُنْقِذِها من حيرةِ جهالَتِها، التي أَمْسَكَ بِحَجَرِها عنِ النَّار وأَبانَ لها واضِحَ المَنارِ، وعلى آلِه وأَصْحابِه المهاجرين والأنْصار، الذين سلكوا طريقتَه، وعَرَفوا حقيقَتَه، وعلى خُلَفائه الذين حاطوا أُمَّتَه، وتَمَّموا نِعْمَتَه، والرِّضا عن الإمام المعصوم، المهديِّ المَعْلوم، مُحيي رَسْمِهِ بعد الدُّثور، ومُعيدِ بَدْأَتِه في إقامة الحقِّ وصلاح الجَمْهور، قام رضي الله عنه، والجَوْرُ قد ظهرَ، وحِزْبُ الباطِلِ قد مَهَرَ، والإسلام قد دَرَسَ رسمه، ولم يبقَ منه إلا اسْمُه، وكلُّ ذي رأيٍ مُعْجَب برَأْيه، منْقادٌ بأَعِنَّة هواهُ في ذميمِ سَعْيِه، فَشَحَذَ بصائرَ الأمة، وأَنْقَذها منْ ضلالَة تِلْكَ الغُمَّة، وأَطْلَعَ عليها أَنْوارَ الهداية والعِصْمَة، حتى عاد الإسلامُ جديداً غَضّاً، وعَرَّفَها واجِباته نافلة نافلة، وفَرْضاً فرضاًً، فلما اسْتَنار المسلكُ والمنهجُ، وفُتحَ - لمنْ قدِّرَتْ لَهُ السَّعادة - البابُ الذي يلِجُ، لحقَ بالرَّفيق الأَعْلى، وجَلَّ مَقامُهُ الكريم وعلا، وخَلَعَ أشعَّة أنْواره، وهدايَةَ آثاره، على صاحبه المُرْتَضَى، وسيْفه المنتضى، سيدنا ومولانا الخليفة أمير المومنين، فسَدَّ ذلكَ المكان، وكان للأُمَّةِ كما كانَ، يَتْعَبُ لِنَعيمِها، ويَدْأَبُ في إصْلاح فاسِدِها وحِفظِ قويمها، وسَلكَ بها طريقة صاحبه الإمامِ المهدي في الرِّفْقِ بالضعيف منها والقوي، كَفَلَها كذلك مدَّة عُمْرِه، مُتَوَخِّياً لها النَّصيحة في نهيه وأمره، ثمَّ تقَلَّدَ الأمرَ بعد ذلك سالكاً تِلْكَ المسالِك الخليفة الإمامُ أمير المؤمنين أبو يعقوب ابن سيدنا ومولانا أمير المومنين، أعزَّ الله بهم الدين فاقتفى آثارَهم الواضحَة، ومَقاصِدَهم الصالحة، لا يَغِبُّ الأمة إحسانُهُ وإنْعامه، ولا يَعْدِلُ بهم عنْ سَنَنِ الخُلَفاء آبائه الراشدينَ إِحْكَامُهُ، يحفظُهم ليلاً ونهاراً،

ويَلْحَظُهم بعين الرِّفق إسْراراً وجهاراً، ثمَّ نَشَأَ الشابُّ التَّائِبُ، الدَّائِمُ على طاعَة ربه الدائِبُ، الأمير الأجَلّ المنصور الناصر لدين الله عز وجل أبو يوسف ابن سيدنا ومولانا أمير المؤمنين، وصلَ الله لهم عادَةَ النَّصر والتَّمكينِ، فظهر لأبيه منْ مخائله الكريمة، وشَمَائِلِه الجميلة الوسيمة وكرمِ النَّجيرَة والشِّيمَة، ماأَدَّاهُ إلى أن اسْتكفاه، فتَعَرَّفَ اليُمْن والأمان في كل ما أَتاهُ، ولمْ تَزْلْ عُيُونُ الموحدينَ. - أيَّدَهم الله - إليه ممتدَّة، ونُفُوسُهم لتَعْظيمِه وتَقْديمه مُعَدَّةٌ، لما شاهدوه منْ هدْيِه وإخْباتِهِ، وتَعَرَّفوه منه في جميع حالاته وأوقاته، ومواضع مشاهده وخَلَواته. والسَّعْدُ يَعِدُهم بإنْجازِ ذلك الوَعْدِ، وإحْرازِ الحظِّ الأسْنى منه والعيش الرَّغْدِ. فلَمَّا اسْتَحْكَمَتِ السعادة، تَحَرَّكَتْ منهم الرَّغْبَةُ الوكيدَةُ والإرادةُ، فاجْتَمَعَ الملأُ الأَعْلى منْ أهلِ الحَضْرَةِ المُعَظَّمَةِ الذينَ يُقْتَدى بآثارِهم، ويُهْتَدى بمنارِهم، على مبايَعَته بيْعَة إيمانِ وأمان، وعَدْلٍ وإحسانٍ، فأعطوْا بذلك صَفْقَة الأيْمَانِ والأيْمُنِ، واثِقين بما لَهم بها منَ الفَضْلِ والإِحْسانِ، والخَيْراتِ الحسانِ، وإنَّها بيْعَةٌ شابَهَتْ بيعة الرِّضْوان، نَفَثَتْ في الأَمْواتِ رُوحَ الحَيَاةِ، وجَمَعَت الأهواء المَفْطورَة على الاخْتلاف والشَّتاتِ، وعَرَفَتْ أنَّ لله تعالى بهذه الأُمّةِ أَكْبَر العِناياتِ، ولمَّا نفذَ الأمرُ لعبيدِهم أهل فلانة بادَرَ الجميعُ منهم إلى عَقْدِ البيعَةِ الكريمة، وشكر النعمة الجسيمة، واثقين بما لَهم فيها منَ الصَّلاحِ الشَّامل للجمهور المُتَعَرَّفِ به كافَّة الأمور، المُشَرِّفِ لأعْقابِهم على ومرِّ الدُّهور، حظٌّ ساقهُ إلَيْهمْ وافِدُ السعادة، فقد عَوَّدَهم الله بطاعَتِهم التي هي طاعَةُ الرحمن ومادَّةُ الأمانِ أَكْرَم العادَةِ، فأعْطى الجميعُ منَّا صَفْقَةَ أَيْمانِهم، حافِظينَ إيمَانَهِمْ وأَمَانَهُم، وبايَعْنا بِنُفوسِ مُنْشَرِحَةٍ، وآمالٍ مُنْفَسِحَةٍ، وعُهودٍ مُؤَكِّدَة، والأيْمان مُشَدَّدَة، والآرَاءُ مُسَدَّدَة، سيدنا الخليفة الأمير الأجلَّ المنصور أبا

يوسف ابن سيدنا ومولانا أمير المؤمنين، أَعزَّ الله بهم الدين على ما بويِعَ به الإمامُ المعْصومُ المهدي المعْلومُ رضي الله عنه، والخليفتان من بعده، وعلى السمع والطاعة، بيعة مُجَددة مُؤكدة، في السِّر والجهر، والعُسْرِ واليُسْرِ، والمُكْسَلِ والمُنْشطِ. وأَكَّدْنا في ذلكَ عهود المُغْتَبِطِ المرْتَبِطِ، وأَوْقَفْنا بِمَحْضَرِ كافَّةِ الناسِ بذلكَ شَهَادة الأشْياخِ والأعْيانِ واعْتَقَدناه أَشْرَفَ ما ضُمَّتْ عليه اليدان. فالحمد لله الذي مَنَّ علينا بهذا المقام الشريف، والعَهْدِ الكريمِ المُنيفِ، الذي اهْتَزَّتْ لَهُ نُفوسُ الكافَّة إعْجاباً وارْتِياحاً، واتَّخَذوا التَّحدّثَ بِه والشُّكْرَ له هَجِيرَاهُم مساءً وصباحاً، وتعَرفوا منْ بَرَكاتِه ومُتَوَجَّهاتِه يُمْناً شامِلاً ونَجاحاً، وإنَّها لَنِعْمَةٌ جَلَّتْ عنِ الشُّكرِ والذِّكْرِ، وبَهرتْ بآياتِها الباهِرَة خواطِرَ الفِكْرِ، والله سُبحانه المسْؤول أنْ يُنْهِضَ عَبيدَه بالْتزامِ الطاعة، جَهْدَ الاسْتِطاعةِ، وَبِشُكْرِ سيِّدِنا الخليفَةِ الأمير الأجل المنصور أبي يوسف ابن سيدنا ومولانا أمير المؤْمِنين على اعتنائهم بالأمَّة، وإفاضَتِهم عليها عوارِفَ النِّعْمَةِ والرَّحْمَة، ولْيَنْصُرْ أَعْلامهُمْ غرباً وشَرْقاً، ويَجْعَلَ حامِدَ أمرهم، وجاحد خَيْرِهمْ، الأخَسَّ الأشْقَى بِمَنِّه ويُمْنِهِ. وكتَبَ العبيدُ شَهادَتَهم بما فيه عنهم وعنْ كافَّتِهمْ، في مستهل جمادى الأخرى سنة ثمانين وخمسمائة. قوله: (واتخذوا التحدث به والشكر له هِجِّيراهم)؛ أي كلامهم متردداً بينهم المرة بعد المرة. وفي حديث عمر أنه كان يطوف بالبيت، وهو يقول: رَبَّنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقِنا عَذابَ النَّار. مالَهُ هِجِّيرَى غيره. والهِجِّيرَى أيضا، إسم مصدر، ولم يأت صفة، قاله أبو علي. يقال ما زال

ذلك هِجِّيراه: أي عادته قال ذو الرمة: رمى فأخْطأ والأقدار غالبةٌ ... فانْصَعْنَ والوَيلُ هِجِّيَّراه والخَرَبُ وللأديب الكامل أبي عبد الله الرصافي في مدح السيد المكرم أبي سعيد ابن أمير المؤمنين رحمة الله عليهم قصيد فريد، اشتملت على أنواع البلاغة أبياتُه، وحسن إثباته، وهو: من عانَدَ الحقَّ لم يعْضُدْه بُرْهانُ ... وللهدَى حجةٌ تعلو وسُلْطانُ ما يُظهر اللهُ من آياته فعَلى ... أتَمِّ حالٍ وصُنْعُ الله إتْقانُ منْ لم يرَ الشَّمْسَ لَمْ يحْصُلْ لناظِرِهِ ... بين النَّهار وبين الليل فُرْقانُ الْحَمْدُ لله حمد العارفينَ به ... قد نوَّر القَلْبَ إسلامٌ وإيمانُ عقْلٌ وثابِتُ حِسٍّ يقْضيانِ معاً ... للأمر أنَّ سراجَ الأمْرِ عُثْمانُ السيدُ المتعالي كُنْهُ سُؤدَدِهِ ... عمَّا تُحاولُ أَلْبابٌ وأَذْهانُ

مَنْ زَارَ حضرته العَلْيا رأى عجباً ... الملك في الأرض والإيوان كيوانُ كنا إلى الملإ العلويِّ نَنْسُبُهُ ... لَوْ ناسَبَ الملأَ العُلْوي إنْسانُ كأنّما يتعاطى فَصْل مَنْطِقِه ... عن التكلم لُقمانٌ وسَحبانُ يُغْضي عن الذنب عفواً وهو مقتدرٌ ... ويترُكُ البطشَ حلماً وهو غَضْبانُ وفطنة من وراء الغيب صادقة ... منها على فضلها في الحلم عنوان مزيَّةٌ ما أراها قبله حصلت ... لواحد من ملوكِ الدَّهر مذْ كانوا أستغفرُ اللهَ إلا قصَّةً سلَفَتَْ ... قد كان فُهِّمَها يوماً سُلَيّمانُ وما جرى ذكرُه في مُضْمرٍ وفمٍ ... إلا تعطر إسْرارٌ وإِعْلانُ يُريكَ باسِمَ نَوْرِ منْ أَسِرَّتِه ... لكنه من نمير البِشْر رَيَّانُ لوْ كانَ للبدْرِ عنْدَ التمِّ مَبْسَمُهُ ... لمْ ُيُدْرك البدر بعد التَّمِّ نُقْصانُ مرأى عليه اجتماع للنفوس كما ... تَشَبَّثَتْ بلَذيذِ النَّوْمِ أجْفانُ للعَيْنِ والقلبِ في إقبالِه أمَلٌ ... كأنَّهُ للشبابِ الغضِّ رَيْعانُ مبارَكٌ لم يَزل يُرْضِي النَّدى بِيَدٍ ... لها على هبة الآلاَفِ إدْ مانُ يا جيشهُ لا تدَعْ منْ جودِ راحَته ... أهمُّ وَفْرِ الفتى خَيْلٌ وشُجْعانُ المنتقي الخيلَ أفذاذاً مكرمةً ... قد حُسِّنَتْ خِلَقٌ منها وألْوانُ والمصطفِي الجند آساداً محرَّبة ... قنيصُها في الوغى رَجْلٌ وفُرْسانُ

منْ كلِّ أبيضَ مثْل النَّصْل مُنْتَهِض ... بالجيش إنْ عزَّ ديوانٌ ومَيْدانُ يغشى الكريهة منها باسلٌ بطلٌ ... على الكتيبة مقدامٌ فَطَعَّانُ سارٍ منَ النَّقْعِ في ظلماء فاِحمَةٍ ... والشهبُ في أُفُقِ المُرَّان خرصانُ ومعتد ومن الخطيِ في يده ... عصاً تَلَقَّفَ منها الجيشَ ثُعْبانُ لا يخدُمُ الأمر فيما كان من أرب ... الاهي ملء عين المجد يقظانُ ممن له حدُّ سيفٍ أوْ شبا قلمٍ ... شرارُهُ في الوغى والفهم نيرانُ يسَلُّ مِقْوَلَهُ إنْ سامَ مُنْصلُهُ ... وللخِطابِ كما للحربِ أوْطانُ قدْ يَسْكُتُ السيفُ والأقلامُ ناطِقَةٌ ... والسيفُ في لُغَة الأقلامِ لحَّانُ يا أيها السَّيدُ المنهلُّ قائلُه ... مُذْ كان والعارضُ الهتَّانُ هتَّانُ الأرض للقطر ما لم تهم عاطشةٌ ... والنَّجمُ في الأفْقِ ما لم تسْرِ حَيْرانُ

ليَهْنَإِ اليومَ أهْلُ الأرض إنَّهُمُ ... بالأمن في ظلك المممدود سُكانُ عدلا ملأتَ به الدُّنيا فأنْت بها ... بين العباد وبين الله ميزانُ بني الخليفة والمجد الذي سبقتْ ... به كرامُ أروماتٍ وأزْمانُ من قيس عيلانَ أقمارُ العلاء وما ... أدْراكَ يا مَجدُ ما قيسٌ وعَيلانُ أبياتُ مَعْلُوةٌ في كلِّها لكمُ ... بأسٌ كريمٌ على التَّقوى وبُنْيانٌ فلو لحقتُمْ زمانَ الوحي نُزِّلَ في ... تلكَ الصفاتِ مكان الشعر قرآنُ أثْبَتُّمُ الملك في خَضْراءَ باسِقةٍ ... حتى خمائلها عدل وإحسانُ ليْت الجياد سَرَتْ عني مبلِّغَةً ... بُشْرى يُسَرُّ بها أهلٌ وجيرانُ إنِّي أنَخْتُ رِكابي منْ بلادكم ... بحيثُ تنعمُ أرواحٌ وأبدانُ مُخَيَّماتٌ من الجوزاء عيشتها ... فيما اشتهى رائدٌ واختار لَهْفانُ الماءُ صَدَّاءُ والسلطان سيدنا ... أبو سعيد ونَبتُ الأرض سَعْدانُ تلك الشمائل إن لم تَسْرِ في بدنٍ ... رُوحاً فهنَّ له رَوْحٌ ورَيْحانُ وإنْ يكنْ لفْظها راحاً وحاش لها ... فقد ثَنَتْني حتى قيل نشوانُ

يا كوكب الدين والدنيا وإن طُمِسَتْ ... مَمَا لِكٌ بِكَ في الدنيا وأدْيانُ هام الورى بك حتى ما يرى أحدٌ ... إلاَّلهُ بِكَ شُغْلٌ أوْ لهُ شانُ فكلُّ عينٍ عدتْ مرآكَ عابرةٌ ... وكلُّ قلبٍ تسلّى عنك خَوَّان شَغَفَتْ غرناطةٌ حباً ومنك لها ... بالحلِّ وصلٌ وبالتَّرحال هجرانُ مولايَ ماذا عليها مُذْ حَلَلْتَ بها ... منْ أنْ يقار بها ناسٌ وبُلْدانٌ إذا تذكرتَ أوطاناً سكنْتَ بها ... فلا يكُنْ منك للْأضْلاعِ نسيانُ في كُلِّ ناحيةٍ شوقٌ وأََعْوزهَا ... منْ ذا الذي يعْتَريه عنك سُلوانُ فإنّما أنت زوَّارٌ لِتَشْفيَهَا ... منْ بعْدِما شَفَّها وَجْدٌ وتَحْنانُ والكلُّ غرناطةٌ إنْ تُمْس شيقةً ... إليك قرطبةٌ لم يسل جيَّانُ دُمْ لليالي وللأيام ما اخْتلَفَتْ ... تُزْهى بِمَنْظرك الباهي وتَزْدانُ وفي جنودك من عدو ذي شيع ... في البيض بيضٌ وفي السودان سودانُ ومن هنا سُورٌ للفتح طائلةٌ ... فيها إذا تُليَتْ ذكرى وتبيانُ

منْ لم يُصِخْ نحوها والسيفُ مُلْتَحِفٌ ... فسوف يقرؤها والسيفُ عُرْيانُ موتُ العدا بالظُّبا دَيْنٌ وإنْ مَطَلَتْ ... به سُيُوفُكُ فالأيامُ ضُمَّانُ فكُنْ منَ الظَّفَرِ الأعْلى على ثقة ... منك الظُّبا ومن الأعْناقِ إذْعانُ لا زال كلُّ عدوٍّ في مقاتله ... دمٌ إلى سيفِكَ الرَّيَّان ظمآنُ قال أبو إسحاق: أثْبتُّ هذه القصيدة الفريدة التي أنْزل فيها القوافي من أعلى معاقلها، وأصاب أغراض المعاني في شواكلها، أطلعها في سماء البيان غُرة زاهرة، وأظهرها للعيانِ آية باهرة. أرَقُّ من فرند الحسام، وأَعْذَبُ من المُدام ممزوجة بماء الغَمام. وشَّحْتُ هذا البابَ بأزهارها، وحَلَّيتُ جيدَه بِدُررها وجواهرها. وأرْجع إلى إثبات مَنْثور كالزهر الغضِّ، لأعْطِفَ أنواعَ البيان بعضها على بعض.

فصل ومن أحسن ما كتبوا في مخاطبة الأمراء

فصل ومن أحسن ما كتبوا في مخاطبة الأمراء ما كتبه أبو عبد الله بن أبي الخصال إلى أمير المسلمين وناصر الدين رحمة الله عليه: أطال الله بقاء أمير المسلمين، وناصر الدين، وهَدْيُهُ هدْي الأئمة المُتَّقينَ، وتَجاوَزَهُ تجاوُزَ البرَرَةِ الأكْرَمينَ (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ). ولا زال على آثارهم مقتدياً، ولمآثرهم مُحْيِياً، وعلى سَنَنِهم في الإيراد والإصدار مُحْتَذِياً. كتبْناه عن اعتراف بإحسانه، والتحاف بأمانه، واعْتِصامٍ بحَبْل طاعَته وسُلْطانِه، ودُعاء إلى الله تعالى جَدُّه في حسن الدِّفاع لنا خاصَّة، وللمسلمين كافَّة، عن عُلُوِّ مكانه، والله عز وجل اسمه، يستجيب له الأدعِية البَرَّة، ويوالي لديه النِّعَمَ الثَّرَّةَ، ويَجْنيه من كلِّ رأي يَرْتَئيه، ومنحى كريم يَنْتَحيه، غِبْطَةً دائمة ومسرَّة، وأنَّ الكتاب الجليل، والصَّفح الجميل، طالعنا من تلقائه ناصع الأَغَر، واضح الحجول والغُرر، رافعاً للخَطَر، واقعاً من قلوب البشر، موقع صيِّبِ المطَر، فشفى غُللَ الصُّدُور، وفاضَ على الجَمهور، وأَجْمَل بإذْهابِ الرَّوْعِ وكَشْْفِ المحْذور، وخَلُصَتْ بُشْراهُ إلى عذارى الخُذور. وتَخَلَّصْنا - والحمد له - ثم له منْ خُطَّة

ضيقٍ، وأسَغْنا ما كنّا لا نُسيغُهُ منْ ريقٍ، وأخذ بحظه منْ أنْعامه كلُّ فريق، وعاذَ الكلُّ منْ عَفْوِه الواسِع بأمْنَعِ معاذِه، وعلموا أنَّه - أعلى الله أمْرَه - كظَمَ غيظاً، وهو يقْدِرُ على إنْفاذِهِ. وإنَّا لَنَرْجو أنْ تَكون هذه المأْثُرَةُ التي رُفِعَت لها الأبصارُ، وتهادتْ حديثَ جلالَتها الأَمْصارُ، من أوْثَقِ أَعْماله عند مآله، وأرْجَحِ قُرَبِه في مُنْقَلَبِه، فهَنأه الله ما منْ سعة الحِلْم أتاه، وبارَكَ له فيما خَوَّله ووأوْلاهُ (وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ) والحمد لله الذي ذخر هذه المنَّة الخطيرة لأيامه، وسلكها في نظامه، وصير له من ذكرها في الآفاق ما تزينُ الملوك لإعْظامه، وتعْجَبُ منْ نقَائصها وتمامه. ونحن بما به أمر - أيَّد الله أمره - آخذون، وبالموعظة الحسنى للعوام لافظون. وما زلنا - عَلِمَ الله - نحذرهم ونتَّقيهم، ونرفقُ بهم كلَّ الرِّفق ونُداويهم، ولمَّا نلنا بفضلِ الله، ثمَّ بفضله الموهوب، واطمأنت بإحسانه القلوب، بادرنا حضرته الجليلة معْلِمينَ، ولِما افتَرَضَ الله علينا معْلنين، وبآلائه وحسنِ بلائه مُعْتَرِفين. فجوزيَ خيرَ جزاء العارفين المُنْعَمين، ولَقَّاهُ يومَ الفزَعِ الأكبر فوزَ الناجين الآمنين، ولا حرمه الله اغْتِفَارَ الزَّلاَّتِ، وإقالة العثرات التي تَجْمَعُ الدنيا والدين، وأيْدينا بيد الأمير الأجل، وَالِينَا، أيَّدَه الله، في هذا الأمر وسواه شابكة بموصوله وأوامره، أَمْضاها الله في التَّظافُرِ والائْتلافِ، مُطاعَةٌ مقْبولةٌ، ولا نَدَّخرُ عنه في حال من الأحوال نصيحة، ولا نَألوه محافظة صريحة ومُوالاةً في ذات الله تعالى صحيحة، وإنَّه ليرى منَ الرفقِ ما نراه، ويَرْعى من أمورِ العامَّة ما نرعاه. والله يرفعُ مَسْعاهُ، ويُيَسِّره لما يرضاه.

وكتب أيضاً في المعنى: أطال الله بقاء الأمير الأجل، السيد الأفضل، وصيته في كل مَكْرومَةٍ طائرٌ ذاهبٌ، وأيَّامه مننٌ، ومواهب. ولازال سعْدُهُ ثاقبٌ، ومجْدُهُ عاقِبٌ، وهمَّتُه المآثر الخالدة المناقِبِ. كتَبْتُهُ، كتبَ الله لك واضِحَ الآثار، وأَعْبَقََ الأخبار، وبَلَّغَكَ أقْصى الآمال والأوطار، عنْ إعظامٍ وإكْبارٍ، وتَشَوُّقٍ وادكار، ورواحٍ في شُكْرِكَ وابْتِكار، واعْتِرافٍ بما للإسْلامِ منْ ديمٍ غِزارٍِ، وتَرْبِيَّة كتربية عمْروِ بن شَأْسٍ لِعِرار وإنّي، وإنْ كنْتُ نَشْأةَ ناديهم، ورَهْنَ أَيَادِيهم، لأرى لكَ منَ الحقِّ ما كنتُ أرى لِشُيُوخِهم المُوَقَّرِ قُعْدُدَ عُلاهُم، وشَبابِهِم النَّاضِرَة أَفْنان صباهم. سقى الله معاهدَهم ورُباهُم، وأَجْمَلَ في كلِّ نادٍ ونَديّ ذِكْراهم. وما منْ يَدٍ للحُلَّةِ أرْعاها كيدٍ أنتَ مُوليها وموْلاها. عَوَّضْتَني من تلك الأنهار بحراً زاخِراً، ومن تلك النُّجومِ بَدْراً باهراً، وأَعَدْتَ لي به بعد المشيبِ عهْدَ الشَّبابِ ناضراً، وأرَيْتَني كل غَائبٍ من المُلوكِ حاضراً: ولقيتُ كلَّ الفاضلينَ كأَنَّما ... ردَّ الإله نُفوسهم والأَعْصُرَا نسَقُوا لنا نَسْقَ الحساب مقدماً ... وأتى بذلك إذ أتى متأخرا

وذلك الذي ليس الكمالُ والجلال رحمته سِيماه، ولأْلاؤُهُ أن يزالَ الأمير الأجل الأوحد الأفضل أبو فلان، كبتَ الله عِداهُ، وأقرَّ به عُيُونَ عُلاه. تضاءلَتْ لقَدْرِه الأقْدارُ، وتَقاصرتْ دونَه الأخْطارُ، قامَ الله تعالى بحَقِّه فحَبَّبَهُ إلى خَلْقِه: وإذا أَحَبَّ اللهُ عبده يوماً ... ألقى عليه محبَّة النَّاسِ هذه الحضرة، حاضِرُها وبادِيها، وأعْلامها وهواديها، لاهِجَةٌ بحَمْدِهِ، داعِيَةٌ لِمَجْدِهِ، ومُعْتَرِفَةٌ بحسنِ آثاره، متواضعة لما بهرهم وَرَاقَهُمْ منْ سكينَتِه ووَقارِهِ: ملكٌ عليه تحية وسلامٌ ... أَلْقَتْ عليْهِ جمالَها الأيامُ وكتب أيضاً في المعنى: وردتَ ورود مُنْهل الغمام ... وسيبُكَ والحيا هامٍ وَهَامِ فهذا أخضرُ النفحات نَضْرٌ ... وهذا أحمر الصفحات دَامِ هما سِرُّ الحياة ولا حياةٌ ... بغير الغيث في ظِلِ الحُسَامِ وما اعْتدل الزمان وطاب ... إلا بِعَدْلِ سجيةِ الملْك الهُمَامِ لقد فازت دمشقُ بتاشفين ... وطار لها به أعلى السِّهامِ

وما فوق التى نالوا محلٌّ ... وبين ظهورهم هدي الإمام ولما لمْ أفِدْ لقضاء حقٍّ ... أزَرْتُنديه وفدَ السَلاَمِ أطال الله بقاء الأمير الأجل، الملك الأوحد الأفضل، رالأفئدة تهوى إليه، والقبول يوضع له، والمحبة تُلْقى عليه. والآمالُ تُخَيِّمُ لديه، ومقاليدُ السيادة والسياسة في يديه، ولا زال يحوز المدى، ويُزْجي كتائبَ النَّصر، وجيوشَ الهُدى، ويأخُد كل تَقِيَّةٍ على العدى، وهو - أيده الله - لا يزال في انتظام منقبة، واقتحام عقبة، وموارد ومصادر مرْتَقبة، ومساعٍ كل سماء لها أرض، وأداء حقِّها على الحاضروالبادي فَرْض. فالحمد لله الذي ثَنَاه عن مغزاه راضياً، ولحقوق الثغر قاضياً، وهنيئاً له وللإسلام به، يُمنُ المآب والمَقْفَل، وانفِتَاحُ كل مُرْتِج مُقْفَل، وغزو العدو في عُقره المنيع، وأمره الجميع، ولقد حلَّت عليهم المنايا وحامتْ، لولا جُدُرٌ دُونَهم قامتْ، وسَتَجْعَلُها العزائمُ بحول الله دكاًّ، تَصُكُّهم بوادرها صكّا ساعَده القَدَرُ، وحالَفَه الظَّفَرُ، ولا زال يغْزو ويُنْصَرُ، وعَدوه يُصْرَعُ ويُعَفَّرُ، بحول الله وطوله. واقرأ على حضرته الجليلة أعم السلام وأوفاه، وأبرَّه وأحفاه، ثم السلام المُجدد عليها ورحْمَةُ الله وبركاته.

قوله في القطعة (في ظلِّ الحُسام) الظِّلُّ هنا يريد به: العِزَّ والمَنَعَة. ومنه قول الفرزدق: فلوْ كُنْتَ مَوْلى الظِّل أوْ في ظلالِهِ ... ظَلَمْتَ ولكنْ لا يدَيْ لكَ بالظلْمِ معناه: لو كنتَ ذَاعِزَّ، أو في ظلال ذي عزة. وقال أبو تمام: القَوْمُ ظِلُّ الله أَسْكَنَ دينَهُ ... فيهم وهم جَبَلُ الملوكِ الراسي وفي حديث أنس بن مالك: "السُّلْطانُ ظلُّ الله في الأرض" معناه ما ذكرناه. وفي حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: قلتُ: يا رسول الله، أخبرني عن هذا السلطان الذي ذكت له الرقاب، وخضعت له الأجساد، ما هو؟ قال: "ظلُّ الله في الأرض فإذا أحْسَنَ فله الأجر، وعلكيم الشكر، وإذا أساء فعليه الإصْر، وعليكم الصبْر" وقد يكون الظِّل بمعنى السَّتْر، ومنه قول القائل للرجل الشريف: أنا ظلُّك: أي في سترك وذُراك. ولا أزالَ الله عنَّا ظلك. ومن هذا ظلُّ الشجرة، وكذلك ظلُّ الليل وهو سوادُه. قال ذو الرمة: قد أعْسِفُ النَّازِحَ المجهول مَعْسَفُهُ ... في ظِلِّ أخضر يدعو هَامَهُ البُومُ ويروى: في ظل أَغْضف. وقد يكون الظلُّ أيضا بمعنى القُرب والدُّنُو والاختصاص، ومنه قول أبي صخر الهذلي:

ورنقت المنية فَهْي ظلٌّ ... على الأبطال دانية الجَناحِ ومن هذا قولهم: أَظَلَّنا شَهْرُ الصومِ، وأَظَلَّنا الأميرُ وما أَشبه هذا من كلامهم. رجع وكتب بعض الأدباء في هذا المعنى بعد الصدر: وإنّى، أَعَزَّ الله المَلِكَ الكريم، لما أضاءتْ لي أهِلَّةُ مفاخِرِه في سماء النِّجَار، وأشْرَقَتْ شموسُ مكارِمِه على مفارِقِ الأحرار، وأبْصرتْ شمائلُه الزُّهْرُ تُثيرُ منَ الهُمومِ كامِنَها، ومَحاسِنُهُ الغُرّ تُوقِظُ منَ الآمال قائمها، تَيَقَّنْتُ أنَّ القُلُوبَ بحَقٍّ انْقادتْ له في أَعِنَّتِها، وتهادتْ إليه النُّفوسُ بأزِمَّتها؛ فآلَيْتُ ألّا أُلِمََّ إلا بحِماه، ولا أَحُطُْ رَحْلاً إلا في ذُراه، عِلْما بأنَّهُ نثْرةُ الفجر، وغُرَّةُ الدَّهر. فَتَيَمَّمْتُ سارِياً في طالع نوره، مُتَيَمِّناً بِيُمْن طائره، بأمل مُتَحقِّق الرِّبْح، موفَّقَ النُّجْح، حتى حَلَلْتُ بدوْحَةِ المجد، وأَنَخْتَُ بذِرْوَةِ السَّعْدِ، فَجَعَلْتُ أنْثرُ منْ جواهر الكلامِ، ما يُرْبي على جواهر النِّظام، وأنْشُرُ منْ عِطْر الثَّناء، ما يُزْري بالرَّوْضَةِ الغَنّاء، وحاشَ للفضل أنْ يُعَطِّلَ ليلي منْ أقْمارك، أوْ تُجَلي أُفُقي منْ أنْوارِكَ، فَأُرَى مُنْخَرطاً في غير سِلْكِكَ، مُنْحطاً إلى غير مُلْكِكَ، لا جَرَمَ أنَّه من استضاء بالهلال غني عن الذُّبالِ، ومن استنار بالصباح، ألْقى سنا المصباح. تالله ما هزَّتْ آمالي ذوائبُها إلى سِواك، ولا حَدتْ أطْماعي ركَائبها إلى حاشاكَ، ليكون لذلك في آثار الموسِمي للْماحل، وعلى جمال الحلي للعاطل، بسيادتك الأولية، ورياستك الأزلية، التي يَقْصُرُ عنْ وَصْفها إفصاحي، وَيَعي عنْ بعضها ثنائي وإيضاحي. فالقراطيس عنْدَبَثِّ مناقبِكَ تَفْنى، والأقلامُ في رسم آثارك تَحفى.

ومنها: والسعيدُ منْ نَشَأ في دوْلَتِكَ، وظهر في جُمْلَتِك، واستضاء بغُرَتكَ، والفائزُ بالسبْقِ منْ لَحْظَتْه عُيُونُ رِعايَتِكَ، وكَنفه حِرْزُ حمايَتِكَ. ُفأنْت الذي أمِنَتْ بعدْله نوائبُ الأيام، وقويت بفضله دعائم الإسلام، تختال بك المعالي اختيال العروس، وتَخْضَعُ لجلالِكَ أعِزّة النُّفوسِ، بسابِقةٍ أشْهَرَ منَ الفجر، وفِطْنَةٍ أَنْورَ منَ البدر، وهِمَّةٍ أبْعدَ من الزهر: لقد فاز من أضحى بكم متمسِّكاً ... يمد إلى تليد عزّكمُ يدا سلَكْت سبيل الفضل خُلْقاً مُرَكَّباً ... وغيرُك لا يأتيه إلا تجلدا يُهَنِّيكُُمُ مجدٌ تَلِيدٌ بَنِيتُمُ ... أغار لعمري في البلاد وأنْجَدا وإنّما أهدي لمولاي خِدمتي، وأضع في ميزان اختياره همتي، لأمتاز في جملة عبيده، وأشهر في خِدْمَته وعديده: وما رغْبتي في عَسْجَد أستفيده ... ولكنها في مفْخر أسْتَجدُّه وكل نوالٍ كان أوْ هو كائنٌ ... فلَحْظةُ طرْفٍ منكَ عندي نِدُّه فكن في اصطناعي مُحسنا كَمُجَرِّبٍ ... يبن لك تقريبُ الجواد وَبُعْدُهُ إذا كنت في شك من السيف فَابْلُه ... فإمَّا تُنَفِّيه وإما تُعِدُّه وما الصَّارمُ الهنديُّ إلاَّ كغيره ... إذا لم يُفارِقْه النجادُ وغِمْدُهُ وكتب بعضهم بعد الصدر: ثم إنَّ شُكْري نِعْمَة اللَّه عَلَيَّ بِمَا جدَّدَهُ مِنْ ملاحظة سيدنا حالي، وتداركَهُ بطِبِّ التَّطَوُّل مَرَضُ آَمَالِي، بما لا أؤمِّلُ معَ المبالغة والإغْراق فيه، فَكَّ نفسي بحال من رِقِّ أياديه، غير أني أحسن لها النظر، وأُجْمل عليها الأُحْدُوثة والخَبَر، وأدْخُلُ في جملة الشاكرين؛ إذْ هو، أيَّده الله، كعبَةُ فضل، وغمامةُ بذلٍ، وحُسامُ حقٍّ، ولسانُ صدْقٍ، يحمده أولياؤه، ويشهدُ له بالفضل أعْداؤه،

والليالي بأفعاله مُشْرِقة، والأقدارُ من خوفه مُطْرِقة، ومازالَ، أبْقاه الله، يَنْصُرُ نباهتي عن الخمول، ويَسْتنْقِذُني منَ التَّعَبُّدِ للتَّأميل، فصرتُ أعجزُ عن أوصاف نعمَته شكراً، وتَنطِقُ حالي عن آثارها فخراً، فأقول: لما تحَصَّنتُ من دهري بخلعته ... سَمَتْ بحملانه ألحاظُ إقبالي وواصلتني صلاتٌ منه رُمْتُ بها ... أختالُ في حلل للجاه والمالِ فَلْيَنْظُرِ الدَّهرُ عقبى ما صبرت له ... إذْ كان منْ بعض حُسَّادي وعُذَّالِي ألم أكده بحسن الانتصار إلى ... أن صنْتُ حظي عن حل وتَرْحالِ بَلَغْتُ مَنْ لا تجوز السُّؤْلَ قائله ... ولا يدافع عن فضلٍ وأفضالِ ياعارضاً لم أَشِمْ مُذْ كنتُ بارقَه ... إلاَّ رَوِيتُ بغيث منه هطَّال رُويَد جُودك قد ضاقتْ به هِمَمِي ... وردَّ عنّي برغم الدهر إقلالي لم يبق لي أملٌ أرجو نداك به ... دهري لأنك قد أفنيتَ آمالي وكتب قريع دهرنا، وأديب عصرنا، الوزير الأجل أبو عمرو محمد بن عبد الله بن غياث شيخنا، في المعنى: الحمد لله موالي الآلاء، ومُسْبغِ النَّعماء، وجاعِلِ هذا الإقبالَ، المُوذِنِ بالإِقْبَالِ. عنوانُ الفتوحات التي تُفْتَحُ لها أبوابُ السماء، ويرتَبِطُها النصر ارْتِباط الري في الماء، ويخْدمها بالسعدِ الذي تتلاعبُ موادُّه بصروف الدهر تلاعب الأفعال بالأسماء، والصلاة على سيدنا محمد خاتم الرسل والأنبياء، الذي ما ضلَّ ولا غَوى، ولا نطَقَ عن الهوى، فتختلف عليه مختلفاتُ

الأهواء. السراجُ الوهَّاجُ الذي بهرتْ آياته، وأشرقت إيَاتُه وأَخْرَسَتْ معْجِزاتُه أَلْسِنَةَ الفصحاء البُلغاء، وصدعَتْ بأمر الله في تبليغ رسالاته عزماتُهُ مصمِّمَة المَضاء والإمضاء، ودعا فأسْمَعَ بالأسنة واللُّهى صُمَّ العِدا في الصخرة الصماء. والرضا عن الخلفاء الراشدين الهادين إلى السبيل السواء، السالكين منْ أفعاله وأقواله على المحجَّة الحنيفية البيضاء، بأخْلاق خُلِقْنَ من التمني فلاقت كل داء بالشفاء، وعن الإمام المعصوم المهدي المعلوم الكافي أكفَّ البغْي والاعْتداء، وعن أصحابه الأئمة الخلفاء المذخُورين للأمر العزيز يتوارثه الأبناء عن الآباء، وراثة مورث العَلْيَاءِ بما توارث من ثُراث الأنبياء: فغار الكفر في ظُلَم الدياجي ... ولاح الدينُ في حلل الضِّياءِ والدعاء لسيدنا ومولانا الخليفة الأتقى، ملجأ الدين الأوقى، الموفَّقِ الآراء، النافخِ أرْواح أشباح الأمل والرَّجاء بجميع الجهات والأرْجاء، المجْلي غياهب الظَّلْماء، عن أنوار الاقتداء، سيف الله المحلى بالمحامد والثناء، المعيد منارَ الكفر كمنبت الهباء، المصيِّر أهله كهشيم الغُثَاءِ: بعزم يلبس الأيام يُمْناً ... ويطوي الأرض منشورَ اللِّواءِ ونصرٍ للرياح به هبوبٌ ... لأقصى الأرض من غير انتهاء فَيُصْعِقُهُمْ بصاعقة المنايا ... ويمطرهم شآبيبَ الفناء وبعدُ، فإنه لما كانت هذه (الجزيرة الأندلسية) غربية المعنى على الإطلاق،

فذة الحسن باصطفاقٍ واتفاق، يتمثل بها في الآفاق، وتحدو بأوْصافها حداة الرفاق، وتُزْهى بمنظرها الرائق، وبخيرها الفائق على الشام والعراق، وكانت بين عَدُوَّيْن يقطعانِ عنها فيما سلفَ الإرفاق، من الأمن والأرزاق، أحدهما البحر الذي هي منه كالمِعْصَمِ في سوارٍ أوِ الخِصْر في نطاق. والثاني الكفر الذي أحدق بها إحداق الأشفار بالأحداق، وكانا يطمسان أنوارها كالأجفان للنواظر عند الإرْتِدادِ والإنْطباقِ، وكلاهما قد فَغَرَ عليها فاه لإضرامِ الأعْلاقِ، وإطْفاء الأنوار الواضحة الإشراق، حتى عاد بدْرُها هلالاً في قبضة المُِحاق، وكادت تبكي عيون السبعة الطباق، إلى أنْ تلافاها النَّظَرُ المهدي، والأمر الإمامي، فأحيا رمقها الخافت، وأَعَادَ كمالها الفائت، فاعْتَصَمَتْ منه أوثق اعتصام، وتوقَّتْ منه بأوقى واقٍ، ولم يزل النظر الإمامي يستمد لها على الدوام، ويلقيه خليفة إلى خليفه وإمامٌ إلى إمامٍٍ، فيقع منها موقع الماء الزُّلالِ على شدة الأُوام، إلى أنْ أفضى النظر إلى الخليفة العليّ الإمام المرضيّ، المَقْتَفِي، أثر المهدي أبي عبد الله محمد ابن الخلفاء الأئمة المؤيد بالنصر الحفيِّ، الذي لا يكتحل جَفْنه بمنام، ولا يخْلو خاطرهُ النَّيِّرُ عن اهتبالٍ بها وبغيرها وعنِ اهتمام، فأطلع بآفاقها بدر تمام، يحمل بين جوانحه إِقْبَالَ

ضِرْغَامٍ، في ذكاء إياس وعلم ابن العباس وحلم الأحنف ورصانة (رضوى) اختصاصاً بواحد جمع له ما في الأنام، مُنْبَسِط الوجه رحيبَ الصدر، يفيض بِكَفِّه منْ كل أَنْمُلَةٍ بَحْرُ إنْعامٍ، ويهْمِي بها من أفضاله واكفُ غَمامٍ، ويسُلُّ على منْ عاداهُ سيف انْتِقامٍ، يجْلبُ له الحِمام، قبل وقتِ الحُمام، وتَخْدُمُه صروف الدهر في كل مقامٍ، ويُيَسِّرُ له السعد كلَّ مرامٍ، حتى عادتْ لياليه مُشْرِقَةً كالأيام، مُجْلِيَةً دياجي الظُّلْمِ، وسَدف الإظلام. صنْوُ الخليفة الذي تُزْهى الدُّنْيا به شرفاً، ومُجْتَنِي الخلافة حسباً ونسَباً وسلفاً، المقتفي منْ سَنَنِ آبائه الخلفاء ما اقتفى، السيد المُعَظَّمُ الشأن، المُوَقَّرُ المكان أبو إسحاق المحتسبُ نفسه وبنيه وماله في نصر الدين وحياطة المسلمين قُرُباتٍ عند الله وزُلْفى، المجلّي من الضلال والمحال ظلماً وسَدَفاً، المُفْضي عزائمه حتى لا يَذَرَ على الأرض كافراً متمرداً ولا منافقاً متشوفاً، ولا عادلاً عن المحجة البيضاء الحنيفية ولا مُنْحرفاً. يقود جيوشاً يضيق عنها ذرعُ الزمانُ، ويخشى سطوتَها طارقُ الحدَثان، وينْصرفُ بأمر الله الذين هُم حزْبُه الملوان: فمن سره المحْيا فسمعٌ وطاعةٌ ... ومنْ يحسُد الموتى يُدِنْه بعصيان

ما منهم إلا روضةُ ندى، وهضْبةُ هدى، وغمامٌ يُحْتدى، وحُسامٌ به يَرْدى منْ يردى، ببأسهم على الدَّهر يُسْتَعْدى، وبأنوارهم يُقْتدى ويُهتدى، ملائكُ لكنَّهم في الحرب أسود عواجسُ لهم ملابس، قد استلموها للحرب فهي ملابس، كتائب ومواكب، تحسدها الكواكب، بَوَاسِلُ بأيديهم عَوَاسِلُ، كأن أْسنتهم النجوم، نثرتها سماء الدين العلي وفهي لشياطين الكفر رجوم، تقلَّدوا بوارقَ وأرْسلوها صراعق. لَيْلَهُم عَجَاجُهم، ونورُ التوحيد سراجُهم، بركاتهم قد وَضحَتْ وضوح النهار، ولاحَتْ كتائبهم مخايل الاسْتِبْشار: حملوا قُلوبَ الأسْد بين ضلُوعهم ... وَلَووْا عمائمهم على الأقمارِ وتقلَّدوا يوم الوغى هندية ... أمضى إذا سُلَّتْ من الأقدار ولله إقبالٌ نفخَ في شخص الأمن رُوحَهُ، وجر على الحقٍ كفَّهُ، فكان فسيحه، وشفى من الدين لواعجه وتباريحه، وأهبَّ على الكُفر زَعْزَعا ريحه، وركب على ليليه المظلمة سرجه ومصابيحه. فَبُشْرى ثم بُشْرى للأندلس والإسلام، وبحمص فكم قد تزخرفت لهذا الإقبال، كأنها جنَّة الرضوان، فادْخلوها بسلامنزَّه الله عن السرار بدور كمالهم، وضاعف إشراقاً أنوار جلالهم، ولا يضْحِنا من وارِفِ ظلالهم، ومنَّ علينا بِقَبُولهم وإقبالهم. ثم ختم الرسالة بهذه القصيدة الفريدة، التي تختال لها المعالي كما تختال بالحلي والحلل الكواعب الخريدة، وهي:

إذا لم يجبني الدهر حين أسائله ... سيتلو لسانُ الأمر ما أنا قَاِئلُهْ فللملأ الأعلى حديثٌ تُذيعه ... لنا ألْسُنُ الأيام فَهْي رَسَائلهْ صَحائِفُها إذْ تُجتلى صفحاتُها ... تبشر بالفتح الذي حان آجِلُهْ وهل جرت الأقدارُ إلا بِنصْره ... فآجِلُه فيه تساوى وعَاجِلُهْ أَمَا هو أمرُ الله ليس يَفُوتُه ... مراد إذا ما شاءه فهو فَاعِلُهْ ولما تشكَّت أرضُ أندلُسٍ وقد ... عراها من الشَّوق المبرِّح قَاتِلُهْ وألقت إلى الأنباء واعي سَمْعِها ... عسى الأمرُ قد زمَّتْ إليها رَوَاحله وحنت حنين الجذْع لكن رجاؤها ... يراسلها لا تحْزني وتراسله فمولاك مصروفٌ إليك اعتناؤه ... ولا شيءَ عن أسباب نصرك شَاغِلُه فقالت وأَنَّى لي بذلك برهةً ... وهذا مَحَلُّ الصبر أقوتْ منازلُه إلى أن تلافاها البَشير وجاءها ... كما جاء يعقوبَ القمِيصُ وحامِلُه وإذا سمعتْ ذكر البَشير تزخْرفت ... بزي جِنَان الخلد أو ما يشاكله وقابل شكواها الخليفةُ بالرضا ... فجدَّ وأبوابُ الفتوح تُقابله ووجَّه جيْشاً والسعود تقوده ... بحزمٍ كإعصار الرياح قَنَابِلُه دَرَارِ دوارٍ فوق أفلاكِ ضمَّرٍ ... تُريكَ ارتداد الطَّرف كيف تعاجله تباري الرياح العاصفات ولا يُرى ... لها أثرٌ في التُّرب حين تزاوله فَمِن مُنْعَلٍ بالبرق أجرَد سابحٍ ... سليمٍ شظاه لم يُحرَّقْ أباجِلُه

ومِنْ أخضَرٍ خاض الدجى إذْ سرى به ... وخاضت به نهر النهار أَسَافلهْ ومن أشقرٍ كالتبر إذ سال ماؤه ... عليه فغشَّاه من التِّبْر سائلهْ ومن أشْهَب كالشيب حلَّ بِمَفرقٍ ... فسال على المُسْوَدِّ منه يُزايلُهْ وورْدٍ ولكنْ كالدهانِ مهفهفٍ ... أقبَّ أسِيلِ الخد نَهْدٍ مراكِلُه عليه هِزَبرٌ ترجف الأرضُ خوفَه ... بَراثنه أسيافُه وعواسِلُهْ عجبت له في الحرب مرٌّ لقاؤُه ... وقد عذبت للواردين مناهلهْ عجبت له مُذْكانَ في المهد لم يزل ... يقوم به الملك الذي شُقَّ بازِلهْ أما هو سيفُ الله سُلَّ على العِدَى ... وما غمده إلا التُّقَى وحمائلهْ هو السيد الأعلى المحبب للورى ... هو الفذّ لكنْ لا تُعدُّ فضائله فأنَّى يُضَاهَى أو يُباهَى علاؤه ... وقد جمعتْ شملَ المعالي شمائلهْ قدومُ أبي اسحاق يُمنٌ ورحمةٌ ... وأمنٌ وفتح يجمع الكلَّ شاملُهْ فلله يوم قد تجَلَّى بأفقه ... وليس له بالأفق نورٌ يماثلهْ تَخِدْنَاه عيداً لا نرى العيد غيره ... أواخرُه محمودةٌ وأوائلهْ فقل لذوي الإلحاد ما كان ظنكمْ ... بذي لَجب لجَّاته وصواهلُهْ إذا أمَّ أرض الشرك تنشد أهلها ... صحا القلبُ عن سَلْمَى وأقصر باطِلُهْ

إذا حل حزبُ الله يوماً بساحتي ... أصيبتْ من الكُفر الصريح مَقَاتلهْ ألم يعلموا أنْ صالتْ الأسْدُ في الوغى ... وعنَّ لها لا تستطيع تُصاولهْ ألم يعلموا أن الغمام إذا همت ... سحائبه لا تستطيع تُسَاجِلُهْ ألم يعلموا أن البحار تمدها ... إذاهي فاضت بالنوال أَنَامِلُهْ ألم يعلموا أن الزمان تهابُه ... حوادثه في كل أمر يحاولهْ حُسامٌ ولكنْ في يد الأمر مرهفٌ ... سنانٌ ولكن في يد الحق عَامِلُهْ وهذا البيت مما أجاد فيه الاستدراك والتقسيم، ودافع في صدر كل حديث وقديم، سلك فيه مسلك البلغاء من المتأخرين، واحتذى حذو المجيدين منهم والماهرين، كقول أبي بكر بن عمار: غصنٌ ولكنَ النفوس رياضُهُ ... رَشَأٌ ولَكِنَّ القُلوبَ عَرَارُهُ وكقوله أيضاً: ببدر ولكن من مطالعه الوغى ... وليثٍ ولكن من براثنه الهندي وكقوله أيضاً: بدور ولكنَّ السماء محاربٌ ... وأُسْدٌ ولكنَّ العرين حروبُ وكقول حسان بن المصيصي:

جرَّ الذُّيول ولكن من محافله ... على التناد ولكن منْ شبا الأَسَلِ رجع تهيم به زُهْرُ النجوم بأُفْقها ... فَطَوراً تناجيه وطوراً تغازلُهْ وهل هي إلا من أسارير وَجْهِه ... فمن ذَايُبَاهيه سنىً أو يعادلُهْ فلا خَطْبَ إلا وَهْيَ عنه تذوده ... ولا حادث إلا وعنه تُنَاضِلُهْ إذا قيل شمسٌ فهي من بعض نوره ... وإن قيل بحرٌ فالبحارُ جَداوله ولو كان هذا البيت في مدح الرسول، لبلغ به غاية السُّؤل، وألقى إليه كل ناظم طائعاً وأعْطاه صَفْقة يده مبايعاً: فلو وَهَبَ الدنيا لأقسم أنها ... أقلُّ نوالاً للأنامِ يناوِِلُهْ ولولم يكن في كَفِه غيرُ نفسه ... لجاد بها فليتق اللهَ سائلُهْ لو أنَّ ما أولى الورى فاض في الثرى ... لضل به البحرُ المحيطُ وَسَاحِلُهْ قرارة علمٍ ثم رَضْوَى رصانة ... ودوحةُ فضلٍ ثَمَّرتْها فَوَاضِلُهْ له شيمٌ مأثورة الفضل لم تَزَلْ ... وسائلُ من أعْيت عليه وَسَائِلُهْ هَمَتْ ببساط الأرض سُُحْبٌ هباتُه ... وعمَّتْ جميع العَالَمِينَ نوافلُهْ سميَّ خليل الله أَنْدلسٌ غدت ... مقامٌ وحيث الغزو فيها تُواصله وأنت وَلِيُّ الله ناصرُ دينه ... ومن يخذُل الإسلام فالله خَاذِلُهْ وكل وَلِيٍّ أو عدوٍّ فإنه ... بما عامل الله الكريم يُعامله وياحمصُ بُشرى ثم بشرى عميمةٌ ... بحزب هدىً وافاك واللهُ كَافِلُهْ

قوله: ولو لم يكن في كفه غير نفسه البيت هو لمسلم بن الوليد وقد تمثل به أبو تمام في قصيدة له مدح بها المعتصم وفي مدح السيد أبي إسحاق هذا يقول الأديب الكامل أبو العباس أحمد بن شكيل رحمه الله قصيدته الفريدة وهي: بُشْرَايَ دَالَتْ دَوْلَةُ المعْصُوم ... بِحَيَا العُفَاةِ وَنُصْرَةِ المَظْلُومِ بِقُدُومِ إبْراهيمَ سَيِّدِنَا الرِّضَا ... قَدِمَتْ وُفُودُ السَّْعْدِ خَيْرَ قُدُومِ حَيَّتْ مُحَيَّاهُ المَواسِمُ والْتَقَتْ ... مِنْهُ العُيُونُ على أَغَرَّ وَسِيمِ وَتَحَدَّثَ الحيُّ الجَميعُ بِقُربِْهِ ... فَتَرَوَّحُوا في نَضْرَةٍ وَنَعيمِ فَالظِّلُّ مَمْدُودُ كَأَنَّا في ذُرى ... عَدْنٍ بِهِ وَالشُّرْبُ منْ تَسْنِيمِ وَالأَرْضُ رَاجِفَةٌ وَما رَجَفَاتُهَم ... إِلاَّ لِأَنَّ بِهَا قُلُوبَ الرُّومِ

شَهِدَ الزَّبُورُ بِهَا وَللإله ... فَضْلاً عَلَى المَنْثُورِ وَالمَنْظُومِ عَذُبَت مَوَارِدُ جُودِهِ فَلَوَ انَّنِي ... أوُرِِِدْتُهَا لَشَرِبْتُ شُرْبَ الهِيم حَاوَلْتُ مِدْحَتَهُ فَبِتُّ بِلَيْلَةٍ ... مَا لَيْلُ مَهْجُورٍ وَلَيْلُ سَلِيمِ تَبِتُ القَوافِي في يَدِي فَأَنِسُّهَا ... بِجَلاَلِهِ فَتَفِرُّ مِنْ تَنْظِيمِ حتَّى كَأَنِّي مُفْحَمٌ أَوْ أَنَّ بِي ... عِيّاً وَذَاكَ العِيُّ غَيْرُ ذَمِيمِ وَلَقَدْ وَثِقْتُ بِحِلْمِهِ فَنَظَمْتُهَا ... سَعْياً لَعَمْرُكَ لَيْسَ بِالمذْمُومِ مَدْحُ الأَمِيرِ ابنِ الخَلِيفَةِ قُرْبَةٌ ... للَّهِ كَالتَّكْبِيرِ وَالتَّعْظِيمِ قُلْ لِلَّذي شَادَ النَّسِيبَ مُقَدِّمًآ ... مَدْحُ الأَمِيرِ أَحَقُّ بِالتَّقْديمِ فَإِذَا طَرِبْتَ إلى النَّسِيبِ فَنَفْثَةٌ ... بَعْدَ الصَّلاَةِ عَلى ذَوِي المَعْصُومِ وَإِذَا بَلَغْتَ إلى الخِيَامِ فَبَلِّغَنْ ... مِنِّي الخِيَامَ وَدَائعَ التَّسْلِيمِ لَهْفِي عَلَى حَيِّ حَلاَلٍ قَوَّضُوا ... خِيَمَ الرُّبَا لِبِنَاءِ خَيْم الخِيمِ وَمَضَوْا وَلَوْ أنَّ النُّجُومَ نَوَاظِرٌ ... عَارُوا عُيُونَ الشُّهْبِ بالتَّغْييِمِ

وَلأَنَّ عَيْنَ الشَّمْسِ عَيْنٌ رَفَّعُوا ... ظُلَلَ العَجَاجِ عَلَى عِمَادِ الكُومِ لاَثُوا مُدَثَّرةَ السُّجُوفِ وَظَلَّلُوا ... فَوْقَ الحُدُوجِعلى شَقِيقَةٍ رِيمِ قَمَرَ الجَمَالِ فَسَلْ بِهَا وَبِخِدْرها ... مِنْ هَالَةٍ مَحْفُوفَةٍ بِنُجُوم جَرَّبْتُ لَذَّاتِ النُّفُوسِ فَلاَ أَرَى ... كَالرَّكْبِ يَخْبِطُ في حَشَى الدَّيْمُومِ مُتَرَنِّمِينَ عَلَى ذُرَى كِيرانِهِمْ ... وَصَرِيرُهَابَدْلٌ مِنَ التَّرْنِيمِ في كُلِّ طَامِسَةِ الصُّوَى لاَ يَهْتَدِي ... فيها الدَّليلُ بِمَعْلَمٍ مَعْلُومِ كانتْ صَحائفُ قفرها غُفْلاً فَقَد ... رَسَمَ السُّرَى وَخْدِي بِها ورَسِيمِي قُلْ لِلْمَطِيِّ تَجَلَّدِي لاَ بُدَّ مِنْ ... صِنْوِ الخَليفَةِ فَاقْعُدِي أَوْ قُومِي سِيري على اسْمِ اللَّه في أمَلي فَقَدْ ... ضَمِنَ المَطَالِبَ جُودُ إِبراهِيمِ سِيري إلى مَلْكٍ رِضىً في مَالِهِ ... حَقُّ لِسَائِلهِ ولِلْمَحْرُومِ القَائِدِ الخَيْلَ العِتَاقَ كَأنَّها ... سِيدَانُ رَمْلٍ أو نُجُومُ رُجُومِ

فِيهَا قَتَاتُ الطَّيْر يَرْتَعُ بِالضُّحَى ... وَلها انْقِضَاضَةُ لِقْوَةٍ يَحْمُومِ نَضَحَ الحَمِيمُ جُلُودَهَا فَتضوَّعَتْ ... فكَأَنَّ مِسْكاً رَشْحُ كُلِّ أديمِ مِنْ كُلِّ وَرْدٍ خَاضَ بَحْراً من دمٍ ... فنَجا بِلَوْنِ الأَحْمَرِ المَذْمُومِ أَوْ أَشْقَرٍ غَشَّتْه شَمْسُ جَبِينِهِ ... شَفَقاً وَعِطْفَاهُ هُبُوبُ نَسِيمِ أَوْ أَصْهَبٍ شَرِبَ المُدامَ أَدِيمُهُ ... فأقلَّ فارِسَهُ بِرَسْمٍ قَدِيمِ أَوْ أَشْهَبٍ رَقَمَتْ قَرَاطِسُ جِلْدِهِ ... فأتى الوَغى بكتابِه المرْقومِ أَوْ أَبْلَقٍ كَالقِدْحِ يَحْسِبُ أَنَّهُ ... قَدْ قُلِّدَتْ مِنْهُ الوَغَى بِبَرِيمِ أَوْ أَدْهَمٍ أَرْخَى الظَّلاَمُ سُدُولَهُ ... مِنْه ُعَلَى طِرْفٍ أَحَمَّ بَهِيمِ خيلُ الأمير أعَدَّها فَكِلاهُما ... خَلَفٌ مِنَ النُّعْمانِ واليَحْمُومِ يا خَيْلَ موْلانا أبِيني حالَةً ... فلَقد خَلَطْتِ الضُّمْرَ بالتَّطِهِيمِ أمَعَ الأعِنَّةِ تَمْرحينَ تَجاذُباً ... وعلى الكَتيبَةِ شِدَّة التَّصْميمِ

إنْ كُنْتِ غزِلانَ الصَّريمَةِ فاسْنَحي ... أَوْ كُنْتِ عِقبانَ السَّراء فَحُومي لمَّا استهلَّ بها الثّغُورَ صَوارِخاً ... طَلَعَتْ طُلُوعَ العارِضِ المركومِ تقعُ السَّنابِكُ بالصَّفا فتَرى بهِ ... آثارَها كالطَّابَعِ المخْتُومِ قالتْ جُموعُ الرُّومِ حينَ وَطِئْتَهُمْ ... وَيْلٌ لِبيضِ رُؤُوسِنا المَخْطوم فيها بُرُوقُ المَشْرَفِيَّةِ لُمَّعاً ... تَعِدُ الكُماةَ بجَحْفَلٍ مَهْزُومِ والزَّاعِبيَّةُ كُلِّ صِلٍّ مُطْرِقٍ ... شرِهٍ لسدِّ المُهْجَةِ المَكْتُومِ والخافِقاتُ كأنَّ أفْئدة العِدى ... أكْسَبْنَها الخَفَقانَ بالتَّعْليم والمُسْرَداتُ منَ الدِّلاص كَأَنَّها ... عَرْضَ السَّلامَةِ رَدٌّ للتَّجْسيمِ وأراكَ في الجَيْشِ اللَّهامِ وأهْلِهِ ... قَلْباً يُصانُ بِجُؤْجُؤٍ وحَزيمِ

وَلَوِ انفَرَدْتَ من الفوارِسِ للعِدى ... لَهَزَمْتَهُم بالآيِ منْ حامِيمِ اللَّهُ حِزْبُكَ لا الخمِيسُ وأهْلُهُ ... والنَّصْرُ جنْدُكَ ليْسَ كُل شَتيمِ إنَّ الإمام رآكَ في أعْمالِهِ ... كالبَدْرِ يسْطعُ ليلةَ التَّتْميمِ فَرَمى ظلامَ الظُّلْمِ منْكَ بِنَيِّرٍ ... عَدْلٍ رَؤُوفِ بالعِبادِ رحيمِ يَقِظٍ نِقابُ ظُنُونِهِ كَيَقينه ... إنَّ العُلُومَ نتَائجُ التَّرجِيمِ باتَ الطُّغاةُ على المَضاجِعِ غُفَّلا ... عمَّا يُرادُ وباتَ غيرَ نَؤُومِ تَأْبَى السِّياسة أنْ يُهَوِّمَ ساعَةً ... أنَّى تَحامِي الملْكِ يالتَّهْويمِ وَهْوَ الحَكِيمُ يزينُهُ سَفَهُ الَوَغَى ... إنَّ الحَليمَ هُناكَ غيرُ حليمِ بَشِّرْ يتامى المُسْلِمينَ بوالِدٍ ... مِنْهُ يَحُوطُ ذِمارَ كُلِّ يتيمِ والمُمْحِلاتُ منَ البلادِ بوابلٍ ... منْ جُودِهِ يُحْيِي الأنامَ سُجُوم وَلْتُنْذِر الرُّومَ الطُّغاةَ بِعاصِفٍ ... من باسِهِ مثلَ الدَّبُورِ عقيمِ ظَنُّوا بِهِ قَدْ زَارَهُمْ مُتَوشِّحاً ... بنِجَادٍِ عَضْبِ الشَّفْرَتَيْنِ صَمِيم في عُصْبَةِ التَّوْحِيدِ يَقْدُمُهُمْ بِأبَّ ... هة الجَلالةِ في حُلى التّكْريمِ يَرْتَدُّ طَرْف العَيْنِ عَنْهُ مَهَابَةً ... ويَجِلُّ لَوْلا الحِلْمُ عنْ تَكْليمِ

فَإِذَا تنَادَيْنَا بِحَضْرَتِهِ رَوَت ... عَنَّا النُّحَاةُ غَرَائِبَ التَّرْخِيمِ وَإِذَا رَأَوْا جَرْيَ القَضَاءِ بِأمره ... فهِمُوا يقينَ الحزْمِ والمَحْزُومِ كمْ ذا أفَضِّلُ مَدْحَهُ وَلو انَّني ... كنْتُ ابن صفوانٍ خطيبَ تميمِ لَعَجزْتُ عَنْ وَصْفِ الأَمِيرِ وإنَّما ... يُومي الخديمُ بمقصِدٍ مَفْهومِ أَجِدُ الثَّنَاءَ عَلَيْهِ يَعْدِلُ حجَّةً ... وَعَلى ذَويهِ كَعُمْرَةِ التَّنعيمِ إِنَّ القَوَافِي ذُو تَقِلُّ لِقَدْرِهِ ... ليقل عنها قدْرُ كلِّ عظيمِ إِنْ كُنَّ دُرّاً فَهْيَ مِنْ تَنْظِيمي ... أوكُنَّ زُهْراً فَهْيَ منْ تَنْجِيمي وَإِذَا انتَسَبْنَ نَمِينَ أَكرَْمَ مَعْشَرٍ ... منْ آلِ قَحْطانٍ وأشْرَفِ خيم صَدَفِيَّةٌ كِنْدِيَّةٌ تَرْعَى المُنى ... فلَرُبَّما أكَلَتْ مُرَارَ سُمُومي دُفِنَتْ بِأَنْقَرَةٍ مَعَ الضِّلِّيلِ فَاسْ ... تَخْرجْتُهَا مِنْ ثَوْبِهِ المَسْمُوم عَرَبِيَّةٌ في بُقْعَةٍ عَجَمِيَّةٍ ... فرَّتْ إلى صدْري من التَّعْجيمِ فَمَنِ ادَّعَى السِّحْرَ الحَرَامَ فإنني ... بِحَلالِ هذا السِّحْرِ حَقُّ زعيمِ وَإِلى أَبِي إسحَاقَ مَوْلاَنَا الرِّضَى ... يَا نَفْسُ أَمِّي جَلَّ مِنْ مَأْمُومِ

وَخُذي أَمَاناً مِنْ زَمَانِكِ عنده ... فلقد أجازَ عليكِ حُكْمُ ظَلُومِ مَنْ مُبْلِغٌ عَنِّي الخُطُوبَ بأنني ... آوي لِرُكنٍ ليْسَ بالمُهْدُوم فات الغنى كفي فكم من حاسد ... فَرحٍ وكَمْ مِنْ صَاحِبٍ مَهْمُوِم فطلبت جدواه ليحْدقني غنىً ... سِيَّاَن فيه حَاسِدِي وحَمِيمِي ورجوت خدمته لِيَخْدُمَنِي الورى ... فَأَفُوزَ باسْمِ الخَادِمِ المَخْدُومِ قال أبو إسحاق: قد جئت بهذه القصيدة على طولها، وأثبتها بكمالها، لانطباعها، وقلة فضولها. وكل مُنْصف يشهد بِتَفْضِيلها. فبمثلها يحل الكتْب ويسير حيث شاء الرَّكْبُ، ولله درُّ أبي العباس فلقد كان في النظم طويل الباع، كثير الانطباع، متأخراً بذَّ الأوائل، وحط من مراتبه كلَّ مُتَطَاوِل وقوله: فإذَا تَنَاديْنَا بِحَضْرَتِهِ رَوَتْ ... عَنا النحاة غرائب التَّرْخِيمِ يريد أن السيد الممدوح ذو هَيْبَة ووقَارٍ وسكينة وجلالة، فإذا تنادوا بحضرته تنادوا بلفظ خفيف سهل، لأن الترخيم تخفيف اللفظ وتسهيله، فإذا قلت: رخم الاسم فمعناه سهَّل النطق به بحذفك منه. قال الأصمعي: أخذ عني الخليل معنى الترخيم وذلك أنه لقيني فقال لي: ما تُسَمِّي العرب الكلام السهل؟ فقلت له: العرب تقول: جارية رخيمة: إذا كانت سهلة الكلام قالذو الرمة فأوضح معناه:

لها بشر مثل الحرير ومنطق ... رخيم الحواشي لا هُراءٌ ولا نَزْرُ فالهراء الكثير، والنَّزْرُ القليل، فأراد أن كلام هذه الجارية محذوف الأطراف، ليس فيه زيادة على ما يراد، فعمل الخليل باب الترخيم. وأنشدني بعضُ أشياخي قولابن المعتز وهو من أملح ماقيل في تكرير اللفظ وأحسنه، وفيه ذكر الترخيم: لساني لسري كتومٌ كتوم ... ودَمعي بحُبي نَمومٌ نَمُومُ ولي مالكٌ شفَّني حُبُّهُ ... بديعُ الجمال وسيمٌ وسيمُ لهُ مُقْلَتا شادِنٍ أحور ... ولفظٌ سحور رخيمٌ رخيمُ فَدمْعي عليه سجومٌ سجومٌ ... وجِسْمي عليه سقيمٌ سقيمُ ومما يستَحسنُ أيضا من تكرير اللفظ، قول الفقيه أبي غالب منصور بن إسماعيل لكنه في طريق الزهد، ومقصد أولي التوفيق والرشد، وهو: إذا كنتَ تَزْعم أن الفراق ... فراق الحياة قريبٌ قريبُ وأن المقدّمَ ما لا يفوت ... على ما يفوت معيبٌ معيبُ وأنَّ المعدَّ جهازَ الرحيل ... ليوم الرحيل مصيبٌ مصيبُ

وأنت على ذاكَ لا ترعوي ... فأمرك عندي عجيب عجيب وزاد الهروي محمد بن القاسم من قوله: وأنَ الموفَّقَ في الحالتين ... لقصْدِ السبيل عجيبٌ عجيبُ وقرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وجملة من الصحابة، ابن مسعود وغيره (وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ)، وتبعهم على هذه القراءةسليمان ين مهران الأعمش قال أبو الفتح عثمان بن جني هذا منْ أحَقِّ الأشياء بالترخيم، لأنه موضع قد ذهبت فيه قُوَاهُمْ، ولم ينفعهم شكواهم، فضعُفوا عن تتميم نداء مالك؛ خازن النار وابن صفوان الذي ذكر أبو العباس، هو خالد بن صفوان، وكان إذا ذكر الغريب من الكلام بحضرته قال (ليس هو بغريبٍ وإنَّما نحنُ الغُرباء فيه). وقوله: إنَّ القوافي ذو تقلُّ لقدره البيت جاء به على لغة طيء، لأنها تجعل ذو مكان الذي ولا تغيره عن حاله في جميع الإعراب بل يجيء به على هيئة واحدة في إفراده وتثنيته وجمعه، وتذكيره وتأنيثه. قال أبو حاتم: وهي لغة كثير من فصحاء العرب.

وأنشد أبو زيد: فإنَّ بيتَ تميم ذو سمعْتُ به ... فيه تَنَمَّتْ وأرْستْ عزَّها مُضَرُ ومثله قول الحسن بن هانئ: حُبُّ المدامة ذو سمعتُ به ... لم يُبْقِ فِيَّ لغيره فَضْلا وقوله: (يا نفس أَمِّى جل من مأموم) معناه اقصدي. يقال منه: أمَّه يؤمُّهُ أَمّاً: إذا قصده. والأمَّةُ الجماعة من هذا المعنى، لأنها تؤم جهة واحدة، ومنه الأمة: القُدْوَةُ للأنامِ في الخير. كقوله تعالى (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ) لأنه يُؤتَمُّ به ومنه الأُمَّة: القَامَةُ لأن العين تمتد إليها وتؤُمُّها. ومنه أيضاً الأمة: الاستقامة، لأنها تَؤُمُّ، أي تقصد على طريقة واحدة خلاف التخليط في المذاهب. ومنه أيضاً الأُمَّةُ: الحين، للجماعة التي تَؤُمُّ جهة واحدة. ومنه أيضاً الأُمَّة: أَهْلُ المِلَّة الواحدة كقولهم: أُمَّة موسى، وأمة عيسى، وأمةمحمد صلى الله عليهم وسلم. ذكر معنى هذا كله أبو عبيدة معمر بن المثنى. والمأمومُ: المقصود إليه، والمأْموم: المصلي خلف الإمام. والمأْمُومُ الذي شُجَّ مَأْمُومُه، وهي من الجراح التي تبلغ أمَّ الدماغ، وأمُّ الدماغ هي الجلدة التي قد جمعته. قال ذو الرمة:

كأنَّهُ بين شرْخَيْ رَحْلِ ساهِمَةٍ ... حَرْفٍ إذا ما استرقَّ الليل مأمومُ أي مشجوج. ورجلٌ مَمُومٌ: إذا أصابَه المُومُ. وقوله: (ورجوتُ خدمَته ليَخْدُمني الورى) البيت، من قول أبي تمام في أبي سعيد محمد بن يوسف الثغري: ومنْ خَدَمَ الأقوامَ يَرْجو نوالهم ... فإني لم أخْدُمْكَ إلا لأخْدما ومثله أيضا قول أبي جعفر محمد بن عبد الملك في الحسن بن سهل من قصيدة له: لم أمْتَدِحْكَ رجاءَ المال أطلبه ... لكنْ لتُلبِسني التحجيل والغُرَرَا ومن مدائح الأديب أبي العباس قوله: اللَّهُ أكْبَرُهذا وَجْهُ إسْحاقا ... هَذَا الهِلاَلُ وهذا الشمس إِشْراقَا هَذَا الإمامُ الذي طَابَتْ مَخَابِرُهُ ... وَطَابَ نَفْساً وأغْصاناً وَأَوْرَاقَا هذا الَّذي جِيدَت الدنيا بنائلِهِ ... وَأَوْرَقَ الصَّخْر مِنْ جَدْوَاهُ إيرَاقَا هذا الّذي أَمِنَ الفجّ العميق بهِ ... وطَيَّر الرومَ وَالصُّلْبَانَ إِشْفَاقَا هذا الذي هَجَرَ الأوطانَ مُحْتِسِباً ... في طَاعةِ اللَّهِ يُفْنِي العُمْرَ إِنْفَاقَا

يا فَرْحَةَ الثَّغْرِ بِالمَلْكِ المؤَيَّد بَلْ ... يافرحةَ الدِّين وَالدُّنْيا بإسْحَاقَا لمَّا تَجَلَّى رَأتْهُ عَيْنُ طَاعتنَا ... جَمراً فَأَعْضَاؤُنا قَدْ صِرْنَ أَحْدَاقَا لَكِنَّمَا مُقْلَةُ الإِذْفُنْشِ قَدْ شَخَصتْ ... فَمَا تُدِيرمن الإِطْرَاقِ حِمْلاَقَا في قَلْبِهِ مِنكَ نِيرَانٌ مُسَعَّرَةٌ ... تُفْنِي الجَوَانِحَ إِلْهَاباً وَإِحْرَاقَا نَزْلُ الجَحِيمِ أَتَاهُ قَبَلَ مَهْلَكهِ ... فإِنْ تَمَادَى بِهِ كُفْرٌ فَقَدْ ذَاقَا في أبيات غير هذه، وفي قصائده انطباع وتطويل، يشهدان له بالتقديم والتفضيل. وقد أثبت من كلامه في هذا الديوان ما يعذُبُ سماعُه، ويحسن استطلاعه. وكتب أبو النصر: أطال الله بقاء الأمير الأجل صفوة المجد الصميم، وغُرَّةِ الزَّمَنِ البهيم الذي استظهرتِ المعالي بعُلياه، وفَخَرَتِ الأواخر على الأوائل بِلُقْياه، للملك يُبْرئُه من أوْصابِه ويُبْقيه في قِصابه، ويَقيه من استلابه واغتصابِه. قد تحولت الرئاسة، أيدك الله، إذْ تحولت عنها حِوَلاً، وعاثَتْ فيها الأيامُ، وكانت لها خَوَلاً، فعادتْ كالأفْقِ غابت شمسه، والجسد ذهبتْ نفسه، والأنامل عَدِمَتْ ظُفْراً، والدِّيارِ الأوائل أصبح أهلها سفر المُحَصِّبِ غداة النَّفْر، أوْ كنصيبِ بَعْلِ ليلى بالجَفْرِ فهي تبدو كالمعصم فارقه السوار، والكِمام تساقَطَ عنه النُّوَّارُ. لا تتحركُ من سكونها، ولا تَأوي طيرُ الآمال إلى وكونها. وكيف

ينبسط انْقباضُها؟ ويرتَفِعَ بَعْدَكَ انْخِفاضُها، وكنتَ لها بدْراً فهَجَرْتَ مطلعها، وفُؤاداً فأقْفَرْتَ أضْلُعَها. وكمْ راقتْ بكَ صفْحَتُها، وهَبَّتْ بأذكى من المسكِ نفْحَتُها، حتى كأنَّ الشبيبَةَ حَشْوُ لِوائها، أو الغزالَةَ بعض أضوائها. فأجْفانُها عليكَ باكية، وإليكَ بَمَضََضِ الثَّكل شاكية. تتفجَّع على ملِكِ كانَ لها جَمالاً، وتتوجَّعُ على سِيَرٍ غَدَتْ لها يميناً وشمالاً. ولئن فارقت منها معهداً مألوفاً، ومشهداً بالكتائبِ محفوفاً، بما يبدو منها سِنَانٌ لامِعٌ، ولا يَغْدو لها مُطيعُ ولا سامِعٌ. وكيف يُؤلفُ جسمُ بغير فؤاد؟ ومَنَ يَرْكَبُ نُمُوراً بعد جواد؟ وما تركتها إلا بعد أنْ ألْحفْتَها بالبهاء، وأَجْرَيْتها إلى أمد الانْتِهاء. وقد تُهجَرُ نفائس الأعْلاقِ، وتبلى المليحة بالطلاق. ولم تُحَطَّ - أيدك الله - إنّما الملك حطَّ من فلكه، وعُطِّل منْ حُلى مُلْكِه. فالنُّجومُ إذا غارت أوْرَثتِ المطالع ارْتِداداً، وكستْها بعد الإنارة تعداداً. والتاج تضربه المفارقُ، ويَهُونُ بعده المفرقُ المُفارقُ، والشمس تتَهاداها المغارِبُ والمشارقُ. وله في المعنى وضمنها شكية. أطال الله بقاء أمير المسلمين، وناصِر الدين، الذي أشرق به الإسلام وأنار، ولاح به للعدل علم ومنار، للحقائق يجلو ظلامَها، ويُزيلُ عنْ يد الباطل زمامها. قد أوْلاَني - أيَّده الله - من إسْعافه، ووطَّأني من أكْنافه، وثنى إليَّ من عدله وإنصافه، ما عصم حالي من اختلالها، وشفاها من اعتلالها، فما تألَّمْتُ من حادث إلاّ شَفاه، ولا شَكَوْتُ من أمر كارثٍ إلا كفاه، والله يقارضُهُ بثوابٍ يعدو لديه حاملاً، ويجعله في الحشر كالئاً وكَافِلاً، بمنِّه.

ووقع - أدام الله تأييدَه - أمرٌ فزِعْتُ إليه في وقْعه، ورجوتُ إليه جبرَ صدعه، وذلك أنَّ فُلاناً، وفَّقه الله فيما جُعِلَ إليه، وأوضحَ له مُشْكِل ما يقع بين يديه، لم يَقْنَعْ منِّي مُنْذُ وليَ إلا بالتَّحَيُّفِ والاهْتضَامِ، والمثول بين يديه في المحاكمة والاِخْتِصَام، ولم يرض بوكيل يكون عِوضاً، وأجعلُ أمري إليه مفوَّضاً، فعدلتُ - أيدكَ الله - أحكامي عنه، وأَزَلْتُها منه، وآليْتُ أنْ أصرفها إلى منْ يُزيلُ تخْييلها، ويسْلُكُ بها سبيلها. وقد كان خاطبه القاضي فلان - وفَّقه الله - بعقودٍ، أَثَارَتْها غَوائِلُ وحُقُود، لَيس بها على مُثْبِتِها، ولَيْس عليه قبل تَثَبُّتِها. فلما أعادَ نظرها، وأجاد تدبرها، بان لديه تَدْليسُها، واستبانَ إليه تَلْبيسُها، فشاوَرَ، الفقهاء بالأندلس والعدوة، واتخذهم قادة وهو القدوة، فأجْمَعُوا على تَقْطيعِها، والتَّنْكيل لمُشيعِها ومُذيعِها. ونفذَتْ بذلك فتاويهم، واتفق عليها قاضيهم، فتلوَّمَ فلان المذكور في ذلك واشتمل عليها واحتوى، ثم زعم أنها ضاعت من مُسْتَوْدَعِه، وأُخِذَتْ من مرْفَعِه. وأنا أضْرعُ إلى أمير المسلمين - أيده الله - في مُخاطَبَتي بإِسْلامِها إليَّ، وصرفها عليَّ، والله تعالى يُبْقيه للعدل سِرَاجاً وهَّاجاً، ولا يُبقي به منَ الأمور اعوِجاجاً. وله في مثل ذلك: أطال اللَّهُ بقاءَ الأمير الأجل، ناصر الدولة، ومحي الملة، الحميد الشِّيِم، البعيد مناطَ الهمم خافقة، وآياتِ الأمل نافقة، لديه سنياتُ الأعمال، لو أنَّ النجومَ - أيدك الله - عن أفْلاكِها مُنْتَقِلَةٌ، وبمنازلها مسْتَبْدِلة، لَمَا اتَّضحت إلا في جَبِينِكَ، ولا ارتاحتْ إلا إلى يمينك. هذا ومنها الثُّريَّا والسِّماك، ومَطالعها بروجٌ وأفْلاك. فكيف لا تَحْتَشِدُ لديك الهمم، وتَرِدُ موارِدَ نداكَ الأممُ، ومَكَانها

حضيض، وليس لها إشْراقٌ ولا وميض. وإنِّي وإنْ كُنْتُ منْ هذا الصِّنْفِ الأرضي، والجِنْسِ البشري، فلي نفسٌ لا تقْنَعُ بمكانِها، ولا تقِرُّ إلا في مرفعِ كيوانها. فهي لا تُعَرِّجُ إلا على السُّها، ولا تتفرَّجُ إلا في سدرة المنْتَهَى ولذلك لم تُبد الابْتِسامَ إلا إلى مُلْكِك، ولم أرَ الانتظام إلا في سلكك، وقدْ سرتُ مسير الشمس، ولم يبقَ لي غَيْرُكَ من ملوكِ الإنس، فما استسغْتُ عند ملِكٍ لهم جيشاً، ولا وجَدْتُ رقيقَهم إِلاَّ خَيْشاً، فعَلِمْتُ أنّي في فنائك أستقر، وأنَّ عَيْني باجتلاء عينك تقر، فقوضتُ إليك رَحْلي، وبَشَّرْتُ بخِصبكَ مَحْلي، وجَعَلْتُ أخُبُّ وأخِذ، ولا ألْوي على منْ أجد، إلى أنْ فَرَغْتُ من الأرض وصحوتُ منْ سراها، وقُرِّبَتْ لي الفُلْكُ فقلتُ: (بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا) وما زلتُ بين قوادمها وخوافِيها، ألاحِظُ المنايا حيناً وحيناً أُوافيها، حتى حطَّ لي في جانِبِ حضرتِكَ الشراعُ والسَّفينُ، وآويتُ منها (إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ) فقلت (ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ) وقَدَّمْتُ كتابي بين يدي لقائي، وجعلتُه طليعة رجائي، ورَأْيُهُ - أيده الله - فيما يراه منْ تنويه الوصول، والتوجيه المأمولِ. إن شاء الله.

قال أبو إسحاق: لم يذكر أبو نصر في جوازِ البحر إلا ثلاثَ كلمات، وأعْرَضَ عن ذلك إعْراضَ الخاشع عن الملْهيات، وأمْسَكَ عنه إمساكَ الزّاهد عن الشهوات، وأيْنَ هو من قول أبي الوليد بن حزم طود الذكاء والفهم في أبي العلاء بن زهر حيث يقول: يا بن زُهرٍ طإِ الثريا عبيراً ... وحصى البيد لُؤلؤاً وعقيقَا وتلقَّ الهواء وهو طليق ... كمحياك حين تلقى الصديقا ما ترى الريح كيف هبتْ رخاء ... لك بعد الهبوب ريحاً خَرِيقَا وضحى البحر هيبةً لك لمَّا ... جئته سالكاً عليه طريقا غمَرَتْه من راحتيك بحارٌ ... صاح من وجهها الغريق الغريقا فَرِقَ اللج منه حين استطارت ... منه أحشاؤه فريقاً فريقا جُزْهُ ياابن الكرام أرضاً ذلولا ... أو فَقُدْه إنْ شئتَ طِرفاً عتيقا وانتض الحزمَ حيثُ كنتَ حساماً ... واصحب النُّجْحَ حيث كنت رفيقا

وتفيأ عُلاكَ ظِلاًّ ظليلا ... وتنشَّق ذكراكَ مسكاً فتيقا ومنْ قولالرُّصافي أبي عبد الله المنزه عن التعقيد والاستكراه، حيث يقول في هذا المعنى من قصيد فريد له في ملك متواضع أوَّاه: تسنَّم الفلكَ في شط البحار وقد ... نودين ياخير أفلاك العلا سيري فسرنَ يحملن أمر الله من مَلِكٍ ... بالله منتصرٍ بالله منصور تومي له بسجودٍ كلّ مَحْرَكة ... منها ويوليه حمداً كلّ تصدير لما تسابقن في بحر الزُّقاقِ به ... غادرن شطيه في شك وتَحيير أهزَّ منْ موجه أثناء مَسرور ... أم خاض من لُجِّه أحشاء مذعور كأنَّه سالك منه على وشلٍ ... في الأرض منْ مُهَجِ الأسياف مقطور من السيوف التي ذابت بسطوته ... وقد رمى نار هَيْجاها بتسعير ذو المنشآت الجواري في أجرَّتها ... شكلُ الغدائر من شكلٍ وتضْفير من كل عَذْراء حُبْلى في ترائبها ... ردْعانَ منْ عَنْبَرٍ وردٍ وكافور تخالُها بين أيدٍ منْ مجاذِفِها ... يَغْرَقْنَ في مثل ماء الورد مَبْخُورِ

ورُبَّما خاضَتِ التيارَ طائرُهُ ... بمثل أجْنِحة الفَتْحِ الكواسير كأنَّما عبَرَتْ تحْتالُ عائمَةً ... في زاخرٍ منْ ندى يُمْناهُ معْصورِ حتى رمتْ جَبَلَ الفَتْحَيْنِ منْ كَثَبٍ ... بساطعٍ منْ سناهُ غير مبْهور والقصيد طويل مستعذب في الأسماع والعقول. وكتب أبو النصر أيضاً: أطال الله بقاء الأمير الأجل شِهاب الرئاسة المُسْتَنارة، وحُسامها الماضي القرار، معْتلياً على أسلاكها، مُغْتدياً بين فرْقَدِها وسماكِها. كتبتُ، أيَّده الله، وقد حَلَلْتُ هذا الجَناب، ونزَلْتُ عن مُتُون الرِّكابِ، صادِراً عنْ قَلْعة حماد، وَمُسْرعاً إسراعَ الجيادِ إلى الآمَادِ. وعندي من التطلُّعِ إلى علائهما ما لو كانَ بجفنٍ ما رمَقَ، أوْ بلسانِ ما نَطَقَ، أوْ بنجمٍ ما ظهرَ، أو بفجر ما اشتهر. وقد كُنْتُ واليْت مطالعته منْ كلِّ أرضٍ، وقضيتُ منه كل سُنَّةٍ وفرْضٍ، وأعْلنْتُ بإشعاره إعلاني بالإيمان، وكَلِفْتُ بشِيَمِه الطاهرة كلَفي بطاعة الرحمن. وما زالتِ الأيامُ تعدُ لمفاوضَته وَتُمنِّي، وتُبْعِدُ سببَ مُداخَلَته وتُدْني، حتى قَرَّبْتُهُ تقريبَ اللفظ من المعنى، وصرتُ منه قابَ قوسين أوْ أَدنى، فَعَصَفَ قَدَرٌ أجْرانِي بحكمه وقضائه، وعداني عن اقتداء ذلك الحظ واقتدائه،

فأصْبحتُ في ديارِ بَكْرِ بْنِ وَائِل ... ونُزِعْتُ عنْ تلكَ الرُّبا والخَمائل. والآن أرْجو تقريب ذلك الوعدِ؛ إذْ كُنْتَ باقِياً على العهد. والأميرُ الأجلُّ يُحلُّني من اعْتِنائه مَحَلاًّ رفيعاً، ويَشْفَعُ الوِدُّ الذي اتَّخَذتُهُ بينَ يدَيْهِ شفيعاً. إنْ شاء الله.

فصل ومن أحسن ما كتبوا في صدور الرسائل

فصل ومن أحسن ما كتبوا في صدور الرسائل أطال الله بقاء الأمير الأجل، السيد الأفْضَل. وجوانِبُ أمره مَحْمِيَّة، وهِمَمَهُ عليَّةٌ، ومراميه في الكلامِ قصيَّة، وسيرته في الأولياء حفيَّة، والفجاجُ إلى سُؤدَدِه مَطويَّة، ولا زال له في كل فضيلة شُُفوفٌ ومَزِيَّة. كتَبْتُهُ، - أيَّده الله - من مدينة كذا، كمّا يجبُ من إجْلال قدرِه، وإجْمالِ ذكره، وَتَوَفِّيه والقيامِ بشُكْرِه. وقد علم - أيَّدَهُ الله - مالي في طَاعته المُمَهَّدة بعدْله، سقى الله أَكْنافَها، وأمَّنَ أَوْساطَها وأَطْرافَها. وفي المعنى: أطال الله بقاء الأمير الأجلِّ، وسَعْدُهُ حاشِدٌ حافِل، وصُنع الله تعالى لأوامره العلية كافل، ولا زال الأمنُ يَشْمَلُ بلادَهُ، والنَّصْرُ يَصْحَبُ أجْنادَهُ، والرُّعْبُ يُذْعِرُ أضْدادَهُ، ويكْثر سوادَه. كتبته عنْ طاعَةٍ أرْجو عند الله تعالى قرْضها، وأُقيمُ في السَّرِّ والجهرِ فرْضَها، والله المُسْتَعانُ على حِفْظِ حُدُودِها، وَمُراعاةِ مَواثيقها وَعُهودِها. وفي المعنى: أطال الله بقاء الوزير الأجَلِّ، السيد الأفضل، ومواردُهُ خيرة، وأيامه صاحيةٌ مُسْتَنْفِرَةٌ، والدُّنْيا بمحاسنِه مُفْتَخِرَةٌ. كَتَبْتُهُ أيَّدَهُ الله والودُّ تليدٌ، والعهد حميدٌ، والثَّناء مُبْدئ ومُعيد.

وفي المعنى: أطال الله بقاء سيدي الأكرم، ومنَادي الأَفْخَم، وسَنَدي الأعْصَم، وفسحَ مَهَلَهُ، وَتَمَّمَ آلاءهُ الحسْنى قبلَهُ، وأَنْهَضَهُ بأعْباءِ ما حَمَّلَهُ. كتبْتُهُ، وعندي لكَ البِرُّ الأَحْفى، والإِكْرامُ المُوَفى، وقَدْ توافتْ لَكَ كتُبٌ كثيرَةٌ، ومُطالَعاتٌ خطيرَةٌ، واصلْتَ فيها الاهْتِمامَ، ووَفَّيْتَ الذِّمامَ. ومثلُكَ - ولا مِثْلَ لكَ - حفظ عُهود الإخْوان، وعلم أنَّ حُسْنَ العهد منَ الإيمان. وفي المعنى: سيدي الأعْلَى، وظهيري في الجلَّى، لا زالت الخيراتُ إليْكَ وافِدَةً، والمَسَرَّاتُ عليْكَ وارِدةً، ودُمْتَ وأيَّامَكَ وأوْطارَكَ مُساَعِفة مساعِدة. سيدي الأعْلى، وظهيري الأعزَّ الأحْمى، وصفي الأكْرَمَ الأولى، تمليتَ النُّعْمى، واجتَلَيْتَ الحسناءَ والحُسْنى، وبلَغْتَ منَ الدارِينِ الحظَّ الأسْنى، ولا زالتْ آمالُك تتَيَّسَرُ وتتَسنَّى. وفي المعنى: أطال الله بقاء الفقيه الأجل، المُشاوَر الأفضل، كبيري الموقر المُبَجَّل، مَحْمِيةٌ أرْجاؤه، متَأتِّيةٌ أَوْطارُهُ وَأهْواؤُهُ، عَبِقاً ذِكْرُهُ وثناؤهُ، ولا زال معْموراً بالآمال ذُراه وفِنَاؤهُ. وَكَتَبْتُهُ، أدامَ الله عِزَّك، عنْ مصافاةٍ في ذاتِ الله معقودة، وموالاةِ على البرِّ والتقوى مشدودة، وأنْديَةٍ بمحاسنه مشهودة، ومظاهرةٍ بقيادته معضودَة، والله، عزَّ اسمه، يتكفل بسجاياه المحمودةِ، ويُجزيه أعلى مراتبِ شفوفه المعهودة. وفي المعنى: أيَّدَ الله الفقيه الأجلّ، الإمام الحافظ الأكمل، قاضي الجماعة الأورع الأفضل، بعصمته وتقواه، وجعله في كنفه المنيع وحماه، وتولاه بالحياطة فيما

يتولاه، وكافأه على جميل نظره وصالح مسعاه، ولا زال متقلبا في رحمته ورضاه. آخر: أَيَّد الله الفقيه الأجَلَّ الإمامَ الأوحَدً قاضي الجماعةِ، وأَعَدَّ لهُ كرامَة الأبرار، وأَخلَصَهُ بخالِصة ذكرى الدَّارِ، وأَدامَ الحقَّ به عَالِي الشِّعَار، والعَدْلَ واسِعَ المضْمارِ، مُنْتَشِرَ الأنوار. كَتَبتُه، وأنا أُبِرُّهُ وأُعْظِمُهُ، وأُوجِبُ حَقَّهُ وأُقَدِّمُهُ وأُوفي شُكْرَهُ وأُتَمِّمُه. آخر: أطال الله بقاء الرئيس الأجل، الزَّعيم السيِّد الأفْضل، لابتناء سُؤدَدٍ ومَجْدٍ، واقتناء شُكْرٍ وحمدٍ. ولازال أوْفى الناس بذمة وعهدٍ. كتبته، والشوق في نحْرِه مبتدِرٌ، والقلبُ في أمْرِه منْحدرٌ، وقد كان الزمان بأنْسه استدار وأشرق به الأفق ونار، وزار الفضْلُ كُلُّه حين زارَ، ثُمَّ اسْتَقَلَّ ظَاعِناً بِظُعُنه وسارَ، فلا جرمَ أنَّ العيشَ استحال، وأنَّ الليل على قصره طال: وما ذُقْتُ طعْمَ الماء إِلاَّ وجدتُهُ ... سوى ذلك الماء الذي كنْتُ أعرف وفي المعنى: سيِّدِي وكَبِيِري ووَلِيِّي، وظهيري الذي أُعِدُّهُ لِمُهمَّاتِ أُموري أعزَّكَ الله بالتقوى، وأوْردَك من رضاه المنهل الأرْوى، وأسْبَغَ عليك النُّعمى، وجعَلَكَ وإِيَّايَ في كنفه الأحْمَى. كتبْتُه كما يكتُبُ الصديقُ شاكراً لما أَوْلَيْتَني منْ مُشارَكَةٍ بَرَّه، ومُكارَمَةٍ ثَرَّه، وقد تقَدَّمَ ذلكَ غير ما مَرَّه.

وفي المعنى: سيدى الأعْلى، وعِلْقِي الأنْفسَ الأغْلى، الذي أَزُورُ منْهُ على البُعْدِ أكْرَمَ مَزُورٍ، ويَحُطُّ الشوقُ شخْصَهُ في الضمير حطَّ حقيقةٍ لا حطَّ زورٍ، وبقيتَ موفي حُقوقَ المبَرَّة غير منزوفٍ ولا منْزُورٍ، ولا زلتَ موجودَ المشارَكَةِ والاهتبال، ماثلاً في كلِّ خاطر وبالٍ، تَجْبُرُ مهيضاً، وتَسْتَفيدُ الشكرَ والأجرَ عريضاً. وفي المعنى: أَيَّدَ الله الفقيه الأجلَّ، الإمامَ الأوْحدَ الأكْمَلَ، قاضي القُضاةِ الأَقْصى الأعدل، تأييدَ وليِّ أجمع على محبَّتِه الأَهْواء، وقَيَّضَ لَهُ في العدل والسياسة الظهراء، وما زالَ علمُهُ يُقْتَبَسُ، وذِكْرُهُ على الأسماء يُحْتَبَسُ، ومَحَلَّهُ الجليلُ يُعَظَّمُ ويُقَدَّسُ. وفي المعنى: أطال الله بقاء الفقيه الأجل، الإمَامِ القاضي الأفْضل، هَضَبَة السُؤْدَدِ والحِلْمِ، وحاملِ لِوَاءِ المجدِ والعلم. والعدلُ يعْتَصمُ بناديه، والفَضْلُ يتَّسِمُ بواديه، ولازالَتِ البشائرُ تَسْتَقْبِلُ وافِديه، وتَرُوحُ وتَغْدو إلى رائحه وغاديه. وفي المعنى: أطال الله بقاء الفقيه الأجل، وثَنَاؤُهُ يَعْبَقُ، وَشَأْوُهُ في المجد وغاياتِهُ يَسْبٍِقُ، ولا زالتِ الأيامُ في اعْتِلائه وارْتقائه تتَأَنّقُ، ووجْهُ أُفْقِه يَتَألَّقُ ببشره ويتَطَلَّقُ. وفي المعنى: سيدي الأعْلى، ومُعْتَمِدي في الجُلَّى، المقَلَّدُ المُنْتَضَى، والعمادُ المرْتضى، الذي ارْتاحُ لذكره الأرِج، واجْتَلى منْ ذكره كلَّ مُبْهج، لا زال أمركَ رشيداً، ونظرك سديداً، ووطْؤُكَ على أهل العُقُوقِ شديداً، ومَداكَ في كل صالِحَةٍ بعيداً، وذكْرُكَ، أَعَزَّكَ الله، يَجْري، والخبَرُ يَثْبُثُ ويَسْري، وتذكر أخلاق الفتى وهو لا يدري.

وفي المعنى: أطال الله بقاءَ السَّيِّدِ الشَّريفِ المُشْرِقِ منْتَماهُ، الطَّيِّبِ مُعْتَزاهُ، الباهِرِ مَجْدُهُ وسناه، ودُرَرُ بيانِهِ تتقَلَّد، وغُرَرُ لِسانِهِ تَعْمُرُ عُمْرَ الدَّهْرِ وتَخْلُدُ، ولا زالَ قُدْوَةَ عِلْمٍ، وهَضْبَةَ سُؤْدَدٍ وحِلْمٍ. وفي المعنى: أطال الله بقاء رئيسي الأَسْنى، المأْنوسِ المَغْنَى، مُرْتَدِياً بالنصر، مُعْتَلِياً على مَفْرِقِ النَّسْرِ، قد هَبَّتْ نوافِحُ معاليكَ، أيَّدَكَ الله، فَطابَ مَسْراها وَوَكَفَتْ سَحَابُ أياديكَ، فصابَ نداها بنسيمِ تلْكَ مدى الأيامِ عاطرٌ، وغَمامِ هدىً على الأنامِ ماطرٌ. وفي المعنى: سيدي الأعلى وعمادي الأسنى، ومَشْرعي الأصْفى، وحظِّي الأكرم الأوفى. لا زِلْت ظافِراً بآمالِكَ، وممَتَّعاً بذويكَ وآلِكَ، محْفوظاً من المكاره في نفسك الكريمة ومالك. كتبتُهُ يا أَهْلي عن العهد الأكرمِ، المُوَثَّقِ الذِّمَمِ. يا سادَتي الأخِلاَّء، وإخْواني الأصفِياء، وأهلَ مَوَدَّتي الأوْفياء الكُرَماء. أدامَ الله لكمُ البُشرى وافية، وأوْرَدَكم موارد النُّعْمى صافية، وألْبَسَكم ملابس الكرامة سابغة ضافية. كتبته شاكراً لصِلاتكم، ومتحقِّقاً فَضْلَ مُسَاهَمَتِكم وموالاتِكم. أيُّها الأخُ الصميمُ، والوليُّ الحميم، والماجدُ الكريمُ حالَفَكَ السقيُ العميمُ، وعاقَدَكَ التَّرْفيعُ والتَّعظيمُ، ولا برَحَتْكَ النَّضْرةُ والنعيمُ، وسقى بلداً أمْستْ به عُلاكَ تحُلُّهُ منَ المُزْنِ ما تروي به وتشيمُ.

فصل ومن أحسن ما كتبوا في استفتاح الصداقة

فصل ومن أحسن ما كتبوا في استفتاح الصداقة قديماً تواصل الناسُ على البُعْدِ، وتهَادَوا ثَمْر الإخلاص عن الود، وإنْ لَمْ يَتَقَدَّم سببٌ موجِبٌ للتواصل، ولمْ يَرِدْ رائدٌ مُقْتَضٍ للتَّراسُلِ، وما أَقُول إنَّ مُخالطةً تمَكَّنتْ لا سببَ لها، ومباسطة تهدَّتْ لا باعِثَ عليها. فإنَّ جُنُوحَ النفس لاسْتِصْفاءِ الفُضَلاء، واقتناء موداتِ الأولياء، أقوى أسبابِ الارتباطِ، وأَرْعى أبوابِ الاخْتِلاط. ومحالٌ أنْ تَنْجَذِبَ نفسٌ، إلى منْ ليسَ لها به أُنْس، أوْ يَكْلَفَ ضميرٌ بمن ليس له به حظٌّ موفور. وقد تَحَلَّتْ مُخَاطَبَتِي إيَّاكَ، بحَلْي المحبة فيك، والمعرفة بجميل مذَاهِبِكَ ومَسَاعيكَ، والرَّغْبَةِ في اقْتِناء خُلَّتِكَ، وادخار صداقتكَ، لما اشتهرمنْ أحوالكَ الجميلة، وظهر منْ خلالكَ النَّبيلة، ومن كان على ما أنْتَ عليه، فَمَرْغُوبٌ فيه، مُنْجَذبٌ إليه، مَطْلُوبٌ إخاؤه، مَخْطُوبٌ صفاؤُهُ، مَحْبُوبٌ على البِعادِ، مُفْدى حتى منَ الأَضْدادِ. وفي المعنى: إِنْ كانت المعرفةُ لمْ تَحِقَّ، (فكم أثر أهدى منْ عيْنِ)، (وكمْ خَبَرٍ أَغْنى عنْ خُبْر). وإنْ كانت الأُلْفةُ لمْ تتفِقْ. فَرُبَّ طارِفٍ حديثٍ، أكْرَمُ منْ تالِدٍ مَوْروثٍ. ومنابِتُ الفضْلِ باسِقَةُ الفُروعِ، حميدَةُ الجميعِ، طيِّبَةُ الجنَى، جميلة المَخْبَرِ والمرأى، لا تروقُ إلاَّ بما يَرِفُّ، ولا تُثْمِرُ إلاَّ بما يشِفُّ. وأنْتَ أعزَّكَ الله، في أطْيَبِهَا مَعْدِناً، وأكْرَمِها مَوْطِناً، ومنْ أزْكاها مغرساً، وأسْراها منْبِتاً، ولا يَرِدُ منكَ إلاَّ ما يعْبَقُ نسيمه، ويلَذُّ شميمهُ، ويروقُ منْظره، ويفوقُ مخْبَرُه، وما زِلْتُ

أعْرفُ لكَ الحقَّ الوكيد، والسبْقَ البعيد، والسعي الحميد، والقول السَّديد. فلاشَكَّ أنَّكَ غُرَّةٌ في وجه الدهر البهيم، ومعْذِرَةٌ من إساءةِ هذا الزَّمنِ المُليمِ؛ فما أَخْطَأَتْ عنكَ الفراسَةُ، ولااخْتَلَفَتْ فيك الرِّئاسة؛ بل أَوْفيتَ على المقدار المظْنونِ، وأَتَيْتَ منْ وراء المُتَيَقَّنِ المضنونِ. ولئنْ أخَذْتُ في ذكرِ فضائلِكَ، أوْ عَطَّرْتُ كلامي بطيبِ شمائلكَ، فلسانُ الأيامِ بها أَفْصح، ولها أَشْرح، وإنْ عدلْتُ إلى وصفِ ما أَعْتَقِدُه فيك وأُضْمِرُهُ، وأَطْويه من ودادِي لك وأَنْشُرُهُ، فشاهدُ الضمير بها أَنْطَق، وعنه أصْدَق، فليس إلا الإتفاقُ والإصطلاحُ، على ما تتناجى به النفوسُ والأَرْواحُ. وفي المعنى: وربَّما تَهَيَّأَتِ الصداقة، وتَمَكَّنتِ العلاقة، على تنائى الدِّيار، وبُعْدِ الأمْصارِ، بالأخْبارِ السائرة، والأنْباء المُتَواتِرَة ببارعِ المناقِبِ، وباهِر المذاهبِ، وجميل التَّناسُبِ، وسامي المنازلِ، وجميل الفضائلِ، فتتعارَفُ القُلوبُ ويَجْمَعُها عِقْدُ الوِدادِ، وإنْ تناءتِ الأشخاص في البلاد، وينْتَظِمُ سِلْكُ الصفاء، وإنْ لم يكنْ سبيلٌ إلى اللقاء. وقد خَطَبْتُ وِدَّك، ورجوت أنْ أجِدَه مُوَطَّأَ الكنَفِ، مُهَيَّأَ اللُّطفِ، سلسَ الزمامِ، سهل المرامِ، لما فضَّلَكَ الله بضروبِ من المفاخِر وصنوفٍ من المآثِرِ، تتأمَّلُها أَعْيُنُ النُّظَّار، وتتحَمّلها أَْلْسُنُ الأخْبارِ، ويَخُطُّها سوادُ الليل على بياضِ النَّهارِ، ويُحَدِّدُ بها حادي الرفاق إلى أقاصي البلاد والآفاق، ويسري بها سَراة الرُّكْبانِ، إلى أقاصي البُلْدانِ، حتّى لقد أَسْمَعوها كل أُذْنٍ صمّا، وأَرْوها كل عيْنٍ عمْيا. فألْويةُ الحمد عليك خافِقَةٌ، وأَلْسِنة المجْدِ بفضلك ناطقة. والله تعالى يُبْقيكَ للمكارم نظاما، وللأفَاضل إِماما، بِمَنِّهِ. وفي المعنى: إنْ كانت المُداخَلةُ بَيْننا لم يُفْرجْ لها بابٌ، ولا عَلِقَتْ بها أسْباب، ولا رُمِيَ

لها في مُحَصَّبِها جِمار، ولاعَطَفَ بنا نحوَ كَعْبَتِها اعْتِمارٌ، فقد جمعتنا في معرف المعرفة مواقفُ، وضَمَّتْنا من معالم العلم معاهدُ ومآلف، ووشحتْ بيننا منْ أواصر الأدَبِ أَنْسابٌ، وضَرَبَتْ علينا في مدارس الطَّلَبِ قِبابٌ، ولا غَرْوَ من تداني القلوب على تنائي الدِّيَاِر، وائتِلافِ النفوس مع اخْتلاف النِّجار، فقد تتعارفُ الأندادُ على البعاد، وتتناكَرُ الأضدادُ مع قربِ السوادِ والوسادِ، ورُبَّما أَلَّفَ تشاكُلُ الشيم والأخلاق، بينَ مسْتَوْطِنِ الشامِ وساكن العراق، وقديماً حنَّ زَهْرُ الغَوْرِ إلى نسيم نجد، وامتزَجَ عنْبَرُ الشِّحْر بمسكِ الهند، على أني لا أدَّعي رُتْبتكَ في فنونِ العلم والآدابِ، ولا أتَعاطى إلاّ بشرط القياد والأصْحابِ، ومنْ يُضاهي محَلَّ الفرْقَدِ، بِمَنْبِتِ الغَرْقَد، ويُشَبِّه رُتْبَةَ التَّقليد، بدرجة النَّظر والتوليدِ، أوْ يُقارِنُ بينَ الالْتِباسِ والبيانِ، ويعارضُ قوة القياس بضَعْفِ الاستِحْسان؛ لكني وإنْ لم أعُد في رعيلك، ولا أضيفُ مُبْرَمي إلى سجيلِكَ، فعندي منْ بضائعِ الكَلِمِ ما ينْفُقُ في سوقِكَ، ولدي منْ سوامي الهِمم ما يَعْبَقُ بِبُسوقك، ولعل بعض كلامي يمدُّ في ذُراكَ، ويحْظى برضاك، ويصادفُ عندك رأياً جميلاً، ويستوقف لحظك ولو قليلا. بقيتَ حلْيَة للدهر فائقة، وغُرَّةً في وجهه رائقه. وفي المعنى:

أَمَا وأحاديثُ فَضْلِكَ صحيحَةُ الإسْنادِ، وأَدِلَّةُ سرْوِكَ قوية العماد، ومطالعُ عِلْمِكَ وفهمِكَ ساطعة الأنوار، ومناهِجُ هدْيِكَ وسَعْيِكَ واضحةُ الصُّوى والمنارِ، فلا عَجَبَ أنْ تَحُومَ على سُرْعَةِ مداخلتكَ حوائمُ الأَلْباب، وتَنْتَهِزَ في الْتِماسِ مواصلَتِكَ فُرَصُ الدَّواعي والأسباب، ولم أَزَلْ مولعاً برائقِ صفتك، ومُلْتَمِساً سبب معْرِفَتِكَ، حِرْصاً على التَّجَمُّل بِحِلْيَتِكَ، ورَغْبَةً في التَّيَمُّن بصلتك، لأنكَ، والله يُبْقيكَ، أحقُّ منِ احْتُذِيَ على مِثاله، واقتُديَ بصالح أعْماله، واستقرتْ آثارُ البِرِّ في مواقِعِ خطاه، وانتسخَتْ أخْبارُ الزُّهد والقصد منْ صحائف هُداه، وأَجْدَرُ بمن اتَّخَذَ صاحباً، وسلَكَ منْ سُبُلِكَ أثراً لاَحِباً، أنْ يأمنَ في جدك مسالِك العثار، ويعْدَمَ في جوارِكَ نقْعَ الفِتَنِ المُثارِ، والله تعالى يُبْقيكَ لأشْتاتِ الفضائل نظاماً وفي كل صالحة إماماً، ويوسِع النعمة بك وفيك سبوغاً وتماماً. ولمَّا اتَّفَقَ شخُوصُ فلان إلى الحضرة، وعلِمْتُ أنَّ انْجذابه إلى جَنَباتِكَ، ووَعَيْتُ عنه جُمَلاً حساناً من صفاتِكَ، رأيْتُ أنْ أصحبه خطاباً، وأَمُدَّ في ساحة الانْتِظامِ طُنُباً وأسباباً، حِرْصاً على أنْ يتَوَكَّدَ في ذاتِ الله إخاؤنا، وتتفق في سبيل مرْضاتِه وطرُقِ طاعاته أَنْحاؤنا، وحملته مع ذلك من لطائف الحمْد، ومخائل الود، ما إذا أعرته ناظرَ تأملك، وصادِقَ تحمُّلكَ، عَلِمْتَ به خُلُوص ضميري، وصفاءَ نميري، وسلامة عُهودي، ودمانةَ تهائمي ونُجُودي. وفي المعنى: كتبتُه عن ضمير انْدَمَجَ على سِرِّ اعْتِقادكَ صدرُهُ، وتَبَلَّجَ في أُفْقِ ودادِكَ بدْرُهُ، ومالَ على صفحاتِ ثنائكَ مِسْكُه، وصار في راحتكَ مِلْكُه. ولما ظفرْتُ بفلان، حملتُه منْ تحِيَّتِكَ زهراً جنِيَّا، يوافيكَ عرفُه ذكيَّا، ويقضي منْ حقكَ فرْضاً مقْضيّاً، على أنَّ شخصَ جلالِكَ لي ماثِلٌ، وبينَ ضلوعي نازلٌ، لايَمَلُّه خاطر، ولا يحلُّ عقده ناثر.

فصل ومن أحسن الجواب على أنواع هذا الخطاب

فصل ومن أحسن الجواب على أنواع هذا الخطاب مرحباً بك أيُّها البَرُّ الفاتحُ، والرَّوْضُ النافحُ، فما أحْسَنَ توَلُّجكَ، وأعْطَرَ تأوُّجكَ، لقد فتحتَ بالمخاطَبَة باباً طالَ ما كنْتُ له هيَّاباً، ورَفَعْتَ حجاباً تركَ قلبي وجَّاباً، وما زِلتُ أحومُ عليها شَرْعَةً، فلا أُسيغُ منها جَرْعَة، وأُغازِلُها أمَلاً، فلا أُطيقُها عَمَلاً، وأُلاحِظُها أمداً، فأموتُ دونها كمداً: وفي تعبٍ منْ يحْسُدُ الشمسَ نورَها ... ويطمع أنْ ياتي لها بضريبِ إلى أنْ وردني كتابُكَ الخطير، مشْتَمِلاً على ضربِ من الكلام، رائعِ الإعلامِ، يقربُ منَ الأفهامِ، ويَبْعدُ نيله عن الأوهامِ، قد أرْهفَتَ نواحيَه بالتَّهْذيبِ، وطَرَّزْتَهُ بكلِّ معنى غريبِ، وحسَّنْتَ معانيه باللفظ الرائعِ المهيب، فازْددْتُ به تهيباً ورُعْباً، وعاينْتُ منه مركباً صعباً، وقُلْتُ التغافُلُ عن الجوابِ، أوْلى بذي الصوابِ، إذْ ليس بأديب مَنْ يقيسُ الشِّبْرَ بالباعِ، والمُدَّ بالصاعِ، والجبانَ بالشُّجاعِ. فمن طلبَ فوقَ طاعته افتَضحَ، ومن تعسَّفَ الخرق النازح رزحَ، ومنْ سبحَ في البحْر فكم عسى أنْ يسْبَحَ، لاجرمَ أنَّهُ اقتضى في المراجعة صديقٌ لنا، كريمٌ علينا، لم يلْتَفِتْ إلى معذِرةٍ، ولاسمحَ في نظْرِة، فتكلَّفْتُها بحُكْمِ عَزَمْتُهُ تحت قراحٍ خَصَرٍ، ونازح

بَصَرٍ. فقد يَكْدِي على علمك الخاطر، ويخْوي النجم الماطر، ورُبَّما عادَ اللَّسِنُ في بعضِ الأوقاتِ لكناً، والجوادُ كودناً، وبحْرُ القريحة ثمداً، وَحُسامُ الذِّهْنِ معْضَداً؛ فإنْ تَفَضَّلْتَ بالإغْضاءِ، وسامَحْتَ في الاقْتِضاء، وسلمتْ لكَ في اليدِ البيضاء، وبرزت لشكركَ في الفضاء، واجْتَليَت منه، أدام الله عزَّكَ، بمعنى تعذر تلاقينا عند قرب تَدَانِينَا، فُصُولاً حِساناً، حَسِبْتُها بُرْهاناً، ورأيْتُ السِّحْرَ الحلالَ عِياناً؛ ولئنْ اعْتَرَضَ عائقُ الزمان منْ دون ذلك الأمل وقد عادنا من أَمَمٍ، وصار أَدْنى منْ يدٍ لفمٍ، فإنَّ نفوسنا، بحمد الله، في المقاصد والأغراض، مُتَلاقيةٌ على موارد الإخلاص والإمحاضِ، واللهُ تعالى يحفظُ جواهرنا من الأعراض، ويصونها من الاِنْتِكاثِ والانتقاضِ، بمَنِّه وطوْلِهِ، إنَّهُ على كل شيء قدير، بيده الأمرُ والتَّدبيرُ، وأمَّا ما جَلاهُ سيدي منْ صورةِ الوِدِّ، في معرض الجِدِّ، فقد ثوى بينَ الجوانح محلالاً يؤمُّ الدهرَ عقده حلاًّ، ولا يزالُ حبي في رعيه مُسَهَّداً، وقلبي لصونه ممهداً، إنْ شاء الله، وأقرأ عليكَ، يا سيدي المُعَظَّم، في خلَدي سلاماً شريف النِّصابِ، كريمَ الأحسابِ. والسلامُ الأَتَمٍّ على سيدي الأعظم، ورحمة الله. وفي المعنى: أهلاً بمَجْدكَ النافح، وودك المُصافح، الذي سفر عن الأُنْسِ مُحَيَّاه، وبعثَ إلى النفس نفسَ السرورِ وريَّاهُ، ففعمَ أرْجاءها، وأولاها رجاءها، وإني بِمُفاتَحَتِكَ لأسَرُّ من حاتم بالضيف، ومن الهائم بالطيف، كما أني بحُلَّتِكَ أغْبَطُ منْ عمرو بالصمصامة، ومن المحْلِ بصوب الغمامة، فخذني في زمام ودادك منْقاداً، وأطْلعني في سماء اعتقادكَ كوكباً وقَّاداً، لا يَغُورُ ولا يغيبُ، ولا يَحْجُبُهُ أبداً

عنكَ مَغيبٌ، ودونكَ منْ صفائي منها لا يُحَلَّأُ وارِدُهُ ولا تُكَدِّرُهُ موارده، ومن إخْلاصي غُصْناً لا يُدْرِكُه ذبُولٌ، ولا تغِبّه صَبَاً للتَّعاهُدِ ولا قَبُول، بحول الله تعالى. وكتب أبو عبد الله بن أبي الخصال مجاوباً لمستأذن في الزيارة: أيها الساطعُ نشراً وأرجْ ... كيفَ يستأدننا منْ قد ولجَْ كيف يستأذن مَنْ مسكنُه ... في عيونٍ ونفوس وُمهَجْ ما على المسك ولا البدر ولا الصب ... ح من اذْنٍ إذا الصبحُ انبلجْ إنما أنت سنى تهدي شذىً ... في سنىً بالقلب والروح امتزجْ وافتني لسيدي وظهيري، لازالت هممهُ تعلو الهمم وتفوتها، ونفائسه تغذو النفوس وتَقُوتُها، رُقْعةٌ خلعَ عليها سناهُ، وعُنيت بحوْكها يُمْناه، فجاءتْ كالحلة يضاحكُ الشمس إبريزُها، ويُحاسِنُ الروضَ تَفويفُها وتطْريزُها. بدائعُ ينْحَطُّ عن ذرْوَتِها البديعُ، ويقتبسُ من جذوتها الأشقر الصديع. سامرها الأدبُ مُعيناً، وخامرها الطبعُ مَعيناً، فجلاها حوراً عيناً؛ فلله طِرُسُكَ وما نسق، وبرُّكَ لقد علا وبسقَ. وأهْلاً بكَ منْ عريقٍ سبق، وسليلِ خَطّي صَدَقَ. لَشَدَّ ما استوْليْت

على مداكَ، واستويت إلى سماء مُنْتَداكَ، وتَقَيّلتَ أباك وطعنت في ثغر النحور عداك ولعاً لك من منتم إلى سابق لم يلحقه عثار، ولا شُقَّ له غُبار. وحبذا مُنتماك. لقد ذكر جِواراً، وحرّك من عهدنا الماضي حِواراً. لا جرم أنَّ عهدي بك ناضرٌ، وإنَّه بك على الغيبة القصية حاضر، وياماء من أنبأكَ أني صادٍ، ويا صُبْحُ قد كانت عيني لك بمرصاد. ومُحالٌ أنْ يستَأْذن على النفس مُناها، وعلى الكبد الحَرَّى ريها وبشراها، وعلى العين الساهرة كراها: أنت الكرى مؤْنساً عيني وبعضهمُ ... مثل القذى مانعاً عيني من الوَسَنِ ورعى الله داعياً إلى البِرِّ دَعا، ورحم الله منْ نبتَ على دِمْنَتِهِ المَرْعى. وأقرأ عليك سلاماً هو المسك فتيتاً، والدُّرُّ نظيماً وشتيتاً. يواليكَ مقيلاً ومبيتاً. والسلام المجدد المردد عليك، ورحمة الله وبركاته. ولغيره: أما البلاغة فأَنْتَ ابن بَجْدَتِها، وأمَّا الفصاحة فأنت لا بسُ بُرْدَتِها، وأما البراعة فأنتَ رافعُ عَلَمِها، وممْسِكُ بعِنانها وقَلمِها، ولا غَرْو فمنْ غُذِّيَ بصفْوِ الأدبِ، ورُقيَِّ منه أسْنى الرُّتبِ، أتى منَ الإبداعِ بالعجبِ العجيبِ، وتقَنَّص شأْوهُ بالسَّهْمِ المُصيبِ. ولَمّا فَضَضْتُ ختامَ كتابِكَ الخطير، وتأمَّلْتُ ما أوْدَعْتَهُ منه في السطور، رأيْتُ بدائعَ دوتها السحر، ولآلئُ يُزْدهى بها النَّحر، وغرائب يَعذب بها لو مازجه البحر؛ فاعترفت إليكَ بالتَّقصير، وقلت أنَّى يقاسُ السُّها

بالبدر المنير. وماكفاكَ، أبْقاكَ الله، حتى قابَلْتَني بما لو قوبلتْ به النُّجومُ لانْحَطَّتْ إليْكَ منْ سمائها، والغيومُ لتَرَقْرَقَتْ عليكَ منْ أرْجائها، أوِ السَّمومُ لسمحتْ بنسيمِها وأنْدائها، وذلكَ ما أَبْدَيْتَهُ مما أَدَّيْتَهُ، بلْ أَهْدَيْته من تلكَ الرسالة المطبوعة المساق، الغريبة الازدواج والاتِّفاق، التي أنت رَبُّ قلائِدها، وأَبُو فوائدها، وولي خرائدها، وواحد أقرانه جلالة، وقريعُ دَهْرِهِ جزالة، ونَسيجُ وحدِهِ أصالةً. فالحمد لله الذي أخْطَرَني ببالِكَ، وعرضني على اهْتِبالِكَ، ولله زمانٌ سبَّبَ فتحَ باب مُخاطَبَتِكَ، وأوانٌ خلعَ عليَّ حُلَّةَ مواصَلَتِكَ، ومازالَ وُدُّكَ في طي الجوانح، وإنْ شطَّ المزارُ، وعيانُكَ في أنْحاء الضلوعِ، وإنْ نزحتِ الديارُ، وقد تقحمتُ لمُجاوَبَتِكَ لُجة، وآثرْتُ بمعارَضتكَ ما هو على حُجة، لا زال جدُّكَ مُقْبلاً، وسعدُكَ مُتَّصلاً، بمنه. والسلام.

فصل ومن أحسن ما كتبوا إلى الإخوان وأطلعوه من غرر البيان

فصل ومن أحسن ما كتبوا إلى الإخوان وأطلعوه من غُرر البيان يا سيدي، وأعظم عَدْوِي والعِسْقَ الخطير في مُعْتَقَدِي. الحميد عَهدُه، الوكيدَ على مرِّ الأيام عَقْدُه، ومنْ أبْقاه الله قريبَ المُراد، خصيب المَرَاد. وَرَدَني، أَعَزَّكَ الله، كتابُكَ الأثير، والنَّفيسُ الخطير، فَسَّر بما أَهْداهُ منْ صلاح حالِك، كما أَساء بما أَدَّاه من اشتغال بالك، بإعْياء المذْهَبِ، في سوء المطلب، وما سدّ الله باباً، إلا فتح أبْواباً. فَهَوِّنْ على النفس العزيزة أعاد الله أُنْسها وانْسَ فَوْتَ مالم يُحْتَم، وتعذرَ مالم يُقْسم، ولا تكترثْ لِسهمٍ أَخْطأ، وحظ أَبْطأ، فما كلُّ ساع يحظى، ولا كل غريم يقضى، ولا كل سهم يصيب، واذكر قول حبيب: وقد يكهم السيفُ المسمى منيةً ... وقد يرجع المرءُ المظفَّر خائبا فانتض، أعزَّكَ الله، منْ أثوابِ الغُربَة، إنَّكَ غير مملولُ الصحبة، وتنزَّهْ عن نوال المذلة، رُبَّ مكثرٍ بعد قلَّة، وانصرف راشداً، ولا تَهبْ حاسداً، فالحاسد لئيمٌ، والمحسود كريم، وأَقْبِلْ إليَّ، مُغْتَبِطاً بما لديَّ، فحالي حالُكَ، ومالي مالك، لا يخونك عُسْر، ما دام لي يُسر:

ولا تُتْبع التثريبَ نَفْساً جَهِدْتَها ... على فوتِ حظٍّ نيْله لم يُقَدَّرِ فَقَدْ يخلف المطلوب ما ظنَّ مُعْذِرٌ ... وتجني المُنى عفواً يمينُ المعذِّر إذا كنتَ في قَدْر الدَّراريِّ رِفْعةً ... فقل لليتامى رُب نُجْحٍ مقَهْقر ولا تَيْأَسَنْ من عودة الدَّهْر إنَّه ... يُمِرُّ ويُحْلِي ليسَ هذا بمنْكر وما تتَّقِي منْ شامتٍ عند نبوةٍ ... وَحدُّك أَمْضى منْ فُتور بأحْور ولا عارَ في تقصير جَدٍّ بسَائِقٍ ... إذا لم يكن في باعِه بالمُقَصِّرِ ذَرِِالهَمَّ في الأعْراض إن أَعْرَضَ القنا ... بجوهر فهم يزدري كلَّ جوهرِ ففي كفِّكَ اليُمْنَى يسيرٌ من المنى ... إذا أعْسرتْ كفُّ الغنيِّ بمُعْسِرِ وفي سحرك المنظومِ تعجيزُ بابلٍ ... وفي وَشْيِكَ المرقومِ تكسيرُ عبقرِ أدال الله يدي من بينك، بأوْبةٍ يُقَرِّبُها لمحُ عيني وعينك، وَحَرْسُ مُهْجَتِكَ الكريمة، إنها الحظُّ والغَنيمة. قوله (فقد يخلف المطلوب ما ظَنَّ معذر): المُعْذِرُ في طلب الحاجات، هو المبالغ المجتهد الذي أعْذَر: أي أَتَى بعذر صحيح. والمُعَذِّرُ بفتح العين وتشديد الدال مكسورة، هو المتواني في أمره، فهو مُقَصِّر فيه، ويوهم أنَّ له عُذْراً ولا عُذْر له. ويكون أيْضاً بمعنى مُعْتذر، أدغمت التاء في الدال. والاعتذار يكون بحق مرة، وبباطل مرة. ويقال أعْذر في الأمر، إذا قَصَّر فيه. وقرأ ابن عباس والضحاك

وحُمَيْد (وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ). بالتخفيف، وتابعهم يعقوب. ورواها قتيبة بن مهران عن الكسائي ورواها أبو كريب عن أبي بكر بن عياش عن عاصم. ووجْهُ التخفيف فيه أي الذين بالغوا في العُذْر. ومنه قولهم (قد أعذر من أنْذَر). وقرأ الجمهور وجاء المُعَذِّرون. بالتثقيل. على أنَّ الأصل المعتذرون، فأدغَمت التاء في الذال كالمزمِّل والمدثر والمذكر وشبهها. قال المفسرون مجاهد وقَتَادة وغيرهما: هم نفر من غفارٍ جاؤوا النبي عليه السلام فاعتذروا إليه، فلم يقبل منهم لِعِلْمِه صلى الله عليه وسلم أنَّ اعْتذارهم باطل. وقرأت في النوادر قول أبي بكر بن دريد ليس المقْصِر واحداً كالمقصِّر. حكم المعذر غير حكم المعذّر. وقوله (ذر الهم في الأعراض) الأعراض جمع عِرض، وهو معلوم.

وقوله (إن أعرضَ القَنا) أي: إن أعرض القنا عنك، هو من قولهم: أَعْرَضْتُ عن فلان، وأعْرَضَ هو عني. ومعناه: تنَحَّيْتُ عنه وتنَحَّى هو عني، فأريته عُرْضَ وجهي وأراني عُرْضَ وجهه. ويقال أيْضاً: أعْرض لكَ الشيء إذا بدا. ومعناه أراك عَرْضه. ومنه قول عمرو بن كلثوم: وأعْرَضَتِ اليَمامةُ واشْمَخَرَّتْ ... كأَسْيافٍ بأيْدي مُصْلِتينا وفي هذا اللفظ اشتراك، وبابه متسع. وقوله: (أعسرتْ كفُّ الغني بمعسر) يقال: أَعْسَرَ الرجُل يُعْسر إعْساراً، فهو مُعْسِرٌ إذا افتقر، ورجل أَعْسرُ، يقال ذلك أيْضاً للذي يعمل بشماله. وعَسُر الشيء عُسْراً. وفي كتاب الله تعالى (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ). قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك: اليسر: الإفطار في السفر، والعُسْرُ: الصَّوم فيه وفي المرض. وفي حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كتب إلى أبي عبيدة وهو محصور: (إنه مهما تنزل بامرئ شديدة، يجعل الله بعدها فرجاً، وإنه لن يغلب عُسْرٌ يُسْرَيْن). قال أبو سليمان قوله: لن يغلِب عسر يسرين إنما هو تأويل قوله تعالى (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا). وفي ظاهر التلاوة عُسْران ويسران؛ إلاَّ أن المراد به عسر واحد؛ لأنه مذكور بلفظ التعريف، واليسر

مذكور بلفظ التنكير مرتين. فكأن كل واحد منهما غير الآخر. وقال الفراء: العرب إذا ذكرت نكرة، ثم أعادتها بنكرة مثلها صارت اثنتين. كقولك: إذا اكسبت درهماً فأنفق درهماً. فالثاني غير الأول. وإذا أعدتها بمعرفة فهي كقولك: إذا كسبت درهماً فأنفق الدرهم، فالثاني هو الأول. قال الفراء: (ومن هذا قول بعض الصحابة: لن يغلبَ عُسْرٌ يُسْرين. وقال بعض المتأخرين: (هما سواء لا فرق بينهما، والذي استشهد به الفراء غير ذلك. وذلك أن القائل إذا قال: إن في الدَّارِ زَيْداً إنَّ في الدار زيداً مرتين، لم يدل على أنه غير زيد واحد، كما لم يدل على أكثر من دار واحدة). قال: وقول عمر (لن يغلبَ عسرٌ يُسْرين) معناه أن للعسرين يسرين. إمَّا فرجٌ عاجِلٌ في الدنيا، وإما ثوابٌ في الآخرة. وقال محمد بن المؤمل في قوله تعالى (إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) قال: هو من مظاهر القول، يراد به التوكيد كقوله (كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ). وكقول الشاعر: إذا التيازُ ذو العضلات قلنا ... إليك إليك ضاق بها ذِراعا وكقول الآخر:

هلا سألت جموع كِنْدَ ... ةَ حين ولَّوا أين أَيْنا وقوله: (من مظاهر القول) مما يؤكد ويقوي القول؛ من الظهير، وهو العون. وقوله: (تكسير عبقر). عبقر موضِع باليمن ينسج فيه الديباج. قال الأصمعي: إذا استحسنت العرب الشيء واستجادته قالت فيه عَبْقَري. وأصله أنَّ عَبْقَر موضع تجود فيه صناعة الوشي. قال الراجز: متكئاتٌ فوق فرش العبقَرِ ... في جنة الله الجليل الأكبرِ وقال ذو الرمة: حَتَّى كأنّ رياض القَشٌْع ألبسها ... من وشي عبقر تحليل وتنجيدُ وفي حديث أبي هريرة وعبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أريتُ في المنام أُنَازِعُ على قليبٍ بِدلو بَكْرة، فجاء أبو بكر فنزع ذنوبا أو ذنوبين، وفي نزعه ضعف. والله يغفر له، ثم جاء عمر بن الخطاب فاستحالت غرباً، فلم أر عبقرياً يفري فَرْيَه حتى روى الناسُ وضربوا بعطن". ومنه قول زهير:

بِخَيْلٍ، عليها جِنَّة عبقرية ... جديرون يوماً أن ينالوا فيستعلوا قال: والمراد بهذا، والله أعلم، قصرُ مدة خلافة أبي بكر رضي الله عنه لأنها كانت، فيما ذكر، سنتين وثلاثة أشهر وعشرة أيام. وطول مدة خلافة عمر رضي الله عنه، لأنها كانت عشر سنين وستة أشهر وأربعة أيام. ذكر هذا أهل العلم بالتاريخ. رجع جواب الرسالة المتقدمة: يا مولاي وسيدي، وربَّ النِّعَمِ الجسيمَة، سيدي ذا الأيادي الغُرِّ، والنِّعَم الخُضْرِ، والمواهب الجزيلة، والمذاهب الجميلة، والهمَّة العالية، والرتبة السامية، والآداب المنخولة، والشمائل المعسولة، ومنْ أطال الله بقاءهُ، والآمال موقوفة عليه، وحنانُ النجاح في يديه، والسعْدُ دائمٌ، والحسودُ راغمٌ، تجري الأقدارُ على مرْغوبه، في تسيير مطْلُوبه. كتبْتُهُ، أبْقى الله مولايَ وسيدي، عنِ العهد الكريم، والودِّ السليم، لاغاية له فأَحُدُّها، ولانهاية فأقِفُ عندها؛ لكنني أُحيلُ على معْهودٍ، غير محدود، ولمَّا بعدتِ الدارُ، وشَطَّ المَزارُ، لمْ يبْقَ منَ التواصل، غير التراسُل، فهو عند الاضطرار، تواصُلُ الأحرار، بَقِينَا نتعلل بالحروفِ، ونُقيمُ الصِّفة مقامَ الموصوفِ، فجَفَّتِ الموارد، وقلَّ الصادر والوارد، فلا وصل إلا بِخَيال يَسْري، أوْ نسيم يجري: ولما أَتَتْني الريح من نحو أرْضكم ... وقد ضُمِّخَتْ بالطيب كُلُّ المسالِكِ تُذكرني عهداً كريماً وجيرة ... كراماً نماهمْ كلُّ أرْوَع تائك

وإذْ أنَّا شَرْقيَّ العُذَيبِ بفتية ... تُمَلِّكُهم أَخْلاقُهم كلّ مالكِ يبذُّون أبناء الزمان نجابة ... ورقَّةَ آدابٍ ولينَ عَرَائِكٍ حَنَنْتُ ونارُ البين بين جوانحي ... تثير سحاباً عن هموم هوائك وأَيْقَنْتُ أن الطيبَ أطيب ... ... قد اكتنفت بيتي علي بن مَالِك فتىً لو أَلمَّتْ بالقبُور حلاوةُ ... شمائله أحْيا بها كلَّ هالِكِ ولو خاطبَ الكفار في نبذ كفرهم ... لعادَ إلى نهجِ الهُدى كل آفِكِ ولو أنَّ نور البدركان كنورِه ... لما استصعبتْ سير الدجى نفس سالِك مهذبة أعْراقُهُ في نِجارِهِ ... مقابلة من سامك حذو سامك فمن قاسه بالناس جهلاً بقدره ... يكنْ مثل من قاس اللجَيْنَ بآنُك فلونُهما قد يستوي عند ناظر ... وبينهما بَونٌ بعِيدٌ لسابك وهذا كقول أبي جعفر التُّطيلي: والناس كالناس إلا أنْ تُجَرِّبَهم ... وللبصيرة حُكْمٌ ليس للبَصَرِ

كأَلأَيْكِ مُشْتَبِهاتٌ في منابِتِها ... وإنَّما يقعُ التفضيلُ بالثَّمر وفي المعنى: يا مولاي ومؤيدي، ومصادي ومَعقِلي، ومَصْدَري في الحادثاتِ وموردي، الرفيع المزير، القليل الشكل والنَّظير، ومنْ أطال الله بقاءَهُ خافِقاً لواء عزِّه، وشاهِقاً بناء حِرْزِه، قد طوَّقني مولاي ومؤَيِّدي لا يُحيطُ بها قوْلٌ ولا ذِكْرٌ، ولا يَبْلُغُها وصفٌ ولا نشْرٌ، ولا يُؤدِّيها عنِّي عملٌ ولا شُكْرٌ: وكيفَ أُؤَدِّي شُكْرَ من إِنْ شكرتُه ... على بِرٍّ يومٍ زادني مثْلهُ غدا فإنْ رُمْتُ أقضي حقَّ بعض الذي مضى ... رأيتُ له فَضْلاً عليَّ مُجدََّدَا فالله ولِيُّ جزائكَ، على ما كانَ منْ نعْمائكَ، ووَصَلَ كتابُكَ أَسَرُّ الِكتُبِ عندي مَنْظَراً وَمَخْبَراً، وأَجَلُّها مورداً ومَصْدراً، أشْهى منْ لمْحة الحبيب، وغَفْلة الرَّقيب، فحلَّ منْ قَلْبي محَلَّ الماء من الظَّمآن، والوصل بعد الهجران، والنماء بعد النُّقصان، والشفاء بعد السقمِ، والوجودِ بعد العدمِ. فحَمِدْتُ الله على ماأعْلَمْتَني فيه من سلامة حوبائك، وشكَرْتُهُ على ذلكَ شُكرَ المُعْتدِّ ببقائك، المُبْتَهل إليه في حُسنِ ولائكَ، ودوامِ نَعْمائكَ. فلَمَّا فرغْتُ من قراءة الكتابِ، أخَذْتُ في الجوابِ، فأنْفذتُه نحوكَ مُتَطَلِّعاً ما عنْدَكَ، فلمَّا تأخَر جوابُكَ، ظَنَنْتُ أنَّ كتابي لمْ يصلْ، فأرْدَفْتُهُ بكتابي هذا مؤَكِّداً عليكَ، بلْ راغِباً في إجابتي نحو بابِكَ، ومطالعتي بكتابك، وحرَّكني ما أنا عليه من محبتك، والشَّوقِ إلى رؤيَتِكَ، أنْ قُلْتُ أَبْياتاً يسيرَة منَ الشعر، تشهد لي ببعض الأمر، فلَكَ الفضلُ في الإصغاء إلَيْها، وعليها، وهي:

أحِنُّ شوقاً إلى أبي الحَسَن ... كأنَّ أهْلي لديه أو وطني ما في حنيني إليه من عَجَبٍ ... صبري عنه من أعظم المِحَنِ ما باخْتِيارٍ صَبرْتُ عَنْهُ ولو ... أعْطيْتُهُ مِنِّي الوصلَ لمْ أبِنِ أوحكم القلب في زيارَته ... لطار شوقاً إليه منْ بدني أَقسمت بالله يا أبا حسنٍ ... ماذُقْتُ مُذ غبت لذة الوسن ولستُ أعتد مدةً سلفَتْ ... لم تكُ فيها معي من الزَّمَنِ ولا أُريدُ المقامَ في بلدٍ ... لم تك من ساكنيه يا سَكني يريدُ قومي بأنْ أُثاقِبَهم ... ولا يكاد الفؤاد يسعدني كمْ أكثروا عذله فقلتُ لهم ... حُبُّ بني مالِكٍ تَمَلَّكني ياقومِ إني إذا أبنْتُ لهمْ ... خشيتُ ربِّي بأن يُعذِّبني كمْ لِعليِّ علَيَّ منْ منَنٍ ... غُرٍّ وكم نعمة قد أَلْبَسني وكمْ أيادٍ بيضٍ لهُ قِبَلي ... يَؤدُّني حَمْلُها ويُثقلني فلستُ أقضيه حقها أبداً ... لكنْ لساني الشكر ليس منّى لا زال في عِزَّةٍ وفي شَرَفٍ ... ما سجَعَ الهاتفاتُ في فَنن وفي المعنى: يامولاي بعَلائه، وسيِّدي بسَنائه، وتتابُع مِنَنِه وآلائه. دوْحةُ ظلالٍ، وروْضةُ آمالٍ، الذي إنْ كاثرْتَ به كَثُر، أوْ فاخَرْتَ بحَمْدِه بهر، ومنْ أدامَ الله بهجة أيامه، ومتَّعَ العبادَ بعدلِ أحْكامه. كتبته، أَبْقى الله مولاي وسيدي، إِثْر ما وردَ كتابُه الرائقُ، بلْ شِهابُهُ الطارِقُ، مطرَّزاً بسحر بيانه، موشَّحاً بوشيِ بنانه، يرفلُ في أثْوابِ البلاغة الضَّافية، ويكرعُ في

مواردها الصَّافِية لفظٌ سَكْرٌ في المراشِفِ، لَدْنُ المعَاطِفِ، إنْ سُمْتَه أطمع، أوْرُمْته امتنعَ، سوانِحُ أفْكار، بينَ نَظْمٍ ونثارٍ، كلاهما أَلْيَقُ بالنفس من ذمائها، وأشهى إليها من حياتها، تكادُ الأقلامُ تَدَّعيه، والقراطيسُ تعيه، إنْ قُرئَ فالأسحارُ ساجدة، أوْ نُشِرَ فالأعْلاقُ كاسدة، نقده معجز، ونَيْلُهُ مُعْوِز، وحُقَّ لمن انتمى البحرُ إلى كرمه، وتواضع النجم إلى هممه، وحلَّ السِّحْرُ بين لسانه وقلمه، أنْ تُقَلِّدَهُ الكتابَةُ دُرَرَها، وتَكْسوهُ البلاغة تحْجيلَها وغُرَرَها. وكيفَ لا، وفكرُهُ قد غذَّتْْهُ الفِطَنُ بمائها، وأنارته العلومُ منْ سَنَاها وسَنَائها، فالذَّكاءُ يعده، وبحارُ العلوم تمدُّهُ. لا جرمَ أنَّ منْ تعاطى شأوَ مباراته، وتعرضَ إلى ميدان مُجاراته، أَتْعَبَ خاطرَه، وأسهر ناظره، وفصح اليقينُ ظنونه، وأَُرْتِجَ بابُ القول دونه. ولمَّا تطلَّعت العينُ في رُقومه، وسفرتْ إلى الفُؤادِ بمنْثوره ومنظومه، طوى خِلْبَه عليه، مُغْتَبِطاً بما لديه، فكم غُلَّةٍ برَّد، وأُنْسٍ جَدَّد بلْ كم أمَلٍ بلَّغَ، وجَذَلٍ سوَّغَ. كتابٌ هوَ من العينِ انْسانُها، ومنَ الحياة أمانها، ماذكر منَ الشوقِ إلا الذي أُجدُه، ولا وصفَ من الودِّ غير ما أعْتقده، ولمَّا أرَدْتُ الأخْذَ في مراجعته، أَيَّدَه الله، خَذَلَتْني فِكَري، وسكنت بلاغته حصري، فرأيْتُ التجامُلَ عن التَّثاقُل، أوْلى منَ العتاب في ردِّ الجوابِ. وفي المعنى: أطال الله بقاء الفقيه الوزير، والسيد الفاضل المزير، أبي فُلان مولي المحاسن ومالكها، وباني المفاخر وسامكها، اللابِس من الحمد سبع دروعٍ، والماجد بأكرم

أصولٍ وأنْجبِ فُروع. إنسانُ عين زمانه، وحاوي قصب السَّبْق في زمانه، ذو المجد المؤَثَّل، والقدر المرفَّل، ومعال خفضت كل عال. كبَتَ الله حاسديه، وأنْمى غِبْطَتَهُ وكَثَّر غابطيه، وتَمَّمَ نعماءه، وحرسَ منْ فرده الحاسدين سماءه. كتبته عن لسان يخدُمُ ما أَُضمِره، وجَنانٍ يستقلُّ كثيره وَيَسْتَنِيرُه، وذكرٍ أعْطر من النَّدِّ يعْبَقُ شذاه، والروض ينفَحُ في نداه، وأطيبَ من الراح، تُشَجُّ بالبارد القرَاح. أُعيده تَرْديداً، فأجِدُه لذيذَ المذاقِ جديداً. تشوَّفتِ النفس تفديك، إلى جميل ذكر تهديك، وشُكْرٍ تضوَّع بريَّاه، بجامٍ تَنِمُّ حُمياه، فسمحت القريحة بنزْرٍ وجَّهْت به على عجَل، مُسْتقيلاً ما مرَّ من عِثارٍ فيه أو زَلل، فتصفَّحْ بمثل عَطْفِك، على شريطَة الصفْحِ ما قصَّر عنْ جليلِ وصفِكَ. والسلام. وفي المعنى: يامولاي إقْراراً، وإلى الحقِّ بِداراً، اعترافاً وقوْلاً بما سلَفَ من آلائكَ التي هي الكواكِبُ شُهْرة، والحصى كثْرة: ولو سكَتوا أثْنَتْ عليْكَ الحقائب. ومن أطال الله بقاءه بعدلٍ يضعه، وجميلٍ يصنعه، وشُكْرٍ يُمْسِكُ لواءَهُ، ومجْدٍ يُشَيِّدُ سناءه. كتبته، أيدك الله، وأنا في مُخاطبتي إياكَ بين فقر تَعرِض، وحَصَر يَعْتَرض، وخَاطِرٍ يقدمُ، وقلمٍ يحْجِمُ، وحُقَّ لمن أجال فكرهُ في منصبك المنيف، ومَحَلكَ الرفيع الشريف، ومجدك الكثيف وجلالكَ، وكريم خلالِكَ، ولو كانت له براعة سَحْبَان

ويَراعَةُ بديع الزمان، أن يدهشَ جَنَانه، ويخرس لِسَانُه، وترعشَ بنانه، غير أنَّ الإدلال، يقتضي الاسترسال، فكل يحل عقده، ويُنْفقُ مما عنده، وإنْ كنت في ذلك كمن سابَقَ الجواد بمطية، وفاخر غانماً بعطية. ولما وردَ كتابُهُ الخطير الذي هو ريحانَةُ النفس، وسرُّ السرور والأنس، مددتُ يد البدارِ إليه، ووقفْتُ وقُوفَ الحريصِ عليه، فاطَّرَدَت لي البلاغة منْ أَثْنائهِ، وتَضَوَّعَ المسْكُ منْ أرْجائه، وأدارتِ الفصاحة عليه جِرْيالَها، وسحبَت مُخْتالةً أذْيالها، وقد انتظم فيه وشيُ صنعاء بزهر الرياض، وسحرُ بابل بغنجِ الأعين المراض. وقد أخذ النثر صَدْرَ ميدانه، وتلاه القَرِيضُ ثانياً من عنانه، ولما هزت السطور قدودها، وأقامت الأبيات بنودها، واستولى القصيد أمده، واستوفى عدده، أعدَّت القوافي سلاحها، وسدَّدَتْ رماحَها، فَحمِيت جنابها، ومنعتْ ركابها، فتحامت الرَّوِيَّ اضْطرارا، وركبت العروضَ اخْتيارا، فَنَمتْ ببعضِ المُشاكَلة، وإنْ كان بُعْداً عنِ المُمَاثَلة: إلى ذي شيمةٍ شَغَفَتْ فُؤادي ... فلولاه لقُلْتُ بها النَّسيبا وكيف لا أحن إلى سليل أكارمٍ، وأحرص على شقيق مكارمٍ، وأتشوَّقُ إلى رضيع مجد، تشوقَ حُرَّان إلى بدر نجد، وله مشاهدُ أحلى لديَّ من الشِّهاد، وأشهى إليَّ من الغُمْضِ عقِبَ السُّهاد. كلٌّ يشهدُ بسبْقِ أوَّليَّتِه، وعِتْقِ سجِيَّته،

وكريم محْتِدِه، وطيبِ مولده. ولئِنْ قصَّرَتْ يدُ الجزاء عنْ مُقارضةِ قَرَْضِه، وتأديةِ ما حقَّ منْ وكيد فرضه، لأشْكُرَنَّ ما أَلْبَسْتَنيه من باهر حلاه، وجَلَّلنى من فاخر نُعْماه، وله الفضل الكامل، والبِرُّ الشامل، في قبولِ جُهدي، منْ مبْذولِ وجْدي، ليحوزَ المِنَّتين، وينظم النِّعْمتين، وذو الجلال والكَمالِ، يأخُذ له بأكمل الفضل، وأطول الطول، ويُتِمَّ نعمَتَهُ عليه، كما أتَمَّها على البُراة المُنْجبين آبائه الأكرمين، إنَّه ولي المُنْعمين، لا شريكَ له. وكتب أبو نصر إلى أبي محمد بن السيد البطليوسي: أطال الله بقاء الفقيه الأجل، غمامي المستهل، وحسامي المستل، والأيام تتشرَّفُ ببقائه، والهِمم تتشوفُ إلى لقائه. اليوم أغْفِرُ للأيام ذنُوبها، وأُعَطِّرُ صَبَاهَا وجنوبها، وأبْعثُ منْ حمدي لها عبقاً ورياً، وأديرُ عليها الشكر حُمِّياً، وأخْلعُ عن المطايا عقالاً، ولا أكَلِّفُه وخْذاً ولا إرْقالاً، ولا أبْتَغي بها مراقاً، وأجْعَلُ ظهورها عليَّ حِدَاقاً، فقد أرتْني لخيامكَ أعْلاماً، وشَفَتْني منْ آلامِ بِعادِكَ وكانت آلاماً وَسَأَحُلُّ من فنائكَ ضيفاً، وأراكَ شخْصاً بعد أنْ تَمَنَّيْتُكَ طَيْفاً. وأَنْفَذْتُهُ من الجزيرة وقد ابتسم ثغر الصباحِ، ووسمَ وقعُ أيدي المطايا خُدُودَ البِطاحِ، وللغَمامِ انْسجامٌ يحكي نداكَ، وللخليج فيضٌ كأَنَّهُ يداكَ، وللجَوِّ عُبوسٌ أكْسَبَ الروضَ طلاقةَ مُحياكَ، وساعة لُقياك، وسأُوافيكَ، فأَهصر أَفْنانَ

تَحَفِّيكَ، وألْتقط الدُّرَّ النفيس من فيكَ. وقد أَتْمَمْتُ الكتابَ الذي كنتُ بدأته، وحَليتُ به العصر وقلَّدْتُه، وقد خَصَصْتُكَ بالذكر فيه، وأنتَ بفضلكَ تتأمَّلُهُ وتَجْتَليه، فَتَعْلَمَ به إخْلاصي، وتتحقَّقَ به غاية اخْتِصاصي، ولكَ الفضْلُ في مراجعةٍ تُطْلِعُها بدْراً عليَّ، وأجدُها نوراً يسعى بين يدي. َّ إنْ شاء الله عزَّ وجل. فراجعه الأستاذ أبو محمد: أطال الله بقاء ذي الوزارتين الجليل، الكاتب النبيل، قريع دهره، وبديع عصره، الذي عليه تُثْنى الخناصر، وبِمثله يفاخر المُفاخر، مرقىً من المراتب أَعْلاها، مُلْقى من المآرب أقصاها: ليس بالمنكر أنْ برَّزتَ سَبْقاً ... غير مدفوعٍ عن السَّبْق العِرَابُ وافاني، أدام الله عزَّكَ، كتابٌ شغل حاسَّتيْ سمعي وناظري، وملأ حافتي فكري وخاطري، أراني الدُّر إلا أنَّه لم يُنَظَّمْ، والسحر إلا أنَّه لم ُيُحَرَّم؛ بل لوْ صيغَ عِقْداً لأخْجَلَ الدُّرَّ والعقيان، أوْ حيكَ بُرداً لعطَّل الديباج والخُسْروان، فلله قريحة أذْكتْ ناره، وأطلعتْ أنواره، إنَّ مُزنها لَغَيْرُ جهام، وإنَّ سيفها لغير كهام، وإنَّ ثَمْدَهَا لَعِدٌّ وبِحَارُ، وإنَّ زَنْدها لمرجٌ وعَفَار. وحبَّذا سيدي أدام الله عزَّه، وقد طلعَ علينا طُلوعَ البدْرِ في الغسقِ، وضَمَّخَ أفقنا بخُلُوقِ ذلكَ الخلق، فاقتدَ حْنا زَنْد ذكائه فأَوْرى، ولَمَحْنا كوكَبَ سمائه

فأعْشى، وشاهدْنا به البلاغة شخْصاً محسوساً، والرئيس المتعاطي للفصاحة مرؤوساً، أقْدَمَه الله خير مَقْدَم، وأَغْنَمَهُ أَفْضَل مَغْنم، بمنِّه، ورأَيّتُكَ، أطال الله بقاءكَ، قد نَحَلَْْتني فَضْلاً، لم أكنْ له أهْلاً، وحَلَّيتني بمفاخر وحلىً، اقتبسْتُها مِمَّا لكَ منْ مآثر وَعُلىً، وقدْ أبى الله إلا أنْ يكونَ لك الفَضْلُ، منْ بعدُ ومنْ قبْلُ. والخليلُ بالخليلِ يَزْهى وينجحُ: (وكلُّ إناء بالذي فيه يرْشَح). ولازالتْ أنْدية المَجْدِ بك مَعْمورة، وأَلَوية الحمد عليك منشُورة، بحول الله تعالى وكرمه. وفي المعنى لأبي نصر: أطال الله بقاء ذي الوِزَارتين الأجل عمادي الأعْلى، وكوكبي المُجْتَلى، مُنْتَظماً للرئاسة في سِلْك، مُبْتسماً عن ذكائه وعنائه كل مِلْك. ما أحَقَّ - أدام الله عزك - دولة أنت كوكَبُ سمائها، والمسْتَقِلُّ بأعْبائها، أنْ تنتظمَ لواليها أشْتاتُ البلادِ، وتَشْتَمِلَ عليه أهواء العباد، وتنْفَسِحَ له مضيقاتُ الآماد، برأيكَ السديد الذي إذا اقتدحَ أوْرى، وإذا سرى إلى صبحه صار حميد السُّرى. هذا لو كانَ صاحِبُكَ من الأمر عارياً، وتقلدهُ تطاوُلاً عليه وتعادياً، دُونَ إجْماعٍ من الأمة، واطلاعٍ لِمُلِمَّةٍ. فكيف إذا كان ملكاً عِراقِيَّ الأخلاقِ، حِميريَ الأعْراق، يشرق لسناه الظلامُ، وتعْبَقُ منْ أرجِهِ الليالي والأيام، وتَفْرَقُ منْ سطواته الليوثُ في الآجام. لقد جَمَعَتْكما مُشَاكَلَةٌ، وألَّفَتْ بيْكُما ممُاثَلةٌ، أقامتْ للمَعارِفِ عندَكما سوقاً، وأوْضَحَتْ بكما لأقاليمِها طريقاً. فللآدابِ عندكما جولة، ودوْلَتُكُما تزدري بسيفِ الدولة. لا جرمَ أَنَّهُ بك - أَيَّدَكَ الله - أَظْهر، وحَظُّه من الذكاء بك أَوْفر.

وأَنْفَذْتُهُ من فُلانَة، من منزلِ الوزير الجليل أبي فلان، قارضَ الله عارفَتَيْ تَهمُّمِه وتَحَيُّفه، فإنَّه أَسالها جداوِلاً، وأحلَّ منْهُما منازلاً مُخْضَرَّة ومناهِلاً، فلَوْ شاهَدْتَني وأنا أمْرَحُ بيْنَ نُعْماهُ مراحاً، وأقْتَرحُ ما شَاءتْ عليَّ علْياهُ اقتراحاً، لرَأَيْتَ عيشاً هنيَّا، وأُنْساً من الوحشة عريَّا. وأَبْصرتَ منْهُ - أَعزَّهُ الله - عِلْقاً للفضائِلِ سنيَّا، وقد رجوتُكَ لجزائه، وأَمَّلْتُكَ لوفائهِ. وأنْتَ - إنْ شاء الله - لِنِدَائهِ مجيبٌ، ولفعله مثيبٌ، وأقرأُ عليكَ سلاماً كإشراق راحنا، والْتِصاق ارْتِياحنا، ورحمةُ الله تعالى وبَرَكاتُهُ. وكتب أبو عبد الله بن أبي الخصال: بِلَوشْةٍ نُخْبةٌ من العربِ ... هَمُّهُمُ في السَّماحِ والأدَبِ ضَنُّوا بأَحْسابِهم، وجُودُهُمُ ... مُنْتَهَبٌ مالهم منَ النَّشَبِ كمْ فيهم للأخِ الغريبِ إذا ... حلَّ بهمْ من بني أخٍ وأبِ ومُؤْثرٍِ للعبيد زار عَلَى ... كُلِ حميمٍ مُشابِكِ النَّسَبِ جادوا على عذْرِهم ولوْ بَخِلُوا ... لقامَ لِعُذْرٍ حاضِرُ النُّوَبِ الوُزَراءُ الظُّهراءُ الجِلَّةُ، مكارِمُهُم مُسْتَهِلَّة، وسيادَتُهم مُسْتَقِلَّة، وعليهم للنَّدى أدِلَّة، وحَلَّتْهم لبني الحاجاتِ حُلَّة، فلا تَخَوَّنَت عزتهمْ ذلة، ولا خامرَتْ خدهم، وهم الصوارمُ الماضية، كِلَّة. ضيْفُهم مُكْرَمٌ بِعَقْوَتِهم وناديهم، وجارُهم في

الأزماتِ منْ أَوْسطِ أهاليهم، بَلْ تتخَطَّاهم إليه الصَّفْوةُ والخلاصةُ (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ). يتَنَافسُونَ في الإحْسانِ، ويتقارَعونَ على الضِّيْفانِ منْ كُلِّ موضُوعِ الخِوَانِ، مبْدئٍ بنُفوسِ الإخْوان: حبِيبٌ إلى الزُّوار غِشْيانَ بَيْتِهِ ... جميلُ المُحَيَّا شفَّ وهْوَ أديبُ وكتب أيضا: أبا عبد الإله اسْلَمْ مَلِيّا ... وَدُمْ في أَسْبَغِ النُّعْمى عليَّا وثِقْ بالله وارْجُ الفَضْلَ منهُ ... فَقِدْماً كُنْتَ مِفضالاً وَفِيّا تلقَّتْكَ المكارِمُ والأيادي ... فألْفَيتَ الزمان بها رخِيَّا سيِّدي الأعْلى، وكبيري المُفَدَّى، تسنَّتْ أوْطارُكَ، وتَأتَّتْ أَقْدارُكَ، وعزَّ في كلِّ حالٍ مَحَلُّكَ ومِقْدارُكَ. كَتَبْتُهُ، وقد صدرَ النَّجيبُ السَّريُّ، والذكيُّ الألمعيُّ، أبو فلان - أَعزَّهُ الله - وقد أَلْفى لكَ في كلِّ دارٍ إخْواناً، وأَصْفياءَ على البرِّ أعْوانا، وذلكَ بفضل ما أَسْدَيْتَ، وكرَمِ ما قدَّمْتَ وأَوْلَيْتَ. وأنْتَ - بحمد الله - إلى كلِّ النُّفوسِ حبيبٌ. وكلُّ حرٍّ فلهُ فيكَ ومِنْكَ نصيبٌ. وسيُخْبِرُكَ بما انْقَضى، والله يُتَمِّمُ الأمل المٌرْتضى، ويُعينُكَ بسيْفِ العدْلِ المنْتَضى. ورَسَمْتُهُ، واليومُ قُرٌّ، والريحُ صِرٌّ، والشيْخُ في هذه الشَبرَاتِ غِرٌّ، والنَّفْسُ إلى أَنْبائكَ مُطَّلِعَة، والأُذْنُ مُسْتَمِعه. أَمَدَّكَ الله بحُسْنِ الصنيعِ، وأبْقاكَ مشْكوراً.

وكتب: سيدي الأعْظم، ومُعْتمَدي الأكرم، وسنَدي الأعْظَمِ، ومنْ أَبْقاهُ الله محمودَ الذِّمم، محسودَ الهمم. لمْ أَزَلْ - أَعَزَّكَ الله - أَسْتَنْزِلُ قُرْبَكَ براحة الوهم، عن ساحة النَّجْم، وأَنْصِبُ لكَ شركَ المُنى، في خلَسِ الكرى، وأُعَلِّلُ فيه نفس الأمل، بضربٍ سابِقِ المثل: ماأقَْدَرَ اللَّهُ أنْ يُدْني على شحَطٍ ... منْ دارُهُ الدٍّونُ ممنْ دارُهُ صُولُ وما ظَنُّكَ، وقد نزلَ على مسافة يومٍ، وطالما نفرَ عنْ حالةِ نومٍ، ودنا حتى همَّ بالسَّلامِ، وقدْ كانَ منْ خُدَعِ الأحْلامِ. وناهيكَ منْ طيْرِ، وقَدْ حُمْتُ حولَ المورِدِ الخَصَرِ، وذَمُمْتُ الرشأَ بالقِصَرِ، ووقفَ بي ناهضَ القدرِ، وقْفةَ العيرِ بينَ الوِرْْدِ والصَّدَرِ. فهَلاّوصَلَ ذلكَ الأمل ببِاعٍ، وسَمَحَ الزَّمَنُ بإجْماعٍ، وطُويتْ بيننا رُقْعَةُ أميالٍ، كما زُويَتْ مراحِلُ أيَّامٍ ولَيال. وما كانَ على الأيام لو غَفَلَتْ قليلاً، حتّى أشْفِيَ بلقائكَ غليلاً، وأتَنَسَّمَ منْ روْح مُشاهَدَتِكَ نفساً بليلاً. ولئنْ أَقْعدتْني بعوائقِها عنْ لقاء حُرٍّ، وقضاءِ برٍّ، وسفرٍ قريبٍ، وظفرٍ

غريبٍ، فما تَحَيَّفَتْ وِدادي، ولا ارْتَشفت مِدادي، ولا غاضتْ كلامي، ولا أَخْفَتْ أقْلامي. وحسْبي بلِسانِ النُّبْلِ رسولاً، وكفى به أَمَلاً وسُولاً. وفي الكتابِ بلغةُ الوطَرِ، ويُسْتَدَلُّ على العينِ بالأثر. على أنِّي إنَّما وحيتُ وحيَ المُشير باليسيرِ، وأمَّلْتُ فَهْمَكَ على المسطور في الضمير، وإنْ فرغْتَ للمراجعة ولو بِحَرْفٍٍ، أوْ لمْحَةِ طرف، وصلْتَ صديقاً، وبَلَلْتَ ريقاً، وأَسْدَدْتَ يداً، وشفيتَ صدى، لا زالتْ أياديكَ بيضاً، وجاهُكَ عريضاً، ولياليكَ أَسْحاراً، ومساعيكَ أنْواراً. وأقرأُ على سيدي الأعْظم سلاماً أَرِجَ الأرْجاء، مُنْبَلِجَ الصباحِ والمساء. والسلامُ المعادُ المُتَمِّمُ على سيدي الأعْلى، ورحْمة الله تعالى وبركاته. ثمَّ خَتم الرُّقْعة بهذه الأبيات: هوَ الدَّهرُ لا يُبْقي بِمُر ويَحْلَوْ لِي ... وسيَّانَ عنْدي ما يُجِدُُّ وما يُبْلِي إذا أَشْكَلَتْ يوماً عليهِ مُلِمَةٌٌ ... فمِنْ ظهرِ قلْبي يَسْتمِدُّ ويَسْتمْلي سألْقي بحَدِّ الصَّبْرِ صُمَّ خُطوبه ... ولوْ صيغَ فيها الشيبُ منْ حدَقِ النَّبْلِ وأَعْرِضُ عنْ شكْواه إلا شَكِيَّةً ... لها منْ هوى مرآكَ ضرْبٌ منَ الخبْلِِ روى لي أحاديثَ المُنى فيكَ غَضة ... ولكنَّها لم تَخْلُ منْ غَلَطِ النَّقْلِ وجادَتْ بقُرْبِ الدّارِ غيْرَ مُتَمِّمِ ... ويارُبَّ جودٍ قُدَّ منْ شيَمِ البُخْلِ تراءَى لي العذْبُ النَّميرُ فلَيْتِني ... برَدْتُ لهاتي منه في نَغْبَةِ النَّهْلِ أَتَحْجُبُ شمسَ الفضلِ بُرْدَةُ ليْلَهِ ... ولوْ وَصَلَتْ أرْدانَها ظُلْمَةُ الجَهْلِ ويَخْشُنُ مسْراها لموْطئ أَخْمَصي ... ولو نَبَتَتْ في جُنْحها إِبَرُ النَّحْل أَجَلْ قَيْدُ هذا الدَّهر أضيقُ حَلْقَةً ... وأقْصَرُ للخَطْوِ الوساعِ منَ الكَيْلِ سأبْعثُ طيفي كلَّ حينٍ لعلَّه ... يُصادِفُ منْ نَجْوى خيالِك ما يُسْلِي

ودونَكَ منْ روْضِ السلامِ تحيَّةٌ ... تُنَسِّيكَ غَضَّ الوردِ في راحة الطَّلِّ ولبعضهم في المعنى: سيدي، وأعْظَمَ عَدَدي، وأَعَزَّ منْ شدَدْتُ على حبْلِ إخائه يدي، وأَعْدَدْتُ ذُخْرَ صفائه لأبدي، ومنْ أبْقاه الله راضياً عن الزَّمنِ، في المُقامِ والظَّعنِ. لم أزلْ - أعزَّكَ الله - مذْ صمَّ اغترابُكَ، وَنَعَقَ غُرابُكَ، أَتَعَجَّبُ منْ تَحوُّلِكَ، وأتَشوَّقُ لما يردُ منْ قِبَلِكَ، فلمْ أَظْفَرْ منْ خبَرِكَ بيقينٍ، ولا وقَفْتُ منْ كيفيَّةِ مقرِّكَ على ثَلَجٍ مُبين، إلى أنْ وردَ (جُهَيْنَةُ أَخْبارِكَ)، وَعْيَبَةُ أَسْرارِكَ، الأديبُ أبو فلان، فكشفَ منْ صورةِ أمْرِكَ ما الْتَبَسَ، ووصَفَ منْ جلِيَّةِ حالِكَ ما سرَّ وآنَسَ، وذكَرَ أنَّ ذلكَ القُطْرَ - أَنَّسَهُ الله - رَحُبَتْ بِكَ معاهِدُه، وعَذُبَتْ لكَ موارِدُه، واشتملت عليكَ أفْياؤُه، وتضاحكتْ إليكَ أرْجاؤه. ولا غرْوَ منْ نفاقِكَ حيثُما احْتللْتَ، وقَبُولِكَ أيْنما انْتقَلْتَ، فمنْ تحلى بمِثْلِ حلاكَ لمْ يضعْ كيفَ تصرَّفَ، ولا عدِمَ للُّطْف أيْنَما انْحرفَ، والله يصْنَعُ لكَ صنْعاً جميلاً، ويُنْيلُكَ أَيْنما سلكْتَ آمَلاً وسُؤْلاً. ووَصَل خِطابُك الخطيرُ، فجلى عنْ وَجْهِ بِرِّكَ وَسيماً، وشَخَّصََ منْ عهدكَ عميماً، وأَهدى إليَّ منْ رياضِ فَضْلِكَ نسيماً، ومنْ عَرَارِِ حمدكَ شميماً، فيا حُسْنَ موقِعِه منَ الضمير، ويا نُبْلَ منزعِه الجميل المشكور.

وكتب أيضاً، وقد قدم عليه بعض إخوانه: حالي - أعزَّكَ الله - قدْ شافهتَ نجِيَّها، وعلمْتَ لا محالة خفيَّها. لمْ تُغْدِفْ دونَك قناعاً، ولا انْقَبَضَتْ عنْكَ اسْتِجْماعاً. والإعرابُ عنها جهْلٌ، والحجابُ دونَها سهلٌ، ورُبما كان لسانُ الصامتِ أنْطَقَ، وشاهِدُ الجمالِ أًصْدَق. ولمَّا وردْت، يمن الله موردَكَ ومَصْدرَكَ، وجبَ القِرَى، ولوْ بِبَرَضٍ من الثَّرى، وتعيَّنَتِ المبَرَّةُ، ولوْ بمثقالِ الذَّرَّةِ، على أنّي لوْ نظَرْتُ إلى قدرِكَ لوقَفْتُ خجِلاً، وانْصرفتُ وجِلا. لكن جَهدَ المقلِّ جَلَلٌ، ونزْرَ المُدِلِّ مُحتمل. فَمَهِّدْ بفضلِكَ للعُذْرِ كنفاً، وأوْسِعْهُ لَطفاً وتبَّا لدَهرٍ لا يُخْجِلُهُ ضياعُكَ، وتؤلمه أوجاعُكَ. والله يُقيله عثرة الأدب، ويرفعُ من خدِّه التَّرِبِ. بِمَنِّه. ومن جيد المنظوم في هذا المعنى، قول الشاعر أظنه أبا بكر العَلاَّف: للخِلِّ قدْرٌ بِخَلَّتَيْن ... مني نقداً بغير دَيْنِ

لأنني في الوصالِ أصفو ... عنْ كلِّ ريْثٍ له وزيْنِ وأنّني لا أزالُ أحْنو ... حُنُوَّ هَين عليه بين وبعد هذا وذاكَ سرٌّ ... كالصَّفو منْ خالِصِ اللُّجيْنِ ومَحْضُ ودٍّ بغيْر مذْقٍ ... وصِدْقُ عهدٍ بغيْر ميْن فإذا دنا بالوِصالِ منَّي ... أَسْكَنْتُهُ في سوادِ عيْني وإنْ جفاني وصَدَّعَني ... حفظْتُ ما بينه وبيني ولمْ أشُبْ وهو لي مشوبٌ ... مازلتُ من أمره بشين ومن جيده أيضا قول الآخر: نصلُ الصديقَ إذا أراد وِصالنا ... ونَصُدُّعنه صدوده أحْيانا إنْ صَدّعَني كنتُ أكرم مُعْرضٍ ... ووجدتُ عنه مذْهباً ومكانا لا مُفْشياً بعد القطيعة سرَّه ... بل كاتماً من ذاك مااسترعانا إنَّ الكريم إذا تَقَطَّعَ ودُّهُ ... كتمَ القبيحَ وأظْهرَ الإحْسانا وأنشد ابن خالويه: هجَرْتُكَ لا قِلىً منِّي ولكنْ ... رأيْتُ بقاءَ ودِّكَ في الصدودِ كهجر الحائماتِ الوِرْدَ لمَّا ... رأَتْ أنَّ المنِيَّةَ في الوُرودِ

تفيظ نُفوسها ظمأً وتَخْشى ... حَذاراً وَهْيَ تنظر من بعيد تصُدُّ بوجهِ ذي البغْضاء عنهُ ... وترمُقُهُ بألحاظِ الوَدُودِ

فصل فصول مستحسنة من رسائل في الشفاعة والوسائل

فصل فصول مستحسنة من رسائل في الشفاعة والوسائل سيدي الأعلى ومعْتمدي الأسنى، وذُخْرَ أَيْدي الأسْرى وعارفةَ زمني الحُسنى، ومنْ أبْقاهُ الله مُبْلِغَ المُنى، مُسَوِّغَ النُّعْمى، لئنْ كانت الأيَّامُ - أَعزَّكَ الله - قدْ قلَّصَتْ أدْيالَ أحْوالِكَ، وسلَّطَتْ هجيرَها على برْدِ ظلالكَ، وكدَّرتْ بأقذاء صروفها صفوَ آلائِكَ، فما استلانتْ نبْعَكَ، ولا أحالَتْ عنْ عادةِ الجميلِ طبعكَ، ولا عفَّتْ في مرابعِ السَّناءِ والثَّناء ربْعكَ. فقد يجْري الجوادُ وهوَ منْكوبٌ، ويتجَمَّلُ الحُرُّ وبه نُدُوبُ، والله يُجْبِرُ الصَّدْعَ، ويُجْمِلُ الصُّنْعَ، بعِزَّته. ويتأدَّى خطابي - أعزكَ الله - منْ يد فلان آمِلُكَ - أبقاه الله - وقد علمتَ ما دُهيَ به وطنُهُ منْ خطوب الزَّمَنِ، وضروبِ المِحنِ، وتغلُّبِ عُبَّادِ الوثنِ، ودفعتْهُ الضرورةُ إلى استِرْفادِ الأحْرارِ، والتَّكسبِ بالأشعارِ، وهو ممن يتصرَّفُ في الصِّناعةِ بلسانِ منِع، ويأوي منها إلى طبع غير طبِع، ولهُ في قَبُول عفوٍ المنيلِ إجْمالٌ، وعندهُ في شكرِ الغَرْبِ المُخْتَصر احْتِفالٌ. ولمَّا عرفَ ما بيْننا منْ عهدٍ لا يُفارقُ نِصَابَهُ كرمُ، ولايلحقُ شبابَهُ هرمٌ، اتَّخَذَ خطابي هذا عُنوانَ شعره، ولسانَ أمره، ودليلاً على موضعه، ومشيراً إلى مقْصِدِهِ، ومنزعه، وأنْتَ بسرْوِكَ تُصْدِقُ آمله إن شاء الله. والسلام. وفي المعنى:

منْ حلَّ مَحَلَّكَ - أعزَّكَ الله - في كرمِ النصابِ، واخضِرارِ الجِنَابِ، لم يخْلُ كنَفُهُ منْ آمِلٍ يردُهُ، وفاضِلٍ يعْتَمِدُهُ، فالمنزعُ الرَّحبُ ينْتابُهُ الكرامُ، والموردُ العذْبُ كثيرُ الزحام ومنْ حداهُ ذكرك، وهداهُ يُسْرُكَ، أبو فلان واسمه أشهر منْ أنْ ... عليه أوْ أشيرَ إليه، وله منْ ذواته وأدواته شوافع، وعنده منْ طُرفِ الحكمِ وغرائبِ الأدبِ بدائع، وكان تحت نعمة وافية الجناح، وحُرمةٍ سائلة الأوضاح، تُكْبِرُهُ الكبراء، وتوثرُه الأُمراء، وتحسدُ سامي قدره الأنداد، وينجحُ بنثْرهِ ونظّمه الطِّرْسُ والمداد، ثمَّ عَطَفَ الدَّهْرُ عليهِ، وانتشَفَ مالديه، ورماهُ بأنْفَذِ سهامِهِ، وأجْوَر أحْكامه، فاضْطُرَّ إلى التَّغرُّبِ في البلادِ، والتقلُّبِ ما بينَ مبرَّاتِ الأمْجادِ، وقدْ حطَّ رَحْلَهُ ببابِكَ، والتحَفَ بأَطْنابِكَ، وأنْتَ إلى الجميل أهوى، وبحسن الصنع أولى، والله تعالى يبقيك حِلْيَةَ فخَارٍ، وكعبَةَ زُوَّار، بمنِّه. وفي المعنى: سيدي الأعلى، ومعتمدي الأقْوى، وظهيري الأكرم الأوفى، لا زالتْ تُعْقَدُ الآمالُ عليْكَ، وتَخُبُّ الرِّكابُ إليْكَ، وتُلْقى الرِّحالُ لديْكَ، وتتأثَّلُ النِّعَمُ في يديكَ. كتبْتُهُ - أدام الله عزكَ - ولا مزيد على ما بالنفس منْ تَوْقٍ، وبالقلبِ منْ صبابَة إلى تلْكَ المعاهد وشوق، أمتَعَ الله بكَ السَّيَّادَة، ولا أَعْدَمَكَ آلاءَه المعْتادَه، ويتأَدَّى منْ قِبَل فلان - أبقاه الله - وقد انْقطعتْ به الحبال، وتَقَلَّصتْ عنه الظِّلال، وأتعبته المطامع والآمال، وشكتْهُ البكرُ والآصال، وكُلَّما رُمْنا لهُ تعَلُّقاً تعرَّضتِ القواطِعُ

وأعْرَضَ الإقْبَالُ، ومنْ أَنْواعِ الدَّاء ما لا طِبَّ لَهُ إلاَّ الانْتقال، ومنْ زالتْ بهِ الدَّارُ، فحَقُّهُ الزَّوالُ. وسألني، والذِّمامُ يُطيعُه، وإدارَةُ الخيْرِ لا تُضيعُهُ، مُخاطَبَتكَ، فأجَبْتُهُ، ولعَلَّ الله تعالى قد اخْتارَكَ لمثواه، وجَعَلَكَ ربَّ نُعْماه، لا زِلْتَ للأحْرارِ مُصْطَنعاً، ولحاجاتِ الأوْلياء موضعاً، وأَقْرأُ عليكَ - دامَ عِزُّكَ - أَعَمَّ سلامٍ وأَوْفاه، وأَبَرَّه وأَحْفلَه. ثُمَّ السَّلامُ المُرَدَّدُ المجدَّدُ عليك، ورحمة الله تعالى وبركاته. وله في المعنى: أطال الله بقاء الأمير الأجَّلِّ، الملِكِ السيد الأفْضَلِ، وَعَدْلُهُ ممدود، وناديه بكُلِّ صالِحةٍ مشهودٌ، ورِفْقُهُ معْهود، وبابُ مُلْكهِ موْرود، ولازالَ تُفْتَح به، بعد الوفودِ وفود. الأميرُ الأجَلُّ - أيَّدَه الله - بما وضع الله له مِنَ القُبولِ، والعدل المُطَّرِد الموصول، تتسابَقُ الحسناتُ إليه، وتترادَفُ الخيْراتُ عليه، والله عزَّ اسمه يدَّخِرُ لَهُ ما يُجْريه منَ المَكْرماتِ على يديْه، ويُتِم لَهُ النِّعْمة الراهنة لديْهِ، وأنَّ فُلاناً - أَعزَّه الله - منْ أعيانِ كذا، وذوي السَّلَفِ الطاهرِ فيهما طاعَتهُ - أعزه الله - ذَكَر أنَّهُ سُعِيَ بَيْنَهُ وبيْنَ فلان بِفسادٍ، وتَنَكَّرَ لَهُ بعْدَ البرِّ المُعْتادِ، وهوَ بعدْلِ الأمير الأجل - أيَّدَهُ الله - لائِذٌ، ومنْ كلِّ ما يُنْفِقُ عليهِ عائذٌ، وسبَقَ لهُ إلى هذه الحضرة تَكْرارٌ أشْهَرَ بها عيْنَهُ، وأَثْبَتَ المودَّة بين أَهْلِها وبينه، وقامَ بينَ يَدَيْهِ منْ وسائلِ أوْليائهِ فيها ما يُؤنِسُ مَقْصِدَه، ويُقيمُ أوَدَه، على أنَّ الأميرَ الأجلَّ - أيَّدَهُ الله - لِكَرَم السَّجية، والشِّيمِ الرَّضيَّة، وسِيَرِه الفاضِلة في الرَّعية، لا يَحْتاجُ معَهُ إلى شفيعِ، ولا يتَوَسَّلُ إليْهِ بأَجْدى منْ خُلُقِهِ الرَّفيع. أمَدَّه الله بحُسْنِ الصنيع، وأَبْقاه مشكوراً منَ الجميع، بِجُودهِ ومجْدِه. والسلام. وفي المعنى لابن طاهر:

أطال الله بقاء الأمير الأجلِّ ناصر الدوْلة ومُعِزّ المِلَّةِ، وأَيَّدَهُ، وأَعْلى يدَهُ: الشفاعاتُ - أَيَّدَكَ الله - على قَدْرِ مُلْتَحِفيها، ولكُلِّ عنْدَكَ منْزِلةٌ يُوافيها، ولمَّا تأمَّلَ ذو الوزارتين الفاضلُ أبو فلان - أبقاه الله - مالَكَ في الناس، منَ الطَّوْلِ والإيناس، بما جُبلتَ عليه من شرَفِ السجية، والهممِ العليَّة، حتى مالتْ إلَيْكَ الأهْواءُ، وارْتَفَعَ لَكَ بالحمدِ اللِّواءُ، قصدَ ذراكَ، واعْتَقَدَ اليُمْنَ في أَنْ يراكَ، فيَملأَ منْ زهرِ العُلا أَجْفاناً، ومنْ نهرِ النّدى جِفاناً، ويَسْتَبْدِلَ منْ صدِّ الزَّمانِ إقْبالاً، ومنْ تهاوُنِ الأيامِ اهْتِبالاً، ولهُ قِدَمُ الوَجاهة، وقَدَمُ النَّباهةِ، ويَدُلُّ عليْهِ بيانُهُ، كما يَدُلُّ على الجوادِ عِنانُهُ، وأرْجو أنْ ينالَ بكَ الآمالَ غَضَّة، والأيادي مُبْيَضَّة، فأقُومُ على مِنْبَرِ الثناء خطيباً، وأُوقِدُ على جَمْرِ الآلاءِ عُوداً رطيباً، لازِلْتَ للقاصدينَ ملاذاً، وللرَّاغبينَ عياذاً. وكتب في المعنى أبو مروان بن أبي الخصال: سيدي الأكرم، وملاذي الأَعْصم، دُمْتَ في السعد الأَدْوم، والثَّناء الأفخَم، أما أعزَّك الله بما أَلْتَزِمُهُ منْ برك، أتحامى كثرة التكليف، وأَميلُ إلى جانِبِ التَّخْفيف، وكُنْتُ اعْتَقَدْتُ بعْدَما أُسْعِفْتُ فيه منْ مَرْغُوبٍ ألاَّ أُكلف سواه مَجْدكَ، فأحوزَ رُتْبَةَ المُخْلِفِ عنْدَكَ، (لكنِّي أرى الحديث شجوناً). وهذا الفتى، موصلُ الرُّقعة، هو في أهل الصيانة معُدودٌ، ولهُ في تخَدُّمِ جوانِحِ الأعْيانِ منابٌ محمودٌ، وعنْده عيالٌ، وفي حاله إقْلالٌ، وهو مطْلوبٌ بعدد يؤدِّه

وإنْ قلَّ، ومُخِلٌّ بوفره فيما أخلَّ، فإنْ وسعه الاحتمالُ، ووقعَ لهُ الاحتيالُ، أنْعمت بالهُ ونَعَّشْتَ عياله، وكأنَّما حُزْتَ الحُسْنى لهُ، ثمَّ يُثْبتُ لك في ديوان المُنَعمينَ ذكْرٌ جميل، ولنْ يضيعَ منَ الخيْر فتيلٌ. وأمَّا ما أتوَخَّاهُ منْ شُكْرِ هذه إليْكَ فما يَتَّصِلُ مع الأبدَ، ويَقْصُرُ فيه اليوم مع الغدِ. وفي المعنى لأبي عبد الله أخيه: سيدي الأعلى، وعمادي الأَوْثَقَ الأسنى، وحظِّي الأكرم الأوفى. بقيتَ لضيْمٍ تدْفَعُهُ، وباطِل تدعه، وَعَلمٍ في إقامة الدين ترفعه. أَبَرَّ الأعمال ظلامَة تردُّ، ودِعامَة في الحقِّ تُشَدُّ، وباب جورٍ عن الناسِ يُغْلَقُ ويُسَدُّ. وإنَّ المؤذن أبا فُلان - أبْقاه الله - طُرِفَ عن خِطته في الأذانِ، بما أَدْركَهُ منْ بَغْيٍ، وخبيثِ سعْي، وأُعْلِمْتُ أنّ قاضي الجماعة - أدام الله توفيقه - أشار بإعادته إلى أذانه، وإثباته في الرتبة الأولى منْ مكانه. ولمْ أشُكَّ أنّ إشارَتَهُ - وُصِلَ توفيقه - أمْضى من التصريح، واللسانِ الفصيح. غير أنَّ المؤذِّنَ المذكور عناني بعضُ أمره، وتَوجَّه إليَّ لشدِّ أزْرِه، ولعلَّ الخُطَّة تسَعُهُ، ومنْ كان أَمَلُهُ فيها موضعُه، وإنْ ضاقَ عنْهما الاحْتمالُ، فالذي بُغِيَ عليه أوْلى أنْ يُنْصَرَ، وأحَقُّ أنْ يؤْخَدَ بيدِهِ إذا عثرَ. وأنتَ بفضْلك تأتي هذا الأمر منْ بابه، وتُحرزُ إنْ شاء الله فضل ثوابه. والسلام.

وله في المعنى: خَطَطْتُ هذه الأحرُفَ، أطال الله بقاء ذي الوزارتين الأجل، السيد الأوْحد الأكمل، على استحثاثٍ حفزَ، ووقْتٍ أوْجَبَ أنْ أوجِز، وعظيمِ شُغْلٍ بلَّدَ الخاطر وأعجز. وهي مُتَأَدِّيَّةٌ إليه من يدي، وفي صحُْبَة كبدي. والجلاءُ منْ هذا أنَّ سَليلَ نِعمتكَ القاسمَ ولدي، يَمَّمَ تِلْكَ الحضْرَة التي بكَ بهاؤُها، ولأجْلِكَ يجبُ اعْتمادُها، واتِّخاذُها مُبْتَغى سبب، منْ تقْييدِ سُنَّةٍ وأدَب. فاضْمُمْهُ أيُّها السَّيِّدُ إليكَ ابْناً، واستخدمه، إنْ شئتَ عبْداً قنَّا، فمِنَ رضايَ ورِضاهُ، أنْ تكونَ سيِّدَهُ ومولاهُ. ولم أَمْلِكْ مزيداً على هذه الأحرف. والله المستعان. ولغيره في المعنى: أكرمُ يد - أعزكَ الله - يُقَلِّدُها المرءُ جيدَ مجْدِه، ويُزَيِّنُ بها ديوانَ حمده، ما سَدَّ خلَّةً منْ حسيبٍ، أَقْعَدَتْهُ يدُ الدَّهر المريبِ، وموصلهُ - وصلَ الله حُرْمتَكَ بالسلامة، منْ قلَّدَ الأيام أبو فلان - رضي الله عنه - فإنَّه توسَّلَ بي إلى مكارِمكَ في ترميقِ حالتِه، والرَّمَّ لحوالَتِهِ، فإنَّما جَفَّتْ غضارَتهُ بعدْ النِّعْمة، وبدَّلَتْهُ بالتقتير منْ رغدِ النِّعْمة، وحوَّلتْهُ إلى الضِّيقِ بعدَ السَّعَة، وإلى التُّجُولِ مِنَ الدَّعَة، ومثْلُكَ، ولامثيلَ لكَ، رقَّ لما بِهِ، ورَعاهُ لشرف نِصَابِه، واغْتَنِمِ الصنيعة فيه، وحَقِّق ضماني عنْده وما يرْتجيه. فإنكَ ستجْزِلُ بما تُسْديه، أجْمَلَ الذِّكرِ، وأحفَلَ الشكرِ، مع الأجْرِ المَغْبُوطِ والذخْرِ المحوطِ. والله تعالى لا يعْدِمُكَ ارْتهانَ المِنَنِ وارْتباطَ الأحرارِ، ويَحْرُسُكَ منْ حوادثِ الليْل والنهارِ.

وفي فصل: وفلانٌ ممنْ يأوي إلى خيرِ وصلاح، ويسْتَضيءُ منْ طلَبِ العلم بمصباحِ، وبحَسَبِ ذلكَ أُحِبُّ حياطَتَهُ، وأريد إرادَتَهُ، ورَغْبَتي حفِيَّةٌ لدى مَجْدِكَ في أنْ تَضَعَه منك ببالٍ، وتُخَفِّفَ ما يطرأُ عليهِ من أثْقال، وتُقلِّده منْ مُحاَفَظَتِكَ ما يَحْصُلُ به على مزِيَّةِ حالٍ، حتّى يُرى عليه أثرُ الشافعِِ، وتَلذَّ خبَرَهُ أُذْنُ السَّامِع، وثقتي بما خَطَطْتُ لكَ منْ سُطُورِي هذه أَغْنَتْني عنِ الاحْتفالِ، والإلْحافِ في السُّؤالِ، وأنتَ أرْطَبُ عوداً، وأخْصَبُ نائلاً وجوداً، منْ أنْ يُثْنِيَكَ عن العُلا ثانٍ، أوْ يَفْتَقِرَ المشْفوعُ لك فيه إلى ضمانِ. بقيتَ للفضلِ رَبْعاً يُحَطُّ لديه، وثِمالاً يُعَوَّلُ عليه. والسلام. وفي فصل: وفلانٌ أعزَّهُ الله بِتَقْواه، وأعانه على مانواه، مِمَّنْ لهُ منَ العِلْمِ حظٌّّ وافرٌ، ووجْهُ سافر، وعندَهُ دواوينُ أَغْفالٍ، لمْ تُفْتَحْ لها على الشيوخِ أقْفال. وقصدَ تلكَ الحضرة ليُقيمَ أوَدَ متُونها، ويُعاني رَمَدَ عُيُونها، وله إلَيْنا وسائلُ أوْجبَت الإشادة بذكره، والاعْتناء بأمره، وله عندنا مكانة حفِيَّةٌ تَقْتَضي مُخاطَبَتَكَ بخَبَرِهِ، وإنْهاضَكَ إلى قضاء وطره، وأنتَ - إنْ شاء الله - تُسدِّدُ عَمَله، وتُقرِّبُ أمَلَهُ، وتُسَبِّبُ أسْبابَ العَوْنِ لهُ. وفي فصل: أما وَكنَفُ بِرِّكَ لمنْ أمًّكَ من أهْلِ الفضْلِ مُمَهَّدٌ، وجفنُ رِعايَتِكَ لهمْ

مُسَهَّدٌ، ومنزِلُ حفايتكَ بهم مُتَعهَّد، فكُلُّ وعْرٍ يلْقونَهُ في سبيل قَصْدِكَ مُسْتَسْهل، لا يَمُرُّ لهم دونكَ مَنْهل، ولا يضلُّ بهم، وأنت العلم، مَجْهل، ومِمّنْ رأَى أنْ يقْتَحِمَ نحْوَكَ ظهره لحجَّة ومحجَّة، ويقرن في أُمّ كعبةِ فَضْلكَ بينَ عُمْرَةٍ وحَجَّة، ويرْحل إلى حضرتِكَ المألوفة مُهاجِراً، ويَعْتَمِدَها في طَلَبِ العلْمِ تاجراً، ليَجْتَهِدَ في جَمْعه وكسبه اجتهادَ مُغْترب، ويملأَ منْ فوائدِهِ وفرائده وعاءً غير سَرِب. ومذْهبُهُ الاقتباسُ منْ أنْوارِك، والالْتباسُ منَ الدَّهرِ بِجوارِكَ، والاستئْناسُ بأسِرَّةِ بشْرِكَ ومسَرَّةِ حوارِك فلان، وله في الفضل مذهب، يبهرج عنده الذهب، وعنده في النُّبلِ غرائب، لا يُفارِقُ زَنْدَها اللهبُ وسَتُقْرِبُهُ فَتستغرِبُه، وتخبره، فتكبره، إن شاء الله. وفي فصل كتبه أبو القاسم بن الجد إلى أبي الحسن بن الأخضر رحمة الله عليهما: إذا كان عهد الإخاء ممَّا رقَمَتْه يدُ الطَّلَبِ، في صفْحةِ الأدبِ، لمْ ينْسخْ لهُ الدَّهرُ حُكْماً، ولا أحالَ الزَّمَنُ منه رسماً؛ بلْ يتجدَّدُ على تقادُمِ الأحقابِ، ويتردَّدُ أبداً في غضارة، الشباب وإنّما هو في الحقيقة نسبٌ لا يَخْفى، ورحمٌ لا يَجِفُّ لها ثرى، وذمامٌ تُثْنى عليه الخناصر، والْتحامٌ تُشير إليْهِ البناصِرُ. فالأديبُ صنْو الأديب، وكفى شاهداً بتمازج القلوب. وفي علمك ما سلف

بيننا من العهد المُزْري حُسنُه بِزَمَنِ الوردِ، سقاه الله صوب العهاد، ولا زال مُخْضَرَّ المرَاد، فما كان إلا غُرَّةً انْتُهِزَتْ منْ تهاتُفِ البيضِ الغرائرِ، ولُمْعة اقْتُبِسَتْ من تضاحُك الترائبِ تحت سود الغدائر. ولما علم أبو فلان، حليفُ شُكْرِكَ، وأليفُ بِرِّك، ما بيننا منَ المناسبِ الرُّوحانية، والمذاهبِ الأدبية، استنهضني لشكر ما خصصته به من تقريب مَحَلٍّ، وتَخْفيفِ كَلِّ. فنَهَضْتُ في ذلكَ نهوضَ المبدئ المُعيد، والْتحفْت برداءِ الثَّناء عليْكَ في المَحْفَلِ المشْهودِ، وسَرَّني كونُ هذا الفتى الدمث الخليقة، السَّديد الطريقة، منْ إنْشاء تخريجكَ وتفهيمكَ، وأغْصانِ تَثْقيفكَ وتقويمِكَ، فإنّه يَقومُ بشكرما تُسْديه إليْه، ويفي بصونِ ما تودِعه لديه، وليسَ كلُّ منْ أُوليَ الجميلَ يشكر، ولا كلُّ شجر وإنْ سُقيَ يُثْمِر، وأنت بسروكَ توسعُ قريحته ذكاء، وصفْحتهجلاءً، حتى يَخْلُصَ خُلُوصَ الذهب، ويتخصص بحلْية الأدب، مُحْرزاً في ذلك ذكراً يشيعُ خبره، ويفوح عنْبَره، والله تعالى يُبْقيكَ لهذا الشأْنِ تُذيعُ أسْرارَه، وترفَعُ منارَه. وكتب أيضاً لغيره في المعنى: مَنْ دفعَتْهُ الأيام - أعزّك الله - إلى التَّقلُّبِ في الأقطار، والتَّكَسُّبِ بالأشعار، لم يَخْفَ عليه تواضع الأحرار، في النُّجود والأغْوار. على أنَّ رسمَ الشعْرِ قدْ درَسَ أَوْكادَ، ومُرْتادَ البِرِّ قدْ عدِمَ المُرادُ والمَرَاد؛ إلا أنَّ صاحِبَ هذا الشأنِ لا بُدَّ أنْ يتَصَرَّفَ، أَنْْجَحَ أوْ أخْفَقَ، ويتسَوَّقُ كسد أو نفق.

وأبو فلان ممن دخل ذلك الصنع فأحْمده، وتخيل يُمْنَ مُعَاوَدَته فاعتمده، وله في صنعةِ القريضِ باعٌ، وبشُكْر ما يُولى اضطلاعٌ، وبين فكَّيْه لسانٌ كشقَّة مِبْرد، أوْ ظُبة حسامِ فردٍ، ولمَّا كنت - أعزَّكَ الله مُقَدَّما في أعْلام مِصْرِك، وأَعْيانِ عصركَ، وعَلِمَ ما بيْننا منْ سهْمِ الوِدادِ، وكريمِ الإعْتِقادِ، سألني مُخاطبَتَكَ راغباً في أنْ تُسَدِّدَ له هنالكَ غرضاً، وتُسَهِّلَ منْ حياضِ امله فُرَصاً، وترفع له في سبيل التَّزْكيَّةِ مناراً، وتُقَلِّدَهُ منْ صَوْغِ التّحْلية طوقاً وسِواراً، فأجبتهُ لما يمُتُّ به إلىَّ منْ وكيدِ ذمامِ، وحميدِ إِلْمام، والثِّقة بنُزُول رَغْبتي إليكَ على طرفِ ثمام، وشرف اهتمام. وأنتَ بسَرْوِكَ تُدْنيه منْ كنَفيْ قُبُولكَ وإقْبالكَ، ولا تُخْليه من الأُنْسِ بِتَهَمُّمِكَ واهْتِبالِكَ، حتى يَصْدُرَ وهجيراه شُكر إجْمالكَ ونشر صنيعة منْ جاهكَ أوْ مالكَ إن شاء الله. وله في المعنى: من عهد - أعزَّك الله - أُنْسَ فِنَائِكَ، وحُسْنَ اعْتنائك، وألِفَ برْدَ أفْيائكَ، ولينَ أرْجائكَ، لمْ يحبسْهُ عنكَ مَسكَن ولا وطن، ولا لذَّ له في غير حجركَ وظلِّكَ وسنٌ، فمُولِي الجميل محْبوبٌ، ومكان الأنْسِ مطلوبٌ، وفي عِلْمِكَ أنَّ النُّفوس تلْتَمِسُ الرُّجْحانَ، وتعتمدُ الفضلَ حيثُ كان. وفلانٌ ممن قَيَّدَهُ إحسانُكَ، واسْتَعْبدَه امتنانُكَ، فهو لا يعْدِلُ بكَ أحداً، ولا

يحُلُّ عنْ عِصْمَةِ تأميلكَ يدأَ، فإذا بعد عنْ جنابِكَ لمْ يَسُغْ له قرار، ولا اطمأنتْ به دار. وقد بعثهُ صدْقُ الانْقطاع إليْكَ، على حَسْمِ العُلَقِ الموجِبَة لبُعده عن ظلِّ جناحِكَ، وأُنْس الْتِماحِكَ، ولمْ يبْقَ له في غير مكانِكَ، سببٌ يجْذِبُهُ، ولا أملٌ يُصَدِّقٌه أوْ يُكَذِّبُهُ. وأنتَ بِمَجْدِكَ تُوالي اصطناعه، وتُراعي انْقطاعه، وتلحظُ بعينِ تهمُّمِك ضياعَهُ.

فصل ومن أحسن ما كتبوا في التهنئة من الكلام الرفيع والنثر المشتمل على كل معنى بديع

فصل ومن أحسن ما كتبوا في التهنئة من الكلام الرفيع والنثر المشتمل على كل معنى بديع: ابن أبي الخصال: سَكَنَ الزَّمان فلا يَد مذْمُومة ... للحادثات ولا سوامٌ تَذْعرُ أطال الله بقاء الأمير الأجل، الملك الأكرم الأفضل، والبشائرُ إليه تسْتَبِقُ، والفُتوحُ في أَعْدائه تَتّسِقُ، وأَلَوِيَةُ نصرِهِ تَخْفِقُ، ووُفودُ التَّهْنئةِ نحْوه تزْدَحِمُ، والحُتُوفُ على أقْتالِه تَقْتَحِمُ، والمنايا فيهم شرقاً وغرباً تحْتَكِمُ، وسيوفُ الحقِّ في أوصالهم تُطَبِّقُ وتُصمِّمُ. كتبتهُ، كتبَ الله لكم الذِّكْرَ الأرْفع، والسَّعدَ الأنْصع، والفضْلَ الأعَمَّ الأوْسع، عنْ دعاءٍ يرْفَعُهُ إخْلاصٌ، وَوَلاَءٍ لا يضَعُهُ انتِقاصٌ، وشُكْر يسْتنْزِلُ النِّعمَ، كما يسْتَنْزِلُ العُصْمَ اقْتِناصٌ، واستمساكٍ بآيه وظِلِّهِ الذي هو منَ

الأَيَّامِ مناَصٌ، وعلى الكِرامِ جُنَنٌ واقية ودِلاصٌ، وتَشيع في عُلاه، وتَسُرُّعٍ إلى رِضاه. يكافئُ إحْسانهُ منه عموم واخْتِصاص. والله المليُّ بِتَتْميمِ ما يَعْجِزُ عنه الشكرُ، ولا يَبْلُغُ كنْهَهُ الذِّكرُ. فقد أوْضَحَ لنَصْرِ الإسْلامِ سُنناً، وأبْلى المُسْلِمينَ والأميرَ المؤيِّدَ منهُ بلاءً حسناً، وأوْسعَ العُيُونَ الساهرة قُرَّةً ووسناً، وأعاد الليْلَ، وقدْ كانَ مُعْتَرَكَ الهمومِ الوالِجة سكناً، بِمهْلك المارقين النَّاكثينَ الذين جعلَ الله لِمَهْلِكهِمْ موعداً، (وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا). اطَّلعَ اللهُ عليهم فقَلاهم ومَقَتَهُم، وعمَّهُم، لاجْتِرائهم وافْترائهم، بعذابٍ سَحَتَهُمْ. لجُّوا في الضَّغَائنِ والإصْرارِ، و (بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ). فتِلْكَ أنْواحهم في آفاقِ الديارمُرْتَقِيَةٌ، وأرْواحُهم في أطباقِ النَّارِ مُلْتَقِيَة، كادوا الإيمانَ، وآسفوا الرحمن، وتقارَضوا الإفْكَ والبُهتان، واسْتَخَفُّوا الجهَّال، وأمَّلُّوا الآمال. وما بَقَاءُ فلان الطَّريدِ المَلْعونِ، وقدْ فُجِعَ بخليلِه المفْتون، ورسولِه المجْنُونِ، وجمْعِهِ الذي أوْدَتْ به رَحَى الحربِ الزَّبُونِ، ونَعى إليّه نفسه الخبيثة رأس الكفرة

غشتون. وصَمَدَ القَدَرُ إلى اعْتِرافِهم، وشرعَ في خَفْضِ أعْلامِهم، وبَدَأَ بَنَقْضِ إبْرامِهم. فباطِلُهُم بائرٌ زاهقٌ، وآخرهم بأوَّلِهم لاحِقٌ، ونِظامهم التَّالي في التَّناثُرِ مُتسابِقٌ. فالحمد لله الذي ما شاء صَنَعَ، ولا مانِعَ لِما أَعْطى ولا مُعْطي لِما مَنَعَ، ذَكَّرَ المؤمنين بنعمته تخْويفاً وتَحْذيراً، وأَذْهَبَ عنهم الرِّجْس وطَهَّرَهم تطهيراً. واستدرجَ الظالمين فاستكبروا في أنفسهم وَعَتَوْا عُتُوَّا كبيراً حتّى إذا ذَلَّتِ الرِّقابُ وخَضَعَتْ، ونكَسَتِ الأبْصارُ وخَشَعَتْ، ومالَ البأْسُ بالرَّجاء، وضاقتْ بما رَحُبَتْ فسَحاتُ الأرْجاء؛ تدارَكَهم منه الجميلُ وصَفْحُهُ، وجاءهم نصرُهُ العزيزُ وفتْحُه. وكم قدْ رأَيْنا السُّحُبَ قاسِيَةً جامِدَة، والأرْضَ خاشعَةً هامِدَةً، فمَنَّ بِنِعْمَتِهِ المَطَر، وتلاحقَ اليُسْرُ منْ أمرِه واحدَةً كلمْحِ البصرِ. فإذا آثار رحْمةِ الله قدْ وَضَحَتْ وتَبَيَّنَتْ، والأرْضُ قدْ أخَذَتْ زُخْرُفَها وازَّيَنَتْ.

حكمةٌ من الله بالِغةٌ، ونِعْمَةٌ في طَيِّ المكْروهِ سابِغةٌ. فلَوْلا الكدَرُ ما عَذُبَ الصَّفْوُ، ولوْلا الذَّنْبُ لما عرِف العَفْوُ. فهَنيئاً للأمير الأجَلِّ، المَلِكِ الأفْضلِ ما ارْتداه في تِلْكَ المواطنِ من النَّصْرِ، وأُفْرغَ عليه من الصَّبْرِ، وانْتَشَرَ لَهُ منَ الصيتِ العالي والذِّكْر. فلقد أَلَفْاهُ الأمير أَيَّدَهُ الله في تلكَ الشدائد أشدَّ رُكْنٍ، وأَثْبَثَ رِدْءٍ. ولَقد كافَح عنْ مُلْكِه، ودرأَ عنْ سُْطانه أكْرَمَ دَرْءٍ. دافع الله له عنْ حَوْبائِهِ ومَتَّعَ دولتهُ الغرَّاءَ بمشْهده السامي وغنائه، وجزاهُ منْ نصيحته الحفية، ومُوالاتِه الصريحة الوفيَّة أحْسنَ جزائِهِ. مكان القوْلِ - أيَّدَهُ الله - مُتّسِع، ولسانُ البيانِ عنْ غايَتِهِ منْقَطِع. وحَسْبيَ اعترافٌ بأيادِيهِ، وخِدْمَتي تَقْتَضي حقَّ ناديه، والله تعالى يُظْهر أمْرَه ويُعْليه، وعلى أكرمِ ما عوَّدَه يُجْريه. وأقرأُ على حضرتِهِ الجليلة أرْفعَ التَّحِيَّاتِ وأَوْفاها، وأَبَرَّها وأَتْقاها، وأَدْوَمَها وأَبْقَاها. ثُمَّ السلامُ المُضاعَفُ المُرَدَّدُ، الموالي المُجدَّدُ عليها ورحمة الله. وفي المعنى لأبي عبد الله بن أبي الخصال: كتابُنا بعد صَدرِنا عن الغزو الذي نحن فيه. والحمد لله بين أمر جميلٍ، وصنيعٍ جليلٍ، وعَمَلٍ مبرورٍ يُرْفعُ، وسَعْيٍ مشكورٍ، يُضْمَنُ لصحائف القبول ويُسْتَوْدع. ونحن نشرحهُ لك حسبَ اتفاقه، ونسوقُ القول على اتِّساقه، لتتلقى فَضل الله بما تلَقَّيْناهُ منْ شُكْرِهِ، وتُقدِّر صُنْعَهُ الكريم حقَ قدره. فكانت وِجْهتنا هذه - تقبلها الله - معْقودةً أوَّلاً على قصد العدوِّ المنيخ على

(طُلَيْطُلَة) - أعادها الله - لرفعهِ عن عُقْرها، ودفعه عن أُفْقِها وقُطْرِها، إذ كان الدفاعُ عنْ أهلِها من قواعد الصُّلْحِ وعُقُوده، وشروطِ السَّلْمِ وعُهوده. فترامت إلى العدوّ - دمره الله - الأنباءُ بازْدِلافنا إليه، وَوَرَدَتْهُ عُيُونُهُ بِمَقْدَمنا عليه، فاستشعرَ الخوفَ رُوعُه، وفُضَّ بمَهابَتِنا جَمْعُه، ووردنا الخبر بقفوله، ونحن إذ ذاك لم نتعدَّ (غافق) - حرسها الله - فهناك عقدنا الضمير على النُّفوذِ لوجْهَتنا، والتمادي في غزوتنا، حتى نطَأ بلاده وطء مُقَيَّد، ونُعيد مصانعها كالطريق المُعَبَّد، فسرنا حتى وافينا (قَلْعَةَ رباح) - حرسها الله - فوصَلَ إلينا بها كتاب عاملِ أرِيليَة يذكر أن الجمع المنفصل آنفاً عن (طُلَيْطُلة) تأَلَّفَ مرةً في حفل، وأقبل يُريدُ غدرَ مِسْطاسة في ثلاثة آلافٍ، بين خيلٍ ورَجلٍ، ودنا حتى اضْطَرَبَ محَلَّتهُ بوادي الرَّمل فاستَخَرْنا الله على قصده، واستعنَّاه

سبحانه على حطمه، وصمدنا تِلْقاءهُ، وصَمَّمْنا لا ننوي إلا لقاءهُ، ووصلنا نحوه السيرَ فأدْرَكْناه، وحثثنا السعيَ وواليْناه، حتى لَحِقْناه بِدارِ الفائزَةِ، فبِتنا بها ناجزينَ لبَيَّتِنا، عامدين لِطَيَّتنا. فَوَرَدَ أيضاً كتابُ عاملِ أريلية المذكور، وأنَّ هذا العدُوَّ المُحْتل بوادي الرَّمل أسرَ رَجُلاً من أهلِ أريلية فحدَّثَهُ بما أرَدْناهُ، وأخبرهُ بقصدنا إيَّاه، فكعَّ عن المصامدةِ، وضَعُفَ عن المُقاومةِ، ونكَصَ على أَعْقابِه، ورأى أنّ وَجْهَ الحزْمِ في انْقلابِه. فحَمِدنا الله تعالى على ما أوهَنَ منْ كَيْده، وأضْعف منْ أيده، ورأينا عندما صحَّ لدينا من خبره وتبيَّناه من صَدَره، أن نجْعلَ الغزوَ إلى جِهَتيْ مَكَّادَة وشَنْت أولاليه، فَتَقَدَّمْنا نحوهما، ويَمَّمْنا بينَ أفْقهما، فقدَّمنا بين أيْدينا من العسكر - أنماه الله - أَلْفاً وخمس مائة فارسٍ، تُصْبِحُهم مُغيرة، وتحلُّ بهم دائرة مبيرة، فصبّحوا مكادة وأحْرقوها من جميع جهاتها، وشنوا الغارة على، ذواتها، واكتسحوا ما وَجَدوا من غنيمَتِهم، واسْتَوْعبَ القتْلُ والأسْرُ من أَلْفي خارج مدينتهم، ثمَّ تلَوْناهم نحن في جمعنا

الموفور، ولوائنا المنصور، فقدَّمْناها فما اضطربنا الأبْنية، ولا نصبنا الأخْبية، حتى دمّرْناها تدميراً، وجعلناها هبَاءً مَنْشُوراً. ودام أعداءُ الله ثُبوتاً فرشقَتْهم السهامُ، وطالعهم الحِمامُ، واشتدَّ عليهم القتالُ، وضاقَ بهم المجالُ، حتى دُخلت المدينة عليهم منْ أبوابها، وألجأهم الحَصْرُ إلى الترقي في أسبابها، والتعلق بذَوائبِ قِصابها، واسْتُبِيحَ حمى المدينة بأخْلائها، واستولى السبي والحريقُ على أرْجائها، وصارَ أمر أعداء الله آخراً إلى أن تحزبوا بالقصبة لمنعتها، واعتصموا بذِرْوَتها وعقْوتها، وكانوا عدداً جمَّاً لا طمعَ لنا في غلبتهم إلا في الأمد الطويل، والاستعداد الجليل. فأمسكنا عنهم بعد أن جدَّ عليهم البلاء، وأخذ القتل منهم والسباء، ومس كثيراً منهم القُرْحُ، وأثْخَنهُمُ الجُرْحُ، وخلال محاولتنا أمر مكادة أنفذنا إلى شنت أولاليه من عسكرنا، وقَّره الله، من عاجلها بالحَيف، وتقبَّلها بالسيفِ، فقتل رجالها، وأسر عيالها، وألحقها مُلْحَقَ أختها مكادة في التغيير، والحريق المُستطير، وصدر عنها، وقد زلزِلتْ قواعدها، وخرِّبَت معاهدها، وعوجلت بقطع الدابر، وغودِرتْ كالرسمِ الدَّاثر، وتُرِكت تنوء بالجَدِّ العاثر. وحين فراغنا من حطْمِ تلكَ الجهات، وتدويخ تلك الساحات، أخذنا في الصدر باللواء منشوراً، والجمع موفوراً، والفَتْح يُشْرِقُ نوراً، فأُبْنا، وبلاءُ الله عندنا حسن جميل، وظلّ السلامة على الأولياء ممدود ظليل. والحمد لله على ما عرَّفنا من الظَّفَر، وسوغنا من الغُنْمِ الأوفر، حمداً يتكفل بمزيد النِّعم، ويقتضي دوامَ صُنعه الأكرم. لاَ رَبَّ غيره.

وطالعناك لتأخذ من النعمة المتجددة بقَسْمك، وتضرب فيها بسَهْمك، وتَبُثَّها هنالك، حتى يَسْتَوي الأولياء في ذلك، وتبلغ سلاماً عميماً ورحمة الله. وكتب أيضاً في المعنى: كتَابُنا، كَتَبَ الله لنا ولكم، مِيسَمَ الظُّهورِ، واضِحُ الطريقَةِ مُسْتَقيماً، وعرَّفَنا وإيّاكم صُنْعه الجميل، شامل المَبَرَّة عميماً، وتَمَّمَ علينا وعليكمْ في عصمة الأوْلياء، والنَّصر المؤزَّر على الأعْداء نِعْمَتَه تَتْميماً، وأوْزَعَنا منْ لَطائِفِ ذِكْرِهِ، ووَظائفِ شُكْرِهِ، ما يسْتمِدُّه لزيماً ويَسْتصْحِبُهُ مُسْتَديماً. منْ فُلانَة - حرسها الله - ونحن نُمَهِّدُ لنشر سُنَنِ الله تعالى وآلائه، وذكرما أوْلاه منْ حُسْنِ بلائهِ، ونُصلي على محمد خاتِمِ أنْبيائهِ، وعلى صحابته الأكرمين، وأهل بيته الطاهرين، صلاة تقتضي حقَّه وحقَّ أصفيائه، وتَسترُ في البرِّ بِتَمامه ووفائه. وبعدُ، فإنَّ الله جَلَّتْ قُدْرَتُهُ، وعزَّتْ لأوْليائه نُصْرَتُهُ، وسمَا الدينُ القَيِّمُ وأُسْرتهُ، وجعَل لهم على أعْدائهم (لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا)، وخَذَلَ مَنْ كانَ للشيطان وليَّا، ووعدَ - جَلَّ وتعالى - وكان وعدُهُ مأتياً، وأمرهُ (حَتْمًا مَقْضِيًّا)، لَيُحْضرِنَّهم حول جهنَّم جُثِياً، و (لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا)، ولا أغْنى مِمَّن عمَّ شَرُّهُ العباد، وأَظْهَرَ في الأرضَ الفساد،

وردَّ عنْ سَننه اللاَّحبِ الجهاد، ومنعَ خيل أوْلياء الله الجهاد. فسبيلُ هَلَكَتِه - بحمد الله - قدِ انْتُهِجَتْ، وجِدَّةُ شياطينِهِ قد أُخْلِقَتْ - بحول الله - وأَنْهِجَتْ، وما اشتدَّتْ أزْمَةٌ على منِ اتَّقى الله إلا انْكَشَفتْ وانفرجتْ، ولا أيْنَعتْ للباطلِ أيْكةٌ إلا اجْتُثَّتْ بيدِ الحقِّ عُرُوقُها بعدَما وشجَتْ. فَسُيوفُ أوْلياء الله تأخُذُ من أعْدائه فوْقَ ما تدع، ويُفرِّقُ منهم ما كانَ الطُّغيانُ يجْمَعُ، وكتائبُ الإيمانِ دأْباً تَحْصُدُ ما ينْميه الكُفْرُ ويَزْرَعُ، ودونَكم - أعزَّكم الله - منْ متجدد الوقائع فيهم فتحاً مُبيناً يُشْرقُ لأْلاَؤُه ويَسْطَعُ، ويروقُ منه المرأى المبْهِجُِ والمسْمَعُ. فُتُوحٌ - بحمد الله - تتبارى، وإقبالٌ سافِرٌ لا يتوارى، وحُجَجٌ عاليةٌ يُسَلِّمُ لِبُرْهانها الساطعِ منْ يتمارى، وما بين تلك الوقائع التي طحنتهُم رَحَاها، وبين هذه التي صليَ بحرها منْ أمَّها ونَحاها، إلا عشيةٌ أوْ ضُحاها. فنُفُوسُهم بتقاضاها الإصباح والإمساءُ، ودِماؤُهُم تُحْقَنُ بإراقَتِها في حقِّها الدِّماءُ، وتروى منها كلَّ يومٍ القُلوبُ الحِرارُ والأسلُ الظِّماءُ، وتُؤدي إلى الطاعة الضافية فيها الهيْجاءُ، (وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ). وإنّما صارَ إليهم الأمير الأجل، ولي العهد، مَكَّن الله ظفره، وخلَّد في كلِّ صالحة أثره، تحت جناحِ ليلٍ، وفي سَرْعَانِ خيل، وخفَّ معه منَ الأبطال كلُّ ساحبِ ذيلٍ، وطالِبِ نيل، فادرعوا معه السُّرَى، وخلَّطوا نار الحرب بنار القِرَى، (وسقط العشاء بهم على أسودٍ شَرَى)، فجادت بأنْفسها أحسابٌ للصيانة تتَبَدَّلُ، وحَرِصوا على الموتِ فَوُهِبَ لهم العُمْرُ الأطول، واستوى في الذَّبِّ عن الدين المُكره والبطل، وكشفَ الله

تلكَ المارِقة المثيرَة، وقد اخترِم منها نُفوسُ أثيرَة. وكم منْ فئةٍ قليلَةٍ غلَبَتْ فِئةً كثيرة. وآب الأمير - أيده الله - ومنْ معه منْ حِزْبِ الله الغالبينَ، غالِبين - بحول الله - ظاهرين. وقد كفى الشاهدينَ والغائبينَ، وهذه - أعزَّكُم الله - مِنَنٌ تتْرى عليكم وُفودها، وتُؤدِّيها إليكم بيضُ الليالي وسُودُها، وتَقْذِفُ بها إلى الأغوارِ طبقاً عنْ طبَقٍ نُجُودُها، ومنْ حقِّ منْ يسهر لِكَرَاكُم، ويتَهَمَّمُ ببشراكم، ويحدوكم إلى الدُّعاءِ الصالحِ بذكراكمْ، ويَلْحَظَكمْ على البُعْد بعينِ رِعايَتِه ويراكم، أنْ تُمَهِّدوا له - أعْلى الله يَدَه - فلأنفسكم تُمَهِّدون، وفي مصالِحكم تَجْهَدونَ، وأكرم مسؤولٍ تَسْألُونَ، وأنْتُم تَقْرَأون وتتْلُون (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ). يسَّرنا الله وإِيَّاكم لإخْلاصٍ تَنْفَعُ فضيلَتُهُ، ولا تُرَدُّ وسيلتُهُ، وتَصْدُقُ بوارِقُهُ، ولا تَكْذِبُ مخِيلتُه، بوجوده ومجْدِهِ، ويُبَلِّغُونَ - أعزَّكم الله - سلاماً كثيراً أثيراً. ثمَّ السلامُ المجدَّدُ المُردَّدُ عليكمْ ورحمة الله وبركاته. وكتب أيضاً إلى بعض الأمراء: عاد الرئيس إلى الأمير كما ارْتَضى ... ومضى مَضاء المشرفيِّ المنْتضَى ظَفِرَتْ يداه بكوكب سَنَّى له ... في كل مظْلمة طريقاً أبيضا ورمى به أغراضه فأصابَها ... وكَأَنّما كانتْ ديوُناً تُقْتَضى أطال الله بقاء الأمير الأجلِّ، الملكِ الأعزِّ الأفضل. وسعوده تَنْتَظِمُ، وَوُفُوده

تَزْدَحِمُ، ووقُودُهُ يشِبُّ ويضْطرِمُ، وسيُوفُهُ في رقابِ الأعادي تحتكمُ. ولازال اليُسْرُ منْ رواده، والنَّصر من أَمْدادِه، والعيثُ بين عاتِقِهِ ونِجادِهِ. كتَبْتُهُ، وقدْ أَرْسَلَ منْ عِنانى، وأَطْلَقَ لساني، ومدَّ منْ يدي وبَناني، ونَوَّرَ أُفُقي وجَناني، وُرُودُ عِلْقِهِ الأخطَر، ووافِدِهِ الميْمون المنْظرِ، وحُسامِهِ الذَّكرِ، وولي أيامِهِ الأفصحِ الأكبر، وسفيره في كل إقبالٍ، ورسوله في كل أمر ذي بالِ، الرئيسِِ الأجلِّ، الزَّعيمِ الأوْحدِ الأفْضل، أبي فُلان ذي الشيَمِ الزُّهْرِ، والأخْلاقِ الغُرِّ، أحسن الله ذكراه، وشكر تأْدِيبَه وسَرَاه، وحفظَ بهِ مجْدَهُ وعُلاه، وتَمامَ أدواته الباهرةِ وحُلاه. فهنَّأه الله بالنعمة الجليلة في إيَّابه، وأرْصَدَ له مُكافآتِ جدِّه وانْتِدابِهِ، ولا زال عنْ ملْكِهِ نائباً، ولِسَعْده صائباً، وبنَصْرهِ ضارباً وبِيُمْنِِ نقيبَتِهِ غالباً. ولمَّا كانتِ التَّهْنِئةُ بوُرُودِهِ منْ فُروضَ خِدْمَتِهِ، وحُقُوقِ نِعْمَتِهِ، وأدْنى القُربِ إلى هِمَّتِهِ، نفثْتُ بهذه الرُّقْعة على الهَرَم، ورَسَمْتها في ضوء مصباحٍ يهدي بصري في الظُّلَمِ: وإنَّ سِتِّينَ إلى أَرْبَعٍ ... قدْ أحْوجتْ عيْني إلى تُرْجُمانْ وفي لِساني إنْ نبا ناظري ... خيرٌ كثيرٌ وبِحَسْبي لسانْ أدْعو إلى اللهِ وأُثْني به ... على الأميرِ اليُوسُفِيِّ الهِجانْ أيْنَ الذي كانَ له المَغْربان ... طُرَّا وقدْ دانَ له المَشْرِقانْ لازالتْ دعْوتهُ عالية، وفُتُوحُهُ متَوالية. والسلامُ الأتمُّ المُردَّدُ على حضْرَتِه العالية، ورحمة الله وبركاته.

وكتب غيره يهنئ بِأَخْذِ معقل: جِراحَةُ الأيامِ - أيَّدكَ الله - هَدَر، وجِنايَتُها قدر، وليس للمرء حيلة، وإنَّما هي أَلْطافُ الله جميلَة، تَسْتَنْزِلُ الأعْصَمَ منْ هضابِه، وتَأخُذُ المُغْتَرَّ بأثوابه، أحْمَدُهُ عوْداً وبدْءاً على النِّعْمة التي ألْبَسَكَ سرْبالَها، والفِتْنَة التي أَطْفَأ عَنْكَ اشْتِعالَها، والرئاسة التي حَمَا فيها حِماك، ورَدَّ خاتَمَها إلى يُمْناك، وقدْ تَناوَلته يدٌ خَشْناء، فاستقالته يدك الحسناء، فلم يكنْ عِنْده أهلاً لتِلْكَ البنانة، ولارآهُ شكلاً لخِنْصِر الخِيانَةِ، والأعناقُ تقطعها المطامع، والنِّفاقُ يستو عرفيه الطامع فأَقرَّ الله عزَّ وجَلَّ الحال في نصابها، وأَبْرزها في كمالها تَتْرى بين أترابها، ووضعت الحرب أوْزارها، وأخْفَتِ الأُسودُ أَغْيالَها، وزآرها، ومنْ كانتْ مذاهبُه كمذاهبِك، وجوانِبُهُ للسلامة كجوانِبِكَ، أعْطتهُ القُلُوبُ أسْرارها، وأعْلَقَتْهُ المعاقِلُ أسْوارها، وانْجلتْ عنْهُ الظَّلْماءُ، وأكْرَمَ قرْضَه الجزاءُ، فلْيَهْنِكَ الإيَّابُ والغَنيمة، وهُما المِنَّةُ العظيمَةُ، ولْيكُنْ لهُما منْ نفسك مكانٌ، ومنْ شُكْرِِكَ لله بالموهبة إعْلان، وأمَّا حظِّي منها، فحظُّ مسْلُوبٍ أَمْكَنَهُ سلَبُه، وذي مشيبٍ عاوَدَهُ شبابُهُ وطرَبُه، ولما اقترنالي كانا مُعْظَمَ آمالي، وَعلِمْتُ أنَّ بِهِما زوال الخِلافِ، وتَوَطَّؤَ الأكنافِ، وأنَّ بالصَّدرِ تَبْتَلِجُ الصُّدور، ويَبْتَهِجُ

السُّرور، بادَرْتُ إلى توْفيةِ الحقِّ لك، وتَعَرَّفت الحال بكَ، مُشَيِّعاً بالدُّعاء في مزيدِكَ، ضارِعاً في الإدامَةِ لِتأْييدِكَ، فإنَّ الوقتَ إساءة وأنت إِحْسانُهُ، والخيرَ عَيْنٌ وأنتَ إِنْسانُه. والسلام. وفي المعنى لأبي نصر: أَطال الله بقاء القائد الأعْلى، ونُجُومُ السَّعْد في سمائهِ مُتَّقِدَة، وأَفْئدَةُ المجْد لِعلائِهِ مُعْتَقدة، ولازالتِ الأيامُ تطْلُعُ به سروراً، وتَدَعُ الدِّينَ بهِ مسْروراً. فقدْ ألبس الإسلامَ ظهوراً، وجعلَ يومه مشهوراً. وما تزالُ عزماتُ القائدِ الأعْلي فائزاتِ القدح المُعلى، فإذا رمى غرضاً قرطسهُ، وإذا أمَّ عَلَماً نَكَّسهُ، وإنْ قاتَلَ كتيبَةً كتَبَ إليْها من المنايا كتُباً تقَعُ عَلَيْها وتَسْقُطُ، والبيضُ تَشْكُلُها، والأسنَّةُ تنقط. ورُبَّ يومِ هياجٍ الْتَهَبَتْ جوانِبُه بتوْقُّدِ الهجيرِ، وحامَتْ كُمَاتُهُ على نهرٍ أوْ غدير. والقَتامُ قدْ تكاثَفَ كحاثِر الأنْفاسِ، وترادَفَ فمَنَعَ منْ تداني الأشخاص. والأسنة تبدو كأنَّها أنْجُمُ السماء، والسُيُوفُ تَلُوحُ كأنَّها جداوِلُ ماءٍ، فأوْرَدهم منها غُدُراً، لم يُطيقُوا عنها صدراً، وثنى إليهم قنا أَطْرافِها قِصَدٌ، وكأنَّها في سماءِ النَّقْعِ للكماةِ رَصَد، فَصَبَّحَ قُلْمُرية بكل فتى كالحُسامِ المُهَنَّدِ، طويل نجاد السيفِ رحْبِ

المُقَلَّد، فحالَ بسيطَها بالغارة الشّعْواء، وأراها بأنَّه منسجمُ الأهواء. فقد أحْماها وهو مُباح، وأرْواحُ فوارِسها تُسْتَباحُ، فكَأنَّ وميضَ بيضِهِ بُرُوقٌ وخواطِف، وهاماتهم أزْهارٌ وهْوَ قاطِف، ولله عقائلُ منْ سبْيهم زُفُّوا إليه، ولمْ يَخْطُبُهُنّ إلا بحرابِه، ولا أُولِمَ لَهنَّ غيرُ طعْنِه وضِرَابِه، فبرزْنَ في يومٍ مهول، ينْظُرْنَ نظرَ ذهولٍ، وقد نشَرْنَ الغدائر حزْناً، وأَسْبَلْنَ المدامِعَ مزْناً، والشُّموسُ لهنَّ حواسِد، وهنَّ لديه ملقيات كواسد. ولا بطل يرنُو إلى كاعِبٍ، وسيفُه في يده كمِخْراقِ لاعب، فَعُدْنَ مُعَطَّلاتٍ حتى منَ التَأمُّل، وأَبْدَيْن الكآبة لمَّا ضعفْنَ عنِ التَّجمُّل. وكم منْ خَوْدٍ كانت عن الحرير مرْتَفِعَة، وصوناً عن الشمس مُتَلَفِّعة. بدتْ للعيُونِ، واكْتَسَبَت ملابسَ هونٍ، فَزِعَتْ بالويلِ، وسعتْ بين أرجُل الخيل. لم تلْقَ حافِظاً، ولمْ تَر بالحَثَرِ لها لاحظاً. فأَرْضُ الرُّوم منْ وقائِعِ القائِد الأعلى قد اخْتلِسَ فُؤادُها، ويَئِسَ من استقلالها عُوَّادُها، فلازالتِ الدولة به مَحْمية الأقطار، مقضيَّةَ الأوْطارِ، تَتَوالى عليها الفُتُوحُ توالي العهادِ على الرَّوْضِ، والوِرادِ على الحوض. قوله: (في هذا المزدوج كحاثر الأنفاس وتداني الأشخاص) جمع فيها بين السين والصاد، لأنهما من مخْرج واحد، وهو المٌخْرج التاسع من مَخَارج الفم، ولا شتراكهما في الصَّفير والهمْس؛ فالجمع بينهما في مثل هذا جائز، كما فعل الراجز حيث يقول:

يَا أُمَّ عمرو عَجِّلي بِقُرْصِ وَعَجِّلي قَبْل طُلُوعِ الشمسِ وخبزة مثل جُماءِ التّرسِ أنشده أبو علي في كتابه (المقصور والممدود) عن ابن الأنباري عن أبي العباس عن ابن الأعرابي. وله في المعنى: كتابُنا - أبقاكم الله - والمَسَرَّاتُ تَرِدُكم، والخيراتُ تعتمِدُكم، يوم كذا من شهر كذا، وقد فتحَ الله لنا وللمسلمين، وشفى بنصره صدور قومٍ موُمنين، وأَورثنا أرض الشركِ وما كُنَّا لها وارثين. وشرحُ ذلكَ أنَّنا خرجْنا ذائبين عنْ هذا الدين أنْ يُسْتَباحَ، وحامِين لحماه أنْ يُباح، فنفرْنا خفافاً وثقالاً، وما حللنا الموثِق عقالاً، إلى أنِ احْتللنا بلاد الروم وهي آمنة تحسبُ أنَّها لا تُراع، وساكنةٌ لم يُحرِّكها قراع، قد انتشرَ أهْلُها انتِشارَ سوامِها، فروِيتْ آمالُ المُسلِمينَ بعد أُوامها، وظَلُّوا يَسْتاقونَ النعمَ، ويُوافُونَ المَغْنَمَ الأعمَّ، حتى وافينا قاعِدَتهم العُظْمى، وقدْ تسامَت عن الحوادثِ فما تخْشى لها إناخَة، وصمَّتْ عنِ الكوارثِ فما إليْها إصاخَة. فرأيْنا مَعْقِلاً لا يَبْلُغُهُ النَّجمُ، ولا يُصيبُه منهُ رجْمٌ،

أشبَ الجوانب، مُنْسرِبَ الذِّوائبِ، قد اخترقتِ الجداوِلُ ساحاتِه، ودَبَّجَتِ الأزاهِرُ مساحاته. وأدْواحُه تنعَطِفُ في أكُفِّ الرِّياحِ، وتكادُ تنْعَصِفُ منَ الارتياحِ، قد نشرت ورقها ذوائبُ الحِسانِ، وزهرتْ لتَأميلِها كأنّها زهرةُ بُسْتان. فرأيْنا روْضاً تروقُ، وأرْضاً كأنَّما خلع عليها الشُّروقُ، فضربتِ المَحَلاتُ بها مضارِبها، وأخَذَتْ جوانِبَها كلها مشارقها ومغاربها، فلمّا رأى أهلُها ذلك سُقِطَ في أيديهم، وحَلَّ البلاء في ناديهم، فلم يَبْرُزْ منهم ذلك اليوم أحدٌ، وصارَ الرُّعْبُ بيننا وبينَهم حدٌّ، فَبِتْنا بعد أنْ هَدَمْنا صوامعها والكنائس، وخَلَعْنا أَلْسِنَةَ تِلْكَ النَّواقِس، فلَّما بدا منَ الفَجْرِ سُفُورُ، ونشَرَ للصُّبْحِ كافُور، برزَ لنا منها أُسُودٌ على عِقْبَانٍ، وجُرْدٌ كأَنَّهم الكُثْبانُ، ونحنُ مسْتلِمونَ بالسلاحِ، مُعْلِنُونَ بدعوة الفلاح. فحملوا علينا حمْلةً ظَنَنَّا أنَّ الجبالَ إلينا زاحفةً، وكادتِ القُلُوبُ منها تعودُ واجِفَة، فصبرنا لحرِّ طعانِهم، وتجرَّعنا مرارةَ مُرَّانِهم، وأَقْبَلْناهُم وجُوهاً تتهَلَّلُ إذا عَبَسَ الحُمَامُ، وأَنْفُساً تتجَلَّدُ كلَّما عضَّها الحُسامُ. فتَجَرّعْنا الغَصصَ وتَجَرّعوا، وأَشْرَعْنا إليهم مثْلَ ما إلَيْنا أشْرعوا، وتواقفْنا طويلاً وقدْ حَمَتِ الصُّدور، وكُؤوسُ المنايا تَدُور، وعزائمُ البأسِ تُنْتَضى، والأرْواحُ تُقْتَضى، إلى أنْ صدقَ المُسْلِمونَ في الجِلادِ والطعانِ، وحملوا عليهم كأنَّهم العِقْبان، فوَلَّى المُشركونَ أمامَهم مُنْهَزِمينَ، وتَوَلاَّهم المسلمون بالسُّيوفِ مُلْتَزِمينَ، ووقفوا لهم دونَ المعقِل فلمْ يكنْ لهم مَنْفذ، وما نجا منهم ولا فذّ. وتَحَصَّلَ للمُسْلِمينَ منْ دوابِّهم وأسْلابِهم ما اسْتَوْفروهُ حظّاً، وأَقَرُّوا به لَحْظاً، والحمد لله ربِّ العالمين. وصلى الله على محمدٍ خاتم النبيين.

وله في المعنى: أطال الله بقاء الأمير الأجلِّ للأرْضِ يتملَّكُها، ويستديرُ بسعْدِهِ فلكُها. قدِ اسْتَبْشَرَ الملك - أيّدك الله - وحقّ لهُ الاستبشارُ. فقد أوْمأ إليه السَّعْدُ وأشارَ، بما اتَّفقَ له منْ توْليتِكَ، وخَفَقَ عليها منْ أَلْوِيَتِكَ. ولقدْ حُبِيَ منْكَ بملِكٍ أمْضى من السَّهْمِ المُسَدَّدِ، رحْبِ المُقَلَّد، يتقدَّمُ حيثُ يتأَخَّرُ الذابِلُ، ويُكْرَمُ إذا بَخِلَ الوابلُ، ويحْمي الحِمى كربيعَة بن مُكَدَّم، ويسقي الظبى نجيعاً كلونِ العنْدَمِ. فهنيئاً للأنْدلس، لقد استردتْ عهد خُلَفَائها، واسْتَجَدَّتْ رُسومَ تلكَ الإمامةِ بعدَ عفائها، فكأنْ لمْ تَمُرَّ أعاصيرُها، ولمْ يَمُتْ حَكَمُها ولا ناصرُها اللذان عَمَرا رُصافة والزَّهْرا، ونكحا عقائل الرومِ. وما بذلا إلا المشرفيَّة مهراً. والله أَسْأَلُهُ إظْهارَ أيَّامِكَ، وبه أرْجو انتشارَ أعْلامِكَ، حتى يكونَ عَصْرُكَ أجْمَلَ من عَصْرِهم، ونصرُكَ أغْربَ من نصْرهم، بمَنِّهِ وطَولِهِ. وكتب أبو بكر بن عمار إلى المعتمد بن عباد عند منصرفه ظافراً من غزوة بهذا المنظوم:

بُشْراكَ قدْ كمُلَتْ لنا بُشْرانا ... وهَناكَ ما بِكَ سَرَّنا وهَنَانَا فتْحٌ فتَحْتَ بهِ افتتاحَكَ للهدى ... وجعلتَ من مربلَّة عُنْوانا ظَلَّلْتَ منْ شَجَرِ العَوالي دِيننا ... ورقمت منْ روضِ النَّدى دُنْيانا حَمَلَتْنا تِيجانَ سعْيِكَ للهُدى ... فلْتَحْمِلَنْ منْ شُكْرنا تيجانا أجْنَيْتَنا ثمر المنى منْ دَوْحةٍ ... لم تتخِذْ غيرَ الوغَى بُسْتانا فتْحاً تقلَّد بالسيوفِ جواهراً ... قد فصلتْ بدم العِدى مَرْجانا خلعَت به كفُّ السُّرُورِ على المُنى ... بُرْدَ النَّجاحَ مُطَرَّزا رضوانا وسَرى نسيمُ النَّصر في غُصن العُلا ... فاهتزَّ حتى خِلْتَهُ نشوانا لله حاجِبُكَ الذي جرَّدته ... سيفاً إذا نبتِ السيوف أبانا غصنٌ من العَلْياء أبدى روضة ... وطُلىً وأَثَّرَ حُسْنُهُ إحْسانا قمرٌ أعَدَّ من الجوادِ لحربه ... فُلْكاً ومنْ حِلَقِ الدروع عنانا ماءٌ إذا عنَتِ العداةُ فإن عَنَتْْ ... نارٌ تُثيرُ من العجاجِ دُخَانا أهْدى نسيمُ الفتْحِ منْ روْضِ الظُّبا ... غَضّاً يُعَطِّرُ حِمْصنا أرْدانا وجلَى عَروسَ المُلْكِ لم ينقُد لها ... في المَهْرِ إلا مُرْهَفا وَسِنانا عُرْسٌ يعودُ على عدُوِّكَ مأْتماً ... ومسَرَّةٌ تُهْدي له أحْزانا غَنَّتْ بهِ في دوحِ حمصَحمائمٌ ... نعبتْ على غرناطةٍ غِرْبانا

عجَباً لواهي الحبْلِ في صنْهاجةٍ ... ضاهى متينَ الحَبْلِ في قحطانَا أسْرِعْ لصرعته أبا عمروٍ فقد ... قدَّتْ لَهُ كفُّ الرَّدى أَكْفانا أيُّ جاريكَ العلا طرفاً ولمْ ... تَتْركْ ظُباكَ لراحَتَيْهِ لَبانا هَوِّنْ عليكَ فكم جموحٍ قبْله ... ألْجَمْتَهُ هذا الحسامَ فَلانا وارتَعْ وإنْ تَبْغِ ارْتِياحَكَ منهمُ ... فلقد قبَضْتَ نُفُوسَهم أثمانا سيُنيرُ رُمْحُكَ كوْكَباً ترمي بِهِ ... من نجْلِ إسحاقَ الرَّدى شيطانا ويشبُّ سيفُكَ في الوغى ناراً تُقَرْ ... رِبُ رأْسَ باديسٍ لها قُرْبانا قدرٌ من الله العظيم مُعجَّلٌ ... منْ يستطيعُ دفاعَ ما قدْ آنا أَبْشِرْ فقدْ لاحَ الصباحُ لناظرٍ ... ورأوا لمُلْكِكَ فيهمُ بُرهانا إنْ كُنْتَ منْ لخْمٍ وسُدَّتِهمُ فقد ... سادَ النبيُّ محمدٌ عدْنانا ولئن تملكْتَ الزَّمانَ فإنَّما ... أعْطيتَ حقَّكَ فيه لا عُدْوانا أنتَ القريبُ من النُّفوسِ محَلَّة ... هذا وإنْ عرَّشْتَ في كيوانا والله لا صُححَتْ أيْمانُ امرئٍ ... حتى يُصححَ حُبُّكم إيمانا

إنْ كنتُ معتقداً هواكمْ مِلَّةً ... فلقدْ تلوتُ بمدحكُمْ قُرآنا كيف السبيلُ لشكرِمَا أوْليْتَنَا ... ونَدَاكَ أفحم من أعدَّ لسانا حَمّلتنا ثمرَ الأيادي مُفْضَلاً ... أشْفِقْ فقدْ أثقَلْتنا أَغْصانا أمْطرْتَنا سُحْبَ المكارم ثرَّةً ... أمْسِكْ فقد خوَّفْتَنا الطُّوفانا لا صُبْحَ أشْرَق منْ جبينِكَ في وغىً ... قد حيَّرتْ في ليلها الأجْفابا أحيانُ تصدُرُ عنْ أعاديكَ الظبا ... وِِرْداً وَقَدْ أوْرَدْتها سَوْسانا في مجلسٍ أَجْريتَ فيه دماءَهم ... راحاً جعلتَ لها القنا رَيْحانا ياأيُّها الملكُ الذي عهدي به ... منْ كان ظمآنَاً إلى ظمآنا مالِي يُعَطِّلُني زماني بَعْدَما ... حلَّيْتُ فيه بمدحكَ الأزْمانا إنِّي تجِرْتُ ورَأْسُ مالي حُبُّكم ... أيَحِلُّ لي أَنْ أشْتَكى خُسْرانا بَدِّدْ دُجى ليلي بأَقْمارِ النَّدى ... فلقدْ بقِيتُ بليلها حيرانا وامنُنْ بِتَسْريحي وصكٍّ يَقْتَضي ... بُرْئي ونُصْحي للزَّمانِ أمانا واقْبَلْ إليكَ جوادَ شكري مُسْرَجاً ... إنْ أنتَ أعددتَ النَّدى ميدانا لوكان أحْراراً عداؤكَ موئلي ... لدَعوتُ أنْ تَسْتاقَهُمْ عُبْدانا لكِنْ هوى بهمُ الضَّلالُ وأَصْبَحَتْ ... هاماتُهُم لسيُوفِكمْ أَجْبانا قال أبو إسحاق: نَكْتَفي بهذا القصيد الفريد الزّاهي، على نكتَة الخطبة، ودُرَّةِ التاج، ووسْطى العُقود. والمنظومُ في هذا المعنى كثير الأنواع والضروب، ومنه المُتَعارَفُ المعاني والقصيُّ الغريب، وأبو بكر بن عمار مشهور في أكابر الأدباء، وأعلام الشعراء، مديدُ الباعِ، كثيرُ الانْطباع.

وكتب أبو نصر يهنئ بولاية: سيدي الأعلى، ومعتمدي للجَلَّى، وبدْرَ أسْعُدي المُجْتَلى، ومنْ أطالَ الله بقاءهُ، والأيامُ تُرْقيه أرْفَعَ مراتِبِها، وتنتظُمُ مجْدَه على ترائبها. لقد سرَّني - دام عِزُّكَ - أنْ حليَ بِكَ ذلكَ الكرسِيُّ بعد عَطَلِهِ، وحفِيَ منْكَ بفارسِهِ وبَطَلِهِ، فأنِسَ بعدَ نفاره، واقتبسَ ناراً منْ مرْخِهِ وعفارِهِوقد قَذِيَ نَاظِرُه، وشجِيَ خاطرُهُ، أسفاً على نُزُولِكم عنْ أعْوادِه، وكَلَفا بكمْ لمْ يُزِلْكم عنِ فُؤادِه، فالحمد لله الذي أصارَالأمر إلى أرْبابِهِ، وأعادَ إليْهِ أيَّامَ شبابِهِ، وسقى الله تلكَ الحضرة فإنَّها مُشْرِقَة، وغُصونُ المُنى فيها مورِقة. فكمْ حَمِدْتُ عَصْرَها، وواليتُ جنيَ الأماني وهَصْرَها، ورَحِمَ الله الذِّاهبينَ منها، فلقدْ أجْرَوْني في ميدانِ البِرِّ طلَقاً، وأرَوْني الدَّهرَ صُبْحاً وفلقاً، لا أرى مثْلَهمْ مُنْجداً ولا مُعيناً، ولا يزالُ دَمْعِي أبداً عليهم معيناً، والله تعالى يُبْقي سيدي الأعْلى جابِراً لذلكَ الصَّدْع، ورادِعاً للوْعَتِهم وأنالها بالرَّدْعِ. أبو عبد الله بن أبي الخصال: أطال الله فيما ترضاهُ يقاءكَ، ومَكّنَ سعْدَكَ وعلاءَكَ، وأَظْهَرَ مجْدَكَ وسناءكَ، وعمَّر بالآمال فناءكَ، ورفعَ في كلِّ صالحة بناءكَ، ولازِلْتَ تتعرَّفُ منْ نِعَمِهِ المزيدَ، وتَجْتَلي الصُّنْعَ الجميلَ الحميدَ، وتُدْرِكُ الشأوَ الصالِح البعيد. كتَبْتُهُ - أدامَ الله عزك - وقدْ بَلَغَني ما نيطَ بكَ من الأمر، وقُلِّدْتَ منْ حمايَةِ الثَّغْرِ، فسألْتُ الله تعالى لكَ أَعَمَّ الآضْطِلاعِ والاكتفاء، وأتَمَّ الاستقلال ... ،

وأنْ يؤيدكَ بنصره العزيز، ويكتُبَكَ في أهل السبْقِ والتَّبْريزِ، وأنْ يجْعَلَكَ في كنَفِهِ المنيعِ الحريزِ، وأنْ يُظْهِرَكَ على منْ يليكَ من الأعزاء، ويُبْقيكَ ميْمُونَ الأمر منصور اللِّواء، وهو تعالى بمَنِّهِ يستجيبُ لك صالحَ الدُّعاءِ، ويَمُدُّكَ بالتوفيق والتسديد في جميع الأنحاء. وله يهنئُ بولاية القضاء: أطال الله بقاء الوزير الفقيه الجليل، ذي القدر النبيل، والذكر الجميل، والمجد الأثيل، والبيتِ المُعْرِضِ في المكارم المستطيل. وَجَنَابُهُ بِدِيَمِ النِّعمِ خَضِلٌ، ومكانُهُ بِوُفُودِ السَّعدِ مُسْبِلٌ هَطِلٌ، وأيَّامُهُ تتبارى في معالٍ لهُ تبْنيها، وحظُوُظٍ تُدْنيها والقدرُ موافق فيها. مِثْلُكَ - أدامَ اللهُ عِزَّكَ - مِنَ السَّادات، المُهَيِّئينَ لدرجاتِ المجْدِ والسيادات، المُعْرِقينَ في الوجاهة، المُشْرِقينَ في مطالِعِ النَّباهَة، إذا تَبَوَّؤوا ذِرْوَةَ علاءٍ، واقتَعَدوا غاربَ سناء، وانتظموا مع النجوم في سلكِ سماءٍ، فإنَّما حازوا تُراثَ آباءٍ عنْ آباء. وتِلْكَ سبيلُهُ في خُطَّة القضاء التي هامتْ بمعاليه، ومَثُلَتْ ضارِعَةً تناديه، وتَشَبَّثَتْ بهِ تشبُّثَ العاطل بالحُلِيِّ، والعاطش بالمنهلِ الرَّوي، حتى رقَّ لها الزَّمان، فاطمأنتْ لها الدَّارُ واسْتَقَرَّ بها المكانُ.

فهنيئاً لها من فاضلٍ أرْوَعَ فازتْ بعُلُوِّ هِممِهِ، وأصْبَحَتْ في ذِممِهِ، وعزَّتْ بكرمِهِ؛ فالعدل لباغيه مُتاحٌ، والحَقُّ لسائلِه مُباح، ولئنْ عَمَّتْ هذه النِّعمة أُمَمآً، وشفَّتْ صُدُوراً ونَفَتْ لَمَماً. فإنِّي لمخصوصٌ منها بفضْل مزيَّةٍ، وحصَّةٍ على الحضيض عَلِيَّةِ، لِما يَجْمعُنا منْ أَذِمَّةٍ تُرْبي على النَّسَبِ، وترجح وزناً بأواصر الحسب. ولذلك ابتدرتُ المُساهمة ابتداراً، ورفقْتُ بما بيننا نداءا وشعاراً. والله يعرِّفُنا وَإيَّاهُ بركة ما قلَّده، ويُطيلُ مُدَّته ويفسحُ أمده. وبي إلى مُطالعتكَ ظمأٌ وبَرْحٌ، وشوقٌ لا يَأتي عليه تفسيرٌ ولا شَرْحٌ. والله تعالى يُعرِّفك السداد في القول والعمل، ويُبْلِغُكَ أَقْصى العُمرِ والأمل بقدرته. ولبعضهم يهنئ بولاية الوزارة: في إحاطتكَ الوافية، ودِرايَتكَ الوافرة، إنِّي بكَ - أعزَّكَ الله - راجِحُ ميزان الذُّخْر، مُنْهَلُّ ماء الفخْرِ، ثريُّ أرْضِ الوِدِّ، عطرُ رائحة العهد، وأنَّ بُشْرايَ تتابعتْ، وأنَّ هِلالكَ في الوزارةِ طَلَعَ بدْراً، وأنَّ مداكَ بها صار شَفْعاً وكان وِتْراً، فقلتُ ساقها شغفها، وزانها شرفهُ لا شرفها. فَلْيَهْنكَ حُلُولُكَ بِفَرْقَدَيْها، وجَمْعُكَ بينَ نَيِّرَيْها. وإنَّكَ مُقَلَّدُها منْ خلالِكَ فذَّا وتَوْءماً، ومُلْبِسُها منْ صفاتِك

طرْزاً وَعَلَماً، حُسْنَ يقينٍ، ومَتانَةدين، وطيبَ جِذْمٍ، ورُسُوخَ ورعٍ وعِلْمٍ، وأدباً كالروضِ نبَّهتْهُ الصَّبا، وكرماً كالغيثِ عَمر الرُّبا. ولقد قعدتُ للتَّهْنِئةِ فأقْبَلَتْ عليَّ هواديها، وانْقادتْ عليَّ منْ حاضرها وباديها، فإنْ تقدَّمْتُ فَلِفَرْطِ الهبَة، وإنْ تَأَخَّرْتُ فلعِظَمِ الهيْبة. قوله: (فقلت ساقها شغفها وزانها شرفه لا شرفها) من قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وذلك أنَّهُ لما عهد إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالخلافة، ودفع إليه عهده مختوماً، وعمر لا يعرفُ ما فيه. فلمَّا عرفَ ما فيه رجع إلى أبي بكر حزيناً كَهَيْئَةِ الثَّكْلى، وهو يقول: (حمَّلْتَني عِبْئاً لا أَضْطَلِعُ به، وأَوْرَدْتَني مورِداً لا أدْري كيْفَ الصَّدَرُ عنه). فقال له الصديق: (ماآثرتُكَ بها، ولكني آثرْتُها بك، وما قَصَدْت مساءَتك ولكنْ رجوتُ إذخال السرور على المؤمِنين بك). ومن هذا أخد الحطيئة قوله: ما آثروكَ بها إذْ قدَّموكَ لها ... لكن لِأَنْفُسِهم كانتْ بها الأمرُ وتبعه الحسين بن مُطَيْرْ فقال: مُبْتَلَّةُ الأطْرُفِ زانتْ عُقُودها ... بأحْسَنِ مِمّا زَيَّنَتْها عُقُودُها ويروى: (مُحَصَّرة الأوساط). وتبعه الآخر فقال: وتزيدين أطيب الطِّيب طيباً ... إنْ تَمَسِّيه أيْن مثلكِ أيْنا

وأخذه علي بن العباس الرومي فقال: وأَحسنُ من جيدِ المليحة عِقْدُها ... وأحسنُ من سِرْبالها المتَجَرِّدُ إنما هو: (وأحسن من عقد المليحة جيدُها). وما وقع في الكتاب وهمٌ. فانظره. ويروى: (آنق من عقد المليحة) وأخذه الشريف الرضى فقال: حُلِيُّهُ جيدُهُ لا ما يُقَلِّدُهُ ... وكُحْلُهُ ما بِعَيْنَيْهِ منَ الكَحَلِ قال أبو إسحاق: وفي حفظي أبيات لأبي بكر الصولي من النظم المستحسن، والكلام العذب الحسن، وهي في معنى التهنئة بالوزارة؛ غريبة المنحى والمنزع، ويحسن إثباتها في هدا الموضع. فقال: لِيَهْنِكَ يا خير مُسْتَوْزَرِ ... خِلاَفةُ خير الورى جعفرِ إمام هدى عمَّنا جوده ... فأصبح كالعارض الممطرِ أَتَمُّ من الشمس في حسنها ... وأزهرُ منْ بدْرِها الأزهَرِِ وَلِيتَ أموراً فأوردتها ... موارد محمودة المصدرِ وحُطْتَ الإمامَ وأموالَهُ ... على رغمِ باغٍ وَمِنْ مُكْبِرٍ

وقد أقبلتْ نحونا فتنةٌ ... ترُوعُ بجانِبِها الأوْعرِ فأشرق رأيكَ في ليلها ... ؤأوضح للسامع المبصرِ وأصلحتَ بالعدل منْ جوْرها ... وأسرعتَ بالعُرفِ في المنكرِ وكانت سعودك في نَحْسْها ... أتمَّ سعودٍ من المشتري بحزمٍ يُجلِّي الدُّجى والعمى ... ورأيٍ يُقيم صغا الأصعرِِ فقوَّمت في ساعة بيعةً ... تميلُ لغيرك في أشْهُرِِ وددت إليها على رغمهم ... شوارد من معشر نَبَّرِِ فألْسنَة الناس مجموعة ... فمنْ بينِ داعٍ ومستبشِرِِ بقيتَ ولا زلتَ في نعمةٍ ... تدوم وتبقى على الأعْصُرِ قوله: (خِلافَةُ خير الورى جعفر) هو جعفر بن المعتضد بالله أحمد بن طلحة ابن المؤمن بن جعفر المتوكل. بويع له بالخلافة لثلاث عشرة ليلة خلت من ذي القعدة سنة خمس وتسعين ومائتين، وسنه يومئذ ثلاث عشرة سنة. ودامت خلافته خمسا وعشرين سنة إلاستة عشر يوماً. استوزر في مدة خلافته اثني عشر وزيراً، وكانت في أيامه أمور وعجائب لم تكن قبل مدته. وله ألف أبو بكر محمد بن يحيى الصولي قائل هذه القصيدة، كتاب (الشبان) تسمى المقتدر بالله. وكان دُرِّيَ اللون. أحور، أصهب، ربع القامة توفي يوم الأربعاء لثلاث بقين من شهر شوال سنة عشرين وثلاث مائة.

وقوله: (فأشرق رأيك في ليلها) معناه أضاء. وفي كتاب الله تعالى (وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا). أي أضاءت بنور ساطع ظهر فيها. قال الشاعر: أَشْرَقتَْ دارُنا وطابَ جَنَاهَا ... واسْتَرَحْنا منَ الثَّقيل فراسِ وقوله تعالى (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ) أي حيث طلعت عليهم الشمس، لأن المَشْرَقَةَ، والمشْرُقَة بفتح الراء وضمها حيث يقعد المَشَرِّقُ في الشمس. قال الشاعر: تُحِبِّينَ الطَّلاقَ وأنتِ عندي ... بعيشٍ مثْل مَشْرُقَةِ الشِّتاءِ ويقال: شَرَقَت الشمس شُروقاً إذا طلعت. قال امرؤ القيس: فَصَبَّحهُ عند الشُّرُوقِ غُديَّةً وأشرقتْ، إذا أضاءت. قال الله تعالى (يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ). ويقال: (لاأفعل ذلك ماذرَّ شارِقٌ): أي ماطلع قرن الشمس. ويقال: المَشْرِقُ والمغْرِبُ، والشَّرْقُ والغَرْبُ لمطلعِ الشمس ومغْربِها.

وقال أبو بكر بن دريد: الشرْقُ والمَشْرِقُ صد الغرْب والمغرب والمشرقان والمغربان مَشْرِقا الشتاء والصيف ومغْرباهما. والمشارِق مطالع الشمس كل يوم، وكذلك المغارب، حتى تعود إلى المشرق الأول في الحول. وأيامُ التَّشْريق أيام يُشَرَّقُ اللحم في الظِّلِّ. وقال صاحب العين: أيامُ التشريق. كانوا يُشَرِّقُون اللحم في تلك الأيام للشمس، وهي الأيامُ المعدودات، والأيام المعلومات عشر ذي الحجة. ويقال: شَرِقَ الرجُلُ يشْرَقُ شَرَقاً بكسر الراء في الماضي، وفتحها في المستقبل، وفي المصدر إذا اغتص. قال عدي بن زيد: لو بِغَيْرِ الماء حَلْقِي شَرِقٌ ... كُنْتُ كالغَصَّانَ بالماء اعتصاري وقال أبو تمام:

أغْنَيْتَ عنِّي غَنَاء الماء في الشَّرق ويقالُ: شرِقَ الثوبُ بالصَّبْغ إذا احمرَّ واشتدت حمرته. ولَطَمَ فلانٌ فلاناً فشرقَ الدم في عينيه إذا احمرت. وذكر الأصمعي أن رجلاً لَطَمَ رَجُلاً بآخر فاشرورقَتْ عينه، واغْرورقتْ، فقدِم إلى الشعبي فقال: لها أمرها حتَّى إذا ماتبوَّأتْ ... بأخْفافِها مأوىً تبوَّأَ مَضْجَعا يعني أنه لا يحكم فيها حتى ينظر إلى ما يصير أمرها. وأصل الباب الطلوع. وفي الحديث (لاتَشْرِيقَ إلاّ في مصرٍ وفي مسجدٍ جامع) أي: لا صلاة عيد. وسمي الغَصَصُ شَرَقاً لأنه يطلع راجعاً. وكذلك شرق الثوب بالصبغ إذا اشتدت حمرته مشبَّه بالشمس الطالعة. وقولهم: ناقة شرقاء، إذا شقت أذنها بنصفين طولاً، لأنه شقٌّ يطلع منه ضوء وكذلك الشاة.

والشَّرْقُ أيْضاً طائر من الطير والصوائد مثل الصَّقر. قال الشاعر: قدَ اغْتَدي والصُّبْح ذو فَليقِ بمُلْجَمٍ أكلف شوذنيقِ أجْدَلَ أوْ شرْقٍ من الشروقِ وقوله: (يقيم صغا الأصعر)؛ أي ميَل المائل. وقد ذكر الصَّغا مشروحاً في موضعه من الجزء الثاني من هذا المجموع. والصَّعرُ داءٌ يأخُذ الإبل في أعناقها ورؤوسها، فتلوي أعناقها إلى ناحية من أجله. فشبه المتكبِّر على الناس، المُعْرِض عنهم تكبّراً لذلك. وفي الحديث (كلُّ صعَّارٍ مَلْعُون). يقال: رجل صعار؛ وهو ذو الكِبْر والأبَّهة، لأنه يميل بوجهه، ويعرض عن الناس. قال المتلمس: وكُنَّا إذا الجبَّار صعرَ خدَّه ... أَقَمنا له منْ ميْلِه قتقَوَّما وقال بشر بن خازم:

ألا يا عينِ فابكي لي سُمَيْرا ... إذا صعرت من الغضبِ الأُنُوفُ وسميرا أخوه. وذكر الصَّعَّار مالك بن أنس رحمه الله، وفسره بالنَّمَّام. وفي كتاب الله تعالى (وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ). قرأه ابن كثير وابن عامر وأبو جعفر يزيد بن القعقاع ويعقوب (ولا تصعّر) بغير ألف مشدد العين. وقرأ سائر السبعة بالألف من غير تشديد. وقيل هما لغتان بمعنى: لا تُعرض بوجهك عن الناس تجبراً وتكبراً. حكى سيبويه أن ضاعف وضعَّفَ بمعنىً ... صاعر وصَعَّر. وقال الأخفش: لا تصاعر بالألف لغة أهل الحجاز، وبغير ألف معَ التشديد لغة بني تميم. وروى شِبْل عن ابن كثير

(ولا تُصْعر) بإسكان الصاد. وروى ذلك عن الحسن وعاصم الجحدري. والمشهور عن ابن كثير تشديد العين من غير ألف كما تقدم. وقرأتُ في كتاب النوادر لأبي علي البغدادي أخبرنا أبو عبد الله يعنى أبا بكر بن دريد. قال: أخبرنا عبد الرحمن عن عمه قال: قال أعرابي كبير السِّن: أصبحتُ والله تُقيِّدني الشعرة، وأعثر بالبعرة. وقد أقام الدَّهْرُ صَعَري، بعد أن أقمت صَعَرَه. قال أبو علي: (الصَّعر: المَيَلُ) ومعنى صَعَري في هذا الخبر، أي مَيَلي إلى اللهو والصِّبا والعوج الذي كان في زمان الشبيبة. يقال: رجل أصْعَر: أى مائلُ العنق، وكذلك المتكبر على الناس، يميلُ بوجهه عن الناس إلى ناحيةٍ من الكِبْر. رجع وكتب بعض الأدباء إلى صديق له مهنئاً بالابتناء بأهله. وأهل الرجل زوجه. والتأهُّلُ: التَّزَوُّج، وأهل الرجل أيضاً أخصُّ الناس به، وأهلُ الإسلام من يدين، به وأهل القرآن: من يقرؤه، ويقوم بحقوقه. وأهل البيت سكانُه. وقولهم: مرحباً وأهلاً، أي اختصاصاً بالتحية والتكرمة. وأصل الباب: الاختصاص. ويقال أهَّلته لهذا الأمر: أي جعلتُه أهلاً له. والأهلي خلاف البَرِّي. وأول الرسالة: بأيْمَن طائر وأتمِّ سعدٍ ... يكون من الكريمين اجتماع أما أنَّه المجد اليفاعُ، والحسن المُطَاعُ، تعارفت الطباعُ، فتلاءمتِ الأنفس

الشعاع، كما التقى الكوكبانِ، واقترن النيران كما حاصر الريحُ الضَّيْغَم، وهاصَر النسيم الغصنَ المنَعَّم: كما راقَ فوقَ المِعْطَفِ الصارِمِ العضبُ ... كما التفَّتِ الصهْباءُ والبارِدُ العذْبُ بل كما فاوت القداح، ونُظم الوشاح، واعتلقَ الروضُ عبَقه، واعتَنَقَ شنٌّ طَبَقَه، فحَبَّذا النسبُ، شابكهُ الصِّهر والحسبُ، عانده التقي البَرُّ على حين جرتِ الأيامِن، واكتنفَ الحرمَ الآمن، فبالبنين والرَّفاء، والنعيم والصفاء، والثروة والنماء، والعزَّة القعساء الشماء، وعلى الموافقة والوفاق، والدوامِ والاتفاقِ، والحظُوظ والحدود، والبسطاط الممدودِ، وتتابُعِ البُشرى بالفارس المولود، ومالي تأوَّدْت أعْطافاً، وتأنَّقْتُ أوْصافاً، وتهللتُ جَذَلاً، وبسطتُ في الدعاء مَذَلاً. أَهَنَّاني الأربُ؟ أم صفا لي المشرب؟ وقد غبتُ عن اليوم المشهود، وما عَلِمت الإذن للوفود. ولم أقم في السماط، سافراً عن وجه الاغتباط، أتلقى الدَّالِجَ بمبرورِ التحية، وأبدي الخارج بحكم السرور والأريحيَّة، وأتَخَدَّمُ وقْعَ الوحي والإيماء، وأتقدَّم منَ المُصافاةِ والمُوالاةِ في الغفير الجمَّاء. كلاّ، ولا شهدتُ ليلة الزفاف، وما حَلَّتْ من محاسنها الأفواف، حيث دارت المنى سلاماً، وصارت العلا دوحة ألفافاً، وأبدى رَوْنَقَ السيف حلاء، وأبرز عقيلة الحي هِداءً. هنالِكَ جلَّتِ النَّعماء، ونهلتِ الأظْماءُ. فيالهُ منظراً، ووعداً مُنْتَظراً، لو ناجيتهُ منْ كثب، وَكَرَعْتُ منه في المنهل الأعذب، ولَنعمَ ما

مُنِحَ ذلكَ الموكبُ لماسح أهْداها جُمَلاً، فكَأنَّما أَسْداها أملاً، أثْلَجَ الفُؤاد، وأورى الزناد، وأحقبَ المراد، وفاء بالنفس أوكاد، وقلَّتْ عنْ قراهُ، نفسٌ جندلت يسراه، وأوجب لذكراه، وقد كان من الحقِّ أن أهاجر، وأَعْصِيَ الناهي والزاجر، فأرْقى جواراً، وأُشْفى بالمحاضرة أُواراً، ولكنها الأيام تزع، ويغيرما أودُّ تقع، فأبْسُطُ عُذراً، وإني لك ذخراً، وطبْ مدى الدهر خَبَراً وخُبْراً، وتملَّكْها منه أيادي غرّا. والسلامُ. وكتب بعض الأدباء عن أمير زفَّ ابنته إلى صهره: قد انتظَمْنا انتظام السلكِ، وصَرَّحنا عن مشارِبِ الحال الجامعة لنا قذاه كلَّ إفْكٍ وشكٍّ، وظهر الحقَُّ المبينُ من الميْنِ، (وتبيَّنَ الصُّبح لذي عينين)، وأنفَذَتِ الهديةالمُقْتَضاة محفوفةً بالحرم والمحارمِ، مكنوفة بالكرائم، تمَّ بالأعلامِ الأكارمِ. وأنا أسألُ الله في متوجهها ومُنْقَلَبِها الرِّعايةَ الموصولة بك، والكفاية المعهودة منك، حتى يفئ عليها ظلُّكَ، وَيَبُوءَ بها مثوى الحماية مَحَلَُكَ، ويحميها حرْزُكَ ومكانُك، ويأويها عزُّك وسلطانُك، ثم حسبي عليها كرمُكَ وكَنَفُكَ، وخليفتي عليها برُّكَ ولُطْفُكَ. فهي الآن ملكُكَ، وأنت الكريمُ المُسْجِح، وبضاعة متجري وأنت المربح المنجح، والله يُبقيكَ ويُعْليكَ، وتَشُدُّ قبْضَتُكَ على رقابِ أمانيكَ وأراجيك. ذخر الأبد، وعِمادَ الأهل والولد، وعندَكَ ثمرةُ النفسِ وفلذةُ الكبد. فارَقْتَها عنْ شدَّةِ ضَنَانَة، وأسْلمتها بعد طول صيانة، وما زُفَّتْ إلا إلى كريمٍ يحملها محمل الأمانة، ويقضي فيها الديانة، ويرعى لها حق انقطاعها عن أهلها، واغتِرابِها عنْ ملائها ومنْشئِها. وهو حكمُ الله الواجب، وقدره الغالب،

وسُنَّتُه المشروعَة، ومشيئتُهُ المتبوعة. ولنا في رسول الله أسوة، وفيما قاله في مثل هذه قدوة. وتلا قوله تعالى (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا) وقد قال عليه السلام: "فاطمة بِضْعَةٌ مني فمن أكرمها فقد أكرمني ومن أهانها فقد أهانني اللهم بارك لها وبارك عليها". وقد تصور لي أنّ قطعة مني فاقت منفصلة عني، فلمَّا تفكرتُ في خُرُوجِها إليك، وأنت منْ أنت تماسكتُ، وتراجعْت عند ذلك وتمالكتُ. والله تعالى يُطْلِعُني منْ سلامة الوُصول، وكرامة الحُلُول، ما يُقِرُّ العين، ويَسُرُّ النَّفسَ بمَنِّه. وذكر أبو منصور في كتابه قال: لما زفّ بختيار ابنته إلى تغلب بالموصل، أمر أبا إسحاق الصابي فكتب عنه فصلاً في المعنى استحسنه البلغاء وتحفظوه، وهو: وقد توجَّه أبو النَّجم بدر الحرمي وهو الأمين على ما يلحظُه، والولي بما

يحفظه، يحمل الهدية وإنَّما نُقلتْ منْ وطنٍ إلى وطن، ومن مُعَرَّسٍ إلى مُعَرَّس، ومن مأوى برٍّ وانعطاف، إلى مأوى كرمٍ وألْطاف، ومن منبت درتْ له نَعْمَاؤُهُ، إلى منشإ يجود عليه سماؤه، وهي بضعة مني انفصلت إليكَ، وثمرة من جَناني حصلت لديك، ومابان عني منْ وصلتُ حبله بحبلكَ، وتخيَّرْتُ له بارعَ فضْلِكَ. جواب هذا الفصل من إنشاء أبي الفرج الببغاء قال بعد الصدر: وأمَّا أبو النَّجم فقد أدى الأمانة إلى أهلها، وسلَّمَ الذَّخيرة الجليلة إلى مُتَقَبِّلها، فجَلَّتْ عنِ العزِّ في وطنها، وأوتْ منْ حِمى الأسد إلى مُستقرها، وسكنها، منتقلة من عطن الفضل والكمال، إلى كنف السعادة والإقبال، وصادرة عن أنبل وِلادَةٍ ونسب، إلى أشرف نصاب وحسب وفي اليسير منْ لوازمِ فُروضها، وواجباتِ حُقُوقها، ما يُغْني عنِ الوصاة بها. وكيف يوصي الناظر بنوره، أو يُحَضُّ القلبُ على حفظِ سُرُورِه؟

قال أبو إسحاق: وكناية الأُدباء عن الزوجة بالهَدِيَّة، كنايةٌ رفيعة سَنِيَّة، وكان شُعراءُ العرب في الجاهلية، وصدرِ الإسلام يُشَبِّبُون بالنساء، ويُعلنون بأسمائهم، حى توَعَّدهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه على ذلك، وعهد إليهم ألا يُشبب أحد منهم بامرأة معلناً باسمها. وقد نفى نَصْر بن الحجاج بن علاط البهزي من المدينة، وكان فتى جميلاً، من أحسن أهل المدينة صورة حين سمع امرأة تنشد: هلْ منْ سبيلٍ إلى خمر فأَشْرَبَها ... أمْ هل سبيلٌ إلى نصر بن حجاج وحكى الفضل بن موسى عن داوود العطار، أنه قال: سمع سليمان بن عبد الملك في معسكره صوت غناء، فَدَعا بهم، فقال: أمَا أنَّ الفرسَ ليصهل فتستودق له الرَّمَكَةُ، وأنَّ الجمل لَيَخْطِرُ فتضبع له النَّاقة، وأن التِّيس لينهب

فتستحرمَ له العَنْز، وأن الرجل ليغني فتشتاقُ إليه المرأة. أُخْصوهُم. فقال له عمر بن عبد العزيز إنها مُثْلة وطلب إليه فخلَّى سبيلهم. قال: ولَمّا كان ذلك من أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه، عادَ الشعراء بعد ذلك يُكنون عن النساء بالشجر، والثِّيابِ، والأزُرِ، والحُلَلِ، وما أشبهها. من ذلك قول أحدهم: فيا سَرْحَةَ الرُّكْبانِ ظِلُّكِ بارِدٌ ... وماؤُكِ عذْبٌ لو يُباحُ لشارِبِ ومنه قول حُمَيْد بن ثور الهلالي: أبَى الله إِلاَّ أنَّ سرْحةَ مالِكٍ ... على كلِّ أَفْنانِ العِضاه تروقُ فالسرحة في هذين البيتين كناية عن امرأتين. وقال الآخر: يا سرحَةً حرمتْ عليَّ وإنَّها ... لألذُّ منْ ماءِ الحياةِ وأعْذبُ ما بعد ظلِّكِ لي مَقيلٌ فاعْلمي ... كَلاّ ولالِيَ بعد مائكِ مشربُ والسَّرحة: الشجرة الملياء، ليس فيها شوك، ترتفع وتطول. وقال عمر بن

أبي ربيعة: فَوَاعِدِيه سَرْحَتَيْ مالِكٍ ... أو الرُّبا بينهما أَسْهَلا وانتصاب (أسهلا) في هذا البيت بإضمار فعل كأنه قال: ائتِني مكاناً أسهلاً. ومثله قول الآخر: ألا يا نخلةً منْ ذاتِ عِرْقٍ ... عَلَيْكِ ورحمة الله السلامُ كنى بالنخلة عن امرأة. وقال أبو بكر بن الأنباري في قول ليلى تصف الإبل: رَمَوْها بِأثوابٍ خفافٍ فلنْ ترى ... لها شبهاً إلاَّ النِّعَامَ المنَفَّرا معناه: بأَنْفُسٍ. وقال الآخر: ألا أْبْلِغْ أبا حفْصٍ رسولاً ... فدىً لكَ من أخي ثقة إزاري أى: فدى لكَ أهلي، وقيل نفسي. ولما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للأنصار ليلة العقبة: "أبايعكم على

أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم". أخذ البراء بن مَعْرُور بيده وقال: نعم، والذي بعثك بالحقِّ لَنَمْنَعَنَّك مما نمْنَعُ منه أزُرَنا؛ أي أنفسنا ونساءنا. وعن إبراهيم بن محمد بن عرفة النحوي في قول الله تعالى وجل في سورة المدثر (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) قال: معناه نساءك طهرهن. وعن ابن عباس والنَّخعي، وغيرهما من أهلِ العلمِ بالتفسير، أن معناه ونفسك فطهر. وعن مجاهد فيه: أي وعملك فأصلح. والعرب تقول: فلانٌ طاهرُ الثوب، ونقيُّ الثوب. إذا كان حَسَنَ العَمَل، طاهراً من الذنوب، ومن كل فعل مذموم. قال الشاعر: طاهر الثوب لا يقارب حَوْباً ... أريحيّ متوّج ذُو نوالِ وقال الآخر: مُطَهَّرُ الثوب لا كَفاءَ له ... من قومه حين يذكر الكرمُ فأما حديث أبي سعيد: إن الميت يُبْعَث في ثيابه التي مات فيها، فقال

فيه الخطابي أبو سليمان هذا يتأول على وجهين: أحدهما أن يكون الثيابُ كناية عن العَمَل الذي يموت عليه ويختم له به، ويدلّ على ذلك حديث الأعمش عن أبي سفيان عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يبعث العبد على مامات عليه". ويقال: فلانٌ دَنِسُ الثوب، إذا كان خبيث الفعل والمذهب. ولَبِسَ الرجلُ ثوب غدْرٍ إذا غَدَرَ. قال الشاعر: فإنَّي بحمد الله لا ثوبَ غَدْرَةٍ ... لَبِسْتُ ولا منْ ريبَةٍ أتَقَنَّعُ ويروى: (لاثوب غادر) ويروى: (ولا من فجرة). والوجه الآخر، أن يراد بالثياب ما يُلبسُ ويكتسى؛ يُريدُ أنهم يُبعثون من قبورهم، وثيابهم عليهم ثم يُحْشرونَ إلى الموقف حفاة عراة. وروى بعض الصحابة أنَّهُ لمَّا حضره الموت قال: أحْسِنوا كفَني فإن الميت يُبْعَثُ في ثيابه التي مات فيها.

وفي الحديث فيما روى قتيبة عن الليثي عن هشام ابن سعيد عن عطاء الخرساني قال: كان عمر بن الخطاب قد خطب إلى علي بن أبي طالب ابنته أم كلثوم فقال عليّ: إنها صغيرة، وإني مرْسِلُها إليكَ حتى تنظر إلى صِغَرها. فأرسلها إليه، وقال لها: قولي له إنّ أبي يقول لك: هل رضيت الحُلَّة؟ فجاءته وقالت له ما قال لها أبوها. فلما نظر إليها، قال: نعم، قد رضيتها. فكنَّى عنها رضي الله عنه بالحُلَّة. والحُلَّةُ ثوبان: إزارٌ ورداء. ولا تُسمَّى حلة حتى تكون جديدة تحل عن طيها. وقال الله تعالى وجلّ (هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ) فاللباس في هذه الآية كناية عن الأنفس، لأن النساء يَصِرْنَ بمنزلة ما يُلْبس. وقال النابغة الجعدي: إذا ما الضجيجُ ثنَى عِطْفَهُ ... تَثَنَّتْ عليه فكانتْ لِباسا وقد كنَّت العرب عن النساء بغير ما ذكرناه من الشجر، والحُلل والأزر. من ذلك قول علقمة: يحملن أترجَّةً نضْحَ العبير بها ... كأنَّ تَطْيابَها في الأنف مشمومُ فجعل الأترجة كناية عن امرأة. ومنه قول عنترة:

ياشاةَ ما قنصٍ لمن حلَّتْ له ... حرُمَتْ عليَّ وليتَها لم تَحرمِ فكنَّى بالشاة عن المرأة. وقال الأعشى: فَرَمَيْتُ غَفْلةَ عينه عن شاته ... فأصبتُ حبَّةَ قلبها وَطَحَالَهَا وقال ابن نُمير: كأنَّ على الظَّعائن يوم بانوا ... نعاجاً ترتعي بَقْلَ البِراثِ البِراثُ: الأماكن السهلةُ. واحدها: بَرثٌ، مفتوح الأول قاله أبو العباس فكنى بالنِّعاج عن النساء. ومثله قول امرئ القيس: هما نَعْجتانِ منْ نِعاجِ تبالَةٍ ... لدى جُؤْذُرين أو كبعض دُمى هَكِرْ وفي كتاب الله تعالى (إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ). فهذا كله كناية عن النساء. والنعجة عند العرب: البقرة الوحشية. قال امرؤ القيس: فَبَينا نعاجٌ يرْتعين خَميلةً ... كَمَشْيِ العَذارى في المُلاءِ المُهَذَّبِ وكلُّ هذه الكُنى، إنما تقع على الفتيات والكواعب الحِسَان الخفرات؛ من

كل طَفْلَةٍ عرُوبٍ هيفاء، ريَّا المخلخل: إلى مثلها يرنو الحليمُ صبابةً ... إذا ما اسبكَرَّتْ بين درْعٍ ومِجْولِ وما سِوى هذا الجنس من ذَوات الأسْنان اللاتي لايَعْلقن بقلب إنسان، فلهنَّ أسماء غير مستحسنات بألفاظ وصفات مختلفات، كمثلِ ما ورَدَ في كتاب "أنواع الأسْجاع" من تأليف ابن أبي الزلازل. قال: وجدت في كتاب أبي أحمد عبد العزيز بن يحيى الجلودي حدثني محمد بن سهل قال: أخبرنا عمارة بن وثيمة قال: أخبرنا محمد بن عبد الله بن يزيد قال: أخبرنا المفضل بن موسى المروزي

قال لي أبو حنيفة ألا أحَدِّثُكَ حديثاً ظريفاً. قلت: بلى. قال أخبرنا حماد بن سليمان عن إبراهيم النخعي عن رجل يقال له عبد الله أظنه ابن بجينة. قال: جاء زيد بن حارثة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي عليه السلام: أَتَزَوَّجْتَ يا زيد؟ قال: لا. قال: تَزَوَّجْ تَسْتَعِفَّ مع عِفَّتِكَ ولا تَزَوَّجْ خمساً من النِّساء. قال: وماهُنَّ يارسول الله؟ قال: لا تزوَّجْ شهْبَرَةً، ولا لَهْبَرَةً، ولا نَهْبَرة، ولا هيْذَرَة ولا لَفوتاً. قال زيد والله يارسول الله ماأعرف مما قلت شيئاً. قال: أما الشَّهبرةُ فالزرقاءُ البدينة، وأما اللَّهبرة فالطويلة المَهْزُولَة، وأما النهبرة فالعجوز المُدْبرة، وأما الهيدرة فالقَصيرَة القبيحة الدَّسيمة، وأما اللفوت فذات الوَلَدِ من غيرك. قال المروزي: وضحكَ أبو حنيفة لها ضَحْكاً طويلاً وكان لا يضحك إلا تَبَسُّماً. وذكر الخطابي أبو سليمان هذا الحديث ولم يسنده. وهذه الأسماء فيه. إلا أنه قال هيْذَرَة بالدال معجمة، وقال: الهيذرة الكثيرة الهَذَر؛ وهو الكلام الذي لايُعْبَأُ

به. يقال: هَذَرَ الرجل في منطقه يهذِرُ هَذراً، ورجُلٌ هذَّارٌ ومِهْذارٌ. قال: وأرى اللهبرة، إنما هي النَّهْبَلَة، وهي العجوز المدبرة. يقال شيخ نهبَل، وعجوز نهبلة. قال الشاعر: مأوى اليتيم ومأوى كل نهبلةٍ ... تأوي إلى نهبلٍ كالنِّسْر عُلْفُوفِ وقال في الشهبرة، هي الفانية. يقال شَهْبَرَة وشَنَهْبَرَة، وشَهْبَرِيَّة. وقال في النهبرة، إن كان محْفوظاً فهي التي قد أشرفت على الهلاكِ. والنَّهابِرُ المَهَالِكُ. ومنه الحديث: "من جمعَ مالا منْ تَهَاوُش أذْهبَهُ الله في نهابِرَ". وقال في اللفوت كما جاء في الحديث. قال: وسُمِّيَتْ لَفوتاً لأنها لا تزال تَلْتَفِتُ إلى ولَدِها وتَشْتغِل به عن الزوجِ. قال ابن الأعرابي: أوصى بعض الأعراب ابن عمِّ له أرادَ التَّزَوُّجِ. فقال له: إًيَّاكَ والحنانة، وهي التي كان لها زوج قبلك فطلَّقَها، فهي تحِنُّ إليه. وإِيَّاك والمنانة. وهي التي لها شيء تُعْطِيكَ منه، فتمُنُّ عليك بذلك. وإِيَّاكَ والمُسَوِّفَة. وهي التي إذا أراد زوجها منها الخُلْوة، تقول له سوفَ سوف حتى يكسل وينام. وإياك واللفوت وهي التي لها ولدٌ من غيرك، فهي تلتفتُ إليه وتشتغل به عنك. وإياكَ والمشْفاة؛ وهي التي دفنتْ ثلاثةَ أزواج. قال ابن الأعرابي أنشدنا المفضل: مِشَفَّاةٌ إذا عَلِقَتْ بِقِرْنٍ ... دنا َذاك القَرِينُ من الحِمَامِ وفي الحديث "خيْرُ نسائكم العطرةُ المطرةُ" فالعطرة من العِطْر، والريح

الطيبة، يريد المرأة التي تُكثر استعمال الطيب. قال حسان بن ثابث: شأنها العِطرُ والفراشُ ويَعْلُو ... هَا لُجَيْنٌ ولُؤْلُوٌ منْظُومُ والمطِرَةُ من المطرِ، يريد التي تُكثِرُ الاغتسال والتنظُّفَ بالماء. وقال أبو عمر المُطَرِّز: المُطْرُ: كثرة السواك. وحكى عن أحمد بن يحيى عن ابن الأعرابي قال: وصف أعرابيٌّ جاريةً فقال: (بيضاء فضَّة، عَطِرة مَطِرة، مشياصٌ خفِرَة). والمِشْياصُ: الكثيرة السِّواك. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عليكم بالأبكارِ فإنَّهنَّ أطيبُ أفواهاً وأنْتَقُ أرحاماً وأرْضى باليَسير". وقد ذكر أبو علي البغدادي في نوادره، أسماء زوج الرجُلِ بألفاظ مختلفة باشتقاقها وتفسيرها. فإنَّ قال قائل أيُّما أفصح؟ زَوجُكَ بلفظِ التذكير، أو زوجَتُكَ بإثباث علامة التأنيث؟ قيل له: زوجَكَ على لفظ التذكير، لأن الله تعالى يقول في كتابه العزيز (أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ) وقال الله تعالى (اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) وقال (وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ). فأزْواجٌ جمع زوج بطرح الهاء، ولا يصِحُّ أنْ يكون جمع زوجة. وأنشد أبو العباس المبرد: وأراكُمْ لَدى المُحَامَاة عندي ... مثل صَوْنِ الرجال للأزْواجِ

فإن قال: لِمَ لفْظُ التذكير أفصحُ وأكثر في الاستعمال، والمعنى مؤنث؟ قيل له لما كانت الإضافة تلتزمُ الاسم في أكثر الكلام، كانت مبنية له، وكانت بطرح الهاء أفصح؛ إذ كانت أخفّ مع الاستغناء بدلالة الإضافة عن دلالة هاء التأنيث. وحكى أبو عبيدة قال: رأيت الأصمعي يوثر ترك الهاء في الزوجة، ويرى أن أكثر كلام العرب عليه. وكان الكسائي يرى أن أكثر كلام العرب بالهاء، ومن ذلك قول الفرزدق: فإنّ الذي يسعى لِيُفْسِدَ زَوْجَتي ... كَساعٍ إلى أُسْدِ الشَّرى يستبلُّها ومنه قول الآخر: فبَكى بَنَاتي شجوهنَّ وزَوْجتِي ... والطَّامِعون عليَّ ثُمَّ تَصَدَّعوا قال الكسائي: وطَرْحُ الهاء لغة لأزد شنُوءة. وكان أبو العباس المبرد يقول بقول الأصمعي من أن الوجه طرح الهاء، وبه قال أبو الحسن الرماني. وقال صاحب العين. الزوجُ: امرأة الرجل، وهي لغةٌ في الزوجة، زوجة الرجل. والزوج يقال للذكر، ويقال للأنثى وهو لفظ مشترك. فالزوج المرأة التي لها بعْل، والزوج: الرجل الذي له امرأة، والزوج ضد الفرد. وأصل الزوج: الشكل. يقال: زاوَجَ بين هذين؛ أي شَاكَلَ بينهما. وقال أبو بكر بن دريد: كُلُّ اثنين زوجٌ، وكلُّ أنْثى وذكر: زوجان. وفي كتاب الله تعالى

(وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى) فيه (مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ). ويقال: لفلان زوجان من الحمام؛ أي ذكر وأنثى، وقوله سبحانه وتعالى (سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا) أي الأصناف. والزِّوجُ النَّمط ويقال الدِّيباج. قال لبيد: من كُلِّ محْفُوفٍ يظل عَصِيُّهُ ... زَوْجٌ عليه كِلَّةٌ وقِرامُها وقال الله تعالى (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا) وقال تعالى (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا) فمن نعمةِ الله على عباده، أن جعلَ للرجل زوْجاً من شكْلهِ، لأنَّ الشَّكْلَ إلى شكله أسكن، وله آلف، وبه آنس. وقال: يألَفُ الشكْلُ شكْلَه ... ليسَ هذا بِمُشْكل فَجَعَلَ جَلَّ وعزَّ المرأة من شكل الرجل، لِيُتِمَّ نعمته على عباده، وتَعْظُمَ منَّته عليهم. فله النِّعمة السابِغَة، والحُجَّة البالغة، تباركَ وتعالى علوَّاً كبيراً. رجع ولمَّا وصلت قطرُ الندى بنت خمار بن أحمد بن طولون المعروف بخمارويه إلى المعتضد بمدينة السلام. قال علي بن العباس الرومي في

ذلك: ياسَيِّدَ العرب الذي قُدرتْ لهُ ... باليُمن والبَركات سيدةُ العجمْ أَسْعِدْ بها كَسُعودِها بِكَ إنَّها ... ظَفِرتْ بما فوقَ المَطالِبِ والهِممْ ظَفِرَتْ بِمالِئ ناظريها بهجةً ... وضميرها نُبْلاً وكفيها كرمْ شمسُ الضُّحى زُفَّتْ إلى بدْرِ الدُّجى ... فتَكشَّفتْ بهما عن الدنيا الظُّلمْ قوله: (ظفرت بمالئ ناظريها) البيت، كقول أبي تمام: ملءُ عيني سماحَةً وجمالاَ ... وفُؤادي مَهَابةً وجَلالا إلا أن قول ابن الرومي أتم وأكمل، لا شتماله على ثلاثة ألْفاظ تتضمَّنُ ثلاثة معانٍ، وألْفاظ أبي تمام أربعة، واقعة على معنيين في الحقيقة، فتأمله. ولما زُفَّتْ الأُتْرُجَّة بنت أشناس إلى الحسين بن الأفشين وأقيم لهما العرس الذي جاوز الحدَّ في المِقدار، ولم يُر مِثْلُهُ في سالف الأعمار، وكانا غايتين في الحُسْنِ والجمال، والبهجَة والكمال. قال المعتصم فيهما: زُفَّتْ عَروس إلى عَروس ... بنت رئيسٍ إلى رئيسِ أيُّهما كانَ ليت شِعْري ... أَجَلَّ في الصُّدور والنُّفوسِ

أَصاحِبُ المرهف المحلَّى ... أمْ ذو الوِشاحَيْنِ والشموس قال أبو إسحاق: وهذا الاسم، أعني العَرُوس، يشترك فيه المذكر والمؤنث. فمن وقوعه على المذكر قول الشاعر: كأن الصِّبا والشَّيْبُ يطمسُ نورَه ... عروسُ أناس مات في ليلة العُرسِ فأمَّا قول امرئ القيس: لها ذنبٌ مثلُ ذيلِ العروسِ ... تَسُدّ بِهِ فَرْجَها من دُبُرْ فيحتمل الوجهين. وكتب بعضهم يهنئ بمولود: إنَّ أَحَقَّ ما انبسطَ فيه للتهنئة لسانٌ، وتصرَّفَ في ميادينِ معانيه بيانٌ وبنانٌ، أملٌ رُجِيَ فتَأَبَّى زماناً، واستدعِيَ فلَوى عِناناً، وطاردَتْهُ المُنى فأتعَبَها حيناً، وغازَلتْهُ الهِممُ فأشعرها حنيناً، ثمَّ طَلَع غيرَ مُرْتَقَب، وورَدَ منْ صُحْبَةِ المناصِح في جَحْفَلٍ لَجِب، فكان كالمُشيرِ إلى ما بعْدَه من مواكبِ الآمالِ، والدليل إلى ما وراءهُ منْ كواكِبِ الإقبال، أو كالصبْحِ افترَّتْ عنِ أنوارِ الشمس مباسِمُهُ، والبرْقِ تَتَابَعَتْ إثْر وميضهِ غمائمهُ، وفي هذه الجملة ما دلَّ على المولود، الذي بَشَّرَ بترادُفِ الحُظوظ وتضاعُف السعود، ونيلِ الأملِ المولود. فيالَهُ نجمُ سعادةٍ، طلَعَ في أُفْقِ سيادة، وغُصْنُ سناءِ، تفرعَ من دوحة هناء. لقد تهَلَّلَتْ وجوهُ المحاسِنِ باستهلالهِ، وأقْبَلتْ وفودُ الميامِنِ لاسْتِقْبالِه، ونُظِمتْ له قلائدُ التمائم، من جوهرِ المكارِمِ، وخُصَّ بالثُّدِيِّ الحوافل، بلسانِ الفضائل،

وما كان منبِتُ الشرَفِ بانفرادِ تلْكَ الأرومَة الكريمة إلا مُقْشَعِرَّ الرُّبا، مُغْبَرَّ الثرى. فأمَّا وقد اهتزَّ في أيْكَةِ السيادة قضيبٌ، ونشأَ منْ بيتِ النجابَةِ نجيبٌ، فأخْلِقْ بذلك المنبِت أنْ تُعاوِدَه نضرَتُهُ، وترفَّ عليه حَبْرَتُهُ، ويراجِعه رَوْنَقُهُ وبهاؤهُ، وتُضاحِكَهُ أرْضُهُ وسماؤُهُ. فالحمد لله الذي ثنى الأمل بعد جماحه، وعادَ يَخْتالُ في حلْيَةِ غُررِ الجذَلِ وأوْضاحه، وهو المسؤول أنْ يَهْنِئَكَ منه صنعاً يَحْسُنُ في مثله الحسدُ، ويُتَمَنى لفضله النسْلُ والولدُ. وفي المعنى لأبي عبد الله بن أبي الخصال: هنيئاً - أعزَّكَ الله - بهلالٍ جلا غياهِبَ الحندِسِ. وطلع بين الجواري الكنَّسِ لله درَّهُنَّ منْ جوارٍ خمس، كالجواري الخمس، طلعن بين القمر والشمس، إلا أنَّهُنَّ كالدُّرِّ المكنون، لا يُلْمَحنَ بالعُيونِ، لقد استزدن به جَمالاً، وحَسُنَّ بهاء وكمالاً، فجِئنَ ككعُوبِ قناةٍ رُكِّبَ عليها سِنانُها، وأَلْفاظِ عُلا جاءَ آخراً بيانُها؛ بلْ كبيْتِ القصيدِ، منْ عَرُوضِ المديد، رُكِّبَ منْ سِتِّةِ أجزاء كساها الآخر ثوب بهاء، فُضِّلَ دُونهُنَّ بالرويِّ، وخُصَّ منَ العافية بأحسن الزَّيِّ.

فلله أصلٌ أثْمَرتْهُ أبْراعُهُ، لقدْ عَظُمَ بسُوقُهُ وارتفاعُهُ. أَنْجَبَ، فما تُهْصَرُ أغْصانُهُ باليدينِ، وأعْرَبَ، فتعدَّى فعْلُ كرمِهِ إلى مفْعُولينِ وله في المعنى: هنيئاً - أعزَّكَ الله - بهلالٍ، طلَع بأُفْقِ جلالٍ، وفرْعٍ كريمٍ، تولَّدَ بين فهرٍ وتميم، ما أزْكى ثراهُ، وأسْنى مُنْتَماهُ، بطلَ زماناً بالطُّلُوعِ، ولوى أعْرافاً بالبُسُقِ والفُروعِ، حتى جاء في زمانٍ جَمَعَ المحاسِنَ وجنَّدَ، وبدا في مكانٍ فضَّلَهُ ذو التَحْصيلِ فأنشد: فمَنْ تَكُنِ الحضارَةُ أعْجَبَتْهُ ... فأيُّ رِجالِ باديةٍ ترانا ومنْ ربَطَ الجِحاشَ فإنَّ فينا ... قَناً سُلْبا وأفْراساً رهانا لقد تشوفَت إليه الدفاتِرُ، وتزَيَّنَتْ لَهُ الأقْلامُ والمَحابِرُ، وقرَّتْ بهِ عينُ العليا، وابتهجتْ للقائه الدُّنيا. انظرْ إلى الأشجارِ كيف افترَّتْ عن جذلٍ مباسمها، وإلى الأزهارِ كيفَ شُقِّقَتْ من طَرَفِ كَمائِمِها، وإلى الأنهار كيفَ سَحَبَتْ ذُيُولها، وإلى الأطيارِ كيفَ رجَّعتْ خفيفَ أغانيها وثقيلَها. فصلْ به - أعزَّكَ الله - قوادِمَ سعْدِكَ بالخوافي، (وارْمِ أعْداءكَ بثلاثَةِ الأثافي)، واسعدْ بهذا

الولدِ، مثل اليوم بالأمسِ والغد. ثلاثة تألَّفتْ منها الشهورُ، واجتمعتِ الأعوامُ والدُّهورُ. سوَّغَكَ الله ما أتاكَ وبلَّغَكَ في الدارينِ هَناكَ بقدرته. والسلامُ. قال أبو إسحاق: كان هذا المولود وُلد بالبادية زمن الربيع، بعد وَلَدَيْن تقدّماه وسبِقاه في عُنْصُره ومنْتماه. فلذلكَ أنْشَدَ أبو عبد الله رحمه الله ماأنشده، ونبه على طيب النجار والمَحْتِد، وأبْلَغَ فيما نص، وخصَّه من الثناء الجميل بما خَصَّ. وقوله: (فمنْ تَكُنِ الحضارةُ أعْجَبَتْه) في الحَضارة لغتان معروفتان: الحضارة بفتح الحاء، والحِضارة بكسرها وكذلك الغشاوة والغِشاوة. كسر الغين في الغشاوة أفصح ويجوز فيها الضم، أعني في الغين من الغشاوة. وحكى يعقوب عن أبي زيد: البداوة بفتح الباء، والحضارةُ بكسر الحاء. وعن الأصمعي: البِداوَةُ بالكسر، والحضارَةُ بالفتح. وحَكى أبو علي البغدادي عنهما مثل ذلك. وقال أبو سليمان الخطابي في (شرح غريب الحديث): البَدَاوَةُ: الخروجُ إلى البادية، وفيهما لغتان. قال أبو زيد: البِدَاوَةُ والحِضارةُ، يعني بالكسر. وقال الأصمعي: البَداوة: والحضَارة بالفتح. وأنشد: فمن تكن الحضارة أَعْجَبَتْهُ ... فأيُّ رجال باديةٍ تَرَانا

فقول الخطابي مخالف لما حكى يعقوب وأبو علي. وقال صاحب العين: البادية اسم الأرض التي لا حضَرَ فيها، وإذا خرج الناس منَ الحَضَرِ إلى المراعي والصحاري قيل: قد بدَوْا بَدْءاً. والاسم البدء. وقال الله تعالى وتباركَ (وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ). يُرْوى أن مسكن يعقوب عليه السلام كان بأرض كَنْعَان، وكانوا أهل مواشٍ وبرية. ويقال: أهل البدو وأهل الحَضر، ويقال: بدَا الشيء يَبْدو بُدُوّاً إذا ظهر. وبدا لفلان في هذا الأمر بداً وبدْءاً. ونظير بدا: ظهر وعلن، ويلتبس به بدأ يَبْدَؤُ بدَاءً بالهمز، وليس منه في لفظ ولا معنى؛ لأن الأول من الظهور، والثاني من الإستئناف. وفي كتاب الله تعالى (وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ). قرأه أبو عمرو بن العلاء (بادئ) بالهمز على معنى: اتّبعوك في أول الرأي، ولم يفكروا ولم ينظروا ورواها نصير بن يوسف عن الكسائي. وقرأ القُرَّاء الستة بادي بغير همز. والمعنى: اتبعوك في ظاهر الأمر.

وفي حديث عائشة رضي الله عنها فيما روى أبو بكر بن أبي شيبة عن شريك عن المقدام بن شريح عن أبيه عنهما. قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبدو إلى هذه التلاع وأنه أراد البداوة مرة، فأرسل إليَّ ناقة محرمة من إبل الصدقة" قال: والناقَةُ المحرَّمة: هي التي لم تُرْكَبُ ولم تُذَلَّل، وأعرابي محرَّم إذا لم يُخالِط أهل الحضر. ويقال: سَوْطٌ مُحَرّم وهو الذي لم يكمل دِباغه. قال الشاعر: وإنَّ قليل المالِ للمرءِ مُفْسِدٌ ... يَحُزُّ كَمَا حَزَّ القطيعَ المُحرَّمُ وذلكَ أنه إذا لم يبالغ في دباغه، كان أشد لضربه. قال أبو بكر بن دريد: القطيعُ: السوط من العَقب. والجميع قُطُع. قال: والحَضَرُ خلاف البَدو، ويقال: حَضَرْتُ القوم أحضرهمْ حُضوراً: إذا شهدتهم. والحاضرُ خلاف الغائب. وحاضرتَ الرجل مُحاضَرة وحِضاراً، إذا عَدَوْتَ معه. وحاضَرْتَه إذا جَاثتَتهُ عند السلطان أو في خصومة. والحضيرة: الجماعَة ما بين الخمسة إلى العشرة يُغْزَى بهم. قالت الجهينية:

فَرِدِ المياهَ حضيرةً ونَقيصَةً ... وِرْدَ القَطاةِ إذا اسمألّ التُّبَّعُ وَمحْضَرُ القَوْمِ: مرْجِعُهُمْ إلى المياه بعدَ النجْعَةِ. ويقال أَحْضرَ الفرس إحْضاراً: إذا عدا عدْواً شديداً. واستحضرته استحضاراً. ومن نوادر كلامهم (فَرَسٌ مِحْضير) ولا يَكادُون يقولون مِحْضَاراً. وإبلٌ حِضَار، وهي الإبل البيض، ولا واحدلها من لفظها مثل الهجان سواء. وقال أبو ذؤيب: معتَّقَةٌ صِرْفٌ يكونُ سِباؤها ... بناتُ المخاضِ شُومُها وحِضارُها وألقت الشاة حضيرتَها، وهو ما تُلقيه بعد الولد من المَشْأمة وغيرها. وحضْرةُ الرجل: فناؤه. وأصل الباب الحُضُور خلاف الغيبة، فمنه إحضار الفرس، لأنه أحضر ما عنده من العدو. ومنه الحضيرة: الجماعة، يُغْزى بهم، أي من حَضَر من غير احتشاد. ومنه حضيرة الشاة، ما تلقيه بعد الولد من المشأمة وغيرها، وهو ما يَحْضُرُها من ذلكَ بعد الولادة. ومنه الحِضارُ: الإبل البيض لأنها على ألوان أهل الحَضَر من البياضِ دون البادية.

رجع وولد لأبي الفضل جعفر بن المعتضد بالله، وهو المتسمى من الألقاب السلطانية بالمقتدر مولود، فكتب إليه أبو بكر الصولي بأبيات يقول فيها: بالرُّشدِ والإِقْبالِ والجِدِّ ... والطَّائرِ الميْمُونِ والسَّعْدِ هَنَّاكَ ياخيرَ الوَرَى قادمٌ ... أقبل للبيعة والعهدِ مبارََكُ الطلعةِ ميمونُها ... مومنٌ للحلِّ والعًقْدِ لو بيَّنَ المنْبِرُ عن نفسه ... شكا إليه شدةَ الوجد وفيها يقول: تنطقُ بالسُؤدد أَعْطافُه ... كنُطقِ عيسى وهو في المهْدِ زاركَ عن شوق إلى قُرْبه ... زَورَةَ معشوقٍ على وعد وما أحسن قول أبي بكر بن عمار في المعتمد، وولد له ابن وابنة في يوم واحد: اِهنأْ بنَجْلَيْكَ منْ أُنْثى ومنْ ذكرٍ ... لا يعدم الضَّوء بين الشمسِ والقَمَر وقبله قال ابن الرومي: شمسٌ وبدرٌ ولدا كوكباً ... أقسمتُ بالله لقد أنْجَبَا ثلاثةٌ تُشرق أنوارُها ... لا بُدِّلَتْ من مشْرِقٍ مغْرِبَا تباركَ الله وسبحانه ... أيَّ شهاب منكم أثقبا إن طاب أو طبتم فما أبعدت ... فروع مجدٍ أشبهت منصبا

أنتم أناسٌ بأياديكمُ ... يستغفرُ الدهرُ إذا أذنبا إذا جنى الدهرُ على أهله ... وزاد في عِدّتكم أعتَبا وأخذ معنى أول هذه الأبيات بعضهم فقال: شمس الضُّحَى قُرنتْ إلى بَدْرِ الدُّجى ... حتَّى إذا اجتمعا أتَتْ بالمشتري قال: ولَمَّا قدم أبو القاسم الهوزني من الحَضْرَة بعد النَّبْوة التي خَلَصَتْ إلى غَرْبه، والروعة التي كادت تذهب بِرُوحه وسِرْبه، كتب إليه أبو القاسم بن الجد برقعة يُهَنِّيه فيها بالعافية، وبنعم الله التي أثوابُها عليه سَابِغَةٌ ضافية: وَكَمْنِعْمَةٍ لا يُسْتَقَلُّ بشُكْرِها ... إلى اللَّه في طَيِّ المكارهِ كامِنَهْ قد يُجْتَنى - أعزَّكَ الله - من شجرةِ المساءةِ ثمْرُ المَسَرَّة، ويُجْتَلى وجْه المحبوب غِبَّ المكروهِ مُشرقَ الأسرَّة، وربما تهجَّمَ القدرُ وضميرهُ مُبْتَسم، وتصَلَّب الزمنُ وعهدهُ مُحْتَشمُ؛ وإنَّما يُنظرُ إلى مواقع الأقدار في الإصْدارِ، وتُحمدُ مجاري الأعمال عند المآل. وفي هذه المُقدمة دلالةٌ على النَّبْوةِ التي ما اعتكرَ جُنْحُها، إلاريثما وضح صُبْحُها، ولا نَعَبَ بالبعد غُرابُها، حتى التَفَتَ إلى

سانِحِ السعْدِ رِكابُها، ولا استطارَلها في قلبِ الولي صَدْعٌ، حتَّى اشتَمَلَ منها على أنْفِ العَدُوِّ جَدْعٌ، وما ذاكَ إلاَّ أنَّ سُلطانَ الحقِّ أَنْجَدَكَ وأيَّدَكَ، وبُرْهانَ الفضْلِ قامَ معكَ وأطالَ يدك، وحاش للعلمِ أنْ يُلبِسَ حامِلَهُ خُمولاً، وأن يَحثَّ له نحو الإذالة حمُولاً، فَوَشْكَانَ ما استقلَّتْ بكَ أيدي الآثار، في الصُّدورِ العثار، وخاصمتْ عنكَ ألْسُنَ السَّنن عوارضَ المِحن، وما سِرْتَ إلا وظِلُّ الكرامةِ عليكَ ظليلٌ، وصنعُ الله لكَ رَسِيلٌ، وبكَ كفيلٌ. فلئنْ أوْحَشَ مسيرُكَ لقد آنَسَ ظُهورُكَ، ولئنْ سَمُجَ اغتِرابُكَ لقد حَسُنَ اقترابُك؛ ولئنْ سخِنَت العينُ بعدكَ، لقد بينَ البينُ فقدَكَ. فالحمدُ لله الذي أوشك مقْدَمَكَ، وأعْلى قَدَمَكَ، ورفع في كل مِكْرُمَةٍ عَلَمَكَ، وإيّاه تعالى أسأل، أنْ يهنيكَ ويهنئَ فيك عارفة السلامة، ويُبْقيكَ بعيدَ الصِّيتِ رفيعَ القدْرِ في الظَّعَنِ والإقامةِ. ولولا تَرَدُّدي في عقابيل سُقم لزمتْ جسمي شهوراً، واتخذتْهُ ربعاً معموراً، لما استنبْتُ في التهنِئةِ خطاباً، ولحثَثْتُ نحوكَ رِكاباً. وأنتَ بِسَرْوكَ تُوسع العُذْرَ قَبولا، وتقْبلُه وجهاً جميلاً. وكتب يهنئ منْ صَدَرَ عن بيت الله الحرام، وزيارة قبر النبي محمد عليه الصلاة والسلام: كتبتُ، وقدْ هزَّني وافدُ البُشْرى، واستَخْفَّني رائدُ المَسَرَّةِ الكُبْرى، بما سناهُ الله تعالى منْ قُدُومِكَ محوطَ الجوانبِ والأرجاء، منُوطَ الفخارِ بِذوائبِ الجَوْزاء، مَخْطوطَ الأثر في مواطئ الرُّسُلِ ومواطنِ الأنبياء. فيالَهَا حجَّةً مبرورة ما أتمَّ

مناسِكَها، وأوْضَحَ في مناهجِ البِرِّ مَسالِكَها، لقدْ شهدَ فيها الميقاتُ بِخُلُوصِ إحْلالِكَ وإحرامِكَ، واهتزَّ البيتُ العتيق لطوافِكَ واستِلامِكَ، ورضيَتِ (المرْوَة) و (الصفا) عن كمالِ أشواطِكَ، وتهلَّلَ (بَطنُ المسيل) لسعيِكَ فيه وانحطاطِكَ، ثمَّ بالموقف الأعظمِ منْ (عَرَفَة) سطعَ عرفُ دُعائكَ وتَخشُّعِكَ، وارتفعَ خفْضُ رغْبَتِكَ وتضرُّعِكَ، في البيت المكرم من المُزْدَلِفَةِ حظي تقَّرُّبُكَ وتزَلُّفُكَ، وزكا تهجُّدُكَ وتَنَفُّلُك، وعندَ (الإفَاضَةِ) فاضتِ الرحمة عليكَ، وكمُلَتِ النعمةُ لديكَ. وأمَّا (منىً) ففيها قضيْتَ مُناكَ وأَوْطارَكَ، وقُبِلَتْ هَدَايَاكَ وجِماَرُكَ، وحُطَّتْ خَطَاياكَ وأوْزارُكَ، فما صدرت عنْ تِلْكَ المعالم المُكرمة، والشعائر المُعَظَّمة، إلا وهيَ راضيةٌ عنْ عَجِّك وثجِّكَ، شاهدةٌ لكَ بكمالِ حجِّكَ، مُشْفِقَةٌ منْ فِراقِكَ وبُعْدِكَ، مُتَعَلِّقةٌ لوْ أمْكَنَهَا بِبُرْدِكَ، وقَبْلَُ أوْ بَعْدُ ما تأنَّستْ بكَ يثرِب، ورفعَ لكَ في جَنَباتِها مضرب، فشافهتَ منازلَ التنزيل، وطالَعْتَ معاهِدَ الرَّسولِ، وقَضيْتَ منْ زيارةِ القبرِ الكريمِ واجباً، وقُمْتَ بينَهُ وبينَ المنْبَرِ ضارِعاً وراغِباً. فما حُجِبَ عنهُ عليهِ السلامُ زَوْرُكَ وإلْمامكَ، وقصْدُكَ وائْتمامُكَ، وصلاتُكَ وسلامُكَ؛ بَلْ كانَ لكُلِّ ذلكَ واعياً سامعاً، ويكونُ لكَ بحولِ الله شاهداً شافعاً، فهَنَّأكَ الله، وما منَحَكَ منْ جزيلِ الأجرِ في موقفِ الحَرمين، وأطارَ لكَ منْ جميلِ الذكرِ في الخافقيْنِ.

ولمَّا قعَدَ بي عنْ قصْدِكَ ما قَعَدَ، ولمْ يُمَكنِّي الوفودُ عليكَ في جُمْلَةِ منْ وفد، استنَبْتُ كتابي منابي، والسلام. قال أبو إسحاق: وأبو القاسم بن الجد هذا ممن له في الآداب السبقُ والتقديمُ، وفي المجد والحسب محلٌّ إلى جانب الجوزاء مقيمٌ، وكان مليحَ الكلامِ في المنثور والمنظوم، تصرَّفَ في النوعين تصرُّفاً غير مذموم. وهو القائل في صفة المطر بعد تمادي القَحْطِ وتوالي الكَدَر: لله تعالى في عباده أسرارٌ، لا تُدْرِكُها الأفكار، وأحكامٌُ، لا تنالُها الأوهامُ، تختلفُ والعدلُ متفرّقُ وتفترق والفضلُ مجْتَمعٌ مُتَّسق، ففي مِنحها نفائسُ المأمولِ، وفي مِحَنها مداوِسُ العُقول، وفي فوائدها حدائقُ الإنْعامِ رائقةٌ، وبينَ أرجاءِ شدائدها بوارقُ الإعذار والإنذار خافقة، وربَّما تفتَّحت كمائم النَّوائب عنْ زهْرِ المواهب، وانسكبتْ غمائمُ الرَّزَايا، بنفحاتِ العطايا، وَصَدَعَ ليلَ اليَأْسِ صُبْحُ الرَّجاءِ، وخلعَ عامِلَ البَأْسِ وَالِي الرخاء، وذلك بتدبير اللطيف الخبير، وتقديرِ العزيزِ القدير. ولمَّا ظَنَّتْ بِتَثَبُّطِ الغيثِ الظُّنون، وانْقَبَضَ منْ تَبَسُّطِ الشَّكِّ اليَقِينُ، واسْتَرابَتْ حِياضُ الوِهادِ، بعُهودِ العهادِ، وتأهَّبَتْ رياضُ النِّجَادِ، لبُرودِ الحداد،

واكتحلتْ أجْفانُ الأزْهارِ، بإثْمِدِ النَّقْعِ المُثارِ، وتعَطَّلَتْ أجْيادُ الأنْوارِ، منْ حُلِيِّ الديمَةِ المِدْرارِ، أرْسلَ الله تعالى بين يديْ رحمته ريحاً بليلةَ الجناحِ، مَخيلَةَ النَّجاحِ، سريعةَ الإلقاح، فنَظَّمتْ عقودَ السحابِ، نَظْم النِّجاب، وأحْكَمتْ بُرُود الغَمَام، رائقَةَ الأعلام. وحينَ ضرَبَتْ تلك المَخيلةُ في الأُفقِ قِبابها، ومدَّتْ على الأرضِ أطنَابَها، لم تَلْبَث أن انتهِكَ رواقها، وأنْبَتَكَ وشيكاً نِطاقُها، وانبَرتْ مدامِعُها تَجْري بأجفانِ المُشْتاقِ، غداةَ الفراقِ، وتحْكي بنان الكرامِ، عند أَرْيَحِيَّةِ المُدامِ، فاسْتَعْبَرَتِ الرِّياضُ ضَحكاً ببكائها، واهتزَّتْ رباب النَّباتِ طرباً لتغْريدِ مُكائِها، واكتَسَتْ ظهورُ الأرْضِ منْ فيضِ آلائها، خُضْرَ ملائها، فكأنَّ صنْعاء قدْ نشرتْ على بساطها بِساطاً مُفَوَّفاً، وأهْدتْ إليها منْ زخارِفِ بَزّها ومطارفِ وشْيِها ألْحافاً وتُحَفاً، وخُيِّلَ للعُيُون أنَّ زُهْر النُّجُومِ، قدْ طَلَعَتْ منْ مواقِعِ التُّخومِ، ومباسِمَ الحسانِ، قد وصلتْ بافترارِ الغيطان، فيا بَرْدَ موقِعها على القُلوبِ والأكبادِ، ويا خُلوصَ رَيِّها إلى غُلل النُّفوسِ الصواد، كأنَّما استعارتْ أنْفاسَ الأحْبابِ، أوْ ترشَّفَتْ شنَبَ الثَّنايا العذاب، أو تَحَمَّلتْ ماء الوصال، إلى نارِ البَلْبال، أوْ سرَتْ على أنْداء الأسحارِ وريْحانِ الآصال. لقد تبينَ للصُّنْع الجميلِ منْ خلالِ ديمِها تنَفُّسٌ ونُصولٌ، وتمكَّنَ للشكر الجزيل في ظلالِ نعَمها مُعرَّسٌ ومقيل.

فالحمد لله على ذلك ما انسكبَ قَطْرٌ، وانصدع فَجْرٌ، وتوقَّد قبس، وتردّد نفس، وهو الكفيلُ تعالى بإتمام النَّعماء، وصلة أسباب الحياة والحياء بمنِّه. وفي هذا المعنى فصل لأبي عمر الباجي يقول فيه: إنَّ لله تعالى وجلَّ قضايا واقعة بالعدل، وعطايا جامعة للفضل، ومنحاً يجعلها لقومٍ صلاحاً وخيراً، وعلى آخرين فساداً وضيراً. فلا نظير له ولا نديد (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ) وبعد ما كان من إمساك الحيا، وتوقف السُّقْيا،، قد ريع به الآمن، واستطير له الساكن، ورجفت الأكبادُ فزعاً، وذُهلت الألباب جزعاً، وأذكت ذكاء حرها، ومنعت السماء درَّها، واكتست الأرض غُبْرَةً بعد خضرة، ولبستْ شُحُوباً بعدَ نضْرة، وكادتْ بُرُودُ الأرض تُزْوى ونِعمُ الله تُطوى. نشرَ الله العزيزُ الكريمُ رَحْمَتَهُ، وبسطَ نعمتَهُ، وأتاح منَّته، وأزاح محنته، فبعتَ الرياحَ لواقِح، وأرسلَ الغمام سوافح، بماءٍ دفقٍ، ورواءٍ غَدِقٍ، منْ سماءٍ طبقٍ، واستهلَّ جفْنُها فَدَمَعَ وسحَّ دمعها فهمع، وصابَ وبْلُها فنَقَعَ، فاستوْفَت

الأرضُ ريَّا، واسْتَكْملَتْ منْ نباتها أثاثاً وريَّا، فزينة الأرض مشهورة، ومِنَّةُ الرَّبِّ موفورةٌ، والقُلوبُ ناعِمةٌ بعد بُؤْسها، والوجوه ضاحكةٌ بعد عُبُوسها، وآثارُ الجزعِ ممحُوَّة، وسُوَرُ الشُّكرِ متْلُوَّة. ونحنُ نستزيدُ من الواهبِ نعمةَ التَّوفيق، ونستهديه في قضاء الحقوق، إلى سواء الطريق، ونستعيذُ به من المِنَّةِ أنْ تَصيرَ فِتْنَة ومنَ المَحْنَةِ أنْ تَعودَ مِحْنة، وهوَ حسْبُنا ونِعْم الوكيل. قال أبو إسحاق: وذكرتُ بهذا المزدوج البديع المَسَاق والتَّرتيب، خبر الأعرابي أبي مجيب إذْ هو في معناه، وكان رجلاً من بني ربيعة بن مالك بن زيد بن مناة بن تميم فيما ذكر ابن الأعرابي قال: لقد رأيتنا في أرض عَجْفاء، وزمانٍ أعْجَف، وشجرِ أغْشم في قُفٍّ غليظٍ وحارَةٍ مُدَرَّعَةٍ غَبْراء، فبينما نحن كذلك، إذْ أنْشَأ الله من السماء غيثاً مُسْتكِفَّا أنْشأهُ مُسْبِلَةً غزالية، ضخاماً

قطْرُهُ جَوْداً زاكياً نزَّله رزقاً لنا، فنعش أموالنا ووصل طرقنا وأصابنا. وإنّا لَبِنَوْطَةٍ بعيدة الأرجاء، فاهْرمَّعَ مَطَرُها حتى رأيتُنا، وما نرى إلا غير السماء والماء، وصهواتِ الطَّلْحِ يضرب السيلُ النِّجَافَ، وملأ الأودية فرعبها، فما لبثنا إلا عشراً حتى رأيناها روضة تَنْدَى. تفسير غريب هذا الخبر. قال قاسم بن ثابث: قوله مُدَرَّعَّة؛ أي أكل ما حولها. وشاة درعاء؛ إذا ابيضَّ رأسُها وسائرها أسود. ويقال ماء مُدْرِعٌ؛ إذا أُكِلَ ما حوله من الكلأ. والمُسْتَكِفُّ؛ المستدير، وكل مستدير كِفَّةٌ. وكل مستطيل فحرفُهُ كُفَّةٌ، وكلُّ شيء جَمَعْتَه فقد كفَفْته. واسْتَكَفَّ القوم الشيء، إذا أحدقوا به، واستَكَفَّ السائلُ إذا بسطَ كفَّهُ يسأل. وتَكَفَّفَ السائلُ الأبواب إذا مدَّ

كفَّه للسؤال. ويقال كفَّ عن الشيء يكُفُّ كفَّا إذا انقبض عنه. قال الله تعالى: (وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ) وكِفَّةُ الميزان بالكسر، كِفُّ الذي توضع فيه الدراهم. وكُفَّةُ الثوب بالضم حاشيته. والكُفَّة بالضم أيضا ما يُصادُ به الظِّباء يجعل كالطوق. والكِفَفُ دَارَاتُ الوَشْمِ. والمكفُوفُ الأعمى. وأصل الباب الجمع. وقال أبو إسحاق الزجاج: أُخِذَ من المنع. تقول كَفَفْتُهُ عن كذا أي منعته. وفي كتاب الله تعالى (وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً)، وانتصاب كافة على الحال. والغزالي: أفواه الجراد. شَبَّه تَحَلُّبَ المطرِ بالغزالي. وقوله: (ووصَلَ به طُرُقنا لأنهم لا يقدرون على الضَّرب في البلاد) كذا قال قاسم. قال: وهذا كالحديث المرْوِيِّ عن النبي صلى الله عليه وسلم، أن رجلاً شكا إليه الجَدْب فقال: يا رسول الله هَلَكَتِ الأموالُ، وانقطعت السُّبُلُ فادْعُ الله لنا. والنَّوْطَةُ المَفازةُ، وجمعها نِيَاط سُمِّيتْ بذلكَ لأنها كأنها من بعدها مَنُوطَةٌ بِمَفَاوزَ أُخَر لا تَكادُ تنقطعُ. والإهْرِمَّاعُ كالإنْهمال. اهرَمَّعَ الرجلُ في منطِقِهِ وحديثه، يهرمِّعُ اهرمَّاعاً، وهو مُهْرَمِّع، والعينُ تهرمِّعُ، إذا درَّت الدَّمْع سريعاً. ورجل مُهْرَمِّعٌ أيْ سريع البكاء. وقوله (رعب الأودية) أي ملأها. قال الشاعر:

يقابل جُوعَهُم بمُكلَّلاتٍ ... منَ الفُرْنِيِّ يَرْعَبُها الجميلُ والنِّجافُ واحدتها نَجَفَة، وهي تكون في بطنِ الوادي شِبْهِ جدارٍ ليسَ بحدٍّ عريض. رجع وكتب بعض الأدباء إلى صديق له قدم من سفر: طَلَعْتَ طُلُوعَ البَدْرِ بعدَ مُحَاقِهِ ... وأُبْتَ كما آبَ الرَّبيعُ المُزايِلُ وَرَدَنِي، أطال الله بقاء عمادي الأعظم، وملاذي الأعصم، كتابه الأكرم، يُبَشِّرُ بِقُدومِهِ، وتَطلُّعِ المجْدِ منْ رُسومِهِ، فجَذَبَ الزَّهو عِطفي، وجادَ صوبَ النعمة والمَسَرَّة رَبْعِي وكهفي، وجاذبَتْني النفسُ إليهِ عِناقَ السباقِ، واسْتَخَفَّني الطَّرَبُ والجذلُ حتى كِدْتُ أطيرُ بجَناحِ الاشتياق، وحُقَّ لمن أرهفْتَ طبعه وغربَهُ، وأمَّنْتَ بِمُحَامَاتِكَ سرْبَه، وكنتَ شرْقَ طرْفِه إذا نظرَ وغرْبَه، أنْ يحُلَّ إلى لُقْياكَ، ويهيمَ بعُلاك، ولا يَسْتَقرَّ حتى يجْمَعَه وإيَّاكَ أرضٌ، ويتمَكَّنَ لهُ منْ قضاء حقكَ فرْض. ولولا أنِّي قدْ وردْتُ منَ السَّاقة على اختلالٍ قدْ أخذتُ في سَدِّهِ ورَمِّه، وانتشار قد شرعتْ يدي في جَمْعِهِ وضمِّه، لأعْمَلْتُ إليك ركابي، قبل كتابي، ولقدَّمْتُ إعْمالَ قدمي، وأخْفيتُ شَبَاةَ قلمي، وعنْدَما أفْرغُ من حالي ومُعاناتها، ونَسْتَطِبُّ - إن شاء الله - منْ سدِّ خَلاَّتِها، أنقضُّ إلى ذلكَ الأفقِ انقضاضَ الأجْدَل، وأرْكَبُ صهوةَ العجَلِ. والله تعالى يُعَرِّفُكَ يُمْنَ مَقْدمِك، ويُورِدُ الإخوانَ مشارِع كرَمِك، بمَنِّه.

فصول من كلامهم في معنى التعزية

فصول من كلامهم في معنى التَّعْزية لما توفي الفقيه القاضي أبو عبد الله محمد بن أصبغ، كتب أبو عبد الله محمد بن أبي الخصال إلى بنيه رقعة افتتحها بهذه الأبيات: أَعَلِمْت منْ حَمَلُوا على الأعْوَادِ ... أرأيْتَ كيْف خبا ضِياءُ النادي جبَلٌ هوى، لوْ خرَّ في البحر، اغتدى ... منْ وقعه، مُتتابِعَ الأرْبادِ يالَيْتَ أنِّي ما اقْتَنَيْتُكَ صاحِبَا ... كمْ قِنْيَةٍ جَلَبَتْ أسىً لِفُؤاد بَرْدُ الضُّلُوع بمَنْ تُحِبُّ بَقَاءَهُ ... مِمَّا يَجُرُّ حَرَارَةَ الأكبادِ ياسَادَتي المُعَظّمين وكُبَرَائِي، وأنْصاري المُقَدَّمين وظهرائي، والعُمدةُ المنيعَةُ الذين أَعُدُّهم منْ خيرِ العتادِ لِمَنْ ورائي. كلأَكُمُ الله وكَلأَ المجْدَ فيكمْ بعِصمَتِهِ المُطيفِةِ، وتكَفَّلَ بِهِممِكُمُ الباسِقَةُ المنيفَةِ، وحَجبَكُم بصونِهِ عنْ صُرُوفِ الأيام وحَوادِثِها العنيفَةِ، وأحسن عزاء المسلمين وعزاءكم في البحر الذي أسْلَمْنا بعده إلى ضَحْضَاح، والجبلِ الذي كُنّا نَلُوذُ بظلِّهِ فتَركَنا أيَّ تركٍ إلى أجْرد

صاحٍ، ندفعُ ظالمنا ببنانٍ وراحٍ. وقدْ كُنّا نذُودُه منْ جَلالَتِهِ ومَهَابَتِهِ بأمْضى سُيُوفِ وأنْفذِ رماحٍ. يا حَرَّها على الأكبادِ، ويالها مُصيبَةً فتَّتْ على الأعضادِ، وعَمَّتْ أهل الرُّبا والوهادِ، وقدحتْ في الجوانِحِ والعُيُون نارَ الجَوَى والسهادِ: إذا ما دَعَوْنَا الصَّبْرَ بعدَكَ والبُكَا ... أجابَ البُكَا طَوْعاً ولم يُجِبِ الصَّبْرُ فإنْ ينقطعْ منكَ الرَّجاءُ فإنه ... سيبْقى عليكَ الحُزْنُ ما بَقِيَ الدَّهْرُ أُشْهِدُ لقدِ اسوَدَّ ناظري من الأرضِ حينَ نُعيَ، وتَمنَّيْتُ أني دُعيتُ فأجَبْتُ حينَ دُعي: وأقبَلَ ماءُ العينِ مِنْ كُلّ زَفْرَةٍ ... إذا ورَدتْ لمْ تَسْتَطِعْها الأضالِعُ فُجِعْنا به حينَ نَظَم الفَضائلَ كُلّها نَظْماً، واستولى على أمدِ التَّقْوى شدَّا وحزْماً، واستوى على ذِرْوَةِ المَعَالي سيِّداً ضخْماً، نراهُ للإسْلامِ أمْنَةً وسكَناً، ونَعْتَدُّهُ قيماً على أماناتِ الدَّهرِ مُؤتَمَناً، ونَعْتَقِدُهُ مِمّنْ بَشَّرَ الله منَ المؤمنين الَّذين يعملونَ الصالحاتِ أنَّ لَهُمْ أجراً حسناً: وَكُنْتُ أرَجِّي أنْ أُمَلاَّهُ حِقْبَةً ... فحالَ قضاءُ الله دُونَ رجَائِيا ألا لِيَمُتْ منْ شاء بعْدَك، إنَّما ... عليكَ، مِنَ الأشياءِ كان شائيا ولئنْ سُرّ بيوْمِهِ الشامتُ والكاشحُ، فما ألْوى به الخطبُ الفادحُ الكالِحُ، إلاّ

حينَ لمْ يبْقَ مَشرِقٌ ولا مغْرِبٌ إلا ولهُ فيه مُثْنٍ ومادِح، ووراءهُ - بحَمدِ اللَّه - منكم مَنْ يُدافِعُ عنْ مَجْدِهِ ويُنَافِح، ويَسْمُو مِنَ المَكَارِمِ إلى حيثُ سما، ويَرْمي في المآثر إلى حيثُ رمى، وينْتَمي إلى جُرْثُومَةِ العربِ إلى أكرمِ مُنْتَمى. فالتَّعَزِّي عليهِ بكُم ماثلٌ، والسُّلْوانُ عنِ الأحزانِ بِمَكانِكُمُ السَّادِّ لِمكانِهِ حاصِلٌ، وكُلُّكُمْ بعدَ ذلك السَّيِّدِ الماجدِ سيِّدٌ فاضِلٌ، لا يَتَّكِلُ على الحسبِ، ولا يَقْصُرُ عنْ أهْلِ الرُّتَب. وإنِّي، وإنْ عَزَّيْتُكُمْ - أعَزَّكُمْ الله - لَمِمَّنْ يُعَزَّى بمجْدِه، ويجدُ به حَقَّ وجْدِهِ، ولا يَرى فَقْدا كفَقْدِهِ. كانَ في كلِّ فضيلةٍ قريعَ دَهْرِهِ، ونَسَيجَ وَحْدِهِ. وأنْتُمْ - بحمدِ الله - السَّادُّونَ في الدِّينَ والدُّنْيا مَسَدَّهُ منْ بَعْدِهِ. وأعْتَذِرُ إليكمْ - أعَزَّكُمْ الله - منْ أشْغالٍ وكيدَةٍ مُسْتَحَقَّة، وفِكَرٍ في أشْتاتٍ مُسْتَرَقَّة، ولوْ أعْمَلْتُ في هذا الرُّزْء قدَمي، مكانَ قَلَمي، لمَا بلغتُ قَدَرَه، ولقدْ شهِدْتُ بقلبي معَ مَنْ شهِدَهُ وحضره، وفيكم - بحمد الله - منْ تُرْفَعُ إليه الأبصار إجْلالاً، فَتَرى فيه منَ الماضينَ - رحمكم الله - مُشابهةً كريمةً وأمثالاً. وأنتُم - أعزَّكمُ الله - تَجْعلُونَ سَيْرَهُ وهَدْيَهُ إماماً ومِثالاً، وتَمْلؤونَ الحَضْرةَ بَهَاءً وجَمالاً. بُدُورٌ يَسْري بها السَّارونَ، ويَقْتَدي بها المُقْتَدُون، ولا يتجاوزُها المُنْتَهُون. أقَرَّ الله بكم عُيُونَ الأوْلياء، وأفاضَ عَلَيْكُمْ سَوَابِغَ النَّعْماءِ، وأشْرَبَ قُلُوبَكمْ جميلَ الصَّبْرِ والعزاءِ، بِكَرَمِهِ. وأَقْرَأُ عليكمْ أعَمَّ السّلامِ وأنْماهُ، وأبَرَّهُ وأحْفاهُ، ثمَّ السلامُ المُرَددُ، عليكُم ورحمةُ الله وبَرَكاتُه. قوله: (فما ألوى به الخطب الفادح الكالح، إلا حين لم يبق مشرق ولا مغرب إلا وله فيه مُثْنٍ ومادح) من قطعة شعر قرأتها في النوادر لأبي علي أولها: مضى ابنُ سعيدٍ حينَ لم يبْقَ مَشْرِقٌ ... ولا مغرِبٌ إلاَّ له فيه مادِحُ وما كُنتُ أدْري ما فواضِلُ كفه ... على الناس حتَّى غيَّبَتْهُ الصَّفائحُ

فأصبح في لَحْدٍ من الأرض ميِّتاً ... وكانت به حياً تضيق الضحاضح فما أنا من رُزءٍ وَإِنْ جَلَّ جازِعٌ ... ولا بسرور بعدَ موتِكَ فارح كأنْ لم يَمُتْ حَيٌّ سواك ولم تقم ... على أحدٍ إلا عليك النَّوائح لئنْ حَسُنَتْ فيكَ المراثِي وَذِكْرُهَا ... لقد حَسُنَتْ من قبلُ فيكَ المدائح سأبكيكَ ما فاضتْ دُموعي فإنْ تَقْضِ ... فَحَسْبُكَ مِنِّي ما تحنُّ الجوانِحُ وكتب أبو القاسم بن الجد في المعنى: لا بدَّ منْ فقْدٍ ومنْ فاقدٍ ... هيهاتَ ما في الناسِ منْ خالِدِ كُنِ المُعَزّي لا المُعَزّى بِهِ ... إنْ كانَ لا بُدَّ منَ الواحِدِ إذا لمْ يَكُنْ بُد منْ تجَرُّعِ الحِمامِ، وتَشَتُّتِ النَّظامِ، وانصداع شملِ الكِرامِ، فمِنَ الاتفاقِ السعيدِ، والقدَرِ الحميدِ، أنْ يرثَ أعْمار البيْتَةِ الكريمة مُشَيدُ عُلاها، وتسْلَمَ منَ القِلادَةِ وُسْطاها، فمَدارُ الكِنايةِ على مُعَلاها، وفخَارُ الحَلْبَةِ بِمُحْرِزِ مداها، وفي هذه النُّبْذةِ إشارةٌ إلى منْ فَرَطَ منَ الإخوةِ الفُضلاء، ودَرَجَ منَ السَّاداتِ النُّجَباء، فإنَّهم، وإنْ كانوا في رُتْبَةِ الفضلِ صُدُوراً، وبَدَوا في سماءِ النُّبْلِ بُدُوراً، فإنَّ شمسَ عُلاكَ أبْهرُ أضْواءً، وأزْهرُ أنْواراً، وظِلَّ حمايتِكَ على بنيهم ومُخَلَّفيهم أنْدى آصالاً، وأبْرَدُ أسْحَاراً.

ونُعي إليَّ، أوْشَكَ الله سُلْوانَكَ، ولا أخْلى منْ شَخْصِكَ الكريمِ مَكَانَكَ، الوزيرُ أبو فُلان بَرَّدَ الله ثراه، وكرَّم مثْواه، فكَأنَّما طعنَ ناعيه في كبدي، وظعَنَ حاديه بذخيرةِ خلَدي. لا جرمَ أنِّي دُفِعْتُ إلى غَمْرَةِ من التلدُّدِ لو صُدم بها الدَّهرُ لحار، أَوْدُهِمَ بِمِثْلِها الحزمُ لخار، ثمَّ ثابَتْ إليَّ نفسي وقدْ وَقَدَها الجَزَعُ، وعَضَّها الوَجَع، فأطلْتُ الاسْتِرجاع، وجمَعْتُ الجلَدَ الشعاع، وهَاأنا عندَ الله أَحْتَسِبُهُ جُماعَ فضائل، وجمالَ محامل، وحديقةَ مكارم ضَرَّحَتْ، وصحيفة محاسِن درستْ وامَّحَتْ؛ وما اقتصرتُ منْ رسْم التعْزِيَّةِ المَألُوفِ، على القليل المَحْذُوف، إلاَّ لِعِلْمي بأنّ التَّعَزِّي لا يُورِدُ عَلَيْكَ غريباً، ولا يُسْمِعُكَ منْ موْعِظَةٍ عجيباً، فيكَ يقتدي اللبيب، وعلى مثالكَ يجْتَزئ الأريبُ، وإلى غَرَضِكَ يرْمى المُصيبُ، وفي تجافي الأقدارِ عنْ حَوْبائِكَ، وسُقُوطِها دُون فِنَائكَ، ما يَدْعُو إلى حُسْنِ العزاء، ويُهَوِّنُ جلائلَ الأرْزاء، لا صَدَعَ الله جَمْعَكَ، ولا قَرَعَ بِنَبْأةِ المكْروهِ سمْعَكَ، بِعِزّتِه. وفي المعنى للكاتب الماهر أبي عبد الرحمن بن طاهر: أَقَمتُ لَهْفَانَ وقدْ أسْمَعَ النَّاعي، فأضْرِمَ نار الأسى بينَ أضْلاعي، للرَّزِيَّةِ العُظْمى، التي رمى سَهْمُها، فأصْمى، بوفاةِ منْ جُمعَتْ فيه المحاسنُ والخِلال، وزالَ كما تَزُولُ الجبالُ، وقَلَّ له المُشاَبِهُ والنَّظيرُ، وماتَ بمَوْته البشرُ الكثيرُ، أبو فُلان ربُّ الشَّرَفِ الصَّميمِ، والحَسَبِ العِدِّ الكريمِ، أوْ سَعَهُ الله رحماهُ، وجعلَ الجنّةَ مَأْواه، فإنّا لله وإنَّا إليهِ راجِعُون؛ على الرَّزِيَّةِ فيه،

لَيّتَني بالنفسِ أَفْديه، فأمّا القلبُ فَمُنْحَلّ ومُسْتَلبٌ، وأمّا الدمعُ فمُنْهَلّ ومنْسكِبٌ. سقى الله جَدَثَهُ سَبَلَ القَطْرِ، ونَفَّعهُ بحسنِ المذهبِ وجلالَةِ القدْرِ، وجزاه جزاءَ المُحسنينَ، وأنْزلهُ دارَ المُقامَةِ في علّيّين، وهَنَّاكَ الله ميراثَهُ منَ الرِئاسةِ، ومَكَانَهُ من النَّفاسَةِ، ومَنَحَكَ العُمْر الطَّويل، وأمْتَعَكَ العِزَّ الظليل، وساعدكَ بكلِّ ما تهواهُ الزمانُ، ولا زالَ بكَ يتَحَفَّلُ ويَزْدان. قول أبي عبد الرحمن رحمه الله: (ومات بموته البشر الكثير) مأخوذ من قول الشاعر: لًَعَمْرُكَ ما الرَّزِيةُ فَقْدُ مالٍ ... ولا شَاةٌ تموتُ ولا بَعيرُ ولكن الرَّزيَّةَ فقدُ قرْمٍ ... يَمُوتُ بموته بشَرٌ كثيرُ ويروى: يموت من آجِلِهْ. وهذا من قول عَبْدَة بن الطبيب يرثي قيس بن عاصم:

عَلَيْكَ سلاَمُ الله قيْسَ بن عاصمٍ ... ورَحْمَتُهُ ما شاء أنْ يتَرَحَّما تحِيَّة منْ غَادَرْتَهُ عَرَضَ الرَّدى ... إذا زار عنْ شحطٍ بلادكَ سَلَّما فما كانَ قيسٌ هُلْكُهُ هُلْكُ واحدٍ ... ولكنه بُنْيانُ قومٍ تهَدَّما والمتقدم بهذا المعنى امرؤ القيس حيث يقول: فَلَوْ أنّها نفْسٌ تَموتُ جميعةً ... ولكنّها نفْسٌ تساقَطُ أنْفُسا أخذه أبو العباس أحمد بن عبد ربه صاحب (كتاب العقد) فقال: منْ يُرْتَجَى بعدكَ أوْ يُتَّقى ... وفي يدَيْكَ الجودُ والباسُ ماعِشْتَ عاش الناسُ في نِعْمَةٍ ... وإنْ تَمُتْ مات بكَ النَّاسُ وقول الشاعر: (فقد قَرِمَ) القَرْمُ: هو السيد الكريم من الرجال، وأصله الفحل من الابل يُكْرَم ويُصان، فلا يُمْتَهن ولا يُذَلَّلُ بالحَبْل، وإنَّما يُعَدُّ للضِّراب. قال الشاعر: فَحَزَّ وظيفُ القرْمِ في نصف ساقه ... وذاكَ عِقال لا يُنَشَّطُ عَاقِلُهْ ويقال له أيضا المُقْرَم. قال الشاعر:

إذا مُقْرمٌ منَّا مَضى لسبيله ... تَخَمَّطَ فينا نابُ آخرَ مُقْرَمِ ومثل هذا قول المرار الأسدي: وإذا فُلانٌ ماتَ عنْ أُكرومَةٍ ... رقعُوا معاوزَ فقْده بفُلانِ وفي حديث علي رضي الله عنه، أخبرنا أبو الحسن القرم كنى به عن نفسه. قال: وعزّى عبد الرحمن بن أبي بكرة سليمان بن عبد الملك فقال: يا أمير المؤمنين، إنَّ منْ طالَ عمره فقد الأحِبَّة، ومنْ قصر عمره كانت مُصيبتُه في نفسه. قال: ونظر أعرابيٌّ إلى قومِ يدفنونَ حريمَة لهم، فقال: نعمَ الصّهر صاهَرْتُم، تَأْمَنُونَ به العار، وتكفون به سوء الأُحْدُوثَة، وما لِمَضْنونٍ بها من النِّساء أكرمُ من قبْر. وحكى الأصمعي قال: سمعتُ أعرابياً يقول: غَفَلْنا ولمْ يغْفل الدَّهرُ، ولم نتَّعِظْ فيه بغيرِنا، حتى وعَظَ غيرَنا بنا. فقد أدرك السعادة منْ تنَبَّهَ، وأدرك الشقاء منْ غفَلَ، وكَفى بالتَّجربة واعظاً.

قال: وسمعت أعرابياً يقول لقوم يدفنون ميْتاً لهم: جافى الله عنْ ميتِكُم الثَّرى، وأعانَه على طُولِ البِلى، وآنسه في الهُوَّةِ الظَّلماء، حين تتصدَّعُ عنه الأقرباء. قال: ودخلتُ على امرأة من العرب بأعلى الأرض في خِباءٍ لها، وبين يديها بُنَيٌّ لها، قد نزل به الموت، فقامتْ إليه فأغْمَضَتْهُ، وعَصبَتْه، وسجَّتْهُ، ثم قالت: يا ابن أخي. قلتُ: ما تشائين؟ قالت: ماأحَقَّ منْ أُلْبِسَ النعمة، وأُطيلتْ به النَّظرة، ألايدَعَ التوثق من نفسه قبل حلِّ عُقْدته، والحُلُولِ، بعَقْوَته والمَحَالة بينه وبين نفسه. قال: وما تقطر من عَيْنَيْها دمعة صبراً واحتساباً، ثم نظرت إليه فقالت: والله ما كان مالُكَ لِبَطْنِكَ، ولا عُمْرُكَ لعِرْسِك. ثم أنشدت: رحيبُ الذِّراعِ بالتي لا تُشينُه ... وإنْ كانتِ الفحشاءُ ضاقَ بها ذَرْعا قال: وحجَّتْ امرأة من العرب ومعها ابن لها، فأصيبتْ به، فلمّا دُفِنَ قامتْ على قبره، وهي مُرَجِّعةٌ فقالت: والله يا بُنيَّ لقد غذَوْتُك رضيعاً، وفقدْتُكَ سريعاً، ولم تكن بين الحالين مدةً أَلتَذُّ بعيشِك منها، فأصبحتَ بعد النَّضارة والغضارة ورونقِ الحياة صديعاً، تحت أطباقِ الثَّرى جسداً هامداً. أي بُنيَّ، لقد سحبت الدُّنيا أذْيالَ الفناء، وأَسْكنتْكَ دارَ البَلى، ورمَتْني بعدكَ بالداهية الدَّهْياء. أي بُنَيَّ لقد أوْرَثَ الحُزْنُ نَفْسي فادِحَةً وهي لقلبي شاذِخة. ثم قالت: أيْ رَبِّ، منكَ العدْلُ، ومنْ خَلْقِكَ الجَوْرُ، وهَبْتَ لي قُرَّة عَيْن فلم تُمَتِّعْني به كبيراً، بل

سَلَبْتَنيه وشيكاً، وأمَرْتنى بالصبر، ووعَدْتَني عليه بالأجْرِ، فصدَقْتَ وَعْدكَ، وأصبْتَ قضاكَ. اللهمَّ ارحمْ غُرْبَتَه، واسْترْ عَورته، يوم تُكْشَفُ الهَناتُ والسَّوْءات. ثم انصرفت، فلما أرادت الخروج إلى أهلها عادت إلى قبره، وقفت عليه وقالت: أيْ بُنَي، قدْ تزَوَّدْتُ لسفري، فياليتَ شعري؛ ما زادُكَ لسَفَرِكَ، وبُعْدِ طريقَك، ويومِ ميعادِك. اللهمَّ إنِّي أسألُكَ لَهُ الرِّضى بِرِضائي عنه. ثم قالت: اسْتَوْدَعْتُكَ من استودعَنيكَ في أحْشائي جنيناً، وَاثُكْلَ الوالِدات. ما أمضَّ حرارة قُلُوبِهِنَّ. وأقْلَقَ مضاجعهُنَّ، وَاثُكْلَ الوالدات. ما أطول ليلهُنَّ. وأقْصرَ نَهارَهُنَّ، وَاثُكْلَ الوالدات ما أقلَّ أُنْسَهُنَّ، وأكثر وحْشَتَهُنَّ، وَاثُكْلَ الوالداتِ ما أبعَدهنَّ من السَُّرور. وأقْرَبهُنَّ من الأحزانِ. ثمَّ لمْ تَزَلْ تقُولُ من الكلامِ مثْلَ هذا، حتَّى أبْكَتْ منْ سَمِعَها، ثمَّ حَمِدت الله عز وجلَّ، واسترجعتْ وصلَّتْ عند قبره ركعاتٍ وانطلقتْ. قال: وسمعتُ صالحاً المُري يُعَزِّي رجلاً على ابن له توفي فقال له: إن كانت مُصيبَتُكَ بابنِك لم تُحدثْ لكَ موعِظة في نفسك، فمُصيبتُكَ بابنكَ جَلَلٌ في مُصيبتكَ في نفسك، فإيَّا ها فابْك. قال: وماتَتْ أخْتٌ لرَجُلٍ فوجدَ عليها وجْداً شديداً، فقال له رجل آخر: وإذا تُصِبْكَ مُصيبَةٌ فاصبِْر لها ... عَظُمتْ بليَّةُ مُبتلىً لا يصْبِرُ قال: ونالتْ أعْرابياً مُصيبةٌ، فسَمِعْتُهُ يقول: إنَّها والله جعلتْ سُودَ الرُّؤوسِ بيضاً، وبيضَ الوُجوهِ سوداً، هَوَّنَت المصائب، وشيَّبَت الذَّوائبَ. قال: وكان أبو بكر رضي الله عنه إذا عزَّى عن ميِّتِ، قال لِوَلِيِّه: ليس

مع العزاء مُصيبةٌ، ولا معَ الجزعِ فائدة. والموتُ أهْوَنُ ما بعْدَه. واذكرُوا فقْدَ نَبِيِّكم، تهونُ عنْدَكمْ مُصيبتُكُم، صلى الله علي محمد، وعَظَّمَ أجْرَكُم. قال: وكان علي رضي الله عنه يقول إذا عزَّى أهل المَيِّت؛ إنْ تجْزَعوا فمَحَلُّ جزَعٍ، وإنْ تصبِرُوا ففي ثوابِ الله العوَضُ منْ كلِّ فائتٍ، صلى الله على محمد وعظمَ أجْركم. ولما قُتِل زيد بن الخطاب بن نفيل أخو عمر لأبيه، حزن عليه أخوه عمر رضي الله عنه حزناً شديداً، وقال: ما هَبَّت الصَّبا إلا وأنا أجِدُ منها ريحَ زيد. وقال رضي الله عنه حين نُعِيَ ابنه: رَحِمَ الله أخي، سَبَقَني إلى الحُسْنَيَيْن، أسلم قبْلي واستُشهد قبلي. ولما أنشده متمم بن نويرة اليربوعي راثية في أخيه مالك. قال رضي الله عنه لو كنت أُحْسِنُ الشعرَ لقُلتُ في أخي زيد ما قُلتَ في أخيكَ مالك، فقال له متمم: لو أنَّ أخي ذهبَ على ما ذهبَ عليه أخوك لَمَا حَزَنْتَ عليه. فقال له عمر: ما عزَّاني أحدٌ بأحسن ممَّا عزَّيتني به.

وكتب أبو نصر في تعزية وضمَّنها غريقاً: أتاني ورحلي بالعراقِ عشيةً ... وأيدي المَطايا قدْ قَطَعْنَ بنا نَجْدَا نَعِيٌّ أطارَ القلبَ عن مستقره ... وكنتُ على قصدٍ فأغلطني القَصْدَا نَعَوْا واللهِ باسِقَ الأخلاق لا يخلف، ورموا قلبي بسهم أصاب صميمه وماأخْلَف. لقد سام الرَّدى فيه حُسناً ووسامة، وطوى بطيِّه نجدةً وقسامة،، فتعطَّلَ منه النَّدى والنَّدِيّ، وأشكَل فيه الهُدى والهَديّ. كمْ راعَ البدْرَ ليلة إبْدارِه، وروَّع العدُوَّ في عُقْر داره. وكمْ سلَّ السيوفَ طولُ قراعه، ودلَّ عليه الضيوفَ موقدُ النَّار بيفاعه، وتشوَّفَ إليه السرير والمنبرُ، وتصرَّفَ فيه الثناءُ المحبَّرُ. أيُّ فتى غدا له البحر ضريحاً، وأَعْدى عليه الحينُ ماءً وريحاً، فتبَدَّلَ منْ ظِلِّ عُلاً ومَفَاخر، إلى قَعرٍ طامي اللُّجَجِ زاخر، وعوَّضَ من صهواتِ الخيْلِ، بلهواتِ اللُّجَجِ واللَّيْلِ، غريقٌ حَكى مُقْلَتيَّ في دَمْعِها، وأصابَ نفسي في سمعها، ومنْ حُزْنٍ أنِّي لا أسْتَسقي لهُ الغَمامَ فمالَهُ قبرٌ تَجودُه، ولا ثرى تُرْوى بِه تهائِمُهُ ونُجُوده، وقدْ آليْتُ ألا أُودِعَ الريحَ تحيَّةً، ولا يُورِثُني هُبُوبُها أَرْيَحِيَّةً، فهي التي أثارتْ منَ الموجِ حنقاً، ومشتْ عليها خَبَباً وعَنَقاً،

حتى أعادَتْهُ كالكثبان وأوْدَعَتْهُ قضيب بان. وَوَاأَسَفاً لزُلالٍ غاضَ في أَُجَاج، وسلْسالٍ فاضَ عليه بحْرٌ عَجاج. وما كان إلا جوهرٌ آبَ إلى عُنْصره، وغاب عنْ عينِ مُبْصرهِ، ولقد آن للحُسامِ، أن يُغمد ولا يُشامَ، وللعَذارى ألا يَحْجُبهنَّ الخَفْرُ والاحتشام، يَنُحْنَ فتى ما درَّتِ الشمسُ إلا ضَرَّ أَو نَفَعَ ويبْكينَ منْ لمْ يدَعْ فقْدُهُ للأنْسِ من مُنْتَفَعٍ. صديقٌ ما حمِدْتُ فيه الأيامَ إلا ذَمَمْتُها، ولا بَنيتُ به أرْكان المُنى إلا هَدَمْتُها. فكم غدوْنا بروضة مُوَشِّيَة، ووقَفْنا بالسراةِ عشيةَ، وبِتْنا لمْ نَرُمِ السَّهر، ولم نَشِمْ برْقاً إلا الكأسَ والزّهرَ؛ ولو غير الحِمام زحَفَ إليه جيشه، أوْ سِوى البحر رجف إليه ارتجاجه وطيشه، لثناهُ من أَسِرَّتِه منْ يتَهَيَّبُهُ ليثَ الشَّرى، ويرهَبُه البطلُ الباسلُ إذا استشرى، منْ كلِّ أروع، إن عجَّل إليه المكروه ثبَّطهُ، أوْجاءه الشرُّ تأَبَّطَهُ؛ لكنه الموتُ لا ترُدُّهُ الصَّوارمُ ولا الأسل، ولا يُفوتُه ذئابُ الغضا العُسَّلُ وذكرتُ بمعنى هذا المُزْدَوج الكافي، قولَ الأديب الكامل أبي عبد الله الرصافي من أبيات له في المعنى وهي:

يا بدر حمصٍ والسِّرار ثلاثةٌ ... عدْ عودةً لا توحش الأيامَا أما البهاء فقد خلعت رداءه ... يومَ ادرعت من الخليج غماما وقضتْ وفاتك أن أُقول لعبرتي ... يا ماء كُنْ سقياً له وسلاما والنهر لا تبق الربيع بشطه ... زهراً ولاألف القضيب حماما فلقد أرقت به حشاشة مهجة ... ثنت المشارب مسكةً ومداما ماذا عليه وقد علاك مفاضة ... تياره لو لم يقلك حساما وأبو نصر قُدْوةُ الكُتاب، وصاحبُ إبداعٍ في كتابته وإغرابٍ، مُخْتَص بالانْطِباع، وجودَةِ القريحة وذكاء الطِّباع، وهو القائل في المعنى: أطال الله بقاء أمير المسلمين، وناصر الدين، الشائع عدْلُه، السابِغِ فضْلُه، العظيمِ سلطانه، العلي شأنه، السني قدره ومكَانُه. في سعدٍ يصرفُ عنه أعْيُنَ النوائب، وجدٍّ يضربُ دونَهُ أوْجه المصائب. كلُّ رُزْءٍ - أدامَ الله تأييده - وإن عَظُمَ وجَلّ، حتى استولى منه على النُّفوسِ الوجَل، إذا عدا بابه، وأخطأ حجابَهُ. فقد أخْطَأ - بحمد الله - المقتل، وصدَّ عنْ سواء الغرض وعدل. وإذا كانت أقدار الله تعا لى غالبةً لا تُطاول، وأحكامه نافذة لاتُزاوَلُ، فالصَّبرُ لِمَواقِعِها أوْلى، والتَّسليمُ لِجَوازِها أقربُ لِرِضَى المولى، والتزامُ أوامِره أشرفُ وأعْلى. كتبتُهُ - أدامَ الله تأييدَكَ - والنفسُ بنار زَفْرَتِها مُحْترقة، والعينُ لعبرتها شرقَةٌ مُغْرَوْرِقة، لِما نفذَ بهِ قَدَرُ الله المَقْدُور، وقضاؤُهُ المسطورِ، منْ وفاةِ الأميرِ الأجلِّ أبي فُلان قدَّسَ الله روحَهُ، وسقى ضريحهُ، فيالَهُ رُزْءٌ أقْصَمََ الظَّهرَ، ووسَمَ النُّجومَ الزُّهرَ، وأبْكى الأجْفانَ، وأذْكى الأحزانَ، بِمكانَتِه منَ الدَّوْلَةِ المُنيفَةِ، ومنزِلته من السَّوْرةِ الرَّفيعةِ الشريفةِ، وعندَ الله عزَّ وجلَّ تحْتَسبُه ذخيرةً

عُظْمى، ونسْأَلُ لهُ المغفرة والرُّحْمى. فإنَّه كان - نضر الله وجْهَهُ - مُتَوَفِّرَ الهِمَّةِ على الجهادِ، منْ أهلِ الجدِّ في ذلكَ والاجتهاد. وحسْبُه أنَّه لم يَقْض نَحْبَهُ إلاَّ في عَسْكَره، فأدْرَكَهُ الموتُ مُهاجراً، ومَعَ الله سبحانه وتعالى تاجرا، وأرْجُو أن يكونَ الله تباركَ وتعالى قدْ قرَنَ لهُ فاتِحةَ السعادَةِ، بخاتِمَة الشهادةِ. وأنّ أمير المُسْلِمينَ أوْرى في الرِّئاسةِ زَنْداً، منْ أنْ تُضَعْضِعَهُ الخُطوبُ وإنْ أهَمَّتْ، أو تُوجِعَهُ الحوادثُ إذا ادْلهمَّتْ. والله يُحْسنُ عزاءهُ على فجَعِه، ولا يُدْني كارثةً منْ وَلَعِه. ولغيره في المعنى: الدُّنيا، صرفَ الله عنْكَ صُرُوفَها، على الفجائِعَ مَبْنِيَة، وقُصَاراها كَدَرٌ أَوْمَنِيَّةٌ، (وإن الحازِمَ من وطَّنَ لأحداثها)، وأيْقَنَ بانتِكاثِها، فأوْسَعها صدْراً رحيباً، وقلباً صليباً. كتبتُه - أطال اله بقاءكَ - والدُّمعُ محْدُورٌ، وقدْ حُمَّ قضاءٌ ونفذَ مقْدور، بوفاةِ الشيخِ أبي فلان أبينا وقُرَّة أَعْيُننا. كان نضَّرَ الله وجْهه ولقاه مغْفِرته ورحمَتَه، ورفعَ في دارِ المُقامَةِ منزلتَهُ. فناهِيكَ أسفي عليه وتَوَجُّعي، وما أوْ قدَ نارَ الأسى بينَ أَضْلُعي، فأيُّ ذِهنٍ - أعزّكَ الله - ينْطاعُ، أمْ أيُّ كلامٍ يُستطاعُ، واللسانُ معقولٌ، والفُؤادُ منْقولٌ، والشَّجْوُ دائم، والدَّمعُ ساجِم، لما طرقتْ به الأيامُ، وقرعَتْ به أسماعَ الأنامِ. فإنّا لله وإنّا إليه راجِعون. لقد أظْلَمَتْ لهذا الرُّزْء الآفاق، وأدركَ بدْرَ تمامِها المُحاقُ، وإلى الله الشَّكْوَى، فهو

الذي أضْحكَ وأبْكى، وهكذا تزول الجبالُ، وينْصَرِمُ المآل، ويتهَدَّم البناءُ، ويضْمَحِلُّ السَّنا والسناء. وما أُعَزِّيك - أعزك الله - وأترك نفسي، وقد شرذتما سكَني وأُنْسي، ونالني من الكربِ لهذا الخطبِ ما لوْ شهِدْتَهُ لراعكَ المنظر، ولجَعَلت نفْسَكَ الكريمة تنْفَطر. وفي فصل: وإنَّ الدُنْيا لفي حداد، لما قصدَتْ به منْ داهية نآد، فقد كان قائماً بأعْبائها، مبيداً لأعدائها، فهي تَبْكِيه بأدمُعٍ سجام، وتنْدُبُهُ في كلِّ مقامِ، فيا سُرْعَ ما سلَبَتْهُ المنون، وقد قرَّتْ به العيون، وفَخَرَ به المجْدُ والفخارُ، وأنابَ قدرُهُ على الأقدار، وعندَ الله تعالى نحتسبُهُ كريمَ النِّصاب قرْماً رفيعاً، وطوداً منيعاً، وقدْ تساويْنا في الرَّزِيَّةِ، فلْنَعُدْ إلى التَّسليةِ بذلكَ أوْفَرَ ذُخْراً، وأعظمَ أجراً. وفي هذا المعنى من المنظوم الجَزْل المُشتمل على فنون الانطباع، والنبلِ المُوقِظِ من نوم الغفلة والسِّنة، والداعي إلى الادِّكار والموعظة الحسنة، المُذكَّر بانصداع الشمل، وفراقِ الوطن والأهل، وانخرامِ النظامِ، وتجرُّعِ كؤوسِ الحِمام، قصيدٌ فريد للأديب الكامل أبي العباس أحمد بن شكيل في رثاء والده أبي الحكم، وتوفي في شوال سنةثلاث وستمائة رحمة الله عليه وبركاته: حَذَار حذار منْ ركُون إلى الزَّمَنْ ... فمن ذا الذي يُبقيعليهِ ومَنْ ومَنْ أَلَم تر للأحداثِ أقْبَلَها المُنى ... وأقَتلها ما عرَّضَ المرء للفتنْ تُسَرُّ منَ الدُّنيا بما هو ذاهبٌ ... ويبكي على ما كانَ منها ولم يكنْ

أرى دارنا ليْسَتْ بدارِ إقامَةٍ ... أرَدْنا ثواءً عنْدَها وهيَ في ظعَنْ فكمَ سكن الدُّنْيا ملوك أَعِزَّةٌ ... تفانوا فلم تَسْتَبْقِ منهم لها سكنْ وكمْ في الثَّرى دَسَّتْ جَبينَ مُتَوَّجٍ ... فأصبحَ بالأقدامِ يُوطا ويُمْتَهَنْ وذي جُنَّةٍ كانت تقيه منَ الرَّدى ... أتاه الرَّدى فاعْتاض منها ثرى الجَنَنْ وكالصَّقرِ فوْقَ السابِقاتِ اعْتَضَتْ به ... أعَاليَ أعْوادٍ منَ النَّعْشِ فارْجَحَنْ ومنْ ضاقَتِ الدُّنْيا به وبِجَيْشِه ... طوتْ شخْصَهُ في قيْدِ شبْرٍ من الكفنْ ومحْتَجِبٍ لا يخرقُ الإذْنُ حُجْبَه ... ولَجْنَ مناياهُ عليه وما أَذِنْ وذي حرَسٍ لا يَغْفَلُونَ احتراسهُ ... رمَتْهُ فلم يُنْصَرْ عليها ولم يُعنْ وماسحِ عِطْفيهِ منَ الدَّرنِ انبرَتْ ... لَهُ الدُّودُ أكْلاً فانْثنى دَرَنَ الدَّرَنْ وذي أَمَلٍ منْ دُونِه أجَلٌ لَهُ ... غَدَا شرَكاً ما كانَ قبلُ له وسَنْ فما أَعْثَرَ الآمالَ في أجلِ الفتى ... وأقربَ أيَّامَ السرورِ من الحزَنْ عفاءٌ على الدنْيا فإنَّ نعيمَها ... كأَضْغاثِ أحلامٍ تلَذُّ بلا وسنْ فبَيْنا الفتى في ظلِّها إذْ تقَلَّبَتْ ... بهِ فاتَّقَتْهُ وهيَ قالِبَةُ المجَنْ لعَمْركَ إنِّي قدْ حزنْتُ فلمْ أَهِنْ ... وكُنْتُ جديرَ الرُّزْءِ بالحُزْنِ والوَهَنْ دَهَتْني المَنَايا في أبي حَكَمٍ أبي ... ومنْ قبْلُ وارَيْتُ الشَّقيقَ أبا الحَسَنْ فيالَكُما بدْريْ علاء تساقطا ... وكانا سنا عيْني وأسْناهُما الأسنْ تَضَمَّنَ شَوَّالُ مناياهُما معاً ... فبينَهُما حوْلٌ وفَقْدَُهُما قَرَنْ

تلا فقْدُ هذا فقْدُ ذا مُتتابِعاً ... فشمْسٌ تلتْ بدْراً وأصْلٌ تلا غُصُنْ خلا منْهُما النَّادي وكانا وقارَهُ ... فزُلْزِلَ رَضْوى واستُطِيرتْ به حَضَنْ ولمْ يُبْقِ رَوْضي بعدَ هَلْكهِمَا الحَيَا ... وكُنْتُ أسَقِّي مِنْهُما السُّحُبَ الهُتُنْ فَلِلَّهِ صبري بلْ شُجُوني فإنَّني ... نشَرْتُ اصْطِباراًوانْطَوَيْتُ على شجَنْ بدا أعْظم الأرْزاء واكتَتَمَ الأسى ... فناقَضْتُ جُلَّ النَّاسِ في السِّر والعَلَنْ فَقُلْتُ لجِسْمِي خالياً أنتَ والضَّنى ... وللرُّوحِ بِئسَ الرُّوح مالَك لمْ تَبِنْ فقال فُؤادي هلْ أذُوبُ منَ الأَسَى ... فَقُلتُ تعَجَّلْ لا أبا لكَ وافْعَلَنْ وقالتْ دُمُوعي هلْ أَفيضٌ وإنْ جَرى ... معي الدَّمُ مسْفُوحاً فقلتُ افعَلي وَإنْ أبْعدَ يعيشٍ سلْوَةٌ وتَصَبُّرٌ ... لقدْ فَسَدَتْ عنْدي صنائعُهُ إذَنْ فأيْنَ الأيادي السَّالِفاتُ التي بها ... شهيدٌ عليَّ الطِّفْلُ والكهْلُ واليَفَنْ وأيْنَ حَنانٌ كنْتُ أعْرِفُهُ بهِ ... فيا قَلْبُ ما أشْجى عليهِ وما أحَنْ وكمْ مِنَنٍ من دون مَنِّ تتابَعَتْ ... عليَّ لهُ، والنَّاسُ مَنٌّ بلا مِنَنْ وكمْ منْ عظيمٍ قدْ وقاني بنفسه ... فهانَ ولولا عَطْفُهُ بِيَ لمْ يَهُنْ سأُثْني عليه بالذي هُوَ أهلُهُ ... وإنْ يَكُ تَقْصِيرٌ فإقْصارُ ذي لسنْ أبي ما أبي لا يُبْعِدِ اللهُ مثلَهُ ... وَمَنْ مِثْلُهُ ذو اليُسرِ في عُسْرَةِ الزَّمَنْ جوادٌ يزينُ الجُودَ منْهُ تواَضُعٌ ... ففَوْقَ الذي أبْدى منَ الجُودِ ما أكَنْ إذا سُئلَ المعروفَ أسْبَلَ وابِلا ... وإنْ هو لمْ يُسْألْ تفَجَّرَ أوْ هَتَنْ

ولَمْ يَدَّخِرْ في أمْسِهِ قُوتَ يَوْمِهِ ... نزاهَةَ نفْسٍ لا كَمَنْ حَاطَ واخْتَزَنْ ولو قال أبو العباس رحمه الله: (قناعة نفس) عوض (نزاهة نفس) لكان المعنى أطبع، والمساق أبهى وأبدع. على أن قوله مطبوع موافق، وسنا البلاغة عليه لافح ورائق، لأنه كان في النظم قدوة أهله، وسالك فِجَاجِه وسُبله، حسن التصرف في ميدانه، ومُبَرَّزاً أمام حلْبته وفرسانه، ولم أقصد بهذا التنبيه الطعن عليه، ولا نسبة التقصير إليه، فلست مِمَّن يعدل السَّبَج بالذهب، ولا يعرف الفرق بين النَّبعْ والغَرَب. رجع شبيبَتُه بينَ المَكارِمِ واللُّها ... وشيبَتُهُ بينَ الفرائضِ والسُّنَنْ لَعَمْري لنِعْمَ المرءُ حيَّا وهالِكاً ... لِدَافِنِهِ الفخْر العظيمُ بمَنْ دَفَنْ فبُورِكَ منْ قبْرٍ وطُهِّرَ منْ ثرى ... وقُدِّسَ منْ روحٍ وعُوفيَ منْ بدَنْ رجَوْتُ لهُ عفْوَ المُهَيْمِن إنَّهُ ... هوَ المَلِكُ الغَفَّارُ ذو الطَّوْلِ والمِنَنْ لَه المُلْكُ في الدَّارَينِ والحُكْمُ مثْلَ ما ... لَهُ المَلَوَانِ والَّذي فيهما سكَنْ وأرْجُو لَهُ حُبَّ النَّبِيِّ مُحمَّدٍ ... فذَنْبُ مُحِبِّيه بِغُفْرانِه قَمَنْ وأرْجُو لِسُقياهُ سِقايةَ مورِدٍ ... حَلا حوْضُهُ ما بينَ أَيْلةَ واليَمنْ

فقدْ قامَ بالتَّوحيدِ والخمسِ عُمْرُهُ ... وصلَّى على المُخْتار واتَّبَعَ السُّنَنْ خَلِيلَيَّ إنَّ الصَّبْرَ صبْرٌ ولا أرى ... سِواهُ لشَجْوي إنَّهُ أعصَمُ الجُنَنْ قِفا حَيِّيا القَبْرَ الذي حَلَّهُ أبي ... معي إنَّهُ رأْيٌ بريءٌ منَ الغَبَنْ ولسْتُ وإنْ أنْحَى الزَّمانُ بصرفِه ... علَيَّ ونالَتْني صُروفٌ منَ المِحنْ بفاقِدِ شيءٍ منْ أبي غيرَ شخْصهِ ... ولا بائِع القُربَى ببخْسٍ منَ الثَّمَنْ عَسى الله في الفِرْدَوْسِ يجْمعُ بَيْننا ... فإنَّ الرَّدى إنْ كانَ يجْمَعُنا حَسَنْ قوله: (الملوان والذي فيهما سكن) المَلَوان: اللَّيلُ والنّهار. قال: ابن مقبل: ألا يا ديَار الحَيِّ بالسَّبْعَانِ ... أمَلَّ عليْها بالبَلى المَلَوَانِ ويقال: الليل والنهار أيضاً الجَدِيدَان. قال سويد بن عامر: فالخيرُ والشرُّ مقرُونان في قرَنٍ ... فكلُّ ذلك يأتيكَ الجديدان ولهما أسماء سوى ما ذكرنا. وفي رثاء أخيه أبي الحسن رحمه الله يقول، وذلك في شوال من سنة اثنتين وستمائة: رِضىً بقضاءِ الله فَهْوَ مُصِيبُ ... وصبراً على الأحداثِ فهيَ تَثُوب خليليَّ قَدْوارى التُّرابُ أحبَّتي ... فَلَمْ يَبْقَ لي فَوْقَ التُّرابِ حبيبُ أَقِلاَّ وقُوفاً بالمنازِل أَوْقِفا ... فإنَّ الذي تَسْتَبْعِدان قريبٌ

ألَم تُخْبِرا عنْ صاحِبِ القَبْرِ إنّه ... بِمَرْأى منَ الأهلينَ وهو غريبٌ تَنَاذَرَهُ الخِلاَّنُ يأْساً فأصْبحوا ... لهم جيئةٌ منْ حَوْلِه وذهُوبُ وأيُّ نوىً أنْأى منَ القبْرِ شُقَّةً ... وأيُّ بَقاء بالممَات يطيبُ على الجدثِ المَهْجُور عُوجاَ فسلِّما ... سقاهُ الحَيا الوَسْمِيُّ حينَ يَصُوبُ وإلاّ فَعَيْني، إنْ أبى الغَيْثُ، مُزْنَةٌ ... يدِرّ شمالٌ صوبها وجَنُوب إذا هاجَها ذِكْرُ الأحِبَّة أجْهشَتْ ... وأسْبلَ دَمْعٌ بالدِّماءِ مَشوبُ تَأَوّبَني هَمّي فَبتُّ كَأنَّني ... على مُسْتَقِلاَّتِ النُّجُومِ رقيبُ كأنَّ اطَّلاَعَ الشُّهْبِ بينَ محَاجِري ... فَمِنْ ناظري تَبْدو، وفيه تغيبُ كأنَّ الدُّجى، والشُّهْبَ هَمِي ونارَهُ ... إذا شبَّ منْها في الضلوعِ، لَهيبُ تقطَّعُ أنْفاسي فأقْطَعُ لَيْلَتي ... حَنيناً، كما حنَّتْ روائِمُ نيبُ أقولُ ونفْسِي والأسى قدْ تَمازَجا ... وقَلْبيَ منْ حَر الفِراقِ يذوبُ أَلاَ مَثَلٌ لي إنَّه لِيَ مُعْجِزٌ ... وإنِّي لأَمثَالِ الوَرََى لَضُرُوبُ إذا قُلتُ في شيء كأنِّي كُنْتهُ ... وسِرُّ اتِّخَاذِ المُشْبِهينَ عجيبُ أنا الميْتُ والثَّكْلانُ والصَّبُّ والشَّجِي ... فأيُّ شبيهٍ بَعْدَ ذاكَ أُصيبُ وما سكَني إلاَّ ضريحٌ كأنَّهُ ... لأنْسي به، ظَبْيٌ أحَمُّ ربيبُ أعاوِدُ لثْمَ التُّرْبِ فيه كأنَّهُ ... لِرشْفي لهُ، ثَغْرٌ أغر شنيبُ أقامَ عَلِيٌّ في ثراهُ مُغَيَّبا ... ولِلْبَدْرِ منْ بعدِ الطُّلوع غرُوبُ بعيداً عنِ الإخْوانِ رهْنَ قرارةٍ ... تَضَوَّعُ منْ أنْفاسِهِ وتَطيبُ

على سفَرٍ لا زادَ فيه سوى التُّقى ... ولا ظَاعِنُ الأقْوام عنهُ يؤوبُ أخي سَلَبَتْنيه الخُطُوبُ مُشيحَةً ... وما الدَّهْرُ إلا سالِبٌ وسَليبُ وكنتُ أرَجِّي أنْ تزيدَ حَيَاتَهُ ... حياتي، فَشَانَتْها عليَّ شَعُوبُ وكُنتُ أرجيه لكُلِّ مُلِمَّةٍ ... فقالَ الرّدى إنَّ الرَّجاءَ كَذُوبُ وكانَ سريعاً حينَ يُدْعى إلى النَّدى ... وكمْ منْ فتىً يُدْعى وليسَ يُجيبُ وكان حَياً في المَحْلِ يعْلَمُ ضيفُهُ ... إذا أمَّهُ أنَّ المحلَّ خصيبُ وكانَ أخا حِلْمٍ يزينك شاهداً ... وتَأمنُ منهُ الغيبَ حين يغيبُ ولمْ يكُ ذا عيبٍ ولا كان عائباً ... ولكنْ نقيُّ اللِّبْسَتَيْن أديبُ فتًى هُوَ حدُّ السيْفِ إنْ رُمْتَ ضيْمَهُ ... وغُصْنٌ لمَنْ رام السَّماحَ رطيب غَنيٌّ عن الأقوامِ ليسَ بباسط ... يداً لثوابِ وَهْوَ كانَ يُثيبُ جميلٌ فأمَّا وجْهُهُ فمُنَوَّرٌ ... طليقٌ وأمَّا صدْرُهُ فرحيب رُزِيناه لَمَّا لمْ يكُنْ فيه مَطْعنٌ ... ولمْ يكُ راجي الخير منهُ يخيبُ وألْوى به المِقْدارُ غضّاً شَبابُهُ ... تميلُ إليه أعْيُنٌ وقلُوبُ فَضاعَفَ وجْدي واسْتَحَرّ مُصَابُهُ ... وولَّى عزائي عنهُ وهو مريبُ وليسَ كمَفْقودٍ تقادَمَ عهْدُه ... وغطَّى عليهِ مسحقٌ ومشيبُ أقولُ، وقدْ غنَّتْ حمامةُ أَيْكَةٍ ... ومالَ بِها بينَ الأراك قضيبُ أساجِعةَ الأغصانِ نوحاً، فإنني ... على النَّوْحِ منْ بينِ اللُّحُونِ طرُوبُ سُقيتُ حُمَيَّا الشّوقِ، فالهَمُّ سُكْرُهَا ... وأكثرُ ما ألْهى المَشُوقَ نحيبُ

ومُسْتَبْشِر أبْدى السُّرُورَ لِنَكْبَةٍ ... ألَمّتْ بنا والحَادِثاتُ ضُرُوبُ فَقُلْتُ انتظرْ عُقْبى الزَّمانِ فَرُبَّما ... سقاكَ ذُنُوباً إنْ كَفاكَ ذُنُوبُ فنحنُ بكينا نبْتَغي الأجر في البُكا ... ونحنُ صبَرْنا والصَّبُورُ لبيبُ وما جَزَعي للحادثات استِكانةٌ ... ولكنَّه للهالكين نَصيب ولا جَلَدي عنهم سُلُوَّا وقسْوة ... ولكنَّ عُودَ الأكرمين صليبُ فطوبى لمَنْ لمْ يُعْنَ إلاّ بنفسِه ... ويا ربَّنا إنّي إليكَ أتُوبُ وله يرثي جدته للأم ونقلتها من خطه: أدارَ البِلَى أما عمَرت بِمَعْشري ... فأنتِ الَّتي تُدْعينَ قَفْراً وبلْقَعاَ على كثرةِ الأهْلينَ أوْحشتِ زائراً ... وأُلْهَبتِ أكباداً وأجْريْت مدْمَعا إليك مآبُ الكُلِّ منهمْ مُلَبّثٌ ... قليلاً، وَمِنْهُمْ منْ توَلَّى وودَّعا ألا ليْتَ شِعْري كيفَ مسَّ الثَّوى بِها ... فإنِّي أرى فيها مِهَادا ومَضْجَعا مَضاجِعُ ليْسَ النَّوْمُ فيها بِلَذَّةٍ ... ولا النَّوْمُ فيها أنْ تَهُبَّ وتَهْجَعَا إلى الحَشْرِ، واسم الحَشْرِ وَفْقٌ لِشَكْلِهِ ... جمَاعُ أمورما أهمَّ وأشْنَعا مقامٌ يَعُمُّ الإنْسَ والجِنَّ هَو لُهُ ... ويُحْشَرُ فيه الوحشُ سِرْباً مُفَزَّعاً تُبَدَّلُ فيه أرْضُهُ غيْرَ أرْضِنا ... وتُطْوى السَّمَواتُ العُلى طيّةً مَعاَ فيالكَ يوْماً قلَّ سعْي الورى لهُ ... وما فيه للإنْسانِ إلاَّ الذي سعى تُغَرُّ بِدُنْيا ليسَ تترُكُ منْزِلاً ... أنيساً ولا شملاً لقومٍ مُجَمَّعاَ رماني الرَّدى قصْداً فأقْصَدَ مُهْجَتي ... وأخْطَأَ جُثْماني فأخْفى وأوْجَعَا أُصِبْتُ بأصلٍ كنْتُ فرْعاً لفرْعِهِ ... وشَأْنُ الرَّدى أنْ يهْصِرَ العُود أجْمَعَا

فنَفسي التي أبْكي، وإنْ كنْتُ باكِياً ... عَليها، فدَمْعي قدْ تقسَّمَ أَدْمُعا دَعَتْها المنَايا فاسْتَجابَتْ دُعَاءها ... سريعاً وداعِي الموتِ أسرعُ منْ دَعاَ فَخِلْتُ عَلَيَّ الأَرضَ حَتَّى كأنّما ... حرامٌ على الأجْفانِ أنْ تتطلَّعا وحَتْمٌ عليْها أنْ تَصُوبَ فما هَمَتْ ... على مُمْحِلٍ إلاَّ وأَصْبَحَ مُهْرَعَا بَكى بَعْدَها المِحْرابُ شَوْقاً لقربها ... وروَّضَ منْها التُّرْبُ خِصْباً فأيْنَعَا وصلَّى عليها كاتِبا ها وصَحْبُها ... وجيرَتُهَا شيْخاً وكهلاً ومُرْضِعاً سأُثْني عليها بالِّذي هيَ أَهْلُهُ ... فإنَّ ثنائي طابَ قيلاً ومَسْمَعاَ وما المدحُ والتَّأبينُ ممَّا يَرُدُّهَا ... ولكنَّهُ قدْ صار مَبْكى ومجْزَعَا عليكِ سلامٌ لا تلاقي بينَنا ... سلاَمُ امرئٍ أمْسى بِفَقْدِكِ موجِعاَ وله يرثي ابنين لأبي الحجاج يوسف بن مطروح من خطه أيضا: قِفْ بِرَبْعِ الأسى وُقُوفَ الطَّليح ... وشِبِ الدَّمْعَ بالدّمِ المَسْفوحِ واقضِ منْ واجِبِ البُكاء فَعَيْنَا ... كَ تَجُودانِ عنْ فُؤادٍ قريحِ إنَّ شدْوَ الزَّمانِ نوْحُ الثَّكَالى ... وحُمَيَّاهُ كلُّ دمْعٍ سفوحِ وسيفْنى كما فنينا ويلْقى ... مالَقينا منْ فُرْقَةٍ ونُزُوحِ وتَغُولُ المنُونُ مِنَّا أناساً ... ذهَبُوا إذْ مَضَوا بجِسْمي ورُوحِي

وأرى الدَّهّر شامِتاً بالمَعالي ... في سَلِيلَيْ فتى بني مَطْروحِ طلعا طَلعَة الهلالِ علَيْنا ... واسْتَسرا سِرَارَه في الضَّريحِ هَصَرَتْ منْهُما المَنُونُ قَضيبي ... نِ فَمَالاَ مَعاً إلى التَّصْريحِ يَا تُراباً أَجنَّ شَخْصَيْهِما أج ... ننْتَ رُكْنَيْ عُلا وبَابيْ مديحِ وصغيرين غيرَ أنَّ المَعَالي ... قدْ يُمَتَّعْنَ بالصَّغير الصَّريح أرِجَتْ تِلكم البطاحُ لطيبٍ ... ساطِعٍ منْهُما بعرفٍ نفُوحِ لَيْسَ مِسْكاً وإنَّما هُوَطِيبُ الذْ ... ذِكْرِ تَسْري بعرْفِهِ كُلُّ ريحِ ضَلَّ سَعْيُ البُكاةِ إلاَّ على أحْ ... مَدَ، يانَفْسُ أَسْعديني ونُوحي مُر إذْ لا مُحمَّدَ الحيِّ باقٍ ... فاسْتَشِفَا ثَمَادَ قلْبي القريحِ أسْعداني يافَرْقَدان وغُورا ... فَرْقَدا الأرض غوَّرا في الصفيحِ كيفَ تَبْقى النُّجومُ بعدَهُما لمْ ... تنْكَدِرْ والجِبالُ ذاتُ جُنُوحِ كيفَ لمْ تلْفظِ المَقابِرُ موْتَا ... هَا ويبْدُو الأديمُ غيرَ صحيحِ ليسَ إلاّ أنَّ التَّصبُّر أجْدى ... منْ بُكاء يدُومُ غيرَ مُريحِ ولقدْ قُلْتُ للوَزير أبي الحَجْ ... جَاج صبْراً لِريبِ دهْرٍ مُشيحِ

مِثْلُ مَفْقُودِكَ اسْتباحَ حِمى الصَّبْ ... رِ كما مِثْلكَ ارْعَوى للنَّصيحِ فاصْطَبِرْ وارتقِبْ مُراجَعَةَ الحُسْ ... نى مِنَ اللَّهِ فَهْوَ غيرُ شحيحِ قوله في أول القصيدة (وقوف الطَّليح) يريد الفَاتِرُ المُعْيي. يقال طَلَحَ الرَّجُلُ يَطْلَحُ طَلْحاً: إذا عَيِيَ وفَتُرَ. قال الشاعر: لقدْ طَلَحَ البينُ القَذُوفُ ركائبي ... فَهَلْ أَرَيَنَّ البَينَ وَهْوَ طليحُ ويقال: ناقةٌ طليح أيضاً بغير هاء. وأنشد أبو العباس أحمد بن يحيى لأبي حية النُّمَيْري: وقالوا حماماتُ فَحُمَّ لِقاؤُها ... وطَلْحٌ فَزِيرَتْ والمَطِيُّ طليحُ وفي حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنَّ كُفارَ قريش لَمَّا بَلَغَهم إسْلامه ثاروا عليه، فمَا برِحَ يُقاتِلُهُم حتّى طَلَحَ. والطَّلَحُ أيْضاً، النِّعْمَةُ. قاله ابن السكيت وأنْشد قول الشاعر: كم رأيْنا من أُناسٍ هَلَكُوا ... ورَأينا المَلْكَ عَمْراً بِطَلَحْ أي: صَاحبُ نِعْمة. وكتب لأحد أصحابه يُعَزِّيه في ابنة أخ له من خطه أيضاً: صبْراً أبا عبد الإله عنِ الَّتِي ... سَلَبَتْ جميلَ الصَّبْرِ يوم تَوَلَّّتِ عنْ دُرَّةٍ جَلَّى الضَّريحُ جَمَالَها ... وعَقيلةٍ بالمَكْرماتِ تَحَلَّتِ حُجِبَتْ بِتُرْبِ القَبْرِ عنْ أبْصارِنا ... لكِنَّها بينَ الجوانِحِ حَلَّتِ

بَخِلَ الغَمامُ بِصَوْبِه عنْ ترْبِها ... فَسَقيتُها العَبَراتِ لَمّا انْهَلَّتِ عَزت على الكُرَماء مِنْ مفْقُودَة ... ودهتْ مُصيبَتُها الجلالَ فَجَلَتِ لوْ تسْتَبينُ الأرْضُ قدْرَ جَلالِها ... بِكُمُ لألْقتْ شخْصها وتَخَلَّت ريْحانَةٌ ذبَلَتْ وقَرَّتْ أعْيُنٌ ... ألْقَتْكِ أيَّامَ السُّرورِ وقلَّتِ حازتْ بكُمْ شرَفَ العُمُومَةٍ فانجلتْ ... شَمساً دَهَاهَا الكسفُ حين تجَلَّتِ فاصْبِرْ فإنَّ الحُرَّ منْ إنْ تَدْعُهُ ... للصَّبْرِ طابتْ نفسهُ وتَسَلَّتِ فالموْتُ أمْرٌ عمَّ فينا حُكْمُهُ ... خَضَعَتْ لعِزَّتِهِ الرِّقابُ وذَلَّتِ وقال أيضاً يرثي: وخَبَّرَني النَّاعُون ما صَنَعَ الرَّدَى ... بِأسْماءَ منْ أفْعالهِ النَّكراتِ فكَذَّبْتُ ما قالُوا، وإنْ كانَ صادِقاً ... فيَا خيْرَ مُنْعىً، وشرَّ نُعَاتِ أساءتْ بأسْماء الخُطُوبُ صنيعَها ... إليْنا، فأَنْسَتْ سالِفَ الحَسَنَات طَوى التُّرْبُ منها في حَشاهُ سريرَةً ... منَ المجْدِ، والأسْرارُ للْمُهَجَاتِ ورَوَّضَ ظَمْآنَ الثَّرى منْ سَمَاحِهَا ... فأنْبَتَ زهْرَ الحمْدِ أيَّ نباتِ سَقَاها الحَيا، والفخْرُ في ذاكَ للحَيا ... وَإلاّ سَقَاها سائلُ العَبَراتِ وإلاّ سقاها جُودُها في ضريحِها ... فقدْ كانَ مثْلَ الغيثِ في اللَّزَباتِ وقالوا: عَجُوزٌ. قُلْتُ: رُبَّ صَنيعَةٍ ... تزيدُ بها حُسْناً على الفَتَيَاتِ مَضَتْ سَلَفاً، والكُلُّ يقْفُو سبيلَها ... مُشَيَّعةً بالبِرِّ والصلَواتِ شَفَى النَّفْسَ أنْ لمْ يَخْلُ منها مَكَانُها ... ولمْ تَكُ مثْلَ الأعْظُمِ النَّخرَاتِ ولَكِنَّها أبْقَتْ فُرُوعاً كثيرةً ... حياةً لَها منْ بَعْدِ كُلِّ مَمَاتِ كَمِثلِ أبي بَكْرٍ، ومثْلِ سليلِه ... خَلِيلِي أبي إسْحَاقَ خيْرِ لِداتِي

لَعَمْرُ المَنَايا لا تَفُوزُ بِمِثْلِها ... فقدْ فَعَلَتْها أعْظمَ الفَعَلاتِ تداعَتْ سماءُ العِزِّ فانْفَطَرَتْ لها ... وأضْحتْ نُجُومُ الفَخْرِ مُنْكَدِراتِ وباتَ الأسى فيها يَقُضُّ مَضاجِعي ... ويَمْنَعُ أجْفاني لذيذَ سِناتِ فَقُلْ للْمَنَايا قدْ وتِرْتِ سَرَاتِنا ... تراتٍ بَظَنِّي مِنْهمُ بِترات فَلَوْ كُنْتِ شَخْصاً ما اجتَرأتِ عليْهم ... وجَنَّبْتِهِم عنْ هيْبَة وَهِباتِ خليليَّ منْ عَلْيا مُراد تَصَبَّرا ... ففي الصَّبْرِ أعْوانٌ على الحَسَراتِ وكُفَّ الدُّموعَ الواكِفاتِ فإنَّما ... دُمُوعُ الفَتى وقْفٌ على العَرَصَاتِ فيَارُبَّ مَنْ تَبْكيه يَضْحَكُ فرْحَةً ... وأنْت عليهِ دائِمُ التَّرحَاتِ فإنَّكَ لاقٍ من سُرورٍ ومنْ أسىً ... وما هُوَآتٍ لا مَحالَةَ آتِ وقال أبو العباس أيْضاً في رثاء الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما: أحَقُّ ما كان منْ قَلْبي تباريحُ ... فَلْيَهْنِئِ العَيْنَ أنَّ الدَّمْعَ مَسْفُوحُ تَأَلَّقَ البرْقُ غَوْرِيا فسَحَّ لَهُ ... سُحْبٌ منَ الدَّمْعِ لَمَّا هَبَّتِ الرِّيحُ يَاأَيُّها البرْقُ إنِّي عنكَ في شُغُلٍ ... دُونَ المزارِ فَيَافٍ بيْنَنا فيحُ تخْدي النَّجائبُ حوْلاً في نَفَانِفِها ... لا يأتيهنَّ إعياءٌ وتطْليحُ وكيْفَ بالسيْرِ في جَرْداء بَلْقَعَةٍ ... أقْرى مراتِعَها القَيْصُومُ والشيحُ

وسوْفَ أَجْشَم نَفْسي سيْرَ تلكَ إلى ... بيتٍ أطافَ بهِ في فُلْكِهِ نوحُ قَبْرٌ بِيَثْرِبَ هَمِّي لوْ ظَفِرْتُ بِهِ ... ومقْصدٌ بِجِبالِ الطَّفِّمَطْرُوحُ منْ كانَ في جَفْنِه دَمْعٌ يَضِنُّ بِهِ ... فُإنَّ دَمْعي لأهلِ البيتِ ممْنُوحُ آلَ النَّبيِّ لَقدْ سُقْيتُمُ عَلَلاً ... كأسَ المَنايا فَمَغْبُوقٌ ومَصْبُوحُ صَلَّى الإلهُ على أشْلاءِ مُنْجَدلٍ ... بِكَرْبلاءَ يُحَيِّي رَوْحَه الرُّوحُ أوْفى على معْرِك الأبْطال مُحْتَسِباً ... ليْت شِعَاراهُ تَهْليلٌ وتَسْبيحُ يافارساً هاشمِياً ما أضرَّبِه ... تثاقُلُ القومِ إذْ نادَاهُمُ رُوحوا طاروا وأثْبَتَ في الهيْجَاء أَخْمَصَهُ ... صبْراً، وكانَ لَهُ عنْها مناديحُ حتَّى ثَوى الفارِسُ الحجَّاجُ يتْبَعُهُ ... منْ هاشِمِ الخَيْرِ فُرْسانٌ جَحاجِيحُ لمْ يتقوا الضرْبَ بالأكتافِ إذْ صُرِعوا ... بل النَْجيع على اللَّبَّاتِ مَنْضُوحُ تنْدى الوُجُوه نجِيعاً وَهْيَ مُشْرِقةٌ ... كَأنَّها في دُجَى الهَيْجَا مَصَابيحُ لوْ كُنْتُ شاهِدَ يوْمِ الرَّوْعِ قُلْتُ له ... لشائحُ القومِ جَلْدٌ دونهُمْ شِيحُ ولا اخْتَضَبْتُ أمامَ الصِّفِّ منْ جَسَد ... جُوداً بنَفْسي، وبعْضُ الجُودِ مرْبُوحُ ضلَّتْ حُلُومُ أناسٍ كيفَ لمْ يَرِدوا ... نارَ الكِفاحِ، وزنْدُ الحرب مقدُوحُ

أمَّ الحسينُ بِهِمْ عَدْناً فلَمْ يَلجُوا ... بابَ الجنان عِياناً وهْوَمفْتُوحُ أمَّا ابنُ حرب فَدَعْ حرْباً وأسْرتَه ... تلكَ الجُسومُ لَو انَّ العِرْضَ ممْدُوحُ طافوا برأسِ ابن خَيْر الناس كُلِّهم ... بئْسَ الطَّوافُ ونِعْمَ الرَّأسُ والرُّوحُ ولسْتُ أبْسُطُ قَوْلاً في دَعِيِّهِم ... كُلُّ الدَّعيينَ مَلْعُونٌ ومَقْبُوحُ ياعينُ جُودي على قتْل الحُسين دَمآً ... وابْكي جَهَاراً، فإنَّ الوَجْد تصريحُ ويا لساني عاوِدْ مَدحَهُ أبَداً ... وإنَّ أيْسَرَ ما فيه الأماديحُ قوله رحمه الله: (فيَافٍ بَيْنَنَا فيح)، أي: أرض مُقْفرّة مُتسعة بعيدة. قال الشاعر: ونَاحتْ وفَرْخاها بِحيثُ تراهُما ... ومنْ دُون أفْراخي مَهَامهُ فيحُ وقوله: (ولست أَبْسُطُ قولاً في دَعِيِّهم). فالدَّعِيَّ يعني به عبيد الله بن زياد دَعِي ابن أمية. ووالده كان يقال له زياد بن أبي سفيان ويقال زياد بن أبيه وزياد ابن أبه وزياد بن سمية بكل هذه الأسامي كان يدعى وكان قبل الاستخلاف ببني أمية. يدعى بزياد بن عبيد الثقفي وأمه سمية جارية للحارث بن كِلْدَة الثقفي وكان زياد طويلاً جميلاً يَكْسِرُ إحدى عيْنَيْه. وفي زياد هذا قال الفرزدق للحجاج:

وقَبلك ما أَعْيَيْتُ كاسِرَ عَيْنِه ... زياداً فلمْ تَعْلَقْ عليَّ حَبائلُهْ وبَعثه عمر بن الخطاب رضي الله عنه في إصلاح فسادٍ وقع باليمن، فلما رجع من وجهته خطب خطبة لم يسمع الناس مثلها، فقال عمرو بن العا ص: أمَا والله لوْ كَان هذا الغُلامُ قُرَشِيَّا لَسَاقَ النَّاس بِعَصاه، فقال أبوسفيان بن حرب: والله إِنِّي لأَعْرِفُ الَّذي وضَعَهُ في رحِمِ أُمِّه. فقال له علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ومن هو يا أبا سفيان؟ قال أنا. فقال له علي: مَهْلاً يا أبا سفيان. وأنشد في ذلك أبو سفيان أبياتاً من الشعر وهي: أما والله لَوْلا خَوْفُ شخْصٍ ... يراني يا عَلِيُّ من الأعادي لأَظْهَر أمْرهُ صخْرُ بنُ حربٍ ... ولم يُكْنِ المَقالة عنْ زياد وقد طالت مجاملتي ثقيفاً ... وتركي فيهِمُ ثَمْرَ الفُؤادِ وفي زياد وأخويه، يقول يزيد بن ربيعة بن مفرغ الحميري وقيل ان عبد الرحمن بن الحكم هو القائل: إنَّ زياداً ونافعاً وأبا ... بكرة عندي من أعجب العَجَبِ هُمُ رِجَالٌ ثلاثةٌ خلقوا ... من رحم أنثى كُلُّهُمْ لأب ذا قُرشِيٌّ، كما يقولُ، وذا ... مولىً وهذا ابن عمه عَربي وحكى الأصمعي عن عبد الرحمن بن أبي الزناد أنه قال: قال عبيد

الله بن زياد ما هُجِيتُ بشَىءٍ أشَدَّ عَلَيَّ منْ قوْلِ ابن مفرغ: فكِّرْ ففي ذاك إنْ فكَّرتَ مُعْتبَرٌ ... هَلْ نلْتَ مَكْرُمةً إلاَّ بتَأميرِ عاشتْ سُمَيَّةُ ما عاشتْ وما عَلِمَتْ ... أنَّ ابْنَها من قريشٍ في الجماهير وليزيد بن مفرغ في هجاء زياد وبنيه أشعار كثيرة كقوله: أعَبَّادُ ما للرُّومِ عنك مُحَوَّلٌ ... ولالك أُمٌّ من قريش ولا أبُ وقلْ لعبَيْدِ الله: مَالكَ والِدٌ ... بِحقٍّ، ولا يَدْري امرؤُ كيف تُنْسبُ وقصته مع عباد وعبيد الله أخيه مشهورة. وقال هو أو غيره في زياد: زيادٌ لسْتُ أدْري منْ أَبُوهُ ... ولكنَّ الحمار أبو زياد وفيه أيضا يقول: شهدتُ بأنَّ أمّك لم تُباشِرْ ... أبا سُفيان واضعةَ القِنَاع ولكنْ كان أمْراً فيه لَبْسٌ ... على وَجَلٍ شديدٍ وارْتِياع وفيه يقول عبد الرحمن بن الحكم حين اعتذر من هجائه من أبيات

له: زيادٌ من أبي سُفيانَ غُصْنٌ ... تَهَادى ناضراً بينَ الجِنَان أرادَ أخَاً وعَمَّا وابنَ عمٍّ ... فمَا أدري بعينٍ ما تَراني وأنتَ زيادةٌ في آل حربٍ ... أحبُّ إليَّ من وُسْطى بَنَاني وعبيد الله هو الذي وجه عمر بن سعد بن أبي وقاص لقتال الحسين بن علي رضي الله عنهما، حين ولاه يزيد (الكوفة) وهو (بالبصرة) فخرج مسرعاً حتى قدم الكوفة، وبعث عمر بن سعد لقتال الحسين وأردفه شمر بن ذي الجوشن الضبابي لعنه الله، والخبر مشهور. وقتل الدَّعي عبيد الله ابراهيم بن الأشتر ليلة التقائه معه بالمجاز وقيل حارر وهو اسم نهر بناحية الموصل. وكان إبراهيم بن الأشتر على جيش المختار بن عبيد، وعبيد الله على جيش لعبد الملك بن مروان، فتقاتلا في ذلك الموضع، حتى دخل عليهما الليل من يوم عاشوراء سنة سبع وستين بعد قَتْلِ الحسين بست سنين، وتمادى القتل، فقتل إبراهيم عبيد الله، وانهزم أصحابه أشد هزيمة. فلمّا كان عند الصبح قال إبراهيم لأصحابه: إنِّي قتلتُ البَارِحَة رَجُلاً، فَوَجدْتُ عليه أثر طيب، فمَا أراهُ إلاَّ عبيد الله بن زياد فالتَمِسُوه، فإنِّي قَسمتُهُ بنصفين، فرميتُ ذِراعيهِ نحوَ المَشْرِق، وساقَيْهِ نحوَ المَغْرِب فالْتَمِسوه. فَوَجَدوه كما ذكر، فلمَّا قُتِلَ عُبيد الله حُزَّ رأسُهُ، وبَعَثَ به المختار بن عبيد بن مسعود إلى علي بن الحسين،

وحكى الرّسولُ الذي مشى برأسه إلى علي بن الحسين، قال: دَخَلْتُ على علي بالرأس، وهو يتَغَذَّى، فقال: سُبْحان الله. لقدْ أُدْخِلَ رأْسُ أبي عبد الله، يعني الحسين على عبيد الله بن زياد، وهو يتغدَّى. رجع وقال أبو العباس أيضاً: يابَرْقُ بَرقاً بينَ مَرْوَةَ والصَّفا ... باكِرْ بِسُقْيا الحَجِّ ديناً قدْ عَفا واهْدِ الحَجيجَ إلى مَعالِم مكَّةٍ ... فلقدْ تركْتَهمُ حَيَارى وُقَّفا حَمِّل عِمَامَكَ ديمَةً منْ زَمْزَمٍ ... وانْضَحْ بِريَّاها القُلوب الرُّجفا وَاكْحَلْ جُفُوني منْ سَوافي ريحها ... إنِّي أشحُّ بتُرْبِها أنْ يَنْسِفَا بينَ الحجونِ إلى الحطيم لأحْمدٍ ... أثَرٌ زكَامنْهُ الثَّرى وتَشَرَّفا بِمِنىً بجَمْرَتِه إلى عَرَفاته ... ناهيكَ مسْعى للنَّبي وموْقفا والحِجْرُ والحَجَرُ الأحمُّ تَأَلَّقتْ ... أَنْوارُهُ فأبى الهُدى أنْ تُكْسَفا وَمَقامُ إبراهيمَ يَدْعو رَبَّهُ ... قد أثَّرَتْ قَدَمَاهُ في صُمِّ الصَّفا والبيتُ ذو الأستار تمْسَحُ رُكْنهُ ... وُرْقُ الحَمَامِ عِياذَةً وتعَطّفا

يالَيْتَ أنِّي في ذراهُ حَمَامَةٌ ... أدَعُ الهديل سُدًى وَأَبْكي المصطفى يا عيْنُ بَكِّي للدَّفينِ بِطيبَةٍ ... ولِمَفْرقٍ بِدَمِ الوَصيِّ تغَلَّفا أخَوَيْنِ خَيْرُهُما بِحَرَّةِ يثْرِبٍ ... ثاوٍ وَآخَرُ بالعِراقِ تَخَلفا شُلَّتْ يمينُ المُلْجَميِّ فإنَّهُ ... تَرَكَ الإِمَامَة بالإمام على شَفا أرَتِ الشَّماتَة بالوَصِيَّ أمَيَّةً ... لا سَرَّها قتْلُ الوصيِّ ولا شَفى ودَّت أمَيَّةُ لوْ يُصابُ بِسَيْفِها ... يكْفِيكَ جَمرُهُ يا أميةُ لوْ كَفى أشَفَاكُمُ منْ يومِ بدْرٍ قَتْلُهُ ... تِلْكَ الشَّهادَةُ ما بذلكَ مَنْ خَفَى وَابْكِي على السِّبْطين بعْدَ أبيهماَ ... حُبَّا لِجَدِّهِما الرَّحيمَ الأرْأفا عَمْري لقدْ جَارَ الضَّلالُ على الهُدى ... بالطَّفِّ في قتْلِ الحُسينِ وطَفَّفا واهاً لَها منْ عَثْرةٍ لوْ تُتَّقى ... واهاً لَها من ضِلَّةٍ لوْ تُقْتَفى ماكانَ أجْدَرَها بأنْ تَدَعَ الظُّبا ... متَشَظِّياتٍ والقَنا مُتَقَصِّفَا رضِيَتْ قُرَيشٌ أنْ يُقَتَّلَ هاشِمٌ ... فعَلى قُريشٍ بعْدَ هَاشِمٍ العَفا لا دَرَّدَرُّ العَبْشَمَيَّةِ كمْ لَها ... منْ فَتْكةٍ فيهم عَلَتْ أنْ تُوصَفا

لوْ أنَّ صقْراً في مكانِ أمَيةٍ ... لَحْماً لَحَامَ على الحُسين ورَفْرفا أوْ أنْ لَيْثاً يوْمَ خَرَّ مَكَانَها ... غَرَثاً لَمَهَّدَ للحُسين وأَلْطَفا أوْ أنَّ سِرْبَ قطاً غداةَ شَكا الصَّدى ... وافاه مجَّ لِوِرْدهِ ما اسْتَخْلَفَا مَنَعُوهُ ماءَ النَّهرِ ليْتَ مَدَامِعي ... مَعَهُ إذاً لَسَقى الرِّكابَ ولا اشْتَفى إنّي لأشْرِقُ بالزُّلالِ تَذكُّراً ... هُمُ وأقْلقُ بالنَّعيم تَأسُّفا يا لَيْتَ شِعْري كيفَ كانَ على العَصا ... رأْسُ الحُسَيْن ونُورُهُ كيفَ انْطَفا أمْ كيفَ تُقْرعُ بالقضيبِ ثنِيَّةٌ ... كانتْ ملذاً للنَّبِي ومَرْشفا إنْ يرفعُوا رأسَ الحُسين فقبْلَه ... رَفَعوا لواذاً منْ أبيه المُصْحَفا إيهاً حديثاً عنْ فُؤادي إنَّهُ ... ذكرَ الرسولَ وآله فتشوَّفا مَالي طَرِبْتُ بذكْرهمْ فكَأنَّني ... عاقَرْتُ منْ ذكرِ الأحِبَّةِ قرْقَفا أقِمِ الصلاةَ على النبيِّ فإنّها ... تذَرُ الذُّنوبَ الشُّمَّ قاعاً صَفْصَفَا صلّى الإلهُ على النبيِّ وآلهِ ... من ضَمَّ خَمْسَتَهُمْ كِساءٌ قدْ صَفا ياربِّ إنِّي قدْ أنِسْتُ بِحُبِّهم ... فاجعلهُمُ لِيَ عنْ سِواهُمُ مَصْرِفَا قوله: (والحِجر والحَجَرُ الأَحَمُّ) يعني الأسود، وإنما قال: الأحمُّ لِيقُوم له الوزن. وفَضْلُ هذا الحجر عظيم، وشرفه معلوم، وذُكِرَ أنه يمين الحيّ القيوم.

حدَّث يحيى بن سليم عن ابن جُرَيْج قال: سمعت محمد ابن عباد ابن جعفر المخزومي يقول: سمعت عبد الله بن عباس يقول: إن هذا الرُّكْنَ الأسوَد، هو يَمينُ الله في الأرض، فَصافَح بِه عبادَهُ مُصافحة الرجل أخاه. وقال القاضي أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن العثماني كتبَ إلَيَّ الشًّيْخُ أبو الفتوح طاهر بن علي الرفاء المصري وأجاز لي الرواية عنه قوله: في الحجَر الأسْود سرُّكُمَا ... في غامضات العلم أسرارُ فَهْوَ يمينُ الله في أرضه ... واللَّهُ للأشياء يختارُ وإنَّما الأمثال مضروبةٌ ... وفي رموز القول تذْكارُ وطاعةُ الله وعصيانُهُ ... عقباهما الجَنَّةُ والنَّارُ والوَصِيُّ الذي ذَكَرَ هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وسنذكر بعد هذا طَرَفاً من خبره. والملجمي هو عبد الرحمن بن ملجم التَّجُوبي. وقيل

السُّكُوني، وقيل الحميري. قال الزبير بن بكار: تَجُوبُ رجل من حِمْير كان أصاب دماً في قومه، فلجأ إلى مراد فقال: جئت إليكم أجوبُ البلاد، فقيل له: أنت تجوب. فسمي به. وهو اليوم في مُراد، وهم رهط ابن مُلْجَمُ المرادي ثم التَّجُوبي، وأصله من حمير، ولم يختلفوا أنه حليفٌ لمراد، وعِدادُه، فيهم، وكانَ فاتكاً ملعُوناً انتدب من لقايا الخوارج لِقَتْل علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقتله ليلة الجمعة لثلاث عشرة، وقيل لإحدى عشرة ليلة خلت، وقيل بقيت من رمضان. سنة أربعين، وفي ذلك يقول شاعرهم: علاه بالعَمُودِ أخو تجوبِ ... فأوهى الرأس منه والجبينا وقُبِضَ رحمةُ الله عليه ورضوانه في أول ليلة من العشر الأواخر منه. وذكر المزني عن الشافعي عن سفيان بن عيينة قال: قال لي جعفر بن محمد توفي علي بن أبي طالب وهو ابن ثمان وخمسين سنة، وقتل الحسين بن على، وهو ابن ثمان وخمسين سنة، وتوفي علي بن الحسين وهو ابن ثمان وخمسين سنة، وتوفي محمد بن علي بن الحسين وهوابن ثمان وخمسين سنة.

قال سفيان: قال لي جعفر بن محمد وأنا بهذه السنة في ثمان وخمسين سنة، فتوفي فيها رحمة الله عليه وعليهم. (حُبَّا لِجَدِّهِما الرَّحِيم الأَرْأَفَا) جاء به منصوباً على المدح للمبالغة فيه. ومثله قول الشاعر: إلى المَلِكِ القَرْمِ وابن الهُمَامْ ... وليثَ الكَتِيبَةِ في المزْدَحَمْ فنصب (ليث) على المَدح. وقال الآخر: الخائضَ الغَمْرَ والميْمونَ طائرُهُ ... خليفَةَ الله يُسْتَسْقى به المطرُ نصب الخائض والميمون وخليفة الله على المدح والترفيع. ومثله أيضا قول الآخر: لقد حَمَلَتْ قَيْسُ ين عيْلاَنَ ... حَرْبَها على مُسْتَقلِّ بالنَّوائبِ والحربِ أَخَاها إذا كانتْ غضاباً سمَالَها ... على كلِّ حالٍ منْ ذَلولٍ ومنْ صعْبِ فنصب (أخاها) على المدح. ولولا ذلك لخفضه على البدل من مستقل. وقال يونس في قوله عزَّ وجل (وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ)، وفي قوله تعالى

(وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ): نصبهما على المدح. ونظير هذا من الكلام: مرَرْتُ بِزَيْدٍ الرجَل الصَّالحَ. فإن خفضته جعلته بَدَلاً من زيد، وإن رفعته على إضمار هو. والنصبُ على المدحِ والذم والترحُّم والاختصاص؛ إنَّما هو بإضمار: أعني. فمثال النصب على المدح ماذكرناه من الأبيات، ومن قول الله عز وجل. ومثال الذم قوله عز وجل في صفة المنافقين (مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ) وقوله تعالى (مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا) و (حَمَّالَةَ الْحَطَبِ) على قراءة عاصم ومنه قول الشاعر: سَقَوْني الخمر ثمَّ تَكَنَّفُوني ... عُداةَ الله من كَذِبٍ وَزُورِ وقول النابغة: وَجُوهَ قرودٍ تبْتغي من تُخَادِعُ نصب عُدَاة الله، ووجوه قرود على الذَّم. ونظيره في الكلام: مررت بزيد الفاجرَ. والفاسقَ. ومثال الترحُّم قولك: مررت بزيد المسكينَ والضعيفَ. ومنه قول الشاعر:

ولقدْ خَبَطْنَ بُيُوتَ يشْكُرَ خَبْطةً ... أخْوَالَنَا وهُمُ بَنُو الأعْمَامِ فنصب (أخوالنا) على الترحم، ومنه قول امرئ القيس: فأَسْقِي بِهِ أُخْتِي ضَعيفَةً إذْ نأَتْ ... وإذْ بعُِدَ المزار غير القريضِ فنصب ضعيفة على الترحم. فأمّا قول ذي الرمة: وَأَنْتُمْ بني قيسٍ إذا الحربُ شَمَّرَتْ ... حُمَاةُ الوغى والخائضُونَ العواليَا فانصبه إن شئت على المدح، وإن شئت على الاختصاص. ومن المنصوب على الاختصاص قول الشاعر: إنَّا بني مُنْقَرٍ قوم ذوو شَرَفٍ ... فينا سراةُ بني سعد وناديها ويروى هذا البيت على مساق آخر وهو: إنَّا بَني منقر لا نَنْتَمِي لأبٍ ... عنْه ولا هَو بالآباء يَشْرِينا أي يبيعنا. كأنه قال: إنا، أعني بني منقر. وهذه الوجوه التي ذكرناها كثيرة في الشعر والكلام. رجع وقول أبي العباس (أم كيف تُقْرَعُ بالقضيب ثنية) الحسين. وذلك أنه لما قتل رضي الله عنه يوم عاشوراء سنة إحدى وستين، قتله سِنَان بن أنس، وقيل سنان بن

أبي سنان النخعي، وقيل قتله شَمْر بن ذي الجَوْشَن الأبرص الضبابي، وأجهز خولي بن يزيد الأصبحي لعنة الله عليهم ثلاثتهم وسخطه. حزّ رأسه خولي، وأتى به عبيد الله بن زياد، وهو يقول: أوْ قِرْ رِكَابي فِضَّةً وذَهَبا ... إني قتلتُ الملِكَ المُحَجَّبا خيْرُ عِبادِ الله أُمَّا وأبا ... وَخَيْرُهم إذْ يُنْسَبُون نَسَبا فقال له عبيد الله بن زياد: فَلِمَ قَتَلْتَه إنْ كان خير عباد الله أمَّا وأباً؟ فضرب عنقه ثم أمر بحمل الرأس إلى يزيد بن معاوية، فحكى القوم الذين حَمَلُوه، أنّهمْ نزَلوا منْزلاً من المنازِل، ووضعوا الرأس بين أيديهم، فرأوا يداً من حديد قد خرجت فكتبت على جبين الحسين بالدم: أتَرْجُو أُمَّةٌ قَتَلَت حُسيناً ... شَفَاعةَ جَدِّهِ يوْمَ الحِسَابِ ويروى أنّ هذا البيت وجد مكتوباً في كنيسة من كنائس الرُّوم، وعليه تاريخه مذ كتب، فَعُدَّ تاريخه فوجد قبل الإسلام بثلاث مائة سنة. فلما وصل الرأس إلى يزيد جعل ينكث بقضيب كان في يده على ثَنِيَّةِ الحُسين وهو يقول: نُفلِّقُ هاماً من رجالٍ أعزَّةٍ ... علينا وَهُمْ كانوا أَعَزَّ وأظلما فقال له أبو برزة نَضْلة بن عبيد الأسلمي: ارفعْ قضيبَكَ فَطَالَ واللهِ ما رأيتُ رَسول الله صلى الله عليه وسلم يُكِبُّ عليه يقبله فذلك الذي عنى أبو العباس بقوله: (أم كيف تقرع بالقضيب) البيت.

وحكى أبو عمر المطرز عن أحمد بن يحيى بن ثعلب عن عمر بن شبة قال: دخل سِنَان بن يزيد النَّخَعي على الحجاج: فقال له الحجاج كيفَ صنعتَ بالحسين؟ فقال: دَسَرْتُهُ بالرُّمْح دَسْراً، وهَبَرْتُهُ بالسيفِ هَبْراً، ووكَلْتُه إلى امرئ غيري وَكْلاً فقال الحجاج: ألاَ واللهِ لا تَجْتَمِعُونَ في الجنَّةِ أبَداً. وأمَرَ له بخمسة آلاف درهم. فلما ولي قال: لا تُعْطُوه إياها. وحكى مروان بن معاوية الفزاري عن محمد بن عبد الرحمن عن أبي مسلم النخعي انه قال: رأيت رأس الحسين قد جيء به، فوضع بدار الإمارة بالكوفة بين يدي عبيد الله بن زياد. ثم رأيت رأس عبيد الله بن زياد قد جيء به، فوضع في ذلك الموضع بين يدي المختار بن عبيد. ثم رأيت رأس المختار قد جيء به، فوضع في ذلك الموضع بين يدي المصعب، ثم رأيت رأس المصعب قد جِيء به، فُوُضِعَ ذلكَ الموْضع بين يدي عبد الملك بن مروان، فرأى عبد الملك مني اضطراباً يوم جيء برأس المصعب، فسألني، وأخبرته بالقصة. وقلت: وهذا رأس المصعب بين يديك، فَوَقاكَ الله يا أمير المومنين. قال: فوثب عبد الملك عن ذلك المجلس وأمَرَ بهَدْمِ الطَّاق الذي كان عليه.

رجع وقال أبو العباس أيضاً يمدح أهل البيت صلوات الله عليهم. وقد سئل بعض الجفاة عن تفضيلهم وتطهيرهم وتقديمهم على من سواهم فقال: عَادَيْتُ في الله قوْماً أنْكَرُوا رَصَداً ... للدِّينِ تَطْهيرَ أهْلِ البيتِ ذي الحُجُب ياأهْلَ بيتِ النَّبِيِّ المصطَفى حَرَبي ... ممَّنّ يُخَفِّضُ منْ أَقْداركُم حَرْبِي منْ لمْ يَقُلْ إنَّ خيرَ النَّاسِ كُلهُمُ ... أنْتُم، فقدْ سدَّ بابَ الصِدْق بالكَذِبِ اللهُ طهَّرَكُم والرِّجْسَ أذْهَبَه ... عنْكم، شَهادَةُ ربَّ العرْشِ في الكُتُبِ وقائلٍ لا، جَوَاباً عنْ طَهارَتكمْ ... ويْلٌ لِقَائلِها، إنْ كانَ لمْ يَتُبِ أخو الرَّسول، أبو السِّبْطَيْنِ، أكْرمُ منْ ... يَمْشي على الرّتبِ أوْ يَرْقى على الشُّهُب يا منْ يُفاخِربالأْنساب، هلْ لكَ في ... فخْرٍ فحُبُّ النبيِّ المُصْطَفى حَسَبي وحُبُّ فَاطِمَةٍ والمرتضى حَسَنٍ ... وصِنْوِهِ وعليِّ كاشف الكُرَبِ يومَ البعير ويومَ النَّهْروانِ ... وفي صفِّين داوى شُكاةَ الدينِ بالقُضُبِ ما كنتُ أجْعَلُ شَكاً في أبي حَسَنٍ ... ولوْ رَمَتْني جميعُ العُجْمِ والعَرَبِ وقال أيضاً في المعنى ردَّا على ذلك الجافي المذكور بعينه: لقدْ طَهَّرَ الرحْمنُ آلَ محمدٍ ... وأذْهَبَ عنْهُمْ رِجْسَهُمْ وَهَدُوا كُلاَّ عَجِبْتُ لِقوْمٍ لا يرَوْنَ وصيَّة ... أبا حَسَنٍ للأمْرِ يومَ انْتدوا أهلاً أَمَا كان في آلِ النَّبيِّ مُحَمَّدٍ ... بِزَعْمِهم منْ يَشْهَدُ العقْدَ والحَلاَّ كَذَبْتُمْ، أخُوهُم كانَ فيهمْ وَعَمُّهُ ... أشَدُّ الوَرى رأْياً وأوْثقُهم إلاَّ

فمَنْ كان يَدْعُوهُ الرَّسُولُ لنصْرِه ... إذا لَقَحَتْ حرْبٌ ومنْ كانَ للْجُلاَّ ومنْ كان في دارِ النَّبيِّ خليفَةً ... كهَارُونَ من مُوسى، ومنْ بسَطَ العْدْلا ومنْ كانَ مَوْلىً منْ يُوالي مُحَمَّداً ... ومنْ كانَ أَسْمى في المنَاسِبِ أوْ أعْلى فموسى وهارُونٌ كأحْمَدَ والرِّضا ... عَليٍّ فهلْ من ثالِثٍ نَالَ ذا الفضْلاَ أخُوَّةُ خيْرِ النَّاسِ خيْرُ مزِيَّةٍ ... فأيْنَ بِكُمْ عنْ هذه أوْضَحُوا السُّبْلاَ وأرْبَعَةٌ والمصطَفى خامًسٌ لهُم ... أفاضَ عليهمْ مرطهُ وتَلا فَصْلاَ وفيهم عليُّ بالكِسَاء مُلَفَّعاً ... وفي سورة الإنسان أمْداحُهُ تُتْلى وإني لأعْطي أوَّلَ الفضْل رُتْبَةً ... وإنْ لامَنِي قوْمٌ لأوَّل منْ صلَّى قوله رحمه الله: (ومن كان في دار النبي خليفة) إلى آخر الأبيات، إشارة إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه. ذلك أن علياً أول من آمن بالله من الناس بعد خديجة، وأول من صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم معها، وأنه صلى القبلتين، وهاجر وشهد (بدراً) و (حديبية) وسائر المشاهد، وأبلى يوم (بدر) و (أُحُد) و (الخَنْدَق) و (خَيْبَر) بلاء عظيماً، ولم يتخلف عن مشهد شهده الرسول عليه السلام إلاّغزوة (تَبُّوك)، فإن رسول الله صلى الله عليه خلفه على (المدينة) وعلى عياله، وقال له: (أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لانبي

بعدي)، وقال له عليه السلام: (أنت أخي وصاحبي). وآخى بينه وبين نفسه صلى الله عليه وسلم يوم آخى بين المهاجرين والأنصار، وقال له: "أنت ولي كل مؤمن بعدي، وأنت الذائذ عن حوضي يوم القيامة، تذود عنه الرجال كما يُذادُ البعيرُ الصادي". وزوَّجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنته فاطمة في سنة اثنتين من الهجرة، وهي سيدة أهل الجنة ماخلا مريم ابنة عمران، وقال لها: "زَوَّجْتُكِ سيِّداً في الدنيا والآخرة" وفضائله رضوان عليه كثيرة لا تحصى، وخصوصية بالنبي صلى الله عليه وسلم مشهورة. وكان رضي الله عنه يقول: "أنا عبد الله وأخو رسوله، لا يقولها أحد غيري إلاّ كذَّاب". وروى عن جماعة من الصحابة عن النبي عليه السلام انه قال يوم (خيبر) لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، ليس بفرار يفتح الله على يديه. ثم دعا لعلي وهو أرمد، فتفل في عينيه، وأعطاه الراية، ففتح الله عليه. ولما نزلتْ (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا). دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة وعلياً وحسناً وحسيناً، وهو في بيت أم سلمة، فأقعد علياً عن يمينه، وفاطمة عن شماله، وحسناً وحسيناً في حجره، وألقى الكساء على نفسه صلى الله عليه وعليهم، وقال: "اللهم إن هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرَّجس وطهرهم تطهيرا" وإلى هذه الفضائل أشار أبو العباس في أبياته المذكورة. وقال أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة رحمه الله، ومكانه من العلم

والفَضْل والوَرَع مَعْلُومة: كُلُّ منْ نازَعَ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه في خلافته، فهو باغ. على هذا عهدت مشايخنا لقوله عليه السلام: "تقتل عمار الفئة الباغية" يعني عمار بن ياسر بن عامر العبسي. وقتل عمار رحمه الله (بصفين) وكان مع علي رضي الله عنه، ووُجِدَ مقتولاً على باب سرادق معاوية. وأتى يومئذ رجلان إلى معاوية يختصمان في رأسه وسلبه، أحدهما: أبو الغادية الجهني، والآخر هوى بن ماتع. وقيل هوى بن جزء طعنه أبو الغادية واحتزّ هوى رأسه، ويقال إنهما اختصما في رأسه، وسلمه إلى عبد الله بن عمرو بن العاص فقال لهما، اخرجا عني، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أولعت قريش بعمار يا ويح عمار يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار". وفي مقتل عمار يقول الحجاج بن غزية الأنصاري من أبيات رثاه بها: قال النَّبِيُّ له تَقْتُلْكَ شِرذمةٌ ... سِيطَتْ لُحومهمُ بالبَغْي فُجَّارُ فاليَوْمَ يعلمُ أهلُ الشام أنهمُ ... أصحابُ تلك وفيها العارُ والنارُ وكان أهلُ الشّام يسمون قتل عمار فتح الفتوح. وفي عمار قال رسول الله

صلى الله عليه وسلم، وقد سمع رجلاً من المهاجرين قد أغلظ عليه في شيء، فقال: "عمَّار جِلْدةُ ما بين عيني وأنفي فمن بلغ منه فقد بلغ مني" وأشار بيده فوضعها على عينيه. وقال أبو العباس في طريقة الصوفية: حدَّثني الشوقُ عنْ تباريحي ... أن ضنى الجِسْمِ صَيْقَلُ الرُّوحِ وأنَّ صُفْرَ الوُجُوه مُسفرَةٌ ... تُشْرِقُ في الليل كالمَصابيح وأنَّ رَوْحَ الإلهِ مُطَّلِعٌ ... على المحبينَ في التراويح أفْلَحَ عبدٌ جَفا الكرى سَهَراً ... بين سجودٍ وبين تسبيح خلا بمولاه غيرَ مُلتَفِتٍ ... في الجمْعِ للفَرْقِ غيرَ تَلْوِيح أصبح منْبتُ سيْرهِ فَلَه ... منْ لُطْفِ مَوْلاه أيُّ تَرْويحِ شاهدٌ ماغَابَ في سَريرَتِه ... وطَارَ إحساسُهُ معَ الرِّيحِ لا مثْلَ منْ لُوِّنَتْ مَسَالِكُه ... فَتاهَ بينَ المَهَامهِ الفيحِ عرِّضْ بالحقِّ في المثال لهُ ... والفوْزِ، لوْ نالَهُ بتصريح موْلاي إنِّي علَيْكَ مُعْتَمدٌ ... فجُدْ بفضْلٍ عليَّ ممْنوحِ ونجِّني فالذُّنوبُ مُغْرقتي ... وأنتَ نجَّيْتَ تابِعي نوحِ وفي المعنى أيضاً يقول: أجيرَةَ بيتي مالَكُمْ بِكُمُ السَّهوُ ... أمَرَّلكمْ شَجْوٌ وطابَ لي الشَّجْوُ خَدعْتُكُم واسْتَأثرَ القلبُ بالهَوى ... لكُم مُرّهُ البادي وفي كبِدي الحُلْوُ

أبَتْ كَبِدُ المشتاقِ أنْ تَسْأمَ الجَوَى ... ولو سئمتْ لم يَسْأم الجَسَدُ النِّضْوُ لقدْ سَقَمَتْ أهْواؤُكُم فَزَلَلْتُمُ ... ولوْ صحَّتِ الأهْواءُ لا تّصَلَ الخطْوُ وَليَ سيِّدٌ لمْ يَعْلَم النَّاسُ كُنْهَهُ ... قريبٌ فإنْ هَاجَرْتُهُ بعُدَ الشَّأوُ جَوادٌ إذا فرَّ المُسِيءُ بِذَنْبِهِ ... إليه فأدْنى جُودِهِ الصَّفْحُ والعَفْوُ تشاغَل أقْوامٌ بِخِدْمَةِ عِزَّةٍ ... فعَزُّوا وأعْلى عزَّهُمْ ذلكَ القَتْوُ رَدَدْتُ بِحُبِّيهِ على النّاسِ حُبَّهمْ ... وهلْ كنْتُ أسْتَسْقي وفي يَدِيَ الدِّلوُ وما سرني أنْ أملكَ الأرضَ كُلّها ... وأنَّ فُؤادي منْ مَحَبَّتِه خِلْوُ ولوْ أنَّ قلبي في يَدَيَّ بلا هَوى ... لجُنَّ فما ظَنِّي به وهوَ الحشْوُ إذا هاجَ لي شَوْقٌ تَيَمَّمْتُ نَحْوَه ... على أنَّ منْ أحْبَبْتُ ليسَ لهُ نَحْوُ وليسَ لَهُ أيْنٌ وليسَ له لَدُنْ ... وليسَ لَهُ مثْلٌ وليسَ لهُ صِنْوُ أمَثِّلُهُ في خَاطري فيفُوتُنِي ... وبالقَلْبِ منْ عِرْفانهِ التِّيهُ والزَّهْوُ وقدْ طارَ حتَّى قرَّ في مطْلَعِ الهُدى ... فسَوْداؤُهُ حَضْرٌ وأضْلاعُهُ بَدْوُ أُوَاصِلُهُ في كُلٍّ خَطْرَةِ خاطِر ... ولا لعبٌ عندَ الوِصال ولا لَهْوُ وُقُوفاً على سُفْلِ البِساطِ تَجِلَّةً ... ولوْلا انْبِساطي كانَ موقِفيَ العُلْوُ فواحسْرَتي إنْ خابَ مَسْعايَ عنكُم ... ولوْ خابَ أيضاً ما اعْتَرى حُبِّيَ السَّهْوُ ولا كهذا فَلْيَهْوَ منْ كانَ ذا هَوى ... وإلاّ فحُبُّ النَّاسِ أكْثَرُه لهْوُ سُقيتُ الهَوى صِرْفاً فَعربَدْتُ صاحِياً ... ولكنَّ صحْوي دُونَ أيْسَرِهِ النَّشْوُ حَنَانَيْكَ إنَّ الحُبَّ كَأْسٌ شَرِبْتُها ... على ظَمَأ صَفْواً فكَدَّرني الصَّفْوُ فدُونَكُمُ يا أيُّها الشَّرْبُ فانعَموا ... دُموعي لكم خمرٌ ونَوحي لكم شدْوُ

قال أبو إسحاق: انتهى ما اختلسْتُه واخْتَطَفتُه، ومن أزْهارِ كَلامِهِ واقْتطَفْتُه. ويا حُسْنَها من أزَاهِر، وبدائِعَ وجَواهِر. أفْكارٌ وألْبابٌ، أحْسَنُ منْ ساعَاتِ الوِصالِ والاقتِراب، بعدَ يَأْسٍ منَ الأحْباب، أُمْنِيةُ راغِبٍ، وعَقِيلَةُ مُبْتَغٍ وطالِبِ. موالك للقلوب والأسماع، وأفتَنُ منَ الحَسْناء سافرَةَ القناع: لوْ كنَّ في فَلَكٍ لكُنَّ كواكِباً ... أوْ كُنَّ في وجْهٍ لكنَّ عُيُونَا وكان الأديب أبو العباس رحمه الله فريد الإبداع في زمانه، معروفاً بانطِبَاعه وإتْقانِه، ولَهُ في أنواع المديح قصائدُ سُلْطَانيات، تُوليكَ كثْرة طائل، وتدلكَ على أنْبَلِ قائل. بصير بمعاني اللغاتِ والآداب، كثير التَّنْديرِ في كَلاَمِه والإغرابِ، وقدْ أثْبَتُّ في هذا الديوان من شعره المليح المعاني، السَّالمِ المبَاني، ما يَسْترِقُّ القُلوبَ والنفوس، وتتيه بحُسْنه المَهَارِقُ والطُّرُوسُ. وُلِدَ لعشر ليال خلت من شهر رجب الفرد سنة ثمانٍ وسبعين وخمسمائة، وتوفي رحمه الله ضحى يوم الثلاثاء الثالث عشر لجمادى الأخرى سنة خمس وستمائة. وقال الفقيه الوزير أبو الربيع سليمان بن موسى الكَلاَعي البلنسي من أهل عصرنا، في مدح الرسول وأزواجه، والصحابة وأهل البيت، وسَمَّى هذه القصيدة: "نَتِيجةُ الحُبِّ الصَّميمَ وزَكَاةُ المنثُور والمنْظوم" نفعَهُ الله بما صَنَّفَ ونظم في أهل البيت، وفي تَعْزِيزِ نبينا المصطفى المكرم، وفي أزواجه، أمَّهاتِ المؤمنين

الخَفَرات الطَّاهرات، العَفائف المكرمات، وبلغه من إحسانه الجزيل ما أمَله، وتقبل دعاءه وعمله فقال رضي الله عنه وأجاد في النسق والنظام، وضمّن أولها ذكر مثال نعل النبي عليه السلام: يا مَنْ لِصَبٍّ يرى أشْجَانَه النظرُ ... مَهْمَا تَبَدَّى له من حُبِّه أثَرُ يَفي لهُ الصَّبر عند النائبات فإن ... يَلُحْ لهُ أثرٌ لمْ يبْقَ مُصْطَبِرُ وذاكَ غيرُ ذميم من مواقِعِهِ ... إذا تعقَّبهُ التنقيحُ والنَّظَرُ فلا يُبالي الشَّجَى وَجْداً يُعَالجه ... في ذاكَ لوْ طارَ من حافاتِه الشَّرَرُ ولا يرْوي اعتذاراً عن لواعِجِه ... فما عن الرُْشد والتوفيقِ معتذرُ هدىً أضَل عزاء المستهامِ بِما ... رأى فيَا لِضلالٍ بالهُدى يفِرُ رأى مِثالاً لنعلِ المُصْطَفى فَهَفا ... بِهِ النِّزاعُ وهَاجَتْ شَوْقَهُ الذِّكَرُ وليْسَ نُكْرُ نزاع عند رُؤيَتِه ... لكنْ قَسَاوَتُهُ في مثْلِها نُكُرُ أعوذُ بالله من قلبٍ يُطالِعُها ... فلا يُرى بأليمِ الوجْدِ ينْفَطِرُ وحَاشَ للهِ أنْ تُهدى الضُّلوعُ على ... أبْصَار آثارِ منْ حيزَتْ لهُ الأَثَرُ مَن صَرَّحتْ بِمزايا فضْل سُؤْدَدِه ... آيُ الكتاب وشادت مَدْحهُ السُّوَرُ محمدٌ خيرُ خَلقِ الله كُلِّهِمُ ... مَمَّنْ نمَت يمَنٌ أوْ من نمت مُضرُ وغيرهم من جميع العالَمين فَلا ... يَزِغْ بِذي العقْلِ عنْ سمْتِ الهُدى البَصَرُ فَيا مُطارَ الحشَى شوقاً لرُؤيته ... والعينُ تشْتاقُ مهْما أبْصرَ الأثَرُ مثالُ نعْلِ النبي المصطفى عِوَضٌ ... منْ نعْلِهِ حينَ حالتْ دُونَهُ الغِيَرُ فمَرِّغ الشَّيْبَ في ذاكَ المِثَالِ عَسى ... بِذاكَ شوْبُكَ للأعْمالِ يُغْتَفَرُ واسْتَشْعِرنْ لَثْمَها في لَثْمِ مَمْتَثِلٍ ... به حذاءً لهَا أَودى به العُصُرُ

ففي مُشابهِ آثارِ الأحِبَّةِ مَا ... يُرَى به وجْدُ مَشْغوفٍ ويَسْتَعِرُ واركبْ من الشَّوقِ نحو المصطفى مَتْناً ... شَجْوَ الضلوع فلا يَفْنى ولا يَذَرُ وَادْأَبْ على ذكَ واصْبِرْ تجنِ خيْرَ جَنىً ... في جَنَّةٍ إنَّما يَحْظَى بها الصَّبرُ وفي الصلاةِ عليه أيُّ ما وَطرٍ ... فلا يَعُوقَنْكَ عنْ إدْمانِها وَطَرُ واذْكُرْ مواعدَهُ الحُسْنى لِمُنْتهِجِ ... سَبيلها يتَقَرَّاها ويَغْتَفِرُ ونادِ في كلِّ نادٍ إذْ تمُرُّ بِهِ ... نِداءَ منْ أُحْكِمَتْ منْ حُبِّهِ المِرَرُ صلَّى الإلهُ وأهلُ الأرْضِ كُلُّهُمُ ... معَ السماء وشمسُ الأُفْقِ والقمرُ والأنْجُمُ الزُّهْرُ منْ أَعْلى معَارِجِها ... والنورُ والظُّلُماتُ البُهْمُ والغُرَرُ والوحشُ في القَفْرِ والطيرُ المطيفَةُ في ... جوِّ السماء تعالى ثمَّ تنْحَدرُ وكلُّ ما ضمَّنَهُ عُلْوٌ وضُمِّنَه ... سُفْلٌ من الخلق مما ليس يَنْحصرُ أزْكى صلاةٍ وأنآها مَدى شرَفٍ ... بكُلِّ معنى لَدى الإعْياءِ يُعْتَبَرُ كالشَّمسِ في أُفُقٍ كالمِسْكِ في عَبَقٍ ... كالدُّرِّ في نسَقٍ بلْ دُونَها الدُّرَرُ على البَشير النَّذيرِ المنْتَقى كَرَماً ... من مَحْتِدٍ طابَ منْهُ الخُبْرُ والخَبَرُ منْ مَعْشَرٍ إنَّما هُمْ منْظراً بَشَرٌ ... لكنْ مزاياهُم يُعْنى بِها البَشَرُ على المبارك منهم مذهباً وأباً ... وشيمةٌ شأْنُها في الذِّكْرِ مُسْتَطِرُ على الَّذي ابتهجَتْ سُبُلُ النَّجَاة به ... على الذي خُتِمَتْ فَخْراً به النُّذُرُ على ابنِ آمِنَةَ المَرْجُوِّ نائُلُهُ ... يوْمَ القيامَةِ إذْ يُهْدى لَهُ الظَّفَرُ على المُؤَثِّل دُونَ الأنبياء إذا ... جَدَّ الحسابُ وأَدَّتْ فَيْحَها سقَرُ على الذي كَلَّمَتْهُ الشاةُ مُشْعِرَةً ... بِسُمِّها فانْثَنى عنْ قصْدِها الضَّرَرُ

على الَّذي لمْ تُهْدِ تَحِيَّتها ... إليه مَهْمَا رَأَتْهُ الأرضُ والشَّجَرُ على الذي كان يُسْتَسْقى الغَمَامُ به ... فَتَسْتدرُّ بِهِ منْ صَوْبِه الدُّرَرُ على الذي نبعتْ بالرَّيِّ أنْمُلُهُ ... للوارِدِينَ فهالَ الوِرْدُ والصَّدرُ فَيَا لِيُمْنِ مُحَيّاً إنْ سألْتَ بِهِ ... في الجَذْبِ جاءَكَ وَفْقَ البُغْيَةِ المَطَرُ ويا لَيُمْنى ويُسْرَى ما عَطَاؤُهُما ... في أَعْسَرِ العُسْرِ إلاَّ اليُمْنُ واليُسرُ وضُوعِفتْ بركاتُ الأرْض فانْبَعَثَتْ ... مَشاهِبُ الخِصْبِ بالأَرْزاقِ تَبْتدِرُ على الذي أَسْعَدَ الأيامَ مَبْعثُهُ ... فاستشْعرتْ طيبَها الآصالُ والبُكَرُ على الذي حُبُّهُ موت بِمُخْلصه ... على مشارع صَفْوٍ مَا بِها كَدَرُ صلاةُ صدق وإخْلاصٍ إذا صَدَرَتْ ... عن الضمير فلا ريْبٌ ولا سَدَرُ تزُورُ تُربتَه دأْباً نَوَافِحُها ... فيسْتَمِدُّ شذاها الرَّوضُ والزَّهرُ إذا انْبَرَى رائحٌ منها يُيَمِّمُها ... بَاراهُ في قصده المَحْمودِ مُبْتَكِرُ فلا تزالُ بها الآذانُ عَالِيَةً ... يَحْدوبِها السَّفْرُ أوْ يحْلو بها السَّمرُ بلا انقضاءٍ ولا عدٍّ ولا أَمَدٍ ... ما غرَّدَ الوُرْقُ أوْ ما أوْرَقَ الشَّجَرُ

وَبعده صلواتُ الله عَاطِرَةً ... على الصَّحابَة تَتْلُو زُمْرةً زُهَرُ جماعة تَحْسِبُ الصديقَ أوَّلَهُمْ ... وَتِلْوُهُ في تناهي فضْلِه عُمرُ وللشَّهيد ابن عَفَّانٍ مَكانتُه ... وفي عَلِيٍّ أثارتْ سِرَّهَا الأثَرُ وللزُّبيرِ حوَارى النبي سنَا ... جَلاَلةٍ هي في عيْن العُلا حَوَرُ وطَلْحَةُ الخيْرِ لا تُهْمِلْ فَضَائِلَه ... وفيضَ كفٍّ لَهُ بالجودِ تَنْفَجِرُ ومِلْ إلي الخَالِ سعْدٍ فَهْوَ مَنْ قَصَفَتْ ... بهِ الأكَاسِر قَصفاً والقنا كِسَرُ في موقفٍ يُعْذَرُ الفرَّارُ فيه فَما ... ثناهُ عن هولِهِ جُبْنٌ ولا خَوَرُ والمُسْتَقِلُّ بِشُورى القومِ مُؤتَمِناً ... على الخِلافَةِ يأْبَاهاً ويَنْشَمِرُ ذاكَ الأمينُ ابنُ عَوْفٍ فارْضَ عَنْهُ وَعَنْ ... جَمِيعهمْ فَهُمُ أهلُ الرِّضى الزُّهُرُ ثمَّ اذْكُرنْ عَامِراً واعْمُرْ بِمِدْحَتِهِ ... أَسْماعَ كلِّ عِبادِ الله ما عَمَرُوا ذاكَ الذي طلَّقَ الدُّنيا وزُخْرَفَها ... فما تعَلَّقَهُ منْ غمْرها غُمَرُ فيالَهُ منْ أميرٍ باتَ مُدْرَكُهُ ... في كلِّ ما كانَ يأْتِيهِ ويَأْتَمِرُ

وما تأخَّر عنْ إهْمالِ واجِبِه ... ذِكْرُ ابنِ زيْدِ ولكنْ قبْلَهُ أُخَرُ هُمُ الأُلى سَبَقَتْ ذكراهم وَهُمُ ... أهْلُ السَّوابِقِ لا ميْنٌ ولا هَذَرُ وَكُلُّهمْ وسَعيدٌ عاشرٌ لَهُمُ ... لاَيَدَّعي شَأوَهُمْ في الفخْرِ مُفْتَخِرُ وأمْرُ حمْزَة لا يَخْفى على أحدٍ ... ولا مَكَانَتُهُ في الدِّينِ تُفْتَقَرُ عمُّ النَّبيِّ وليْثُ الحرب ما بَرِحَتْ ... تَشْقَى بأسْيافِهِ الأعْداءُ والجذُرُ ومَدْرُهُ البَأْسُ عبَّاسٌ وموقِفه ... مُسْتسْقيا وغَزَالَى السُّحْبِ تَنْهَمِرُ ساقي الحجيج وعَمُّ المصطفى وَأَبو ال ... أمْلاَكِ تُنْبِيكَ عنْهُ الكُتْبُ والسِّيَرُ وفي بَنِيهِ مَعَاني المَجْدِ أجْمَعها ... قدْ قَرَّ في كلِّ سمعٍ عنهم خَبَرُ وكُلُّ أبناء منْ حَبَّرْتَ مِدْحَته ... لهُ بُرُودُ ثَناءٍ دونها الحِبَرُ ولا كَسِبْطَيْ رسولِ الله منْ أَحَدٍ ... وهلْ كفاطِمَةٍ من صفها بَشَرُ ومَنْ دنَتْ مِنْ رسول الله نِسْبَتُهُ ... دُنُوُّها لهُمُ لمْ يَخْتَطِرْ خَطَرُ وكُلُّ ذي رَحِمٍ منه فإنّ لهُ ... بذاكَ فَخْراً قُواه ليْسَ يَنْبَتِرُ وسائرُ الصَّحْبِ والأنْصارِ أَوَّلُهُمْ ... أهلُ الثَّناءِ فهم آوَوْا وهُمْ نَصَرُوا

أيَّامُهُمّ بَيَّضَتْ وجْهَ النبي رضىً ... وَسَوَّدَتْ أوْجُهَ القوْمِ الأُلى كفَروا وَإِنَّهُمْ لَخيارٌ فارْعَ حَقَّهمُ ... فَسُنَّةُ الحَقِّ ألاَّ تُهْمَلَ الخِيَرُ وانظِمْ إلى سِلْكِ منْ تُهْدي الثَّناءَ لَهُ ... أزْواجَهُ فلهَنَّ الشَّأْنُ والخَطَرُ خديجَةُ البَرَّةُ العُلْيا مَكَانَتُها ... وزيرَةُ الصِّدقٍ في الإسلام والوَزَرُ وأُمُّ كُلِّ بَنيه غَيْرُ منْ وَلَدَتْ ... عَقيلةُ القبْطِ أدَّى ذلكَ الأَثَرُ وهْيَ المُحَيَّاةُ منْ جبْريلَ مُبْشِرَةً ... بِبَيْتِ دُرٍّ فَحُمَّتْ عِنْدَها البَشَرُ وبَعْدَها ابنَةُ أَعْلى النَّاسِ منْزِلَةً ... عِنْدَ الرسول بَما أَعْلاهُ مُخْتَبَرُ فتِلْكَ عائِشَةُ المشهورِ موضِعُها ... من حُبِّه فاعْذِرُوها إنْ عَرَا أَشِرُ وليسَ من شَأْنها لكن مَكَانَتُها ... حَرى بِهِ فَلْيُزايِلْ صَدْرَكَ الوحَرُ عَلامَةُ الدِّين أُمُّ المؤمنين متى ... يَحْضُرْنَها العِلْمُ يَضْمَنْ سَبْقَها الحضرُ وَحَفْصَةُ بنتُ فاروقَ الهُدى فَلَهَا ... سَعْيٌ منَ السِّرِّ عند الله مُدَّخَرُ صَوَّامَةٌ ونَهَارُ الصيف مُحْتَدِمٌ ... قَوِّامَةٌ والدُّجى مُرْخَى لَها الأُزُرُ وكُلُّ أزْواجِه بالدين مشتملٌٌ ... وكلُّهنَّ بتقوى الله مؤتزرُ وكلُّهن لنا أُمٌّ مباركةٌ ... منْ كُلِّ منْ ضَمَّت الأبياتُ والحُجُرُ مُباركاتٌ تَوَلِّى الله معتَلياً ... تَطْهيرَهُنَّ فَهُنَّ الصَّوْنُ والطُّهُرُ وإنْ غَدَوْنَ احتقاراً للْحُلَى عُطُلاً ... فَخَيْرُ زينَتهن الدِّين والخَفَرُ وما حُلاهُنَّ بالأَصوافِ مُدْركَةٌ ... وكلُّ ما طال منها فهو مُخْتَصَرُ كذاكَ وصْفُ الصِّحابِ الغُرِّ تَعْجِزُ عَنْ ... أَدْناهُ ما نَظَموا منه وما نثَروا

فليسَ إلاَّ الرِّضى عَنْهُمْ وصدْقُ هَوى ... فيهم تَوَفَّرَ عن إِخْلاصِه العِذَرُ وذَكِّرْ ما ساعد الإمْكانُ ذاكرةً ... فالعَجْزُ من بعد بَذْل الجَهْدِ مُغْتَفَرُ وليسَ عجزٌ ولَكِنْ شَأْوُ حَقِّهمُ ... شيءٌ يُقَصِّرُ عنه الطولُ والقِصَرُ فيا لِساني وقَلْبي ما يَعُوذُكُما ... عَمَّا يَحِقُّ لَهمْ عِيٌّ ولا حَصَرُ أوتيتُما حسنَ إدْراكٍ فلا تنياَ ... واجْرِيا لمدى باغيهِ مؤْتجِرُ وبالِغا إنْ ونى بُعْدُ المَدى بِكُما ... في الاجتهادِ فإعْذارُ الفتى عُذُرُ وأيُّ عَتْبٍ على منْ رامَ مُجْتَهداً ... مثْلُ الّذي رُمْتُما فاعْتَاقَهُ قَدَرُ خُصَّا وعُمَّاً عسى ألاَّ يَفُوتَكُما ... من الصَّحابَة لا أُنْثى ولا ذَكَرُ وَكَرِّرا وأَعيدا أنتُمُ فئةً ... غَيْثُ الرِّضى مُسْتَهِلٌّ كُلَّما ذُكِروا واسْتَجْزِلِ الدُّخْرَ من إخلاَصِ حُبِّكَ يا ... قلبي لهُم فَلَنِعْمَ الزادُ والدُّخْرُ وفي الدُّعاءِ رجاءٌ لا يَخيبُ ولا ... يغِبُّ مُرْتَقبٌ منه ومنْتَظِرُ فاصْدَعْ به يالِساني ضارِعاً أَبَداً ... ففي الضَّراعَةِ ما يُقْضى بِهِ الوَطَرُ ويا إلهيَ أَمْتِعْني بِحُبِّهمُ ... حتَّى يُعَمِّرَ بي أَحْشاءَهُ العَفَرُ وجَازِ يا رَبِّ قلبي عنْ مَحَبَّتهمْ ... عَفْواً يُزوِّدُني إذْ جَدَّ بي السَّفَرُ واصرف عِنانَ اعتنائي نحْوَ خِدْمَةِ مَا ... يُرْضيكَ عنْ زَلَلِي ما امْتَدَّبي العُمُرُ كَمُلَ ما أَسْداهُ الفقيه العلم وألْحَمَهُ، ويا حُسْنَ ما أَنْشَأه ونَظَمَه منَ الثَّناء الجميل وتَمَّمه، ولقد سَلَكَ سبيلاً لا يَعْدَمُ سالكَهُ ثواباً، ولا يزْدادُ من الله تعالى إلاّ دُنُوَّا واقتراباً، والله تعالى يَنْفَعُهُ بما قال، ويأ جُرُهُ كما أطْنَبَ في الثناء على منْ يُحِبُّ وأطالَ، وكُلُّ ما ذَكَرَهُ منْ مناقِبِ الرسول عليه السلام وأصحابه مَعْلُومٌ مشهور، وفي الكتب بالأسانيد الصحاح مذكورٌ، وجاء بالعشْرة رضي الله عنهم على النَّسقِ الواجبِ، في الأماكن من الفضلِ والمراتِب، والسَّنن الذي اتَّفَقَ عليه الأئمة والعُلَماءُ المتقدَّمون سرحُ هدْي الأُمَّة.

قال الحافظ أبو عمر رحمه الله في كتاب (الصحابة): وقف جماعة من أئمة السلف وأهل السنة في علي وعثمان، فلم يُفَضِّلوا واحداً منهما على صاحبه، منهم مالك بن أنس ويحيى بن سعيد القطان وابن معين. وأهل السُّنة اليوم على تقديم أبي بكر في الفضل على عمر، وتقديم عمر على عثمان، وتقديم عثمان على علي، وعلى هذا جماعة أهل الحديث من زمن أحمد بن حنبل؛ إلاّ خواصّ من جِلَّة الفقهاء، وأئمة العلماء، فإنهم على ما ذكرناه عن مالك ويحيى وابن معين. فهذا ما بين أهل الفقه والحديث في هذه المسألة، وهم أهل السنة. قال: وكان يحيى بن معين يقول: من قال أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وعرف لعلي سابقته وفضله، فهو صاحب سنة. ومن قال أبو بكر وعمر وعلى وعثمان، وعرف لعثمان سابقته وفضله، فهو صاحب سُنَّة. قال يحيى بن معين: خَلَوْتُ بأحمد بن حنبل على باب عثمان بن مسلم فقلت: ما تقول؟ قال: أقول: أبو بكر وعمر وعثمان. وفي الحديث عن محمد بن طلحة عن أبي عبيدة بن الحكم عن الحكم بن جَحْل قال: قال لي علي رضي الله عنه: لا يُفَضِّلُني أحدٌ على

أبي بكر وعمر إلاَّ جَلدْتُه جلد المفتري. وأنكر ابن معين قول منْ قال: كُنَّا نقول على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم نسكت. وتكلم فيه بكلام غليظ، لأن القائل بذلك، قد قال بخلاف ما اجتمع عليه أهل السنة من السلف والخلف من أهل الفقه. والأثر أن علياً أَفْضَلُ الناس بعد عثمان. هذا مما لم يختلفوا فيه، وإنما اختلفوا في تفضيل علي وعثمان. وقول أبي الربيع: (وللزبير حواري النبي) البيت، هو أبو عبد الله الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد ابن عبد العزيز بن قصي، وفي قصي يجتمع مع رسول الله صلى الله عليه، وهو حواريه، وابن عمته صفية بنت عبد المطلب. وقال عليه السلام: "الزُّبير ابن عمتي وَحوَاري من أمتى". وقال عليه السلام: "لكل نبي حواريّ وحواري الزبير" وسمع ابن عمر رجلاً يقول: أنا ابن الحواري فقال: (إن كُنْتَ ابن الزبير وإلاَّ فلا). قال محمد بن السائب: الحواري الخليل، وأنشد قول جرير: أَفَبعْدَ مَقْتَلِهمْ خليلَ محمَّدٍ ... تَرجُو العُيُونُ مع الرسول سبيلا رقال غيره، الحواريُّ: النَّاصر، وأنشد: ولكنه ألقى زمام قَلُوصِه ... فيحيا كَرِيماً أو يَمُوتَ حواريا

وقال غيره: الحواريُّ: الصَّاحبُ المستَخلص. وقيل غير ذلك. وأصلُ الحَوَرِ في اللغة: شِدَّةُ البياض. وقوله: (وَمِلْ إلى الخَالِ سَعدٍ) يعني سعد بن أبي وقاص، واسم أبي وقاص مالك بن وهب. وقيل: وهب بن عبد مناف الزهري القرشي. جاء في الحديث عن جابر بن عبد الله قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء سعد فقال: أنت خالي، وكان سعد مجاب الدِّعْوة مشهوراً بذلك، لأن النبي عيه السلام دعا له وقال: "اللهم سَدِّدْ سَهْمهُ وأجبْ دَعْوَتَه" وهو أول من رمى بسهم في سبيل الله، وذلك في سرية عبيدة بن الحارث. وفي ذلك يقول سعد: ألا هَلْ جاءَ رسول الله أني ... حَمَيْتُ صحابتي بصدور نَبْلِي أذودُ بها عَدُوَّهمُ ذياداً ... بكلّ حَزُونةٍ وبِكُلِّ سَهْلِ فما يعتد رامٍ من مَعَدٍّ ... بسهمٍ مَعْ رَسُولِ الله قبلي ولما قُتِل عن راية المشركين من بني عبد الدار يوم أحد من قتل، أخذ اللواء غلام لهم أسود، وكان اللواء قد انتكس فنصبه العبد وبربر يسُبُّ. رماه سعد بسهمٍ ُأصاب ثغرته، فسقط العبد صريعاً، فأقبل أبو سفيان، وقال: منْ رَدَاهُ منْ رَدَاهُ؟ أي، منْ رماهُ، ومن أصابَه.

يقال: رَدَيْتَ الرجل، إذا رميته. وأكثر ما يستعمل رَدَيْتَ في رمي الحجارة. وسعد والزبير جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أبويه، فقال لكل واحد منهما: "ارم فِداكَ أبي وأمي" وكان سعد بن أبي وقاص من القُرَّاء وكان يكنى أبا إسحاق. وقوله: (ذاك الأمين ابن عوف) يعني عبد الرحمن بن عوف. روى عن رسول الله صلى اله عليه وسلم أنه قال: "عبد الرحمن بن عوف أمينٌ في السماء أمين في الأرض". وقال فيه عبد الرحمن: سيد من سادات المسلمين. وفي الحديث فيما روى ميمون بن مهران عن ابن عمر أن عبد الرحمن ين عوف قال لأصحاب الشورى، هل لكُم أن أخْتار لَكم، وأُشْفَى منها؟ فقال علي رضي الله عنه: أنا أولُ منْ رضي، فإني سَمِعْتُ رسول الله صلى الله عيه وسلم يقول: "أنت أمينٌ في أهل السَّماء، أمينٌ في أهلِ الأرض". ومناقبهم رضوان الله عليهم أشهر من أن تذكر، وأكثر من أن تُحْصى وتُحْصَرُ، وهمُ الأولياءُ الذين طلقوا الدنيا ثلاثاً، وتركوا أسباب زخارفها رِثَاثاً. آياتُ فضلِهم ظاهِرة، وأَقْمار شَرَفِهم وسؤدَدِهم نَيِّرَةٌ باهِرةَ، ومراتِبُهمْ عالية، وأماكِنُهم هائلة، ورحمَةُ الله عليهم مُتَواتِرةٌ مُتوالية، رضي الله عنهم أجْمعين. وقال الوزير الأجل أبو عمرو بن غياث شيخنا في رثاء ابن لأحد أعيان بلدنا: هذي المَطالِعُ أيْنَ بَدْري السَّارِي ... أَتُرى اعْتَراهُ مَدارُه بِسِرارِ أومَلَّ مطلعهُ فَمَال إلى الثَّرى ... يَسْري على فُلْكٍ به دَوَّارِ

هَيْهَاتَ أعْجَلَه الأُفُولُ بأفْقه ... إنَّ الأُفولَ لآفةُ الأَقْمار يا كَوْكَباً ما كانَ أَقْصَرَ عُمْره ... وكذاكَ عُمْرُ كواكِبِ الأسْحَار لَهْفي عليْكَ وقلَّ لَهْفي أن أرى ... حَيَّاً وما غيْرُ البُكاءِ شِعارِ ياموتَ كِبْدي قد أَخَذْتُ ولم تدَع ... إلاّ أنينَ الحُزْنِ تحتَ دثار أقْسمتُ لوْ أنِّي بمُقلةٍ نائم ... ما إنْ أحسَّتْ غيرَ دَمْعي الجاري بكَ كُنْتُ أُبْصِرُ يا بُنَيّ وها أنا ... أعْمى وإنيِ منْ ذوي الأبْصارِ بكَ كنتُ أسْطو أوْ أصولُ على العِدَى ... في جُنْح ليْلٍ أوْ ضياء نَهارِ بكَ كنُت مُنْتَصِراً فما أَسْلمْتَني ... للنَّائبات ولا أضَعْتَ ذماري لهْفي عَلَيْكَ وتمَّ لَهْفي دائماً ... ضَعُفَتْ قوَايَ وَبُدِّدَتْ أنصاري سلَبَتْكَ عَنِّي النَّائباتُ بسُرْعَةٍ ... سلبَ النَّواظر منْ حِمَى الأشْفار كُنْتَ المُهَنَّدَ حيْثُ شمَتُك لمْ تزَلْ ... في نُصْرتي أمْضى من الأقْدار والسّيفُ مهْما شيمَ رُدَّ لِغِمْدِهِ ... معنى الغَمُودِ صيانَهُ الأشْفارِ إنْ تَعْذِلُوني لَسْتُ أوَّلَ والِهٍ ... أوْ تَعْذِرُوني قدْ بَدَتْ أَعْذاري إنْ كُنْتُ معْتَرِفاً فمِنْ حُكْمِ الأسى ... أوْ كُنْتُ أُنْكِرُ لمْ يُفِدْ إنْكاري لوْ كانَ دَمْعي قدَّرَ بَعْضِ تَفَجُّعِي ... أَغْنى الورى عنْ وابِلِ الأمطارِ ياأيُّها المُغْتَرُّ منْ أَيَّامِهِ ... دَارِ انْقِلابَ صُرُوفِها بكَ دارِ لاتخْدَعَنْكَ بَوارِقٌ منْ أُفْقِها ... وحَذارمنها ما اسْتَطَعْتَ حَذارِ لا تخْدعَنْكَ من الزمانِ مَسَرَّةٌ ... خُلِقَ الزَّمانُ مَساءَةَ الأحرارِ وإليكِ يا دُنْيا فلسْتُ بِغافِلٍ ... عَمَّا جَرى لبََنيك أوْ هُوَ جارِ أَجَهِلْتِ ما تُطْوى عليهِ بِذي الورى ... أوَ ما درَيْتِ بأنَّني بِكِ دَارِ كَمْ كدْتِ منْ أَهْلِ العُلُومِ وغيرهِمِ ... حتَّى منَ الرُّهْبَانِ والأحْبارِ

وفَتَكْتِ بالأبْطالِ دُونَ أَسِنَّةٍ ... وَقَواضِبٍ فَتكاتِ ليْثٍ ضارِ وإذا قَتَلْتِ بلاَ قتالٍ لمْ يُفِدْ ... كَسْبُ المُهَنَّدِ والقَنا الخَطَّارِ دارُ الفَناء نَعُدُّها لِبَقائنا ... عيْنُ المُحالِ بَقاءُ هذي الدارِ دارُ الرَّحيلِ نعُدُّها لِقَرارِنا ... كَيْفَ القرارُ بغيرِ دارِ قرارِ مَكَّارَةٌ غَرَّارَةٌ غَدَّارَةٌ ... وثَّابَةٌ سلاَّبَة الأعْمارِ أكَّالةٌ أبْنَاءَهَا قَتَّالَةٌ ... من غيرِ خَوْفِ مُطالبِ بالثَّارِ دَرَّاكَةُ الأوْطارِ منْ مَطْلُوبِها ... قدْ أمَِّنَتْ منْ طالِب الأوتارِ إنْ أًَقْبَلَتْ فَلْتَرْتَقِبْ إدْبارَهَا ... لا بُدَّ للإقْبالِ منْ إدْبارِ أوْ أوْردَتْ فلْتَرْتَقِبْ إصْدارَهَا ... لا بُدَّ للإيرادِ منْ إصْدارِ وإذا صَفَتْ حِيناً تَشُوفُ صَفَاءَهَا ... لِلْحَيْن بالأقدارِوالأكْدارِ إسْكَنْدَرٌ طَوَّافُها جَوَّابُها ... فَتَكَتْ بِه وبِجَيْشِهِ الجَرَّارِ جَيْشٌ يَظَلُّ به الفَضاءُ مُعَضِّلاً ... تَرَكَ الإكَامَ كَأنَّهُنَّ صَحَار أيْنَ الفَراعِنة الَّذين تَمَرَّدُوا ... وتَجَبَّروا سَفَهاً على الجَبَّارِ أيْنَ الّذين إلى الرِّياحِ تعرَّضوا ... صاروا لَنا خبَراً منَ الأخْبارِ عَصَفَتْ علَيْهِم للمَنُونِ عَواصٍفٌ ... نَقَلَتهُمُ منها لدَارٍ بَوَار وهذه القصيدة طويلة، ذكربها أسماء أفناهم المَلَوان، وأخْلََق جَديدَهُم الجديدان، وعَفَّتْ آثارَهُم خُطُوبُ الأزْمان، ولا يَبْقى على الخدمان، إلاّ القائم الدَّائم الواحدُ المَنَّان، وكُلُّ شيءٍ بعْدَه فمنقطع وفان. وقوله: يا كوكباً ما كان أقصر عمره

البيت بكماله لأبي الحسن التهامي. وقوله: جيش يظل به الفضاء البيت بكماله للنابغة الذبياني. وقال أيضا: رجاءٌ كانَ فانْقَطَعَ الرَّجاءُ ... وللأشْياء حدٌّ وانْتِهاءُ إذا سَبَقَ القضَاءُ فلا مرَدَّ ... لِمَا فينا به سَبَقَ القَضاءُ يُريدُ المرءُ أنْ يُوتى مُناهُ ... ويأبى الله إلاّ ما يَشاءُ فلا تغْتَرَّ بالدُّنْيا وذَرْها ... فَعُقْباها وعُقْبَانَا فَنَاءُ إذا ما افْتَرَّ عنْ أمَلٍ صَباحٌ ... فرَاقِبْ مَابِهِ يَأْتي المَسَاءُ فيا مغرور إنْ أثرى تنبَّه ... فما تحتَ الثَّرى يعني الثواءُ ويا مغرور بالفاني بعز ... يسومُ الذُّل حيث هُوَ البَقَاءُ سَيَفْنى كلُّ مَخْلُوقٍ سَريعاً ... فلا يَبْقَى الخَلاءُ ولا الملاَءُ ألا يا موْتُ حَسْبُكَ لمْ تدَعْ لي ... بما يقْوى به عنْدي العزاء سَلَبْت الرُّوح عن جِسْمٍ ضعيفٍ ... فأيْنَ الرِّفْقُ أوْ أيْنَ الحَياءُ إذا لمْ تَرْثِ يَوْماً للثَّكَالى ... بَدَتْ منْكَ القَسَاوَةُ والجَفَاءُ أَلاَهَلْ مُبْلِغُ مِنِّي سلاماً ... يَهُبُّ مع الرِّياحِ به رَخَاءُ

إلى القبر الّذي في كُل حينٍ ... يَطوفُ بِهِ المَكَارِمُ والعلاءُ إلى شخْصٍ إذا أَنْصَفْتَ فيه ... فَقُلْ فَضُلَ الرِّجَالَ به النساءُ أسامِعَةً ندايَ إذا أُنَادي ... شقيتُ وخبْتُ إنْ خابَ النِّداءُ دعوتُ وما أرى لكِ منْ جَوابٍ ... أيَنْبو عنْ مَسَامِعِك الدُّعاءُ بَكَتْكِ إذاً عَدِمْت الأُنْسَ حتى ... بكتْ لي الأرْضُ حُزْناً والسّماءُ وكادَتْ شُهْبُهاتَنْقَضُّ ثَكْلى ... لِتَبْكِيني وأَدْمُعُها دِماءُ فكمْ أخْفَيْتُ حُبَّكِ في ضميري ... وأمّا الآنَ قدْ بَرَحَ الخَفاءُ ولوْ يُجْدي البُكاءُ عَلَيكِ شيْئاً ... لكانَ لكُلِّ جارِحَةٍ بُكاءُ ولوْ تُفْدى من الدُّنيا بشَيْءٍ ... لقَلَّ بما حَوَتْهُ لَها الفِداءُ وَلَوْ وقِيتْ بشيءٍ منْ رَدَاها ... لَدامَتْ والنُّفوسُ لَها وقاءُ ومنها: فلَيْتَكِ في مَحَلك منْ فُؤادي ... دُفِنت ولا يَطُولُ بيَ الشَّقاءُ وإلاّ في سَوادِ العينْ منِّي ... فعيني فيكِ أوْ قَلْبي سَواءُ فإنَّكِ قدْ ثَويتهما زماناً ... وليتَ يَدُومُ بيْنَهُما الثَّواءُ ومنها: عَجِبْتُ لهالَةٍ عَجِلَتْ أُفولاً ... وَكَمْ عن ..... فَيا بعضي فقدْتَ الكُلَّ مِنِّي ... وهَلْ للبَعْضِ عنْ كلِّ بَقاءُ سأَدْعو الله في سِرٍّ وجَهْرٍ ... مَحَلكِ حيثُ حَلَّ الأَوْلِياءُ

ونَفْسي سوفَ تُقْضى عنْ قريبٍ ... وليس ِلحُزْنها فيك ِانْقِضاءُ قوله: يريد المرءُ أنْ يوتى مُناه البيت بكماله لأبي الدرداء عويمر بن عامر وقيل ابن قيس الأنصاري رحمه الله، روى من حديث ابن عيينة، ومن حديث إسماعيل بن عباس أيضاً، أنه قيل لأبي الدرداء: مالكَ لا تقول الشعر، وكل لبيب من الأنصار قال الشعر. قال: وأنا قد قُلْتُ شعراً. فقيل: وما هو فقال: يريد المرء أن يُؤتَى مناه ... ويَأْبَي الله إلاّ ما أرادا يقول المرء فائدتي ومالي ... وتَقْوَى الله أَفَضَلُ ما استفادا كذا قال الحافظ أبو عمر بن عبد البر وغيره. وقال الوزير أبو عمرو أيضاً: سَحُّوا دُمُوعَكُمْ وإلاّ كَفْكِفُوا ... فالمجد يبْكي والمَكارمُ تَهْتِفُ والحُزْنُ جَلَّ كَأَنَّما هذا الورى ... يعْقوبُ والمفْقودُ منهُ يوسُفُ رُزْءٌ عَظيمٌ حلَّ حتَّى إنَّه ... لِوُقُوعهِ اهتزَّ المَقامُ الأشْرَفُ ياكَوْكَباَ أوْ يا هِلالاً اطْفَأَتْ ... أنوارهُ ريحٌُ ولكنْ حرْجَفٌ

هَلْ تُكْسَفُ الأقْمارُ غيرُ كوامِلٍ ... أعَلِمْتُمُ أنّ الأهِلَّةَ تُكْسَفُ بَكَتِ السماءُ لفَقْدِهِ ونُجُومها ... والأرضُ قدْ كادَتْ تَميدُ وترْجُفُ ونَعَتْهُ إذْ سَمِعَتْ بهِ أمُّ القُرى ... وبَكى الحطيمُ وزمزم ومُعَرَّفُ والعالمُ الأعْلى يطيبُ بقبْرهِ ... وعليه أفْواجُ المعالي عُكَّفُ عجباً لقبْرٍ حلَّ منه ضريحُهُ ... أنْ ليسَ يَنْبُتُ في ثراه الزخرفُ لو كانَ بالدُّنْيا الذي بي أصبحت ... منها المعالم وهْيَ قاعٌ صَفْصَفُ ياليتهمْ دَفَنوه بين جوانحي ... تسقيه فيها سَحْبُ دمعي الوكَّفُ أوَ ليْسَ أهْلُ الأرضِ طُرّاً أُثكِلوا ... فجُفُونُهُمْ أبداً نجيعاً تذْرِفُ سُكَّانَ أَحْنَاءِ الجوانح ربعُكم ... منكم خلاءٌ والأسى مُسْتَخلف عيناي أفْقَدني الرَّدى إحداهما ... أَوَ ليست الأخرى لدمعي تضعُفُ ويدايَ أفقَدني الردى يُمْناهما ... وليست الأخرى ... تعطف والقصيد طويل، ولفظه لفظ جزيل، ومعناه معنى جليل، والنظير في مساقه نزرٌ قليل. وكلام الوزير الأجلِّ كلّه رفيع، ومنحاه بديع، يحلُّ من القلوب في صميمها، ويزين العيون بهجة بأزاهر آداب حياة النفوس في نسيمها، كثيراً ما يأتي بالمبدعات، ويبرز من خاطره أنواع المعجزات، حتى كان ما أنزل على الملكين أو مرتبط في مُجَاجِ أقلامه. وفي رثاء أحد الأعيان يقول أبو الحسن بن عطية رحمه الله: كذَبَتْ ظُنُونُكَ ما العَزاءُ جَميلا ... أو ما رأيتَ َدمَ العُلا مَطْلُولا

هذا جَوادُ أبي شجاعٍ مُخْبِراً ... أن الجواد انقضَّ منه قتيلا ولَطالما لَبِسَ الدُّروعَ غَلائلاً ... ولطالما جَرَّ الرّماحَ ذُيولا وسَرى إلى الغاراتِ وهْي كتيبة ... مِلْء الفضاء فَوارِساً وخُيُولا واسْتَقبَلَ الزَّمَنَ البَهِيم فَلمْ تزلْ ... أيَّامُهُ غُرَراً به وحُجُولا حتى اسْتَفاضَ عليه بَحْرُ حِمامِه ... يَرْبَدُّ فيه أَسِنَّةً ونُصُولا في مأزِقٍ ضنَْك المسالك رَتَّلَتْ ... فيه الظُّبَى سُوَر الرَّدى تَرتيلا حَامَ الكُماةُ فكَرّ كَرَّةَ ضيغمٍ ... لم يرْض إلا السَّمْهريَّة غِيلاَ لَبِسَ الشهادَةَ حُلَّةً حمراء منْ ... عَلَقٍ تَعُمُّ السَّامِريّ فُضولا يا شَدَّ ما اتَّخَذَ المنية خِلَّةً ... منْ بعْدِ ما اتَّخَذَ الحُسامَ خَليلا وأجالَ عادِيةَ الجيادِ مُحَارباً ... وأذالَ أعْناقَ التِّلادِمُنيلا يا رَاحِلاً رَكِبَ الحِمَامَ مَطِيَّةً ... هَلْ تَرْتَجي بعْدَ الرَّحيلِ ٍقفولا غَادَرْتَ مَعْمُورَ المَكارِمِ بَلْقعاً ... وتَرَكتَ رَبعَ المَعْلُوّاتِ مَحيلاْ إنْ كُنْتَ وَدَّعْتَ الحَياةَ فإنَّما ... ودَّعْتَ داءً في القلوب دخيلا إنْ كانَ واراكَ الصَّفيحُ فإنَّما ... وارى رَقيقَ الشَّفْرتينِ صقيلا أزْرى بهِ طُولُ الضِّرابِ وغادَرَتْ ... في مضْربيه الحادثاتُ فُلولاَ أمَّا الأنامُ عُيُونُهم وقُلُوبُهم ... فلقد مُلئنَ مَدامِعاً وَغليلاَ عِنْدِي حديثٌ عنْ وجيبِ ضُلُوعهم ... لوْ كنت تُصْغي للحَديثِ قليلا لمْ تبقِ منْ نطفِ المَدامعِ قَطْرةً ... إلاّ وراحَ مَصُونُها مَبْذُولا

مازِلْتَ صَبَّاً بالشهادةِ في الوغى ... حتى وجدْتَ إلى الوصال سبيلا فبكى الحصانُ الأعْوَجِيّ تَحَمْحُماً ... والهُنْدُ وانيّ الجُرازُ صليلا واغرورقت عينُ السَّماءِ ورُبَّما ... رفعتْ كواكِبُها عليكَ عويلا وتَغيَّر الصُّبْحُ المُنيرُ فَخِلْتُهُ ... ممَّا تَسَرْبَلَ بالشَّحوبِ أَصيلا ياحسرةً نفتِ الرقادَ وأَطْلَعتْ ... للشَّيْبِ في رأس الوليد نُصُولا ما كانَ أجْدرَنا لمَصْرَعِ أرْقم ... أنْ تَغتدي بي حيثُ حلَّ حُلُولا أببعده نَبْغي الحياةَ إذنْ فلا ... نَقَعَ م البُكا منَّا عليه غليلا قُلْ للمؤمل كُفَّ عنْ شَأوِ المُنى ... رمت المنُونُ فأصمَتِ المأمولا واهْتِفْ بَمَنْ رَكِبَ السُّرى نَسْراً فَمَا ... تُجْدي السُّرى بعد الوزير فتيلا خَلَعَ ابنُ لَبُّونٍ ثيابَ حَياتِهِ ... فاخْلَعْ وجيفاً بعْده وذميلا يا حامِليه إلى الثَّرى رِفْقاً به ... فالمجدُ أصبح للثَّرى مَحْمولا خُضُّوا به قلبي الشجيَّ لفقدِه ... ولْتَجْعَلُوه من الضريح بَديلا أوْ فاكفليه يا سماءُ فإنه ... مااعْتادَ نجْمٌ في سِواكِ أُفولا كان الشِّهاب المستضيء فلم يَنُبْ ... عنْ نُوره نور السماك دليلا

كان الغمامَ المُسْتَهل فما لنا ... نشْكو وإنْ همت السحاب مُحُولاَ عَظُمَ المُصابُ وقدْ أُصيبَ بَمَعْرِك ... أخذَتْ بهِ منْهُ العُداةُ ذُحولا والرُّزْءُ ليسَ يَحُلُّ أوْ يُلْفِي الذي ... أَصْماه سهمُ الحادِثاتِ جليلا أين الذي ْهُدِمَتْ صَوارِمُه الطَّلى ... وغدا بتشْييدِ العلاءِ كفيلا أيْنَ الذي مَلَكتْ حُلاهُ نَواظِراً ... ومَسامِعاً وقرائحاً وعُقُولا وسَرى فَسَميْنا النجوم حَبّا حَبَا ... وحَباً فَسَمَّيْنا الغمامَ بَخيلا من ذاْ يَسُدُّ مَكانَه في غارَةٍ ... تَرَكَتْ سوابقها الحزُونَ سُهُولا أمْ منْ يُنُوبُ منابَه لحوادث ... تَذَرُ العَزيزَ بحكمهن ذليلا أوَ لَمْ يكن يغشى الحُروبَ منَازِلاً ... فيشبُّها بحُسامه مسْلُولا أَوَ ما غَدا بِجياده فتَبَخترت ... مَرَحاً وَرَجَّعَت الغناءَ صهيلا ما بالُهُ نبَذَ السَّوابح والقنا ... وأقامَ عنْ شُغْلٍ بها مَشْغولا ما بالُه تَرَكَ الجُفونَ سَحائباً ... ما بالُه تركَ الجُسُومَ طُلُولا يا دَهْرُ أما غِلْتَ منه مُثَقَّفاً ... لَدْنَ المِهَزِّ وصارماً مصقولا يا قبرُ كيفَ وسعت منه سحابة ... وَطْفاء ساجية الذُّيولِ هَطُولا قدْ زُرْتُ موضِع قبره فكأنّما ... قابَلْتُ منه روْضَةً وقَبُولا ونشرْتُ حرَّ ثنائهِ فكأَنما ... عاطيْتُ منهُ السامعين شَمولا

ما رَاعَنا موْت الوزير فلمْ يزَلْ ... حَيّاً لِمَنْ يَتَأَوَّلُ التَّنْزيلاَ لكِنْ جَزِعْنا للفراقِ وقدْ نَوى ... عَنَّا إلى دارِ القرارِ رَحيلا الله أنْزلَهُ الجِنَانَ ومَدَّ منْ ... رضْوانه ظِلاًّ عليهِ ظليلاَ وقال أبو الحسن أيضاً: ألا يا واقِفاً بي عنْدَ قَبْري ... سَلِ الأجْداثَ عنْ صرفِ الليالي وعنْ حالي فإنْ عَيَّتْ جَواباً ... فعبْرتُها تُجيبُ أَخا السُؤالِ لئنْ شمِتَ العدُوَّ بِنا فَمَهْلاً ... سَيُنْقَلُ للصفائح كانتقالي وأيُّ شَماتَةٍ في ترْكِ دُنْيا ... لِذي أملٍ رأى عنها ارْتِحال وكنتُ أُقيمُ بين النَّاسِ فيها ... فصرت إلى المُهَيْمن ذي الجلالِ ومعنى هذه القطعة من قول الحُصْرِي في ابنه: لا يَشْمَتَنَّ الأعادي ... فليس بالموتِ عارُ لا الياسمينُ المندَّى ... يبقى ولا الجُلُّنَارُ وقال أبو الحسن أيضاً:

أَإِخْوانُنَا والموتُ قد حالَ بيننا ... وللموت حكم نافذٌ في الخلائٍق سبقتكم للحين والعمر حلبة ... وأعلم أن الكل لا بُدّ لا حِقي بِعيشكم أو با ضطجاعي في الثَّرى ... ألم يكُ في حلوٍ من الودّ رائق فمن مرّ بي فليمض بي مترحّماً ... ولا يك منسيّا وفاء الأصادقِ وقال أبو الحسن أيضاً: بيْني وبينَ الحادِثاتِ خِصامُ ... فيما جَنَته على العُلاَ الأيَّامُ كسَفت هِلالَ سَمائها منْ بَعْدما ... وافاهُ منْ كرمِ الخلال تَمامُ ورَمتْ قضيبَ رِياضها بتَقَصفٍ ... غَضّاً سقاه منَ الشّبابِ غَمامُ فاليَوْمَ بُستانُ المَكارِمِ ما حِلٌ ... واليومَ نُورُ المَعْلُواتِ ظلاَمُ رامتْ صُرُوفُ الحادِثاتِ فأدْرَكَتْ ... منْ كانَ لم يبْعدْ عليه مَرَامُ أوْدَتْ بِمُهْجَتِهِ اللّيالي بعْدَما ... فخَرتْ بهِ الأسْيافُ والأقْلامُ وغدا وراحَ المجْدُ ذا ثقةٍ بهِ ... أنْ يردعَ الأحداثَ وهْيَ جِسامُ وبدَتْ عليه منْ حُلاه شَمائلُ ... لا تَهْتَدي لِنُعُوتِها الأوْهامُ كالرّوْضِ لمّا دَبَجتْه غَمامَةٌ ... والمسْكُ لمّا فُضّ عنهُ خِتام ناحَتْ عليهِ الشهبُ وهي عَوابِسٌ ... وبَكى عليه الغيمُ وهْوُ جَهَامُ وانْجابَ ظِلُّ الأُنْسِ فهوَ مقلَّصٌ ... وامتدَّ ليلُ الخطْبِ فهوَ تَمامُ وارْبَدَّ نورُ الشمس في رَأْد الضُّحى ... حتّى استوى الإشْراق والإظلامُ

ما للمَدامِعِ لا يطَلُّ بها الثرى ... والسَّادَة الكُبراء فيه نِيامُ أكَذا يُبادُ حُلاحلٌ ومُهَذَّب ... أكذا يُقالُ مُسَوَّدٌ وهُمام تعس الزّمانُ فإنما أيّامُهُ ... وَمُقامُنا في ظِلِّها أحْلامُ لَتَرى الدِّيارَ وهُنَّ بعدَ أنيسها ... دُرُس المَعالِمِ والجُسُومُ رِمامن والنسرُ مقْتنصٌ بأشراك الردى ... وبناتُ نَعْشٍ في الدُّجى أيتامُ بأبِي قتيلٌ قَاتِلٌ حُسْنَ العزا ... مُذْ أقصدته من المنُونِ سهامُ غدَرتْ به أمُّ اللُّهَيْمِ وَطالما ... فلَّ الخميسَ المجْرَ وَهْوَ لُهَامُ وأبى له إلاّ الشهادَةَ ربُّه ... ومَضاؤُهُ والبَأْسُ والإقْدامُ يا عيْنُ شَانُكِ والمدامعُ فَاسْجِمي ... ولْتَعْلَمي أنَّ الهُجوع حرامُ إنَّ الذي كان الرجاءُ مُشيَّداً ... بِوفائه غَدَرَتْ به الأيامُ فتكَ الرَّدى بأبي شُجاعٍ فَتكَةً ... زَلَّتْ لها رَضْوى وخرَّ شَمَامُ فُقِدَتْ لها الآدابُ والألْباب ... والأحْسابُ والإسْراجُ والإلْجامُ بَدْرٌ ولَيْثٌ أَقْفَرتْ منْ نُورهِ ... وآبائهِ الهالاتُ والآجامُ نَدَبَتْهُ أبْكارُ الحُرُوبِ وعُونُها ... وبكاهُ حِزْبُ الله والإسلامُ أيُّ السُّيوفِ قَضى عليه وبينَهُ ... قِدْماً وَبَيْنَ ظُبا السُّيوفِ ذمامُ

وبأيّ لحْدٍ أوْ دَعُوه وإنه ... ماقَطُّ أودِعَ في الضّريحِ حُسامُ ما كانَ إلاّ التبْرُ أُخلِصَ سبكُهُ ... فاسْتَرْجَعَتْهُ تُرْبَةٌ ورغامُ يا حامِليه قِفوا عليْنا وقْفَةً ... يَشْفى بها قبلَ الوداعِ هُيامُ رُدُّوا وليَّ الله حتَّى نَشْتفي ... من أروعِ شُفيتْ بِهِ الآلامُ لا تُسْلِمُوهُ إلى الثَّرى فلسيفه ... مُذْ كان مِنْ أعدائه استسلامُ ولتدْفِنُوه في الجَوانِح والحشا ... إنْ كانَ يُقْنِعه بهن مقامُ واسْتَنْشِقُوا لِثَنائهِ عَرْفاً كما ... يَنْحطُّ عنْ نَفْسِ الصَّباحِ لِثامُ أعْززْ عليّ بِزَهْرةٍ مَطْلُولة ... أمْسَتْ ولا غيْرَ الضَّريح كِمَامُ أعزِزْ عليَّ بِضيغم ذي سَطْوةٍ ... أجَمَاتُه بعد الرِّماح رِجَامُ إنْ كانَ أَفْنَتْهُ الحُرُوبُ فشَدَّما ... فنِيَتْ بِمُنْصُله الطلى والهامُ أَوْرَاحَ مَهْجورَ الفِناء فَطالَما ... هَجَرَتْ به أرْواحَها الأجْسامُ أمُضرّجاً بِدِ مائه هي ميتَةٌ ... وقْفٌ عليها السَّيّد القمقامُ البأسُ والإقدامُ أوْ ردكَ الرَّدى ... إنْ كان أنجَى غيرَك الإحجامُ

قدْ كنتَ في ذاكَ المُقامِ مُخَيَّرا ... لكنْ ثبتَّ وزلّتِ الأقدامُ لم تُلف فيه سِوى الفرارأو الرَّدى ... فاخترتَ صِرْفَ الموتِ وَهْوَ زُؤامُ فأَبَتْ لَكَ الذَّمَّ المكارِمُ والعُلا ... والسَّمّهريُّ اللدنُ والصمصامُ اللَّيلُ بعْدَكَ سَرْمدٌ لا ينقضي ... فكأنما ساعاتُه أعوامُ والأُنْسُ غمٌّ والسُّرورُ كآبةٌ ... والنَّومُ سُهْدٌ والحياةُ حمامُ لمن اطَّرَحْتَ المجدَ وَهْوَ كأنه ... طُللٌ تُعَفِّيهِ صَباً وغمامُ ولمنْ تركتَ الصَّافِنات كأنها ... موسُومَةٌ باللؤمِ وَهْيَ كِرَامُ ولقدْ عَهِدْتُكَ كوكباً أبراجُهُ ... جُرْدُ المذاكي والسّماءُ قَتامُ وعَهِدْتُ سيْفَكَ جَدْوَلاً في وَرْدِهِ ... يَوْمَ الكريهَةِ للنُّفوسِ زِمامُ بَكَتِ السَّوابقُ منْ تَسَمَّى أرْقماً ... والحرْبُ سلْمٌ إنّه ضرغامُ زفرتْ لموتِ أبي شجاعِ زفرةً ... لم يَبْقَ سَاعتَها لَهُنَّ حِزامُ عَمَّتْ رَزِيَّتُه القُلوبَ فَكُلُّها ... كَأْسٌ وأنواعُ الهُمومِ مُدامُ كَثُرَ العَوِيلُ عليه يومَ نَعِيِّه ... حتّى كأن العالمينَ حِمَامُ وَحَكَتْ دموعَ الغانياتِ عقُودُها ... لو لم يَكُنْ لِعُقُودِهِن نِظام يا حامِلينَ النَّعْشَ أيْنَ جِيادُه ... يا مُلْبِسيه التُّرْبَ أيْنَ اللامُ أيْنَ السَّماحةُ والفَصاحَةُ والنُّهى ... منهُ وأيْنَ الجُودُ والإكرامُ

أضْحى لعمرُ الله دون جلاله ... سَتْرٌ منَ الأجداث ليس يُرامُ أأبا شجاعٍ إنْ حُجِبْتَ بربوةٍ ... فالزَّهْرُ مَنْبتُه رُبى وأكامُ قُمْ تبصر الخفراتِ حولكَ حُسَّراً ... إنْ كان يُمكنكَ الغداة قيامُ واسمعْ عَويلَ بُكائها فلقد بكتْ ... لِبُكائها الأصْواءُ والأعْلامُ ضَجَّتْ لِمَصْرَعِكَ النَّوادِبُ ضجَّةً ... سَدَّتْ مسَامِعها لها الأيَّامُ أبْشِرْ بِدارِ الخُلْدِ منكَ بِمَوْعِدٍ ... واهنأْ فَفيها غِبْطَةٌ ودَوامُ مرَّ الغمامُ على ثَراكَ محيِياً ... فَعلى الغمامِ تحِيَّةٌ وسلامُ هاهنا كمل الباب بعون الله وتأييده.

الباب الثالث: في حكايات حسان وأخبار ملوك وأعيان

الباب الثالث: في حكايات حسان وأخبار ملوك وأعيان قال أبو اسحاق: وقد جَمَعْتُ في هذا الباب جُمْلةً من حكاياتٍ مُسْتغرِبة، مُشْتَمِلَةٍ على أخْبار مُسْتَعْذَبَة، تَضَمَّنتْ مَحاسِنَ أعْيانٍ وملوك، تَحَلَّتْ أزْمانُهُم منْ فَضائلهم بقلائدَ وسُلوك. عَمَروا أنْدية النَّشوة، وارتشفوا ثُغُورَ الأماني عَذْبَةً حُلْوة، في عزٍّ مُتَّصل الإقبالِ، وسعْدٍ مُبينِ الأسْبابِ والحِبال، وقمَعُوا الطُّغاة والعِدى، وأحْيَوا ماماتَ منَ البذْلِ، والنَّدى، وتشَمَّروا نحو الوَغى، وأَظْهَروا سَنَنَ الهُدى، واسْتَرخصوا الحمْدَ بالثَّمنِ الغالي، ونالوا العُلى والمَعالي. ففي تِلْكَ الشيم والشمائل يَحْسُنُ قوْلُ القائل: يا أيها التالي كتاب محاسن ... هو ذلك القصصُ المُعَلَّى فاقصُصِ وكان للأدب في أيامهم نَفَاقٌ، ولأهله رواء وإشراق، أنا لوهم المبرة والإكرام، وأفاضوا عليهم سوابغ النعم والإنعام، وقلدوهم بعض الأمور، فأقاموا في أوانهم في ثروة برّ وحبور، فنظموا أسلاك القريض من مدائحهم، ونشر مفاخرهم، ودوّنوا حسن سيَرهم وآثارهم. حكى الوزير الكاتب أبو المغيرة بن حزم عن نفسه. قال:

نادمت المنصور بن أبي عامر في منية السرور الجامعة بين روضة وغديرِ، فلمّا تَضمخَ النّهار بزعفران العشيّ، ورفرف غراب الليل الدَّجوجي، وأسبل الليل جنحه، وتقلّد السماك رمحه، وهمّ النسر بالطيران، وعام في بحر الأفق زورق الدَّبَران، أَوْ قَدْنا مصابيح الراحِ واشْتمَلْنا مُلاَء الارْتِياح، وللدَّجْنِ فَوْقَنا رِواقٌ مَضْروب، غنَّتْنا عنْدَ ذلك جاريةٌ منْ جواريه تُسَمَّى أنس القلوب: قدمَ الليْلُ عند سيرِ النَّهار ... وبدَ البدْرُ مِثْلَ نصف سِوارِ فكَأن النَّهار صفْحةُ خَدٍّ ... وكأنَّ الظلام خَطُّ عذارِ وكَأنَّ الكؤوس جامدُ ماءٍ ... وكأنّ المُدامَ ذائبُ نارِ نظري قد جنى عليّ ذنوباً ... كيف مما جنته عيني اعتذاري يَالَقَوْمِي تعجّبوا منْ غزالٍ ... جائر في محبتي وهو جاري ليت لو كان لي إليه سبيلٌ ... فأقضيَ من حبِّه أوْ طاري قال: فَلَمّا أكْملت الغناء، أحْسسْت بالمعنى فقلت: كيف كيف الوصول للأقمار ... بين سُمر القنا وبيض الشفارِ لو علمنا بأنّ حبك حقٌّ ... لطلبنا الحياة منك بثارِ وإذا ما الكرام همّوا بشىءٍ ... خاطَروا بالنُّفوسِ في الأخْطار قال: فعند ذلك بادر المنصور إلى حُسامه، وغلّظَ في كلامه، وقال لها، قولي واصدقي إلى منْ تُشيرين بهذا الحنين والتشوق. فقالت الجارية: إنْ كان الكذبُ أنْجى فالصدقُ أولى وأحرى. والله ما كانت إلاّ نظرةٌ ولَدتْ في القلب فكرة فتكلم الحُبُّ على لساني، وبرَّح الوَجْدُ بكتماني، والعَفْوُ مضمونٌ

عنكَ عند المقدرة، والصَّفح معلومٌ منك عند المعذرة، ثم بكت، فكأنَّ دمعها دُرٌّ تناثر منْ عِقْدٍ، أوطلٌّ تساقط منْ وردٍ، وأنْشدَتْ: أذنبتُ ذنْبا عظيما ... فكيف منه اعتذاري والله قدّر هذا ... ولم يكن باختياري والعفو أحسن شيءٍ ... يكونُ عند اقتِدارِ قال: فعند ذلك صرف المنصور وجه الغضب إليَّ، وسلَّ سيفَ السَُّخْط عليَّ. فقلتُ: أيَّدَكَ الله، إنَّما كانت هَفْوَةٌ جَرّها القَدرُ، وصَفْوةٌ ولَّدها النَّظر، وليسَ للمرءِ إلاّ ما قُدِّرَ لَهُ لا ما اخْتارَهُ وأمَّلهُ. فأطْرَقَ المنصورُ قليلا، ثمَّ عَفا وصَفَحَ، وتجاوزَ عَنّا وسَمح، وخَلّى سبيلي، فَسَكنَ وجيبُ قَلْبي وغليلي، ووهَبَ الجارية لي، فَبِتْنا بأنْعَمِ ليْلةٍ وسَحَبْنا فيها للصَّبا ذَيْله، فلَمَّا شَمَّرَ الليْلُ غدائرهُ، وسلَّ الفجْرُ بَواتِره، وتجاوبت الأطْيارُ بضروب الألحان، في أعالي الأغصان، انصرفت بالجارية إلى منزلي، وتكامل سُرُوري وجَذَلي. قول الجارية: وبدا البدْرُ مثْلَ نصفِ سِوار من قول الأمير تميم بن المعز: وانْجَلى الغيْمُ عن هِلالٍ تَبَدَّى ... في يدِ الأُفْقِ مثل َنصفِ سِوارِ وقول أبي المغيرة: وإذا ما الكرام همّوا بشيء البيت.

أخذه ابن الزقاق فقال: وأحمدُ النَّاسِ في الصَّبابةِ مَنْ ... جُلُّ أمانيه في غَوَائِلِهِ وأول هذه الأبيات: أقبَل يختال في غَلائلِهْ ... ويشْتكي الظُّلْمَ منْ خَلاخِلِهْ مُهَفْهَفُ الخصرِ غيرُ مُفْعمه ... مُطَوَّقُ الجيدِ غيرُ عاطِله يحملُ زهر النجومِ وَهْوَ رَشاً ... مَنابِتُ الزَّهْرِ منْ خَمائلِه تتَبَعُهُ الريحُ حيثُ سارَ وقَدْ ... هامَتْ بِرَيّاهُ أوْ شَمائله فتَلْثِمُ التُّرْبَ منْ مَواطِئِهِ ... أوْ أثر المِسْك منْ ذَلاذِلِه بتُّ به ليتني قَتِيلُ هوىً ... لا يتمنى بغيرِ قاتِلِهِ (وأحمد الناس) البيت. وقول الجارية في القطعة الثانية: (والعفو أحسن شيء)، معناه واضح. ومنه قول أبي يحيى بن صمادح: مالي وللبَدْرِ لم يَسْمَح برُؤيتِه ... لعَلَّه تَركَ الإجْمال أوْ هَجَرا إنْ كانَ ذلكَ لِذنب ما شَعرْتُ به ... فَأكْرَمُ النَّاسِ منْ يَعْفُو إذا قَدَرا وفي العفو قالت الحكماء: (أولى الناس بالعفوِ أقدَرُهم عليه).

وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: (ما قُرنَ شيءٌ إلى شيء أفْضل منْ حِلْمٍ إلي عقْل، ومنْ عفوٍ إلى قُدْرَة). وقال رجل مُذْنب للمنصور، وقد سَخِط عليه: ذَنْبي أعظمُ من نِقْمتِك عليَّ، وعَفْوكَ أعْظمُ منْ ذَنْبي، فَرَضي عنهُ. وقال له رجل آخر، قد استوجَبَ العقاب، وهو قد مثُلَ بين يديه: الإنتقامٍ عدْلٌ، والتَّجاوُزُ فَضْلٌ، ونحنَ نُعيذ أمير المومنين بالله، أنْ يرضى لنفسه بأوْكَسِ النَّصِيبَيْن، دُون أنْ يَبلُغَ أرْفَع الدَّرَجَتَين. وقال له آخر في المعنى: إنْ عاقبتَ جَزيتَ، وإن عفوتَ أحسنْتَ. والعَفوُ أقربُ للتقوى. ونظم الشاعر هذا المعنى فقال: فإن كنت ترجو في العقوبة راحةً ... فلا تَزْهَدَنْ عند المعافاة في الأجر وقال الآخر أيضا في المعنى: إن كان جُرْمي قدْ أحاطَ بِحُرْمتي ... فأحِطْ بِجُرْمي عفوكَ المأمولا ومن أناشيد أبي عبد الله محمد بن الحسين النيسابوري في كتاب (أدب الصُّحْبة).

قال: أنشدني ابن أبي زائدة عن أبيه المنصور: أذنَبتُ ذنْبا عظيماً ... وأنتَ أعْظَمُ منهُ فجُدْ بِحِلْمِكَ أوْلا ... فاصفح بعَفْوكَ عنْه إنْ لم أكن في فعالي ... منَ الكرامِ فَكُنْهُ وأنشد فيه أيضا: هَبْني أَسَأتُ كما تَقُو ... لُ فأيْنَ عاقِبَةُ الأخوَّهْ إذا أسأتُ كما أسأ ... تَ فأيْنَ فَضلُكَ والمروَّّهْ وأنشد فيه أيضا: قيل لي قدْ أسا إليكَ فُلانٌ ... وَمُقامُ الفَتى على الذُّلِّ عارُ قلْتُ قدْ جاءنا وأحدث عُذْراً ... ديَّةُ الذَّنْبِ عندنا الإِعْتِذَارُ وأنشد فيه أيضا: اِقبلْ معاذِير منْ يَأتيكَ مُعْتَذِرا ... إنْ بَرَّ عندكَ فيما قال أوْ فَجَرا

لقد أطاعكَ منْ أرْضاكَ ظاهِرُه ... وقدْ أجَلَّكَ منْ يَعْصيكَ مُسْتَتِرا ولمَّا أسر معاوية جميل بن كعب ومثل بين يديه قال: الحمد لله الذي أمكنني منك. ألست القائل يوم الجمل: أصْبحَتِ الأمّة في أمر عَجَبْ ... والمُلْكُ مَجْمُوعٌ غَداً لمن غلبْ فقلتُ قولا صادِقا غير كذبْ ... إنَّ غدا تهلك أعلام العَرَبْ قال: لا تَقُلْ ذلك فإنَّها مُصيبة. قال له معاوية: وأيُّ نِعْمةٍ أكبرُمنْ أنْ يكونَ الله قد أمْكنَني منْ رَجُل، وأظْفَرَني بِرَجُل قتل في ساعةٍ واحدةِ عدّةً منْ حُماةِ أصْحابي. آضربوا عنُقَهُ. فقال: اللهُمَّ اشهد أنَّ معاوية لم يَقتلني فيك ولا لأنَّكَ ترْضى قَتْلي على حُطامِ الدنيا؛ فإنْ فَعَلَ فافعل به ما هُوَ أهله؛ وإن لمْ يفعل، فافعَلْ بهِ ما أنتَ أهْلُه. فقال معاوية: قاتلك الله لقد سببْتَ فأبْلَغْتَ في السَّبِّ، ودَعَوتَ فبالَغْتَ في الدُّعاء. ثم أمر به فأطلق. وتمثل معاوية بأبيات للنعمان بن المنذر ولم يقل النعمان غيرها فيما ذكر ابن الكلبي وهي: تعْفو الملوكُ عنِ الجَلي ... لِ من الذُّنوب لِفَضْلها

ولقدْ تُعاقِبُ في اليسي ... ر وليس ذاكَ لِجَهْلِها الا ليعرف فضلها ... وَيُخَافَ شِدّةَ نَكْلِها وما أحسن قَوْلَ يحيى بن المبارك العدوي القارئ المعروف باليزيدي في هذا المعنى يعتذر للمأمون: أنا المذنب الخَطَّاءُ والعفوُ واسعٌ ... ولو لمْ يكن ذنبٌ لما عُرِفَ العفوُ سَكرْتُ فأبْدَتْ مِنِّي الكأسُ بعض ما ... كرهت وما إنْ يسْتَوي السُّكرُ وَالصَّحوُ تنَصَّلْتُ منْ ذَنْبي تَنُصُلَ ضارِعٍ ... إلى من لديه يُغْفَر العمْدُ والسَّهوُ فإنْ تعفُ عنِّي كان خَطْوِيَ واسعا ... وإنْ لم يكن عفْوٌ فقد قَصُرَ الخَطْوُ ولما أدخل إبراهيم المهدي على المأمون وهو في زيِّ امرأة ومعه، امرأتان، قال له المأمون: هيه يا إبراهيم. فقال: يا أمير المومنين، وليُّ الثأر محَكم في القصاص، والعفو أقرب للتقوى، ومنْ ناوَلهُ الزمانُ فاستولى عليه الاغترار بما مدّ له في أسباب الشقاء، أمكنَ عاديةَ الدَّهر من نفسه، وقد جعلك الله فوق كلِّ ذي ذنب، كما جعل كلَّ ذي ذنبٍ دونك، فإنْ تُعاقِبْ فبِحَقِّك، وإنْ تعفُ فبفضلكَ. قال المأمون: بل العفوُ يا إبراهيم فكبَّرَ ثُمَّ خَرَّ ساجِدا. فأمر المأمون بِالمقَنَّعَة فصيرتَ على صدره ليَرى النَّاس الحالَ التي أُخِذَ عليها. ثم قال إبراهيم بعد ذلك قصيدة يشكر فيها للمأمون صنعه به. يقول فيها:

إنَّ الذي قسمَ المكارم كلها ... منْ صُلْب آدم للإمام الشافعِ جمعَ القُلُوب عليكَ جامع أهلها ... وحوى وِدادَك كلّ خير جامع فبَذلت أعظم ما يقوم بحمله ... وَسْعَ النفوس من الفِعَالِ البارع وعفوتَ عمَّنْ لم يكنْ عنْ مثلِه ... عفوٌ ولمْ يَشْفعْ إليكَ بِشافِعِ قول المأمون: (هيه يا إبراهيم) هي كلمة يُسْتفهم بها من أراد أنْ يشار عليه برأي، أو أمر، وهي مبنية على السكون. وقد تكلم بها عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وقال يعقوب: تقول للرجل، إذا استزدته من عمل أو حديث: إيهِ. فإن وصلت قلت: إيهٍ حدِّثْنا. يعني: إيهٍ بالتَّنوين. وقال ذو الرمة: وقفنا فَقُلنا إيه عن أُمِّ سالِمٍ ... وما بالُ تكْليمِ الدِّيارِ البَلاقِعِ فجاء بغيرِ تنْوين في الأصل لأنه نوى الوقف. وإذا أسكتَّه أو كفَفْته أو أغريته بالشيء قلت: إيهاً يا فلان، فإذا تعجَّبت من حسن الشيء أو من طيبه: واهاً له ما أطيبه. قال أبو النجم: واهاً لِرَيَّا ثمَّ واهاً واهاً

ثم قال أبو النجم: واها لِسَلْمَى ثم واها وَاها ... هيَ المنى لو أننا قلناها يا ليت عيناها لَنا وفاها ... بِثَمَنٍ رَضِي به أباها وكُلُّها على لفظ واحد، في الواحد والاثنين والحمع والتأنيث. قاله أبو حاتم وغيره. وقول إبراهيم (أمكن عادية الدهر من نفسه). عاديةُ الدَّهر: شَيء يُقال له: كُفَّ عَنَّا يا فُلان عَاديتك، وهُو ما عَداكَ منَ المَكْروه. قال أبو تمام: مالي بِعاديةِ الأيامِ منْ قبَلِ ... لم يَثْن قَيْدُ النوى كَيْدي ولا حِيَلِي والعادية شُغْلٌ من أَشْغالِ الدَّهْرِ يَعْدُوكَ منْ أمرٍ؛ أي يَشْغَلك. قال علقمة: تُكَلِّفُني لَيْلَى وقدْ شَطَّ وَلْيُها ... وَعادَتْ عَوادٍ بيْننا وخُطُوبُ أرادَ فاعلت، فحذف الألف لا لتقاء الساكنين، فلذاك قال عوادٍ. ولولا ذلك لقال عَوائد. وقال زهير: فصرِّم حَبلَها إذ صَرَّمَتْهُ ... وعادكَ أن تُلاَقِيَهَا عَدَاءُ أي شغل. ويروى: (وعادى أن تلاقيها).

ودخل إبراهيم بن المهدي يوماً علي المأمون بعدَ مُدَّةٍ منَ الظَّفَربه، وللْعَفْو عنه، فقال له المأمون: إنَّ هذين قدْ حمَلاني علي قَتْلك. وأشارَ إلى المُعْتَصِمِ وإلي العباس بن المأمون. فقال: ياأمير المُومنين ما أشارَا عليك إلاّ بما يُشارُ به على قَتْلك ولكن تدع ما تخافُ بما ترجو. وأنشد: ردَدتَ مالِيِ ولم تَبْخلْ عليَّ بهِ ... وقَبْل ردِّكَ مالي قد حَقَنْتَ دَمي فَبُؤْتُ منكَ وما كافَيْتُها بِيَدٍ ... هُما حَياتانِ من موْتٍ ومنْ عَدمِ البِرُّ بِي مِنْكَ وَطَّا العذر عندك ... لي فيما أتيت فلم تُعْذَرْ، ولم تُلَم وقام عِلْمُكَ بي فاحتجّ عندك لي ... مَقام شاهدِ عدْلٍ غير مُتَّهم وقرأت هذه الأبيات في (النوادر) على خلاف هذه الحكاية، وهي: رَدَدْت مالي ولم تَبْخل عليَّ به ... وقبل ردِّك مالي قد حَقنْتَ دمي فأبْتُ منك وما كافأتها بيدٍ ... هُما الحياتان من وفر ومن عَدَمِ وقام عِلْمُك بي فاحْتجَّ عندكَ لي ... مَقامَ شاهدِ عدلٍ غير مُتَّهمِ

فلو بَذَلْتُ دمي أبْغي رضاكَ به ... والمال حتى أسلّ النعل من قَدَمِي ما كان ذاك سوى عارية رجعت ... اليك لوْ لم تَهَبْها كنتَ لم تُلَمِ ومما اعتذر به أبو الوليد بن زيدون إلى ابن جهور فصل يقول فيه. يامَوْلايَ الذي وِدَادِي لهُ، واعْتِدادي به، واعْتِمادي عليه، أبْقاكَ الله ماضي حد الغرار، وَارِي زَنْدِ الأمل، ثابث عهد النعمة، إنْ سَلَبْتني - أعزك الله - لِباس إنْعامك، وعَطَّلْتني منْ حَلْي إيناسك، وغَضَضْتَ مِنِّي طرْفَ حمَايَتِك، بعدَ أن نظر الأعمي إلي تأميلي لك، وسمِعَ الأصَمّ ثنائي عليك، وأحسَّ الجَمَادِي بإسْنادي إليك. فلا غرْو، فقد يَغَصُّ بالماء شَارِبُه، ويقتُلُ الدَّواءُ المشْتَفى به، (ويُؤْتى الحذرُ منْ مأْمَنه)، وإنِّي لأتَجَلَّدُ فأَقُول: هلْ أنا إلاّ يَدٌ ادْماها سوارُها، وجَبينٌ عَضَّهُ إكليله، ومَشْرَفِيٌّ ألْصَقَهُ بالأرْضِ صاقِلُه، وسَمْهريٌّ عرِضَهُ على النَّارِ مُثْنِيه. (والغيثُ مَحْمُودٌ عواقِبُه)، والنَّبْوَةُ

غمْرَةٌ ثمَّ تنْجَلي، والنَّكْبَةُ: (سَحابَةُ صيفٍ عنْ قريب َتقَشَّعُ) وسيدي إنْ أَبْطَأَ مَعْذورٌ: وإنْ يَكُنِ الفِعْلُ الذي شاءَ واحِداً ... فأَفْعالُهُ التي تَرُوقُ أُلُوفُ فيا ليتَ شِعْري ما الذَّنْبُ الذي أذْنَبْت، ولم يَسَعْهُ عفوك، ولسْتُ أخْلُو منْ أنْ أكونَ بريئا. فأيْنَ العَدْلُ؟ أوْ مُسيئا فأيْنَ الفَضلُ؟ لوْ أنَّني أُمِرْتُ بالسُّجودِ لآدَم فأبَيْتُ، وعَكَفْتُ على العِجْلِ، واعْتَدَيْتُ في السَّبْت، وتَعاطيّتُ فَعَقَرْتُ، وشربتُ منَ النهرِ الذي ابْتلى به جُنودُ طالُوت، وقُدْتُ الفيل لأبرهة، وعاهدتُ قُريشاً على ما في الصَّحيفَة، وتَأَوَّلْتُ في بيعَةِ العَقَبة، ونَفَرْتُ إلى العِيرِ بِبَدْر، وانْعَزَلْتُ لِثُلُث الناسِ يومَ أُحُد، وتَخَلَّفْتُ عنْ صلاةِ العصرِ في بني قريظَة

وأَنِفْتُ منْ إمارةِ أسامة، وزعَمْتُ أنَّ خِلافَةَ الِّدين فَلْتَة ورَويْتُ رُمْحي منْ كَتيبَةِ خالد) وضَحَّيْتُ بالأشْمَطِ الذي عُنْوانُ السَّجود به، لكانَ فيما جَرى عليَّ ما يَسُومُني نَكَالا، ويَدَعُني ولوْ على المجازِ عقالا: وَحَسبُك منْ حادثٍ بامْرئٍ ... يَرى حاسِديهِ لهُ راحِيمنا فكيفَ ولا ذَنْبَ لي إلاّ نَميمَةٌ أهْداها كاشِحٌ، ونَبَأٌ جاءَ به فاسِقٌ. ووالله ما غَشَشْتُكَ بعْدَ النَّصيحة، ولا انْحرفت عنْكَ بعْدَ الصَّاغية. ففيمَ عبَثَ الجفاءُ بأَذِمَّتي؟ وعاثَ في مَوَدَّتي؟ وإنَّي غَلَبَني المُغَلَّب، وفَخَرَ عليَّ الضعيف (ولَطَمني غيْرُ ذاتِ السِّوار) ومالكَ لا تَمْنَعُني قبلَ أنْ أُفْتَرَس، وتُدْرِكُني ولمَّا أُمزَّق. وقدْ زانني اسْمُ خِدْمتِك، وأَبْلَيْتُ الجميلَ في سماطِك، وقُمْتُ المَقامَ المَحْمود على بِساطِك:

أَلَسْتُ المُوالي فيكَ نَظم قصائدٍ ... هيَ الأنْجُمُ اقْتادَتْ معَ اللَّيْلِ أنْجمَا والفضْلُ كثير، وقَدْ جِئْتُ منهُ باليَسير. والعَفْوُ عن المُذْنِبِ: ترْكُ عُقُوبَتِه. وأصْلُ العفو في اللغة هو ما سَهُلَ وزادَ. وفي كتاب الله تعالى (فمن عُفِيَ له من أخيه شيء) أي يَسَّرَ. وفيه (ويَسْأَلونك ماذا يُنْفِقون قُل العفْو) أي ما فَضُلَ وزادَ. قال أبو اسحاق: وذَكرتُ بحكاية أبي المغيرة، حكايةً قَرَأْتُها في النَّوادر لأبي علي البغدادي، حذتْ في المطرف حَذْوَها، وزهت بالإغْراب زهوها. حَدَّثَ أبو علي بسند عن منصور البرمكي قال: كان لهارون الرشيد جاريةٌ غُلامية، يعني وصيفَةً في قدِّ الغُلام، وكانَ المأمون يَميلُ إليْها، وهو إذ ذاك أمْرد، فَوَقَفَتْ يوما تَصُبُّ على يَدِ الرَّشيد منْ إبريقٍ معها، والمامون جالسٌ خلفَ الرشيد، فأشار إليها يُقَبِّلها، فأنْكَرتْ ذلكَ بِعَيْنِها، وأَبْطَأتْ في الصَّبِّ، على قدْرِ نظَرِها إلى المأمون واشارتها إليه. فقال الرَّشيد: ماهذا. ضعي الإبْريق من يدك. ففعلتْ. فقال: والله لَئِنْ لمْ تُصدقيني لأقْتلنك. فقالت: ياسيِّدي أشار

إِلَيَّ عبد الله كأنّه يُقبلني فأنكرتُ ذلك، فالتفَتَ إلى المأمون فنظر إليه كأنه مَيْتٌ لما دَخَله من الجزع والخجل، فرحِمهُ وضمَّه إليه وقال: يا عبد الله أتُحِبُّها؟ قال: نعَمْ يا أمير المومنين. قال: هي لكَ قُمْ، فادْخُلْ بها في تلك القُبَّة. ففعل، ثم قال له: هل قلت في هذا الأمر شيْئا. قال: نعم يا سيدي، ثم أنشده: ظَبْيٌ كتبتُ بِطرْفي ... من الضَّمير إليه قَبَّلْتُه منْ بَعيدٍ ... فاعتلَّ من شفتيه ورَدَّ أَخْبَثَ ردٍّ ... حتَّى قَدَرْتُ عليه وفي هذا المعنى يقول أحد البلغاء: (اللَّحْظُ يُعْربُ عن اللفْظ) وقال الآخر: (رُبَّ كِنايَةٍ تُغْني عنْ إيضاح) (ورُبَّ لحظٍ يدُلّ على ضمير). ونظمه الشاعر، فقال: جَعَلْنا علاماتِ المَوَدَّة بيننا ... دَقائقَ لحْظٍ هُنَّ أَخْفَى من السِّحْرِ فأعْرِفُ منها الوَصل في لين لَحْظِها ... وَأَعْرِفُ منها الهَجْرَ بالنَّظَرِ الشَّزْرِ ومثل هذا قول بعض الحكماء: (والعينُ بابُ القلبِ). فما كان في القلْبِ ظَهَرَ في العين. وقال الشاعر:

العينُ تُبْدي الذي في نَفْسِ صاحبها ... منَ المحبَّةِأوْ بُغض إذا كانا والعينُ تَنطقُ والأفْواهُ صامتةٌ ... حتَّى ترى منْ ضميرِ القلْب تِبْيانا وقال محمود الوراق: وإذا تلاحظت العيونُ وأومأتْ ... وتحدثت عَمَّا تجِنُّ قُلُوبُها يَنْطِقْنَ والأفواه صامتَةٌ فما ... يخفى عليك بَريئها أوْ مُريبُها وقرأت في (النوادر) لأبي علي قول إبراهيم بن المهدي في المعنى: إذا كَلَّمتني بالعُيُون الفواتر ... ردَدْتُ عليها بالدُّموعِ البَوادرِ فلَمْ يعلم الواشون ما دار بيْننا ... وقد قُضيَتْ حَاجَاتُنا بالضمائر ومثل هذا قول الأمير تميم: سُبْحانَ مَنْ خَلَقَ الخُدو ... دَ شَقَائقا تَتَبَسَّمُ وأعارها الألحاظ فَه ... يَ بِلَحْظِها تتَكَلَّم ومثله قول الآخر أيضا:

أشارتْ بِلَحْظ العينِ خِيفَةَ أهْلِها ... إشارةَ مَذْعُورٍ ولم تتكَلّمِ فَأيْقَنْتُ أنَّ اللَّحظَ قد قال مرْحبا ... وأهلا وسهلا بالحبيب المتيَّمِ ومثله قول الآخر أيضا: أشارَتْ بعيْنها إشارة خائفٍ ... إلَيَّ حَذَارَِ الكاشحين فسلَّمتْ فردَّ عليها الطَّرْفُ منِّي سلامها ... وأوْمَأ اليها بالهوى فتَبَسَّمت وأنشَدني بعض الأدباء في المعنى: إذا نحنُ خِفْنا الكاشحينَ ولَمْ نُطِقْ ... كَلاماً تَكَلَّمْنا بأعْيُننا سِرّا فنقضي ولمْ يَعْلَمْ بِنا كل حاجة ... ولم نَكْشِف البَلْوى ولم نَهْتِكِ السَّتْرا وقال أبو نواس الحسن بن هانئ في المعنى: وحَثْحَثَتْ كأسها مُقَرطَقَة ... لوْ مُنِيَ الحُسْنُ ما تَعَدَّاها تَجْمَع عيني وَعَيْنَهَا لُغَةٌ ... مُخالفٌ لَفْظُها لمَعْناها إذا اقْتَضاها طرْفي لها عِدَةً ... عَرَفْتُ مَرْدودُها لِفَحْواهَا يا لُغة تَسْجُدُ اللغاتُ لها ... ألْغَزَها عاشِقٌ وعَمَّاها وهذا المعنى مليح بليغ. أراد باللغة: اللحظ، لأنه كلام الأعين. ومعنى

البيت الذي من هذه القطعة، أي: أعيننا غضاب وقلوبنا راضية. فلذلك قال: (مخالف لفظها لمعناها). وقوله (بفحواها) أي بظاهر أمرهما. يقال: عرفت فحوى كلامه وقال أبو تمام: فحواكَ عينٌ على جَواكَ يا مَذِلُ ... حَتَّى مَ لا يَتَقَضَّى قَولُكَ الخَطِلُ ويجوز مده وقصره، قاله أبو علي في كتاب المقصور والممدود قال: وقال أبو زيد: سمعت من العرب من يقول فَحَوَى بفتح الحاء. وهو مقصورُ لا يَجوز مده وحكى عن اللحياني: فُحَواء كلامه بضم الفاء وفتح الحاء، والمدّ قال: وهذا نادر. وقوله: يا لغة تَسْجُدُ اللُّغاتُ لها معنى السُّجود هنا: الخُضُوع والتذلل. ومنه قول الشاعر: بِجَمْعٍ يظلُّ البُلْقُ في حجرَاتِه ... تَرى الأُكْمَ منه سُجَّداً للحَوافِرِ

كأنه قال: مذللة للحوافر. والسَّجود أيضا خَفْضُ الرَّأْس على جهة التعظيم. ومنه قول الأعشى: من يلقَ هَوْدَةَ يسجُدْ غيرَ مُتَّئِبٍ ... إذا تَعَمَّمَ فوق الرأس واتَّضَعا ومنه قوله تعالى وعز (وادْخُلوا البَابَ سُجَّداً) في أحد الأقوال، وقيل معناه: رُكَّعا عن ابن عباس وغيره. وروى أن الباب جعل قصيرا ليدخلوه ركّعا فدخلوا مُتَورِّكين على أَسْتاهِهِمْ. والسُّجود والخُضوع والتَذَلل نظائر في اللغة. والسُّجود في اسماء الدين معروف، وهو وضع الوجه على الأرض. ومنه قول حميد بن ثور الهلالي: فلمْ نُكذِّبْ وَخَرَرْنا سُجَّدا ... نعْطي الزكاة ونُقيمُ المَسْجِدا وقال صاحب العين سجدنا لله سجودا ويقال: سجَد يسجُد سجودا، وأسجد للسجاد إذا خفض رأسه من غير وضع لجبهته. قال الشاعر: فَكِلْتَاهما خَرَّتْ وأَسْجَدَ رَأْسُها ... كَما سَجَدتْ نَصْرانةٌ لم تُحَنَّفِ

وقرأت في كتاب (الأدب): (أسْجَدَ الرَّجلُ إذا طَأْطَأ، وسَجَدَ إذا وضعَ جَبْهَته بالأرض). ومِمَّا جاء من السجود كناية عن الرُّكوع حديث عبد الله بن عمر فيما روى عن عبد الرحمان بن أبي الزناد عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر انه كان يقول في صلاةِ الخوفِ: "يَقُومُ الإمام وتقوم معه طائفةٌ، وتكون طائفةٌ بينهم وبين العدو، فيسجد سجدةً واحدةً بمن معه، ثم ينصرف الذين سجدوا سجدة، فيكونون مكان أصحابهم الذين كانوا بينهم وبين العدو، وتقوم الطائفة الأخرى الذين لم يصلوا، فيصلون مع الإمام سجدة ثم ينصرف الإمام، وتُصلي كلُّ واحدة من الطائفتين لأنفسهم سجدة سجدة، فإن كان الخوف أكثر من ذلك فليصلوا قياما على أقدامهم، أو ركباناً علي ظهور الدوائب". قال موسى بن هارون الطُّوسي: كُلُّ سَجْدَةِ في هذا الحديث فمعناها ركعة. سمعت أبا خيثمة يقول: أهلُ الحجاز يسمون الركعة سَجْدة. ويقال نساءٌ سُجَّد؛ وهنَّ الفاترات الأعين ومنه قوله: ولَهْوي إلى حُورِ المدامعِ سُجَّد والإسْجادُ أيْضا: إدامَةُ النَّظرِ في فتورِ وسكون، وقيل له ذلك لأنه كفعل المتذلل. قال الشاعر وهو كثير:

أغَرَّك منِّى أنَّ دَلَّكِ عنْدنا ... وإسْجادَ عيْنيك الصَّيُودَيْن رابِحُ وحكى أبو الوليد بن زيدون عن نفسه قال: كنت أيامَ شبابي وغمرة التَّصْباب، أهيمُ بغادة تُدْعى ولادة فلمّا قُدِّر اللقاءُ، وساعد القضاء كتبت اليّ بهذين البيتين: ترقَّبْ إذا جَنَّ الظلامُ زيارتي ... فإني رأيْتُ الليل أَكتَمَ للسّرِّ وبي منكَ ما لو كان بالبدْرِ ما بَدا ... وبالليل ما أدْجَى وبالنجمِ لم يسْر قال: فلمّا طوى النَّهارُ كافورَه، ونشرَ الليْلُ عنْبَرهُ، أقْبلتْ بقدٍّ كالقضيب، وَرِدْفٍ كالكثيب، وقد أطبقتْ نرجِسَ المُقَل، على وردِ الخجل، وملنا عند ذلك إلى روض مُدَبَّج، وظلّ سَجْسج، قد قامت راياتُ أشْجارهِ، وفاضتْ سلاسِلُ أنْهاره، وتفتحت كَمَائمُ أَزْهاره وتَأرَّجَت نفحاتُ نواره، ودرُّ الطَّلِّ منثورُ، وَوَجيبُ الراح مزور. فلما ارتَشَفنا كُؤُوسها، وأَغْرَبَنا في الأفْواه بُدُورها وشُمُوسَها، وَشَبَبْنَا نارَها، أدركت فيها ثارها، وَبرحَ كلُّ واحدٍ منَّا بِحُبِّه، وشَكا إليه ما بِقَلْبه، وبِتْنَا ليْلَتَنا نَجْني أُقْحُوان الثُّغور، ونَقْطِفُ رُمَّانَ الصُّدور، فلمَّا شَمَّر الليلُ ذيلَهُ، وَجَيَّشَ الصبح خيْلهُ، وولّى الظلام منهزما، وأقبل ابن ذُكاء مبْتَسما، ودنَتْ ساعَةُ الوداعِ صَباحا، عانَقْتُها وأنْشَدْتها ارتياحا: ودَّع الصَّبْرَ محبّ ودَّعَكْ ... ذائعا من سره ما استودعكْ يقرع السنَّ على أنْ لم يكنْ ... زاد في تلك الخطى إذْ شَيَّعكْ يا أخا البدْرِ سناءً وسَنى ... حَفِظَ الله زماناً أَطْلَعك إِنْ يُطُلْ بَعْدَكَ لَيْلي فَلَكَمْ ... بِتُّ أَشكُو قِصَرَ اللَّيلِ مَعَكْ قوله: (إن يطل بعدك ليلي) البيت، ليس أبو الوليد اخترعه، وإنما ألمّ فيه

بقول جميل فاقتلعه وهو: يطُول اليومُ إن شَحَطَتْ نَواها ... وَحولٌ نلتقي فيه قصيرُ ويروى: (يطول اليوم لاألقاك فيه). وهذا البيت جامع لِطَرفي الطول والقصر. ولا يزال الناس يستقصرون أمد السرور وإن طالَ، ويستطيلون أَمَدَ المكروه وإن قَصُر. ويحكى عن أبي حاتم العتبي انه قال: سمعت أعرابيا وذكر امرأته فقال: كاد الغزال يكونُها لوْلا ما تَمَّ منها، ونقص منه، وما كانت أيامي معها إلا كَأَباهيم قطاً قِصَراً ثم طالت بعدهاشوقا اليها، فوا أسفا عليها. قال: والعربُ تقولُ في هذا المثل: (مرَّ بنا يوْمٌ كعقرب قصراً) إذا مرَّ عليهم يوم سرور. وألم فيه أبو الوليد أيضا بقول مهلهل: فإنْ يَكُ بالذَّنائِبِ طالَ ليْلي ... فقد أبْكي من الليْلِ القصيرِ وأخذه بعض المتأخرين فقال: يطول النهار لميعادها ... ويقصر لي عند إسعادِها وليلي إذا ما دنت لحظة ... وما ينقضي عند ابعادها

وقد جمعه أبو العباس بن سيِّد في بيت واحد فقال: فاللَّيلُ إنْ وَصَلَتْ كالليل إنْ هجرْتْ ... أشكُو من الطَّولِ ما أشكو من القِصَرِ ومنه قول عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة: فيالك من ليل تقاصر طُولُهُ ... وما كان لَيْلِي قبل ذلك يقصُرُ والمقصود بهذا أن أيام السرور ولياليه قصيرة، وأيام الحزن ولياليه طويله، كما ذكرنا، ولذلك قال ذو الرمة: ولو شئتُ قَصَّرْتُ النَّهارَ بِطَفْلَةٍ ... هَضِيمِ الحَشا بَرَّاقَةِ المتَبَسَّمِ وأما حديث أبي هريرة عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه قال: "يتقارب الزمان حتي تكون السنة كالشهر والشهر كالجمعة والجمعة كاليوم واليوم كالساعة" فذكر حجاج بن المنهال عن حماد بن سلمة قال: سألتُ أبا سِنان عن معني هذا الحديث، فقال: ذلك من استذاذ العيش يكون. يريد،

والله أعلم، زمان خروج المهدي وربوع الأَمَنَةِ في الأرض ببسطه العدل فيها. وقرأت في النوادر قول علي بن بسام: لاأظْلم الليل ولا أدَّعي ... أنَّ نُجُومَ الليل ليست تَغُورُ لَيْلي كما شاءتْ فإن لم تَجُدْ ... طال وإنْ جَادَتْ فليْلي قصيرُ وهذان البيتان منقولان من قول علي بن الخليل وهو: لا أظْلم الليلَ ولا أدَّعي ... أنّ نجومَ الليلِ ليْسَتْ تَزُولُ لَيْلي كما شاءتْ قصيرٌ إذا ... جَادَتْ وإنْ ضنَّتْ فَلَيْلي طويلُ وأخذ هذا المعنى ابن خليل من قول يزيد بن عبد الملك بن مروان وهو: لا أسألُ الله تَعْمِيداً لما صَنَعَتْ ... نامَتْ وقد أسْهرتْ عينيَّ عَيْناها فالليلُ أطولُ شيءٍ حينَ أفْقدُها ... والليلُ أَقْصرُ شيء حين أَلْقاها

رجع لقول علي: تصرّف الدهر على حُكْمِهَا ... فَهْوَ على ما صَرَّفَتْهُ يدورُ ومن هذا المعنى قول عبد الصمد في أبيات له: ونحنُ ضجيعان في مَجْسَدٍ ... فلِلَّهِ ما ضُمِّنَ المَجْسَدُ فياليلة الوَصْل لا تَنْفَدِي ... كما ليلة الهجر لا تَنْفَدُ وأبلغ ماأذكر في طول الليل، قول علي بن العباس الرومي قرأته أيضا في (النوادر): رُبَّ ليلٍ كأنه الدَّهرُ طُولا ... قد تَنَاهَى فليسَ فيه مزيدُ ذي نجومٌ كأنهنَّ نُجُومُ الشْ ... شَيبِ ليستْ تزولُ لكن تزيد ومثله قول أبي بكر محمد بن أحمد الغساني: وليلٍ كفكري في صدود مُعذِّبي ... وإلا كأنْفاسي عليه منَ الوَجْدِ وإلاّ كعمر الهجر منه فإنه ... إذا قسته بالوصف كانَ بلا حدٍّ

وقال أيضا: أطال ليلي الصدود حتى ... يَئستُ من غُرَّةِ الصَّباحِِ كأنه إذْ دَجى غرابٌ ... قد حصر الأرض بالجناحِ ومثله قول الآخر: ألا ياليل هل لكَ منْ براحِ ... وهَل لأسير نَجْمِكَ من سَراحِ ألا يا ليل طلت عليَّ حتَّى ... كأنك قدْ خُلقت بلا صباحِ وذكروا أن أبا الوليد بن زيدون كان شديد الكَلَف بولادة قد جَعَلَ حُبَّها وَمَواصلَتها شِعاره وعناده، وهي ولادة ابنة محمد بن عبد الرحمان بن عبد الله بن عبد الرحمان الناصر المتسمى من الألقاب السلطانية بالمستكفي بالله. بويع له بالخلافة بقرطبة يوم السبت لثلاث خلون من ذي القعدة سنة أربع عشرة وأربع مائة، وانقرضت مدة خلافته في جمادى الأخرى سنة ست عشرة، فيما ذكر أبو مروان بن حيان. وكانت ولادة هذه من الأدب والظُّرفِ، والحَلاوَة واللُّطْفِ، واحدةَ نساء زمانها، وفذةَ وقتها وأوانها، بحيث تخْتَلِس القلوب والألباب، وتُعيد الشيب إلي أخلاق الشباب، بِحُسنِ منظرٍ ومخْبر، وعُذُوبَةِ موردٍ وَمَصْدرٍ، وجمالٍ فائقٍ في خَلْقها، وبراعة وذكاء في طبعها وخلقها، وكانَ

فِنَاؤُها بقرطبة منتدىً لأحْرار المِصْر، وأعيان ذلك العصر، وميدانا بجياد النظم والنثر. يعشو أهل الأدب إلى ضوء غرّتها، ويتهالك أفراد الشعراء والكتاب علي خلافة عشرتها، إلى سُهُولة حِجابِها، وكثرة مُنْتابها، تخلط ذلك من فعلها بعلُوِّ نصاب، وكرَمِ انتساب، وطَهارَة أثواب، وشرف أثْواب. والله تعالى يسمح لها، ويغفر زَلَلَها، فلقد اطرحت التحصيل، وأوجدت إلى القولِ فيها السبيل، وذلك لِمُجاهَرتها بِلَذَّاتِها، وقلة مبالاتها، وكانت قد رسمتْ على عاتقيْ ثوبها بيتين وهما: أنا والله أصلُحُ للمعالي ... وأمشي مِشْيَتِي وأتيهُ تِيهَا وأُمْكِنُ عاشِقي من عَض نهْدٍ ... وأُعْطي قُبْلتي منْ يَشْتَهِيها قال أبو الحسن بن بسام: هكذا وجدتُ هذا الخبر، وأَبْرأُ إلى الله من عُهْدَة قائليه، وإلى الأدبِ من غَلَطِ النَّقل إنْ كان وقع فيه. قلت: وأنا أيضا أحْكيه عن ناقليه، ولا أعتمدُ على تصحيحه ولا أدَّعيه، فلأهْلِ النُّبل والفضل عن هذا الخبر وأشباهه مناديح، وكمْ خَبَرِ حكيَ ودوِّن، وهُو غيرُ صحيح. ولولادة أخبارٌ يفوتُ إحْصاؤها ويقلّ استقصاؤها، وكانت في ذكاء خاطرها، وكثْرة نوادرها، آية من آيات فاطِرِها. ذكروا أنها مرتْ ذات يوم بالوزير أبي عامر ابن عبدوس وكان من أعيان المصر، في ذلك العصر،

وكان مِمَّنْ هذى باسمها، وتعرَّف على حكمها، وكانت أمامَ دارِه بركةٌ تتولدُ من الأمطار، وربما استمدتْ بشيء ومما كان ثم من الأقذار، فمرتْ به، وهو قاعدّ قد نشرَ كميه، ونظر في عِطْفيه، وحسن أعوانه إليه، فقالت له: أبا عامر: أنتَ الخصيبُ وهذه مِصْرُ ... فتَدَفَّقا فَكِلاكُما بحْرُ وهذا البيت لأبي نواس من أبيات له في الخصيب والد ابراهيم عامل مصر. فتركته لا يحيرُ حرفاً، ولا يَرُدُّ طرْفاً. وطال عُمْرُها وعُمْرُ أبي عامر المذكور حتى أوفيا على الثمانين وهو لا يدعُ مُواصَلَتها، ولا يَغْفُلُ مُراسَلتها، وتحيف الدهرُ المُسْتَطيلُ حالَ ولادة حتى لم يتْرُك لها شيئا من الوفْر إلا أبادَه. فكان أبو عامر هذا يحمل كلها، ويرفعُ ظلها، على جَذْبِ واديه، ورُكود روائحه وغواديه، أثراً جميلا أبقاه، وطَلقاً من الظَّرْف جرى إليه حتى استوفاه. وأما أبو الوليد أحمد بن زيدون فعلمّ من أبناء العُلى، ومَحَاسِنُهُ مدى الأيام تُتْلى، وتُطَرّز بكلام الكتب وتحلى، مرتبه في ذُرَى المجد، مُطْنَبٌ بالفخار، ومحْتده زاكي النِّجار، وأخباره مع الملوك مشهورة، مروية في الكتب مسطورة، وحين هَمَّ بدره بالكمال، وأشْرَف علي احتفال الحال، تداركه حيْفُ الزمن، فاعتقل وامتهن وحيل بينه وبين ولادة حتى يَئسَ من لقائها، أو أن يَنال نظره في محياها بنكبة اشتدت بها حسراته، وتوقَّدت لها لَوْعاته وزفراتُه، فشجيت نفسه، وقَلَتْه الأيام كما (قَلَتْ صخْرا سُلَيْمى عِرْسُهُ) فعند ذلك قال قصيدته الفريدة التي ضربت في الإبداع بأعلى سهم، وقصَّر عنها ابن أوس

وابن الجهم، وعَجَزَ عن مثلها كلُّ ناظم وناثر، وفَتَنَتْ سمعَ كل أديب وشاعر، وأعْلَمَ فيها ولادة باقامته على وُدِّها، وحفظ عهدها، وأولها: بِنْتُم وبِنَّا فما ابْتلتْ جَوانِحُنا ... شوْقا إليكمْ ولا جَفَّتْ مآقينا يَكادُ حينَ تناجيكُم ضمائرُنا ... يقضي علينا الأسى لولا تَأسينا حالتْ لفقدكمُ أيامُنا فغدتْ ... سُودا وكانت بكم بيضا ليالينا إذْ جانِبُ العيش طَلْقٌُ من تَألُّفِنا ... ومورد اللهو صافٍ من تصافينا وإذْ هَصَرْنا غصون الأنس دانية ... قُطوفُها فجنينا منه ما شينا ليُسْقَ عهدُكم عهد السرور فما ... كنتم لأرواحنا إلاّ رياحينا من مبلغ الملبسينا بِانْتِزَاحِكمُ ... حزنا مع الدّهر لا يَبْلَى ويُبْلينا أنَّ الزَّمان الذي لا زال يُضْحِكُنا ... أُنْسا بقربكم قد عاد يبكينا غيظ العدا من تساقينا الهوى فدعوا ... بأن نَغَصَّ وقال الدهر آمينا فانحل ما كان معقودا بأنفسنا ... وانْبَثَّ ما كان موصولا بأيدينا وقد يكون وَمَا يُخْشَى تَفَرُّقُنا ... فاليوم َنحنُ وما يُرجى تلاقينا

لم نعتَقِدْ بعْدَكُم إلا الوفاء لكم ... رأيا ولم نتقلد غيره دينا لا تحسَبوا نأيكم عنا يُغَيِّرُنا ... أنْ طالَما غيّر النَأيُ المحبينا والله ما طلبت أهواؤنا بدلا ... منكم ولا انصرفتْ عنكم أمانينا ولا استفدنا خليلا عنك يشغلنا ... ولا اتخذنا بديلا منك يسلينا يا ساري البرق عادِ القصر فاسْقِ به ... من كان صرفَ الهَوى والوُدِّ يسقينا ويا نسيمَ الصَّبابَلِّغْ تَحيتنا ... منْ لوْعَلى البُعْدِ حَيَّا كانَ يُحيينا يارَوضة طالما أجْنَتْ لَواحِظنا ... وردا حَلاهُ الصِّبَا غضّا ونسْرينا ويا حياةً تملَّيْنَا بِزَهْرِتها ... مُنىً ضُرُوباًولذاتٍ أفانينا لسْنا نُسَمِّيكَ إجْلالا وتكرمةً ... وقدرك المعتلى عن ذاكَ يُغْنينا إذا انفردتِ وما شوركت في صفة ... فحسبُنا الوصف ايضاحا وتَبْيينا يا جَنة الخلد ابدلنا بسلسلها ... والكوثر العذْب زقُّوما وغسلينا كأننالم نبت، والوصلُ ثالِثُنا ... والسعدُ قد غضَّ من أجفان واشينا سِرَّانِ في خاطر الظلماء تَكتمنا ... حتى يكاد لسانُ الصبح يُفْشينا لا غَرْوَ أنا ذكرنا الحزن حين نَأتْ ... عنه النُّهى وتركنا الصبر ناسينا إنا قرأنا الأسى يوم النوى سوراً ... مكتوبة وأخذنا الصبر تلقينا أمَّا هَواك فلم نعْدِلْ بِمَنْهله ... شُرْباً وإنْ كانَ يُرْوينا فيُظْمِئُنا لم يَخْفَ أفق جمال أنت كوكبه ... سالين عنه، ولم نهجره قالينا

نأسى عليك وقد حُثَّتْ مَشعشعة ... فينا الشُّمُولُ وغنَّانا مُغنِّينا لا أكْؤُسُ الراحِ تُبْدي منْ شمائلنا ... سيمَا ارتياحٍ ولا الأوتارُ تُلْهينا دومي على العهد مادمنا مُحافظةً ... فالحرُ منْ دانَ إنْصافاً كمادينا أَبْدِي وفاء وإن لم تَبْذُلي صِلةً ... فالطيفُ يقْنِعُنا والذِّكرُ يَكْفينا وفي الجواب متاعٌ إنْ شَفَعْتِ به ... بيضَ الأيادي التي مازلت تُولينا عليك منّي سلام الله ما بقيَتْ ... صبابَةٌ بِكِ نخْفيها فتخفينا البيت الرابع والخامس من هذه القصيدة، يشبه قول الحارث بن هشام في أبيات له: إذْ نلْبَسُ العيش صَفواً ما يكدِّره ... طعنُ الوشاةِ ولا ينْبُوبنا الزَّمنُ ومثله أيضا قول الآخر: هناكَ تغنينا الحمام وَنَجْينِي ... جَنَى اللهو يَحْلَوْ لِي لنا ويطيبُ وقد أثبتُّ من هذا المعني في الجزء الثاني من هذا المجموع، ما اقتضته المشاكلة، وألفته المماثلة، وحسنته نسقا ونظاما، وفتقت من زهره الأرج كماما. وقوله: وقد تكون وما يُخْشى تَفرقنا

البيت، كقول أبي أيوب سليمان بن أبي أمية: أناجيك من بعد كان لم يكن قرب ... وألقاك بالذكر ومن دونك الحُجبُ وقوله: (يا جنة الخُلْد) معناه: يا جنة البقاء، لأن الخُلُود هو البقاء طول الأبد. فكلُّ منْ يدْخل الجنَّة فهو خالِدٌ فيها، وكل من يدخل النار من المعذبين الجاحدين فهو خالدٌ فيها، لقوله تعالى (وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ) وأهلُ الجنَّة فيها مُخَلَّدونَ خالدون طول الأبد لقوله تعالى (وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ). والخُلُودُ والدَّوام والبَقاءُ والتَّأبيد نظائر في اللغة. وقال صاحب العين: الخُلُود البقاء في دار لا يخرج منها. والفعل: خَلَدَ يَخْلُدُ خُلُوداً، وخَلَّدَه تخليدا. والخُلْدُ اسم من أسماء الجِنان. وحدُّ الخُلُود الوُجودُ في الشيء إلى غير نهاية. ويقال: خَلَدَهُ في السجن، وخلَدَهُ في الديوان، إذا أوجده هناك. ويقال: أَخْلَدَ فلان إلى كذا وكذا، والمعنى رَكَنَ إليهِ ورَضيَ به. قال الله تعالى وجلَّ (وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ). والخَلَدُ البال. تقول: وقع ذلك في خَلَدي، أي في بالي. والخُلْدُ أيْضا ضربٌ من الجِرْذَان عُمي لم تُخْلقْ لها عُيون، واحدها خِلْدَةٌ بكسر الخاء والجميع خِلدان. والخَوالِدُ الأثافي في مواضعها، والجبال والحجارة تسمى أيضا

خوالد. قال الشاعر: فتأتيك حَذَّاءَ محمولةً ... تَفُضُّ خَوالِدها الجَنْدلا يعني بالخوالد هنا القوافي، كنى عنها بالحجارة. ومثله قول أبي تمام: وكأنما هي في السَّماع جَنادلٌ ... وكأنما هي في العيون كواكِبُ فأما الجُنَّةُ فمعروفة، سميت جُنَّة لأن الشجرة تَجُنُّها، أي تستُرُها. وكل شيء وقاك وسترك فهو جُنَّةٌ؛ ومنه سميت الدِّرع جُنَّةٌ. واستَجَنَّ فلان إذا استتر بشيء، والمِجنُّ: التُّرْسُ لستره صاحبه، وسمي القبر جَنَناً من هذا. وقال المقنع الكندي أو رافع بن هرم اليربوعي: وصاحب السوء كالداء العياء إذا ... ما ارْفَضَّ في الجِسم يَجْري هاهنا وهنا فذاكَ إنْ عاشَ كُنْ عنهُ بِمَعْزِلةٍ ... أوماتَ يوماً فلا تَشْهَدْ لهُ جَننا ويروي: إن عاشَ ذلك فأبعِدْ عنْكَ منزِله ... أوْ ماتَ ذاكَ فلا تعرف له جَنَنا وللقبر أسماء غير الجَنَن هو الريْم والرَّمْس والجدث والحَدَب. قاله أبو علي. وقال الشاعر:

ولا شَمْطاء لم يَتْرك شَقاها ... لها منْ تسعةٍ إلاّ جَنينا يعني مدفونا، أي قدْ ماتوا كلهم. وقد يسمى الرُّوح جَناناً، لأن الجسم يَجُنُّهُ. وجَنانُ النَّاس مُعْظمهم قال الشاعر: جَنانُ المُسلِمين أو دُّمسّاً ... وإنْ جَاوَرْتُ أسْلمَ أوْ غِفَارا وكان أهل الجاهلية يسمون الملائكة جِنَّا لا سِتتارهم عن العيون. والجَنينُ: الولد في الرحم، والجميع الأجنَّةُ. قال الله تعالى (أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ) ويقال: أجَنَّت الحاملُ ولَدَها. وقال الشاعر: وقد أجنَّتْ علقا ملقوحا ... ضمَّنه الأرحام والكشوحَا ويقال جَنّ الولد يَجُنُّ جَنّا، وكذلك جَنَّ الليل، وهو يَجُنُّ جَنّاً وَمجَنَّةً، وجَنّ عليه الليل، إنْ غطَّى عليه وستره بظلمته، وأجَنَّهُ الليل: أي ستره. وجِنَّةُ الليل أيضا بإسقاط الألف لغة، وبها قرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وجملة من الصحابة أبو هريرة، وغيره في قوله تعالى في سورة النجم (عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى) وقال الهذلي، وقرأته في النوادر لأبي علي البغدادي: من المُرْبَعينَ وَمِنْ آزِلٍ ... إذا جَنَّهُ الليْلُ كالناحِطِ

وَجِنُّ الليل: اختلاط ظلمته. قال الشاعر: حتَّى يجئَ وَجِنُّ اللَّيل يُوغلُه ... والشُّوكُ في وضح الرِّجْلينِ مرْكُوزُ ويقال: جَنَانُ الليل وَجُنونُ الليل. وقال الشاعر: ولولا جُنُونُ الليل أدركَ رَكْضُنا ... بذي الرَّمْثِ والأرْضِ عياضَ بن ناشفِ وجِنُّ الشَّباب: حدَّته ونشاطه. وفي الحديث: "الشباب شُعْبَةٌ من الجُنون" وذلك أن الجُنُون آفة تنالُ العقل فتزيله، وكذلك الشَّباب، قد يسرع إلى غلبة العقل بما له من قوة الميل الى الشهوات، وشدة النزاع إليها، وكذا قول بعضهم (الغَضَبُ جنُونُ ساعة). وقال حسان بن ثابت: إنّ شرخَ الشَّباب والشَّعرا لأسْ ... ودما لمْ يُعاصَ كانَ جُنُوناَ قال: (ما لم يعاص) ولم يقل (يعاصيا) كما يجب، لأنه أراد ما لمّ يُعاصَ كُلُّ واحدِ منهما. وقيل: إنّ الشعر الأسود داخلٌ تحت ذكر الشباب، فلهذا استغنى بالضمير الواحد واكتفى به. وفي حديث عبد الله بن عمر: "مَتِّعْنا بأسْماعِنا وأبْصارنا واجْعلهُ الوارثَ منَّا" فقال: وجعله بلفظ الواحد، وقد تقدم ذكر الأسماع والأبصار بلفظ

الجماعة ففي هذا وجهان: أحدهما أن تكون التاء راجعة إلى ضمير الفعل وهو الإستمتاع بهما. والوجه الآخر: أن تكون الإشارة بها إلى واحد واحدٍ من كل سمع ومن كل بصر. قاله أبو سليمان الخطابي، وقال في معني هذا الحديث قولين: أحدهما أن يكون معنى الوراثة منهما أن تبقى صحتهما عند ضعف الكبر فيكونا وارثي سائر الأعضاء الباقين بعدها. والقول الآخر أن يكون دعي بذلك للأعقاب والأولاد. والأول أصح. وبالقول الثاني قال ابن سراج. وحكي ان الحسن كان يقول في دعائه (اللَّهمَّ إنِّي أَعُوذُ بكَ من صَناديد القدر وَجُنُون العمَل). قال ابن الأعرابي: الصَّنايد: الشَّدائد والدَّواهي، وجُنونُ العمل الإعجابُ به حتى يبطل عمله. وأنشد: فدقَّتْ وجَلَّتْ واسْبكرتْ وأٌكمِلتْ ... فلَوْ جُنَّ إنْسانٌ منَ الحُسْنِ جُنَّتِ ويقال: جُنَّ الرجلُ وأجنَّه الله فهو مجْنونٌ، والجميع مَجانين. قال الشاعر:

شكوتم إلينا مَجانينَكمْ ... ونشكو إليكمْ مَجَانينا فلَوْلا المُعافاةُ كُنَّاكهُمْ ... ولوْلا البلاءُ لَكَانُوا كنا وسمي المجنون مجنونا لأنه قد أطبق على قلبه. وأصله من الجِنِّ، وهو السَّتْر، ويقال بالرجل جِنَّةٌ ومَجَنَّة أي جُنُونٌ. قال الله سبحانه (أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ) وقال (وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ) وقال الشاعر: من الدّارميِّين الذين دِمَاؤُهُمْ ... شِفاءٌ من الدَّاء المجَنَّة والخَبْلِ وأرضٌ مَجَنَّة كثيرة الجِنِّ. والجِنَّة والجِنَّان جماعة ولد الجان. والجانُّ هو أبو الجِن خُلِق من نار، ثم خُلق منه نسْله، وسُمُّوا جِنّاً لأنهم استجنوا من الناس فلا يرون. قال الحسن في قوله تعالى (وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ) يعني إبليس خلقه الله تعالى قبل آدم عليه السلام. ونارُ السَّموم؛ الحارة التي تقتل. والجان أيضا الحَيَّةُ البيضاء. قال الله سبحانه (فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ) وفي حديث عبد الله بن عمر قال: شرب رجل من سقاء، فانساب في بطنه جانٌّ، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اخْتِناثِ الأسْقِية واختناثُ الأسقية هي أن تمال، فيشرب منْ أفواهِها، وعند ميلها يحدث فيها تكسر

ورخاوة، وبذلك سميّ المُخَنث من الرجال. وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على أمِّ سلمة، وعندها مخنث. وشرب أحد الشعراء من سقاءٍ اختثنه حتى روى فألغز وقال: أخذت مخنثا فلثمت فاه ... فيا طيب المخنث من لثيمِ رجع وقوله (والكوثر العذب)، والكوثرُ فَوْعَل: من الكثرة، والواو فيه زائدة كزيادتها في الدَّوْلس، وهو فوعل أيضا من الدَّلَس. والدَّلَس: اخفاء العيب وستره في حين البيع. والكَوثر نهر في الجنة للنبي خاصة تتشعب منه أنهار الجنة. قالته عائشة رضي الله عنها، وروى نحوه عن النبي عليه السلام، وقال عطاء: هو حوض النبي عليه السلام. ويومئذ قول عطا حديث أبي سعيد سنان ين مالك بن سنان الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن لي حوضا طوله ما بين الكعبة إلى بيت المقدس أبيض من اللبن آنيته عدد النجوم" وفي حديث أنس، فيما روى أبو بن بكر أبي شيبة، عن علي بن

مسهر عن المختار عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الكوثر نهر وعدنيه ربي في الجنة عليه خير كثير، وهو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة آنيته عدد النجوم" ويقال: الكوثر هو الخير الذي أعطاه الله تعالى وجل النبي محمدا صلى الله عليه وسلم وأمته يوم القيامة. وقال بعضهم: الكوثر: العَجَاجُ المُلتَفُّ بعضه ببعض، وأنشد: وقد ثار نقْعُ الموتِ حتى تَكَوْثَرا أي حتى التف بعضه بعض. وقال الحسن: الكوثر: القرآن. وقوله: (زقوما وغسلينا) قال ابن زيد: لا يعلم أحد ما الزَّقُوم ولا الغِسْلين. وعن قتادة طعام الزقوم شر الطعام وأبشعه. والغِسْلين غسالة أجواف أهل النّار. ووزنه فِعْلِين من غسل الجراح والدبر. رجع قال: فلما خلص أبو الوليد من اعتقاله، وتَنَسَّمَ من الدَّهر صلاح حاله، بعد أن أعوز نفسه الجَلَد، وملأ جوانحه الوجْد والكمد، كرّ إلى (الزهراء) ليتوارى في نواحيها، ويتسلى برؤية مَراقبها، فوافاها، والربيع قد خلع عليها برده ونثر على

بساطها سوْسَنه وورْده، وأغصان ثمارها مورقة، ونواحيها مشرقة، قد سالت جداولها، وغنَّت بلابلها، فراح أبو الوليد بين روض يانع، وريح طيبة المسرى، وارتاح ارتياح جميل ببوادي القرى، فتشوق إلى لقاء ولادة، وحنَّ وخاف تلك النَّوائب والمحن، فكتب إليها يصف فرط قلقه، وضيق أمده وطلقه، ويعاتبها على اغفال تعهده، ويذكرها بحسن محضره معها ومشهده، فقال: إني ذكرتك بالزهراء مُشتاقا ... والأفقُ طلْق ووجهالأرض قد راقا وللنسيم اعتلالٌ في أصائله ... كأنه رقّ لي فاعْتل إشْفاقا والرَّوضُ عنْ مائه الفضي مُبْتَسِمٌ ... كما شَقَقْتُ عن اللبات أطواقا يومٌ كأيامِ لذاتٍ لنا انصرمتْ ... بتْنا لها حين نامَ الدّهر سُرّاقا نلهو بما يستميل العينَ من زهر ... جال النَّدى فيه حتى مال اعناقا كأن أعينه إذ عاينت أرقي ... بكت لما بي فجال الدّمع رَقْراقا ورْد تألق في ضاحي منابته ... فازداد منه الضحى في العين اشراقا سَرى يُنافِحُه نَيْلُوفرٌ عَبِقٌ ... وَسْنان نبَّه معه الصُّبح أحداقا كلٌّ يهيجُ لنا ذكرى تشوقنا ... إليك لم يعدعنها الصدر أن ضاقا لو كان وفىَّ المنى في جَمعنا بكم ... لكان منْ أكرم الأيام أخلاقا لا سكَّن الله قلباً عن ذِكركمُ ... فلم يطِر بِجَناحِ الشوق خَفَّاقا لو شاء حملي نسيمُ الريح حين هفا ... وافاكُمُ بفتى أضْناه ما لاقى

كان التجازي بمحض الودِّ مذ زمن ... ميدان أنس جرينا فيه إطلاقا فالآن أحمد ماكُنّا بعهدكمُ ... سلوتم وبقينا نحن عُشَّاقا في أشعارٍ له كثيرة هي في كتاب ابن بسام وغيره مسْطُورة. وفي أبي الوليد يقول أبو الحسن بن بسام: كان أبو الوليد غاية منثور ومنظوم، وخاتمة شُعراء مخْزوم، أحدُ منْ جَرَّ الأيام جرًّآ، وفاتَ الأنام طُرُاً، وصَرَّفَ السُّلْطان نفعاً وضَرّاً، ووسع البيان نظما ونثرا، إلى أدب ليس للبحر تدفُّقه، ولا للبدر تَألُّقه، وشِعْرٍ ليس للسحر بيانُهُ، ولا للنجوم الزُّهْرِ اقتِرانُه، وحظٍّ من النَّثر غريب المَباني، شِعريِّ الألفاظ والمعاني. وفيه يقول أبو نصر الفتح بن محمد في (القلائد): ذو الوزارتين أبو الوليد بن عبد الله بن زيدون زعيم الفئة القرطبية، ونَشْأةُ الدَّولة الجَهْوَرِيَّة الذي بهر في نظامه، وطلعَ كالبَدْر ليلَةَ تمامِه، فجاء من القوْل بسحرٍ، وقلَّدَهُ أبْهى نحر، لم تصرفْهُ إلاّ بين ريحان وراح، ولم يطلعه إلاّ في سماء مؤانساتِ وأفراح، ولا تعدى به الرؤساء والمُلوك ولا تَرَدى منه إلاّ حظوة كالشمس عند الدُّلوك، فشرف بضائعه، وأرهف بدائعه وروائعه، وكلفت به تلك الدولة حتى صار ملهج لسانها وحل محل انسانها. قلت أنا: وكانَ رَحِمَهُ الله شِهابَ ذكاءٍ متألقاً، وبحر بيان متدفقا، يقذف بلسانه من البيان لؤلوآ مكنونا، ويَبُثُّ من البلاغة ضروبا وفنونا، وفيما أثبت له في التَّصانيف، وسطر في التَّواليف، من النَّظْم الذي أرْهَفَه بالتَّهْذيب، وطرَّزَهُ بكُلِّ معنى عجِيب، وبناه من اللَّفظ الصحيح، ووشحه بالوَشي المليح، ونثره البديع، المزري بالدُّرّ الرفيع، دليل على أنه كان يملك من البيان بحرا لا يُمْتَطى

لهُ ثَبَج، ولا تُخاضُ بهِ اللجج. وناهيكَ من تحرير حلَّ من ابن عبّاد غُرةً في جبين مُلكِه، وواسطة في مُنْتَظم سِلْكِهِ، واسْتَقَلّ من دولته بأعْبائها، ولاحَ بدْرا منيرا في سمائها، أشرق من لآلئه الإظْلامُ، وعَبِقَتْ بأرَجِهِ الليالي والأيامُ، ولا يَتَّسِعُ هذا المجموع لاثباث محاسنه وفنونه، وتصرّفه في سهول الإبداع وحُزُونِه، ولو أشرتُ إلى ذلك، لخرجتُ عما قصدتُ إليه من غرضي، واعتمدتُ عليه. وقد أثبتُّ له فيه ما يشهد له بالسَّبْق، وفي الثّناء عليه بالحق. وحكى أبو العباس أحمد بن عبد ربه في كتاب (العقد) عن أبي زيد الأسدي قال: دخلت يوما على سليمان بن عبد الملك مروان فَوَجدته جالسا على دكان مبلط بالرخام الأحمر، مفروش بالديباج الأخضر، في وسط بستان قد أينع وأثمر، ويشق البُستان من جانبيه ميدانٌ ينبُت الربيع، وعلى رأس سليمان وصَائف. كُلُّ واحدة أحسن من الأخرى كأنّما شردن من الجنان، عن غفلة من الرضوان، يُصْمِينَ بسهام الجُفون، ويُسْبين بقُدود تحكى تَثَنِّي الغُصون، ويُسْفرنَ عن بدور، ويَبْسمْنَ عن دُرِّ لم تقلد مثله النُّحور. والشمس قد مالت للغروب، وحكت لون المُحِبِّ ساعَة وداعِ المَحْبُوب، وهَبَّ النَّسيمُ على الغُصون فتَمايَلتْ، وحنَّتِ الأطيار فتَجاوبتْ فقلت: السلامُ عليك أيُّها الأمير، ورحمة الله وبركاته، وكان مُطرقا، فعندما مَثُلْتُ بين يديه، وسَلَّمْت عليه، رفع رأسه إلي وقال: أبا زيد في هذا الوقت غشيت حيّنا. فقلت أصلح الله الأمير، أو قدْ قامت القيامة؟ قال: نعم. على أهل الحب. ثم قال لي: يا أبا زيد ما يَصْلُحُ في هذا الوقت؟ قلت: أصلَحَ الله الأمير. قهْوةٌ صفراء في زُجاجةٍِ بيضاء،

تناولينها جارية هَيْفاء، رخيمة الدال بديعة الشَّكل أشْرَبُها من كَفِّها، واجعل نقلي رُضابَ فمِها. فأطرق الأمير وتَحَدَّرَتْ عبراته، وهاجَتْ لو عاته، وتحركت سَواكنه، وبكى حتى بُلَّ سِرْبالُه. فلما رأى الوصائف حاله تَنَحَّيْن عنه، فعند ذلك قال لي: أبا زيد هذا والله آخر يوم من أيامك، وانصِرَامِ مُدَّتِك، بالله لأضْرَبَنَّ عنقك. أو لتخبرني ما الذي أوقع هذه الصفة في قلبك. فقلت: نَعَمْ، أصْلَحَ الله الأمير، كنْتُ جالِسا على بابِ أخيكَ سعيد، فإذا أنا بجاريةٍ قد خَرَجَتْ إلى بابِ القصْر كالغزال، انفلت من شبكة صائد، وعليها قميص سَكْبٌ اسْكنْدراني، تبصر العين من فوقه رمانتي صدرها، ونقش تكَّتها، وفي رجليها نَعْلان أحمران، فتعجَّبت أيها الأمير من بياض رجليها، في حمرة نعليها، ولها ضفيرتان تضربان خصريها، قد أسبلتهما على منكبيها، وصدغان كأنهما نونان وحَاجِبانِ كأنهما قوسان، وعينان ليستا لحور الجِنان، بالسحر مملوءتان. فأبصرت أحسن سواد، رأيته في بياض، من لِحاظٍ مُعْتَلَّة، في جُفونِ ليست بمِراض، وعِقْدُها في نَحْرِها يبرق، والشَّمس فوق إزارِها تُشْرِقُ. فلمّا وصلت إلى باب القصر، تَنَهَّدَتْ تنهدا جاوبتها الحِيطان، قالت: عِبادَ الله من لي بدواء مالا يُشتكى، وعِلاج مالا يُوسى. طال والله الحجاب ومنع الجواب، ولزم الاكتئاب، فالفؤاد مُخْتلس، والنوم مُحْتبس، والحزن دائم، والدمع ساجم. فرحم الله قوماً عاشوا تجلداً، وماتوا تبلداً، ولو وجدنا إلى العزاء سبيلا، لكان الأمر أمراً جميلا. ثم أسبلت عبرات حكت تناثر اللؤلؤ الرطب، على الورد الغض، ثم رفعت رأسي فقلت: أيتها الجارية إنسية أم جنية، أرضيّةٌ أمّ سَمائية؟ فقد أعجبني ما رأيت من حسنك، وأذهلني ما سمعت من منطقك، فسترت وجهها بكمها. ثم قالت: عُذْرا أيُّها المُتَكَلِّمُ الأديبُ فما أوْحَشَ الوحيدَ بلا مساعد، والغريبَ عن أوطانه، والنازحَ عن أحبابه وخِلانه. ثم انصرفت، فوالله - أيها الأمير - ما رأيتُ حسنا بعده، الاّ سمج في عيني

لحسنها، ولا ذقت طيبا إلاّ عادَ عَلْقَما لشجوها. فاستوي الأمير جالسا، وعَبَراتُه تسكب. فقال: يا أبا زيد كاد الجهلُ يَسْتفزني، والصِّبا يعودُ لي، والحِلمُ يغْرُبُ عنِّى. أتعرف تلك الجارية؟ قلتُ: لا، أعرفها أيها الأمير. قال: تلك الذَّلْفاءُ التي يقول فيها الشاعر: إنما الذَّلْفَاءُ ياقوتةٌ ... أُخْرِجَتْ من كيسِِ دِهْقانِ اشتراها أخي الوليد بألف ألف درهم، وهي عاشقة للذي باعها، فلا يتمتع بها أخي ولا غيره إلا على تلكَ الحال. ووالله ما يموتُ من رآها إلاّ بحسرتها، ولا يَدخُلُ القبر إلا بِغُصَّتها، ولكن في الصَّبرة سُلْوَة، وفي توقُّع الموت بهتة. قُمْ أبا زيد واكتُمْ، فقلت: أفْعَلُ أيها الأمير، وَأمرَ لي ببدرةٍ فأخذتُها وانصرفتُ. قال الأصمعي في الأنف الذَّلِف؛ وهو قِصَرُهُ وصغَرُ أرْنبته: يُقال رجَلٌ أذْلَف، وامرأة ذَلْفاء. قال أبو النجم: للشَّمِّ عندي بهجةٌ ومَوَدَّةٌ ... وأُحِبُّ بعض ملاحَةِ الذَّلْفاءِ وقال العجاج: بسلهبينِ فوق أنْفٍ أذْلَفَا

فصل

فصل وحكى إقبال الدولة بن مُجَاهد قال: حضرتُ عند صِهري المعتمد بن عباد، والنهارُ قد نشر من غَيمه نَدى نَدٍ، وأسْكبَ من قَطْرِه ماء ورد، وأبْدى من برْقِهِ لسانَ نارٍ، وأظْهرَ من قُزَحِهِ بُستان آسٍ حُفَّ بنرجسٍ وجُلَّنَار، والرَّوضُ قد بعث ريَّاه، وبثَّ الشكرلِسُقْياه. فكتب الى الطبيب الأديب أبي محمد المصري: أَيُّهَا الصَّاحبُ الذي فَارَقتْ نف ... سِي وعيني منه السَّتَا والسَّناءَ نحن في المجلس الذي يهب الرا ... حةَ والمسمع الغنى والغناء نتعاطى التي تسمى من الل ... ذة والرقة الهوى والهواء

فاتهِ تُلف راحة ومحيَّا ... قدْ أَعدَّا لَكَ الحيا والحياء فوافاه الطبيب المذكور، فألفى مجلسا قد اتْلَعَتْ أَباريقُه أَجْيَادَهَا، وأقامتْ به خَيْلُ السُّرُور طِرَادَها. وأعطَتْهُ الأماني انطباعَها وانقيادَهَا، وأهدت الدنيا ليومه مَوَاسِمَهَا وأَعْيَادَهَا، وخلعت عليه الشمسُ شُعَاعَها، ونشرت فيه الحدائقُ ايناعها، فأدِيرَت الرَّاحُ، وتُعُوطيت الأَقْداح، وَخامر النُّفُوسَ الابتهاجُ والارتياحُ. ؤأظهر المعتمد في ذلك اليوم من إيناسه، ما استرقَّ به نُفُوسَ جُلاَّسه. ثم دعا بكبير، فشَرِبَه عندما تَناوله من يَدِ المُدِير. فكان كالشمس غَرُبتْ في ثِبير، وعندما تناوله قام الطبيب ينشد شعرا بمثله: اشْرَبْ هنيئاً عَليكَ التَّاجُ مرتَفقاً ... في قَصْر حِمْصَ وَدَعْ غُمْدانَ لِلْيَمَنِ فَأنتَ أَوْلى بتَاج الملْكِ تَلبَسُهُ ... مِنْ هَوْذَةَ بنِ عليٍّ وابنِ ذي يَزَنِ فطرب المعتمد حتى زحف عن مجلسه، وأسرف في انبساطه وتأنُّسه. وأمر للطبيب المصري بخلعةٍ لا تصلح إلاّ للخلفاء، فخلعت عليه، وأدناه حتى أجلسه مجلسَ الأكْفاءِ، وأَمَر له بدنانير عدداً، وملأَ بالمواهب منه يداً. قول الطبيب: اشرب هنيئا عليك التاج مرتفقا شطر بيت لأبي زمعة جد أمية بن أبي الصلت، من شعر قاله في معدي كرب بن ذي يزن، أوله:

ليطلب الوترَ أمثالُ ابن ذي يزِن ... رَيَّمَ في البحر للأعداء أَحْوَالا يمَّمَ قيصر لما حان رحلَتُهُ ... فَلَمْ يجد عندهُ بعض الذي سأَلاَ وفيها يقول: أَرْسَلْتَ أُُسْداً على سُودِ الكلابِ فقد ... أضْحَى شَريدُهُمُ في الأرضِ فُلاَّلاً فَاشْرَبْ هنيئاً عليكَ التَّاجُ مُرتَفِقاً ... في دار غُمْدَانَ داراً منكَ محلالا ثمَّ اطل المسكَ إذْ شالتْ نَعَامَتُهُمْ ... وأسْبِلِ اليومَ في بُرْدَيكَ إِسْبالاَ تِلك َالمكارمُ لاَقَعْبَانِ مِنْ لَبَنٍ ... شِيبَا بمَاءفَعَادَا بَعْدُ أَبْوَالاَ قوله: (إذْ شالت نعَامتُهُم)، العربُ تضرب زوالَ النَّعَامة مَثَلاً في الفِرار فتقول: (شالتْ نَعَامَةُ القوم) إذا فرّوا أو هلكوا وانقرضوا. قال الشاعر: أَزْرَى بنَا أَنَّنا شالَتْ نعَامَتُنا ... فخَالني دُونه بَلْ خِلْتهُ دُوني وقال الآخر: يَا ليتنَا أُمُّنَا شَالَتْ نَعَامتُنَا ... إِمَّا إلى جَنَّةٍ إِمَّا إلى نَارِ والعرب تقول: أَشْرَدُ من نَعَامة، أي أسرع في الفرار من النَّعامة.

وقال الشاعر: هُمُ تَرَكُوكَ أَسْلَحَ منْ حُبَارى ... رأَتْ صقراً وأَشْرَدَ مِنْ نَعَامِ والنَّعامَةُ في اللغة: بَاطِنُ القَدَم، فمن مات فقد شَالَتْ رجْلُه، أي ارتفعت، وأَنْشَدُوا قول الشاعر: تَنَعَّمْتُ لَمَّا جَاءَني سُوءُ فِعْلِهِمْ ... أَلاَ إِنَّمَا البَأْْسَاءُ لِلْمُتَنَعِّمِ والنَّعَامَةُ أيضا: الجِلْدَة التي تغطى الدماغ، والنَّعَامَةُ: الظُّلْمَةُ. وابنُ النَّعَامة: عِرْقٌ في باطن القدم. وقوله: (تِلك المَكَارِمُ) البيت، تمثل به عمر بن عبد العزيز رحمه الله، حين وفد عليه الرجل الذي انتسب الى قتادة بن النُّعْمَان، الذي أصيبت عينه يوم أُحُد، فسأله عمر: من أَنْتَ؟ فقال الرجل: أنَا ابْنُ الَّذي سَالتْ عَلَى الخَذِّ عَيْنُهُ ... فَرُدَّتْ بكَفِّ المصطفى أَيَّما رَدِّ فَعَادَتْ كما كانَتْ لِأَوَّلِ أَمْرِهَا ... فَيَا حُسْنَ مَا عَيْن ويَا حُسْنَ مَا حَدِّ فقال: عمر بن عبد العزيز: (تِلْلكَ المَكَارمُ لاَقَعْبَانِ مِنْ لَبَنِ) البيت بكماله. ووصل الرجل وأحسن جَائزتَه. وقد روي أن عيني قتادة بن النعمان الذي انتسب اليه الرجل، الوافد على

عمر، سقطتا معاً يوم أُحُد فردهما النبيّ صلى الله عليه وسلم وروى هذا الحديث: محمد بن أبي عثمان، عن مالك بن أنس عن محمد بن عبد الله بن أبي صعصعة، عن أبيه، عن أبي سعيد، عن أخيه قتادة بن النعمان. قال: (أصيبت عيناي يوم (أحد) فسقطتا على وجنتي، فأتيت بهما النبي صلى الله عليه وسلم، فأعادهما مكانهما، وبصق فيهما فعادتان تبرقان). قال الحافظ أبو الحسن علي بن عمر الدارقطني: هذا حديث غريب عن مالك، تفرد به عمار بن نصر وهو ثقة. وحكى الحسين بن الضحاك قال: دخلت ذات يوم على الحسن بن

سهل في فصل الخريف، وقد جاء الوَسْميِّ، بِرَشٍّ خفيف، واليوم قَد تَجَلَّى في أحْسَنِ مَنْظَرٍ وأَعْجَبِهِ. وَرَوائِحُ المجْلِسِ تَتَضَوَّعُ بأذْكى نَشْرٍ وَأطْيَبِهِ. والحسَن جَالسٌ عَلَى سَرِيرِ آبنوس، وأمامه أَباريقُ مُتْرعة بالخمر وكؤوس، وهو ينظر الى بستانٍ أنيق، والطَّيرُ تَشْدُو في أَفْنَانِه بِلَحْن يُطْرِب، وعلى رأسه غُلامٌ، كأنه البدر، وَجَبينُهُ قَدْ جَمَعَ بين اللَّيْل والصَّبَاح، وَثَغْرُهُ بين العقِيقِ والأقَاح. فسلمت، فرد السلام عَلَيَّ. ونظر كالمستنطق اليَّ فقلتُ: أَلَسْتَ ترَى ديمةً تَهطلُ ... وَهذَا صَبَاحُكَ مُسْتَقبَلُ وهذا العُقَار وقدْ راعنا ... بِطَلْعَتِهِ الشَّادِنُ الأكحلُ وقد أَشْكَلَ العَيْشُ في يَوْمِنا ... فيَا حَبَّذَا عَيْشُنا المُشْكِلُ فقال: العَيْشُ مشكل، فَمَا تَرى؟ قُلْتُ: مُبَاكَرةُ القَصْفِ، وَتَقْرِيبُ الإلْفِ. فقال: شَرْطَ أَنْ تَبِيتَ. قُلتُ: لكَ الوَفَاءُ على أَنْ يَكونَ هَذَا الواقِفُ عَلَى رَأْسِكَ يَسْقِيني. فَضَحكَ الحَسَن وقال: ذلك لَكَ عَلَى مَافيه، ثمَّ دَعَا بِالطَّعَامِ والشَّرَابِ، ففَقَدْتُ الغُلام سَاعَةً، ثم إذا به قدْ جَاء مِنَ الحَمَّام، بجبينِ مُشْرق، وكأَن وَجْهَهُ بَدْرٌ زَاهِر، وقدَّه غُصْنٌ نَاضِر، فقلت: جَرَّدَهُ الحمامُ عَنْ دُرَّةٍ ... تَلُوحُ فيها عُكَنٌ غَضَّهْْ

كأنَّمَا الرَّشْحُ على خَدِّهِ ... طَلٌّ على تُفَّاحَةٍ عَضَّهْ يَالَيْته زوَّدَني قُبْلَةً ... أَوْ لا فَمِنْ وَجْنَتِهِ عَضَّهْْْ فقال لي الحسن: قد عمل فيك النبيذ، فقلت: سقِّيَاني وَصرِّفا ... بِنْتَ حَوْلَيْنِ قَرْقَفا واسْقِيَا المُرْهفَ الغرِي ... رَ سَقى اللَّهُ مرْهَفا بِأبي مَاجنُ السَّرِي ... رَةِ يبْدِي تعطُّفا فَإِذا رُمتُ ذَاك مِنْ ... هـ تَأَبى وَعنَّفا وإذا هبَّ لِلْمنا ... مِ فَقِدْماً تَخَفَّفا فتغاضب الغُلام، وقام وقعد، واشتدَّ حَنَقُه ووعبد ثم قال لي الحسن: أَقْبل على شرابك. وقام، فناولني الغلام قَدَحاً، والحسن قد خرج، فشربتُ وأعطاني نَقْلا فقلتُ: اجْعَلْ لي عِوَضه قُبلة، فَأبى، فقال له فَرَج، غلام

الحسن، وكان يتصرفُ علينا: بحياتي، يَابنيَّ، اسعفه بما طلب، فضحك، ثم دَنامِنِّي، كأنه يُعطيني نَقْلا، وتَغَافَل، فاخْتَلَسْتُ منه قبلة، فقال: هي حرام: فقلت: هَوَّنَ الأمْر عليه فرَجْ ... بِتَأبِّيهِ فَسقْياً لفَرَجْ وَبِنَفْسي نَفْس مَنْ قال وَقدْ ... كان ما كان حرامٌ وحَرَجْ وبتُّ تلك الليلة ناعمَ بالٍ بذلك الغزَال، فلَّما أصبح، انصرفتُ، ثم عدتُ الى الحسن، حين طَلعَ النَّهار، فقال لي: كيف مَبيتُكَ البارحة؟ فقلتُ: تأَلَّفْتُ طَيْفَ غزال الحَرَمْ ... فواصلني بعدما قد صَرَمْ فَغَضَّ الجفون على غَفْلَةٍ ... وأعرض إعراضة المحتشمْ فمازلت أبسطه مادحاً ... وَأُفْرِطُ في اللهو حتى ابتسمْ وحكمني الريم في نفسه ... بشئٍ ولكنه مكتَتمْ فقال لي الحسين: يافاسق! أظن ما ادَّعيت في النوم كان في اليقظة. وأصْلَحُ الأشْيَاءِ بِنَا، أن نُزِيلَ العَارَ عَنَّا، بِهِبَتِهِ لَكَ. فَخُذْهُ، لا بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فيه. قال: وكان ابن الضحاك هذا، شديد الكَلَف بالغلمان، ومُغلِّباً حجة اللُّوطي على الزَّان. وهو القائل في بِشْر غلام أبي عيسى بن الرشيد، حين حجبه، ووَكَل

به حافظه، ومراقبهُ، لَمَّا بَلغَهُ أن أخاه عيسى يتعشقه. واشتدَّ لذلك حنقهُ، وقَلَقه. وكان ذلك الغلام بِشْر يَفْضُلُ رَبَّاتِ الحجال، في الحُسْن والجَمَال، فقال: ظَنَّ مَنْ لاَ كانَ ظناَّ ... بحبيبي بحماهُ أرصَدَ البابَ رقيبَيْ ... نِ بهِ فاكْتَنَفاهُ فإذا ما اشتاق وُدِّي ... ولقائي مَنَعَاهُ جَعَلَ اللَّهُ رقيبَيْ ... هـ من السُّوءِ فِدَاهُ وحكى أبو بكر بن الاشبيلي قال: حضرت مجلس أُنْس الوزير الكاتب أبي بكر بن عمّار بقصر الرشيد، فلما تمكن منَّا الأنْسُ، ودارتْ بيننَا الكأْسُ، ارتجل أبو بكر أبياتاً من الشعر، وقام ينشدها، وجعل يرفع بها صوته، ويرددها وهي: ما ضَرَّ أَنْ قيل إِسْحَاقٌ ومُوصِلُهُ ... ها أنت أنتَ وذي حِمْصٌ وإسْحاقُ أنت الرَّشيدُ وَدَعْ مَا قدْ سَمِعتَ ... به وإنْ تَشابَهَ أَخلاَقٌ وأعرَاقٌ للَّهِ دَرُّكَ دَارِكها مشَعْشَعة ... واحْضُرْ بِسَاقيكَ مَادَامَتْ بناسَاق وحكى الكاتب أبو نصر في كتاب (القلائد) له قال:

دُعيت يوماً الى منية المنصور بن أبي عامر ببلنسية، وهي منتهى الجمال ومُزْهَى الصَّبا والشمال، وعلى وهْيِ بنائها وَسُكُونِ الحَوَادِث بُرْهَةً في فِنَائها، فوافيتها، والصُّبْحُ قد ألبسها قميصه، والحُسْنُ قد شرح بها عويصه. وَبِوَسَطِهَا مجلسٌ، قد تفتحت للروضة أبوابُه، وتوشحت بالأُزْرِ المبهجة أثوابُه. يخترقه جدول كالحسام المَسْلُول، وينساب فيه انسياب الأيم بين الطلول. وضفتاه بالأدواح محفوفة، وهو يروق كالخريدة المزفوفة. وفيه يقول علي بن أحمد أحد شعرائها وقد دخله مع لمة من وزرائها: قُمْ فَاسْقِني والرِّياضُ لاَبسَةٌ ... وَشْياً من النور حَاكهُ القَطْرُ والشمسُ قد عُصْفرتْ غَلائِلُهَا ... والرَّوْضُ تَنْدَى ثيابه الخُضْرُ في مجلس كالسماء لاَحَ لنا ... مِنْ وَجهِ من قدْ هَوِيتُهُ بدْرُ والنهرُ مثلُ الفجر حفَّ به ... من الندَامى كوَاكبٌ زُهرُ

فحللتُ في ذلك المجلس، وفيه أخْدَانٌ، كأنهم الولْدَان وهُمْ في عيش لَدْن، كأنهم منه في جَنَّةِ عَدْن. فأنختُ لَدَيْهم رَكَائبي وعَقَلْتُها، وقلّدت بهم رغائبي واعتقلْتُها. وأقمنا نتنعَّم بحسنه، طول ذلك اليوم. ووافى الليل، فذُدْنا عن الجفون، طروقَ النوم. وبِتْنَابليلة كأن الصُّبْحَ منها مَقْدُود؛ والاغصان تميد كأنها قدود. والمجرةُ تبصرها نَهراً؛ والكواكبُ تخالها في الجَوِّ زَهْراً. والثريا، كأنها راحة تشير؛ وعُطَارِِدُ، لنا بالطرب مشير. فلمّا كان من الغد، وافيتُ الرئيس أبا عبد الرحمن بن طاهر زائراً. فأفضينا في الحديث، حتى انتهينا إلى ذكر منتزهنا بالأمس؛ وما نلنا من المسرات والأنس. فقال لي الرئيس: وما بهجة مكان، قد بان قطينُه وَذَهَبَ؛ وسَلَبَ الزَّمَانُ بَهْجَتَه وانْتَهَبَ، وباد فلم يبقَ إلاَّ رَسْمُهُ؛ ومحاه الحَدَثَان، فما يكاد يلوح وَسْمُه. عهدي به عندما فرغ من تشييده، وَتُنُوهي في تنميقه وتنضيده. وقد استدعاني اليه المنصور، في يوم حلت فيه الشمس بيت شرفها، واكتست الأرض بزخرفها. فحللت به، والدُّوحُ تميس معاطفه؛ والنور يخجله قاطفه. والمدام تطلع فيه كواكبها وتغرب؛ وقد حلَّ فيه قحطان ويَعْرب. وبين يدي المنصور، مائة غلام؛ ما يزيد أحدهم على العشر، غير أربع؛ ولا يحل سوى الفؤاد من مربع. وهم يديرون رحيقا، خِلْتُهَا وكؤوسها دُرّاً

وعقيقا. فأقمنا به، والشهب تغازلنا؛ والأفلاك تنازلنا؛ ووهب المنصور في ذلك اليوم ما يزيد على العشرين ألفاً، من صلات متصلات، وأقطاع ضياع. ثم توحش الرئيس لذلك العَهْد وأفصح ما بين ضلوعه من الوَجْد. وأنشد: سَقْياً لمنزلة الحِمَى وكثيبها ... إذ لا أرى زمنا كأزماني بها وحكى الأستاذ أبو محمد عبد الله بن محمد بن السيد البطليوسي قال: دُعِيتُ إلى مَجْلِسِ أُنْسٍ؛ في ليلة كأن سَمَاءها روضة، تفتحت النجومُ وسطها زُهراً؛ وتفجرت المجرّة خلالها نهراً. وشاحها اليُسْر؛ وسِوارُها البدْر. والمجلس قد احتشد به الأنس والطرب، وقرع فيه نبعُ السُرور بالغَرَب. فكان كالشمس ضياء، وبدر التمام بهجة وبهاء، قد فَاحَ نَسيمُ رَنْدِهِ وَآسِه، ولاَحَ سِرَاجُ تَوَقُّدِ أَكْوَاسِه، وأبدت سرور أباريقه أسرارها، وضمت عليه المحاسن أزرارها، والرَّاحُ يديرها غزال أَوْطَف، وَزَهْرُ الأماني يُقْطَف، والحَدَثَان قد غَضَّ طَرْفه، والسرورُ قد نَشَرَ سَجْفه، فقلت مرتجلا: يا رُبَّ لَيْلٍ قدْ هَتَكْتُ حِجَابهُ ... بزجاجة وَقادَةٍ كَالكَوْكَبِ يَسْعى بها ساقٍ أَغَرَّ كَأَنها ... من خَدِّهِ وَرُضَابِ فيه الأشْنَبِ

بَدْرَانِ بدرٌ قد أمنْتُ غروبهُ ... يسعى ببدر جانح للمغربِ فإذا نعمتَ برَشْفِ بدرٍ غاربٍ ... فانعمْ بِلَثْمِكَ نيِّراً لم يَغرُبِ حَتَّى تَرى زُهر النجوم كَأَنها ... حول المجرَّةِ رَبْرَبٌ في مشربِ واللَّيْلُ منْحَفِزٌ يَطيرُ غُرَابهُ ... والصُّبْحُ يتبعه بِبَازٍأشهب وقد ذكر أبو محمد معنى هذا البيت الأخير، حين وصف مجلس أنس، فأحسن في صفة سقاته، والصبح قد أقبل بميقاته. فَسَمَّى الخمرَ بأحسن أَسْمِائها، وأَثْنى عليها بآلائها. ونَبَّه النُّدَمَاء من نَوْمهم. وحضَّهُم على اصطباح يومهم. فقال: صَاحِ نبِّهْ كلَّ صَاحٍ نَصطَبحْ ... فَضْلَةَ الزِّقِّ الذي كان اغْتَبَقْ قهوةً تحكى الذي في أضلعي ... من جَوَى الحُبِّ ومن نَفْح الحُرَقْ مِنْ يَدَيْ سَاقٍ بَدَا منْ خَدِّهِ ... بدْرَ تمٍّ تحت فَرعٍ كَالغسَقْ خِلْتُها إِذْ غَرَبتْ في ثَغْره ... شَمْسَها أَلْقَتْ بِخَدَّيه شَفَقْ وَكأَن الصُّبحَ عينٌ فُجِّرَتْ ... وكأنَّ الليلَ زِنجيٌّ غرقْ

وكأن النَّجْمَ سرْبٌ لِمَهاً ... رَاعَهُ السِّرحَانُ صُبْحاً فافْترقْ وهذا المعنى، قد تَدَاوَلَهُ الأُدَبَاء، وحَامَ على مسرعه الخطباء منهم والشعراء. وقصدوه قَصْدَ الظمآن للنهر المُطرد، وشَدَوْا على أفنانه شَدْوَ الطائر الغَرِد. أخذه أبو أحمد المنفتل فقال: بتنا كأن حداد الليل شَمْلَتُنَا ... حَتَّى غَدَا اللَّيْلُ في ثوبٍ سَحُولي كأنَّ لَيْلَتنا والصُّبْحُ يتْبَعُها ... زِنجِيَّةٌ هَرَبَتْ قدّامَ رومي قوله: (في ثوب سَحُولي) أي: في ثوب منسوب الى سَحُول، وهو موضع باليمن، تنسب إليه الثياب، والسَّحْل: الثوب الأبيض، وكل ثوب من قطن أبيض، يقال له سَحْل، وهو معروف عند العرب. ومنه قول طرفة: وذالت كما ذَالَتْ وليدةُ مَجْلِسٍ ... تُِري رَبَّها أَذْيَالَ سحلٍ مُمَدَّدِ ومنه أيضاً قول الهذلي يصف حمر وحش: غَدَرْنَاها وكانت في مصامٍ ... كأنَّ سَرَاتهَا سحْلٌ نَسيجُ قال هذا الأصمعي وأبو عبيدة.

وفي الحديث، فيما روى مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما مات، كُفنَ في ثلاثة أثواب بيضٍ سُحُوليَّةٍ، ليس فيها قَميصٌ ولا عمامة. وقد اختلف أهل العلم في كَفَنِهِ صلى الله عليه وسلم. فروى هشام، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال: كُفِنَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في ربطتين، وثوب نَجْرَانِي. وعن ابن عباس أنه قال: كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حلة حمراء، وقميصه الذي مات فيه. وعن جعفر ابن محمد، عن أبيه، أنه كفن في ثوبين صَحَارِيَيْن وثوب حبرة. قال: والصُّحْرَةُ، حُمْرَةٌ خفية الغُبْرَة. يقال: ثَوْبٌ أَصْحَرَ، وَصُحَارِيّ. ومُلاَءةٌ صَحْراء وصَحَارِيَّه. وقال بعض أهل اللغة: الأصْحَرُ ما كان لونه لون الصَّحْراء من الأرض. وقال الأصمعي: الأصْحَرُ قريبٌ من الأصْهَب ويقال: إن الصُّحَاريّ منسوب الى صُحَار: وهي قرية باليمن. وروى معمر عن الزهري، عن أبي سلمة: أن أبا بكر أتى النبي صلى الله عليه وسلم في البيت الذي توفي فيه؛ فكشف عن وجهه بُرْدَ حِبَرَة، ثم أكب عليه فقبله. قال أبو سليمان الخطابي: وأصحِّ هذه الأخبار حديث عائشة؛ لأنها أَعْلمُ بباطن أمره. إذ كان حجب عنه الناس، ووليه نساؤه، وأهل بيته. وقد مات صلى الله عليه وسلم في بيت عائشة وفي حِجْرِها، ودفن في حُجْرَتِها

لم يَخْفَ عليها شيء من أمره. ويشبه أن يكون - والله أعلم - لما مات سُجِيَ بِبُرْدٍ، فمن رآه سُجِي ظن أنه قد كفن فيه. قال: وقد جاء عن عائشة، ما رفع الإشكال في هذا الباب أخبرنا ابن داسة، أخبرنا أبو داوود، أخبرنا أحمد بن حنبل، أخبرنا الوليد بن مسلم أخبرنا الأوزاعي، عن الزهري، عن القاسم بن محمد، عن عائشة قالت: أدرج رسول الله صلى اللله عليه وسلم في ثوب حبرة، ثم أخر عنه. قال أبو إسحاق: ومما يؤيد قول أبي سليمان، حديث مالك عن يحيى بن سعيد قال: بلغني أن أبا بكر الصديق، قال لعائشة، وهو مريض: في كم كُفِنَ رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: في ثلاثة أثوابٍ بيضِ سُحُولِيَّةٍ والحديث بطوله في (الموطأ). وفيه أيضا عن هشام بن عروة،

عن أبيه، عن عائشة، زوج النبي صلى الله عليه وسلم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كفن في ثلاثة أثواب، بيض سحولية، ليس فيها قميص، ولا عمامة. رجع وأخذه أبو بكر بن ظَهَار فقال: عَلِّلاني فَإِنَّمَا أنا حَيْثُ ... جَادَ رَوْضَ الهَوَى من الوَصْلِ غَيثُ وَكَأَنَّ الظَّلاَمَ لَما تَوَلى ... نَمِرٌ رَاعَهُ منَ الفَجْرِ لَيثُ وإنما ألمَّ الأستاذ أبو محمد في قوله: والليل مُنْحَفِزٌ يطير غرابُه البيت. بقول الأمير تميم بن المعز، في لفظه ومعناه. حيث يقول: وكَأَنَّ الصَّبَاحَ في الأُفْقِ بازٌ ... والدُّجَى في مَخَالِبَيْهِ غُرَابُ وقد كرره تميم في قوله أيضا: وانْظُرْ إِلَى اللَّيْلِ كَالزَّنْجِي مُنْهَزِماً ... والصُّبْحُ في إِثْرِهِ يَعْدُو بِأشْهَبِهِ وأخذه أبو الحسن التهامي فقال:

أُحْيِي لَيالي بِتُّهَا وتُميتُنِي ... ويمُيتُهُنَّ تَبَلُّجُ الأَنوَارِ حتى رأيت الفَجْرَ ترفع كَفَّه ... بالضوءِ رفرفَ خيمةٍ كَالقارِ والصبحُ قد غَمَرَ النُّجُوم كَأنهُ ... سَيْلٌ طَمَا فَطَفَا عَلَى النُّوَارِ وأخذه أبو محمد الصقلي فقال: مَازِلْتُ أشْرَبُ كأسهُ من كفِّهِ ... ورُضَابُهُ نَقْلٌ عَلى مَا أَشربُ حتَّى انْجَلَى الإِصْبَاحُ عن إظْلامِهِ ... كالسَّتْرِ يُرْفَعُ عن مليك مُحْجَبُ وأخذه الآخر فقال: في ليلةٍ أكل المِحَاقُ هلالها ... حتَّى تََبَدّى مثلَ وَقْفِ العاجِ والصُّبْحُ يَتْلو المشتري فَكَأَنهُ ... عُرْيَانَ يَمشي في الدُّجَى بسراج وأخذه أبو جعفر بن الأبار فقال: والصبح ينشر من سَنَاهُ صوارما ... والليلُ يرفعُ منْ دُجَاهُ سُدُولا

وكَأَنَّ جُنْحَ اللَّيْلِ طرْفٌ أَدْهمٌ ... متَضَمِّنٌ من صُبحه تحجيلا وما أحسن قول ابن المعتز في هذا المعنى وهو: فَإنْ شئتُ غادَتْني السُّقَاةُ بكَأسها ... وقد فتح الإِصْبَاحُ في ليلهِ فَما فَخلتُ الدُّجَى والليلُ قد مدَّ خَيْطهُ ... رداءً مُوَشّىً بالكَواكبِ مُعْلماَ وفي هذا المعنى من قول ابن المعتز؛ أنشد أبو بكر ابن دريد، عن عبد الرحمان، عن عمه، عبد الملك الأصمعي لرجل من العرب: كَأَنَّ بَقَايَا الليل في أخريَاته ... مُلاَءٌ تُنَقَّى من طَيَالِسَةٍ خُضْرِ تَخَالُ بَقَايَاهُالتي أَسْأَر الدجى ... تَمُدُّ وشيعاً فَوْقَ أَرْدِيةِ الفَجْرِ شبهها بالوشيع، لما تراءى في خلاله، من خيوط بياض وسواد قال: وَلِهَذَيْنِ البَيْتَيْن، خبرٌ عجيب، ونبأٌ غريب، يَجْنَحُ لسماعه كل أديب. ويُستَحْسَن موقعه في القلوب. حكاه أبو علي البغدادي عن أبي بكر بن دريد، عن أبي حاتم، وعبد الرحمان، ابني أخي الأصمعي عن الأصمعي. قال: نزلت بقوم من غَنِيٍّ مجتورين، هم وقبائل من بني عامر بن صعصعة فحضرتُ ناديا لهم، وفيهم شيخ طويل الصمت، عالم بالشعر وأيام الناس. يجتمع إليه فتيانهم، ينشدونه أشعارهم. فإذا سمع الشعر الجيد، قرع الأرض قرعة، بمحجن في يده، فَيَنْفذُ حكمهُ على من حضر، بِبَكْرٍ للمنشد. وإذا سمع ما لا يعجبه، قرع رأسه بمحجنه، فينفذ حكمه عليه، بشاة، إن كان ذا غنم، وابن مخاض، إن كان ذا إبل فإذا أُخِذَ ذلك، ذبح لأهل النَّادي. فحضرتهم

يوماً، والشيخ جالس بينهم. فأنشده بعضهم بيتين في وصف قطاة: غَدَتْ في رَعِيلٍ ذي أَدَاوَى مَنُوطَةٍ ... بِلَبَّاتِها مدبوغَةٍ لَمْ تُمرَّخِ إِذَا سَرْبَخ عَطَّتْ مَجَالَ سَرَاته ... تَمَطَّتْ فَحَطَّت بين أَرْجَاءِ سَرْبَخ فقرع الأرض: بمحجنه وهو لا يتكلم، ثم أنشده آخر في وصف ليلة: كأن شميطَ الصُّبح في أخرياتها مُلاء ........... البيتين المذكورين. قال: فقام الشيخ كالمجنون، مصْلتا سيفه حتى خالط البرْكَ، فجعل يضرب يمينا وشمالا وهو يقول: لاِ تُفْرِغَنْ في أذُنَيَّ بَعْدَها ... مَا يَسْتَفِزُّ فَأُريكَ فَقْدَها إنِّي إذا السيف تولى ندَّها ... لا أستطيع بعد ذاك رَدَّها وهو معنى مشهور. وفي الأشعار منه كثير. وأرى أبا جعفر التطيلي إليه أومأ، وعليه نبَّه، وبه أنبأ، حيث يقول: كمْ لَيْلَةٍ جُبْتُ مَثنى طُولها بفَتىً ... شَتَّى التََّسَالك بَيْنَ النَّفْعِ وَالضَّررِ حَتىَّ بدَا ذَنَبُ السِّرحان لِي وَلها ... كَأنَّمَا هُو زَنْدٌ بالصَّباحِ يرِِِي

وفي قوله أيضا، من قطعة، هي ثابثة في مكانها من هذا الكتاب: وَالصُّبْحُ يَقْدَحُ فِي الظَّلْمَاءِ نَائِرَةً ... كَأَنَّهَا نَفْثَةُ المَصْدُور عَن حَنقِ والشَّرْقُ يَفْهَقُ وَالآفاقُ وَارِدَةٌ ... وَأَنْجُمُ اللَّيْلِ قَدْ أَيْقَنَّ بِالبَلقِِ وقد أخذ الوزير الأجل أبو عمرو بن غياث شيخنا بيت تميم: وانظر الى الليل كالزنجي البيت، فقال من قصيدة له طويلة: يَا سَارياً ملَّ السُّرى الكَوْكبُ ... وَأَنْتَ تَسْرِي كَمْ وَكَمْ تدْأَبُ كَأَنْ لَمْ تُبْصِرْ كُمَيْتَ الدُّجى ... يَرْهَقُهُ مِنْ صُبْحهِ أَشهَبُ وَمِنْ قَوْلِي فيهِ من قَصِِيدَةٍ فِي التغزل: كَمْ لَيْلَةٍ بِتُّها حَرَّانَ مُكْتَرثاً ... رَهْنَ الأَسى وَظَلامُ اللَّيلِ معْتَكرُ ما بين ضدَّين من نارٍ مُؤجَّجةٍ ... ودمعُ عَيْني بماءِ الشوقِ يَنْهمرُ ما بين خدين لا والله ما اجتمعا ... إلاَّ لأمر كبار ليس يُحْتَقَرُ حتى رأيت كُمَيْتَ الليل منهزماً ... وأَشهبَ الصبح قد وافى به السَّحَرُ وفيما أثبتُ منه كفاية، وَمَنِ الَّذي في وُسْعهِ أن يُحيِط بالغاية؟ والأستاذ ابو محمد بن السيد رحمه الله في أدباء (الأندلس) وأعْلامِها مشهور؛ وله من النحو والأدب حظ موفور. وكان منفردا في فهمه ونُبْلُه؛ ومعروفا بالصحة في حكايته ونقله وله (شروحات) وتواليف دلَّت على ذكائه، وبراعته، وتهذيبه، وفصاحته: منها كتابه على (أدب الكتاب) المسمى بكتاب (الاقتضاب) وشرحه

(لسقط الزند) للمعري، جوَّد فيه وأتقن، وبالغ في الإيضاح وأحسن. وبلغ في (المثلث) الغاية؛ بل زاد علي النهاية. الى رقة الطبع والمنزع؛ وحلاوة المعاني والمشرع. سريع الارتجال؛ مليح الوصف لأهل الحسن والجمال. وله في التغزل مُعَشَّرات، أحسن إيات من الشمس، وأجرى من النَّفْسِ في النَّفَسِ. عارض فيها أبا الحسن الحصري فما قصر عنه، وان لم يكن ساواهُ، فلقد دنا في الإبداع منه. مولده سنة أربع وأربعين وأربع مائة. وتوفي ببلنسية في رجب الفرد سنة إحدى وعشرين وخمس مائة. رحمة الله عليه وبركاته. ذكر مولده ووفاته ابن الصيرفي في تاريخه وحكى أنه حضر مع ابن ذي النون، المتسمى من الألقاب السلطانية بالقادر بالله رئيس طليطلة. أحيا الله بنور الإيمان رمقها ووسمها، وأعاد

في ديوان المسلمين رسمها، مجلس أنس في (المنية) المتناهية في البهاء والإشراق، الجامعة لمحاسن (اليمن) و (العراق) التي تتفجر أبدا وتقطر، وتكاد من الغضارة تمطر، والقادر بالله قد التحف بالوقار، وَارتداَه، وحكم العقار في جوده ونداه، والدولاب يئن كناقة اثر الحُوار، أو كَثكْلى مِنْ حَرِّ الأُوار، والمجلسُ قد راق في أعين الناظرين، ونغماتُ العود والقيان تَنْحَرُ السَّامعين، فكأنه لحُسْنِهِ الشمس في الحَمَلِ، وأَهله قَد ابتهجوا بِنَيْلِ الأَمل، والجَوُّ قد عنبرته أنواره، والروضُ قد ذهبته أنداؤه. والأسْدُ قد فغرت أَفْوَاهَهَا، ومجَّتْ أََمْوَاهَهَا. فقال: أبو محمد مرتجلا: يا منظراً إِنْ رَمَقْتُ بَهْجَتَهُ ... أَذْكَرَنيِ حُسْنَ جنَّةِ الخلْدِ تُرْبَةُ مسكٍ وَجَوُّ عَنْبرَةٍ ... وَغَيْمُ ندٍّ وطشُّ ما وردِ وَالماءُ كاللاَّزَوَرد قد نُظِمَتْ ... فيِه اللآلي فواغِرَ الأُسدِ كَأَنما جَائِلُ الحبابِ بِهِ ... يَلعَبُ في حافَتَيْهِ بالنرْدِ تراهُ يُزْهَى إِذا يَحِلُّ به ال ... قادرُ زَهْوَ الفتاةِ بالعقدِ تَخَالُهُ إَنْ بَدا لِناظِرِهِ ... بَدْراً بداَ فِي مطالع السَّعْدِ كأَنَّما أُلبِسَتْ حَدائِقُه ... ما حَازَ مِنْ شيمَةٍ وَمِنْ مجدِ كَأنّمَا جادَها فَرَوَّضهاَ ... بنائلٍ من يمينه رغْدِ الرَّغْْدُ، النَّفْعُ الواسِعُ الكثير، الذي ليس فيه تعب ولا عناء.

وقال أبو بكر ابن دريد الرَّغْد: السعة في العيش والمرعى. يقال: عَيْشٌ راغِدٌ، وَرَغْدٌ وَرَغيِد. وقالَ صَاحبُ العين عَيْشٌ رَغَدٌ رَغيِدٌ: رَفيِهٌ. وقال أبو عبيدة: الرَّغْدُ، الكَثيرُ الذي يقيك من ماء، أو عيش، أوكلاء، أو مال. يقال: قد أرْغدَ فلان، اذا أصاب عيشا واسعاً. وأرغد الرجل ماشيته، إذا تركها وَسوَْمَهَا فى المرعى. والرَّغِيدَة، الزُّبْدَةُ فى بعض اللغات. وقال الأعشى يصف نيل مصر، بالرَّغَد والكثرة: زبِداً بِمِصْرٍ يَوْمَ يَسْقيِ أَهْلَهَا ... رَغْداً تُفَجِّرُهُ النَّبيطُ خِلاَلَهَا وقال الله سبحانه (وكُلاَ منها رَغَداً حيث شئتما). قرأ النخعي، ويحي بن وثاب، رغدا، بإسكان الغين، وفتحها الجمهور من القراء. وهي اللغة المستعملة الفصيحة. ويقال: قوم رَغَدٌ، ونساء رَغَدٌ. وحكى بعض الرواة: أن المعتمد بن عباد اختص ذات يوم، بجواريه

وكرائمه، وشرب حتى أخذت منه الحميّا ثارها؛ وأبدت له الاماني اسفارها. فمشت بين يديه جارية، من تلك الجواري؛ وهي كالشمس تحلت بالدراري، وعليها غلالة، لا تُخفي نضرة جسمها، وقد أسلبت ذوائب، يخفى ضوء الشمس في مدلهمها. فسكب المعتمد عليها إناء ماء وَرْد، كان بين يديه. فامتزج الدَّلُّ ليناً واسْتِرْسَالاً؛ وتشاكل طيبا وجمالا. فأدركت المعتمد أريحيةُ الطرب؛ ومالت به راح الأدب فقال: وَهَوِيتُ سَالِبَةَ النُّفُوسِ غَرِيرَةً ... تَخْتَالُ بين أسنّةٍ وبَوَاتِر ثم تعذر عليه المقال؛ أو شغلته عنه تلك الحال. فأمر بعض الخدم، أن يسير إلى النَّحْلي، ويأمره بإجازة البيت. فلما بلغ الرسول إلى النحلي، وأعلمه بالحال، وأضاف إلى البيت من حينه: راقَتْ مَحَاسِنُهَا ورَقَّ أَدِيمُها ... فَتكَادُ تُبْصِرُ بَاطِناً من ظَاهرِ وتَمَايلَتْ كالغُصْنِ هَزَّتْهُ الصَّبا ... والتَفَّ في وَرَقِ الشَّبَابِ الناضِر يَنْدَى بِمَاء الوَرْدِ مُسْبِلُ شَعْرِهَا ... كالطلِّ يَسْقُطُ من جَنَاحِ الطَّائرِ

تَزْهَى بِروْنَقِهَا وحسنِ جَمَالها ... زَهْوَ المؤيَّد بالثَّنَاء العَاطرِ مَلِكٌ تضَاءلَتِ المُلوكُ لقدْرهِ ... وَعَنَا لهُ صَرْفُ الزَّمَانِ الجَائرِ وإذا لَمَحْتَ جَبِينَهُ وَيَمِينَهُ ... أَبْصَرْتَ بَدْراً فَوْقَ بحرٍ زَاخرِ فلما وصلت الأبيات الى المعتمد ولمحها، استغربها واستملحها. وتعجب من موافقة الغرض، واستعذاره. وأمر في الحين بإحضَارِه. فلما وصل إليه، قال له: أصبتَ وأحسنت. أَوَ معَنا كنت؟ فقال له النحلي: يا قاتل المحْل أو ما تلوت (وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ). فزاد المعتمد هذا الجواب عجبا؛ واهتز له استغرابا وتعجبا. وقرَّبَ النحلي وأدناه، ووهب له من المال ما أرضاه به، وأغناه. وحكى الفقيه الكاتب، أبو محمد بن عبدون، أنه ساير المتوكل على الله أبا المظفر بن الأفطس إلى مدينة (شنترين)، أعاد الله للمسلمين مُلْكها؛ وزين

بنور الإيمان سِلْكَها؛ وطهر بالهدى رِجْسَهَا وإِفْكَهَا وهي عَلَى ضفة نهر، استدار بها استدارة القُلْبِ بالسَّاعِدِ؛ فحكت واسطة عقد، على نَحْرِ كَاعِبٍ نَاهِد. قد أطلت على خَمَائِلِها إطلال العروس من منصتها، واقتطعت في الجو أكثر من خصتها. ولها جَنَابٌ خَصيب، يروق منه مرأى عجيب. فمروا بقصر يلبش، وقد سالت جداولُه، واخْتالت خَمَائلُه. فما تجول به العينُ إلا في مدينة غشاء، أو بقعة أنيقة زهراء. فتلقاهم الأديب أبوزيد بن مقانا، قاضي حضرته. فأنزلهم، وأوْرى بالمبَرَّة زنده لهم، وقدم لهم طعاما، واعتقد قبوله منه، منّاً عليه وإنعاما. فطعموا، وقَعَدَ القاضي بباب المجلس رقيبا لا يبرح، وعين المتوكل حياء منه لا تجول ولا تَمْرح. فخرج أبو محمد، وقد أضرمه بتثقيله، وحرمه راحة رواحه ومقيله، فلقي ابن خيرون منتظرا له، وقد أعد لحلولهم منزله، فصار معه أبو محمد إلى مجلس، قد ابتسمت ثُغُورُ نُوَاره، وخَجِلَت خُدُودُ وَرْدِه من زوَّارِه. وأبدتْ صُدُور أباريقِه أسرَارَها، وضمت عليه المجالس أزرارها. وحين حضروقت الأنس وحينه، وتأرَّجتأزْهَارُه ورياحينه، وجه مَن يَرْقُب المتوكل حين يقوم جليسه، ويَزولُ موحِشُه لا أَنِيسُهُ. فأقام الرسول، والقاضي بمكانه لا

يَرِيمُهُ، قد لازَمَهُ كَأَنَّهُ غَريمُهُ. فما انفصل، حتى ظن أن عارِضَ الليل قد نَصَل. فلما علم أبو محمد بانفصال القاضي عن المتوكل، وقد أضَرَّ به من شدَّة التثقل، بعث إليه قطيع خَمْر، وطبق وَرْد، وكتب إليه: إليكَهَا فَاجْتَلِهَا مُنيرَةً ... وقَد خَبَا حتّى الشِّهَابُ الثَّاقِبُ وَاقِفَةً بالبابِ لَمْ يُؤْذَنْ لَها ... إلاَّ وَقَدْ كَادَ يَنامُ الحَاجبُُ فَبَعْضُها من المَخَاف جَامدٌ ... وَبَعْضُهَا من الحَيَاءِ ذَائبُ فلما رآها المتوكل، وضعها أمامه، وكتب إلى أبي محمد ببيتين هما: قَد وَصَلَتْ تِلْكَ التي زَفَفْتَهَا ... بِكْراً وَقَدْ شَابَتْ بِهَا ذَوائبُ فَهُبََّّ حتى نستَردَّ ذَاهِبا ... من يَوْمِنَا إن استُردَّ ذَاهبُ فصار إليه أبو محمد، ونقل ما كان في المجلس، فوضع بين يدي المتوكل، وباتا ليلتهما، لا يَريمَان السَّهَر؛ ولا يشيمَان برقا إلا الكأس والوَتَر. قال واصطبح المعتمد في بعض أيام مُلْكه، وسعدُه مستقيم على فلكه، والدهر من خُدَّامه، والنصر مُلازِمٌ لأعلامه والأرضُ قد نَشَرَت مُلاَءَها؛ وَسَحَبَتْ رِدَاءَها وَجَرَّتْ فوقها ذُيُولَ السَّحَابِ؛ فاكتَسَتْ أحْسَن جِلْبَاب. واهتَزَّ الرَّوْض لتغريد حَمَامه؛ وبرز الوردُ من كِمَامه، والأشجارُ قد نشرت شعرها؛

والاماني قد أماطت عُبُوسها، وأبدت بشرها، وهو إذ ذاك في قصره الذي طويل الوصف فيه قصير، والواصف دون بلوغ مداه حسير. فدخل عليه ابنه الرشيد فأمره بإحضار أَهْلِ أُنْسِه، المختصين بمشاهدة مَجْلِسِه؛ من الوزراء الكِرام، والكتاب، والأدباء المشاهير الأعْلام، ممن اشتهر بالذكاء والفَصَاحَة، وسُمِّيَ بالجزالة والرَّجاحة، فلما كَمُلَ أُنْسُ المَجلس ورَاقَ، وقام السُّرُور به على سَاق. قال لهم المعتمد: قلت البارحة بيت شعر وهو: بعثنا بالغَزَال إلى الغَزَالِ ... وبالشمسِ المنيرةِ لِلْهِلاَلِ وأحبّ أن يذَيّل عليه. وذلك أنه، كان قد أمر بصناعة غَزَالَيْن من ذهب، فصنعا معا من سبع مائة مثقال خالصة. فأهدى أحدهما إلى ابنه الرشيد. والآخر إلى الحرة المصونة ابنة ابن مجاهد. وقال البيت المذكور. فذيله الأديب أبو القاسم بن مَرْزُقان فقال: فَذَا سَكَني أُسَكِّنُهُ فؤادي ... وذا َنجْلي أقَلِّدُهُ المَعَالي

شَغَلْتُ بذَا وذا خَلَدي ونفسي ... ولكني بذَاكَ رَخيُّ بالِ دَفَعْتُ إلى يدَيه زمام مُلكي ... مُحَلَّى بالصَّوَارِمِ والعَوَالي فَقَامَ يُقرُّعَيْنِي في مَضاءٍ ... ويَسْلُكُ مَسْلَكِي في كُلِّ حال فَدُمتَ للعَلاء ودَامَ فينَا ... فَإنّا للكفَاح وللنزال فَسُرَّ المعتمد بهذا القول واستحسنه، وقرب أبا القاسم من نواله ومكنه، واستغرب إصابته الغرض، وأثبت له راتباً جَزْلاً وَفَرْض وأَمَرَه ألا يغيب عن مجلسه؛ وأدناه زيادة على ما كان في يومه وأمسه. قوله: (فذا سَكَني) قال أبو بكربن دريد السَّكَنُ، صَاحِبُكَ الذي تَسْكُن إليه. فقال: فلان سَكَني وقال الله تبارك وتعالى: (فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا) أي تسكن فيه الحركات. والسكَنُ أيضا، الرَّحْمَة والبركة، قال الله تعالى وجلّ (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ) قرأ حمزة، والكسائي، وخلف بن هشام في اختياره، وحفص عن عاصم بالتوحيد،

وقرأ سائر القراء بالجمع لأنها صلوات جماعة. والإفراد لأنه مصدر يقع على القليل والكثير. وقد وافق حمزة والكسائي وحفصا عن التوحيد، جماعة من غير السبعة، منهم الأعمش وحُمَيْد وابن وثاب. والتّوحيد اختيار أبي عبيد. وقال: الصلاة بالتوحيد عندي، أكثر من الصلوات. ألا تسمع قول الله تعالى (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ) للصلوات، لا يتكلم بها إلا على العدد، كقولك: ثلاث صلوات، وأربع وخمس. وقال صاحب العين سَكَنَ يَسْكُنُ سُكُوناً، إذا ذهبت حركته. ويقال: سَكَنَتِ الرِّيح، وَسَكَنَ المَطَر، وسَكَنَ الغَضَب وسَكَنَ في معنى سَكَتَ. وهو المستعمل في أشياء كثيرة وفي كتاب الله تعالى (وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ)، أي سَكَنَ. شبّه سُكُوت الغضب، بسكوت الناطق، من حيث كان ثُؤْرُهُ، كالناطق، وسُكُونُه كالسُّكُوتِ، وقيل هو من المقلوب. والمعنى ولما سكت موسى عن الغضب فهو كقولهم: أدخلت القلنسوة في رأسي والسَّكْن بسكون الكاف، هو العيال، وهم أهل البيت، ومنه قول الشاعر: لَيْسَ بِأَسْفَى ولا أَقْنَى ولا سَعَلٍ ... يُسْقَى دَوَاءَ قَفِيِّ السَّكْنِ مَرْبُوبِ

والسَّكَن أيضا المنزل، والسَّكْن السُّكانُ، والسَّكينة الوداعة والوقار. يقال: فلان ساكن هاديء وقور وفي حديث أبي هريرة فيما روى محمد بن عمرو عن أبي سلمة عنه، إذا ثُوِّبَ بالصلاة، فلا تأتوها وأنتم تسعون، واتوها وعليكم السكينة. أي: الوقار. فهي فعيلة، من السكون الذي يراد به الوقار، لا السكون الذي هو ضد الحركة. فأما قوله تعالى: (أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) فاختلف أهل العلم فيه. فقال علي رضي الله عنه: السَّكِينَةُ رِيحٌ هَفَّافَةٌ، لها وجه كوجه الانسان رواه سفيان عن سلمة بن كهيل عن أبي الاحوص عن علي.

والهفافة السَّرِيعَةُ المَرِّ، يقال: هَفَّتْ، تَهِفُّ، هفيفا. ومنه قول ذي الرمة: إِذَا مَا نَعِسْنَا نَعْسَةً قُلْتُ غَنِّنَا ... بِخَرْقَاءَ وارْفَع من هَفِيفِ الرَّواحِلِ وقال مجاهد: لها رَأْسٌ وذَنَبٌ، كرأس الهرِّ وَذَنَبِه. وكذا قال ابن عباس، إلا أنه قال: لها عينان، لهما شعاع، اذا الْتقى الجمعان، أخرجت رأسها، ونظرت إليهم، فينهزم الجيش من الرعب، وعنه أنه قال: هي طَسْتٌ من ذَهَب، كانت تغسل فيه قلوب الأنبياء. قوله: (هي طَسْتٌ) فالطَّسُّ مؤنثة أعجمية معربة. يقال: الطَّسُّ، والطَّسْتُ، والطَّسَّة بفتح الطاء، والطِّسَّة بكسرها وتصغيرها طُسَيْسَة والجميع طِسَاسُ، وَطَسَّاة ٌ، وَطُسُوسٌ، وطُسُوتٌ أيضا، وطسيسٌ. وهو من الجمع الشاذ، مثل كلب وكليب، وفحل وفحيل. وقال وهب هي روح من الله، يكلمهم، اذا اختلفوا في شىء بيَّنه لهم. الضحاك: هي الرَّحمة. عطاء: هي ما يعرفون من الآيات فيسكنون إليها.

وقال الحسن كانت سكينة بني إسرائيل، ما في التابوت من ميراث الأنبياء، وكان فيه عصا موسى، وعمامة هارون الصفراء، ورصاص اللوحين اللذين رفعا. جعل الله لهم ذلك سكينة. لا يفرون عنه أبدأ، وتطمئن قلوبهم إليه. وقال مقاتل في تفسيره: كان في التابوت رأس كرأس الهِّرَّة، إذا صاح كان الظفر لبني اسرائيل. والسَّكْنُ أيضا: الناروالجميع الإسكان. قال الراجز: قُوِّمَنْ بالدُّّهْنِ وبالإسكان والمسكينُ الذى لا شيء له. وربما جعل الناس المسكين في غير موضعه، فيجعلونه الفقير قال أبو عبيدة وليس كذلك، لأن الفقيرالذي له شىء، والمسكين الذي لا شيء له. وأنشد أبو عبيدة: أَمَّا الفقير الذي كانت حَلُوبتُهُ البيت.

فأما قوله تعالى: (أما السَّفينة فكانت لمساَكِين يَعْمَلونَ فيِ البَحْر) فقال أبو حاتم أحسبه أنهم كانوا شركاء في سفينة لا يملكون سواها فخالف أبا عبيدة. والمسكنة مصدر فعل المسكين. يقال: تَمَسْكَنَ الرجُل إذا صار مسكينا ووزنه مِفْعِيل. والسُّكَّان، ذَنَبُ السفينة الذي تعدل به. والسِّكّين، فِعِّيل من قولهم: ذَبَحْتُ الشيء، حتى سَكَنَ اضطرابه. يذكر ويؤنث وجمعه السَّكاَكين وأصل الباب كله السُّكُون. وهو ضد الحركة، لأن السكون، والهدوء، والثبوث، نظائر وكذلك الاستقرار والاطمئنان والثبات والمسكن والمأوى والمثوى نظائر. وقال الله تبارك وتعالى (يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) أي: اجعلها تأوي فيه، وتسكن إليه. ويقال: اسْكُنْ؛ أي استقر في مكانك، ولا تتحرك. ويقال: سَكَنَ يَسْكُن سُكُونا، وأَسْكَنَهُ إِسْكَاناً. وسَكَّنَهُ تَسْكِيناً، وسَاكَنَهُ مُسَاكَنَة. وفلان يَتَمَسْكَنُ لربه. رجع وحكى إبراهيم الموصلي قال: جمع الرشيد ذات يوم بين المغنين، فلم يبق أحد من الرؤساءإلا حَضَر. وكنت فيهم. وحضر معنا أبو صدقة

مسكين المدني، وكان يوقِّع بالقضيب، مطبوعا حاذقا، طيب العشرة، مَليح النادرة. فاقترح الرشيد حين عمل فيه النَّبيذ، صوتا. فأمر ابن جامع، صاحب الستَّارة أن يغنيه إياه، ففعل؛ فلم يطرب عليه. ثم فعل ذلك بجماعة ممَّنْ حضر، فلم يحرك منه أحد. فقال صاحب الستارة لمسكين المدني: يأمرك أمير المومنين، إنْ كُنت تُحسن هذا الصوت تُغَنيِّه. قال إبراهيم: فاندفع فَغَنَّاه، فَأَمسكنا جَميعا متعَجِّبين، من جرأةِ مِثْله على الغِنَاء بحضرتنا، في صوت، قد قصرنا فيه، عن مراد الخليفة. قال إبراهيم: فلما فرغ منه، سمعت الرشيد يقول، وقد رفع صوته: أحسنت - والله يا مسكين - وأجملت، أَعِدْه! فأعاده بِقُوَّة ونَشَاط، واجتماع قلب، فأحسن فيه كل الإحسان، فقال الرشيد: أحسنت - والله يا مسكين وأجملت. ثم أمر برفع الستارة بيننا وبينه، فقال له مسكين: ياأمير المومنين، إن لهذا الصوت خبرا عجيبا. قال: وما هو؟ قال: كنت عبدا خياطا لبعض آل الزبير، وكانت لمولاي عليَّ ضريبة أدفع إليه كل يوم درهمين، فإذا فرغت من ضريبتي، تصرفت في حوائجي وكنت مولعا بالغناء، ومحبا له. فخِطتُ يوما قميصا لبعض الطالبيين، فدفع إلي درهمين، وتغذيت عنده، وسقاني أقداحا،

فخرجت، وأنا فرحان جذلان. فلقيتني سوداء، على عاتقها جرة، وهي تغني هذا الصوت؛ فأذهلتني عن كل مهم، وأنساني ما سمعت منها كل حاجة. فقلت لها: بحق صاحب القبر، أَلاَ أَلْقَيْتِ عَلَيَّ هذا الصَّوت. فقالت: وحقِّ صاحب القبر، لاَ أَلْقَيْتُهُ عليك، إلا بدرهمين. فأخرجت - والله يا أمير المومنين - الدرهمين اللذين أعددتهما للضريبة، ودفعتهما إليها فحدَّرَت الجَرَّة عن عاتقها، وقعدت تُوَقِّع عليها، واندفعت تغنيه. فما زالت تردده عليّ، حتى كتب في صدري. وانصرفت إلى مولاي؛ فلما رآني، قال: هَلُم خراجك فقلت: كان وكان. فقال يا ابن اللخناء ألم أتقدم إليك، إني لا أقبل لك عذرا، في حبة تكسرها، ثم بَطَحَني، فضربني خمسين جريدة، بأشد ضرب يكون. وحلق رأسي، ولحيتي. فبت - يا أمير المومنين - أسوء خلق الله حالا. وأنسيت الصوت، من حرارة ما نالني من الضرب. فلم يكن شيء، هو أشد عليّ من نسيان الصوت فلما أصبحت، غطيت رأسي، وأخذت جَلَمي في كمي، ومضيت نحو الموضع الذي لقيت فيه السوداء. فبقيت كالمتحيِّر، لا أعرف لها إسما، ولا منزلا، فلم أبرح على تلك الحال، حتى بصرتُ بها مقبلة؛ فأنسيت كل ما نالني عند رؤيتها، وملت إليها، فقالت: أنسيت، ورب الكعبة، الصوت. فقلت لها: الأمر كما ظننت. وعرفتها ما اتفق

لي، وما كان من حلق رأسي، ولحيتي، بعد ضربي. وقلت: أرعى في الأجر وردديه علي فقالت: وحق القبر، ومن فيه، لارددته عليك الا بدرهمين، فأخذت جَلَمي، فرهنته على درهمين، دفعتهما إليها. فحدرت الجرة عن رأسها، وفعلت كما فعلت بالأمس، واندفعت تغني؛ فَسَاعة مَرَّت في الصوت، قلت لها: رُدِّي عليّ الدرهمين، لا حاجة بي في غنائك. فقالت: والله، لا تراهما، ولا تطمع في ردهما إليك أبدا ثم قالت: كأني بك، وقد أخذت مكان الأربعة دراهم، أربعة آلاف دينار من الخليفة. ثم جعلت تغنيه، وتوقع على جرتها، وتردده عليّ، حتى رسخ في قلبي ثم مضت عني، وانصرفت إلى مولاي حَذِراً، وَجِلاً منه. فلما رآني، قال: هلم خراجك، فلويته لساني، فقال: يا ابن اللخناء! ألم يكفك ما مر عليك في أمسك؟ فقلت: أصدقك ولا أكذبك. إني اشتريت بخراجي، أمس واليوم، هذا الصوت، ثم اندفعت أغني، فقال لي: ويحك معك مثل هذا الصوت، منذ يومين، ولم تعلمني، امرأته طالق، لو كان يملك شيئا سواك لأعتقتك وأما حلق الرأس واللحية فلا حيلة لي فيهما، وأما خراجك، فقد وهبه الله لك إلى أن ينبت شعرك. قال: واستضحك الرشيد، وقال له: ما أدري أيها أحسن، أحديثك أم غناؤك؟ وقد أمرت لك بما حكمت به السوداء. ولم يبرح من مجلسه، حتى قبض الأربعة آلاف دينار. قال: وكان الشعر المذكور:

قف بالمنازل ساعة فتأمل ... هل بالديار لزائر من منزل مَا بالدِّيار منَ البِلَى وَلَقَد أرى ... أن سوف يحملني البِلى في مَحْمَلِ وحكى بعض الوزراء بإشبيلية، قال: خرج المعتمد في بعض الأيام، يريد (لورقة) ليتطلع على أحوالها، ويتفقد جميع أعمالها. فاشتد وجده بمن كان يهوى، وتحقق أنه على البعد ليس يقوى. وألم به شغفه وهيامه، وغلب على قلبه غرامه فوصل (لورقة) ليلا، واستدعى القائد أبا عيسى بن اليَسَع في ساعة لم يخف فيها زائر من مراقب، ولم يبد في الأفق غير نجم ثاقب فَريعَ القائد أبو عيسى لذلك، وجَزِعَ جَزَعاً شديدا هنالك، حتى ودع من تَخَلَّف؛ وَأَوصى بِمَا خَلَّف، وسار إلى المعتمد فوصل، وما للأمن إلى قلبه وُصول، وهو يتخيل أن الجوّ صَارمٌ وَنُصُول. فلما مَثُلَ بين يديه، وسَلَّم عليه، قرَّبَه المعتمد وآنسه، وسكَّن رعبه وتوَجُّسَه،

وأخذا في الحديث ساعة. وليس للمعتمد في كتمان حاله استطاعة فقال للقائد: خرجت من (اشبيلية)؛ فحدث في النفس غرام طوته ضلوعي؛ وكفكفت به غَرْب دموعي بفتاة هي الشمس، أو كالشمس إخالها: لا يجول قُلْبُها ولا خلخالها. وفيها أقول عند وداعها، يوم تفطر كبدي وانصداعها: ولما التقينا للوداع غديةً ... وَقَدْ خَفَقَتْ في ساحة القصر راياتُ بكينا معاًً حتى كأن عيوننا ... بِجَرْي الدموع الحُمرمنها جِراحاتُ وقد زارتني هذه الليلة في مضجعي؛ وأبرأتني من توجعي وأمكنتني من عناقها، وبردت كبدي من إحراقها لما سقتني سلسال رُضابها ومتعتني من دلالها وخضابها. فقلت: أبَاحَ لَطيفي طَيْفُها الخَدَّ والنَّهْدَا ... فعض بها تفاحةً وجنى وردا ولو قدرت زارت على حال يَقْظةٍ ... ولكنْ حِجَابُ البَيْنِ ما بيْنَنَا مدَّا أَمَا وَجَدَتْ عَنَّا الشُّجُون ُمُعَرَّجا ... وَلاَ وَجَدَتْ منا خَطوبُ النَّوَى بُدَّا

سقى اللهُ صَوْبَ القطر أُمَّ عُبَيْدة ... كَمَا قد سَقَتْ قَلْبِي على حَرِّهِ بَرَدَا هي الظَّبْيُ جيداً والغَزَالَةُ مَنظَراً ... وَرَوْضُ الرُّبَا عَرْفاً وغُصْنُ النَّقا قَدَّا فأكثر القائد استعادتها، وكرر استجادتها؛ فأمر له المعتمد بخمس مائة مثقال، وولاه (لورقة) من حينه. قال أبو إسحاق: أجاد المعتمد في قوله وانطبع، وأحسن ما شاء وإن لم يكن اخترع، وشكر للطيف حين زاره ما صنع وقوله: برّدت كبدي. فيه لغتان: بَرَّدْتُ بالتشديد، وبَرَدْتُ بالتخفيف. وينشد قول الراجز: قد علِمَتْ أنِّي مُرَوِّي هَامِهَا ... وبارد الغَليل منْ أُوَامِها إذا عقدتُ الدَّلْوَفي خِطَامِهَا خِطَامُها: رشاؤها. وأنشد أبو زيد:

قد وَرَدَتْ من بحر ذِي عَدوق ... خَوامِصاً جاءتْ من العَقِيقِ ترتشفُ الماء ارتِشَافَ الريقِ ... كأنما يَبْرَدْنَ بالغَبوقِ قال هذا قاسم في (الدلائل). وحكى عن الحسين، عن أحمد بن يحيى عن ابن الاعرابي. قال: تقول العرب: وَسْقني وَأَبْرِد. ومعناه: ايتني به باردا. وأسقني وأَبْرِدْ غليلي. قال: وزعم بعض أهل العربية أنك تقول: برَّدت الماء: من الإِبْراد، وبرَّدته من الإسخان وقال: هو من الأضداد. وكان ينشد في ذلك بيتا يغلط فيه: عابت الماء في الشتاء فَقُلْنَا ... بَرِّديهِ تُصَادِفِيهِ سَخِينَا وإنما هو: بَلْ رُدِّيهِ فأدغم اللام في الراء كما يقرأ (بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ). قال: وفي الحديث، ان رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما فتح (خيبر)، وهي مخضرة من الفواكه؛ فواقع الناس للفاكهة؛ فمغثتهم الحمى، فشكوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "يا أيها الناس إن الحمى رائد الموت، وسِجْنُ الله في الأرض. فبرِّدوا لها الماء في الشِّنانِ؛ ثم صبوه عليكم فيما بين الصلاتين".

قال: يعني المغرب والعشاء الآخرة: قال: ففعلوا فذهبت عنهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الَّله لم يخلق وعاءً مُليءَ شراً من بطن، فإن كان لا بدّ فاجعلوا ثُلُثاً للطعام وثلثاً للشراب وثلثاً للريح". وكذلك الحديث الآخر في الحمّى: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أمرنا أن نُبْرِدَها بالماء. وأن نُبَرِّدهَا. والرجلُ مُبَرَّدٌ وبارِد. والأَبْرَدان: الغَدَاةُ والعَشِيُّ. والأبردان أيضا: الظِّلُّ والفَيْءُ، سُمِّيَا بذلك لِبَرْدِهِمَا، وطيب الهَوَاءِ فيهما. ويقال لهما أيضا: البَرْدَان. فأما الحديث المروي عن أبي هريرة في (الموطأ)، وغيره: ان رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "إذا اشتدَّ الحرُّ، فَأَبْرِدوا عن الصلاة، فإنَّ شِدَّة الحرّ من فَيْح جَهَنَّمَ" فليس من بَرْدَي النّهار اللذين هما الغداة والعشى، ولا من بَرْدَي الظِّلِّ وَالفَيْء. وإنما الإِبراد في هذا الحديث يراد به انكسار وَهَج الشمس بعد الزوال. وسمي ذلك إبْرَادا، لأنه بالإضافة، إلى حر الهاجرة بَرْدٌ. قاله أهل العلم: أبو سليمان وغيره. وحكى عن محمد بن كعب القُرظي أنه قال في قوله: "أَبْرِدُوا بالصَّلاة" قال: كلام العرب، إذا كان القوم في سفر، فزالت

الشمس، وهبت الأرواح، تنادوا: أَبْرَدْتُمْ، أَبْرَدْتُمْ بالرواح. وكان يعد إِبْراداً حين تزول الشمس وقول المعتمد في صفة الجارية: لا يجول قُلْبُهَا ولا خلخالها فالقُلْبُ بضم القاف هو السِّوارُ. قال فيه الشاعر، وهو خالد بن يزيد بن معاوية من أبيات له: تَجُولُ خَلاَخيل النِّساءِ وَلاَ أَرى ... لِرَمْلَةَ خَلْخاَلاً يَجُولُ وَلاَ قُلْبَا وبعده: فَلاَ تُكْثِروا فيهَا المَلاَمَ فَإِنَّنِي ... تَخَيَّرْتُهَا مِنْهُم زُبَيْرِيَّةً قَلبا أُحِبُّ بني العَوَّامِ طُراً لِحُبِّها ... وَمن أَجْلِهَا أَحْبَبْتُ أَحْوَالَهَا كَلْبا إِذَا نَزَلَتْ أَرْضاً تَحَبَّبَ أَهْلُها ... إِلَيْهَا وإِنْ كَانَتْ منازِلُهَا جَدْبا فَإِنْ تُسْلِمي أُسْلِم وَإِنْ تَتَنصَّرِي ... يُعَلِّقْْ رِجَالٌ بَيْنَ أَعْيُنِهِمْ صُلْبا ويروى: (أُحِبُّ بني العوام طُرّاً بِحُبِّهَا). َوقُلْبُ النخلة بالضم أيضا، وهي شطبة بيضاء، تخرج في وسطها، كأنها قُلْب فضة. سميت بذلك، لبياضها. والجميع قُلُوب.

وقوله في هذه القطعة: تخيرتُها منهم زبيريَّةً قَلْبَا هو بفتح القاف. يقال: هو عربيٌّ قَلْبٌ، وعربيةٌ قَلْبٌ. قال أبو عبيدوَ إِنْ شئتَ قُلْت: عربيةٌ قَلْبَة. وإن شئت ثَنَّيْتَ، وهوالمحض. قال ابن الاعرابي يقال: إنه لعربيٌّ مَحْضٌ، وَقَلْبٌ، وهو الخالص المحض. وتجوز التثنية فيها. فإذا جمعت وحَّدْتَ. وفي حديث علي رضي الله عنه، فيما روى سفيان، عن أبي رزين عنه، أنه كان يقرأ: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) وكان قرشياً قَلْباً يعني قرشيا خالصا محضا والذي يراد من هذا الحديث، أن عليا كان يقرأ إياك بالهمز وهو قرشي، والقرشيون ليس من لغتهم الهمز وفي الحديث، ان رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بأسير يرعد، فقال: ادْفُوهُ يريد أدفئوه، من الدِّفْء. فَذَهَبُوا بِه، فَقَتَلُوهُ، فوَدَاهُ رسول الله صلى الله

عليه وسلم قال أبو سليمان: ولو كان يريد معنى القتل، لقال دافوه، أو دافّوه، بالتثقيل. يقال: َدافَيْتُ الأسير، وِداففته، إذا أجهزتَ عليه. ويقال: دافوه بالتخفيف لغة جُهَيْنة. قال ابو بكر بن دريد ويقال دَأفتُ الأسير بالدال، وذَأفْتُ بالذال معجمة، إذا أجهزت عليه. وقرأ أبو سوَّار الغنوي "هِيَّاك نَعْبد وهياك نستعين" بالهاء فيهما بدلآ من الهمز. قالوا: وهي لغة قليلة الإستعمال، وأكثر ما تجيء في الشعر. أنشد أبو حاتم عن الأخفش:

فَهِيَّاكَ والأمرُ الذي إن توسَّعَتْ ... مواردُه ضاقت عليه مصاِدرهُ وأنشد إسماعيل الأسدي، عن يموت بن المزَرِّع البكري البصري. قال: أنشدتني أم الهيثم القبرية لنفسها: دَعَوْتُ عِيَاضاً يَوْمَ صَعْدَةَ دَعْوَةً ... وَعَالَيْتُ صَوْتي يَاعِيَاضَ بنَ طَارِق وقُلْتُ لهُ هِيَاكَ والبُخْلَ إنهُ ... إذَا عُدَّتِ الأَخْلاقُ شَرُّ الخَلاَئقِ وحكى الحسن بن أبي مهران عن أحمد بن يزيد الحلواني عن عيسى بن مِينَا قَالُون، أنه قال: كان أهل المدينة لا يهمزون، حتى همز ابن جندب فهمزوا. وابن جندب هو مسلم بن جُنْدَب الهذلي، القاص، يكنى أبا

عبد الله. أخذ القراءة عرضا عن عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة وسمع ابن عمر وأسلم مولى عمر. وروى عنه القراءة نافع بن أبي نعيم، وزيد بن أسلم، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وابن أبي ذيب. قال مالك رحمه الله: جاء رجل إلى سعيد بن المسيب فقال: يا أبا محمد أيُّ الأيام خَيرٌ، فقال: سل عن ذلك القاضي مسلم بن جندب فذهب فسأله فقال: يوم النحر، ثم رجع إلى سعيد، فأخبره بما قال له مسلم، فقال سعيد: أعرابي يعظم الدماء. أعظم هذه الأيام يوم الجمعة. رجع ونذكر هنا بعض ما قيل في طيف الخيال. إذ الشيء يذكر بالشيء، للشبه والمثال. قال: أبو القاسم الشريف:

إنَّ طَيْفَ الخَيَالِ زارَ طروقاً ... والمطايا بيْنَ القِنانِ وَشِعْبٍ زارني واصلاً على غير وعْدٍ ... وانثنى هاجراً على غير ذَنْبِ كان قلبي إلَيْهِ رائِد عَيْني ... فَعَلى العَيْنِ منه مُنَّةُ قَلْبي وقال أيضا: أَلَمَّ خَيَالٌ من أمَيْمةَ طَارقٌ ... وَمِنْ دُونِ مَسْرَاهُ الِّلوَى والأَفَارِقُ أَلَمَّ بِنَا لَمْ نَدْرِ كيْفَ لمامهُ ... وَقَدْ طَالَ ما عَاقَتْهُ عَنَّا العَوَائقُ نَعِمْنَا بِهِ حَتَّى كَأَنَّ لقاءَنا ... وَمَا هُوَ إلاَّ غَايَةُ الزُّور صادِقُ وهذا كقول الطائي الصغير وهو البحتري: وَيَكْفيكَ منْ حَقٍّ تَخَيُُّلُ بَاطِلٍ ... تَرُدُّ بِهِ نَفْسَ اللَّهيفِ فَتَرْجعُ وقال الشريف أيضا: وَسَّدنِي كَفَّهُ وَعَانَقَني ... وَنحْنُ في سَكْرَةٍ من الوَسَن وبات عِنْدي إلى الصَّبَاحِ وما ... شاع التقاءٌ لَنا وَلم يَبِنِ خَادَعني ثم عَدَّ خَدْعَته ... بمقلتي مِنَّةً من المِننِ وقال أبو الحسن التُّهَامِي: أَهْدَى لَنا طَيفهاُْ نَجْداً وَساكِنهُ ... حتَّى اقْتَنَصْنَا ظِبَاءَ البَدْوِ والحَضر

فَبَاتَ يَجْلُو لَنَا من وَجْهِهَا قَمراً ... من البَرَاقع لولا كُلْفَةُ القَمَر وَرَاعَها حَرُّ أَنْفَاسي فَقُلْتُ لَها ... هوَايَ نَارٌ وَأَنْفَاسي من الشَّرَرِ وَزَادَ دُرُّ الثَّناَيَا دَرُّ أَدْمُعِها ... فَالْتَفَّ منتظِمٌ منه بِمُنْتَثِرِ فَمَا نَكِرْنَا من الطَّيْفِ المُلِمِّ بنَا ... مِمَّنْ هوينَاهُ إلا قِلةَ الخفرِ فَسرتُ أَعْثُر في ثَوْبِ الدُّجى وَلَها ... والجَوُّ رَوْضٌ وَزُهْرُ الشُّهْبِ كالزَّهَرِ وللمَجَرَّةِ فوق الأرض مُعْتَرِضٌ ... كَأَنَّهَا حَبَبٌ يَطْفُو على نَهَرِ وللثّريا ركودٌ فوق أَرْحُلِنَا ... كَأَنَّهَا قِطْعَةٌ من فَرْوَةِ النَّمِرِ قوله: أهدى لنا طيفُها نجداً وساكِنَهُ نَجْدُ: بلد، سمي نجْداً لعلوه عن انخفاض تِهَامَة، وأصل النَّجْد العلوّ. يقال: لكل مرتفع من الأرض؛ نَجْدَة. ورجل نَجْدِيِّ؛ منسوب إلى نَجْد، ورجل نَجْد، بيِّن النجدة، إذا كان جَلْداً قويا. قيل له ذلك. لاستعلائه على قرنه. ويقال: اسْتَنْجَدْتُ فلانا، فَأَنْجَدَنِي؛ أي: اسْتَعَنْتُه على خصمي فأعانني. كما يقال: استرشدته، فأرشدني. قال الشاعر: إذا استنجدتُهُمْ ودعوتُ بكراً ... لتَنْصُرَني كسرتُ بهم همومي

وقال أبو عبيدة: يقال: نَجَدْتُ الرجل، أَنْجُدُهُ. إذا غَلَبته وَأَنْجَدْتُه إذا أعنته ومنه حديث معاوية أنه قال: إني لألقى الرجل، أعلم أن في نفسه علي شيئا، فأستثيره، فيثورني بقدر ما يجد في نفسه، فيوسعني شتما وأوسعه حلما. ثم ألقاه بعد ذلك صديقا، استنجده فينجدني، وأريده، فيقبل إلي. والنَّجْدُ أيضا، الكَرْبُ والغَمُّ، لِعُلُوِّه على صاحبه. والنِّجَادُ: مَا عَلاَ على العاتق من حمالة السَّيف. وفي كتاب الله تعالى (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ) أي: الطَّريقَين: طريق الخير، وطريق الشر. سُمِّيِا بذلك، لظهور الإنسان فيهما. والنَّجْدُ أيضا، ما يزين به البيت، من أنواع البسط والثياب. يقال: نَجَدْتُ البيت تَنْجِيداً. وقال ذو الرمة: حتى كَأَنَّ رياضَ القُفِّ أَلْبَسَهَا ... منْ وَشْيِ عَبْقَرَ تَجْلِيلٌ وَتَنْجِيدُ والنَّجَّادُ، هو الذي يفرش البيوت، وهو أيضا المُنَجِّد رجع: وقال أيضا: وَأَرَادَ الخيال لَثمي فصَيَّرْ ... تُ لِثَامي دُون المَرَاشِفِ سَتْرَا اصرفي الكَأْسَ من رضابِكِ ... عَنِّي حاشَ للَّهِ أَنْ أُرَشَّف خَمرَا

ولوَ اَنَّ الرُّضَابَ غيرُ مدَامٍ ... لم تكوني في حَالَةِ الصَّحّوِ سَكرَى وقال أيضا: عَبَسْنَ مِنْ شَعَرٍ في الرَّأسِ مُبْتَسمٍ ... مَا نَفَّرَ البيضَ مِثْلُ البيضِ في اللَّمَمِ وقَبَّلَتْني تَوْدِيعا فَقُلْتُ لَها ... كُفِّي فَلَيْسَ ارتِشَافُ الخَمْرِ من شِيَمي لَوْ لَمْ يَكُنْ رِيقُهَا خَمْراً لمَا انْتَطَقتْ ... بِلُؤْلُؤٍ من حبَابِ الثَّغْرِ مُنْتَظمِ ولو تيقنت غيرالرَّاحِ في فَمِهَا ... ما كُنْتُ ممَّنْ يَصُدُّ اللَّثْمَ باللَّثمِ وزَادَ ريقَتَهَا بَرْداً تَحدُّرُها ... على حَصَى بردٍ من ثَغْرِهَا شَبِمِ والبيت الثاني من هذه القطعة، يشبه قول الرضي: وقَبَّلْتُهُ فَوْقَ اللِّثَامِ فَقَالَ لي ... هي الخَمْرُ إلاَّ أَنَّهَا بِفِدَام وقال الإيَادِي علي بن محمد: طَيْفٌ يَزُورُكَ من حَبيبٍ هَاجرٍ ... أَهْلاً بِهِ وبِطَيْفِهِ من زَائرِ

شَقَّ الدُّجَى وَسَرَى فَأَمْعَنَ في السرَى ... حتَّى أَلَمَّ فَبَاتَ بينَ مَحَاجري يَحْدو به هَيْفَ القَضِيبِ المَنْثَني ... نَحْوِي وَسَالِفَةَ الغِزَال النَّافِر للَّهِ دَرُّكَ من خَيَالٍ وَاصلٍ ... أسْرَى فَأَنْصَفَ منْ حَبِيبٍ هَاجرِ عَلَّلْتُ غُلَّةَ قَلْبٍ صَبٍّ هائِمِ ... وَقَضَيْتُ ذِمَّةَ فَيْضِ دَمْعٍ مَاطِرٍ وقال أبو الحجاج الرمادي: لا شُكْرَعندي للحَبيب الهَاجِرِ ... بل كلُّ شكري للخَيَالِ الزَّائر فكَأنَّمَا يخشى العيونَ نَهَارَه ... فيزورني تحت الظلامِ السَّاترِ نَوْمي يُريهِ لِنَاظِري فَكَأنهُ ... قبل المَنَامِ قد اختفى في نَاظِري وقال أبو العباس بن سيد: إن التي بَخِلَتْ عَلَيَّ بِوَصْلِها ... شُحّاً، وأََغْرَتْنِي بها اللوامُ بَعِدَتْ فَقَرَّبَهَا التَّذَكُّرُ والكرى ... حتى تساوتْ يَقْظة ومنامُ فَلِذَاكَ أعْتَقِدُ التَّخَيلَ وصلةً ... والطَّيْفَ، إذْ لا يمكن الإلمامُ وَلَرُبَّ ممنوعٍ تَضِنُّ به النَّوَى ... فتجُودُ لي بِوِصالهِ الأحلامُ وقال أبو إسحاق الخفاجي:

يا حبَّذَا والطَّيْفُ ضَيْفٌ طَارقٌ ... طَيْفٌ علَى شَحَطٍ أَجَدَّ مَزَارَا تَلْوي الشَّمُولُ به قَضيباً رُبَّما ... عَاطَى بِسُوسَانٍ هُنَاكَ عَرَارَا فَلثَمتُ فيمَا قَد لَثَمتُ عَلاَقَةً ... خَدّاً يَسِيلُ مَعَ العُقارِعُقَارَا مَا إِنْ دَرَيْتُ وقَدْ نَعِمْتُ بِلَثْمِهِ ... ماذا رَأَيتُ أَجَنَّةً أَمْ نارَا وقال الأستاذ أبو محمد بن صارة: وَزَائرَةٍ واللَّيْلُ مُلْقٍ جِرَانه ... أتَاني بِهَا وَجْدِي وَفَرْطُ وَلُوعي فَبَاتَتْ تُعَاطِيني سُلاَفَ رُضَابِها ... وَبِتُّ أُهَادِيها جُمَانَ دُمُوعِي فَأَيُّ مَهَاةٍ بِتُّ مُقْتَنِصاً لَها ... وَلَكِنْ بِقَلْبِي في كِنَاسِ ضُلُوعي وأنشدني بعض الأدباء: ضَنَّ بالقُرْبِ إذْ أَنَا يَقْظَا ... نُ وَأَعْطَى كَثيرَهُ في المَنامِ فالتقينا كما اشتَهَيْنا ولا عَيْ ... بَ سِِوى أَنَّ ذَاكَ فِي الأَحلاَمِ وَإِذَا كَانَتِ الملاَقَاةُ لَيلاً ... فَاللَّيَاليِ خَيْرٌ مِنَ الأَيامِ وهذا كقول أبي تمام الطائي:

اللياليِ أَحْفىَ بِقَلْبِى إِذاَ ما ... جَرَّحَتْهُ النَّوىَ مِنَ الأَياَم يا لَهَا لَذَّةً تَنَزَّهتِ الأَر ... واحُ فِيهَا سِرّاً مِنَ الأَجْسامِ مَجْلِسٌ لمْ يَكنْ لَنَا فِيهِ عَيْبٌ ... غَيْرَ أَنا فِي دَعْوةِ الأَحلامِ قال أبو إسحاق: وَطَيْفُ الخَيَال، ما عرض للإنسان، وخطر بباله، من كل شىء. والطَّيْف مصدر من قولهم: طاف يَطِيفُ، وقِيل: هو من الواو. وأصله: طَيْوِفٌ قال أبو اسحاق الزجاج: يقال: طُفْتُ عليهم أَطُوفُ. وَطَافَ الخَيال يَطيِفُ. وَقَالَ أَبوُ الحَسَن الكِسائي: الطَّيْفُ: اللَّمَم ُ، وَالطَّائِفُ: ما طاف حول الإنْسان. وقال أبو عمرو بن العلاء: الطَّيفُ: الوَسْوَسَة. وأنشد غيره: أنَّى ألَمَّ بكَ الخَيَالُ يَطِيفُ وقال أبو الحسن الرماني: الطَّائفُ؛ طَائفُ الجن والشيطان: وكل شيء يَغْشَى القلب من وسواسه فهو طيفه، وأنشد: أَرَّقَني زَائرُ طَيْفٍ أَرَّقا يعني أنه رأى خيالها في منامه. وأنشد نصر بن علي عن أبيه عن أبي عمرو بن العلاء، قول حسان بن ثابث:

مَا هَاجَ حسَّانَ رُسُومُ المَنَامْ ... ومَظْعَنُ الحيِّ ومبنَى الخِيَامْ جِنِّيةٌ أَرَّقَني طَيْفُها ... تذهبُ صُبْحاً وتُرَى في المَنامْ وقرأ ابن كثير وأبو عمرو، والكسائي ويعقوب "إذا مسَّهُم طَيْفٌ من الشيْطَانِ تَذَكَّروا" بغير ألف ولا همز وقرأ سائر السبعة: نافع، وغيره (طَائِفٌ) على وزن فاعل وقرأ ابن عباس، وابن جبير، طيِّفٌ بتشديد الياء مكسورة ومعنى قراءة أبي عمرو ومن وافقه؛ أنهم جعلوه مصدر طاف الخيال، يَطِيفُ طَيْفاً. مثل كال يَكِيلُ كَيْلاً، وبَاعَ يَبِيعُ بَيْعاً. ويحتمل أن يكون مخففا من طَيِّفٍ، كَمَيْتٍ من مَيِّتٍ ومعنى قراءة نافع، ومن وافقه؛ أنهم جعلوه أيضا مصدراً كالعاقبة والعافية. قاله أبو محمد مكي. قال: وفَعْل أكثر في المصادر من فَاعِل.

ومعنى قراءة ابن عباس وابن جبير. ومن وافقهما، أنهم جعلوه، من طاف يطوف. فالأصل فيه طَيْوِف. حكى أبو زيد: طَاف الرجل، يَطُوفُ طَوْفاً: إذا أقبل وأدبر. وأَطَافَ يُطِيفُ إذا جعل يستدير بالقوم، ويأتيهم من نواحيهم ويشهد لهذا القول، قول امرىء القيس: أطافَتْ بِهِ جِيلاَنُ ..... وقيل: الطَّائفُ، ما طَافَ به من وسوسة الشيطان. والطَّيْف من اللمم. والمَسُّ: الجنون. وقال أبو بكر بن دريد طَافَ يَطُوفُ طَوْفاً: إذا دَارَ حول الشيء. وأَطَافَ به، يُطِيفُ إِطَافَةً: إذا ألم به. ويقال: أطاف فلان بهذا الأمر: إذا أحاط به. والطَّوَّافُون: المماليك. لقوله تعالى (طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ). والطَّوْفُ، خشب يُجْمَع بعضه إلى بعض، ويركب عليه في البحر والطَّوَفَان؛ مصدر لطَافَ يَطُوفُ.

فأما قولهم طَافَ بالبيت. فتقول فيه: فهو طَوَّاف. قال: والطَّائِف الذي بالغَوْر؛ إنما سمي طَائفاً بالحائط الذي بنوا حوله في الجاهلية؛ حصنوها به. وفي ذلك يقول أمية بن أبي الصلت: نحن بَنَيْنَا طَائِفاً حَصِينا ... نُقَارِعُ الأعداءَ عن بَنِينا وأصل الباب كله، الدَّور، والطائف. والدّائر، والحائل نظائر. والطائفة من كل شيء: قطعة منه. يقال: طائفة من الناس، ومن الليل. وقال صاحب العين الطُّوفَان؛ الماء الذي يغشى كل مكان. كما قال تعالى وجل (فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ) وكان سَيْلاً عظيماً. وطُوفانُ الليل: شدةُ سواده. وهو مُشَبَّهٌ بالماء الذي يَغْشَى كل شيء. ومنه قول العجاج:

وعم طُوفانُ الظلام الأثأبا والأثأب: شجر شبه الطَّرْفَاء إلاَّ أنه أكبر. وحكى بعض وزراء (اشبيلية) أن المعتمد بن عباد وجه ابنه المعتدّ بالله إلى (شِلْب) والياً؛ وكانت بُلْغَة شبابه؛ ومَأْلَفَ أحبابه التي عمر نجُودَها غلاما؛ ويذكر عهودها احلاما. فقال يخاطب ابا بكر بن عمار: ألا حَيِّ أَوْطَاني بِشِلْبٍ أبا بَكْرِ ... وَسَلْهُنَّ هل عهْدُ الوَِصال كَمَا أدري؟ وَسَلِّمْ على قصر الشَّراجيب عن فَتًى ... له أبداً شوْقٌ إلى ذلك القصر منازلُ آسادٍ وبيضٍ نواعمٍ ... فناهيك من غِيلٍ وناهيك من خدْرِ فَكَم ليلةٍ قد بتُّ أنعمُ جُنْحَها ... بِمُخْصِبَةِ الأردافِ مُجْدِبَةِ الخَصرِ وبيضٍ وسُمْرٍ فاعِلاتٍ بمُهْجتي ... فعالَ الصِّفَاحِ البيضِ والأُسُلِ السُّمْرِ وَلَيْلٍ بِسَدِّ النَّهْرِ لَهْواً قَطَعْتهُ ... بِذَاتِ سِوارٍمثل مُنْعَطَفِ النَّهرِ نَضَتْ بُرْدَهَا عَن غُصْنِ بان مُنَعَّمٍ ... نَضِيرٍكما انشق الكِمامُ عن الزَّهرِ وقصر (الشَّراجيب) الذي ذكر؛ كان متناهيا في الإشراق؛ مباهيا لزوراء

(العراق). ركضت فيه جياد راحاته؛ وجرى الدهر مطيعا بين بُكَرِه وروحاته. أيام لم تحلّ عنه تمائمه، ولا خلت من أزهار الشباب كمائمه. وكان يَعْتَدُّها مَجْبَى مالِه؛ ومنتهى اعماله، الى بهجة جنباتها؛ وطيب نفحاتها وهباتها، والتفاف حمائلها؛ وتقلدها لنهرها مكان حمائلها، وفيها يقول أبو بكر الداني: ألا عَلِمَ المعتدُّ بالله أنّني ... بِحَضْرَتِهِ في جنَّةٍ شَقَّها نَهْرُ وما هو نهر أعشَبَ النبتُ حوله ... ولكنه سيف ٌحمائله خُضرُ فلما صدر عنها، وقد حسنت آثاره في تدبيرها؛ وانسدلت رغائبه على صغيرها وكبيرها. نزل المعتمد عليه مشرفا لأوبته؛ ومعرفا بسمو قدره لديه ورتبته. فأقام يومه عنده مستريحا؛ وجرى في ميدان الأنْس بطلا مشيحا. وكان المعتمد واجِداً على ابنه الراضي؛ فذكَّرَتهُْ الحُميّا بُعْدَهُ عنه ونَواه؛ فَحَنَّ عند ذلك لِلُقْيَاه، وزال ما كان يَجِدُ عليه؛ فأمر بإحضاره بين يديه. فلمْ ياتِ ابنُهُ الراضي إلا وقد مَالت بالمعتمد نَشْوَتُه؛ بعدما ازدهته من الطَّرب أَرْيَحِيَّتُه. فلما وصل ابنه الراضي؛ أَلْفاه قد أغفى في مُنْتداه؛ وهو

طريح في منتهى مداه. فأقام تُجَاهه؛ ينتظر انتباهه. وصنع في أثناء ذلك شعراً؛ أتقنه وجوّده. فلما استيقظ أبوه من نومه، أنشده: ألآنَ تعودُ حياة الأملْ ... ويدْنو شفاء فؤادٍ مُعلْ فقد وعدَتْني سَحابُ الرِّضا ... بِوابِلِها حين جادت بطلْ ويُورقُ للعزِّ عُصنٌ ذَوَى ... وَيَطْلُعُ للسَّعْدِ نجْمٌ أفلْ أيا ملكاً أمْرُهُ نافذٌ ... فَمَنْ شَا أعزَّ ومَنْ شَا أَذَلْ وَلا غَرْوَ إن كان منك اغْتِفَارٌ ... وإن كان منا جميعا زَلَلْ فمثلك وَهْوَ الذي لم يزَلْ ... يعود بحلمٍ على من جَهِلْ وحكى أبو الحسين بن سراج أنه حضر الكتاب والوزراء، مجلس أنْسٍ (بالزهراء)؛ في يوم غفل عنه الدَّهر، فلم يرْمُقْه بِطَرْف؛ ولم يطْرُقْه بصرْف. أرَّخت به المسراتُ عَهْدَها؛ وأبرزت له الأماني خَدَّها. وأباحت للرائدين حماها؛ وأرشفتهم لَمَاهَا فلم يزالوا ينتقلون من قصر الى قصر؛ ويبْتَدِلون الغُصون بِجَنْيٍ وهَصْر. ويتَوقَّلون في تلك الغرفات؛ ويتعاطون الكؤوس بين تلك الشرفات. حتّى استقروا بالرّوض، بعدما قضوا من تلك الآثار

أوطاراً؛ ورَمَقُوا بالاعتبار أقْطَارا فحلّوا منه في درَانيك رَبِيع مُفَوَّفَة بالأزهار؛ مُطَرَّزَةٍ بالجداول والأنهار. والغصون تختال في أَدْواحها؛ وتَنْثَني في أكُفِّ أرواحها. وآثار الديار قد أشرفت عليهم، كثكالى ينحن على خرابها؛ وانقراض أطرابها. والوَهْي بمشيدها لاعب؛ وعلى كل جدار غُرَابٌ نَاعِبٌ. وقد مَحَت الحوادث ضِيَاءَهَا؛ وَقَلَّصَت ظِلاَلَهَا وَأَفيَاءَهَا. وَطَالَ ما أشرقت بالخَلائف وابتهجت، وفاحت من شَذَاهم وتَأَرَّجت أيام نزلوا خلالها؛ وتَفَيَّؤُوا ظلالها، وعَمَروا حدائقها وجناتها؛ ونبهوا الآمال من سِنَاتِها، وراعوا اللُّيوث في آجامها؛ وأخجلوا الغُيُوثَ عند انسجامها. فأضحت ولها بالتَّدَاعي تلفع واعتجار، ولم يبق من آثارها إلا نُؤَي وأحجار، وقد وهت قبابها، وهرم شبابهاوقد يَلينُ الحديد؛ وَيَبْلَى على طَيِّهِ الجديد. فبيناهم يتعاطونها صغارا وكبارا؛ ويُديرُونَهَا تأنسا واعتبارا، إذا برسول المعتمد قد وَافَاهم برقعة فيها مكتوب: حسد القصر فيكم الزهراء ... وََلَعَمْرِي وَعَمْرُكُم ما أَساءَ قَد طَلَعْتُمْ بِهَا شُمُوساً صَبَاحا ... فَاطْلَعُوا عندنَا بُدُوراً مسَاءَ فعند ذلك، صاروا إلى قصر البستانَ بباب (العطارين)؛ فَأَلْفَوْا مجلساً يَحَارُ فيه الوَصْف؛ قد احتشد فيه اللهو والقصف، وتوقدت نجوم مُدَامه؛ وتأوَّدَت قدود خدامه. وَأَرْبَى على الخَوَرْنَقِ والسَّدير؛ وأبدى صفحة البدر من أزرار المدير. فأَقاَموا لَيْلَتَهُمْ لم يطرقهم نوم؛ ولاَ عَدَلَهُمْ عن طيب اللذات سَوْم

وَحَكَى بعض الأدباء أن الوزراء الثلاثة بني القَبْطُورْنَة، باتوا في أيام الصِّبَاحِينَ، استطابوا الهوى؛ بين الجنوب والصَّبَا، في (المنية) المسماة (بالبديع)؛ وذلك في أوان الربيع. وبروضَ كان المتوكل كَلِفاً بِمُوَافَاته؛ مُبْتَهجاً بحسن صِفَاته. وكان يستفزه الطَّرَب مَتى ذَكَرَه، وينتهز الأُنْسَ منه، روحاته وبُكَره؛ ويدير حُمَياه على ضفة نهره؛ ويخلع فيه سره لطاعة جهره، ويقطف رياحينه وَزَهْرَه، ويقف عليه اغفاءه وسهره. فطردوا خيل اللذات حتى أَنْضَوْهَا؛ ولَبسوا برود السرور وما نَضَوْهَا. حتى صدعتهم العُقَار؛ وطلحتهم تلك الأوتار فلما هَمَّ رداء الفجر أن يُبْدَى؛ وجبين الصُّبح أن يُتَبدَّى، استيقظ أبو محمد وقال: يَا شَقِيقي أَتَى الصَّبَاحُ بِوَجْهٍ ... سَتَرَ اللَّيْلَ ضَوؤُهُ وبَهاؤُهُ

فاصْطبِحْ واغْتَنِمْ مَسَرَّةَ يَوْم ... لَسْتَ تَدْرِي بما يَجيء مَسَاؤُهُ ثم استيقظ أبو بكر فقال: يَا أخي قُمْ تَرَ النَّسيمَ عَليلا ... باكِر ِالرَّوْضَ والمُدَامَ شَمولاً لا تَنَمْ واغْتَنِمْ مَسَرَّةَ يوْمٍ ... إنََّ تَحْتَ التراب نَوما طَويلاَ ثم استيقظ أبو الحسن فقال: يَا صَاحِبَيَّ ذَرَا لَوْمي وَمَعْتَبَتي ... قُمْ نَصْطَبِحْ خَمْرَةً ما خير ما ذَخروا وَبَادرا غَفْلَةَ الأَيامِ وَاغْتَنِما ... فاليومَ خُبْرٌ ويبدو في غَدٍ خَبَرُ وفي معنى هذه الأبيات يقول أبو بكر الغساني من أبيات له: سَقِّني يا غلام فالعيش عضٌّ ... وعُيُونُ الخُطُوبِ عَنَّا رَقودُ لاَ تَبِعْ عَاجل السُّرور وبَادِرْ ... فعساه يَعُودُ أولاَ يَعودُ وقرأت في النوادر لأبي علي البغدادي مثل هذا المعنى: لاَ تَدَعْ لذَّةَ يوْمٍ لغدٍ ... وَبِعِ الغَيَّ بِتَعْجِيل الرَّشدْ إنهَا إن أخرَتْ عن وَقْتِها ... باخْتِدَاعِ النَّفْسِ يَوْماً لَم تُعدْ فاشْغَلِ النفسَ بها عن شُغْلِها ... لاَ تُفَكِّر في حَمِيمٍ وَوَلدْ

أَوَمَا خُبِّرْتَ عَمَّا قيلَ في ... مَثَلٍ بَاقٍ على مَرِّ الأبدْ إِنَّمَا دُنْيايَ نَفْسِي فإِذَا ... تَلِفَتْ نفْسي فلاَ عاشَ أَحَدْ قال: وكان أبو محمد، أحد هؤلاء الثلاثة أعجوبة ذلك العصر؛ وفارس ميداني النظم والنثر. وقد تَرَدَّى من الفصاحة برداء كبريائها؛ وتزين بتاج بهائها؛ وقعد على ثبج جوزائها، وتصرف في ساحاتها وأرجائها وهو القائل: وَمُنكرة شَيْبي لعرفانِ مَوْلدي ... تُرَجِّعُ والأجْفَانُ ذات غروبِ فقلت يسوق الشيب من قبل وقته ... زوال نعيم أو فراق حبيبِ وهو القائل أيضا: إذا ما الشوقُ أرقني ... وبات الهَمُّ من كَثَبِ فضَضْتُ الطينَة الحمرا ... ء عن صفراءَ كالذهبِ وقال أيضا: يا خليليّ لقَلبٍ ... نيلَ من كُلِّ الجهاتِ إنْ هَامَ بِلَيْلَي ... وبِرَيَّا والبنات وبِأَنْ صادَتْهُ أَسمى ... بَين بيضٍ خَفرات بِلحاَظٍ ساحِراتٍ ... وَجُفُونٍ فاتراتِ وَبِجِيدِ الظَّبْيَة ارتا ... عتْ فَظَلَّتْ في التفاتِ وَبِعَيْني مغزل تر ... عى غزالاً في فلاة تَتَمَشَّى بين أترَا ... بٍ لهَا حورٍ لات

وَعليها الوَشْيُ والخ ... زُّوَبُرْدُ الحبرات رَاعَهَا لمَّا التقينا ... ما دَرَتْ من فَتكات عَثَرتْ ذُعْراً فَقُلْنا ... وَالَعا للْعَثرات ضَحِكَتْ عُجْباً وقالتْ ... لأخصِّ الفتيات راجعيه ثم قولي ... ائتنا في السَّمراتِ وارْقَب الأَعداءَواحْذَرْ ... من عُيُونٍ نَاظراتِ فَإذا أَعْلَقَ فيها النْ ... نومُ أشراك السناتِ وعلاَ البَدرُ جَلاَبي ... بُ لِباس الظلمات فَاطْرَق الحَيَّ تَجِدْنا ... من وراء الحُجرات فالتقينا بعد يأْسٍ ... بدليل النفحات وتَلاَزَقْنَا اعْتِنَاقا ... كَالْتِوَاءِ الألفاتِ ونَفثنا بيننا شَجْ ... واً كَنَفْثِ الراَّقِيَاتِ وَبَرَدْنا لوْعةَ الحُ ... بِّ بمَاء العبراتِ وَتشاغلنا ولم نَعْ ... لمْ بأنَّ الصبحَ آتِ وَبَدَتْ فيه تباشي ... رُ مشيبِ في شواتِ قوله: (بينِ أَتْرَاب لها حور لِذَات). لِدَةُ الرجل؛ الذي وُلِدَ معه، أَوْ قَرُبَ من ميلاده، والجمع لِدَاتٌ ولِدُونَ أنشد يعقوب:

صفواءُ أعجلها الشبابُ لِدَاتَها ... موسومةٌ بالحسن غير قَطُوبِ تخطو على فَرْديتين غَدَاهُمَا ... غَدَقٌ بساحة حائر يَعْبُوبُ يقول: سبقت أقرانها في الشباب. ومنه قول ابن قيس الرقيات: لم تَلْتَفِتْ لِلِدَاتِها ... وَمَضَتْ عَلى غُلَوَائها يقال: كان ذلك في غُلَوائه؛ أي حين يَغْلُو فيطول. وغَلاَ النَّبْت، يغْلُو غُلُوّاً: إذا طال، وكذلك غَلاَ الصبي: إذا شَبَّ. قال الحارث بن خالد: خُمْصَانَةٌ قَلِقٌ مُوَشَّحُها ... رُؤدُ الشَّبَابِ غَلاَ بِهَا عَظْمُ رُؤدُ الشَّبَابِ؛ أى نَاعِمَة الشباب. ويقال للجارية، إذا شبت شبابا حسنا، وجاوزت لِداتِها؛ قد غَلاَ بِهَا عظم. وأنشد أبو حاتم عن أبي زيد قول الراجز: حَتَّى إذا غَلاَ بُنَيَّ وَاحْتَجنْ ... وَزَانَهُ الشَّحْمُ وللشحم زِيَنْ وقول الشاعر: (موسومة بالحسن): أي عليها سمةٌ من الحسن. وقوله في

البيت الثاني: (على برديتين): أي على ساقين، كأنهما بَرْديَّتان، في بياضهما وصفائهما، واملساسهما. قال العجاج: كأنَّمَا عِظَامها برْدِيُّ ... سَقَاهُ رِيَّاحائرٌ رَوِيٌّ قال: والبرْدِيُّ أعقد له. ويقال: مكان حائر؛ إذا كان مطمئن الوسط مرتفع الحروف. وفي حديث العباس بن عبد المطلب، رحمه الله قال: كنت لِدَةَ الرسول صلى الله عليه وسلم. وقوله وبَدَتْ فيه تَبَاشي ... رُ مَشِيبٍ في شَوَاتِ تَباشيرُ كل شيء: أَوَائِلُه. قال أبو الحسن الرماني: ولم أسمع منه فعلا، ومنه تَبَاشِيرُ الصبح. قال الشاعر: تَبَاشَرُوا بعد ما طال الوجيفُ بهم ... بالصُّبح لما بَدَتْ منه تباشيرُ وقوله في شَوَات: أي في شعر رأسي النابت على شَوَاتي؛ وهي جِلْدَة رأسه. والجميع شَوىً. قال الله تبارك وتعالى (نَزَّاعَةً لِلشَّوَى). وقال الأعشى:

قَالتْ قُتَيْلَةُ مَالَهْ ... قَدْ جُلِّلَتْ شَيْباً شَوَاتهْ أَمْ لاَ أَرَاهُ كَمَا عَهِدْ ... تُ صَحَا وَأَقْصَرَ عَاذِلاَتهْ وحكى عن أبي عبيدة أنه قال: أنشد الأخفش أبو الخطاب أبا عمرو بن العلاء، بيت الأعشى: قَالَتْ قُتَيْلَةُ مَالهُ ... قد جُللت شيبا شواتهْ فقال أبو عمرو لأبي الخطاب: صحفت، إنما هي سَرَاتُه، ولكنك رأيت الراء منتفخة فصَيَّرتها واوا. قال: فغضب أبو الخطاب، وأقبل علي وقال: إنما هيشواته، وهو الذي صحف، والله؛ لقد سمعت هذا باليمامة من عدة من الناس. قال أبو عبيدة: فأخذنا بقول أبي عمرو. فما مضت إلا أيام حتى قدم علينا رجل مُحْرِم، من آل الزبير، فسمعته يحدثه بحديث فقال: اقشَعَرَّتْ شواتي، فعلمت أن أبا الخطاب وأبا عمرو أصابا جميعا. وسَرَاةُ كلِّ شيء: أعلاه. وقال أبو ذؤيب: إذا هي قامَتْ تَقْشَعِرُّ شَوَاتُهَا وقال أبو تمام:

خَضَبَتْ خَدَّهَا إلى لُؤْلُؤِ العِقْ ... دِ دماً أنْ رَأَتْ شَوَاتي خَضيبَا أي خضبت خدها بالدمع المشوب بالدم. والشَّوى أيضا إِخْطَاء المَقْتَل يقال: رماه فأَشْوَاه؛ إذا أخطأ مَقْتَله. قال ابن مقبل: أَرْمي النُّحورَ فَأُشْويها وَتَثْلِمُني ... ثَلْمَ الإِنَاءِ فَأَعْدُو غَيْرَ مُنْتَصِرِ وأنشد الأصمعي: لا يُسْلِمُونَ قَريحاً حَلّ وَسطُهُمُ ... يَوْمَ اللِّقَاءِ وَلاَ يُشْوُونَ مَنْ قَرَحوا قال: ويقال أَشْوَاه؛ إذا لم يصب مَقْتَلَه. وشَوَاهُ؛ إذا أصاب منه المَقْتَل. والشَّوَى أيضا؛ اليَدَان والرِّجْلاَن. يقال فَرَسٌ عَبْلُ الشَّوَى: أى غليظ القوائم. قال امرؤ القيس: سَليم الشَّظَى عَبْلِ الشَّوَى شَيْجِ النَّسَا ... لَهُ حَجَبَاتٌ مشْرِفاَتٌ على الفالِ ويقال: كل مصيبة ما أخطأتك شَوىً، وكل ذلك شَوى ما سلم دينك: أي هَيِّن. قال الشاعر: وكنتُ إذا الايَّامُ أَحْدَثْنَ هَالكاً ... أَقُولُ شَوىً ما لم يُصِبْنََ صَميمي

والشَّوى أيضا: رُذَالُ المال. قال الشاعر: أَكَلْنَا الشَّوَى حتَّى إذا لم نَجِدْ شَوى ... أَشَرْنَا إلى خَيْرَاتِهَا بالأَصابعِ رجع وأبو محمد القائل أيضا مخاطبا لأبي نصر الخاقاني: أَبَا النَّصْرِ إنَّ الجَدَّ لاَ شَكَّ عاثرُ ... وإنَّ زَمَاناً شَاء بينك جَائرُ فلاَ تُوِّجَتْ من بعد بَيْنِك رَاحةٌ ... براحٍ ولا حنت عليها المزامرُ ولا اكتحلت من بَعْد نأيك مُقلةٌ ... بنوم ولا ضُمَّت عليها المَحاجرُ ولي رغبةٌ جاءتك وهي مُدِلَّةٌ ... تسوق إليك المجد وهو أزاهرُ لِتَعْلَمَ أَنِّي عن جوابك عاجزٌ ... ومعتذرٌ فيه فقل أنا عاذرُ وكيف أجاري سابقاً لم يقم له ... هبوبُ الصبا والعاصفاتُ الخواطرُ إذا قيل مَنْ هذا يقولون كاتبُ ... وإن قيل من هذا يقولون شَاعِرُ وإن أخذ التحقيقُ فيك بِحقِّه ... فقيلَ وَمَنْ هذا يقولون سَاحرُ تُشَيِّعُكَ الألبابُ وهي أَوَاسِفُ ... وتتبعك الالحاظُ وَهْيَ مَوَاطرُ وكتب الكاتب أبو الحسين بن جبير إلى أبي عبد الله محمد بن غالب الرُّصافي:

يَعِزُّ عَلَيْنَا أَنْ يُقَصِّرَ بالعلاَ ... زَمَانٌ وَمَازَالَ الزَّمَانُ يُقَصِّرُ عَجِبْتُ لِدَهْرٍ غَضَّ منكَ سَفَاهةً ... لَقَدْ غَضَّ من عَيْنٍ بهَا كَان يُبْصِرُ فأجابه أبو عبد الله بقوله: أَيَا شَائِقِي ملءَ الضُّلُوع ودونَهُ ... مها ويمدُّ الخَطْوَ فيها فَيَقْصرُ ويَا عضُدي عند المُليمِ ونَاصِري ... عَلى نُوَبِ الدُّنيَا ومثلك يَنْصُرُ بصرت بحالي مُنْعَماً وَمَنِ الذي ... يُحِسُّ بأَحْوَالِ الصديق ويبصِرُ شَمَائلُ تُكْنِي عن إعانتك التي ... تَناَهى بها في الطِّيب خِيمٌ وَعُنْصُرُ ستقدم من شكري عليكَ عقيلةٌ ... سِوَى مجدها يُحْصَى الثَّنَاء ويحصُر يتيمةُ نظمٍ لا تزال بحُسنها ... تَوارثها بعدي بلادٌ وأَعْصُرُ وكتب إلى بعض إخوانه: خَليلي أبا بكر فهَلْ تَمَّ حيلةٌ ... يكون إليها في نَواكَ رُجُوعي سَيُخبرك السلوان أني رُمته ... فحال اشتياقي دونه ونزوعي ولو كنت في غير الضلوع مخيما ... عذرت على هذا الحنين ضلوعي وكتب أبو محمد بن القبطورنة أيضا إلى أبي الحسين بن سراج (بقرطبة) وجماعة من إخوانه: يا سيِّدي وأبي هُدىً وجَلالَةً ... ورَسولَ وِدِّي إن طلبتُ رسولاَ

عَرِّجْ بِقُرْطُبَةٍ إِن آنْتَ بَلَغْتَها ... بأبي الحسين ونَادِهِ تَمْويلاَ واذا سَعِدْتَ بِنَظْرَةٍ في وَجْهِهِ ... فَاهْدِ السَّلاَمَ لِكَفِّهِ تَقْبيلاَ واذْكُرْ لَهُ شُكْري وشَوْقِي مُجْملاً ... ولو استطعتُ شرحتُه تفصيلا بِتَحِيَّةٍ تُهْدَى إِليه كَأَنَّما ... جَرَّتْ عَلَى زَهرِ الرِّيَاضِ ذُيولاَ وَأَشِمَّ منها المُصْحَفِيّ على النوى ... نَفَساً يُنَسِّي السَّوْسَنَ المَبْلولاَ وَإلى أبي مَروانَ منْهَا نفحة ... تُهْدِي بها نَوْرَ الرُّبى مَطْلولاَ وإذا لقيتَ الأَصْبَحي فَسَقِّهِ ... من صَفْوِ وِدِّي قَرْقَفاً وَشَمولاَ وأبو عَليّ بُلَّ منه رِيقَةً ... مِسْكاً بماء غَمَامَةٍ محلولاَ واذْكُرْ لَهُم زمناً يَهُبُّ نَسِيمُهُ ... أُصُلاً كَنَفْثِ الرَّاقيات عَليلاَ مولى وموليَ نعمةٍ وكرامةٍ ... وَأَخَا إِخَاءٍ مخلصاً وخَليلاَ بالحَيْرِ لاَ عَبَسَتْ هناكَ غمامةٌ ... إِلاَّ تَضَاحَكَ إِذخراً وجليلاَ يوماً وليْلاً كان ذلك كلَّهُ ... سَحَراً وهذا بكرةً وأصيلاَ

لا أدركت تلك الأهلة دهرها ... نقصاً ولا تلك النجوم أفولا قال أبو إسحاق: (الحير) الذي ذكره أبو محمد في هذه الأبيات؛ هو (حير الزجالي) معروف خارج (باب اليهود بقرطبة). وفيه يقول أبو عامر بن شهيد: لَقَدْ أَطْلَعُوا عِنْدَ بَابِ اليَهو ... دِ شَمْساً أَبَى آلْحُسْنُ أَنْ تُكْسَفَا تَرَاهُ آلْيَهُودُ عَلَى بَابها ... أَميراً فَتَحْسِبُهُ يوسُفا وفيه يقول ويصفه وكان في ذلك الأوان من أبدع المواضع وأجملها؛ وأتمها حسنا وأكملها، قد جعل منه مرمرا صافي البياض؛ يخترقه جدول كالحية النضناض، وكانت به جَابِيَةٌ؛ كل لجة فيها كَابية. قد قُرْبِسَتْ باللاَّزَوَرد سماؤه؛ وتأزرت به جوانبه وأرجاؤه، والرّوض قد اعتدلت أسطاره؛ وابتسمت عن كمامها أزهاره. قد مَنَعَ الشمس أن ترمق ثراه؛ ويعطر النسيم بهبوبه عليه ومسراه. شهد به أبو محمد بن القبطرنة المذكور مع الجلة؛ من أصحابه ليالي وأياماً؛ كأنما تصورت من لمحات الاحباب؛ أوقُدَّت من صفحات الشباب،

وكانت لأبي عامر بن شهيد به مشاهد؛ أعطاه فيها الدهر ما شاء، ووالى عليه الصحْووالانتشاء، وكان هو وصاحب الروض المدفون، بإزائه، أليفيْ صبوة؛ وحليفيْ نشوة. عكفافيه على جِرْيَالِهِمَا؛ وتصرفا بين زهوهما واختيالهما، حتى رداهما الردى؛ وعَدَاهما الحِمَامُ عن ذلك المدى؛ فتجاورا في الممات، تجاورهما في الحياة، حينَ تقلصت عنهما وارفات تلك الظلال؛ عند بلوغ الآجال. وإلى ذلك العهد أشار أبو عامر، وبه عرّض، وبكثرة تشوقه إليه صحّ ومرض، حيث قال عند موته مخاطبا لصاحبه المذكور، وأمر أن يدفن بإزائه، وتكتب هذه الأبيات عند قبره: يَا صَاحبي قُمْ فَقَدْ أَطَلْنا ... أَنَحْنُ طُولَ المَدَى هُجودُ فقَالَ لي لَنْ تَقُومَ منْها ... مَادَامَ منْ فَوْقِنَا الصَّعِيدُ تَذْكُرُكُمْ ليلةٌ نَعِمْنا ... بِظِلِّهَا والزَّمَانُ عِيدُ وَكَمْ سُرُور هَمَى عَلَينا ... سَحَابَةً ثَرَّةً تَجُودُ كلٌّ كَأنْ لَمْ يَكنْ تقضى ... وَشُؤْمُهُ حَاضِرٌ عَتيدُ حَصَّلَهُ كَاتبٌ حَفيظٌُ ... وضَمَّهُ صَادِقٌ شَهيدُ يَا وَيْلَنَا إنْ تَنَكَّبَتنا ... رَحْمَةُ مَنْ بَطْشُهُ شَد يدُ يَا رَبِّ عَفْواً فأَنْتَ مَوْلًى ... قَصَّرَ في حَقِّهِ العَبيدُ أضيف هذا المنظوم، إلى كلام منثور في لوح، وغرز عند رأس قبره، رحمة الله عليه.

قال: وكان أبو عامر في ذلك الأوان؛ قُدْوَةَ الوزراء والأعْيان. وكان كلُّ شَاعر وكاتب، بَيْنَ صِلَةٍ منه وَرَاتب، يحضرون مجالس آدابه؛ ولا يَنْفَصِلونَ عن بابه. وكان له بباب الصَّوْمَعَة من الجامع، مَوْضِعٌ لا يُفارقه أكثر نهاره؛ وَلاَ يخليه من نَثْر دُرره وأَزْهَاره. فبينما هو قاعدٌ فيه ليلة سبع وعشرين من رمضان، مع جُملَة من الوزراء، والإخوان، وبهاء ذلك الزمان، وهم قد حَفُّوا به، وهو يَخلطُ لهم الجِدَّ بالهزل؛ ولا يفرط في انبساط مستهتر، وانقباض جزل. وإذا بجارية من أعيان المصر؛ وأهل العَفَاف في ذلك العصر، وهي في جملة من جَوَاريها؛ بين من يَسْتُرها ويُوَاريها؛ قد جعلت تَرتَاد موضعاً لمناجاة رَبِّها؛ وتبتغي منزلا لاستغفار ذَنْبِها. وهي مع ذلك حذرة متنقبة؛ خائفة ممن يرمقها مترقبة، وأمامها طفل لها، كأنه بدر على غصن آس؛ أو ظبي يمرح في كِناس. فما وقعت عينها على أبي عامر ولت سريعة؛ وتولَّت وَجِلة مروعة؛ خيفة منها على نفسها أن يشبِّب بها أو يشهرها باسمها، ويعرف بمنصبها. فلما نظر إليها ووقعت عينه عليها، وتحقق خبرها، قال قولا فضحها به وشهرها: وناظِرةٍ تحت طيّ القناع ... دَعَاهَا إلى الله للْخَيرِ دَاعِي سَعَتْ بِابْنِهَا تبتغي منزلاً ... لِوَصْلِ التَّبَتُّلِ والانقِطاعِ فَجَاءَتْ تَهَادى كمثلِ الرَّؤومِ ... تُرَاعي غَزاَلاً بأَعْلى يَفاعِ وَجَالَتْ بأَربعِنَا جَوْلةً ... فحلّ الربيع بتلك البقاعِ

أتتنا تَبختر في مَشْيِها ... فَحَلَّتْ بوَادٍ كَثيرِ السِّباعِ وريعتْ حِذَاراً على طِفْلهَا ... فَنَادَيْتُ يا هذه لا تُرَاعي غَزَالُكِ تَفْرَقُ منه الليوث ... وتنصَاعُ منه كماةُ المصاعِ فَوَلَّتْ وللمسك من ذَيْلهَا ... على الأرضِ خَطٌّ كَظَهْرِ الشجاعِ وأخبار أبي عامر معْروفة، وَمَنَازِعُهُ شريفة. وقد أثبتَ ابن بسام في كتابه؛ من نوادره القصَار والطِّوال؛ وتعريفَاته السائرة سير الأمثال؛ ما لا يُحَاطُ بإِحصائه؛ ولا يلحق غاية انتهائه. وفيه يقول: كان أبو عامر بن شهيد (بقرطبة) ينبوع آماتها؛ ومادَّة حَيَاتِها، وحقيقة ذاتها، ومعنى أسمائها ومُسَمَياتها. نادرة الفلك الدَّوَّار؛ وأُعجوبة اللَّيل والنَّهَار إنْ هَزَلَ؛ فَسَجْعُ الحَمَامِ؛ وإن جَدَّ؛ فَزَئيرُ الأسَد الضرغام. له نظمٌ كما اتسق الدُّرُّ على النحور؛ ونَثْرٌ كما خُلِطَ المِسْكُ بالكافور. وقد أثبتنا من مقطوعاته الغزليات في هذا التأليف، ما فيه أمنية الخالي، ولهو اللاهي؛ ويشهد له بالتقديم والتناهي. ويجنح بالكبير إلى الصِّبا؛ ويكون حجة لمن صَبا. حكى عن نفسه رحمه الله قال: لما قدم زهير فتى ابن عامر حضرة

قرطبة من (المرية)، ومعه وزيره أحمد بن عباس؛ وجه عن جماعة من الكُتَّاب، والأعيان، والمشاهير من الأصحاب، والإخوان؛ كأبي الاصبغ عبد العزيزالطبني، وأبي حفص بن برد، وأبي بكر بن الحناط وأبي عبد الله المرواني، وغيرهم من الأكابر، وتخلفت أنا، فسأل عنّي، وأمر

بإحضاري، فوافاني رسوله بدابة، فركبت وسرت إليه. فلما وصلت وجدت أحمد بن عباس غائبا عن المجلس، وألفيت كل من كان فيه مراقبا لقدومه. فتحرك أهل المجلس لدخولي، ورحب بي الكل منهم عندَ حلُولي فَلمْ أَسْتَوِ قاعدا إلاَّ وابن عباس قد أقبل يَجُرُّ ذَيْلَ الخيلاء؛ ويسبل رداء الكبرياء، وهو يَتَرَنم؛ والإِعْجَابُ يخامره؛ والزَّهْوُ يسايره. فسَلَّمْتُ عليه تسليم من يعرف حقَّ الرجال، وجمعت في كلامي بين الإيجازِ والإِكماَل. فرمز رمزا خفيفا، وردَّ علي السلام ردّاً ضعيفا. فعلمت أن في أنفه نَعْرةً؛ لا تخرج إلاَّ بِسَعُوطِ الكَلاَمِ، ولا تُرَامُ إلا بمثقب النظام فرأيت الأصحاب يصغون إلى تَهَمْهُمِهِ؛ ويصيخون إلى تَرَنُّمِه. فسألتهم عن ذلك. فقال لي أبو عبد الله الحَنَّاطي وَكَانَ كثيرَ التَّعَصُّب علي؛ جالبا في المحافل ما يسوء الأولياء إليّ: الوزيرحَضَرَهُ قَسيمٌ من شعره؛ وهو يسألنا إجازته فعلمت أنّي بذلك المراد؛ وعليَّ في الإجازة الاعتماد فاستشهدته فقال مرضُ الجُفُونِ وَلَثْغَةٌ في المنطِقِ. فأخذت القلم مستعجلا؛ وكتبت مرتجلا على القَسيمِ مذيلا ولما أمرت به ممتثلا: مَرَضُ الجُفُونِ ولثغَةٌ في المَنْطِقِ ... سَبَبَانِ جَرَّا عِشْقَ مَنْ لَمْ يَعْشقِ مَنْ لي بألثَغَ لا يَزال حَديثهُ ... يُذْكي على الأكبادِ جَمْرَةَ مُحْرقِ يُنْبِي فَيَنْبُو في الكلام لِسانهُ ... فكأَنَّهُ من خَمْرِ عَيْنَيْهِ سُقِي لا تُنْعِشُ الألفَاظُ منْ عَثَرَاثِها ... ولَو آنَها كُتِبَتْ لَهُ في مُهرَقِ

فأقمت ساعة، ثم سلمت، وَمَشيتُ عنهم إلى منزلي فلم أَلْبَثْ أن ورد عليّ بعضهم، وأعلمني أن ابن عباس، لم يرض بما جئت به من البداية، ونسبني إلى التقصير فيه، وسألني أن أحمي عليه مكاوي الكلام؛ وأن أقرع سمعه بضروب من الإقماع والإفحام. وذكرلي أن ادريس بن اليماني هجاه فأفحش؛ فلم أستحسن الإفحاش. فقلت فيه معرضا؛ إذ التعريضُ من محاسن القول: أبو جَعْفَرِ رجلٌ كاتبٌ ... مَليحُ شَبَا الخَطِّ حُلْو الخَطَابَهْ وذُو عَرَقٍ لَيْسَ ماءَ الحَياءِ ... ولَكِنَّهُ رشْحُ فضلِ الجَنَابهْ جرى الماءُ في سُفْلِهِ جَرْيَ لِينٍ ... فأَحْدَثَ في العُلْوِ منه صَلاَبهْ قوله: وذو عرق ليس ماء الحياء يشبه قول أبي الوليد بن زيدون؛ لكنه زاد فيه زيادة لطيفة، ونكتة ظريفة فقال:

مخَضَتْ في آسْتِهِ الأُيُورُ حَليباً ... فَعَلَتْ عَيْنهُ من الزُّبْدِ نُقْطَهْ وأَخَذَ هذا المعنى أبو الحسن بن الزقاق، فقال يهجو أزرق: وأَزْرَقَ والأُمُورُ لَها اشْتِباهٌ ... ويوُتَى العَيْنُ من قِبَلِ العجانِ ولَماَّ شَكَّ أسفَلَهُ العَوالى ... جَرَى في عينه زَرَقُ السِّنانِ وقوله (فأحدث في العلو منه صلابة) البيت، كقول بعض الأدباء، في قريب من هذا المعنى: صَلُبَتْ ولاَنَ القَاعُ منها فَاسْتُهُا ... لَوْلاَ لِيَانَةُ قَاعِهَا لَمْ تَصْلُبِ ومثله قول النابغة الذبياني: جَفَّتْ أَعَالِيهِ وَأَسْفَلُهُ نَدِي وهذا الكلام كله إقذاع، ومرفوض بالإجماع. والمناسبة التي بين قطعة أبي عامر وبينه، جرَّتني إليه؛ وأَحْوَجَتْني للتعريج عليه. فلذلك تَعَلَّقَ بإطنابي؛ واثبتُّهُ في كتابي. وليس الهجاء مما يليق بهذا الديوان؛ لما فيه من الفُحش والبهتان. فلذلك نبذته نَبْذَ الكُرَاع من الأديم؛ وحذفته حذف الهاء في الترخيم وقول أبي عامر في صفة الألثغ، مما انطبع فيه، ولا سيما على البديه. ومن جيِّد ما قيل في صفة الألثغ، قول أبي الحجاج الرمادي وهو:

الَّراءُ لا تَرْجُو الوصَالَ ولاَ أنَا ... الهَجْرُ يَجْمَعُنَا فَنَحْنُ سوَاءُ فإذَا خَلَوتُ كتبتُهَا في رَاحتي ... وبَكِيتُ منتحباً أَنَا والرَّاءُ وفي هذا المعنى أيضا يقول الأديب الظريف الأستاذ أبو القاسم بن العريف: أيهَا الألثغُ الذي شَفَّ قَلْبي ... جُدْ بِحَرْفٍ ولَوْ نَطَقْتَ بِسَبِّي هَجْرُكَ الرَّاءَ مثلُ هَجْري سَواءُ ... فَكِلاَنَا معذَّبٌ دونَ ذَنْب فإِذَا شِئْتُ أَنْ أَرى لي مَثَلا ... في هَوَاني خَطَطْتُ راَءً بِجَنْبي وقال أبو نواس الحسن بن هانىء: وَبِأبي أَلْثَغُ لاَجَجْته ... فقالَ في غُنْجٍ واخْتِناثِ لَمَّا رَأى منِّي خِلافي له ... مَا لَقِي الناَّثُ من النَّاثِ قارَعْتُهُ صَفْراءَ كَرْخِيةً ... قَدْْ جُلِبَتْ منْ كَرْمِ حرَّاثِ إِبْريقُنَا منتَصِبٌ سَاعة ... وتَارةً مبتَرِكٌ جاث

وأخذ هذا المعنى أحد الظرفاء فقال: اليوم يوم ثلاثا ... فاسق النديم ثلاثا في ود ظبي رخيم ... يقول للكَأْسِ كاثا وحكى أبو بكر محمد بن أحمد المصحفي قال: دخلت يوما على الوزير أبي عامر بن شهيد، أعُودُه في العِلَّة التي مات منها؛ فَتَأَنَّسَ بي، وسألني عن حالي، وجرى الحديث بيننا إلى أن شكوت له تَجَنِّيَ من كنت أهواه عليَّ، وتألفه من كان ينسب الخمول والتقصير إلي، ونفاره عني؛ وتماديه في البعد مني. وأعلمته بما أنا من الاحتدام والقلق؛ وما أكابد من الأشجان والأرق، فقال لي سأسعى في صَلاَح ذات البين؛ وأوضح له ما زخرف من الإِفك والميْن. ويزول الخلاف، وتؤولُ الحالُ إلى الائتلاف. ثم خرجتُ عنه، وأنا مسرور عنا له داع إلى الله تعالى في صحته، وبُرْئِه من اعتلاله. فلقيتُ ذلك المتجنى، مع بعض الأصحاب، فوليت عنهم، ولم أَدْنُ منهم فأنكر ما رأى منَّا ذلك الصديق؛ وسأل المتجني عن السبب المُوجِبِ للانصرام والتفريق. فأخبره بما جرى واتفق، من التهاجر الذي سبق، والسبب الموجب للإعراض. فجدّا في مشيهما، وأسرعا في الانتهاض، حتى لحقاني، وعزم علينا في الكلام؛ فتكلمنا وتعاتبنا، ومشينا، حتى وصلنا دار أبي عامر، واستأذن عليه، فأذن لنا، ودخلنا. فلما رآنا أبو عامر ضحك، وقال: من كان الذي تَوَلَّى إِصْلاَحَ مَا كُنَّا سُرِرْنَا بِفَسَادِه؟ فقلت: قد كان ما كان. فأطرق قليلا ثم

أنشد: مَنْ لاَ أُسَمِّي وَلاَ أَبُوحُ به ... أَصْلَحَ بَيْنِي وَبَيْنَ مَنْ أَهْوَى أَرْسَلْتُ مَنْ كَابَدَ الهَوَى فَدَرَى ... كَيْفَ تُدَاوَى مَوَاضِعُ البَلوَى وَلي حُقُوقٌ في الحُبِّ ظَاهرةٌ ... لكِنَّ إلْفي يَعُدُّهَا دَعوَى يَارَبِّ إنَّ الرسولَ أَحْسَن لي ... يَا رَبِّ فاحفَظهُ لي من الأَسْوا وحكى بعض الوزراء بإشبيلية ممن عُنِيَ بالاخبار، والبحث على السير والآثار. أن أبا المطرف عبد الرحمان بن هشام بن عبد الجبار، المتسمى من الألقاب السلطانية بالمستظهر بالله، أحد أمراء بني أمية؛ خطب حبيبة، ابنة عمه المستعين سليمان بن الحكم، فَلَوَتْهُ أمها شَنَف، المدعوة بأم الحكم. وكان بقلبه منها نار تتوقد؛ وشوق يتزيد، وجوى ناره لا تخمد، وََوَلُوعٌ يتجدد مع الاحيان ويتأكد. عافت عيناه منه الكرى؛ وكاد النحولُ يخفيه فما يرى. وكانا قد نشأ معاً في وقت واحد؛ وعن طارف وتالد. فلما اشتد بها كلفه؛ وأقلقه شغفه، وخامرت لوعات الأسى فكره؛ وأضاقت أسباب المنع والصدّ صدره كتب إليها بقوله: وَجَالِبَةٍ عُذْراً لتَصْرفَ رَغْبَتي ... وتَأْبَى المَعَالي أَنْ نُجيزَلها عذْرَا يُكَلِّفُهَا الأَهلونَ رَدِّي سَفَاهةً ... وَهَلْ حسنٌٌ بالشمس أن تمنع البدرا

وماذا عَلَى أُمِّ الحبيبة إذْ رأتْ ... جَلاَلَةَ قَدْرِي أنْ أَكُونَ لها صِهْرَا جَعَلْتُ لَهَا شَرطاً عليّ تَعَبدي ... وسُقْتُ إِلَيْهَا في الهَوَى مُهْجَتي مَهرَا تَعَلَّقْتُهَا من عبد شَمسٍ غَريرةً ... مُحَدَّرَةً من صيد آبائها غرَّا حمامةُ بنت العبشميِّين رفرفتْ ... فَطِرتُ إليها من سَراتهمُ صَقرَا لَقَدْ طالَ صومُ الحبّ عنك فما الذي ... يَضُرُّكِ عنه أن تكوني له فِطرَا وإني لأسْتَشْفي بِمَرِّي بداركمْ ... هدوءا واسْتَسقى لساكنها قَطراً وَأَلْصِقُ أَحْشائي ببَرْدِ تُرَابِها ... لأُطْفِئ من نار الأسى بكمُ جَمراً فإِنْ تَصْرفِيني يا ابْنَةَالعمِّ تصرفي ... وَعَيْشِكِ كُفْؤاً مدَّ رَغْبَتَه سَتْرَا وإني لأرجو أن أطوِّق مَفخريِ ... بِمِلْكي لهَا، وَهْيَ التى عَظُمَت فَخْراً وإِنِي لَطَعَّانٌ اذا الخَيْلُ أَقبلتْ ... جَراَئِرُهَا حتى تَرَى جُونَها شُقراً وإِني لأَوْلى النَّاس من قَوْمِهَا بها ... وأَنبَهُهُم ذِكراً وأَرفَعُهُم قَدراً وعِنْديَ ما يُصْبي الحَليمَة ثَيِّباً ... وَيُنْسي الفَتاة الخَوْد عُذْرَتَهاَ البكرا جمالٌ وَادابٌ وَخُلْقٌ موطَّأٌ ... ولفظ إِذاَ ماَ شِئتِ أسمعكِ السِّحْرا فَللْمُسْبِلِ النُّعْمىَ عَلَيَّ بِفَضله ... حَقائق نُعْمى لا أملُّ لهاَ نَشرَا وأبصرها ذات يوم؛ فأومأ إليها بالسلام؛ فلم ترد عليه خجلا منه فكتب إليها: سَلاَمٌ على مَنْ لَمْ يَجُدْ بِكَلامه ... وَلَمْ يَرَني أهلاً لردِّ سَلاَمه

سَلاَمٌ على الظبي الذي كلما رَمى ... أَصَابَ فؤادي عَامداً بسهامه بنفسي حبيبٌ لم يَجُدْ لمحِبه ... بطيفِ خَيالٍ زائرٍ في مَنامه أَلَمْ تعلَمي يَاعذْبَةَ الماء أنني ... فتىً فيك مخلوعٌ عِذَارُ لجامه وإني وفيٌّ حافِظ لأَذِمَّتِي ... إذا لم يقم غيري بحفظ ذِمامه يُبَشر ذَاكَ الشِّعْرُ شِعْرِيَ أنه ... سَيُوصل حبلي بعد طول انصرامه وما شَكَّ طَرْفي أن طَرْفَكِ مُسْعِدي ... ومُنْقِذُ قلبي من حِبَال غَرامه عليك سلام الله مِنْ ذِي تَحيَّةٍ ... وإن كان هذا زَائداً في اجترامه ومن شعره أيضا فيها قوله: تَبَسَّمَ عن دُرٍّ تَنَظَّمَ في الوَرْسِ ... وَأَسْفَرَ عنْ وجهٍ يَنوبُ عن الشَّمسِ غَزَالٌ بَراهُ اللهُ من نُورِ عَرْشِهِ ... لِتَقْطيعِ أَنْفَاسي، وليس منَ الإنسِ وَهَبْتُ له مُلكي وروحي ومُهْجَتي ... ونفْسي ولا شَيءٌ أَعَزُّ من النَّفْسِ وقال أيضا فيها: طال عُمْرُ الليْلِ عندي ... مُذْ تَوَلَّعْتِ بِصدِّي يا غَزَالاً نَقَضَ الوُ ... دَّ ولم يُوفِ بِعَهدي أَنَسِيتِ العهد إذْ بتْ ... نا عى مَفْرش وَرْدِ

واجْتَمَعْنَا في وشاحٍ ... وانتظمنا نَظْمَ عِقْدِ وَتَعَانَقْنا كَغُصْنيْ ... نِ وقدَّانا كقدِّ ونُجُومُ الليلِ تَحكي ... ذَهبا في لاَزَ وَرْدِ وهذا تشبيه مصيب؛ ساقه في لفظ مختصر عجيب. ومثله في الحسن وانطباع الألفاظ والمعاني، قول أبي بكر محمد بن أحمد الدِّمشقي الغسَّاني، وهو: كَأَنَّ نُجُومَ الليْلِ حول مِجَرِّها ... وقد حدَّ منها للْغُروب عَزَائمُ جُفُونٌ حَمَاهَا الشوقُ أن تُطْعَمَ الكَرى ... فَأَعْيُنُهَا مستيقظات نَوائمُ وَوَصف النُّجوم وقد ظهرت في الماء، بعض الشعراء المجيدين فأحسن: اُنْظُرْ إلى زُهْرِ النُّجُومِ وقَدْ بَدَتْ ... في النَّهْر يعجبُ ذَاتُها من ذَاتِهَا فَكَأَنَّهَا سِرْبُ الحِسانِ تَطَلَّعَتْ ... لِترى منَ المرآةِ حُسْنَ صِفاتِهَا وقال الأديب أبو تمام غالب بن رباح الأندلسي: أَصِلُ السُّرَى والليل في خوضي له ... بَحْر رَكِبْتُ عليه أَسْبَح زورق وَالأفقُ قد نظمَ النجومَ كَأنَّها ... دُرٌ تَنَاثر في بساط أزرقِ

وهذا لفظ أبي محمد بن وكيع حيث يقول: حتَّى بَدَتْ زُهْر النجومِ كَأَنَّهَا ... دُرّ نُثِرْنَ عَلى بساطٍ أَزْرَقِ قال: وهنَّأهُ بعض الشعراء بالخلافة، يوم بويع في قصيد كتب به إليه؛ في رَقٍّ مبشور، واعتذر من ذلك ببيتين وهما: الرَّقُّ مبشورٌ وفيه بِشَارَةٌ ... بِبَقَا الإمامِ الفاَضِلِ المستظهرِ مَلِكٌ أَعَادَ العيش غَضّاً شَخْصُهُ ... وكذَا يَكونُ بِهِ طَوَالَ الأَدْهرِ فأَجزل صلته، ووقع على ظهر رقعته بهذه الأبيات: قَبلنا العُذْرَ في بَشْرِ الكتابِ ... لِمَا أَحْكَمْتَ مِنْ فَصْلِ الخِطابِ وَجُدْنَا بالجَزَ مِمَّا لدينَا ... على قَدر الوجُودِ، بلاَ حِسابِ فَنَحْنُ المنعمون إذا قَدَرْنَا ... ونحنُ الغافرون أذى الذباب ونحنُ المطْلعونَ بِلاَ امْتِراءٍ ... شُمُوسَ المَجْدِ من فلك الثواب قوله: (أذى الذباب). الأذى، هو الضرر بالشيء. والأذى: كل ما تأذيت به. قال امرؤ القيس:

وإذا أُذيتُ بِبَلْدَةٍ ودَّعْتُها ... ولاَ أُقيمُ بِغَيْرِ دَارِ مُقامِ يقال: أَذِيَ الرجل يأْذَى أذىً. ورجل آذٍ: إذا كان شديد التَّأَذِّي. وحكي أن رجلا من بني أمية، وقف للرشيد على طريقه، وبيده كتاب، وفيه أربعة أبيات: يا أمينَ الله إنِّي قَائلٌ ... قولَ ذي صدق ولُب وَحَسَبْ لَكُمُ الفضلُ علينا ولنا ... بكمُ الفضلُ على كلِّ العربْ عبدُ شَمْسٍ كانَ يَتْلُوهَا شِماً ... وهُما بعْدُ لِأمٍّ وَلأَبْ فصلِ الأرحامَ منا إِننا ... عبدُ شَمْسٍ عَمُّ عبدِ آلمطلبْ فاستحسن قوله الرشيد، وأمر له لكل بيت بألف دينار. وقال: لَوْ زِدْتَنَا لَزِدْنَاك. قوله: قول ذي صدق ولُبّ وحسب اللُّبُّ: العقل. وهو مأخوذ من لُبِّ النخلة، على جهة التشبيه بريه وجمعه ألْبَابٌ. قال أبو بكر بن دريد: اللُّبُّ العقل.

يقال: لَبَّ الرجل يَلَبُّ؛ إذا صار لبيبا. ولُبُّ كل شيء؛ الخالص منه. وهو داخل الشيء الذي يركبه القشر. ويقال: لَبَّ بالمكان لَبّاً، وأَلَبَّ به إلْباباً؛ إذا لزمه وأقام به. واللَّبَّةُ من الصدر؛ موضع القلادة والجميع لَبَّات. قال امرؤ القيس: كَأَنَّ عَلى لَبَّاتِهَا جَمْرَ مُصْطَلٍ ... أَصَابَ غَضىً جَزْلاً وكُفَّ بِأَجْذَالِ والتلْبيبُ؛ مجمع ما في موضع اللَّبَبِ من ثياب الرجل. ومنه قولهم: أخذ فلان بِتَلابِيب فلان وكل من جمع ثيابه، وتحزَّم فهو متَلَبِّب. ويشبه به المتَسَلِّحُ بالسلاحِ. وقال صاحب العين اللَّبَب: البال. تقول: الأمر منه في لبَبٍ رخي: أي في بال رخي وسمى بذلك. لأن فيه اللُّب. وقال أبو تمام: سَأَشْكُرُ فُرْجَةَ اللَّبَبِ الرَّخِيِّ ... ولِينَ أَخَادِعِ الدَّهْرِ الأَبيِّ واللبب من الرمل؛ شبه حِقْفٍ بين معظم الأرض، وَجَلَدِهَا، وهو مُستَرَقُّ الرمل. قال ذو الرمة: بَرَّاقَةُ الجِيدِ وَاللَّباتُ وَاضِحَةٌ ... كَأَنَّهَا ظَبْيَةٌ أَفْضَى بِهَا لَبَبُ وقال أبو تمام:

أَلْوَى بِصَبْرِك إِخّلاَقُ اللِّوَى وهَفَا ... بِلُبِّكَ الشَّوْقُ لَمَّا أَقْفَرَ اللَّبَبُ وسمي لَبَباً للزوم بعضه بعضا؛ كلزوم لُبِّ الشيء له، وكذلك المُتَلَبِّبُ المُتَحزِّمُ بثيابه، بعضها ببعض. وأخذ بتلبيبه؛ إِذَا لزمه في ذلك الموضع. ومنه: لَبَّيْكَ وسَعْدَيْكَ: أي ملازمة لأمرك، وإسعاداً لك. وهو مصدر. مثنى للتكثير والمبالغة في التأكيد، لا تثنية حقيقة؛ بمنزلة قوله تعالى (بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ) أي نعمتاه. على تأويل اليد هنا على النعمة. وذهب يونس بن حبيب البصري في لَبَّيْكَ؛ إلى أنه اسم مفرد، وليس بمثنى، وان ألفه إنما انقلبت ياء لاتصالها بالمضمر على حد لَدَيَّ وعلَيَّ. وذهب سيبويه؛ إلى أنه مثنى، بدليل قلب ألفه ياء مع المظهر، وأكثر الناس على مذهب سيبويه. قال أبو بكر بن الانباري ثنوا لَبَّيْكَ كما ثنوا حَنَانَيْك: أي تحننا بعد تَحَنُّن. وأصل لَبَّيْك: لَبَّبْكَ؛ فاسْتُثْقِل الجمعُ بين ثلاث باءات؛ فأبدل من الثالثة ياء، كما قالوا من الظَّنِّ تَظَنَّيْتُ. والأصل تَظَنَّنْتُ. قال الشاعر:

يَذْهَبُ بي في الشِّعْرِ كُلَّ فَنِّ ... حَتَّى يَرُدَّ عَنِّي التَّظَني أرادَ التظنن. ومثله تَسَرَّيْتُ سُرِيَّة. والأصل تَسَرَّرْتُ من السِّر؛ وهوالنكاح. ومثله لَبَّيْكَ. واشتقاقها كما اختلف في صيغتها. فقيل: معنى لَبَّيكَ: اتِّجاهي وقصدي إليك؛ مأخوذ من قولهم: دارى تَلُبُّ دَارَك: أيتواجهها. وقيل: معناها محبَّتي لك؛ مأخوذ من قولهم: امرأة لَبَّةٌ؛ إذا كانت مُحِبَّة لِوَلَدها، عاطفة عليه وقيل معنى لَبَّيْكَ: إخلاصي لك؛ مأخوذ من قولهم: حَسْبُهُ لُبَاب؛ اذا كان خالصا محضاً. ومن ذلك لُبُّ الطعام، ولُبَابه: أي خالصه. وقيل معنى لبيك أي أنا مقيم على طاعتك. وإجابتك، مأخوذ من قولهم: قد لَبَّ الرجل بالمكان، وأَلَبَّ؛ إذا أقام فيه، ولزمه. قال الشاعر: مَحَلُّ الهَجْرِ أَنْتَ بهِ مُقيمُ ... مُلِبٌّ ما تَزُولُ وَلاَ تَريمُ وقال الآخر: لَبَّ بِأَرْضٍ مَا تَخَطَّاهُ العَنَمْ

قال أبو بكر بن الانباري: وإلى هذا المعنى، يذهب الخليل، وخلف الاحمر. وفي حديث عبد الله بن عمر: أن تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت (لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ). والمعنى؛ إجابة لك، وإقامة عندك وملازمة وعن ابن جريج، عن ابن شهاب قال: كانت تلبية قريش، وأهل مكة في الجاهلية، تلبية إبراهيم خليل الرحمان عليه السلام؛ حتى كان عمرو بن يحيى فزاد فيه بعد قوله له: (لَبَّيْكَ لاَ شَريكَ إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك). قال: وتلبية نزار، ومضر: (لَبَّيْكَ حقّاً حقّا تَعَبُّداً ورِقاً. جئناك للنصاحة ولم نأت للرَّقَاحة). وفي رواية أخرى: (جئناك للرَّبَاحة) والنَّصَاحة؛ إخْلاَصُ العمل. والنَّاصِح؛ الخالص من كل شيء. يقال: نَصَحْتُ العسل؛ إذا صفيتها. وقال: نفطويه نَصَحَ الشيء؛ اذا خَلَص. وأَنْصَحُ له القول؛ اذا أَخْلَصَه له. وفي كتاب الله تعالى (وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ). وفي الحديث عن سهيل بن أبي صالح عن عطاء بن يزيد الليثي عن

تميم بن أوس بن خارجة الداري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إن الدِّين النَّصيحة، إن الدِّينَ النصيحة، إن الدين النصيحة" قال أبو عبد الله المازري في كتاب (المعْلِم) له: النَّصِيحَةُ تحتمل أن تكون مشتقة من نَصَحْتُ العسل؛ اذا صفيتُه. وتحتمل أن تكون من النُّصْح؛ وهي الخياطة. ويقال للإبرة: المنْصحَةُ والنَّصاَحُ: الخيط الذي يخاط به. والنَّاصِحُ الخَائط. فمعناه أنه يَلُمُّ شَعَتَ أخيه بالنُّصْح، كما تلم المِنْصَحَةُ خَرَق الثوب. وهذا القول، وقول نفطويه، متفقان في المعنى، والاشتقاق؛ لأنه يصفو لأخيه، كما يصفو العسل إذا نصحَ قال أبو سليمانوالرَّبَاحَةُ: الرِّبْحُ. يقال: رَبَحٌ ورِبْحٌ ورباح وَرَبَاحَةٌ. والرَّقَاحَةُ: جمع المال، وكسبه. والرَّقَاحيّ: التاجر. وفلان يَرْقَحُ معيشته: معناه يصلحها. قال الحارث بن حلزة:

يتركُ ما رقحَ مِنْ عَيْشِهِ ... يَعيشُ فِيهِ هَمَجٌ هَامِجُ ويروى يعبث فيه: أي يُعْبَدُ فيه. قال: وكانت تلبية قيس عيلان، ومن وَالاَها، وكان بينهما، وبين بكر بن عبد مناة بن كنانة، وكانوا لا يستطيعون أن يدخلوا مكة متفرقين: واللَّهِ لَوْلاَ أَنَّ بَكراً دُونَكا يبارك النَّاسُ ويَهْجُرُونَكَا مَا زَالَ منَّا غنجٌ يَاتونَكا العَنَجُ الجماعة في السفر، قال: وكانت تلبية عكّ: أَتَتْكَ عَكُّ عَانيَهْ عِبَادُكَ آمْ يَمَانِيَهْ على قِلاَصٍ نَاجِيَهْ العانيةُ: الخاضعة الأعناق، يقال: عَنَا الرَّجُل يَعْنُو: إذا خضع وذَلَّ. قال اللَّه تبارك وتعالى (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ) أي ذلت. قاله ابن عباس وغيره

ولذلك قيل للأسير: عَانٍ. وقوله: (عبادك أَمْ يَمانيَة) يريد اليمانية. جعل أمْ بدلاً من اللام، وهي لغة لهم، كقول أبي هريرة: (طَاب أمْ ضَرْب) يريد: طاب الضرب؛ أي حلَّ القتال. رجع قوله: عبد شمس كان يتلوهاشما: يريد أنهما كانا أخوين، وأبوهما عبد مناف بن قصي. واسم هاشم: عمرو. وفيه يقول الشاعر: عُمْرو العُلاَ هَشَم الثَّريدَ لِقَوْمه ... ورِجَالُ مَكَّة مُسْنِتُونَ عِجَافُ وبفعله ذلك سمي هاشما. وحكى أبو المطرف عبد الرحمان بن فُتُوح، عن نفسه قال بينما أنا ذات ليلة في رمضان؛ أطوف بالمسجد الجامع (بألمرية) وأردد قول العباس بن الأحنف: وأحسنُ أيّامِ الهَوَى يَومُكَ الذي ... تُروَّعُ بالتحريش فيه وبالعتْب إذا لم يكن في الحبِّ سُخْطٌ ولا رِضىً ... فَأَين حلاوةُ الرسائل والكَتبِ

وإذا بفتى وسيم، كما شب عقيق خديه؛ وتم شَاربه بالتذكير عليه، وكأنما طبعت الصوارم من عينيه، واستعير اللين من عطفيه فسلم عليّ سلاما؛ ارتاحت له نفسي؛ وَتَنَسَّمتُ منه أُنْسي، فردَدْتُ عليه السلام، رَدَّ مَنْ تَوَسَّمَ فيه سِمَةَ الفَهْمِ، مُتَحَقِّقاً بالاختبار لا بالوهم. فقال لي: بحرمة الأدب ألا ما أعدت عليّ إنْشادك فأنشدته القطعة بجملتها. فقال لي: وَرِيَتْ بِكَ زِنَادي؛ وَسَقَتْكَ الرَّوَائح والغَوَادي. أخبرني عن السبب الموجب لإنْشَادِك البيتين، وترْدِيدهما. فقلت له: بُليتُ بخلّ مولعٍ بالخلاف؛ قَليلِ الإِنْصَاف. إن لا يَنْتُه غَضب؛ وإن استعتبته عَتب. وقد يعلم الله اشفاقي لفرقته؛ وتشوقي لرؤيته. فقال لي: جنبك الله عتبه؛ وقلب لك قلبه. ثم ولَّى عني، وقد غرس الله في قلبي ثمرة وِدِّه؛ وأَشْفَقْتُ من بعده. فبت ليلتي تلك مستأنسا بخياله؛ مسرورا بوصاله، حتى بدت غرة الصبح لامعة، كأنها عجاجٌ سُلَّ من تحته مُنْصُل؛ وخليجه ينساب كأنه جدول فقمت بانيا على قصده؛ فلم ألبث أن سمعته يَنْشُد، ويَطْلُب مَنْزِلي، فوصل، وقرع الباب، فأذنت له فدخل، فقمتُ إليه، ورَحَّبْتُ به، فقال لي: يا ابن الكرام هذا يَوْمٌ قد تَكَاثف غَيْمُه؛ وتَجَهّم أُفْقُه، وخَفَق قلبُ رعده، ولمع بَرْقُه. ونحن لا نجد السبيل إلى الخمر، فبم نقطعه. فقلت: الرأي إلى سيدي، أبقاه الله. فقال لي: كيف ذكرُك لرجال مصْرك؛ ووُقوفك على نبهاء عصرك. قلت: خَيرذكر. فقال أخبرني من أعذبهم لفظا، وارجحهم وزناً قلت: الرقيقُ حاشية الظَّرف، الأنيق ديباجة اللطف، أبو حفص بن برد. قال: فمن أقواهم استعارات، وأصحهم تشبيهات، قلت: البحر العجاج، السراج الوهاج أبو عامر بن شهيد. قال: فمن أَذكرهم للأشعار، وأقصهمْ للأخبار. قلت: الحلو الظريف، البارع اللطيف، أبو الوليد بن زيدون. قال: فمن أكلَفُهم بالبديع، وأشْغَفُهُم بالتقسيم والتتْبِيع. قلت: الرَّاتع في روض الحَسَب، المستظل بِمَرْخ

الأدب، أبو بكر يحيى بن إبراهيم الطبني. وأنشد: وخاطب قُسّاً في عُكَاظٍ مُجَاوباً ... على البُعْدِ سَحْبانٌ فألجمَهُ قسُّ فَمَا رَأَيْتُ فَتى أظرف منه، على صِغَر سنه، فتذاكرنا بَقِية يوْمِنا، الى أن فَرقَ اقبالُ الليل بيننا. فبقيتُ أُْنْشد بمَفَاخرِه، وأَذْكُرُ مَآثِرَه، وأرى أنّه في الدَّهْر إحْدَى غرائبه، وأُعْجوبة من عجائبه. قال أبو إسحاق: نسب أبو المطرف البيتين اللذين في أول الحكاية، للعباس بن الأحنف ونسبهما غيره، لأبي حفص الشطرنجي، مولى المهدي. وقرأتهما في النوادر لأبي علي البغدادي لغيرهما: تحبَّبْ فإن الحبَّ داعيةُ الحبِّ ... وكَمْ منْ بعيد هو مُسْتَوجِبُ القُرْبِ تَفكَّرْ فإن حُدِّثْتَ أَن أَخَا هَوىً ... نجا سالماً فارجُ النجاةَ من الحُبِّ وآحسنُ أَيام الهَوى يومُك الذي ... تروَّعُ بالتَّحْريش فيه وبالعَتْبِ إذا لم يكن في الحب سُخطٌُُ وَلاَ رِضىً ... فأين حَلاَوَةُ الرسائلِِ والكُتْبِ

هذا ما ثبت في (النوادر): لست أَدري، أكملت القطعة. أم بقي منها شىء؟ وأخذ المعنى الأخير منها كشاجم فقال: لولا اطراد الصَّْْْيد لم تَكُ لذَّةُ ... فتطاردي لي بالوصَالِ قليلا هو الشَّراب أَخُو الحَيَاة ومالَهُ ... من لَذَة حتى يُصيب غَليلا وأخذه الآخر، وضمنه اعتذار تأخير هدية. فقال: أَخَّرَ ما عنده لتَطْلُبَهْ ... ولَذةُ الصَّيد حينَ تطردهْ وأخذه أبو بكر بن عمار فقال: فلولاامتناعُ الفَتاةِ الكَعَا ... بِ لَمَا كَمُلَتْ لَذَّةُ النَّاكِحِ وهو معنى قد وُلِجَ بابُه، وتُجُوذ بت أهدابه، وأصله من المثل السائر: (تَمنَّعي أشْهَى لك). وحكى إبراهيم بن المهدي عند نفسه قال: خرجت في بعض الأيام، من عند المامون، فطفت في أزقة بغداد متنزها، حتى أتيت الى زقاق، وفيها دار بأعلاها شباك مطل. فنظرت إلى الشباك، فرأيت كفا ومعصماً، دلَّه عقلي،

وكدت لا أتمسك على مركوبي فالتفت إلى خائط بمقربة من الدار، فمشيت إليه، وسألته عن صاحب الدار. فقال لي: هو رجل من تجار البز. فسألته عن اسمه. فقال: فلان بن فلان. فقلت: أهو ممن يشرب النبيذ؟ قال لي: نعم، وأحسب أن عنده اليوم راحة. فقلت: ومن ينادمه؟ فقال: تجار مثله. فبينما أنا واقف مع الخَائط أسأله، إذْ أقبل فَتيان راكبان في أوَّلِ الدَّرْبِ. فقال الخائط: هذان منادماه اليوم. فسألته عن أسمائِِهما. فقال: فلان وفلان. فقلت: أكون اليوم طفيليا. فحركت دابَّتي، وداخلتهما. وقلت لهما: جعلت فداكما قد استبطاكما أبو فلان - أعزه الله - أعني صاحب الدار. وسايرْتُهُماحتَّى بَلَغْنَا البَاب، فأَجَلاَّنِي وقدمانِي. فدخلْتُ، ودَخَلا. فلما رآني معهما، لم يشك أني منهما، بسبيل أو قادم قدمت عليهما، فرحبَ بي، وأقْعَدَني في أجل المَراتب، ثم جيء بالطعام، فأكلنا طعاما مختلف الألوان لا أدْرِِي، أطعمه طيب، أم رَائِحتَه. وكنت قبل أن أدْخل المنزل، قد شممت رائِحَة تلْكَ الأَلْوَان، فَتَمَنَّيْتُها، وشَغَلَني عنها الكف والمعصم. فقلت حينئذ: هذه الألوان! فمن لي بالكف والمعصم. ثم سرنا الى مجلس المنادمة، فحللنا في أحسن منزل فشربنا أقداحا، ثم أقبلت جارية راعني جمالها، كأنها قمر، فسلمت، وقعدت، وجئ بعود، فوضع في حجرها، فجسَّتْه، فاستبنتُ حذقها في جسها للعود، ثم اندفعت تغني: توهَّمه طَرْفي فأصْبحَ خَدُّه ... وفيه مكَانَ الوهم من ناظِري أُثَرْ وصافحُه كفي فآلم كفه ... فَمِنْ لَمْسِ كفي في أنَامِله عَقَرْ

ومَرَّ بِفِكري خاطراً فَجَرحته ... ولم أرَ شيئا قَطُّ يَجْرَحَهُ الفِكَرْ فهيجت بلابلي، وطربت بحسن شعرها، ثم غنت: أشرتُ اليها هل عرفتِ مَوَدَّتي ... فَرَدَّتْ بِطرفِ العيْن إني على العهد فَجُدْتُ عن الإِظهَار حِفظاُ لِسِرِّهَا ... وحادت عن الإِظهار أيضاً على عمْدِ فصحْتُ: السِّلاحَ وفجأني من الطرب، ما لم أملك به نفسي، ثم اندفعت تغني: أليس عجيباً أنَّ بيتاً يضمُّني ... وإيَّاكِ لا نخلو ولا نتكلمُ سِوَى أعْينٍ تَشكُو الهوى بجُفُونها ... وَتَقْطيعِ أنفاس على النار تُضْرَمُ إشَارة أفواه وغمز حواجب ... وتكسيرُ أجفانٍ وكف يسلّم فحسدتها - والله - على معرفتها بالغناء، وإصابتها المعنى، وأنها لم تخرج عن المعنى الذي ابتدأت به غناءها. فقلت: بقي عليك يا جارية، فضربت بعودها الأرض، وقالت: متى كنتم تحضرون مجالسكم البغضاء؟ فتغير القوم لذلك، فندمت على ما كان مني، ثم قلت: أما عندكم عودُ غير هذا؟ قالوا: بلى. فأتيت بعود، وأصلحت من شأنه، ثم غنيت: ما للمنازل لا يُجبن حزينا ... أَصَمِمْن أم بَعُد المدى فبلينا

رُوحُوا العشية روحة مذكورة ... إِنْ متْنَ مِتْنا وإن حيينَ حَييناً فما أتممت الغناء، حتى قامت الجارية، فأكبت على رجليّ تقبلهما. وقالت: معذرة يا سيدي. فوالله ما سمعت أحداً يغني هذا الشعر غناءك. وقام مولاها، والرجلان، ففعلوا كفعلها وطربوا، واستحسنوا الشراب، فشربوا بالطاسات، ثم اندفعت أغني: أفي الحقِّ أن أُمسي ولا تذكرينني ... وقد سجمت عيناي من ذكرك الدَّما إلى الله أشْكو بُخلها وسماحتى ... لها عَسَلٌُ مني وَتَبْذُلُ عَلْقما فداوي مصاب العقل أنْتِ دواؤه ... ولا تتركيه ذاهل العقل مُغْرَما إلى الله أشكو أنها أجنبية ... وإني لها بالوُدِّ ما عِشْتُ مكرما فطرب القوم حتى خرجوا عن عقولهم، أو كادوا. فأمسكت عنهم ساعة، حتى تراجعوا ثم غنيت: هذا مُحبك مَطوِيّاً على كمده ... فاضَتْ مدامعه سحّا على جسَدِهْ له يَدٌ تسأل الرحمانَ راحتَه ... مما به ويدُ أحْرى على كَبِدهْ فجعلت الجارية تصيح: هذا والله، هذا والله، لا ما كنا فيه. وسكر القوم، وكان صاحب المنزل حسن الشرب، صحيح العقل. فأمر الغلمان أن

يخرجوا الرجلين الى منازلهما، وخلوت معه، فشربنا ساعة، ثم قال لي: يا سيدي ذهب ما مضى من أيامي باطلا، اذ كنت لا أعرفك. فمن أنت يا مولاي؟ ولم يزل يلحُّ علي، حتى أخبرته الخبر. فبادر اليّ، وجعل يقبل رأسي، ويقول: يا سيدي، ولا تكون هذه المحاسن إلا لمثلك. وإني لجالس مع الخلافة، ولا أشعر. ثم سألني عن قصتي، فأخبرته بما رأيت من الكف والمعصم. فقال للجارية: قومي، فقولي لفلانة تنزل. فلم يزل ينزل إلي جواريه، واحدة بعد أخرى، فأنظر إلى كفها ومعصمها وأقول: ليس هي، حتى قال لي: والله ما بقي غير أمي، وأختي. ووالله لأنزلتهما اليك. فعجبت من كرمه، وسعة صدره. فقلت: جعلت فداك أبدأ بالأخت قبل الأم، فعسى أن تكون هي. فبرزت، فلما رأيت كفها ومعصمها. قلت: هي هذه. فأمر غلمانه، فصاروا إلى عشرة من جيرانه، فأقبلوا معهم، وأمر ببدرتين، فيهما عشرون ألف درهم. ثم قال للمشائخ: هذه أختي فلانة، أشهد كم أني قد زوجتها من سيدي ابراهيم بن المهدي. وأمهرتها عنه عشرة آلاف درهم فرضيت، وقبلت النكاح. ودفع إليها البدرة، وفرق الأخرى على المشايخ. وقال: انصرفوا راشدين، بارك الله عليكم. ثم قال: يا سيدي، أمهد لك في بعض البيوت، فتنام مع أهلك. وأحشمني ما رأيت من كرمه. فقلت: بل أُحضر عمارية، وأحملها الى منزلي. فقال: ذلك لك. فكان ما أمرت به. فوالله لقد تبعها من الجهاز ماضاقت عنه البيوت. فجاءني منها ولد، يقوم رأس أمير المؤمنين، أيده الله. حدث إبراهيم بن المهدي بهذه الحكاية، في مجلس: أبي العباس المأمون في اليوم الذي أذخل عليه الزنادقة العشرة، والطفيلي معهم، ساعة جيء بالرجل الطفيلي فقال المأمون من هؤلاء القوم قد نفذت عدتهم؟ فقيل له:

وجد مع القوم، فجيء به. فسأله المأمون عن قصته، فقال له: أنا رجل طفيلي. وخبره مشهور. فأمر المأمون بتأذيبه، على فرط تطفيله، ومخاطرته بنفسه وكان إبراهيم بن المهدي قائما، بين يدي المأمون. فقال: يا أمير المؤمنين هب لي ذنبه، وأحدثك بحديث عجيب في التطفيل عن نفسي. قال: قل يا إبراهيم. فحدثه الحكاية المذكورة فتعجب؛ المأمون من كرم ذلك الرجل. وأطلق الطفيلي، وأعطاه عطية سنية، وأمر ابراهيم باحضار ذلك الرجل فصار بعد ذلك اليوم من خواص المأمون وأهل مودته ولم يزل معه على أحسن الأحوال في المنادمة وغيرها. ومما يناسب هذه الحكاية، حدث أبو محمد الشعبي الوراق، وكان على باب (خراسان)، على الجسر الأول، عن حماد بن إسحاق بن إبراهيم بن يعقوب الموصلي قال: بينا أنا ذات يوم عند المأمون، وقد جلا وجهه، وطابت أنفاسُه، إذ قال: يا اسحاق هذا يوم خلوة وطيب. فقلت: طيب الله عيش أمير المؤمنين، وأدام سروره وفرحه. فقال: يا غلمان صدوا علينا الباب، واحضروا الشراب. قال: ثم أخذ بيدي، وأدخلني مجلساً غير المجلس الذي كنا فيه، واذا به قد نصب فيه كل ما يحتاج اليه، حتى كأنه كل شيء كان قد تقدم الإذن فيه. فأكلنا وشربنا، وأخذنا في لذتنا، وأقبلت الستارات من كل ناحية، بضروب من الغناء، وصنوف من اللهو. فلم نزل على ذلك، الى آخر أوقات النهار. قال: فلما غربت الشمس، فقال لي: يا إسحاق! خير أيام الفتى أيام الطرب. قلت هو والله يا أمير المؤمنين. قال: فاني فكرت شيئا. فهل لك فيه؟ قلت: يا سيدي أوَ أتأخَّر عن أمير المؤمنين، أطال الله بقاءه. قال: لعلنا نباكر الصبوح في غدوة غد، وقد عزمتُ على دخلة إلى دارالحرم، فكن

بمكانك، ولا ترمْ، فاني وافيك عن قريب. فقلت: السمع والطاعة يا أمير المؤمنين! ثم مضى الى دار النساء، فما علمت به خبراً إلى أن ذهب من الليل عامته. قال إسحاق: وكان المأمون من أشغف خلق الله بالنساء، وأشدهم ميلا اليهن. فعلمت أن النبيذ قد غلب عليه، وأنهن قد أنسينَه أمري، وما كان تقدم له من ذكري لسرعة رجوعه. فقلت في نفسي: هو - أعزه الله - في لذته، وأنا هنا في غير شئ. وفي َّبقية، وعندي صبيَّة، قد كنت اشتريتها. وكانت نفسي متطلعة إلى افتضاضها، فنهضتُ مسرعاً عند ذكرها. فقال الخدم: يا سيدي! أيَّ شئ عزمت، وأين تريد. قلت: أريد الإنصراف. قالوا: فإنْ طلبك أمير المؤمنين. قلت: انه أدام الله سروره من لذة طربه، واشتغاله، وما هو فيه يشتغل عن طلبي. وقد كان بيني وبينه موعد، قد جاز وقته، ولا وجه لجلوسي قال إسحاق وكنت مصدقَ القول في دار المأمون، مسموع القول، لا أعارض في شئ. فخرجت أبادر الباب، فلقيني غلمان الباب، وأصحاب النَّوبة. فقالوا: يا سيدي إن غلمانك قد انصرفوا، وكانوا قد جاؤوك بدابة، فلما علموا بمبيتك في الدار انصرفوا. قلت: لأصبر، وأنا أتمشى الى الدار وحدي. قالوا: نحضرك دابة من دواب النَّوبة. قلت: لا حاجة لي بذلك. قالوا: فنمشي بين يديك بمِشعل. قلت: ولا أريد ذلك. ومضيت حتى اذا صرت ببعض الطريق، وجدت حركة البول، فعدلت الى بعض الأزقة، لئلا يراني أحد من العوام أبول على الطريق فَبُلت حتى إذا قمتُ لبعض الحيطان، اذا بشئ معلق من بعض ذلك الدور الى الزقاق. فما تمالكت أن تماسحت، ثم دنوت الى ذلك الشيء، لا أعرف ما هو فاذا أنا بزنبيل معلق كبير، بأربعة آذان فاذا هو ملبس بديباح، وفيه أربعة أحبُل

إبريسم فلما نظرت إليه، وتبينته قلت: والله، إن لهذا لسبباً، وإن له امرا. وأقمتُ ساعة أروِّي أمره، وأفكر فيه، حتى اذا طال ذلك، قلتُ: والله لأتجاسر، ولأجلسن فيه، يكون ذلك ما يكون. ثم لففت رأسي بردائي، وجلست في جوف الزنبيل. فلما أحسَّ من كان على ظهر الحائط بثِقله جذبوا الزنبيل اليهم، حتى انتهوا إلى ظهر الحائط، فإذا بأربعة جوار صغار، يقلن لي: انزل بالرحب والسعة. أصديق أم جديد؟ فقلت: لا بل جديد. فقلن: يا جارية قومي بين يديه بالشمعة وأبدرت بين يدي بشمعة، حتى نزلت الى دار نظيفة بها من الحُسن والظرف والنظافة ما حِرْتُ له، ثم أدخلتني الى مجالس مفروشة ومناصِّ مرصوصة، بصنوفٍ من الفرش الذي لم أر مثله إلا في دار ملك أو خليفة، فجلستُ في أدنى مجلس من تلك المجالس، فما شعرت بعد ساعة إلا بضَجَّة وجَلَبَة وستُور قد رُُفِعَتْ في ناحية من نواحي الدار، وإذا بوصائف يتَسَاعيْن، في أيدي بعضهنَّ الشمع، وبعضهن المجامر، يسجر فيهن فيهن العود والعنبر، واذا بينهن جارية، كأنها قمر طالع على الغصون، فما تمالكت عند رؤيتها أن نهضت فقالت: مرحبا بك من زائر، وليس تلك عادتك. وجلست، ورفعت مجلسي عن الموضع الذي كنت فيه. فقلت: عن ما قصد: والله، الى ذلك، ولا أعلم كان وقع الي. فقالت: فعلى كل حال أنسيت. قلت: انصرفت من عند بعض اخواني،

وظننت أني على وقت، فخرجت في وقت ضيق، فحركني البول، فعدلت إلى هذا الطريق فوجدت زنبيلا معلقاً، فحملني النبيذ أن جلست فيه فان كان خطأ، فالنبيذ حملني عليه، وإن كان صوابا فالله ألهمنيه. قالت: لا ضير، إن شاء الله. وأرجو أن تحمد عواقب أمرك. فما صناعتك؟ قلت: بزاز قالت أين: مولدك؟ قلت: بغداد، قالت: وأيِّ الناس؟ قلت: من أوساطهم. قالت: حياك، وقرت دارك. فهل رويت من الأخبار شيئا. قلت: شيئا ضعيفاً فقالت: ذاكرنا شيئا مما حفظت. قلت: جُعِلْتُ فداك، ان للداخل دهشة، ولكن تبتدئين بشئ من ذلك، فأتأنس بالمذاكرة. قالت: لعمري، لقد صدقت. فهل تحفظ لفلان قصيدته التي يقول فيها كذا وكذا. ثم أنشدتني لِجماعة من الشعراء الأقدمين، والمحدثين، من أحسن أشعارهم، وأقاوليهم، وأنا مستمع أنظر من أي أحوالها أعجب: من ضبطها، أم من حُسن لفظها، أم من حسن اقتدارها على اللفظ، والنحو، ومعرفة وزن الشعر. ثم قالت: أرجو أن نذهب عنك بعض ما بك من الإنقباض، فقلت: أي والله، قد كان ذلك ثم قالت: فإن: رأيت أن تنشدنا من بعض ما تحفظ فافْعَلْ قال: فاندفعتُ أُنشد لجماعة من الشعراء، فاستحسنتْ نشيدي، وأقبلت تسألني عن أشياء تمرُّ في شعري كالمختبرة لي، وأنا أجيبها بما أعرف في ذلك، وهي مُصْغيّة اليَّ، ومستحسنة لما آتي به، حتى إذا أتيتُ على ما فيه مَقْنَعٌ، قالت: والله ما قصَّرت، وما توهمت فيك ما ألفيت، وما رأيت في أبناء التجار وأبناء

السُّوقة مثلَ ما معك، فكيف معرفتك بالأخبار وأيام الناس؟ قلت: قد نظرت في شئ من ذلك. فقالت: يا جارية أحضرينا ما عندك. فما غابت عنا شيئا، حتى قدمت إلينا مائدة لطيفة، قد جمع عليها غرائبُ الطعام السريِّ، فقالت: إن الممالحة أوَّل الرضاع، فدونك. فتقدمت، فأقبلت أعتذر بعض الاعتذار، وهي مع ذلك تحثني وتضع بين يديِّ، وإني لمتقسَّم القلب لِمَا أرى من ظرفها وعقلها، وحسن خفرها، وكثرة أدبها، حتى رُفِعت المائدة، وأحضرت آنيةُ النبيذ فوضعت بين يدي صينية وقنينة وقدح ومِغْسل، وبين يديها مثلُ ذلك، وفي وسط المجلس من صنوف الرياحين وغرائب الفواكه، مالم أره اجتمع لأحدٍ، إلا لوليِّ عهدٍ أو سلطان، قد عُبِّئَ أحسن تعبئة، وهيءَ بأحسن تهيئة وحكى نصر بن علي الجهضمي قال: كان رجل طفيلي يجاورنا، فكنت إذا دعيت إلى مكان، ركب بركوبي، ومضى معي. فدعاني ذات يوم جعفربن سليمان أميرالبصرة، فركبت، وركب الطفيلي معي. فقلت: والله، لأفضحنه اليوم. فلما حضرت المائدة، أقبلت على الطفيلي، فقلت: حدثنا ابن زياد عن أبان بن طارق عن نافع عن ابن عمر، أن رسول الله صلى

الله عليه وسلم. قال: "من لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله"، "ومن مشى الى طعام ولم يدع اليه فقد دخل سارقا وخرج مغيراً"، قال: فأقبل الطفيلي عليّ، وقال أبا عمرو. وتروي هذا الحديث، على مائدة الأمير. ولعل لا يحضرها أحدٌ، إلا وهو يظن بك أنك تقصده به. أما علمت أن ابن زياد هذا كذاب، متروك الحديث، وأن أبان بن طارق كان يمشي في السكك، فيلعب به الصبيان. أين أنت من حديث أبي عاصم عن ابن جريح، عن أبي الزبير عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم،

قال: "طعام الواحد كافي الاثنين وطعام الاثنين يكفي الأربعة" قال نصر: فكأني لقمت حجراً في فمي. فلما خرجنا أقبل عليّ الطفيلي وجعل يقول: ومَنْ ظَن مِمَّنْ يُلاقِي الحُروبَ ... بألاَّ يُصابَ فقدْ ظَنَّ عَجْزَا وحكى بعض الأدباء، قال: كان بسوسة إفريقية رجل أديب ظريف، فهام بغلام جميل من غلمانها، يروق العين منظره، ويسترق الأحرار مخبره فلما استولى على ذلك الرجل غرامه، وكلفه، وتمادى به أسفه وشغفه، عمد الى المدام، ليداوي بها بعض ما يجد من الآلام، فشرب منها فوق المقدار، وأسرف حتى غلبت على عقله سورة العقار، وحمله السكر على خلع ثوب الوقار، فأخذ قبس نار، وجاء الى دار ذلك الغلام ليحرقها؛ فرأى ذلك من فعله بعض الجيران، فأطفأ النار، وسلمت الدار، وبقي عليها من السَّتر أوقى صَدار. فلما أصبح، جيء بالرجل إلى الحاكم، لما وشى به أهل النمائم،

فسأله لم فعل ذلك، فأنشأ يقول: لمَّا تمادى على بِعَادي ... وأضْرمَ النَّارَ في فُؤَادِي ولم أجِدْ مِنْ هَوَاهُ بُدّاً ... ولا مُعيناً عَلَى السُّهادِ حَمَلْتُ نَفْسي عَلَى وُقُوفي ... بِبَابِهِ حَمْلَةَ الجَوادِ فَثَارَ مِنْ بَعْضِ نارِ قَلْبِي ... أَقَلَّ مِنْ قَدْحَةِ الزِّنادِ فاحترقَ الدَّارُ دونَ عِلْمي ... ولم يكنْ ذاكَ منْ مُرَادِى فاستظرفه قاضي البلاد، وتحمل عنه قيمة ما أفسد. قال أبو عبد الله الحميدي: فكنت أظن أن هذه المعنى ممَّا تفرد به هذا الرجل حتّى أخبرتُ أن نصربن أحمد دخل على أبي الحسين المثنى في

إثر حريق المربد فقال له: هل قلت في هذا شيئا؟ فقال: ما قلت شيئا ولكن أنشدك ارتجالا: أتتكم شهود الورى تَشْهد ... فَمَا يستطيعون أَنْ يَجْحدوا فَيَامِرْ بَدِيُّونَ ناشدتكم ... على أَنَّني مِنْكُمُ كَمِدُ جَرَى نَفَسي صُعُداً نحوكم ... فَمِنْ حرٍّه احترق المِرْبدُ وهاجت رياحُ حنيني لكم ... فظلت بها نارُكم توقدُ فلولا دموعٌ جَرَتْ لم يكنْ ... حَرِيقُكُمُ أَبَداً يَخْمُدُ قوله: وهاجت رياح حنيني لكم البيت. كقول أبي اسحاق الحصري: وَلَقَدْ تَنَسَّمْتُ الريَاحَ لَعَلَّني ... أَرْتَاحُ أَنْ يبعثن منك نسيما فَأَثَرْنَ منْ حُرَقِ الصبابة كامناً ... وأذَعْنَ من سِرِّ الهوى مكتوما وكذَا الريَاحُ إذا مررنَ على لَظى ... نارٍ خَبَتْ ضَرَّمْنَهَا تَضْريماً

وفي معناه يقول ابن هُذَيْلِ القرطبي: رَوَّحَني عَائِدي فقلتُ له ... مَهْ لا تَزِدْنِي على الذي أجِد أَمَا تَرَى النَّارَ وَهْيِ خَامِدَةٌ ... عند هُبوبِ الرّياح تَتَّقِدُ قوله: (مَهْ) معناه: اكْفُف. يقال: مَهْمَهت بالرجل؛ إذا زجرته. ومثله صَهْ. ومعناه: اسكت. وفي الحديث عن: ابن عباس، أن النبي عليه السلام دخل على عثمان بن مظعون حين مات. فأكب عليه ثم رفع رأسه، فكأنهم رأوا أثر البكاء في عينيه، ثم جثا عليه الثانية؛ فرفع رأسه فرأوه يبكي، ثم جثا عليه الثالثة، ثم رفع رأسه، وله شهيق فعرفوا أنه يبكي، فبكى القوم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَهْ. إنما هذا من الشيطان. ثم قال: استغفروا الله". وفي الحديث أيضا، فيما روى معمر عن الزهري، عن صفوان بن

عبد الله بن صفوان، أنه قال: قام رجل يوم صفين. فقال: اللهم العن أهل الشام. فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: مَهْ. لا تسب أهل الشام جَمّاً غفيراً؛ فإن منهم الأبدال. قول علي رضي الله عنه: (جَمَّاءٌ غفير) كلمة معناها: الوفور والكثرة. وحكى أبو عمر المطرز فيها ثلاث لغات. يقال: جاء القوم جَمّاً غفيرا. وهذا أفصحها. وكذا جاءت في حديث أبي ادريس الخولاني قلت: يا رسول الله: كم الرسل من ذلك؟ قال: ثلاث مائة وثلاثة عشر جما غفيرا. الحديث. وجاء القوم جَمَّاء الغفير، والجَمَّاء الغفير، وعلى هذه اللغة الثالثة جاء قول الشاعر: كبيرُهم وطِفْلُهُم جَميعاً ... هُمُ الجَمَّاءُ في اللَّوْمِ الغَفيرُ وقال الكميت: وقد كان جِلَّتُهُمْ والرَّعَا ... عُ جَمَّاءَ في شَنآنِي غفيرا وحكى غير أبي عمر وجاء القوم جَمَّا الغفير، بالإضافة. قال أبو عمر

وقد تناظر فيها أبو العباس أحمد بن يحيى ومحمد بن يزيد في الاعتلال لها، والاحتجاج لإلزامها، النَّصَفُ من الإعراب. وحكى عن البصريين، ومن يقول بالاشتقاق. الجَمَّاء، مشتقة من قولهم بئر جَمَّة أي كثيرة الماء. والغَفِير؛ مأخوذ من الغَفْرِ، وهو السَّتْر، ومنه سمى المِغْفَر، لأنه يُغَطي الرأس ويسْتُره. والمعنى أنهم لكثرتهم يغطون وجه الأرض وحكى غير أبي عمر أن المعنى: جاءوا جميعا. والجَمَّاءُ الغَفير؛ بيضة الحديد التي تجمع الشعر. والمعنى أنهم جاءوا مجتمعين، كاجتماع البيضة، وما تحتها من جَمَّة الشعر، وهو اجتماعه. والغفير من قولهم: غَفَرْتُ المتاع، إذا غطيته وسترته. وانتصابه على الحال قال أبو حاتم: تقول العرب: هم فيها الجَمَّا الغَفير بالنصب على توهم جَمّاً غفيرا. لأن الحال لا يكون معرفة. قال: وهذا مثل قوله: لا هَيْثَمَ الليلةَ للمطي وهيثم معروف بعينه. وإنما تنصب في النفي النكرات، وترفع المعارف. ومثل قوله: لا هيثم الليلة للمطي: قول معاوية: كان إذا أتته معضلة شديدة يقول: (مُعْضِلَةٌ ولا أبا حسن لها). وحكى سلمة، عن الفراء أنه قال: هذه معرفة وضعت في موضع

النكرة، وأعطيت إعرابها. كأنه قال: معضلة ولا رَجُلٌ لها كأبي حسنٍ، يؤخذ عِلْمُهَا من قِبَلِهِ وحق التبرئة أن تقع على النكرة كقولك: لا باكيةَ لخَمرة، ولا حامية للجيش. وكقول الشاعر: تعدو الذئاب على من لا كلاب له رجع وما أحسن قول ابن الرومي في المعنى المتقدم: لاَ تُغْرين جوىً بِلَوْمٍ إنَّهُ ... كالريحِ لا يُغْري الناربالإحراق وقول عبد المحسن أيضا: قَبَّلْتُهَا أشْتَفي بِقُبْلَتِها ... فَزَادَني ذَلك اللَّمَى أَلَمَا

ولأبي العشائر في المعنى وهو: ما بالُ ريقك ليس مِلْحاً طَعْمُهُ ... ويزيدني عَطَشاً إذا ما ذُقْتُهُ وحكى أبو العباس محمد بن يزيد المبرد قال: ارتاح محمد بن عبد الله بن طاهر يوما للمنادمة، وقد حضرهُ وزِيرُهُ ابن طالوت، وكان أخصَّ النَّاس به، وأَحْضَرَهُم لِخَلَوَاتِه. فَأَقْبَلَ عليه، وقال: لا بد لنا في يومنا هذا، من ثالث تَطِيبُ بقوله المُعَاشَرَة، وتَلَذُّ بِمُؤَانَسَتِه المُنَادَمة. فَمَنْ تَرى أَنْ يَكُون؟ واعفنا من شَرسِ، الأَخْلاق، أَوْ دنس الأَعراق، أَو طَاهِرِ الأَخلاق. فَأَعْمل ابن طالوت فكره، ثم قال: أيُّها الأمير، خَطَر ببَالي رَجُلٌ، ليست علينا من مُجَالسته مؤُنة. قد خَليَ من إبْرَام المَجَالِس، وبَرِئَ من ثِقَلِ المُؤَانس. خفيف الوطأة إذا أحببت، سريع الوثبة إذا أردت. قال: وَمَنْ ذلك؟ قال: ماني الموسوس. قال: أَحْسَنْتَ واللهِ فلتتقدم إلى أصحاب الثمانية والعشرين في طلبه برقعة

رقعة. فما كان إلا هنيهة، واقتنصه صاحب الكرخ، وجاء به إلى باب الأمير فأخذ، وحذف ونظف، وأُدْخِل الحمام، وأُلْبِسَ ثياباً نظافا، وأُدْخِلَ على الأمير. فقال: السلام عَليك أيها الأمير. فقال محمد: وعليك السلام ياماني. ألم يَأْنِ لك أن تزورنا على حين شوقٍ منَّا إليك، ومنازَعَة قُلُوبٍ نحوك. فقال ماني الشوقُ شديدٌ، والحُب ُّ عَتيدٌ، والمزَارُ بعيد، والحِجَابُ صَعْبٌ، والبوَّابُ فَظٌّ. فلو سَهَّلَ لَنَا في الإذن، لَسَهُلَتْ علينا الزِّيَارة فقال الأمير: أَلْطَفْتَ في الاسْتِئْذَان، فَلْتُلْطِف لَك في الاذن، لا يُمْنَعَنْ ماني أيَّ وَقْتٍ جَاءَ، أو وَرَدَ، من ليْل أَوْنهَار. ثم أَذِن له في الجُلُوسِ، فَجَلَسَ، ودَعَا له بالطَّعَامِ، فَأَكَلَ، ثم غَسَلَ يَدَيْهِ وأخذ مجلسه وكان محمد قد تَشَوَّقَ إلى السَّمَاع منْ تنوسة جارية ابنة المهدي. فأُحْضِرت، فكان أول ما غَنَّتْ به: ولستُ بناسٍ إذْ غَدَوْا فتحدرت ... دُمُوعي على الخَدَّين من شدةِ الوَجْدِ وَقَوْلي وقد زَالتْ بليلٍ حُمُولُهُمْ ... بَوَاكِرُ تَخْدي لا يَكنْ آخر العهدِ فقال لها ماني: أحسنت وبحق الأمير ألا ما زِدْتِ فيه: وقمْتُ أنَاجِي الفِكْرَ والدَّمْعُ جَائِرٌ ... بمُقْلَةِ مَوْقُوفٍ على الضُّرِّ والجَهْدِ ولَمْ يُعْدِني هذا الأمير بِعِزَّةٍ ... على ظالمِ قد لَجَّ في الهَجْرِ والصَّدِّ

فاندفعت الجارية تُغَنِّيه. فقال الأمير: أَعَاشِقٌ أنت يا ماني؟ فاسْتَحْيَى، وَغَمَزَ ابن طالوت أَلاَّ يَبُوحَ له بشيء، فيسقط من عينه. فقال: مَبْلَغُ طَرَبٍ وشوق. كان كامنا فَظَهَرَ. وَهَلْ بَعْدَ المَشِيبِ صَبْوَة؟ ثم اقترح محمد على تنوسة بهذا الصوت: حَجَبُوهَا عن الرِّيَاح لأنِّي ... قُلت يا رِيحُ بَلِّغِيها السَّلاَمَا لَوْ رَضُوا بالحِجابِ كانَ ولكِنْ ... مَنَعوها عندَ الرِّيَاحِ الكَلامَا فَغَنَّتْه فَطرِبَ محمد، ودَعا برطل فشرب. فقال ماني: ما على قائل هذا الشِّعر، لوْ زَاد فيه: فَتَنَفَّستُ ثُمَّ قُلتُ لِطَيْفِي ... آهِ إن زُرتَ طيفَها إلْماماَ خُصَّها بالسَّلاَمِ سِرّاً وإِلاَ ... منَعوها لِشِقْوَتِي أَن تَنَاما فكان أثقفَ لدبيب الصبابة بين الأحشاء؛ وألطفَ تغلغلا الى كبد الصَّدى من زُلاَلِ الماء، مع حسن تأليف نظامه، والانتهاء بالمعنى الى غاية تمامه. فقال محمد: أحسنت يا ماني. ثم أمر تنوسة بإلحاقهما بالبيتين الأولين، والغناء بهما. ففعلت، ثم غنت بهذين البيتين: يا خَليليَّ ساعةَ لاَ تَرِيما ... وعَلَى صَبَابَةٍ فأُقِيما ما مَرَرْنا بِدارِ زَينبَ إلاَّ ... هَتَكَ الدَّمعُ سِرِّي المَكْتوما

فاستحسنه محمد. فقال ماني: لولا رهبة التعدي، لأضفت إلى هذين البيتين، لا يَرِدان على سَمْعِ ذِي لُبٍّ، فَيَصْدُرَان إلاَّ عن استحسان لَهُما فقال محمد: الرغبة في حسن ما تأتي به حائِلَةٌ دون كُلِّ رهبة. فَهَاتِ ما عنْدَكَ. فقال: ظَبيةٌ كالهلالِ لو تَلحُظ الصّخْرِ ... بطَرْفِ لَغَادَرَتْهُ هَشِيما واذا ما تبسَّمَتْ خِلتُ إيما ... ض بُرُوقٍ أوْ لُؤْلُؤاً مَنْظومَا فقال محمد: أحْسَنْتَ وَاللَّهِ يا ماني. فَأجِزْ هذا الشعر: لِم تَطِبِ اللَّذَّاتُ إِلاَّ بِمَن ... طابَتْ بهِ اللَّذَّاتُ تَنُّوسَهْ غَنتْ بِصِوْتٍ أطلقتْ عَبْرةً ... كانتْ بِحُسْنِ الصَّبْرِ مَحْبُوسَهْ فقال ماني على البديه: وكَيْفَ صَبْرُ النَّفْسِ عنْ غَادَةٍ ... أظْلِمُهَا إن قُلْتُ طَاوُوسهْ وَجُرْتُ إنْ شَبَّهْتُها بانَةً ... في جَنَّةِالفِردوْسِ مغْروسهْ وَغَيرُ عَدْلٍ إنْ عَدَلْنا بها ... جَوهرة في البحْرِ مَغمُوسَهْ ثم سكت، فقال محمد: عدافِي وَصْلِك لها، فقال ماني: جَلَّتْ عن الوَصْفِ فَما فكرةٌ ... تَلْحَقُها بالنَّعْتِ مَحْسُوسَهْ

فقال محمد: أحْسنت، فقالت تنوسة: وجب شكرك يا ماني، فَساعدك دهرُك، وعَطَفَ عليك إِلْفُك، وقارنك سرورك، وفارقك محذورك. واللَّهُ يُديمُ لنا ذلك ببقاء مَن به اجْتمع شَمْلُنا فقال لها ماني عند قولها: (وَعَطَف عليك إلفك) مجيبا: لَيْسَ لي إِلْفٌ فَيَقْطَعُنِي ... فَارَقَتْ نَفْسِيَ الأَبَاطِيلُ ثم أنشأ يقول: أَنا مَوْصُولٌ بِنِعْمَةِ منْ ... حَبْلُهُ بِالمَجْدِ مَوْصولُ أَنا مَغْبوطٌ بِزَوْرَةِ منْ ... طَبْعُهُ بِالحمدِ مَأْمُولُ ثم أومأ إليه ابن طالوت بالقيام فنهض وهو يقول: مَلِكٌ قلَّ النَّظَيرُ له ... زَانَهُ الغُرُّ البَهَاليلُ طاهري في مركبه ... عُرْفُهُ في النَّاسِ مَبْذُولُ دَمُ منْ يَشْقى بِصَارِِمه ... مَعَ هُبُوبِ الرِّيح مَطْلُولُ يا أَبَا العباس صنْ ... أَدَباً حَدُّهُ بِالدَّهْرِ مفْلُولُ فقال محمد: وجب جَزَاؤك، لِشُكْرك على غير نعمة تقدمت. ثم أقبل على ابن طالوت فقال: ليْسَت خساسةُ المرْءِ، ولا اتضاح المنظر، ولا نُبُوُّ العين عن الظَّاهر، بِمُذْهِبٍ جَوْهَرِيَّة الأدب المركبة في الإنسان. وما أخْطأ صالح ابن عبد

القدوس حيث يقول: لاَ يُعْجِبَنَّك مَنْ يَصُونُ ثِيابَهُ ... حَذَرَ الغُبارِ وَعِرْضُهُ مَبْذولُُ ولَرُبَّما افْتَقَرَ الفَتَى فَرَأَيْتَهُ ... دَنِس الثِّيَاب وعرْضُهُ مَغْسُولُ قال ابن طالوت فما رأيتُ أحْضَرَ ذِهْناً منه؛ إِذْ تَقُولُ له الجارية: (عَطَفَ عليك إِلْفُكَ)، وإبعاده عند قولها ذلك بقوله: ليس لي إلفٌ فَيَقْطَعُني ... فارقَتْ نفسِي الأباطيلُ فلم يزل محمد بن عبد الله بن طاهر مُجرياً عليه رزقا سنِيّاً حتى توفي.

الباب الرابع: في الحب

الباب الرابع: في الحُبِّ قال أبو إسحاق: وقد أثبتُّ في هذا الباب السَّابغ الأطناب؛ المتصل الأسباب، من الأحاديث، وأقوال العلماء، والحكماء، جملا تعيد سامعها ثملا، دون تعاطي أكواس العقار؛ وإصاخة إلى تحنين المزاميز والأوتار. والحبُّ نقيض البُغْض، وخِلاَفه. وأصل الحب: الإِرَادَة. بدليل قولهم: أحببت أن أفعل كذا؛ بمعنى: أردت أن أفعل. يقال منه: أحبه يحبه إحباباً. وحبَّه حباً. وتحبب تحببا. وحببه تحبيبا. وقال صاحب العين: المحبَّةُ: الحُبُّ. وقد استعاروا لفظ الحب، لميل الطباع. كقولهم: فلان يحب ولده أن يميل طبعه إليه، والحُبُّ أيضا، الجَرَّةُ الضخمة. سميت بذلك لأنها تضم ما يُحَبّ. فأما الحَبّ بفتح الحاء، فجمع حَبَّة؛ من بُرٍّ، أو شعير، أو زبيب، ونحو ذلك. وحَبَّةُ القلب؛ ثمرته. والحِبّ بكسر الحاء؛ القُرطُ؛ من حبّة واحدة. وقد تنازع الناس في ابتداء وقوع الحب، وكيفيته. وهل كون وقوع عن نظر، وسماع، واختيار، أم عن اضطرار.

وسئل حماد الراوية عن الحب فقال: الحب شجرة أصلها الفكر، وعروقها الذكر، وأغصانها السهر، وأوراقها السقم، وثمرها المنية. وسئل بعض الحكماء عن الحب فقال: هو أغمض مسلكاً في القلب، من الروح في الجسد. وليس أمر الهوى إلى الرأي فيملكه، ولا إلى العقل فيدبره. بل قدرته أغلب، وجانبه أعزّ من أن تنفذ فيه حيلة حازم أو لطف محتال وقال معاذ بن جبل: الحُبُّ أَصْعَبُ ما رُكِب، وأَسْكَر ما شُرب، وأفظع ما لُقِي، وأَحلَى ما اشْتُهِي، وأوجع ما بَطَن، وأشهر ما عَلَن. وأنه لكما قال الشاعر: وَلِلْحُبِّ آيَاتٌ إِذَا هِيَ صَرَّحَتْ ... تَبَدَّتْ عَلاَمَاتٌ لَهَا غُرَرٌ صُفْرُ فَبَاطِنُهُ سُقْمٌ وَظَاهِرُهُ جَوَى ... وَأَوَّلُهُ ذِكرٌ وَآخِرُهُ فِكْرٌ والهوى آمرٌ مطاع، وقائد متبع. يفتن الأذهان، ويشجع الجبان. وعلامته نحول الجسم، واصفرار اللون، وخشوع البصر، وتواتر التنفس، وسرعة الدمع. وقال علي رضي الله عنه: (آفَةُ العَقْل الهَوَى). وقال عبد الله بن

عباس: (الهَوَى إِلهٌ مَعْبُود). وتلا قول امره تعالى: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ). وقال بعض الحكماء: - الهَوَى جَلِيسُ مُمْتع، واَلِيفٌ مونس، ومالك قاهر. يملك الأبدان وأرواحها، وامقلوب وخواطرها، والعيون ونواظرها، والنفوس واراها. توارى على الأبصار مدخله؛ وخفي عن القُلُوبِ مسلكُه. وسئل أبو نوفل المدني: هَلْ سَلِمَ أحدٌ من الحب والهوى؟ فقال: نعم، الجِلْفُ الجافي الذي ليس له فَضْلُ ولاَفَهْمٌ. فأمَّا من في طبعه أدنى ظَرْف، أو أقل لُطْف، أو معه دماثة أهل (الحجاز) وحلاوتهم، ورقة أهل (العراق) وأدبهم؛ فهيهات هيهات. وما رأيت فاضلا يسلم من الهه؛ لكن في الناس من يملك نفسه، ويغلب هواه، ولا يظهر ما كمن في قلبه. قوله: (الجِلْف الجافي) يريد الأعرابي الجافي في خلقته وأخلاقه. وقال أبو حاتم عن أبي عبيدة: الجِلْفُ هو الجافي، الخالي الجوف مثل الدن الفارغ. ويقال للشاة المسلوخة بلا رأس، ولا بطن: جِلْف. وإِنما يقال للرجل: جِلْف؛ إذا وصف بالجَفَاء، وقلة العقل. يراد أن جوفه هواء خال من العقل. وأنشد يعقوب، لقيس بن الخطيم:

كَأَنَّ لَباتِهَا تَبَدَّدَهَا ... هَزْلَى جَرَادٍ، أَجْوَازُهُ جُلُفُ يَعْني بِلاَ رُؤُوس، ولاَ قَوَائم. فشبَّه ما على لَبَّات هذه المرأة من صنعة الذهب بالجراد. والجِلْفُ من كل شيء: ما كان غير نَظِيف، ولا مُحْكَم. أنشد ابن الأعرابي، عن أبي صالح الفزاري: الْوَحْشُ خَيرٌ مِنْ مَبِيتٍ بِتُّهُ ... بِجَنُوبِ زَخَّةَ عِنْدَآلِ مُعَارِكِ جَاؤُوا بِجِلْفٍ مِنْ شَعيرٍ يَابِسٍ ... بَيْنِي وَبَيْنَ غُلاَمِهِمْ ذِي الحَارِكِ والوَحْشُ؛ أن يبيتَ الرجل طاوياً. ومنه قول حميد يصف الذئب: وإِنْ بَاتَ وَحْشاً طَاوياً لم يَضِقْ بِهَا ... ذِراعاً ولم يُصْبِحْ لها وَهْوَ خاشِعُ ويقال: بَاتَ القوم أو حاشاً، وقد أَوْحَشُوا مُذْليلتين، أو ثلاث: أي ذهب زاَدُهم، والرَّجلُ مُوحِشٌ بَيِّنُ الإِيحاش، ويقولون: تَوَحَّش للدواء: أي أَخْلِ جوفَكَ من الطعام. وفي حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فيما روى نعيم بن حماد

عن سفيان، عن زياد بن سعد، عن الزهري، عن أبي عثمان بن شبة، قال: سمعت علياً يقول في صلاة المغرب اللَّهم العن فلاناً الجلف الجافي. وقيل لأعرابي: صفْ لنا الحب، فانتحب ثم قال بِالقَلْبِ وَثْبَتُه، وبالفُؤاادِ وَجْبَتُه، وبالأحشاء نارُه، وسائر الأعضاء خُدَّامُه، العَقْلُ من الحبِّ ذَاهل، والجِسْمُ نَاحِل، وَالدُّمُوعُ هَوَامِل. مُرُورُ الأَيَّامِ المُخْلِقَات تُجَدِّدُه؛ والإساءة من المحبوب لاتفسده. ثم أومأ بيده إلى قلبه وأنشأ يقول: أَلاَ فَتَخَلَّصْ إِنَمَا أَنْتَ شَامِتُ ... لمَا لم يكن يَا قلبِ يَنْفَعُكَ الزَّجْرُ كَأن دُمُوعي غصنُ طَرْفَاءَ حَركت ... أَعَاليه أَرْيَاحٌ وَأهطله قَطْرُ قال أبو إسحاق: وهو يَتَوَلَّد، ويَتَسَبَّبُ من النَّظَرِ، وتَكَرُّرِ اللَّمْحِ بالبصر. والدَّلِيلُ على هذا، قول الرسول عليه السلام: "النَّظَرُ سَهْمٌ مسمومٌ من سِهَامِ إِبليس. فمن تَرَكَهُ خَوفاً من الله، أثابه الله إيماناً يجد حَلاَوَتَه في قلبه". وقال عليه السلام: "لاتُتْبِع النظرة النظرة. فإِنَّما لَكَ الأولى وليست لك الآخرة". ولهذا المعنى، دخلت (من) في قوله تعالى (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ).

لأن النظرة الأولى لاتَمْلك، فوجب التبغيض لذلك. ولم يقل ذلك في الفروج؛ لأنها تملك. وغَضُّ البَصَرِ عن جميع المحرمات؛ عن كل ما يُخْشَى الفتنة من أجله واجب. ولما وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد عبد القيس؛ كان فيهم غلامٌ أَمْرَد، ظاهر الوضاءة؛ فأجلسه النبي عليه السلام وراءه. وقال: "كَانَتْ خَطِيئَةُ دَاوود النَّظر". وفي الحديث عن الأعمش، عن أبي صالح عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لاتُجَالِسُوا أَوْلاَدَ الملوك، فَإِنَّ لَهُم فِتْنة كفتنة العذارى". وجاء عنه عليه السلام أنه قال: "غضُّوا أَبْصَارَكم عن الغلمان المُرْد فإن لهم فِتَناً كَفِتَن النساء". وقال سعيد بن حميد الكاتب: نظرتُ وقَادَتني إلى الحَتْفِ نَظْرَةٌ ... إِلَيكِ بِمَكْنونِ الضَّمِير تُشِيرُ فَلا تَصْرِفَنَّ الطَّرْفَ فِي كُلِّ مَنْظَرٍ ... فَإِنَّ مَعَارِيضَ البَلاَءِ كَثِيرُ

وقال مهيار في المعنى: نَظرةٌ عَادَتْ فعادت حَسْرَةً ... قتل الرَّامِى بِهَا مَنْ جَرَحَا وقال الآخر في المعنى: نَظرَةٌ كَانَتْ لِحَيْنِي سَبَباً ... جَلَبَ الْحَيْنُ لَهَا مَا جَلَبَا وقال ابن الرومي فيه: أورثت قلبي سقاماً ... نظرة فيها سقامُ وقال الأديب الكامل، أبو العباس أحمد بن عبد ربه: نَظَرْتُك نَظْرة بِالخِيف كانَتْ ... جَلاءَ العَيْن بَلْ كَانَتْ قَذَاها فآهاً كَيْف تَجْمَعُنا الليالي ... وآهاً من تَفَرُّقِنا وآها وقال المُؤَمِّلُ بن أميل: شَفَّ المُؤَمِّلَ يوم الحيرة النظر ... ليت المؤملَ لم يُخْلَقْ لَهُ بَصَرُ وقال غيره: الحُبُّ دَاءُ رجالٍ يُقتلُون به ... ظلماً وأولُ أسبابِ الهوى النَّظَرُ قد كنتُ أحْذَره حتى ابْتُليتُ به ... لو كان ينفعني الإشْفَاقُ والحَذَرُ

وقال ادريس بن اليماني: عَن الهوى إِنْ تَسَلْ: أصلُ الهوى النظر ... وَرُبَّمَا قَادَ حَتْفَ المُهْجَة البَصَر وقال فيه أبو محمد بن عبد البر: لاَ تُكْثِرَنَّ تَأَملا ... وَاحْبِسْ عَلَيكَ عِنَانَ طَرْفِكْ فَلَرُبَّما أَرْسَلْتَه ... فَرَمَاكَ في مَيْدَانِ حَتْفِكْ وقال أبو محمد الجزيري: واغْضُضِ الطَّرْفَ تَسْتَرِحْ من غرامٍ ... تكتَسِي فيه ثوبَ ذُلٍّ وَشيْنِ فبلاءُ الفتَى اتِّباعُ هَوَى النف ... س وبَدْءُ الهوى طُمُوحٌ بعَيْنِ وجاء عن ابن عباس أنه قال: كُنَّا عند رسول الله صلى الله عليه، فمرَّبنا غلامٌ من الأَنْصَار، جميل الوجه، فَحَدَّ إليه نظرهُ، فقال له (جبريل) عليه السلام "لِمَ فَعَلْتَ ذلك يا رسول الله"؟ فقال: "رأيت وجهاً جميلا فسبحت الله أحسن

الخالقين". وقال سفيان بن عيينة: كنت عند بكر بن عبد الواحد بن زيد، فمرّ به غلام من (ثقيف) حسن الصورة، فحدّق إليه بصره، ثم قال: (أَتُرَانَا لاَ نشتهي الذّكران من الرِّجال، وَشُرْب الخمر في البساتين؛ ولكن خوف الله تبارك وتعالى يَمْنَعُنا). وفي كتاب الشيخ أبي حامد رحمه الله، أن أهل مصر مكثوا أربعة أشْهُرٍ، لم يكن لهم غذاء إلاّ النظر إلى وجه يوسف الصديق عليه السلام. كانوا إذا جاعوا، نظروا إلى وجهه، فيشغلهم جماله عن ذلك. ألا ترى أن الله تعالى قال في كتابه العزيز: (مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ)، لأنهن أبلغن في ملاحظة جماله، حتى ما أَحْسَسْنَ بذلك. وسئل أعرابي عن الهوى، فقال: هو داء تداوى به النفوس الصحاح، وتسيل منه الأرواح، وهو سُقْمٌ مُكْتَتِم، وَجَمْرٌ مُضْطَرِم، وأنشد: الحبُّ دَاءٌ عَيَاء لاَدواءَ له ... يَضِلُّ فيه الأطباءُ النحارِيرُ قد كُنتُ أحسِبُ أن الوَاصِفِين غَلَوْا ... في وصفه فإذا بالقوم تقصيرُ وكان عامر الشعبي رحمه الله يقول: إِنَّمَا سمى الهوى هوى، لأنه يهوي بصاحبه.

وحقيقة الحُبِّ أنه أَرْيَحِيَّة؛ تحدث في النفس داعية إلى مالايجوز في العقل. وذلك أن اتباع الهوى مذموم. قال الله تبارك وتعالى (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى). وقال الطبيب إبقراط: الهَوَى بين المُتَصَافِيَيْن؛ هُوَ اْمْتِزَاجُ النَّفْسِ بالنفس، كما المَاءُ إذا امتزج بالماء، عَسُرَ تَخْلِيصُهُ عَلَى مَنْ رَامه. والنُّفُوسُ أَرَقُّ من الماء، وألطفُ مَسْلَكاً. فلذلك لاتُزيله مرور الأيام، ولا يُخْلِقه تصرف الدهر، ولاَيَدْفَعُه دافع دَقَّ عن الأوهام مَسْلكُه، وَخَفِيَ عن الأبصار مَوْضِعُه، وحارت العقولُ في كيفية تَمَكُّنه، غير أنَّ ابتداء حركته، وعظيم سلطانه هما من القلب. ثم ينقسم على سائر الأعضاء؛ فيبدي الرعدة في الأطراف، والصفرة في الألوان، والثقل في اللسان، والزلل، والعثار في المنطق، حتى ينسب صاحبه إلى النقص مما يلحقه من الإضطراب، والتغيير في جميع أحواله. وألمه أشد الآلام. وعلاج صاحبه، يعزب عن الأطباء وذوي الأفهام. ولذلك قال أبو تمام: أَمَّا الهَوَى فَهُوَ العذابُ فَإِنْ جَرتْ ... فِيهِ النَّوَى فَأَلِيمُ كُل أَليمِ قال: وأحبت امرأة رجلا؛ فما فرطت في حبه، فجاءت أختها، فقالت لها: كيف أنت من حُبِّ فلان؟ فقالت: حَرَّكَ، وَاللَّهِ، حُبُّه السَّاكِن، وَسَكَّن المُتَحَرِّك. ثم أنشأت تقول: قد كنت أَسْمَعُ بالمُحبِّ وَشَجّْوِهِ ... فَأظَل منه معَجَّباً أَتَفَكَّرُ

حَتّى ابْتُلِيتُ من الهوى فَعُظْيمَةٌ ... كادَ الفُؤاد من أَجْلها يَتَفَطَّرُ فقالت: واللَّهِ، لا أذهب حتى أسأله؛ كيف هُو مِنْ حبك. فجاءته، فسألته: كيف أنت من حب فلانة؟ فقال لها: (الهوى هوانٌ)، ولكن خولف باسمه، وإنما يعرف ذلك من استبْكته المعارف والطلول مثلي. وأنشد: للحُبِّ نارٌ على قلبي مُضَرَّمَةٌ ... لم يَبْلُغِ النارُ منها غَيْرَ مِعْشَارِ الماءُ يَنْبُعُ منها في محاجرنا ... ياللَرجاَلِ لماءٍ فَاضَ من نار وهذا كقول أبي بكر بن دريد من أبيات أربعة قرأتها في (النوادر) لأبي علي: عجباً لنار ضُرِّمَتْ في صدره ... فاستَنْبَطَتْ مِنْ جَفْنِهِ يَنْبُوعَا لَهَبٌ يَكون إذَا تلبَّسَ في الحَشَا ... قيظاً فيظهرُ في الجفونِ ربيعاَ وقال مزروع البصري: بينما أنا أسير في أزقة (البصرة)؛ إذ سمعت صوت رجل؛ فوقفت عليه، وهو ينشد، فقلت له: ما تقول؟ فأنشد: قلبي إلى مَاضَرَّنِي داعي ... يُكثر أشواقي وأَوْجَاعِي

لعَلَ ما أبقَى على ماأرى ... يوشك أن ينعاني النَّاعِي كيفَ احْتِرَاسِي منْ عَدُوي إِذاَ ... كانَ عُدِّوي بَيْنَ أَضْلاَعِي قال: فقلت له: مَا العِشْقُ؟ فقال هو ارْتِيَاحٌ في الخِلْقَة، وفَرَحٌ يَجُولُ في الرُّوح، وسُرُورٌ تُسَبِّبُه الخواطر، في مُسْتَقَرِّ غَامض، ومَحَلٍّ لَطِيفِ المَسَالِك، يتصل بأجزاء القُوَى، وَيَنْسَابُ في الحركات. وهو أُنْسُ العَقْل، وَبَشَاشَةُ الخواطر. وأنشد: كُلُّ النفوس لها في قَتْلها قَوَدٌ ... إلاَّ نُفُوسٌ أَبادتها الدُّمَى القُتْلُ وكُلُّ جرحٍ له شيءٌ يُلائمه ... إلا جروحاً جَنَتْهَا الأعينُ النُّجْلُ وقال الضحاك: بينما أنا أطوف بالبيت؛ إذ سمعتُ جارية تقول: اللهمَّ مالكَ يوم القضاء، وخالقَ الأرضِ والسماء، فارحَمْ أَهْلَ الهوى، واستنقذهم من البلاء، واعطف عليهم قلوبَ أَوِدَّائِهمْ بالصَّفاء، إنك سميعُ الدعاء، فقلت: يا هذه، أما تَتَّقِينَ اللَّه، وأَنْتِ في الطواف، فأَقْبَلَتْ عَلَيَّ بوجه، كأنه فَلْقَةُ قمر. وقالت: إِليكَ عَنِّي! لاَيُرْهِقُكَ الحُبُّ؟ فقلت: وما الحُبُّ؟ قالت: جَلَّ، واللَّهِ، أنْ يَخْفى، وخَفِيَ أن يُرَى، له كُمونٌ ككمون النار في الحجَر إِنْ قَدَحْتَه أَوْرَى؛ وَإنْ تَرَكْتَهُ تَوَارَى. وأنشدني بعض الأدباء لسعيد بن حميد:

ولم أَرَ مثلَ الحبِّ أسْقمَ ذا هوى ... ولا مثل حُكْمِ الحُبِّ كيف يَجُورُ لَقَدْ صُنتُ نفسي في الضمير لَوَانَّهُ ... يُصَانُ لدى الطَّرف النَّمُوم ضميرُ وأنشدني غيره في المعنى: ليس خَطبُ الهوى بِخَطِبٍ يَسِيرِ ... لا يُنَبِّيكَ عَنْهُ مِثْلُ خبيرِ ليسَ أَمرُ الهَوَى يُدَبَّرُ بالرَّأ ... ي وَلاَ بالقِياسِ والتَّفْكِيرِ إِنَّمَا الأَمْرُ في الهوى خَطَراتٌ ... مُحْدَثَاتُ الأُمُور بَعْدَ الأُمُورِ وأنشد أبو نصر في (القلائد) قول الأديب أبي جعفر الأعمى التطيلي: هُوَ الهَوَى وَقديماً كنتُ أَحْذَرُهُ ... السُّقْمُ مَوْرِدُهُ والموتُ مَصْدَرُهُ يالوعةً وجلا من نظرة آمل ... الآن أعرف رشداً كنت أنكره جِدٌّ من الشوق كان الهَزْلَ أَوَّلُهُ ... أقَلُّ شيءٍ إذا فكرت أكْثَرُهُ وَلي حبيبٌ دَنَا لولا تَمنُّعه ... وقد أقولُ نَأَى لولا تَذكُّرُه وقال الآخر في المعنى: يَا عَاذِلي قَدْ كُنْتُ قَبْلَكَ عَاذِلاً ... حَتَّى ابْتُليتُ فَصِرْتُ صَبّاً ذاهلا الحُبُّ أول ما يَكُونُ لجاجة ... فإذا تَمَكَّنَ صَارَ شُغْلاً شَاغِلا

هذا من لفظ العبّاس بن الأحنف حيث يقول: الحُبُّ أَوَّلُ مَا يَكُونُ لجَاجَةً ... تَاْتِي بِهِ وَتَسُوقُهُ الأَقْدَارُ حَتَّى إِذَا اقْتَحَمَ الفَتَى لُجَجَ الهَوَى ... جَاءَتْ أُمُورٌ لاَ تُطَاقُ كِبَارُ وَسُئِل أحد البلغاء عن الحب، فقال: مَنْ كَانَ لَمْ يَدْرِ مَاحبٌّ أَحَسَّ بِهِ ... أَوْ كَانَ في غَفْلَةٍ أَوْ كَانَ لَمْ يَجِد فَالحُبُّ أَوَّلُهُ رَوعٌ وآخِرُهُ ... مِثْلَ الحَرَارَةِ بينَ الخِلْبِ والكَبِد وأنشد أبو نصر في قلائده، قول أبي القاسم بن العطار: الحبُّ تَسْبَحُ في أَمْوَاجِه المُهَج ... لَوْ مَدَّ كَفّاً إلى الغَرْقَى بِهِ الفَرَجُ بَحْرُ الهَوَى غرَّقت فيه سَواحِله ... فَهَلْ سَمِعْتُمْ بِبَحْر كُلُّه لجج بين الهوى والردى في لحظه سبب ... هذي القلوب وهذي الأعين الدُّعْجُ دين الهوى شرعة غفلٌ بلا كتب ... كما مسائله ليست لها حجج لا العَذْلُ يدخل في سمع المشُوقِ ولا ... شخص السلو على باب الهوى يلج

كأن عيني وقد سَالَتْ مدامعها ... بحر يفيض على آفاقه خُلجُ وقالت علية أخت ابراهيم بن المهدي: وُضع الحُبُّ على الجَوْرِ فَلَوْ ... أنْصف المعْشوقُ فيه لَسَمجْ لَيْسَ يُسْتَحْسَنُ في أَمْرِ الهَوَى ... عَاشِقٌ يُحْسِنُ تأليفَ الحُجَجْ وقليلُ الحبِّ صِرْفاً خالصاً ... لك خيرٌ من كثيرٍ قد مُزِجْ وقال الآخر، وقرأته في (النوادر) لأبي علي البغدادي: مَنْ كَانَ يَزْعُمُ أَنْ سَيَكْتُمُ حُبَّهُ ... حتى يُشَكِّك فيهِ فَهْوَ كَذُوبُ الحبُّ أَغُلَبُ للفؤَاد بِقَهْرِه ... من أن يُرى للسَّتْر فيه نَصيبُ وإذا بَدَا سرّ الفؤاد فإنه ... لم يبدُ إلاَّ والفَتَى مَغْلُوبُ إِني لأَبْغَضُ عاشقا مُتَسَتِّراً ... لم تَتَّهِمْهُ أَعْيُنٌ وقُلوبُ وقال العتبي سمعت أعرابيا يقول: مِسْكِين العاَشِق، الرِّيحُ يُقْلِقُه، وَلَمَعَانُ البَرْق يُؤَرِّقه، وَرُسُومُ الدِّيَار تُحْرِقه، والعَذلُ يُؤلمه، والتَّذْكير يسلمه، والبُعْدُ يجرحه، والقُرْبُ يُهَيِّجُه، واللَّيْلُ يُضَاعف بَلاَءه، والنَّوْمُ لايوجد حذاءه،

ولقد تداويت بالبُعْدِ وَالقُرْب فَمَا نَجَحَ فيه دَوَاء، ولا عَزَّاني عَنْهُ عَزَاء. ولقد أحسن الذي يقول: وَقَدْ زَعَمُوا أَنَّ المُحِبَّ إِذَا دَنَا ... يَمَلُّ وَأَنَّ النَّأْيَ يَشْفِي مِنَ الوَجْدِ بِكُلِّ تَدَاوَيْنَا فَلَمْ يَشْفِ مَابِنَا ... عَلَى أَنَّ قُرْب الدَّارِ خَيْرٌ مِنَ البُعْدِ القُرْبُ نَقِيضُ البُعْدِ، ونَظِيرُه الدُّنُوُّ والمجاورة. وأصل القُرْبِ، والبعد، والدنوّ؛ أن توصف بها الأجسام؛ كما أن الحركة والسكون، إنما هما في الأصل للأجسام، وقد يقال: هذا المعنى قريب من ذاك، على معنى المشاكلة، كمقاربة معنى الدلالة، لمعنى الحجة، ومعنى الإشتباه لمعنى الإلتباس، ومعنى العمل لمعني اليقين، ومعنى الدوام لمعنى الخلود، ومعنى اللزوم لمعنى البقاء، وقالوا: كلُّ قُرْبٍ كَوْن، وليس كل كون قُرباً. ومسافة القُرْب معقولة، كما أن مسافة البُعْد معقولة أيضا. وهما أصلان يُسْتَدَلُّ بهما على الكون، لأن الشيئين، أو الجزءين في أول حال وجودهما، لا يخلوان من أن يكونا متلاصقين، أو متباينين. فما تلاصق كنى عنه بالبعد والتقارب والتباين، على مراتب معقولة. والقُرْبُ أيضا؛ قُرْبُ الفرس؛ وهو كَشْحُه: وهو من لدن الشاكلة إلى مَرَاقِّ البَطْن، وكذلك من لدن الرُّفْعِ إلى الإبط: قُرُبٌ من كل جانب. ويقولون: فَرَسٌ لاَحِقُ الأَقْرَابِ فيجمعون. وإنما له قُرْبَانٌ؛ ولكن لِسَعَته جمعوه. كما يقولون: شاةٌ عظيمة الخَوَاصر. وإِنَّما لها خاصرتان. وقد بيّنا هذا في داخل الكتاب.

ويقولون: فَرَسٌ مُقْرِبٌ؛ وهو الذي قد قَربَ مَرْبِطُه، ومَعْلَفُه لكرامته. والجميع المُقْرَبَات، والمَقَارِيب. ويقول: قَرَّبَ الفرس تَقْريبا. وتقريبه دون الجَرْي ويقال: قد حَيّاً فلان وَقَرَّبَ؛ إذا قال: حَيَّاكَ اللَّهُ، وقَرَّبَ دَارَك. والقُربَان: ما تَقَرَّبْتَ به إلى الله تعالى، تبتغي قُرْبة، وتقرِّباً ووسيلة. قال الله تعالى (إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ). ذكر أهل العلم، أن القُرْبَان الذي تقبله الله عز وجل؛ قربان هابيل؛ وكان كبشاً حبسه الله عنده، حتى أخرجه لإبراهيم عليه السلام فداء لابنه، والقُرْبَان الذي لم يتقبله الله، قربان قابيل، وكان زرعاً. وكان علامة تقبل القربان، أن تأتي نار من السماء فتأكله. وقُرْبَانُ المَلِكِ قَرَابِينُه، ووزراؤه. يقال: هذا قُرْبَانٌ من قرابين الملك. مجموع بالنون. وهم الذين يستشفع بهم إلى الملوك. وأنشد أبو بكر بن دريد في قرابين الملك: وَمَالِي لاَ أُحِبُّهُمُ وَمِنْهُمْ ... قَرَابِينُ الإِلَهِ بَنُو قُصَيِّ وقال صاحب العين: القَرَبُ: طلب الماء ليلاً. تقول: قَرَبَ الماء يَقْرُبُهُ، وقد قَرَّبَهُ قَرَباً؛ إذا طلبه ليلا، قال الشاعر:

عَسَلاَنَ الذّيبِ أَمْسَى قاَرِباً ... بَرَدَ اللَّيْلُ عَلَيْهِ فَنَسَلْ ولا يقال لطالب الماء نهاراً قَارِبٌ، وقال الكميت: هَاجَ الصَّوادي والحِرَّانُ فانْدَلَقَتْ ... وَانْقَضَّ سَائِقُهَا الحادي لَهَا القَرِبُ والقَارِبُ: سفينة صغيرة تكون مع أصحاب السفن البحرية، تستخف لحوائجهم. والجمع: القَوَارِب. والقِرَابُ للسَّيف والسِّكين، والفعل منه: قَرَّبْتُ قِرَاباً بالتشديد. ولغة أخرى: قَرَبْت قِرَابا. ويقال: قَرَبَ فلانٌ أهله قُرْبَاناً، كناية عن الغِشْيَان. وَمَا قَرَبْتُ هذا الأمر، ولا قربت فلاناً قُربَاناً ولا قُرْباً. وَيُقَال: أَقْرَبَت الشاة فهي مُقْرِبٌ؛ إذا دنا ولادها. وكذلك الأتان. ولا يقال للناقة إلاَّ أَدْنَتْ فهي مُدْنِ. رجع وقرأت في كتاب (النوادر) لأبي علي أخبرنا أبو بكر. قال: أخبرنا أبو حاتم عن الأصمعي. قال: كان بشر بن أبي مروان شديداً على العصاة، فكان إذا ظفر بالعاصي أقامه على كُرسي، وسمّر كفه في الحائط بمسمار، ونزع الكرسي من تحته، فيضطرب حتى يموت معلقا. وكان فتى من بني عِجْل مع المهلب، وهو يحارب الأزارقة، وكان عاشقا لابنة عم له.

فكتبت إليه تستزيره، فكتب إليها: لَوْلاَ مَخَافَةُ بِشْرٍ أَوْ عُقُوبَتُهُ ... أَوْ أَنْ يَشُدَّ عَلَى كَفِّيَ مِسْمَارُ إِذاً لعطلتُ ثَغري ثم زُرْتُكُمُ ... إِنَّ المحبَّ إِذَا ما اشتاقَ زَوَّارُ فكتبت إليه: لَيْسَ المحبَّ الذي يخشَى العقابَ وَلَوْ ... كَانَتْ عُقُوبَتَهُ فِي إِلْفِهِ النَّارُ بَلِ المُحِبُّ الَّذِي لاَ شَيءَ ينفعُهُ ... أَوْ يَسْتَقِرُّ وَمَنْ يَهْوَى بِهِ الدَّارُ قال: فلما قرأ كتابها، عطَّلَ ثغره، وانصرف إليها، وهو يقول: أستغفرُ اللهَ إِذ خفتُ الأمير وَلَمْ ... أَخْشَ الذي أنا فيه غيرُ مُنْتَصِرِ فشأنُ بِشْرٍ بِلَحْمِي فَلْيُعَذِّبُهُ ... أو يَعفُ عَفْوَ أمير خيرِ مقتدرِ فَمَا أُبَالِي إِذا أَمسيتِ راضيةً ... يا هندُ مانِيلَ من شَعرِي وَمِنْ بَشَرِي ثم قدم (البصرة)؛ فما أقام إلا يومين، حتى وشي به واش إلى بشر. فقال: علي به، فأتيَ به فقال: يافاسق، عطلت ثغرك! هلموا الكرسيَّ. فقال: أعز الله الأمير إن لي عذراً، فقال: وما عذرك؟ فأنشد الأبيات، فرق له وكتب إلى المُهَلَّب، فأثبته في أصحابه. وحكى أبو العباس أحمد بن عبد ربه في كتاب (العقد). قال: قال رجل من الأدباء: لقد جلت في مشارق الأرض، ومغاربها، حتى وصلت إلى حقائقها، فوجدت الإنسان إنما فضل الحيوان بالنطق المعبر عن النفس، المخبر بما يَهْجُسُ في الحس، ويتصور في الضمير. ورأيت اللسان خادم الجنان، بتصرفه يتصرف،

ومع توقفه يتوقف. ووجدت العقل إِمَام الخَواطر؛ وَزِمَام النَّوَاظرِ، وجَلاَء البَصَائر. ومالك الأفهام، وسُلْطَان الأوهام. وَشهِدْت الهَوَى يَخْدَعُ العقل ويَسْحَرُه؛ وَيَمْلِك اللب وَيَقْهَرُه، ويغلب اللبيب ويَبْهَرُه، حتى يَرْتبط بملكه؛ وَيَنْخَرِط في سِلكه. وَعَهِدْتُه لاَ يَعْلَق إِلاَّ بذوي الأَفْهَام اللَّطِيفة، وَالأَوْهَامِ الشَّرِيفَة. فمن اتَّسَعَ بالأَدَبِ بَاعُه؛ واشتدَّ في الظرْف ذِرَاعُه، وزكا أصله وفرعه، وكرم ذهنه وطبعه، وشق بحره وسمعه. وألف من الحلاوة جوا غذيا؛ وصادف من النظافة ثرى ثريا. ولذلك قال عُبَيْد الريحاني: لاَ يَخْلُو أحدُ من صَبْوةٍ إلاَّ أن يكونَ وَحْشِيَّ الخِلْقَةِ، مَنْقُوضَ البِنْية، خلاف تركيب الاعتدال. وقال الرسول عليه السلام: "عجب ربنا سبحانه من شابٍّ ليست له صبوة". وقال الأعمش: (كانوا يَسْتَحِبُّون أن تكون للشاب صبوة). وروى عن ابراهيم بن يزيد النَّخعي، إنه كان يعجبه أن تكون للصبي إذا نشأ صبوة. وإِنَّمَا كان يعجبهم ذلك منه، وإن كان تَرْكُ الصَّبا أسلم له، لأنه إذا تاب وارعوى، كان أشدَّ لاجتهاده في الطاعة، وأبعد له من أن يعجب بعمله، وذكر للأعمش هذا الكلام، عن ابراهيم، فقال: يخاف، ويحذر، ويجتهد. وقال أبو حازم: إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ السيئَة؛ إن عمل حسنة قط، أنفع له

منها. وإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ الحَسَنَة؛ إن عمل سيئة قط، أضر عليه منها. قال ابن الأعرابي: معناه؛ أن يعمل الذَّنْب؛ فلا يزال منه مشفقاً وَجِلاً أن يعاوده فينفعه ذلك. ويعمل الحسنة فيحتسبها على ربه، ويعجب بها، ويَنْسَى فضل الله عليه فيها فتهلكه. وقال الحسن: إِنَّ الرَّجُلَ لَيذنب الذَّنب، فما يزال كئيبا حتى يَلْقَى ربه؛ وإذا مال الرجل إلى الهوى قبل: صَبَا يَصْبُو صَباً وَصَبْوَةً. قال الشاعر: وَمَا يَسْتَوي الصَّابي ومَنْ ترَكَ الصَّبَا ... وَان الصَّبَا لَلْعَيْشُ لَوْلاَ العَوَاقِبُ وكانوا يقولون (الغَريبُ مَنْ لَيْسَ لَهُ حَبيب). وحكى يحي بن الفضيل، عن الأصمعي أنه قال: كنت في بعض البوادي، فقال لي أعرابي: يا أصمعي! أنت بهذه البلدة غريب. فقلت له: نعم. فقال: هيهات هيهات! (إنما الغريب من جفاه الحبيب). وقال الشاعر: وفي الجِيرةِ الغَادِينَ مِنْ بطن وَجْرَةَ ... غَزالٌ كحيلُ المُقْلَتَينِ رَبِيبُ فلا تحسَبِي أن الغريبَ الذي نأى ... ولكنَّ مَنْ تَنْأَيْنَ عنه غَريبُ

وشكا مؤدب أولاد سعد بن سليمان إلى سعد بعض أولاده. فقال له سعد: ومَا يُرِيبُكَ منه؟ قال: إِنَّه يَتَعَشَّقُ، وَيَشْغَلُ بَالَه. فقال له سعد: دَعْهُ يَتَعَشَّق، فإِنه يَظْرُفُ، وَيَنْظُفُ، وَيَلْطُفُ. قال أبو إسحاق: والفرقُ بين الحبِّ والعِشْق: أن الحُبَّ في غالب الأمر عَارٍ من الشهوة؛ بَلْ في كل الأمر. لأن الله تعالى قال في كتابه العزيز (فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ). وقال تعالى: (وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) وقال تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ). وفي حديث أبي هريرة فيما روى حفص بن عاصم عنه: إن من السبعة الذين يُظِلُّهم الله - عز وجل - في ظِلِّه، يوم لاظِلَّ إِلاَّ ظِلُّه رجلا لقى آخر فقال له: وَاللهِ إِنِي لأُحِبُّكَ في اللَّهِ عز وجل، وقال الآخر مثل ذلك. وفي كتاب (الشهاب):

"حَبَّذَا المُتَحَابُّونَ مِنْ أُمَّتِي" وفي الحديث الصحيح: "لايَزَالُ العَبْدُ يتقرب إِلَيَّ بالنوافل حتى أحبه". ومحبة الباري سبحانه للعبد؛ رحمته إياه، وتوفيقه للعمل بطاعته. ومَحَبَّةُ العبد لله تعالى إِنَابَتُه إليه، وَعَمَلُه بطاعته، وانْتِهَاؤُه عن مَعْصِيَّته. فَكَنَّى عن هذا كله بالمحبة. وليس في هذا كله شهوة. إنما هو إِرَادة ورغبة في حَمْد الله، والثَّنَاء عليه. وحُبُّ المؤمن للمؤمن هو إِرَادَتُه مَدْحَه، والثَّنَاء عليه قضاءً لحقه. فإذا قيل: المُومِنُ يحب المومن؛ فمعناه أنه يريد مدحه، وَيَلْهَج بالثناء عليه. ولا يقال: المومن يريد المومن؛ لأن المحبَّة لما كانت تستعمل على مَيْل الطباع، أخرجت ذلك المخرج في الكلام، للمبالغة فيما يراد من التعظيم في الصفة. وليس العِشْقُ كما ذكرنا، لأنه مَمْزُوجٌ بالشهوة، وهو لَذَاذَاةٌ تَصْدُرُ عن فُرُط. اللَّحْظ، وكثرة الإستحسان بمناسبة روحانية ومجاذبة فلكية، وهو مخصوص بالشَّباب؛ فإن صادف مسنا، فذلك فتنة مُضّلَّة، نعوذ بالله منها. وقال بعض الحكماء: العِشقُ ضرورة شغل نفس فارغة. وقال أرسطوطاليس: العِشقُ ضرورةٌ داخلة على النفوس.

وقال بعض الحكماء: العِشْقُ طَمَعٌ يتولد في القلب، ويَنمى، وتسري إليه موادُ الحركة، فكلما قَوِيَ، ازداد صاحبه في الاهتياج واللجاج، والتمادي في الفِكر والهيمان، وضيق الصدر. فإذا فَسَد الفكر، أدى ذلك إلى الجنون؛ فربما قَتَل العاشقُ نفسه، وربما مات غَمّاً وحُزناً، وربما نظر إلى معشوقه، فمات فرحاً، وربما شَهقَ الشهقة، فَخَفِيَ روحه أربعة وعشرين ساعة، فَيُظَنُّ أنه قد مات فيدفن حيَّا. وربما تنفس الصعداء، فخفيَ روحه في تَامُورِ قلبه، وينضم القلب عليه فلا ينفرج حتى يموت. وقد ترى العاشق إذا سمع بذكر محبوبه تستحيل لونه، ويموت دمه، ويخفق قلبه. وهذا كله صحيح موجود عند أهل العشق. وقال الشاعر، وقيل هو أبو تمام حبيب بن أوس الطائي: سقيمٌ لايموتُ ولا يَفِيقُ ... قد أَقْرَحَ جَفْنَه الدَّمْعُ الطَّلِيقُ شَدِيدُ الحزنِ يحزنُ مَنْ رَءَاهُ ... أَسِير الصّبو نَاظِرُه أريقُ ضَجِيعُ صَبَابَة وَحليفُ هَوْنٍ ... تَحمَّل قلبُه ما لا يُطيق يَظَل كأنه ممَّا اجتواه ... يَسْعرُ في جوانبه الحَرِيق قال: ولمَّا ارتحلت ليلى عن قيس، جعل يقبل موضع رجليها من الأرض،

وحول خبائها. فلما رأى ذلك قومه، أقبلوا على أبيه بالعذل واللَّوم. فقال ذريح، لما رأى حاله تلك: قد جنيت عليك يابني! فقال له قيس: قد كنتُ أخبرك أَنِّي مَجْنون بها، فلم تَرْضَ إلا بقتلي. فاللَّهُ حسيبك، وحسيب أمي. وأقبل قومه يَعْذِلُونَه في تقبيل التراب، فأنشأ يقول: فما حُبِّي لِطِيب تُرَاب أرضٍ ... ولكنْ حُبُّ مَنْ وَطِئَ التُّرَابَا فهذا فعلُ شَيْخَيْنَا جميعاً ... أَرَادَا لِي البليَّةَ والعَذَابَا وكان من أمره بعد ذلك ماعلم، وشهر. نعوذ بالله من آفة العشق، وفتنته. وقال حامد البلْخي: سمعت أعرابيا ينشد: أَهَاجَ سرورُ القَلب مِنِّي حرارةً ... فَأَوْرَثَه سُقماً على آخر الدَّهرِ فقلت له: هَل للسُّقْم من الحُبِّ دواءٌ؟ فقال: إِلْتِقَاءُ الشَّفَتَيْنَ، بِضَمِّ البَدنَيْنِ. وقيل لهند بنت الحسن: مَا أَلَذَّ شَئً في الدُّنْيَا؟ فقالت: قُبْلَةُ فَتَاة فتىً ضَمَّهُمَا هوىً. وَعَيْشِكَ مَا ذُقْتُهَا.

وقال جالينوس: مُحَادَثَةُ الرَّجل من يهوى، تَسُلُّ التَّعَب والنَّصَب من مَفَاصِله سَلاّ. وقال بعض الحكماء: صَفْوُ العِيش؛ الخُلْوةُ بِمَنْ تُحب. وسُئلَ بعضُ الظُّرفاء فقيل له: مَا أَحَبُّ شيٍ إليكَ في الدُّنْيَا؟ فقال: خُلوةٌ بِمَنْ أحب، لايرانا إِلاَّ الموت. وقال أبو صخر الهذلي في هذا المعنى، من قصيدة قرأتها في (النوادر) لأبي علي: تمنيتُ من حُبِّي عُلَيّةَ أَنَّنَا ... على رَمَثٍ في البحر ليس لنا وَفْرُ على دائمٍ لايَعْبُرُ الفُلْكُ مَوْجَهُ ... ومن دونِنَا الأهوالُ واللُّجَجُ الخُضْرُ فَنَقْضِي هَمَّ النَّفْسِ في غير رِقْبَةٍٍ ... وَيُغْرِقُ مَنْ نَخْشَى نَمِيمَتَهُ البَحْرُ فالرَّمَثُ أعواد يضم بعضها إلى بَعض، فيركب عليها في البحر. وَيُرْوَى: (على رمث في الشرم). والشَّرْمُ: البَحْرُ من قولهم: شَرَمْتُ الشيء إذا شَقَقْتَه. والبحر؛ من قولهم بحرت الشيء؛ إذا شققته أيضا شقّاً واسعا. وقيل: الشّرْمُ لُجَّة البحر، ومنه البحيرة، وهي الناقة المشقوقة الأذن، والناقة بَحِيرَةٌ وَهَجُورَةٌ. ويقال للبحر أيضا: البَضِيعُ من قولهم: بَضَعْتُ الشيء إذا شَقَقْتُهُ. قوله: (ويغرق من نَخْشَى نميمته) أي: أفشاه للحديث. قال أبو زيد:

يقال منه: رجلٌ نَمٌّ، من قومٍ نَمِّينَ، وأنِمَّاء. وامرأة نَمَّةٌ، من نسوة نَمَّات. قال الشاعر: ولاَ أَكْتُمُ الأَسْرَارَ لكنْ أَنُمُّهَا ... ولا أَتْرُكُ الأَخْبَارَ تَغْلي عَلَى قَلبي وقال الآخر: إِن النَّمُومَ أُغَطِّي دونَهُ خَبَرِي ... وَلَيْسَ لي حِيلةٌ فِي مُفْتَرِي الكَذِبِ ومثل هذا البيت قول الآخر: لِي حِيلَةُ فِيمَنْ يَنُ ... مُّ وليس في الكذَّابِ حِيلَهْ مَنْ كانَ يَخْلقُ مَا يَقُو ... لُ فَحيلتي فيه قَلِيلَهْ ويروى: (مَنْ كان يَكذِبُ ما أَرادَ).

وحكى الزبير بن أبي بكر قال: حَجَّ مروان بن عبد الملك مع الوليد بن عبد الملك بن مروان، فلما كانوا بوادي القُرَى، جرت بينه وبين أخيه الوليد بن عبد الملك مُحاورة، والوليد يومئذ خليفة، فغضب الوليد فأمضَّه فتفوَّه مروان بالردّ عليه. فأمسك عمر بن عبد العزيز على فِيه فمنعه من ذلك. فقال لعمر: قتلتني! رددت غيظي في جَوْفِي. فما راحوا من وادي القُرى حتى دفنوه. فله يقول الشاعر: لَقَد غادَرَ الرَّكْبُ اليَمَانُون إذْ غَدَوْا ... بِوَادِي القُرى جَلْدَ الجَنَانِ مُشَيَّعَا فَسَاروا فَلاَ مروانَ للحيِّ إذْ شَتَوْا ... وَللرَّكْبِ إِذ أَمْسَوْا مُضلين جُزَّعَا وذكر غير الزبير، أن الشعر لجرير بن عطية.

قال: وكان مروان أخا يزيد بن عبد الملك لأمّه عاتكة بنت يزيد بن معاوية، وزاد: أَبَا خَالدٍ فَارَقْتَ مروانَ عَنْ رِضىً ... وكانَ يزينُ الأرضَ أَنْ تُرَيَا مَعَا قال: ومثل النَّمَّام: القتَّات، والقَسَّاس أيضا مثله. وقد فرق بعض أهل اللغة بينهم، فقال: النَّمَّام: هو الذي يكون مع القوم يتحدثون فَينِمُّ حديثهم. والقَتَّاتُ: هو الذي يتسمع على القوم، وهم لايعلمون، ثم يَنِمُّ حديثهم. والقَسَّاسُ: الذي يَقُسُّ الأخبار؛ أي يسأل الناس عنها، ثم ينشرها، ومثل ذلك قولهم: رجل نَمِلٌ. والنَُِّمْلَةُ مثل القلق بالخبر. والنَّمِلُ: هو الذي لايكتم الخبر، ولا يستطيع الصبر عليه، وهو أيضا النَّمَّال. وقد نَمَلَ يَنْمُلُ. وقال الكميت: وَلاَ أُزْعِجُ الكَلِم المُحَفَظَاتِ ... إِلَى الأَقْرَبِينَ ولا أَنْمِلٌ

أيْ: لا أَمشي بِالنَّميمة. ويقال: رجلٌ نَمِلُ الأصابع؛ الذي لايكاد يكُفُّ أصابعه عن العبث، وكذلك إذا كان خفيف الأصابع في العمل، وكذلك الفرس؛ وهو الذي لايكادُ يستقرّ. قال هذا قاسم في الدلائل، وأنشد: لَسْنَا بِإِخْوَانِ أَقْوامٍ يُغَيِّرُهُمْ ... قَوْل العُدَاةِ ولاَذُو النَّملةِ النَّمِلُ قال: وفي حديث عمر رضي الله عنه أنه قال للحطيئة: إِيَّاكَ والشعر! قال: لاأَقْدِر ياأمير المؤمنين على تركه؛ مأْكَلَةُ عِيالي، ونُمْلَةٌ على لساني، قال: فَشَبِّبْ بِأَهْلك، وَإِيَّاكَ وَكُلُّ مِدْحَةٍ مُجْحِفَةٍ! قال: يا أمير المؤمنين! وما المدحَةُ المُجْحِفَة؟ قال: تقول: بنو فُلانٍ خيرّ من بني فلان. إمْدَحْهُمْ ولا تُفَضلهُمْ، قال: أَنْتَ يا أمير المومنين أشعرُ مني. قال: والنَّمُّ، والقَتُّ، والقسُّ، والتَحَسُّسُ بالحاء، والتَّجَسُْسُ بالجيم نظائر في اللغة، ومتقاربات في المعنى. قال الشاعر: تجنيت سُعْدى رَهبَة أن يشيد لي ... إذا زرت سعدى الكاشح المتحسسُ يروى بالجيم؛ من قولهم (تجسس) وبالحاء من قولهم (تحسس)، وقرأ الحسن.

رجع وسأل ابراهيم بن المهدي بعض المجانين. ما المحاسن؟ فأنشده: يقولون في البستان للعين نزهة ... وفي الخمر والماء الذي غير آسنِ إذا شئت أن تلقى المَحَاسِنَ كُلَّهَا ... ففي وَجْهِ مَنْ تَهْوَى جميعُ المحاسن ورأيت في بعض تواليف الحافظ أبي نعيمْ بسند، عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "النظرة إلى الخضرة والوجه الحسن يزيدان في البصر".

فصل قال: ومن غريب الأحاديث والحكايات في معنى الحب، ماروى عن أبي عبد الله عكرمة مولى ابن عباس لله، قال: بينما نحن عند عبد الله بن عباس، إذ أقبل فتية يحتملون فتى من بني عذرة، قد بلي بدنه، وكانت له حلاوة، وجمال. فجاءوا به حتى وقفوا بين يديه، وقالوا: استشف لهذا الفتى يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: وما الذي به؟ قال: فترنم الفتى بصوت خفي، لا يستبين، وقال: بِنَا من جَوَى الأحزان والحبِّ لوعة ... تكاد لها نفس المحبِّ تذوبُ ولكنما أَلْفَى حشاشة مقولى ... على مابه عودٌ هناك صليب وما عَجَبٌ موت المحبين في الهوى ... ولكن بقاء العاشقين عجيب ثم شهق شهقة فمات، فقال ابن عباس: هل رأيتم غلاماً مثل هذا؟ والله، إنه لقتيل الهوى، لادية له، ولا قود فيه، فأنشد بعض أهل المجلس:

قَضَى اللَّهُ في القَتْلَى قِصَاصَ دِمَائِهِمْ ... وَلكنْ دماءُ العاشقين جُبَارُ تُطَلُّ دِماء العاشقين وثأرُها ... لدى الحَدَقِ المرضَى وذلك ثَارُ وأنشد آخر منهم: ما يَذْكُرُ الدهر لي سُعْدَى وَقَدْ فقدتْ ... إلاَّ تَرَقْرَقَ دَمْعُ العين فاطَّرَدَا يالَلرِّجالِ لِمَعْشُوقٍ بِلاَ تِرَةٍ ... لاَتَأخذون له عَقْلاً وَلاَ قَوَدَا قال عكرمة: فقال ابن عباس: نرغب إلى الله في العافية، ومازال يتعوذ بالله من الحبِّ بقية يومه. قول الشاعر: قَضَى اللَّهُ في القَتْلَى قِصَاصَ أي: فرض الله في القتلى قِصاص دمائهم وأوجب، والقِصَاصُ: الأخذ من الجاني مثل ما جنى، والقِصَاصُ، والمقَاصَةُ، والمعاوضة، والمبادلة: نظائر في اللغة. يقال منه: قصَّ يَقُصُّ قَصّاً وَقِصَصاً، وأقَصَّهُ به إقْصَاصاً، واقْتَصَّ منه اقتصاصاً. وَاسْتَقَصَّ اسْتِقْصَاصاً؛ إذا طلب القِصَاص، وقَاصَّهُ مَقَاصَّةً وقِصَاصاً. وقال أبو بكر بن دريد: قَصَّ الشيء بِالمِقَصِّ يَقُصُّهُ قَصّاً. وقَصَّ الحديث يَقُصُّهُ قَصَصاً.

وقوله تعالى (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ)، يعني القرآن اقتفاء الأثر قَصَصٌ أيضا. قال الله تعالى (فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا). والقِصَاصُ التَّقَاصُّ، من الجراحات والحقون شيء لشيء. واقْتَصَّ منه: أَخَذَ منه. قال الله تعالى (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ). وقال صاحب العين: القَصّ: الصَّدْر هو المُشَاشُ المغروسةُ فيه أَطْرَافُ شَرَاسيف الأضلاع في وسط الصدر. والقُصَّةُ من القُصَاصِ معروفة. والقَصَّةُ الجَصُّ. وفي هذا اللفظ اشتراكٌ، وبابه مَشِيعٌ. وقوله: (دماء العاشقين جُبَار): يعني أن دماءهم هَدَر لاَدِية فيها. وفي حديث أبي هريرة فيما روى، عن عبد الرزاق عن معمر، عن همام بن مُنَبِّه عنه، النار جُبَار،

ورواه مسلمة بن علقمة، عن داوود بن أبي هند، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة. قال: قال رسول الله صلى عليه وسلم: (النَّارُ جُبَار والبِئْرُ جُبَار والمعدنُ جُبَار وفي الرَّكَازِ الخُمُسُ). وقوله: النَّار جٌبَار، قال الخطابي: يتأول على وجوه: أحدها أن يكون معنى ذلك إباحة النار، واقتباسها من غير إذن موقدها، وأنه إذا أخذ منها جَذْوة، لم يلزمه لها قيمة. وقال بعضهم: تأويله: النارُ تطير بها الريح، فتحرق متاعاً لقوم، يريد أنه لايلزم موقدها غرامة. ومنهم من فرق بين النار يوقدها رجل، ليصطلي بها، أو يشوي عليها لحماً، وبين أن يوقدها عبثا لا لأرب، فرأى ما تَجْنِي تلك هدراً، وماتجني هذه الغرامة. وأنكر بعضهم هذه اللفظة، وزعم أنها تصحيف، وإنما هو: البئر جُبَارٌ. وذلك أن أهل (اليمن) يُميلون النار. فكتبها بعضهم بالياء فرأى القارئ البئر، فصحفها بالنار، كذا قال أبو بكر بن المنذر.

وقال يحيى بن معين: أصله البئر جُبار، ولكنه صحفه معمر، وقال أبو عمر بن عبد البر: في قول يحيى بن معين نظر. وذكر أبو الحسن الدارقطني الحديث في كتاب (العلل) فقال: قال إسحاق بن ابراهيم بن هانئ، عن أحمد بن حنبل: إنما هو البئر جبار، وأهل (صنعاء) يكتبون النار بالياء على الامالة، فصحفوا على عبد الرزاق البئر بالنار، والصحيح البئر. قال أبو الحسن الدارقطني: إسحاق هذا له عن أحمد مسائل، وكان ألزم إليه من ابنه. وفي الحديث عنه عليه السلام "جُرْحُ العَجْمَاءِ جُبَار". وهذا دون خلاف، والعَجْمَاءُ: هي البهيمة، سميت عجماء لامتناعها من الكلام، قال امرؤ القيس: صَمَّ صَدَاهَا وَعَفَا رَسْمُهَا ... واسْتَعْجَمَتْ عَنْ مَنْطِقِ السَّائِلِ وانما وَشَّحْنَا أبواب هذا الكتاب بهذه الأخبار؛ رغبةً في استكمال فوائده، واستغراب مقاصده، واستحسان مصادره، وموارده. رجع وحكى الفضل بن الحُبَاب، عن الرياشي قال: خرج جماعة من

أهل (البصرة) يريدون الحَجّ. فلما كانوا ببعض الطريق، إذا غلام واقف على المحجَّة وهو ينادي: أيها الناس! هل فيكم أحد من أهل (البصرة)؟ قال: فملنا إليه، وقلنا له: مَاتُريد؟ قال: إن مولاي يريد أن يوصي إليكم. فسرنا معه؛ فإذا شخص ملقى على بعدٍ من الطريق، تحت شجرة لا يحير جوابا، فسلمنا عليه وجلسنا حوله، فلما أحس بنا رفع طرفه، وهو لايكاد يرفعه ضعفاً. ثم أنشأ يقول: يَا بَعيدَ الدار من وطنه ... مُفرداً يَبْكي عَلَى شَجَنِهْ كُلَّمَا جَدَّ البُكَاءُ بِهِ ... زَادَتِ الأسقامُ في بَدَنِهْ ثم أُغْمِي عليه طويلا، ونحن جَلُوسٌ عنده، فأقبل طائر فوقع على بعض أغصان الشجرة، وجعل يغرد، ففتح عينيه ثانية، وجعل يستمع تغريد الطائر، وأنشأ يقول: وَلَقَدْ زاد الفُؤَادَ شَجَىً ... طَائرٌ يَشْدُو عَلَى فَنَنِهْ شَفَّهُ مَا شَفَّني فَبَكَى ... كُلُّنَا يبكي عَلَى سَكَنِهْ ثم تنفس، وفاظت نفسه، فلم نبرح من عنده حتى كفناه، وتولينا الصلاة عليه. فلما فرغنا من دفنه، سألنا الغلام عنه، فقال هذا العباس بن الأحنف. قال أبو اسحاق: ومن مليح شعر العباس قوله:

تَحَمَّلْ عَظِيمَ الذَّنْبِ مِمَّنْ تُحِبُّهُ ... وَإِنْ كُنْتَ مَظْلُوماً فَقُلْ أَنَا ظالِمُ فَإِنَّكَ إِلاَّ تَغْفِر الذَّنْبَ في الهَوَى ... يُفَارِقْكَ مَنْ تَهْوَى وَأَنْفُكَ رَاغِمُ فَطُوبَى لِمَنْ أَغْفَى مِن اللَّيْلِ سَاعَةً ... وَذَاقَ اغْتِمَاضاً إِنَّ ذَاكَ لَنَاعِمُ وقوله أيضا: أَغَبَّ الزّيارَة لَمَّا بَدَا ... لَهُ الهَجْرُ أَوْ بَعْضُ أَسْبَابِهِ وَمَا صَدَّ عَنْهَا وَلَكِنَّهُ ... طَرِيدُ مَلاَلَةِ أَحْبَابِهِ وقوله أيضا: إِنْ قَالَ لم يَفْعَلْ وإن سيلَ لَم ... يَبْدُلْ وَإِنْ عُوتِبَ لَمْ يَعْتَبِ حبٌّ بِهِجْرَاني ولو قال لي ... لاَ تَشْرب البارِدَ لَمَ أَشْرَبِ وقوله أيضا في مشي النساء: شمس مقررة في خَلْقِ جاريةٍ ... كَأَنَّما كَشْحُها طَيُّ الطَّواميرِ كأنها حين تمشي في وَصَائِفِها ... تخطو على البيض أو خُضْر القواريرِ والطَّواميرُ، جمع أطمار، وأَطْمَار جمع طَمْر: وهو الثوب الخَلَقُ، ومثله في

الجودة والحسن في مشي النساء، قول ابن مقبل في النوادر لأبي علي: يَهْزُزْن للمَشْي أَوْصَالاً مُنَعَّمَةً ... هَزَّ الجَنُوبِ مَعاً عِيدانَ يَبْرِينَا أَوْ كاهتِزَازِ رُدَيْنِيٍّ تَداوله ... أَيْدي التِّجار فزاد وامَتْنَه لينا ويروى: (هز الكُمَاة). يمشين هَيْلَ النَّقا مالتْ جَوَانِبُهُ ... ينهال حينا وينهاه الثَّرى حِينَا قوله: عَيْدَان، وزنه فَيْعَال، وهو من: عَدَنَ، إذا أقام، والنون فيه أصلية، وهو جمع عَيْدَانة. والعيدانة: النخلة إذا طالت، ونفذت عروقها إلى الماء. والنَّقَى من الرَّمل: قِطْعَةٌ مُحْدَوْدَبَةٌ يُكْتَب بالياء، ويكتب بالألف، لأنك تَقُولُ في تَثْنِيتِه: نَقَوَان ونَقَيَان، والواوُ أكثر. قاله أبو علي البغدادي، وأنشد: كَحِقْفِ النَّقَا يَمْشي الوليدانِ فوقَهُ ... بِمَا احتَسَبَا مِنْ لينِ مَسٍّ وتَسْهَالِ ويُرْوَى: (وَإِسْهَالِ) قال أبو علي: وبَنَاتُ النَّقَا، وشَحْمُ النَّقَا، وشَحْمَة الأرض: دودٌ بيض يَدْخُل في الرمل تُشَبَّهُ بها الأصابع.

قال الراعي: وفي القُلْبِ والحِنَّاءِ كَفُّ بَنَانِها ... كَشَحْمِ النَّقَا لَمْ يُعْطِها الزَّنْدَقَادحُ وقال ذو الرمة: وَأَبْدَتْ لَنَا كفّاً كأَنَّ بَنَانَها ... بناتُ النَّقَا تَخْفَى مراراً وتظهرُ وقال: والنَّقَا أيضا: كل عَظْمٍ فيه مُخُّ، وجمعه أَنْقَاء. وأنشد أبو محمد بن رَسْتَم لابن لجإ: طويلة والطُّولُ مِنْ أَنْقَائِها أي: من عِظَامِها المُمِخَّة. وقال محمد بن القاسم: النَّقَى: العَظْمُ المُمِخُّ، مقصور يكتب بالياء. ومثله في الحسن في المعنى قول ذي الرمة:

وَلَمْ تَمْشِ مَشْيَ الأُدْمِ في رَوْنَق الضحى ... بِخَرعابك البيضُ الحِسَانُ الخرائِدُ ومثله قول الآخر: يمشين في الرَّيْطِ والمُرُوطِ كَمَا ... تَمْشِي الهُوَيْنَا سَوَارحُ البقَرِ وقرأت في النوادر لأبي علي، قول عمر بن أبي ربيعة في المعنى: أبْصَرْتُها غدوةً وَنِسْوَتُها ... يَمْشِين بين المَقَام والحجَرِ بيضاً حساناً خرائداً قُطُفاً ... يَمْشِينَ هَوْناً كَمِشْيَة البَقَرِ قَد فُزْنَ بالحُسْنِ والجمال معاً ... وفزن رِسْلاً بِالدَّلِّ والخَفَرِ قوله (قطفا): هو جمع قَطُوف، وهي التي تقارب خطوها من المشي، قال امرؤ القيس: فجاءت قطوفَ المشي هَيَّابَةَ السُّرَى وقوله: (هونا وَرِسْلاً) أي: رِفْعاً. ومثله في الاستحسان، قول الحطيئة في المعنى: حَصَانٌ لها في البيت زِيٌّ وَبَهْجَةٌ ... وَمَشْيٌ كَمَا تَمْشِي القَطَاةُ قَطُوفُ ومثله أيضا قول الكميت في المعنى:

يَمْشِين مَشْيَ قَطا البِطاح تأوداً ... خُمْصَ البُطُونِ رَوَاجِحَ الأكْفَالِ والقَطا في هذا البيت، والذي قبله، ضرب من الطير معروف يستحسن مشيه، واحدته قَطَاة، ويقال في جمعه أيضا: قطوات. قال الأخطل: مُصَاحبةُ خوصاً كَأَنَّ رِحالها ... عَلَى قطوات من قَطَا عالج حُقْبِ ومن أمثالهم: (لو تُرِكَ القطا لَنَامَ)، ولايكتب إلا بالألف. والقطا أيضا، جمع قطاة، وهو مابين الوركين، ويكتب بالألف أيضا، قال النابغة الجعدي: على أَنَّ حَارِكَهُ مُشْرِفٌ ... وَظَهْرَ القَطَاةِ وَلَمْ يَحْدَبِ وقال امرؤ القيس: يُديرُ قَطَاةً كالمَحَالَةِ أَشْرَبَتْ ... إِلَى سَنَدٍ مِثْل العَبِيط المُذَأَّبِ ويقال في مثل يضرب للرجل الأحمق (ما تعرِفُ قَطَاتَهُ مِنْ لَطَاتِه)، ولَطَاتُه جبهته، فمعناه: مايُعْرَفُ من حُمْقِه، أعلاه من أسفله. ومثل ماذكرنا من حسن مشي النساء، قول الآخر: أَلاَ إِنَّ قَلْبِي لَدَى المُعْصِرَات ... يُمَشِِّينَ مَشْيَ إرَاخِ البقرِ

والمُعْصِرَات في هذا البيت جمع مُعْصِر، وهي الجارية إذا قاربت الإدراك، قال الشاعر: جَارِية بسفوانَ حَارُهَا ... قد أعصرتْ أو قد دَنَا إِعْصَارُهَا وقال الآخر: فَكَانَ مِجَنى دون من كنْتُ أتَّقى ... ثلاث جوارٍ كاعبان ومُعْصِرُ ويقال: إن صلاة العشي، إنما سميت عصراً لأن مدى وقتها يقارب غروب الشمس، وهو من هذا المعنى. وفي الحديث عن عبد الله بن فَضَالة، عن أبيه قال: قال رسول الله صلى عليه وسلم: "حافظ على العصرين". والعَصْرَان: صلاة قبل طلوع الشمس، وصلاة قبل غروبها. لأن العصرين عند العرب: الغَدَاة والعَشي، وهما أيضا الليل والنهار. وقال حميد بن ثور الهلالي:

ولَنْ يَلْبث العَصْران يومٌ وليلةٌ ... إذا طَلَبَا أن يُدْرِكا ما تَيَمَّمَا فجعلهما يوم وليلة، ومنه قول الآخر: أُمَاطِلُهُ العَصْرَيْن حتَّى يَمَلَّنى ... ويَرْضَى بنصف الدَّين والأَنْفُ رَاغِمُ والعَصْرُ أيضا الدهر، ومن قول حميد بن ثور أخذ ابن المعتز قوله: أَلَمْ تَرَ أن الدهر يومٌ وليلةٌ ... يَكُرَّانِ من سبت عليك إلى سَبْتِ فقل لجديد العيش لابد من بِلي ... وقل لاجتماع الشمل لابد من شَتِّّ وقول البحتري في مشي النساء بديع مستحسن أيضا، وهو: لَمَّا مَشَيْنَ بِذِي الأَرَاكِ تَشَابَهتْ ... أَعْطَافُ قُضْبَانٍ بِهِ وقُدودِ في حُلَّتَيْ حِبْرٍ ورَوْضٍ فالْتَقَى ... وَشْيَانِ: وَشْيُ رُبِّي وَوَشْيُ بُرُودِ وَسَفْرْنَ فامْتَلأَتْ عُيونٌ زَانَها ... وَرْدَانِ: ورد جنىً وَوَرْدُ خُدُودِ وَضَحِكْنَ فاغترف الأقاحي من ندىً ... غَضٍّ وَسَلْسَالِ الرُّضابِ بَرودِ وأنشد أبو محمد بن قتيبة للأعشى، مايستحسن في هذا المعنى: كَأَنَّ مِشْيَتَهَا مِنْ بَيْتِ جَارَتِهَا ... مَشْيُ السَّحَابَةِ لاَرَيْثٌ ولاَ عَجَلُ رجع

وقرأت في (النوادر) لأبي علي البغدادي، قال الفضل بن محمد العلاَّف، لما قدم بغاء ببني نُمَيْر أسرى كنت أذهب إليهم، فأسمع منهم، فلا أعدم أن ألقى الفصيح منهم. فأتيتهم يوما في عقب مطر؛ وإذا فتى منهم حسن الوجه، قد نهكه المرض وهو ينشد: أَلاَ يا سنا بَرْقٍ على قُلَلِ الحِمَى ... لَهِنَّكَ من برْقٍ عليَّ كريمُ لمعت اقتداء الطير والقومُ هُجَّعُ ... فهيَّجتَ أسقاماً وأنت سليمُ فهل من معيرٍ طرفَ عيْنٍ خَليّةٍ ... فانسانُ طرفِ العامريِّ كليمُ رَمَى قلبه البرقُ اليماني رميةً ... بِذِكرِ الحِمَى وَهْناً فبات سقيمُ فقلت له: ياهذا! إنك لفي شغل عن هذا. فقال: صدقت يا أخي! ولكن أيقظني البرق فتذكرت. ثم اضطجع فما لبث غير ساعة، حتى مات، فتوهمنا عليه غير الحب. وحكى عن سعيد بن حُمَيْد أنه قال: رأيت (بالبصرة) شابا، وفي يده

مدية، والناس حوله، وهو ينادي بأعلى صوته ويقول: يومُ الفراق من القيامة أطولُ ... والموتُ من ألمِ التفرق أجملُ قالوا الرحيل فقلت لست براحلٍ ... لكن مهجتي التي تترحَّلُ ثم بَقَرَ بَطْنَهُ، وخر ميتا. فسألت عن شأنه، فقيل لي: كان يهوى فتى لبعض الملوك، فحجب عنه يوما واحدا، ففعل ما ترى. وحكى عن الحميد أنه قال: رأيت رجلا متعلقا بكم صبي، وهو يتضرع إليه ويظهر له المحبة، فالتفت إليه الصبي وقال: إلى متى هذا النفاق الذي تظهر، فقال له: قد علم الله أني صادق فيما أقول؛ حتى لو قلت لي مت لمت، فقال له الصبي: إن كنت صادقا فمت، قال: فتنحى الرجل وغمض عينيه فوجده ميتا. قال أبو إسحاق: وشبيه بهذا، لكن من غير علاقة الحب؛ بل من الزهد في الدنيا، والإنابة، للرب ماحكى أبو القاسم خلف بن عبد الملك بن بَشْكُوَال

في فوائده عن أبي محمد بن عتاب بسند إلى منصور بن محمد البصري، قال: أرسل أمير المومنين مِنْ سُرَّ مَنْ رأى إلى نصر بن علي الجهضمي، وكان زاهدا، يامره بتقلد القضاء فأبى، فروجع في ذلك ثلاث مرات فأبى، فأمر أمير المومنين إن هو لم يُجِب قُيِّد وأُوتيَ به. فأعلم بذلك نصر، فقال: أَنْظِرُوني اليَوم، فدخل الحمَّامَ، واغْتَسَل وتَنَظَّف، وخرج إلى دَارِه فأعدَّ أَكْفَانَه وحُنُوطَه، وبَعَثَ إلى رَجُل كان يغسل المَوْتَى، فتقدَّم إليه بما يريد مِن غَسْله، ثم اسْتَقْبَل القِبْلَة فَصلَّى ركعتين، ودَعَا بما دَعا، وتمدَّد فمات، وغُسِّل وكُفن. قال منصور: وكنتُ فيمَنْ صَلَّى عليه، فلما عَلِمَ السُّلْطَان بِخَبَره، نَدِمَ على مَاكَانَ مِنْه إِلَيه. وكانت وفاتُه رحمة اللَّه عليه سنة خمسين ومائتين، فيما ذكره

أبو عبد الله محمد بن اسماعيل البخاري. وخرَّج أبو القاسم أيضا في (الفوائد) بسندٍ إلى القاسم بن ثابت بن حزم السرقسطي، أن الوالي بسرقسطة أراد تقديم قاسم القضاء بها، فأمر أباه ثابثا أن يعلمه بذلك، فأعلمه أبوه بالخبر، فأبى، فأخبر أبوه الوالي بذلك، فقال: إن لم يفعل ما أمرته به، أخرجته عن بلدي، فقال له أبوه: يابني تكلفني في آخر عمري الخروج عن بلدي، والتطوف بالبلدان. فقال له: يا أبت أمهلني إلى غد. فلمَّا أتى الليل، صار قاسم في محرابه، فصلَّى طول ليلته، وأصبح ميتا في محرابه رحمة الله عليه، وندم الوالي على ذلك، وقال: ليتني لم آمره بما يكره. قال أبو إسحاق: وإنما جئت بهذين الخبرين اعتباراً وإجلالاً، وإعلاماً بمكانة هذين العالمين العاملين عند الله تبارك وتعالى.

وقرأت في (ذيل النوادر) لأبي علي قال: استُعْمِلَ النعمان بن بشير على صدقات بَلِيّ وعذرة. فبينما أنا، يقول النعمان، في بعض مياههم، إذ رأيت بيتاً مفرداً إلى ناحية، وإذا بفنائه رجل مستلقٍ وامرأة قاعدة، وهو يتغنى ويقول: جَعَلْتُ لِعَرَّافِ اليَمَامَةِ حُكْمَهُ ... وَعَرَّافِ حَجْرٍ إنْ هُمَا شَفَيَاني فَقَالاَ نَعَمْ تَشْفى من الدَّاء كلِّه ... وقاما مَعَ العُوَّاد يَبْتَدِرَان فَمَا تَرَكا من رُقْيَةٍ يَعْلَمَانِها ... وَلاَ سَلَْوَةٍ إلاَّ وقد سَقَيَانِي وَمَا شفيا الداء الذي في كله ... وَمَا ذَخَرا نصحاً وما أَلَوَاني

فَقَالاَ شَفَاكَ اللَّهُ وَاللَّهِ مَالنا ... بِمَا ضُمِّنَتْ منكَ الضُّلُوعُ يَدَانِ فقلت للمرأة: ما قِصَّته؟ فقالت: هو مريض ما تكلَّم بكلمة، ولا أَنَّ أَنَّةً منذ وقت كذا إلاَّ الساعة، ثم فتح عينيه وأنشأ يقول: وكان مِنْ أُمَّهَاتي باكياً أبدا ... فاليومَ إِنِّي أرَاني اليومَ مَقْبُوضاَ تَسَمَّعِيهِ فَإِنِّي غيرُ سَامِعِه ... إذَا حُمِلْتُ على الأعناق مَعرُوضاَ ثم خفت فمات فغمضته، وغسلته، وكفنته، وصليت عليه، ودفنته، وقلت للمرأة: من هو؟ فقالت: هو قتيل الحب عروة بن حزام. وحكى عمرو بن بحر الجاحظ، قال: كنت جالساً بالرَّقة عند صديق لي، وكان معنا فتى يتعشق جارية مغنية، كانت معنا في المجلس، فضربت العود، وغنت: عَلاَمَةُ ذُلِّ الهَوَى ... على العَاشِقينَ البُكَا وَلاَ سيَّمَا عاشِقٌ ... إذا لم يَجِدْ مُشْتَكَى فقال لها الفتى: أحسنتِ واللَّهِ ياسيدتي!. أَفتأذنين لي أن أموت؟. فقالت: مت راشداً. فوضع رأسه على الوسادة، وأطبق فمه، وغَمَّض عينيه، فحركناه

فوجدناه ميتا. وحكى أبو عمرو بن بحر أيضا، قال: قصدت أمير المومنين المتوكل على الله، لتأديب ولده. فلما رآني استبشع منظري، وأمر لي بعشرة آلاف درهم، وصرفني، فلمَّا خرجتُ، لَقِيتُ محمد بن ابراهيم وهو يريد الانحدار إلى مدينة السَّلاَم، فَرَغِبَ إِليَّ في النهوض معه، فأجبته إلى ذلك، فلما وَصَلْنَا أَحْضَر الطَّعام، فأكلنا ووضع الشراب، فَشَرِبنا، وضُربت سَتَّارة، وأمر عَوَّادةً له تُغَنِّي، فَغَنَّتْ: كلُّ يومٍ قَطيعةْ وعتابُ ... ينقضي دَهْرُنا ونحنُ غِضَابُ ليت شِعْري أَنَا خُصِّصتُ بهذاَ ... دونَ غيري أَمْ هكذا الأحْبابُ ثم سكَتَتْ، وأمَرَ طَنْبُورِيَّةً تُغَني، فَغَنَّتْ: وارحمتا لِلْعَا شقينا ... ماذا يلاقي العاشقونا همْ يُظْلَمُونَ ويُهْجَرُو ... نَ وَيُقَطَّعُون وَيَصبرونَا يَتَجَلَّدُون وَيُظهِرُو ... نَ تَجَلُّداً للِشَّامِتِينَا ثم قالت لها العوّادة: فيصنعون ماذا؟ فقالت: يَصْنَعُون هكذا. ورمت بيدها

إلى السَّتارة فَهَتَكَتْها وبرزَتْ كأنَّها قمر، فرمت بنفسها في الماء. وكان على رأس مُحَمَّد غُلام قائمٌ يضاهيها في الجمال، وكانت بيده مذَبَّة يَدُبُّ بها عن محمّد، فرمى المدية من يده، وصَارَ إلى الموضع الذي رَمَتْ فيه بنفسها، وأنشأ يقول: أَنْتِ الَّتي غَرَّقْتنِي ... بُعْدَ القَضَا لَوْ تَعْلَمِينَا لاَ خيرَ بَعْدَكِ في البقا ... والموتُ زَيْنُ العاشقِينَا وَرَمَى بِنَفْسِه في المَكَان ثُمَّ عَانَقَها في الماء، وغَاصَا جميعاً، فما ظَهَرَا بَعْدُ. فَلَمَّا رَأى ذلك محمد رَاعَه، وقال: ياعمرو، لتحدثني بحديث يسليني عن هذه القضية، وإلاّ لحقتك بهما فتحيَّرتُ، ثمَّ حضرني خبرٌ ظريف مثله. فقلت له: إِنَّ سليمان بن عبد الملك بن مروان جلس يوماً إلى المظالم فعرضت له بطاقة فيها مكتوب: إِنْ رأى أمير المومنين، أَيَّدَه الله، أَنْ يُخْرِجَ لي فلانة، يَعْني بعض خَدَمه، فتغنِّي لي بثلاثة أصواتٍ فعل، فاغْتَاظ سليمان لذلك، وأَمَر مَنْ ياتيه برأس صاحب تلك البطاقة، ثم أتبعه رسولاً آخر يأمره

بإدخاله عليه، فلمَّا مثل بين يديه، قال له: ماحَمَلك على ما صَنَعْتَ؟ فقال: الثِّقَةُ بِحِلْمِكَ، والتَّوَكُلُ على عفوك، فَأَمَرَ لَهُ بالجلوس حتّى لم يَبْقَ مِنْ بني أميةَ أحدٌ، وخلا المجلس، فأمر بإخراج الجارية بِعُودِهَا، فخرجت به معها، ووضع لها كرسيّ، فجلست عليه، فقال له: اخْتَرْ! فقال: تغني: تَعَلَّقَ رُوحِي رُوحَهَا قَبْلَ خَلْقِنا ... وَمِنْ بَعْدِمَاكُنَّا نِطَافاً وفي المهدِ فَزَادَ كَمَا زِدْنَا، فأصبح نَامِياً ... ولَسْنَا وإِنْ مِتْنَا بِمُنْتَقِضي العَهْدِ ولكنَّهُ باقٍ على كُلِّ حَادِثٍ ... ورائدنا في ظُلْمَة القبر واللَّحْدِ فغنت ذلك، فقال له سليمان: قُلْ. قال: تأمر لي برطل، فَأُوتيَ به فشربه، ثم قال: تغني: إذا قلتُ مَابي يابُثينَةُ قَاتلي ... من الحبِّ قَالَتْ ثابِتٌ وَيزيدُ وَإِنْ قُلتُ رُدِّي بعضَ عَقْلِي أَعِشْ بهِ ... مع النَّاسِ قالت: ذاك منك بعيدُ يموتُ الهوى مِنِّي إذا مَا لَقِيتُهَا ... ويحيا إذا فَارَقْتُها فَيَعُودُ فغنت ذلك، فقال له سليمان: قُلْ. قال: تَأمُرُ لي برطل فَأوتي به، فشربه. ثم قال: تغني: لقد كُنْتِ خيرَ الناسِ لو دَام وُدُّها ... ولكنَّما الدنيا مَتَاعُ غُرُورِ

وكُنَا جميعاً قبل أَنْ تُظهر الهوى ... بِأحْسَنَ حَالَيْ غِبطَةٍ وَسُرُورِ فَمَا لَبِثَ الواشونَ حتَّى بَدَتْ لهم ... بُطونُ الهوى مَقْلُوبَةً بظُهُور فغَنَّتْ ذلك، فقال سليمان: قُلْ. قَالَ: تَأمر لي بِرِطْل، فآُوتيَ به، فشربه، فلمَّا اسْتَتَمَّه وثَبَ عَلَى قُبَّة سليمان، وَرَمَى بنفسه عَلَى دِمَاغِه، فمات، فقال سليمان: إِنَّا للَّه وإِنَّا إليه راجعون، أَتَراهُ الجاهلَ توهَّمَ أَنِّي أُخرجُ له جاريتي، ثمَّ أَردُّها إلى مِلْكِي!. وقال لأحد الغلمان: ياغلام خُذْ بيدها، فانطلق بها إلى أهله، إِنْ كان له أَهْل، وَإِلاَّ بِعْها وَتَصَدَّقْ بِثمنها عنه، فأخَذَ الغلامُ بيدها، وكان في ناحيةَ الدار حُفْرة، قد أعدت لماء المطر، فجذبَتْ يدها مِنْ يَدِ الغُلاَم، وقالت: مَنْ مَاتَ عِشْقاً فَلْيَمُتْ هَكَذا ... لاَ خير في العِشْقِ بِلاَ مَوْتِ ورمَتْ بنفسها في تلك الحُفْرَةِ على رَأْسِهَا فَمَاتَتْ، فهذا ما كان من أمرهما، فتعَجَّبَ محمّد من ذلك، وكَسَاني، وانْصَرفت. وحكى بعض الرواة، قال: كان محمد بن حميد الطوسي جالساً في بعض الأيام مع ندمائه، فغنت جارية له من وراء الستارة: يَا قَمَرَ القَصْرِ مَتَى تَطْلُعُ ... أشْقَى وغَيرِي بِكَ يَسْتَمْتع إِنْ كَانَ رَبِّي قَدقَضَى مَا أَرى ... مِنكَ على رَأسي فَمَا أَصْنَعُ

وكان على رأْسِ مُحمَّد غُلامٌ بيدِهِ قَدَح يَسْقيه، فرمى بالقَدَح عَنْ يده، وقال: تَصْنَعِين هَكَذَا. وَرَمَى بِنفسه مِنَ الدَّارِ إلى دِجْلَة. فَهَتَكَت الجارية السَّتارة، ثُمَّ رَمَتْ بِنَفْسِها عَلَى أَثَرِه فنزل الغَاصَةُ خَلْفَهُمَا، فَلَمْ يُوجَد واحدٌ منهما، وَقَطَعَ مُحَمّد الشَّراب، وقام عَنْ مَجْلِسِه. وكان لرجل من التجار جارية كان يحبها حُبّاً شديداً، فاعتَلَّت ذات يومٍ، فأخذ في عَمَل حساءٍ. فبينما هو يحرك ما في القدر، إذ قالت الجارية: آه!. فدهش الرجل وسقطت الملعقة من يده، وجعل يحرك مافي القدر بيده حتى تساقطت أصَابِعه، وهو لايشعر. فلما رأت الجارية ذلك، قالت: ما هذا؟. فقال: هذا من أجل قولك: آه. قال: وخَرَّج أبو حامدٍ في كتابه، قال: (إنَّ بعض المحبين خلا بمحبوبه، فقال له: أنا، واللَّهِ، أُحِبُّك بقلبي كله، وأنت تعرض عني بوجهك كلِّه، فقال له المحبوب: إنْ كنتَ تحبني، فأيُّ شيء تنفق عليَّ؟. فقال له: ياسيدي أُمَلِّككَ ما أَمْلك، ثم أنفق عليك روحي حتى أهلك). وحكى علي بن عاصم قال: قال لي رجل بالكوفة من بعض إخواني: هَلْ لك في عاشق تراه؟. قلت: بلى، فَمَشيتُ معه إلى فتًى كأنما نُزعَ الروحُ من جسده، وهو مُوْتَزِرٌ بِإِزَارٍ مُرْتدٍ بِآخر، وهو قاعدٌ متفكر، وبيده وردة. فذكرنا له بيتاً من الشعر، فتهيَّج وقال: جَعَلتُ منْ وَرْدَتها ... غنيمةً فوق يدي

أَشُمُّها مِنْ حُبُّها ... إذَا عَلاَني جُهُدي فَمَنْ رَأَى مِثلي فَتًى ... بِالسُّقْمِ أضْحي مُرْتَدي ثم أطرق إلى الأرض، فقلت: ماشأنه؟. فقال لي: عشق جارية لبعض أهله، فأعطى فيها كل ما يملك، وهو سبع مائة دينار، فأبى أهلها أن يبيعها منه، فنزل به ماترى. ونقلت من كتاب (العقد) قال أبو زيد الأسدي: كانت بالمدينة قَيْنَةٌ من أحسن النّاسِ وَجهاً، وأكمَلِهِمْ عقلاً، وأَفْضَلِهم أدَباً. قَرَأت القُرْآن، وَرَوَت الأشْعَارَ، وتعَلَّمَت الإعْراب، فَوَ قَعَت عند يزيد بن عبد الملك، فَأَخَذَت بِمَجَامع قَلْبه. فقال لها ذَات يوم: مَالَكِ قَرَابة تُحِبِّين أن أصطنعهم، وأُهدي إليهم معروفاً. قالت: يا أمير المومنين! أَمَّا قرابة، فلا، ولكنَّ بالمدينة ثلاثة نَفَرٍ كانوا أَصْدِقاء لمولاي، وأُحِبُّ أن ينالوا من خير ما صِرْتُ إليه، فكتب إلى عامله بالمدينة في إِشخاصِهم، وأن يُعْطِيَ كلَّ واحد منهم عشرة آلاف درهم ففعل ذلك. فلمَّا وصلوا إلى باب يزيد، استُؤْذِن لهم عَلَيْه، فَأَذِنَ لهم، فدَخَلُوا فَأَكْرَمَهُمْ، وسأَلهُم عَنْ حوائجهم فأمَّا الإثنان، فذكرا حوائجهما، وأمَّا الثالثُ فسأله عن حَاجَتِه. فقال: يا أمير المومنين! مَالِي

حَاجَة، فقال له: ويحك! ألستُ أَقْدِر عَلَى حَاجَتِكَ. قال: بلى، يا أمير المومنين. ولكن حاجتي لا أحْسِبُك تَقْضيها. فقال: ويحك! سَلني، فإنَّكَ لاتَسَلْني حاجةً أَقْدِرُ عليها إلاَّ قضَيْتُها. قال: يا أميرَ المومنين، حاجتي أَنْ تَامر جاريتك التي أكرمتنا لها أن تغني صوتاً؛ أَشْربُ عليه ثلاثة أرطال. فتغيّر وجه يزيد، وَقَامَ مِنْ مَجْلسه، فدخل على الجارية، فأعلمها بذلك، فقالت: ومَا عليك، يا أمير المومنين؟ قال: سَأَفْعلُ ذلك. فلمَّا كان من الغد، أمر بالفتى، فأُحْضر وَأُمِرَ بكراسي ثلاثة من ذهب، فوضعت؛ فقعد يزيد على أحدها، وقعدت الجارية على الثاني، وقَعَدَ الفتى على الثالث. ثُمَّ دَعَا بالطعام، فأَكَلُوا جميعا، ثم أتى بِصُنوف الرِّيَاحِين، والطّيب، فَوُضعت، ثم أمر بثلاثة أرطال، فَمُلِئَتْ. ثم قال للفتى: قل ما تريد، وَسَلْ عن حاجتك. فقال: تأمرها يا أمير المومنين تغني: لا أَسْتطيعُ سُلُوّاً عن مَوَدَّتها ... أَوَ يَصْنَعُ الحبّ بي غير الذي صَنَعا أدعو إلى هَجْرِها قَلبي فيُسعدني ... حتى إذا قيل هذا صادقٌ نَزَعَا وزادني رغبةً في الحب أن منعت ... أحب شيء إلى الإنسان ما مُنِعا فأَمَرَهَا، فَغَنَّت، وشرب يزيد، وشَرِبَ الفتى، وَشَرِبَت الجارية. ثم أمر

بالكُؤُوس فَمُلِئَتْ. ثم قال: أُذْكُرْ حَاجَتك! فقال: تامرها يا أمير المومنين تغني: تخيرتُ منْ نُعمان عُودَ أَراكة ... لهِنْدٍ وَلَكِنْ مَنْ يُبَلِّغُهُ هِنْدَا أَلاَ عَرِّجَا بي بَارَكَ اللهُ فيكما ... وإِنْ لَمْ تكُن هِندٌ لِآَرْضِكُمَا قَصْدا فأمرها، فَغَنَّتْ، وَشَرِبَ يزيد، وشَرِبَ الفتى، وشربت الجارية، ثم أمر بالكؤوس فَمُلِئْتْ. ثم قال: أُذْكُرْ حَاجَتك! فقال: تامرها يا أمير المومنين تغني: مِنِّي الوِصَالُ ومنكمُ الهَجْرُ ... حتى يؤلف بيننا الدهرُ واللهِ لاَ أَنْسَاكُمُ أبداً ... ماَ لاَحَ نجمٌ أوْ بَدَا فَجْرُ فَلَمْ تَسْتَتِمُّ الأبيات، حتّى خَرَّ الفَتى مغشيَّاً عليه، فقال يزيد للجارية: قومي فانظُري مَا حَالُه. فقامت الجارية، فحركته، فإذا هو مَيْت. فقال لها يزيد: ابْكِيهِ. قالت لاَأَبْكِيهِ، يا أمير المومنين، وَأَنْتَ حَيٌّ أبداً. قال لها: ابْكيه، فَوَ اللَّهِ لَوْ عَاشَ، لَمَا خَرَجَ الأَبكِ. ونقلت من كتاب (الأغاني). قال سليمان المنقدي: قلت لهند بنت الوضاح: انشديني بعض ماقلت في المغيرة بن سعيد. ولم ير الناس أحداً بلغ به الهوى، ما بلغ بها فأنشدت: يحنّ إلى مَنْ بِالعقيقةِ قلْبُهُ ... حنيناً يُبْكِّي الطير في غُصُنِ السِّدْرِ تَنفسْتُ لَمَّا هاج قلبي بذكره ... فأمْسَكْتُ مِنْ خوفٍ الحريق علي الصَّدْرِ وَوَاللَّه لو فَاضَتْ على الجمر لوعتي ... لأحرق أدنى حَرِّها لهب الجَمْرِ

فقلت: يا هَذِه، أكُلُّ هذا منَ الحُبِّ، قالَتْ: بِأَبِي أَنْتَ وَآُمِّي، كيف ولَوْرَأَيْتَنِي وَعُنْفُوَان هوايَ، لرأيت خَبلاً يُذَوِّب الحديد لحرارته. ولقد عَذَلني من يغمه بعض ما بي فقلت: لَحَى اللَّهُ مَنْ يَلْحَى عَلَى الحُبِّ عَاشقا ... ولا كَانَ في قُربِ وَلاَ زَالَ في بُعْدِ وَمَاذَا عَلَيْهم أَنْ تراءى وِصَالُنَا ... وَإِنْ نَمَّ مَا كُنَا نُسِرُّ من الوَجْدِ ثم تنفست، فخشيت على بدني من حرارة نفسها. فقلت: ما هذا التنفس؟ فقالت: على حلاوة ذلك الدهر، ورطوبة أغصانه، وإني وإياه، لكما قالت هالة بنت قيس التميمية: أَرَانِي قد حَييتُ وَكُنْتُ مَيْتاً ... إذا طَرَقَ الخيالُ بِمَنْ هَوِيتُ رَضِيتُ ذَهَابَ نفسي في رضاه ... رضيتُ بِذاكَ يَارَبي رَضِيتُ قال: فلمح عليها شيئا خوفاً من وفاتها. ونقلت منه أيضا: قال أبو المنجاب رأيت في الطواف، فتى نَحِيفَ الجسم، بَيَّن الضَّعْف، يَلُوذُ، ويَتَعَوَّذُ، ويقول: وَدِدْتُ لَوْ أَنَّ الحبَّ يُجْمَعُ كُلُّه ... وَيُقْذفُ في قلبي وينغلق الصدرُ فَلاَ يَنْقَضِي مافي فؤادي مِنْ الهوى ... ومن فرحي بالحبِّ أو ينقضي العمرُ فقلت له: يا فتى! أَمَا لهذه البنية حُرْمة تَمْنَعُكَ من هذا الكلام؟ قال: بَلَى. واللَّهِ، ولكنَّ الحبَّ مَلأ قَلْبي بِبَراحِ التَّذكير، فَفَاضَت الفِكرة. وإني

لأدعو الله أن يثبته في قلبي، ويجعله ضجيعي في قبري. هذا دعائي. وانصرف من جهتي. وحكى عن قيس بن محمد العبدي، قال: إِني لَبالمزدلفة بين النائم واليقظان؛ إذْ سمعتُ صوتاً شجيا، وبكاءً حزيناً، فاتَّبَعْتُ الصوت، فإذا بِجَارية كأنها قمر، ومعها عجوز فَلَطِئْتُ بالأرض أُلاَحِظُها من حيث لاتراني، وأُمَتع عيني بحسنها، وهي تقول: دَعوتكَ يَامَولايَ سِرّاً َوَ جَهْرةً ... دُعَاءَ ضَعيفِ القَلْبِ من محمل الذّنْبِ بُلِيتُ بِقَاسِي القلبِ لا يَعْرفُ الهوَى ... وَأَقْتَل خَلْقِ اللَّه بِالعَاشق الصَّبِّ فَإِنْ كنتَ لَمْ تَقْضِ المودة بيننا ... فلاَ تُخْلِ مِنْ حُبِّ لَه أبداً قَلْبِي قال: فقمت إليها، وقلت لها: بنفسي أَنْتِ مع هذا الوجه الحسن، يمتنع عليك ماتريدين؟ فقالت: نعم. والله، وإنما يفعل ذلك تصبّراً وفي قلبه مني أكثر مما في قلبي منه. فقلت لها: كم ذا البكاء. قالت: أبداً، لويصير الدمع دماً، وتنطفئ نفسي غمّاً. فقلت: إن هذه الليلة آخر ليلة من ليالي الحجّ. فلو سألت الله تبارك وتعالى التوبة مما أنت فيه، والمغفرة لما سلف، رجوت أن يذهب الله حبّه من قلبك. قالت: يا هذا؛ عَلَيْكَ بِنَفْسِك، في طلب رَغْبَتِك،

فإِني قدمت رغبتي إلى من ليس يجهل بغيتي، وحولت وجهها عني. وحكى عبد الصمد بن علي الهاشمي قال: بينما أنا نائم في الحِجْر؛ إذ سمعت نشيجاً، وبكاء خفيَّا، خلف ستر، وقائلا يقول: عَفَا اللَُّّهُ عمَّن يَحْفظ العهد جَهْدَهُ ... ولا كان عفو اللَّه للنَّاقِضِ العَهْدِ ضنيتُ وهاج الحزنُ والدَّمعُ سره ... فغاضَ لهُ صَبْري وقاض له وَجْدِي قال: فرفعت الستر؛ فإذا بامرأة مسفرة، كأنها فلقة قمر، أو شمس طالعة، تجلت عنها غمامة. فقلت: يا هذه! لو سألت الله تبارك وتعالى الجنة مع هذا التضرع، والبكاء ما حرمك. وهذا وجهك الحسن، لاتسترينه، فسترته، وقالت: سبحان من خلق فسوّى، ويعلم السر والنجوى. وأنا والله فقيرة إلى رحمة ربي، والجمع بيني وبين حبي. وقد سألت الله كلا الأمرين، رجاء فضله، واتكالا على عفوه وطوله، وولت عني، فراعني، والله، قولها حتى استعذت بالله من الشيطان الرجيم. وحكى أبو الفرج عن أحمد بن عبد الله بن عيسى، قال: خَرجَ قومٌ من

أصحابنا إلى (الشام)، فبينما هم يسيرون في بعض الطريق، في يوم شديد الحر؛ إذْ رفع لهم قصر. فقال بعضهم لبعض: لو ملنا إلى هذا القصر، فَقِلْنَا بِفنائه حتى يذهب الحرّ. فَمِلْنَا إليه. فبينما نحن كذلك؛ إِذ انْفَرَجَ لنا باب القصر عن مثل الغزال المروع، فنظرنا فإذا جارية، كأنها قضيب بان في كثيب. فقالت: مِمَّن القوم؟ فرماها كل واحد منَّا بحدقته. وقلنا أصاميم من هاهنا. فقالت: هل فيكم أحد من (مكة)؟ فقلت: نعم. أنا رجل من (بني مخزوم)، من أهلها، وسكانها. فأنشأت تقول: يَا مَنْ يُسَائلُ عنَّا أينَ مَنْزِلُنا ... بِالأُقحوانة منا منزل قَمِنُ إذْ نلبسُ العَيْش صفْواً مَا يكدره ... طعن الوشاة ولاينبوبنا زَمَنُ وإِنَّ ذا القصر حقّاً مَا به وَطَني ... لكن مكة فيها الدارُ والوطن ثم شهقت شهقة، فخرجت عجوز، فنضحت على وجهها الماء، وقالت: لك في كل يوم مثل هذا مرات، والله للموت خير لك من الحياة على مثل هذا. فقلت للعجوز: ماقصة هذه الجارية؟ فقالت: كانت، والله، لرجل من قريش، من أهل مكة فباعها، فهي لاتزال تحن إليه. وحكي أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه، مرّ بطريق في المدينة، فسمع

جارية تترنم، وتقول: وَهَوِيته من قبل قطع تمائمي ... مُتَماشياً مِثْلَ القَضيب الناعِم وكأَنَّ نورَ البدرِ غُرّةُ وجهه ... يَنْمي ويَصْعَد في ذؤابة هاشم فدق عليها الباب، فخرجت فقال: وَيْلَكِ أَحُرّةٌ أم مَمْلوكة؟ قالت: يا خليفة رسول الله! مَمْلوكة. قال: فَمَنْ هَويتِ؟ فبكَتْ، ثم قالت: يَا خليفة رسول الله! بِحقِّ القبر، إلا ما انصرَفْتَ عنِّي. قال: وَحَقهِ، لا أرِيمُ أوْ تُعْلِميني، فبكَتْ وقالت: وأنا التي لَعِبَ الغَرَامُ بقلبها ... فبَكَتْ لحبِّ محمد بن القاسِمِ قال: ويلك ابْنِي أَرَدْتِ! فقالت: ومتى صرت هاشميا؟ قال. صدقت، والله. فصار إلى المسجد، وبعث إلى مولاها، فاشتراها منه، وبعث بها إلى محمد بن القاسم ابن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنهم وقال: هؤلاء، والله، فتن الرجال. وكم قد مات منهن من كريم، وعطف عليهن من سليم. وحكى الضَّحاك قال: إِنِّي لَفِي الطَّواف، وقد مضى أكثر الليل، وإذا بامرأة كأنها الشمس طلعت، على قضب غرس في كثيب، وهي تقول:

رأيتُ الهَوَى حُلْواً إِذاً اجْتَمَع الوَصْلُ ... وَمُرّاً على الهجران لاَ بَلْ هُوَ القَتْلُ وقَدْ ذُقْتُ طِيبَه على القُربِ والنَّوى ... فَأَبعَدُهُ وَجْدٌ وَأَقْرَبُهُ خَبْلُ وحكى مهاجر بن قبيصة قال: أني لأسير بين (العلياء) و (جرش) أريد الحج؛ إذ سمعت نشيجاً من هودج، فدنوتُ فإذا بصوت شجي، وكلام خفي وامرأة تقول: وَمَا غابَ شخصه ... غير أنني ... رأيت النوى قذَّافةً بِالتصبُّرِ فإِن تجمع اللَّهمَّ بيني وبينهُ ... يَفُزْ بالهَوَى قَلبي ويفْرج منظرِي فلا تُعْطِني في الحج يا ربِّ غيرهُ ... فَحَسْبي به منْ كلِّ شيءٍ مُقَدَّرِ فقلت لها: يا هذه! سألتِ اللَّه عظيما، ومتى عهدكِ به؟ قالت: كنت قائماً قبيل، فدخل عليَّ من باب الهودج فَلَثم وجهي، فانتبهت للثم، وهو مختلط بقلبي، فقلتُ لها: فَبِالذي يجمع بينك وبينه، أَلاَ أَريتني الموضع الذي لثمه، فرفعت السَّجْف وأشارت إلى خالٍ في خَدها. فما خلته إلاّ عقرباً لدغت فواد. فقلت لها جُعِلْتُ فداكِ! وقد جعلت ذلك وقفاً عليه، قالت: نعم، واللَّهِ إلى يوم التنادي.

وحكى أبو الفرج. قال: كان لفتًى من التجار جارية من أجمل الناس، وكان معجباً بها، فأنفق عليها مَالَه كله، حتى قلّت ذات يده، وضعف حاله، فذكرت له ذلك ذات يوم، فقال: مابلغني قطُّ شيء إلا والذي صرت إليه أعظم. فقالت: هل لك في خير عوض، قال وماذاك؟ قالت: تبيعني، وتنتفع بثمني؛ فإن أصبت خيراً، وصلتك وإن تكن الأخرى، فقد أصبت مني عوضاً. قال: فعرضها على عبد الله بن جعفر، فلما نظر إليها، أعجب بها، فقال: بكم هي؟ فقال: ما أدري؟ ولكن اَعْطِ فيها ما شئت. فأعطاه مائة ألف درهم. فلما أخذ المال، نظر إلى الجارية، وجعل يقول: وَلَوْلاَ قُعُودُ الدَّهرِ بي عنك لَمْ يكُنْ ... يُفَرِّقُنَا شيءٌ سِوى الموت فَاعْذُرِي عَليكِ سَلاَمُ اللَّه لاَوَصل بَيْنَنَا ... وَلاَ زَوْرَ إِلاَّ أَنْ يشاءَ ابنُ جَعْفَرِ فلما سمع عبد الله بن جعفر قوله، رق له، وقال: يا فتى! هي لك والمال، بارك الله لك فيهما. فانطلق الفتى بالجارية والمال. وحكى أبو العباس محمد بن يزيد المبرد، قال: كان بالكوفة رجل يدعى ليث بن زياد، وكانت له جارية، قَدْرَبَّاها، وأحسن أدبها، فخرجت فائقة في كل فن، مع كمال الجمال، فبقى معها مدة طويلة، حتى ضعفت حاله، وقلّ ما بيده، فتبينت الجارية منه الاقلال. فقالت: يا مولاي! لو بعتني، كان أصلح لك مما أراك فيه؛ وإن كنت أظن أني لا أصبر عنكَ. فَقَصَد رجلاً من النهيكيين يعرفها، ويعرف فضلها، وباعها منه بمائة ألف درهم. فلما قبض المال، ووجه بها إلى النهيكي جزع عليها جزعاً شديداً، فلما استقرت الجارية عند النهيكي

نزل بها من الوجد بمولاها، مالم تستطع دفعه ولا كتمانه، فباحت به، وأنشأت تقول: أَتاني الَبَلاَ حَقّاً فَمَا أَنَا صَانِعُ ... أَمُصْطَبِرٌ لِلْبَيْنِ أَمْ أَنَا جَازِعُ كَفَى حَزَناً أنِّي عَلَى حَرِّ جَمْرَةٍ ... آُقَاسِي نُجُومَ اللَّيْلِ وَالقَلْبُ نَازِعُ فَإِنْ تَمْنَعُوني أَنْ أَمُوتَ بِحُبِّه ... فَإِنِّي قَتِيلٌ، وَالعُيُونُ هَوَامِعُ فلما سمع النهيكي شعرها دعابها، وأرادها، فامتنعت منه، وقالت له: ياسيدي إنك لاتنتفع بي. فقال لها: ولمَ ذلك؟ قالت: لما بي. فقال: وما بك، صفيه لي. قالت أجد في كبدي نيراناً تتوقد، لايقدر على إطفائها أحدٌ. فلا تسأل عما وراء ذلك. فرحمها ورقّ لها، وبعث بها إلى مولاها، وسأله عن خبره، فوجد عنده مثل الذي عندها، فرد عليه الجارية، ووهب له من ثمنها خمسين ألفاً، ولم تزل عنده حتى مات. وحكى محمد بن عبيد، قال: كانت عندي جارية، وكنتُ أُحِبُّها فَبِعْتُها، فَتَبِعَتْهَا نَفْسِي، فصرت إلى مولاها مع جماعة من إِخوانه، فسألته أن يُنيلَني، وأزيده خمسين ديناراً، فأبى عليّ، فانصرفت من عنده، وفي قَلْبِي منها مَا لاَ أقدر أَنْ أَصِفه، فَرُمْتُ الصَّبْرَ، فَلَمْ أَقْدِرْ عليه، فبت ساهراً لا أدري ما أَصْطَنع؟ فلما اشتدَّ ما بي من الجهد، وكتبت اسمها في يدي، واستقبلت القبلة، فكلَّما طرقني طارق من ذكرها، رفعت يديَّ إلي السماء وقلت: يا مولاي! هذه قصتي. فلما كان في السحر من اليوم الثاني، إذا برجل يضرب عليَّ الباب، فقلت: مَنْ هذا؟ فقال: أنا مولى الجارية، فخرجت إليه. فقال لي: خذ الجارية، بارك الله لك

فيها. فقلت له: خذ دنانيرك والرِّبح. فقال: ما كنتُ لآخذ ديناراً ولا درهماً، فقلت: ولم ذلك؟ قال: لأني أتاني البارحة آتٍ في منامي. فقال لي: ردَّ الجارية على ابن عبيد، ولك على اللَّه الجنَّة، قال ابن عبيد: فأنشدته عند ذلك: لَوْ تَرَاني وقَد هَدَتْ كلُّ عَيْن ... وَدُمْوعي تجري على الخدَّين ربِّ ياسيدي بِفَضْلكَ والقُدْ ... رَة يَسِّرْ وِصَالَ قُرَّة عَيْني وحكى أبو الفرج، قال: كان للحسن بن رجاء جارية رائعة الجمال، فائقة الكمال، فعلم بها المعتز باللَّه، فأخذها منه، وكان الحسن يحبها حبّاً شديداً وتحبه، فشرب معها المعتز ذات ليلة، فسكر قبلها، وبقيت وحدها جالسة، ولم تبرح من المجلس هيبة منه، فتذكرت ما كانت فيه، فأخذت العود، وغنت عليه، بصوت حزين، عن قلب قريح: لاَ كانَ يَومُ الفراق يوماً ... لم يُبْقِ للمقلتين نَوْمَا شَتَّتَ مني ومنك شَملاً ... فَسَرَّ قَوماً وسَاءَ قَوْمَا يا قومِ مالي ووجد قلب ... يَسُومُنِي في العذاب سَوْمَا مَالاَمَني النَّاسُ فيه إِلاّ ... بَكِيتُ كَيما أُزَادَ لَوْمَا فلما فرغت من صوتها، رفع المعتز رأسه إليها، والدمع يتحدّر على خدّها، كالفريد انقطع سِلكه، فسألها عن الخبر، وحلفها أن يُبلغها أملها، فأعلمته الخبر، فردها إلى الحسن، وأحسن إليه، وألحقه في ندمائه.

وحكى حماد بن إسحاق الموصلي، عن ابراهيم ابن المهدي، أنه قال: حججت مرة مع الرشيد، فبينما نحن في الطريق، وقد انفردت وحدي، وأنا أسير على دابتي، إذ غلبتني عيناي، فخرجت بي الدابة عن الطريق، فانتبهت بعد حين، وأنا على غير الجادة. واشتد عليَّ الحر، وعطشت عطشا شديداً، فبعد ذلك ارتفع لي خيال، فعمدت إليه، فإذا بقبة، وتحتها بئر، وذلك بين (مكة) و (المدينة)، ولم أربها انسانا، فاطلعت في القبة؛ فإذا أنا بأسود نائم، فلما أحسّ بي، فتح عينيه واستوى جالساً، فرأيت أسود عظيم الصورة، راعتني هيئته. فقلت يا أسود! اسقني من هذا الماء. فال: يا أسود! اسقني من هذا الماء، محاكيا لي. وقال: ان كنت عطشان، فانزل فاشرب. وكان تحتي برذونٌ خبيث، نفور، فخشيت أن أنزل عليه، فينفر، فضربت رأسه، وما نفعني الغناء قط، أكثر مما نفعني ذلك اليوم، وذلك أني رفعت صوتي، وغنيت: كفنوني إِنْ مِتُّ في دِرْعٍ أَرْوَى ... واستقوالي مِنْ بِئْر عروةَ مَائي فَلَها مربع بجنب أجاج ... وصيف بالقَصر قَصر قُبَاءِ سُخنة في الشتاء بَاردة في الصْ ... صَيْف بَدْرٌ في الليْلة الظلماءِ فرفع الأسود رأسه، وقال: أَيُّمَا أَحَبُّ اليك، أسقيك ماء وحده، أو مَاءً وَسَوِيقا؟ قلت: الماء والسَّوِيق، فاخرج قَعْساً له، فصب السَّوِيق في القدح، وسقاني، وأقبل يضرب بيديه على رأسه، وصدره، ويقول: واحَرَّ صَدْرَاه! وَانَارَاه! اللهب في فؤاداه. يا مولاي! زدني. وأنا أزيده، وأشرب السَّويق. ثم

قال لي: يامولاي! إِنَّ بَيْنَك، وبين الطّريق أميالاً، ولستُ أَشُكّ أنك تَعْطَش، ولكن أملأ قربتي هذه، وأحملها قدامك. فقلت: افعل. فملأ قربته، ورفعها الي، وصار قدامي يمشي، وهو يَخْجَلُ في مِشْيته، غير خارج عن الايقاع. فإذا أمسكت لأستريح، أقبل علي فيقول: يامولاي! أَعَطِشتَ؟ فأغنيه، حتى أوقفني على الجادة، ثم قال لي: سِرْ رَعَاكَ اللَّه، ولا سَلَبك، فأكساك من هذه النِّعم، بكلام أعجمي معناه هذا الدعاء. فلحقت بالرفقة، والرشيد قد بثَّ الخيل يطلبونني، حين فقدني. فَبُشِّر بي حين رأوني؛ فلما أتيته، قَصَصْتُ عليه القِصَّة، فقال: عليّ بالأسود. فما كان إلاّ هنيهة، حتَّ مَثُلَ بين يديه، فقال له: وَيْلَكَ، ما حَزَّ في صدرك؟ فقال: يا مولاي مَيْمُونه. قال: ومن ميمونه؟ قال: بنت حبشية. قال: ومن حبشية؟ قال: بنت بلال. فأمر من يستفهمه؛ فإذا الأسود، عبد لبني جعفر الطيار وإذا السوداء التي يهواها، لقوم من بني الحسن بن علي رضوان الله عليهم. فأمر الرشيد عند ذلك بابتياعها له؛ فأبى مواليها أن يقبلوا ثمنا، ووهبوها للرشيد فاشترى الأسود، وأعتقه، وزوّجه منها، ووهب له من ماله (بالمدينة) حديقتين، وثلاث مائة دينار. وحكى أبو الفرج عن حماد الراوية، قال: خرجت في بعض الطرق، أريد (البصرة)؛ فبينما أسير، إذ لقيت غلاماً يرعى إبلاً، وهو يتغنّى ويقول: أَلاَ لِلَّهِ قَلبي كَيْفَ يَصْبُو ... بِخَودٍ لاتريدُ له ثَوَابا أُحِبُّ وَمَا أُحِبُّ سِوَى كريمٍ ... لَهُ أصْلاَن قَدْ فَرعا وَطَابا وقَدْ زَعَمَتْ لُبَانة أَنَّ رأسي ... تَغَيّر لَوْنُه مِنْه وَشَابَا

لُبَانَةُ هَجْرُكُمْ أَبْلَى فؤادي ... وَمن يَبْلُ الهوى فقد اسْتَرابَا قال: فوقفت عليه، وقلت: أَعِدْ عليّ ما قلت. فقال امض راشداً، واستعذ بالله. فقلت: وممّ استعيذ. قال: مِنْ هَجْرِ محبوب، أو قِلَّة نَصِيب. قلت: ويحك! وَإِنك لَتَعشق. فقال: أَهْلُ العِشق كِرَام، وأهلُ السُّلُوّ لِئَام. قلت: فلمن هذا الشعر؟ فقال: هو لي. قلت: فمن لُبَانة؟ قال: جارية لبعض أهلي، كلفت بها زمناً، وأخذت منها أماناً. فأبى المقدار؛ وشط المزار، وتباعد الجوار. ياشيخ! هل لك في القِرى. قلت: نعم، على اسم الله عز وجل. فأتاني بِوَطْبِ فيه لبن، فشربت منه، وترنمت وقلت: وإني لأهواها وأهوى لقاءَها ... كما يشتهي الصادي الشرابَ المُبردَا عَلاقَةُ حبِّ لجَّ في سَنَنِ الصّبا ... فَأُبْلَى وما يزداد إلاَّ تَجَدُّدَا اذا أنت لم تعشق ولَم تَدْر ما الهوى ... فَكُنْ حَجَراً مِنْ يَابس الصَّخْرِ جَلْمَدَا قال فبكى ثم قال: وَلَوْ أَنَّ مَابِي بِالحَصَى فَلَقَ الحَصَى ... وبالرِّيحِ لَمْ يُسْمَعْ لَهنَّ هُبُوبُ وَلَوْ أَنّنى أَسْتَغْفِر اللَّهَ كُلَّما ... ذَكَرْتُكِ لَمْ تُكْتَبْ عَلَيَّ ذُنُوبُ قال: فوعدته، ثم انصرفت عنه. وحكى أبو بكر الصولي، قال: رأيتُ رجلا من أهل الأدب، قد ذهل

عقله، وتبيَّن فكره، فاستوقفته، وقلت: يا فلان! ماحالك؟ وأين النعمة؟ فقال: تغيّر قلبي، فتغيرت النعمة. فقلت: بِمَ تغَيّر؟ قال: بِالحُبِّ، ثم بكى، وأنشأ يقول: إنَّ التجمُّلَ شيءٌ لستُ أحسنُه ... وكيفَ أُخفي الهوى والدَّمْعُ يُعْلِنُهُ أَمْ كيفَ صبرُ مُحِبٍّ قَلْبُه وَجِلُ ... الهَجْرُ يُنْحِلُهُ والشوقُ يُحزنُهُ أَمْ كيفَ يَنْسى الهَوى مَنْ أَنْتَ هِمَّتُه ... وفترةُ اللَّحظِ مِنْ عينيك تَفْتِنُهُ فقلتُ: واللهِ لقد أحسنت. فقال: قِفْ قليلا حتى أسمعك. فوقفت فقال: خَلِّ دَمْع العَيْنِ يَنْهَمِل ... إنَّ مَنْ تَهْوَاهُمُ وَارتَحَلُوا كُلُّ دَمعٍٍ صانه كَلفٌ ... فَهْوَ يوم البَيْن مُنْهَملُ ثم تركني، ومضى لشأنه. وحكى بعض الرواة، عن علي بن الجهم، قال: كانت ماردة، جارية للرشيد، وكان بها مولعاً، فغاظته ذات يوم، فانقطعا

عن الكلام مدة، فتكبّرت على الرشيد أن ترجع إليه بدلالة الحبّ. وتكبّر الرشيد عليها بعِزَّة الملك. فكتبت إلى عنان، جارية الناطفي، تستشيرها في ابتداء الصلح، فكتبت عنان إليها: الحُبُّ أَرْزَاقٌ ولكنما ... للحبِّ أسبابٌ تُقوِّيهِ فساعدي مولاكِ في كُلِّ مَا ... يَطلبُه منك ويُرضِيهِ لاتستزيديه النوى كارهاً ... لكن بما يهوى استزيديهِ فانما يرعى الهوى بالهوى ... وليس يرعى الحب بالتيهِ فلما قرأت الأبيات عَلِمْت أنها قد نصحتها، فتزينت أحسنَ زينة، ثم جاءت إلى الرشيد، فَأَكبَّتْ عليه، فقال لها: كَيْفَ كَانَ هَذاَ؟ وماَ حَمَلك على ما فعلت الآن؟ فأخبرته الخبر، فضحك وأمر لعنان بجائزة سنية، وأمرت لها هي بمثلها. وحكى علي بن الجهم أيضا، قال: كان للمتوكل جارية تدعى محبوبة، وكانت في نهاية من الظرف، والأدب، والحسن، والجمال. فكان المتوكل معجبابها؛ فغضب عليها لسبب اتفق بينهما، ومنع جواري القصر من كلامها. فبقيت في حجرتها لايكلمها أحدٌ أياما. فرأته ليلة من الليالي، كأنه قد

صالحها. فلمَّا أَصْبح دخَلَت عليه. فقال لي: يا عليّ. قلتُ: لبَّيك وَسَعْدَيْك يا أمير المومنين، قال: أَعَلِمْتَ أَنِّي رأيتُ محبوبة في منامي، وكأنِّي قد صالحتُها وصالحتني. فقلتُ: إذاً يَقَرُّ اللَّهُ عينك ويسرك، فبينما نحن في ذلك من حديثها؟ إذ جاءت وصيفة له فقالت: يا مولاي. سمعت صوت عود عند محبوبة. فقام المتوكل ودخل عليها وهي تضرب عودها وتقول: أَدُورُ في القَصْر لاَ أَرى أحداً ... أَشْكُو إليه ولا يُكَلِّمُني حتَّى كأَنِّي أَتَيتُ مَعْصيةً ... لَيْسَتْ لها توبةٌ تُخَلِّصُني فَهَلْ شفيعٌ لنا إلى ملك ... قد زارني في الكَرى فَصَالحني حَتَّى إذا ما الصَّباحُ لاحَ لَنَا ... عادَ إلى هَجْرهِ فصَارَ مَنِي قال: فلما رأت أمير المومنين أَكَبَّتْ على رجليه تقبلهما. فقال لها: ما هذا؟ قالت له: يامولاي رأيتك البارحة في منامي، كأنك قد صالحتني. فقال لها: وأنا - والله - رأيتك في ليلتي هذه، كأنك قد صالحتني. فردها إلى مرتبتها، كأحسن ما كانت. وحكى بعض الرواة، قال: كان لهارون الواثق جارية؛ كان يحبها حبّاً شديداً. فوقع بينه، وبينها عتاب ذات ليلة. فقالت له: يامولاي! إنْ كنت تستطيل عَلَيَّ بِعِزُّ الخلافة، ونَخْوَةِ المُلك، فإِني استطيل عليك، بِدَلاَلَةِ الحبِّ،

وسُلطَان الهوى. أَتَراكَ لم تسمع قط بخليفةٍ قبلك، عَشِقَ فَذَلَّ لمعشوقته، واستوفت منه حقَّها كاملا. ولكن يامولاي، ما أرى لك نظيراً في طاعتك ومحبتك. فقال الواثق عند ذلك: لله درّ العباس بن الأحنف حيث يقول: أَمَا تَحْسَبِينِي أَرى العاشقين ... قليلا ولَسْتُ أَرَى لي نَظِيرَا لَعَلَّ الذي بِِيَدَيْهِ القُلُوبُ ... سَيجْعَلُ في الصبرِ خيراً كثيراً وقرأت في (النوادر) لأبي علي، عن معاوية بن صدقة الجَحْدَري قال: كان رجل من مجاشع، يقال له سعد بن مطرف، يهوى ابنة عم له، يقال لها سعاد. فكان ياتيها، ويتحدث إليها، ولا يعلمها بما هو عليه من حبها، حتى سلّ جسمه، ونحل بدنه. فبينما هو ذات يوم معها جالس؛ إذ نظر إليها، وجعل يقول: وَمَا عَرَضَتْ لي نظرةٌ مُذْ عَرَفْتُهَا ... فَأَنْظُرُ إِلاَّ مُثِّلَتْ حيثُ أَنْظُرُ أَغَارُ علَى طَرْفي لها فكأنني ... إِذَا رَامَ طَرْفي غَيْرَهَا لستُ أُبْصِرُ وأحذر أنْ يطغى إِذَا بُحْتُ بالهَوى ... فأَكْتُمُهَا جَهْدِي هَوَايَ وأستُرُ فلما سمعت ذلك، ساءها، وكرهت أن ينتشر خبرها، فأَقْصَتهُ، وأظهرت هجره، فكتب إليها: مِتُّ شَوْقاً وكدتُ أَهْلِكُ وَجْدَا ... يومَ أَبْدَى الحبيبُ هجْراً وَصَدَّا بِأِبِي مَنْ إِذا دَنَوْتُ إِليهِ ... زَادَني القربُ منه نأياً وبُعْدا لاَ وَحُبِّيهِ لاَ وَحَقِّ هَوَاهُ ... مَا تَنَاسَيْتُهُ ولاَ خُنْتُ عَهْدا حَاشَ لِلَّه أَنْ أَكون خَليَّاً ... مِنْ هَوَاهُ وقد تقطعتُ وَجْدَا كَيفَ لاكيفَ عن هَوَاهُ سُلُوّي ... وهو شمسُ الضحى إذا ما تبدَّى

فكانت تحبّ مواصلته، وتشفق من الفضيحة، فتظهر هجره، وتبعده. فلم يزل عليل القلب والبدن. قوله: (ولا خنت عهدا)، أصل العهد: العقد الذي يوثق به. يقال عهد عهداً. وأهل العهد، هم المعاهدون؛ ومنه المعاهدة. والإعتهاد مثل التعاهد. ومنه قول الطرماح: ويطيع الذي قد أوجبه الل ... هـ عَلَيْهِ فليس يَعْتَهِدُهُ وَسُمِّيَ الذِّمِّى مُعَاهِداً، لأنه عَاهَدَ، وبَايعَ على ما هو عليه، من إعطاء الجزية. فإذا أسلم، ذهب عنه اسم المُعَاهِد. وعَهِيدُك: الذي تُعاهده ويُعَاهِدك. وقال الشاعر، هو نَصْر بن سيار: فَللَتُّرْكُ أوْفَى من نزارٍ بِعَهْدِهَا ... وَلاَ يَأْمَنَنَّ العَهْدَ يَوماً عهيدهَا والعهد: الوصية. قال صاحب العين: عَهِدَ يَعْهَدُ عَهْداً. وهو من الوصية، والتقدم إلى صاحبك، ومن ذلك اشتق العهدُ الذي يكتب للولاة من الوصية والتقدم إليه، ويجمع على العُهُودِ، والعَهْدُ: الالتقاء والإلمام. يقال: مالي بفلان عَهْد، وإِنّى

لقريبُ العَهْد به، وبعيد العَهْد به، أي: الالتقاء. والعَهْدُ: المنزل الذي لايزال القوم إذا انتأوا عنه، رجعوا إليه. قال رؤبة: هَلْ تَعْرِفُ العَهْدَ المُحِيلَ أَرْسُمُهْ ... عَفَتْ عَوَافِيهِ وَطَالَ قِدَمُهْ والمَعْهَدُ: الموضع الذي تعهد به شيئا. والجمع المعَاهِد. قال النابغة: أهاجَكَ من سُعْدَاك مغنى المعاهد وقال أبو تمام: قِفُوا جَدِّدُوا من عَهْدِكم بالمعاهد ... وَإنْ هِيَ لم تَسْمَعْ لِنِشْدَانِ نَاشِدِ والعَهْدُ: الأمان. قال الله تعالى (لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ). هذا في بعض الأقوال. وقيل: العَهْدُ في الآية: معناه النبوّة، وقيل الامامة. وقيل: الأَمْر بالوَفَاء للِظَّالم فيما عَقَدَه من ظلمه. وقال الحسن: ليس لهم عند الله عَهْدٌ يعطيهم عليه خيراً في الآخرة؛ فأما في الدنيا، فقد يعاهدون، فيوفى لهم. فكانه على هذا التأويل طاعة، يحتسب بها في الآخرة ويجوز في هذا الحرف في العربية الرفع لافي القراءة، لأنه في المصحف الظالمين بياء.

قال يحي بن زياد الفراء: لأنَّ مَا نَالك، فقد نِلْته. وتقول: نَالَنِي خيرك، ونِلْتُ خيرك. وقرأ أُبَيّ بن كعب، وعبد الله بن مسعود برفع الظالمين، ونصب العهد. والعَهْدُ: اليمين. ومنه قولهم: علَيَّ عَهْدُ اللَّهِ وميثاقه والعَهْدُ: المَطَر، وهو الذي يردِفُ الوَسْمِيّ. وكُلُّ مَطَر يكون بعد مَطَر؟ فهو عَهْد. والجميع عِهَاد، ومنه قول الشاعر: هَراقَتْ نُجومُ الصَّيفِ فيها سِجَالَها ... عِهاداً بِنَجْمِ المَرْبَعِ المتَقَدِّمِ وقال أبو بكر بن دريد: العِهْدَةُ والعَهْدَةُ: مطر السنة، والجمع عِهَادٌ وعُهُود. قال الشاعر: أَميرٌ عَمَّ بِالمعْروفِ حَتَّى ... كأَنَّ الأَرْضَ أَسْقَاهَا العِهَادَا وقال الآخر: مُستنيرٌ كالبَدْرِ عام العُهُودِ ويقال: عُهِدَت الروضة فهي مَعْهُود: إذا أصابَهَا عِهَادٌ من المطر. ومنه قول أبي تمام الطائي:

سَقَى عَهْدَ الحِمَى صَوْبُ العِهَادِ ... وَرَوَّضَ حَاضِرٌ مِنْهُ وَبَادِ ويُروى (سبل العهاد). وقال أبو النجم: تَرْعَى السَّحابَ العَهْدَ وَالفتوحا والفُتُوحُ هنا مَطَرٌ بعد مطر. والعُهْدَةُ: كتاب الشراء والجميع العُهَد. وإذا كان في الشيء فساد قيل: إنّ فيه العُهْدَة. وهذا كله عن أهل اللغة. فأمّا قول أبي تمام الطائي: لَيَالِينَا بالرّقْمَتَيْنِ وأَهْلَِهَا ... سَقَى العَهْدَ مِنكِ العهدُ والعهُد والعَهْدُ فالعَهْد الأول، وهو الوقت الذي عَهِدَ هابه قبل فرقتها. والعَهْدُ المتكرر، هو المطر، وقد بينه بقوله في البيت الثاني: سَحَابٌ متى تسحب على النّبت ذيلها ... فَلاَ رجل ينبو عليه ولاجعدُ هذا قول أبي بكر الصولي. قال: والعَهْدُ: المِلْحُ. تقول منه: مِلْحُ فلان على ركبته؛ يراد به أن عهده غير محفوظ عنده؛ إنما هو مُضَيَّع. ومنه قول مسكين الدارمي: لاَ تَلُمْها إِنها من نِسْوَةِ ... مِلْحُها موضوعة فوْق الرُّكَبْ

وإنما قال موضوعة؛ لأن الملح يذكر ويؤنث. وأصل الباب كله: العَهْد الذي هو العَقْد؛ وإنما قيل لمطر السنة عَهْد؛ لأنه ينعقد به النبات. وعَهِدْتُ فلا نا بمكان كذا وكذا، وأحدثت به عَهْداً. وأصله العقد على الالتقاء، والالمام. ثم كثر حتى سمى نفس الالمام عهداً. والعَهْد، والعَقْد، والأَمْر، نظائر في اللغة. وعَهْدُ الوالي معروف. والفرق بين العَهْد، والأمر، أن الأمر له صيغة متميزة من صيغة الخبر، وغيره من أنواع الكلام، وليس كذلك العهد. وقد اختلف في العَهْد، إذا أقسم به. فقالت طائفة من الفقهاء: كفارة يمين. وقالت طائفة: لاكفّارة فيه. وقد أكد الله سبحانه أمر العهد في كتابه العزيز (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا)، وكل عَهْدِ يحسن فعله، فلا ينبغي حله. وإذا عاهد الإنسان على معصية، فحلُّ ذلك العَهْدِ واجبٌ عليه. واليمين على المعصيّة، سبيلها كسبيل العهد على المعصية. وقد جاء عن النبي عليه السلام: "من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليات الذي هو خير وليكفر عن يمينه". وقد بسطنا القول في هذا اللفظ، وفي غيره؛ إذا عرض لنا؛ ليقف على ذلك كله أهل المعرفة، والفهم؛ فتتحصل لهم جمل من أنواع العلم، ممّا تشتد حوائجهم إليه، وتعظم لهم الفوائد، والانتفاع

به، عند وقوفهم عليه. والله الموفق للصواب، وعنده حسن الثواب. وقوله في البيت الرابع من القطعة: (وقد تقَّطعت وَجْدا). التَّقْطِيعُ، مَغَصٌ يجده الإنسان في أمعائه. والتَّقْطِيعُ أيضا القَدُّ. يقال: هذا شيء حسن التقطيع أي القد، ويقال: قطع فلان على فلان تقطيعاً؛ إذَا لونه عليه. والفرق بين قطَّع بالتشديد، وقَطَعَ بالتخفيف، أن التشديد في الكثرة والمبالغة، والتخفيف فيما قلّ. ويقال: هذا الثوب يَقْطَعُك إِقْطَاعاً، ويُقَطَّعُ لك تقطيعاً؛ اذا صلح عليك قميصاً ونحوه. ويقال: قطَّعَهم الله أحزاباً، فتَقَطَّعوا. قال الله سبحانه: (وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا). ويقال للفرس الجواد: انه لَيَقْطَعُ الخيل؛ وذلك اذا خلفها ومضى. قال: يُقَطِّعُهُنَّ بِتَقْرِيبِهِ ... وَيَأْوِي إلى حُضُرٍ مُلْهِبِ ويقال للأرنب السريعة الشديدة: مُقَطَّعَةُ النياط. والنِّياط: المَفَازَة. وقيل عرق في البطن. والباب متسع، واللفظ مشترك. رجع قال: وكان للمأمون جارية، كان يحبها حبّاً شديداً. فعتب عليها في شيء، وقع بينهما، فأعرض عنها، وأعرضت عنه؛ ثم أسلمه العزاء، وأقلقه الشوق، فأرسل إليها يطلب مراجعتها، فأبطأ الرسول عنه، ثم رجع إليه، فقال المأمون:

بَعَثْتُكَ مرتاداً فَفُزْتَ بنظرة ... وأغفلتَني حتى أسأتُ بكَ الظَّنَّا ونَاجيتَ مَن أهوى وأنت مقرّب ... فيا ليتَ شِعْري عَنْ دنوك مَا أَغْنَى ونزهت عيناً في محاسن وجهها ... وَمَتَّعت باستظراف نغمتها أُذْنا أرى أثراً منها بعينك لم يكُنْ ... لقد سَرَقَتْ عيناك من عينها حُسْنَا ثم إن المأمون أقبل مسترخيا لها؛ فسلَّم عليها فلم ترد عليه، وكلمها فلم تجبه، فأنشأ يقول: أَجيبي ليس يُوجعُكِ الكلامُ ... ولا يُؤْذي محاسنَك السَّلامُ أنا المامون والملِك الهُمام ... ولكني بحُبّكِ مُسْتَهَامُ يَخف عليكِ ألاَّ تقتليني ... فيبقَى الناسُ ليس لَهُمْ إِمام وحكى أبو نواس، قال: وقع بين الرشيد، وجارية له، هجر فاعتراها صلف الحسن. واعترى هارون تيه الخلافة، والأمر والنهي، ونخوة السلطان. فلا هي تبدأه بالكلام، ولا هو يبدأها. فوقع هارون من سببها في أمر عظيم. فدعا بدعبل الخزاعي الشاعر، فقص عليه الخبر، فقال: أنا أردّها عليك، يا

أمير المومنين. فكتب إليها دعبل: أَين الشَّبَابُ وَأَيةً سلكا ... ضَحِكَ المَشْيبُ برأسِهِ فَبَكَى لاتَعْجَبِي يَا سَلْمُ مِنْ رَجُل ... وَجَدَ السَّبِيلَ اليه مُشْتَرَكا قًصر الملامة في هَوَى رَشأٍ ... بَلْ أَيْنَ يُوجَدُ كلُّ مَنْ هَلَكَا يا ليت شعري كيف نومُكُما ... يا صاحبيّ اذا دَمِي سُفِكَا لاتأخذي بظلامتي أحداً ... قلبي وطرفي في دمي اشتركا وبعث بالرقعة اليها؛ فلما قرأتها الجارية، وقّعتْ في أسفلها: تعزز علينا بأبهة السلطان، وتكبرّنا عليه بتيه الحسن؛ فلينظر أينا أشد عذابا وأبقى. فلما نظر هارون إلى الرقعة، قال: أراجعها - والله - على رغم أنفي، لأن عذابها أشدّ من عذابي. وحكى إسحاق بن ابراهيم الموصلي، قال: بعث إلي الرشيد ذات

ليلة؛ فأتيته متخوفا. فأجلسني وانّسني. فبينما أنا قاعد معه؛ إذ جاءت جارية كأنها لؤلؤة، فأقعدها في حجره، ثم قبلها، وقال: يا إسحاق! غني. فأخذت العود، وغنيت: جِئْنَ من الرُّومِ فياَ حبّذا ... يَرْفُلْنَ في المِرْطِ ولينِ المَلاَ مقرْطَقَاتٍ في صُنُوف الحُلى ... يا حبّذ البيضُ بتلك الحُلا قال: فتبسمت الجارية، ودعا برطل فشرب، وسقاها، وسقاني. وقال لي: أعد. ثم دعا برطل، فشرب، وسقاها وسقاني. وقال: عَلَيَّ بفلانة، وفلانة، جاريتين من جواريه، فمثلتا بين يديه؛ فأقعد الواحدة عن يمينه، والأخرى عن شماله، وأمرّ يده عليهما، وقال. أَرْوِعْنِي يااسحاق! قلت: قُلْ: أيها الأمير، فأنشد: مَلَكَ الثَّلاثُ الآنساتُ عناني ... وَحَلَلْنَ مِنْ قلبي بكل مكان مَالِي تُطَاوِعُنِي البريَّةُ كُلُّها ... وأُطيعهنَّ وهنَّ في عِصْياني ماذاكَ إِلاَّ أَنَّ سُلْطَانَ الهوى ... وبِهِ قَوِينَ أَعَزُّ مِنْ سُلْطَانِي

ثم أمر لي بخمسين ألف درهم، وأمرني بالإنصراف فانصرفت. وفي جواريه الثلاث يقول هارون أيضا: ثلاث قَدْ حَلَلْنَ حِمَى فؤادي ... وَأُعْطِينَ الرَّغَائِبَ من فؤادي نَظَمْتُ قُلُوبَهُنَّ بِخَيْطِ قلبي ... فَهُنَّ قَرَابَتِي حَتَّى التَّنَادِي فَمَنْ يَكُ حَلَّ من قلبي مَحَلاَ ... فَهّنَّ مَعَ النَّواظِرِ في السَّوَادِ قال أبو إسحاق: وذكرت بهذه الحكاية، حكاية سلكت في الظرف سبيلها؛ ومزجت بالرقة معناها، وتأويلها؛ فأنار صبحها، وفاز قِدحها. وهي أن المستعين سليمان بن الحكم، أحد خلفاء بني أمية، كان في مدته (بقرطبة) أمّن الله أرجاءها، وأخصب أفناءها، كلفا بثلاث جوار، كنّ نهاية في الجمال، والحسن والدلال. فجلس يوم أنس، فدعا الواحدة، فأقعدها في حجره، والثانية عن يمينه، والثالثة عن شماله. وأنشأ يقول: عجباً يَهَابُ اللَّيْثُ حَدَّ سِنَانِي ... وَأَهَابُ لَحْظَ فَوَاتِرِ الأَجْفَانِ وأقَارعُ الأَهْوَالَ لامُتَهَيِّباً ... منها سِوَى الإِعْرَاضِ والهِجْران

وَتَمَلَّكَتْ نفسي ثَلاَثٌ كَالدُّمَى ... زُهْرُ الوُجُوهِ نَواَعِمُ الأَبْدَانِ كَكَوَاكِبِ الظُّلْمَاءِ لُحْنَ لِنَاظِرِ ... مِنْ فَوْقِ أغصانٍ عَلَى كُثْبان هذي الهلالُ وتلك بنتُ المشْتَري ... حُسْناً وهذي أخْتُ غُصْنِ البَانِ حاكمتُ فيهنَّ السُّلُوَّ إلى الهوى ... فَقَضَى بسلطانٍ على سُلطاني فأَبَحْنَ من قلبي الحِمَى وتَركنني ... في عِز مُلْكي كالأسير العَانِي مَا ضَرَّ أَني عَبْدهنَّ صبابة ... وبَنُو الزَّمانِ وهُنَّ مِنْ عُبْدَاني إنْ لَمْ أُطِعْ فيهنَّ سُلْطَانَ الهَوى ... كَلَفاً بهنَّ فَلستُ مِنْ مَرْوَانِ لاتعْذِلُوا ملكاً تَذَلَّلَ في الهوى ... ذُلُّ الهَوَى عِزٌّ ومُلْكٌ ثاني وإِذا الحبيبُ أَحَبَّ أَمنَ إِلْفه ... خَطَب القِلى وحوادث السُّلْوانِ وكان سليمان من أهل الشراسة والحزم والذكاء والفهم، لمَّا بويع وقدم عليه أبو العباس بن مدُّوس، رسول أهل الثغر بالبيعة من قبل منذر بن يحيي، فخلَّى سبيله ووصله بصلة وكتب إليه: قَد بَعَثْنَا إليكَ أَكْرَمَكَ الل ... هُ بشيءٍ نَزْرٍ فَلاَ نَسْتَقِلَّهْ وتَقَبَّلْهُ وابْسُط العُذْر حَتَّى ... يَبْسُطَ اللَّهُ كفَّنا المُنْهَلَّهْ فإذا كان جاءكَ الخيرُ يَتْرَى ... بنواَلٍ عليكَ حتَّى تَمَلَّهْ

ورفع إليه بعض خدامه بشعر يعتذر إليه، فَوَقَّعَ على ظهر كتابه: قَرَأْنا ما كتبتَ به الينا ... وعُذْرُكَ واضحٌ فيما لَدَيْنَا وَمَن يكن القريضُ له شفيعاً ... فَتَرَك عِتَابِه فَرْضٌ عَلَيْنَا وكتب إليه القاضي أبو القاسم بن مقدام شاكيا ضيق حاله، بأبيات أولها: أََهَلْ تَرْضَى لعبدك أن يُذَالاَ ... وَأن يَبْقَى على الدنيا عِيالاَ فبعث إليه بصلة، وكسوة، ووقع له على ظهر رقعته، بهذه الأبيات: مَعَاذَ اللَّهِ أن تبقى عِيالا ... وأن ترضَى لِمِثْلِكَ أن يُذَالاَ وَكَيفَ وَأَنْتَ مُنْقَطِعٌ إلينا ... وقد عَلِقَتْ يَدَاكَ بنا حِبَالاَ ودونك من نوافِلناَ يسيرٌ ... ولَكِنَّا انْتَقَينَاهُ حَلاَلاَ وأشباه هذا من أفعاله كثيرة؛ لكنه تحمل في قيامه بالأمر إثما عظيماً؛ وتقلد من دماء المسلمين عبئا جسيما. فكم هتك من أستار، وحزب من أمصار، وكانت أيامه، أيام استطال على الرعيّة، وخلافته خلافة غير مرضية، ولم تزل كذلك حتى

قتل سنة سبع وأربعمائة. قتله علي بن حمود بيده، بعد أن استفتى الفقهاء في ذلك، فأفتوه بقتله؛ لأنه قتل هشاماً المؤيد، في خبر طويل، ليس من غرضي استقصاؤه. وحكى أبو الفضل الكاتب، قال: أحبَّ غلامٌ جارية، وكان معها في مَكْتَبِ واحد؛ فلم يزل الغلامُ يَتَلَطَّفُ بِمُؤدِّبِه، حتى صار قريباً منها. فلما كان في بعض الأيام، ترقَّبَ غفلةً من الغلمان، فكتب في لَوْحِ الجارية: ماذا تَقولينَ فيمَنْ شَفَّه سَقَمٌ ... مِنْ أجل حُبِّكِ حَتَّى صار حَيرانَا فلما قرأت الجارية ما كتب، وَقَّعَتْ أسفله شفقا عليه ورحمة له: إذا رأيناَ مُحبّاً قد أضَرَّ به ... طُولُ الصَّبَابَة أوليناه إحسانا وحُكي أن بعض ولد جعفر بن سليمان؛ أصابته علة مجهولة، فكان

يختلف إليه خصيب الطبيب، وكان ماهراً في صناعة الطب، فكان يحلف أن مابه من علة، وأنه لعاشق. فأشار يوماً إلى أهله أن يسقوه نبيذاً، ففعلوا، فلما سكر، طلب رقعة، فأحضرت له، فكتب فيها: ولَقَدْ قُلْتُ لِقَومِي ... حين جَاؤُوا بِخَصِيبِ ليس واللَّهِ خَصيبٌ ... لِلَّذي بي بِطَبِيبَ إِنَّمَا يَعْلَم مابي ... مَنْ بِهِ مثلُ الذي بِي فلما وقف والده على الرقعة، ونظر إلى الأبيات، ازداد عنده جاهاً، وشرفا، وكشف عن أمره؛ فإذا هو يتعشق بعض جواري القصر، فأمر له بها، وأحسن إليه. قال: وقال أبو الطيب محمد بن القاسم النميري: مارأيت شاباً، ولا شيخاً من ولد العباس أصون لنفسه، ولا أضبط لجأشه، من أبي العباس عبد الله بن المعتز. وكان يعيب الحب، وينكره، ويقول: إنما هو ضرب من الحمق. وإذا رأى منا مطرقا، اتهمه به، ويقول له: وقعت وَالله يا فلان، وذهل عقلك، وسخف رأيك إلى أن رأيناه قد حدث له سهو شديد، وفكر زائد، وزفير متتابع، وسمعناه ينشد: أسرَ الحُبُّ أَمِيراً ... لم يَكُنْ قَبلُ أَسيرَا

فَارْحَمُوا ذُلَّ عَزِيز ... صَارَ عبداً مستجيراَ فقلنا له: جعلنا فداك! هذه أشياء كنت تنكرها وتعيبها منّا. ونحن الآن ننكرها منك. فكان يرجع عن بعض ذلك تصبّراً، وتحمّلا، ثم لايلبث أن يظهر مستوره، حتى تحققنا أمره، ودخل في جملة المرحومين. فسمعته ذات يوم، وهو ينشد: كُنْ إذا أحببتَ عبداً ... للَّذي تَهْوَى مُطيعاَ لَنْ تنالَ الوَصْلَ حتَّى ... تلزم النفس الخضوعا فكتبت إليه: بَكَتْ عينه وشَكَا حُرقة ... منَ الوَجْد في القَلْبِ ماتَنْطَفي فقلتُ له سَيِّدي ما الَّذي ... أرى بك، قال سقامٌ خَفِي فقلتُ: أَعِشْقٌ فقال: اقْتَصِرْ ... عَلَى ما تراهُ أَمَا تَكْتَفِي ثم سرت إليه، فقال: يا أبا الطيب! لقد عصيت ابليس أكثر مما عصى ربّه، إلى أن أوقعني في حباله. فأخبرني بقصته. فسعيت بلطف التدبير، وأعانني حزم النظر، حتى فاز بالظفر. وحكى محمد بن عبد الله العتبي فقال: كانت لعمر بن عبد العزيز، رضي الله عنه، جارية بارعة الجمال؛ جامعة للكمال. فنظرت إليه يوما، وهو يبكي، من خشية الله عز وجل. فقامت عند ذلك، ولبست أحسن ملبس، وتحلت بنفيس الجوهر، وتطيبت بأذكى الطيب، وأقبلت، وهي تقول: وكَأَنَّها لَمَّا اسْبَكَرَّتْ مُزْنَةٌ ... وَسط الرَّياض ضميرها لم يرعَدِ فلما نظر إليها عمر، قال لها: والله إنك لقرة العين؛ ولكن من

أَوْبقَتْهُ ذنوبه، وكثرت عيوبه؛ فالبكاء مثله قليل. وأنشأ يقول: مَنْ كَانَ حِينَ تُصِيبُ الشمسُ جَبْهَتَهُ ... أَو الغُبَارُ يَخَافُ الشمسَ وَالشَّعَثَا وَيَأْلَفُ الظِّلَّ كَيْ تَبْقَى بَشَاشَتُهُ ... فَسَوْفَ يَسْكُنُ يَوْماً رَاغِماً جَدَثَا فِي ظِلِّ مُظْلِمَةٍ غَبْرَاءَ مُوحِشَةٍ ... يُطِيلُ تَحتَ الثَّرَى في جَوْفِها اللَّبَثَا تَجَهَّزِي بِجِهَازٍ تَبْلُغِينَ بِهِ ... يَا نَفْسُ قَبلَ الرَّدَى لَمْ تُخْلَقِي عَبَثَا ثم مسح عينيه، وأدناها من نفسه؛ فلما رأته الجارية قد ألفها، وحنّ إليها، قالت: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ) إلى آخر الآية، ثم قالت: يا أمير المومنين؛ أين أنت، من قول امرئ القيس: مِنَ القَاصِراتِ الطَّرْفِ لَوْدبَّ مُحْوِلٌ ... مِنَ الذَّرِّ فَوْقَ الأنف مِنْها لأَثَّرَا يا أمير المومنين! الذي جمعنا في الدنيا، قادر أن يجمعنا في الآخرة في الجنة، ومستقر الرضوان والرحمة. قال: فانشرح إليها، وبقي معها بقية يومه. وكان عمر بن عبد العزيز رحمه الله من الفضلاء، وأحد الشهداء. ودام في الخلافة سنتين وستة أشهر وأربعة عشر يوماً. وكان للعدل في أيامه ظهور، ولأهله حبور وسرور.

وروي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كان يقول: (إِنَّ مِنْ ذريتي رجلا بوجهه شينٌ يملأ الأرض عدلا). وكان الرجل الذي ذكر عمر - رضي الله عنه - عمر بن عبد العزيز؛ لأن أمه هي أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب. وكانت في وجهه شَجَّةٌ من ضربة دابة. بويع له بعهد عمه سليمان بن عبد الملك في يوم الجمعة لعشر خلون من صفر سنة تسع وسبعين. وكانت وفاته في رجب سنة إحدى ومائة وهو ابن تسع وثلاثين سنة وأشهر. وحكى أبو حاتم، عن الأصمعي، قال: أخبرني نافع بن أبي نعيم أنه لما مات عمر بن عبد العزيز، رثاه أحد موالي أهل المدينة، فقال: قد غَيَّب الدَّافنون اللحد إذْ دَفَنُوا ... بِدَيْر سَمْعَان قسطاس الموازين مَنْ لم يكنْ همُّه عيْناً يُفَجِّرها ... ولا النَّخِيلَ ولا رَكْضَ البَرَاذِين قال: والأبيات التي أنشدها عمر بن عبد العزيز رحمه الله هي لعبد الله بن عبد الأعلى القرشي، وهي عشرة أبيات قرأتها في النوادر لأبي علي البغدادي وأولها: تَجهَّزِي بِجَهَازٍ تبلُغين به ... يا نفسُ قَبْلَ الرَّدى لم تُخْلَقِي عَبَثا

وَسَابِقي بُغْيَةَ الآمال وَانْكَمِشِي ... قبل اللِّزَامِ فلا مَنْجَى ولاَ غَوَثا ولا تَكُدِّي لمن يبقى وتَفْتقري ... إنَّ الرَّدى وارثُ الباقي وَمَاوَرِثا واخْشَيْ حَوَادِثَ صَرفِ الحِينفي مَهَلٍ ... واستيقِنِي لا تكوني كالذي انْتَجَثا عَنْ مُدْية كان فيها قطعُ مُدَّتِه ... فوافق الحرثَ محروثاًكما حَرثَا لا تَأْمَني فَجْعَ دَهْرٍ مُورِطٍ خَبِلٍ ... قد استوى عنده من طاب أو خَبُثَا يارُبَّ ذي أَملٍ فيه على وجلٍ ... أضحى به آمناً أمسى وقد جُئِثَا مَنْ كَان حين تُصيبُ الشمسُ جبهته ... أو الغبارُ يخاف الشمسَوالشَّعَثَا ويألفُ الظل كَيْ تبقى بَشَاشَتُهُ ... فسوف يسكن يوماً راغماً جَدَثَا في قَعْرِ مُوحشةٍ غبراء مُقفرةٍ ... يُطيل تحت الثرى في جوفها اللبَثَا ويروى في رمسها، مكان جوفها. وقوله: (أمسى وقد جُئثَا) أي: فَزِعَ، والمجؤُوثُمن الرجال: المخوف الذي ذهب فؤاده، من شدة الفزع. وحكى أبو نواس قال: كنت في بعض الأيام عند يحي بن سليمان بن الفضل بن الربيع، وهو صبي صغير، فأخرج إلى رقعة، وفيها مكتوب: ياسيدي! قد أماتت خطرات الهجر قلبي، وتولدت فظاعته في الأحشاء.

وتعلم أن لذة العيش في الدنيا وصل المحبين؛ فلولا كتابك الذي قرأت هذه الساعة، لسفكت سيوف الهجر دمي، وناطت ناره على كبدي. وبعد هذا مكتوب: كتابٌ أتاني من حَبيبٍ بِخطِّه ... فما أضعف النُّعْمى وما أوجب الشكرا فلم أرَ مثلى لم أمت مذ قرأته ... لقد رُزِقَتْ نفسي التجلد والصَّبرا وظلتْ تناجيني بما في ضميرها ... أنامل خطت لي بِأَقْلامها السِّحْرا فقلت له: ياسيدي، يا ابن الوزير، لمن هذه الرقعة؟. ورجوت أن استخف به لصغر سنه، فأنشدني هذين البيتين: أَجُودُ بِمكْنونِ التِّلاد وإنني ... بِسرّك عمَّن سَالَنِي لَضنينُ سَأصْفيك ودِّي مَا حَييتُ وَإن أمت ... بِوُدِّك عظمي في التراب دَفينُ ثم قال لي: ياحسن، قُلْ في الفراق، والهجر، واللقاء، والوصل. فقلتُ: لا بَاركَ اللهُ في الفراقِ وَلا ... بَارَكَ في الهَجْر مَا أَمَرَّهُما بل بارك اللهُ في اللقاءِ كَمَا ... بارك في الوصل ما أكدَّهُما لو ذبح الهجر والفراق كَمَا ... تذبح شاة لما رحمتهما وحكى عبد الله بن المعتز عن الزبير بن بكار، قال: رأيتُ بِالثَّغْر رجلا، عليه أثر الذِّلة والاستكانة، كثير التنفس، وحركات الحبِّ لا تخفى. فسألته عن خبره، حين خلوت به، فكانَ جوابه إلىَّ، تَحدّر أَدْمعه، وقال:

أنا في أَمْرٍ رَشادٍ ... بَين غَزْوٍ وَجِهادِ بَدَني يغزو الأَعادي ... والهَوَى يَغْزُو فُؤَادي وحكى أبو نواس أيضا، قال: حدثني سليمان بن ابراهيم، قال: بينما أنا ذات يوم أمشي في أزقة البصرة، إذ سمعت جارية تترنم وتقول: يَا دَوْلَةَ العِزِّ من بعد الخمول ويا ... إِقبالَ دنيا بلا شيءٍ من الكَدَرِ يا فرحة الصَّبِّ بالمحبوب إذ ظفِرَتْ ... منه اليدان به في ساعة الظَّفَرِ يابرْد غُلَّة أُمٍّ غاب واحدها ... مُسافراً ثم وافاها من السفرِ ياراحة النفس يا بردَ العليل إذا ... أتاه بعد اتِّصال الوصْل بالسَّهرِ يافرحةَ في قلوب الناس كلهم ... ياطلعة الشمس بل يا طلعة القمر أصبحتَ أملح مَنْ في الناس مِن بَشَرٍ ... كأنك الأمن بعد الخوف والحذر غُصْنٌ مِنَ البان تثنيه الرياحُ على ... زَهْرِ الرياض اذا هَبَّتْ مَعَ السَّحَرِ فقلت لانسان كان خلفي: لقد جمعت هذه محاسن الدنيا. فمن تخاطب؟ قال: هي عاشقة لابن مولاها، وأبوه قد حال بينهما. وحكى أبو العباس محمد بن يزيد، قال: لما قدم علينا محمد بن طاهر، قال: هل عندكم موسوم بأدب، منسوبٌ إلى معرفة، يستراح إليه؟ فأرسل بي إليه. فلما دخلت عليه، سلّمتُ، فرد علي السلام، وأمرني بالدنُوِّ، فدنوت، ثم التفت إلي، بعد أن أمهلني ساعة. فقال لي: أنت أديب (العراق).

فقلت: كذا يَزْعُمُ من يَوَدُّني. فقال: أَنْشدْني ما استحسنه منك. فأنشدته من أشعار المُتقدِّمين. فقال لي: ليس عن هذا أسألك؛ وان كنت لم تفارق الصواب. فقلت: الأميرُ أوْلى بالهِداية والإرشاد، فليردني إلى موضع إرادته. فالتفت إلي، باقبال وبِشْر، فقال: أُناجيكَ بما كُمَنَ في الضَّمير، وتحكم من سرّ الهوى، لي حبيب خلّفته مقيماَ (بنيسابور) وأنا (ببغداد)، وجعل يقول: أقام ببلدة ورحلت عنها ... كِلانَا بَعْدَ صَاحِبِه غَريبُ أَقَلُّ النَّاسِ في الدنيا سُروراً ... محبٌّ قد نأى عَنْه الحَبِيبُ ثم تَنَفَّسَ الصُّعداء، وقال: اعذر أيها الأستاذ، فمَا أَوْحَشَ الغَرِيبَ بِلا حَبِيب! جعلت حبه تحفة نفسي، وأسكنته قلبي، ومحل ناظري من مقلتي. فقلت له: أيها الأمير! استبدل به بديلا؛ واتخذ غيره خليلا. فان الهوى ما ألفته النفس؛ فلعلها عند معاينة العوض، تقع قناعة، وزهادة في الأول. فقال: هيهات ياأستاذ! وأنشد: وَلَمّا أبى إلا جماحاً فُؤَادُه ... وَلَمْ يَسْلُ عن لَيْلَى بمالٍ ولا أَهْلِ تسلّى بأُخرى غيرها فإذا التي ... تسلَّى بها تُغْرِي بليلى ولا تُسْلِي ثم قال: يا أستاذ! هيهات حبّ من ذهب بذخائر القلب والحشا، وجرى مجرى الروح في الأعضاء. لا سبيل إلى زواله، الا بزوال النفس عن جثمانها. والله، إن مت، فما أموت إلا بغصّة فراقه، ولا أفارق الدنيا، إلا على البعد منه. أما سمعت قول أبي تمام:

نَقِّلْ فُؤادك حيث شئتَ من الهوى ... ما الحبُّ إلا للحبيب الأولِ كَمْ مَنْزلٍ في الأرض يَأْلفُهُ الفتى ... وَحَنِينُه أبداً لأول مَنْزِلِ فبينما أنا معه، وقد أخذ في ذكره؛ إذ دخل علينا حاجبه بكتاب من عند حبيبه (بنيسابور). فلما أراد أن يتناوله، استولى عنه من السرور، ما أزال عنه خمرة الكآبة. فلما فكه، وقرأه، ناولنيه. فقرأت فيه: لَعَمري لَئِنْ قَرَّتْ بقربك أعين ... لقد سخنت بالبعد منك عُيونُ فما أقبحَ الدنيا إذا كنت نائيا ... وَما أحسنَ الدنيا بحيث تكون فسر أو أقم وقف عليك مَحَبَّتِي ... محلكَ من قلبي عليك مَصونُ فلما كان بعض أيام استدعاني، وقال: لِيَهْنِئْكَ رؤية السرور. قلت: وماذاك؟ قال: اعلم أن الحبيب قادم عن قريب. ثم استعبر، وبكى. فقلت: الحمد لله الذي ألف بينكما بعد الفراق. فلم ألبث إلا قليلا، حتى دخل الحاجب، فقال: قدم فلان. فقال: ائذن له، فدخل غلام، كأن وجهه البدر ليلة تَمِّه، قد ركب على غصن بان؛ أو قضيب خيزران. يرفل في عصب (اليمن)، أَدْعَجُ العينين، مَقْرُونُ الحاجبين، أَسِيلُ الخدين. أرقُّ من الهواء؛ وأحسن من الماء، وأضوءُ من سليل الأنواء. فدعا الأمير بكرسي من فضة، مرصّع بالديباج الأحمر، مكلل بالدر؛ فأجلسه عليه، وقعد هو بين يديه، وقال: التَّذَلُّلُ للحبيب؛ هو الحسيب. ثم أمر لي بعشرة آلاف درهم، وقال لي: ينصرف الأستاذ راشداً، ويقبل العذر. وقال سعيد بن حميد: اليَوْمَ أيْقنتُ أَنَّ الحبَّ مَتْلَفَةٌ ... وأنَّ صاحبه منه على خَطَرِ.

كَيْفَ الحَياةُ لِمَنْ أَمْسَى عَلَى شَرفٍ ... منَ المَنية بين الخوف والحذَرِ يَلُومُ عَيْنيه أحْياناً بِذَنبهما ... ويَحْمِلُ الذنْبَ أحيانا على القدرِ وقال غيره في المعنى: وَمَا في الأرضِ أشقَى من مُحبٍّ ... وإنْ وَجَدَ الهَوَى عَذْبَالمذاقِ تراهُ باكياً في كُلِّ حالٍ ... مَخَافَةَ فُرْقَةٍ أَوْ لاشتياقِ فَتًَسخنُ عينه عند التَّنَائِي ... وتَسْخُنُ عَيْنُه عند التلاقي فَيَبْكِي إن نَأَوْا حذراَ عليهم ... وَيَبْكِي إنْ دَنَوْا خَوفَ الفِراقِ وهذه القطعة في معناها كقول الآخر: لقد كُنتُ أبكي قبل أن تَشحط النوى ... فكيف إذا ما غبت عنك أكونُ ومنه قول أبي تمام الطائي: بَكَتْهُ بما أبكته أيام صدرها ... خَلِيٌّ وما يخلو له من هوى صَدْرُ وأخذ هذا المعنى أيضا الأديب أبو حاتم الحجاري الأندلسي فقال:

وَزًائرٍ زارني قَد هَجَعَتْ ... عينايَ حين تبلح الفجرُ بَكيتُ للقرب ثم قلتُ له ... من ثَمرِ الوصلِ يُجْتَنَى الهَجْرُ وفي معناه قول أبي بكر الغساني: يُوَاصِلُنِي طَوْراً وَيَهْجُرُ تَارًَةً ... الا رُبَّ هَجْرٍ جَرَّ أسْبابَهُ اللِّقَا وفي معناه أيضا قول سعيد بن حميد: ما كنتُ أيامَ كنتِ راضيةً ... عنّي بذاكَ الرِّضى بمغْتبطِ عِلماً بأن الرضى سَيَعْقُبُهُ ... منك التجني وكَثْرةُ السُّخُطِ فكلُّ ما ساءني فَعَنْ خُلُقٍ ... وكلّ ما سرّني فَعَنْ غَلَطِ وقد جمعه أبو الطيب في بيت واحد فقال: أيَّ يَوْمٍ سَرَرْتني بِوِصَالٍ ... لَمْ تَرُعْنِي ثَلاثةً بِصُدُودِ وقبل هؤلاء، قال العباس بن الأحنف في المعنى: إذا رَضِيَتْ لَمْ يَهْنِنِي ذَلك الرّضى ... لِصِحَّةِ عِلْمي أنْ سيعقبهُ عَتْبُ

وأَبكي إذا ما أَذْنَبْتُ خَوْفَ عَتْبِها ... فأسْأَلُها مَرْضاتِها ولها الذَّنْبُ وِصَالُكُمُ هَجْرٌ وحُبُّكُمْ قلى ... وَعَطْفُكُمْ صَدٌّ وسِلْمُكُمْ حَرْبُ

فصل

فصل قال أبو اسحاق: والولوع بالجمال، سجية ركبها الله في الظرفاء، وفطنة خصّ الله بها أهل الفهم والذكاء. وليس بأريب عندهم من خرج عن حد الهوى. وفي هذا المعنى قال أحدهم: إذا أنت لم تَعْشَقْ ولم تدْرِ ما الهوى ... فكُنْ حجراً من يابِسِ الصَّخْر جَلْمَدا وقال الآخر: وما الناس إلا العاشِقونَ ذَوُو الهوى ... ولا خيرَ فيمنْ لا يُحبُّ ويعشقُ وهو مذهب جوهري، ومنهج علي، يخص الله سبحانه به من شاء من عباده، ولا ينكر الميل إلى الجمال، إلا جاف فدْم. قد عزب عنه الفهم، وعرته من الجهل نوائبه؛ وادلهمت في جوانحه غياهبه. وقد قال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: إني لأحب الجمال حتى في شراك نعلي. وفي الحديث (أن الله عز وجل جَمِيلٌ يُحِبُّ الجمال). وسُمِّي الباري

سبحانه جميلا، لانتفاء النقص عنه. والمعروف عندنا أن الجميل من بني آدم، من له صورة حسنة، تامة الصفات. وحسن الصورة، مبعدٌ للنقص والشين عنها. وقال بعض أهل العلم: يجوز أن يجعل جميل في هذا الحديث بمعنى مجمل. كما يقال كريم للرجال المكرم. فكريم بمعنى مكرم. وقيل: إنَّ الحُسْن أول سعادة المرء، ورائد اليُمْن، وسائق النجح. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من أُعْطي حسن خلق وحسن صورة وحسن زوجة فقد أعطي خير الدنيا والآخرة). وقال عليه السلام: "اطلبوا الحوائج عند حسان الوجوه" ونظم هذا بعض الشعراء فقال: حُسْنُ ظَنِّي اليكَ أَصْلَحَكَ الل ... هـ إِذْ قالَ مُفصِحٌ إفْصَاحَا ودعاني اليك قولُ رسولِ الل ... هـ دَعَاني فَلا عدمت النَّجاحا إنْ أردتم حوائِجاً عند قوم ... فتلقوا بها الوجوهَ الصِّباحا وقال الآخر: سَلُوا الحاجات أصبحهم وجوها ... ولا تسلو اللئام وَلا القباحا وقال الآخر: حَدَّثَنَا عن خَلَدٍ خَالِدٌ ... وَخَالِدٌ حَدث عن عامرِ

إن رسول الله في مجلس ... قد قَالَ للبادي وللحاضرِ إذا أردتم حاجة فاقصدوا ... كل صبيح حسن الناظر وقال: لقد صدق الرسولُ وقال حقّا ... وَخَيْر القول ما قال الرَّسولُ إذا الحاجاتُ عَزَّتْ فاطلُبُوها ... إلى مَنْ وجهُهُ حَسَنٌ جَمِيلُ وقال عليه السلام: "ان الله لا يعذب حسان الوجوه سود الحدق". والله تعالى وجل بلطف حكمته، وشريف صنعته، لم يخلق الصورة مختارة الصفات، سالمة من الشين والآفات، إلا عن فضل منه كامل؛ وعز شامل. ولا خص أهل الجمال بالصفات السنية؛ والأخلاق الرضية، إلا وقد استوجبوا ذلك منه. والدليل على ذلك، أن الله تبارك وتعالى لم يخلق نبيا قط، إلاَّ وقد بهر أهل زمانه، بسماحته وحسنه وإحسانه. والتخلق في سنن الحب بالعفاف، دأب الفضلاء والأشراف، والمنهج الذي سلكه منهم الأتقياء، وأهل الورع والأولياء. ورأينا في كتاب (الوشاح) لأبي القاسم المواعيني - رحمه الله -: العشق إذا تزين بالعفاف، فهو معنى شريف.

وقال بعض المفسرين في قول الله تبارك وتعالى: (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) أي من اتقى الله في خُلَّتِه: يعني في صداقته، فهو خليل وإلا فهو عدوّ. وجاء عن ابن عباس، ومجاهد، وغيرهما، أن أهل المعاصي في الدنيا، يعادي بعضهم بعضاً يوم القيامة. وفي هذا المعنى، يقول القاضي أبو محمد عبد الوهاب المالكي رحمه الله: وكُلُّ مَوَدَّة في الله تبقى على الأيام من سعة وضيق، وكل مودة فيما سواه فكالحلفاء في لهب الحريق. وقال أبو الحسن التهامي في معناه: شَيْئانِ ينقَشِعانِ أَوَّلَ وهْلَةٍ ... ظِلُّ الشَّبابِ وخُلَّةُ الأَشْرَارِ وعن أبي الدرداء أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أَفْضَلُ أَهْلِ

الوَرَع، مَنْ أتَتْه جاريةٌ حسناء، ذات وجهٍ جَميل، وحَسَبٍ كريم، وَرَاوَدَتْه عن نفسه، فقال: إِنِّي أخاف الله رب العالمين". وقال كعب الاحبار. في بعض ما أنزل الله على موسى عليه السلام: "إنَّ الشَّاب العَابِد التَّارك شَهْوَتَهُ من أَجْلِي، أَوْ مِنْ خشيتي، أُبَشِّرُهُ بِكَرامتي، وَعِزَّتي وَجَلالي، لَوْ أقسمَ عَلَيّ أن أزيل له الجبال من أماكنها لفعلتُ". وحكى يحي بن عمر أن عبد الرحمان بن القاسم خرج إلى الحج، فبينما هو قاعد بالأَبْوَاء، إذْ أتته جارية كأحسن ما يكون من الجواري، فجلست اليه، فمدّ يده ليعطيها شيئا، فقالت: لا واللهِ، ما أريد هذا منك، وإنما أيد منك ما يكون من الرجال إلى المرأة. فأدخل رأسه بين ركبتيه وجعل يبكي، فجاء أصحابه فوجدوه على تلك الحال، فسألوه فأخبرهم بالقصة، فجعلوا يبكون فقال لهم: وما يُبْكيكُم؟ فقالوا: نبكي لأنّا لو ابْتُلِينا بمثل ما ابْتُلِيتَ به، لم نأمن على أنفسنا الفتنة. فبينما عبد الرحمن ابن القاسم نائم، اذ رأى في منامه رجلاً حسن الصورة، فقال له: من أنت؟ فقال: أنا يوسف بن يعقوب. فقال له ابن القاسم: لقد كان شأنك مع امرأة العزيز عجبا. فقال له يوسف عليه السلام: وأنت شأنك مع صاحبة الأبواء أعجب، لأني هممت، وأنت لم تهمّ.

قال: وسليمان بن يسار أخا عطاء. اتفق له مثل ما اتفق لابن القاسم رحمة الله عليهما. وحكى أن أعرابيا عًَشِقَ جارية، ذات حسن وجمال، واشتدّ بها كَلَفُه. فقيل له: ما كنت تصنع بفلانة، لو ظَفِرْت بها في مكان لا يراكما أحد؟ فقال: كنت، والله، أفعل ما أفعله، بحضور أهلها؛ شكوى وحديث عذب، واجتناب ما يُسْخِط الرّب. ورحم الله أبا عبد الله نفطويه في قوله: ليس الظَّريفُ بِكامِل في ظرفه ... حتّى يكُونَ عن الحَرامِ عَفيفَا فإذا تَعفَّف عن مَحَارمِ ربّه ... فَهُناك يُدْعَى في الأَنَامِ ظَريفَا وقال أيضا: وَكمْ ظَفِرْتُ بمن أَهْوى فَيَمْنَعُنِي ... منه الحياءُ وخوفُ الله والحَذَرُ وكَمْ خَلَوْتُ بِهِ يوماَ فَيَقْنَعُنِي ... منه الفكاهةُ والتّقْبيلُ والنظرُ أَهْوَى المِلاَحَ وأهْوَى أَنْ أُجالِسَهُمْ ... ولَيْسَ لي في حَرَامٍ مِنْهُمُ وَطَرُ كذلك الحُبُّ لا إِتْيَانُ فَاحشةٍ ... لا خَيْرَ في لذّةٍ من بعدها سقَر قوله (من بعدها سقر). يعني النار أَعَاذَنا اللهُ مِنْها. وسُمِّيت سَقَر، لشدة

ايلامها. من قولهم: سَقَرَتْهُ الشمسُ تَسْقُرُهُ سَقْراً؛ إذا آلمت دماغه. ومنه السَّقْرُ بالسين والصاد، لشدة ألمه في صيده. والسين الأصل. والصاد مبدلة منها من أجل القاف. وقرأ زكرياء بن يحى بن عباد في سورة لقمان (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ) بالصاد من أجل الغين، ولا تنصرف سَقَر للتأنيث والتعريف. رجع وحكى عن العتبي أنه قال: سألت عن الظَّرْف. فقيل لي: الظَّرْفُ في أربع: الحياءُ والكرمُ، والعِفَّةُ والنَّزاهة. وقال بعضهم: الظَّرْفُ في أربع: كَلَفُ النفس، وسخاء الكَفِّ، وعِفَّةُ الفَرج، وكِتْمانُ السِّر. وقال بعضهم: الظَّرْفُ في ثلاثة: كَلَفُ النفس، وعفة الفرج، وكتمان السر. وكان أبو حاتم رحمه الله يختم القرآن في كل أسبوع، ويتصدّق كل يوم بدينار. وحكى أبو عمرو البصري، قال: سمعت أبا عثمان الخزاعي يقول لأبي حاتم: كنت البارحة بين النائم واليقظان، كأني في المحراب، اذ سمعت قائلا يقول: أَبُو حَاتِمٍ عالِمٌ بالعُلومِ ... وأَهْلُ العلومِ لَهُ كالخَوَلْ

عليكم أبا حاتمٍ إنه ... له بالقراءةِ عِلْمٌ جَلَلْ فإن تَفْقدوه فلن تُدركوا ... لَهُ مَا حَيِيتُم بعلمٍ بَدَلْ فبكى أبو حاتم سروراً بما قال. وفيه يقول أبو عمر والبصري: إلى مَنْ تَفْزَعُونَ إذا فُجِعْتُم ... بسهلٍ بعده في كل بابِ وَمَنْ ترضونه منْ بعد سهلٍ ... إذا أودَى وَغُيِّب في التُّرابِ وقال مروان بن عبد الملك: سمعت الرياشي، ونحن على قبر أبي حاتم نَتَرحّمُ عليه، وهو يقول: ذَهَبَ معه بعلم كبير فقال له بمحضر أصحابه: كتبه. فقال العباس: الكتب تودي ما فيها ولكن صدره. ومع عِلْمِه الفائق، وفِعْلِه الجميل، كان يميلُ إلى أبي العباس محمد بن يزيد المبرد. إذْ كان يَلْزَمُ حلقته، وهو غلام. وكان أبو العباس وسيماً جميلا، وفيه يقول أبو حاتم، وقد اشتد به هيامه: ماذا لقيتُ اليومَ منْ ... متمجِّن خنثِ الكَلاَمْ وَقَفَ الجمالُ بخده ... فَسَمتْ لَهُ حَدَقُ الأنامْ حَرَكاتُهٌ وسُكُونُهُ ... نَجْني بها ثَمر الأثامْ وإذا خَلَوْتُ بمثلهِ ... وعزمتُ فيه على اعتزامْ لم أَعد أَفْعَالَ العَفَا ... فِ وذاكَ وَكْدٌ للغرامْ نفسي فِداؤك يا أبا العب ... اس حلَّ بكَ اعتصامْ

فارْحَمْ أَخَاكَ فإِنَّهُ ... نَزْرُ الكَرى بادي السَّقَامْ وَأَنِلْهُ مَا دُون الحَرا ... مِ فليس يرغَبُ في الحرامْ وحكي أن أبا العباس أحمد بن عمرو بن سُريج الشافعي، وأبا بكر بن داوود القياسي اجتمعا يوماً في مجلس الوزير أبي الحسن على بن عيسى بن الجراح، فتناظرا في الإيلاء فقال أبو العباس بن سُريج لأبي بكر بن داوود: أنت بقولك: (مَنْ كَثُرتْ لحظاته، دامَتْ حَسَراتُه) أبصر منك بالكلام في الإيلاء فقال له أبو بكر: لئن قُلتَ ذلك، فإني أقول: أُنَزِّهٌ في رَوْضِ المحاسِنِ مُقْلَتي ... وأمنعُ نفسي أنْ تَنَالَ مُحَرَّما وأَحْمِلُ مِنْ ثِقْلِ الهوى ما لَوَ انَّهُ ... يُصبُّ على الصّخْر الأَصَمِّ تَهَدَّما وَيَنطِق طَرْفي عنْ مترجمِ خاطري ... فلولا اختلاسي رَدَّهُ لَتَكَلَّمَا رأيت الهوى دعوى من الناس كُلِّهِمْ ... فَلَسْتُ أرى حُبّاً صحيحاً مسلّما

فقال له أبو العباس: لِمَ تفتخر عليَّ؟ لو شئتُ أيضا أنا لقلت: ومطاعمٍ للشَّهْدِ مِنْ نغَماتِهِ ... قَد بِثُّ أمنعُه لَذيذ سِنَاتِه صَبّاً بِحُسْنِ حَديثه وكلامه ... وأكرّرُ اللّحظاتِ في وَجناته حتى إذا ما الصُّبحُ لاحَ عَمُودُهُ ... ولّى بخاتم رَبّه وَبَراتِهِ فقال أبو بكر: يُحْفَظ عليه ما قال، حتى يقيم شاهِدَيْ عَدْل، على أنه ولى بخاتم ربِّه. فقال له أبو العباس: يلزمني في ذلك ما يلزمك في قولك: أُنَزّه في روض المحاسن مُقْلتي فضحك الوزير أبو الحسن، وقال: لقد جمعتما ظَرفا ولُطفا. قال: وكان القاضي شريح بن الحارث رحمه الله من كبار التابعين والفضلاء، والمتورعين والعلماء المتقدمين. استقضاه عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم، ومعاوية رحمه الله. فكانت مدة ولايته القضاء ستين سنة. وكان ذا فطنة، وذكاء وعقل، وأعلم الناس بالقضاء. وكانت زوجه زينب امرأة من بني تميم. وكان يحبها حباً شديداً. فأخذها ذات يوم في شيء غاظه، وعتب عليها فيه، واشتد احتدامه حتى ضربها بالسوط. فلما عاين حالها ندم على ضربها، ورقّ لها، وبكى شفقا عليها ثم قال: رأيت رِجالاً يضربون نِسَاءهُمْ ... فَشُلَّتْ يميني يَوْمَ أضْرِبُزينبَا

أَأَضْرِبُها في غير ذنب أتتْ بهِ ... فما العدلُ مني ضربُ مَنْ ليسَ مُذْنِبَا فزَينبُ شَمْسٌ والنساءُ كَواكبٌ ... إذا طلَعَتْ لم تُبقِ مِنْهُنَّ كوْكَبَا وهذا البيت الثالث لفظ النابغة حيث يقول: أَلَمْ تَرَ أنّ الله أعْطاك سَوْرَةً ... تَرى كُلَّ مَلْكٍ دُونَها يَتَذَبْذَبُ بِأنكَ شمسٌ والملوكُ كواكبٌ ... إذا طلَعَتْ لَمْ يَبْدُ مِنهنّ كَوْكَبُ ومن هذا المعنى جرى المثل في قولهم: (السراج لا يضيء بالنهار). ومنه أخذ إبراهيم بن العباس قوله: مَا كُنْتُ فيهن إلا كنْتَ واسطة ... وكُنَّ دُونكَ يُمْناها ويُسْراها واليه أشار بشار في قوله: ولكن جواري الحيّ اذ كنتِ فِيهِمُ ... قباحٌ فلمّا غِبْتِ صِرْنَ مِلاحَا ولبعض شعراء (كندة) في معنى قول النابغة

يمدح عمرو بن هند: تَكَاد تَمِيدُ الأرضُ بالنّاسِ أنْ رَأَوْا ... لعمرو بن هندٍ غَضْبَةً وَهْوَ عاتب هُوَ الشّمْسُ وَافَتْ يومَ سعدٍ فَأَفْضَلَتْ ... على كُلِّ ضَوْءٍ والملوكُ كواكبُ وأخذه نصيب فقال: هو البدرُ والنّاسُ الكواكبُ حَوْلَه ... وهَلْ تُشْبِهُ البدْرَ المضيء الكواكبُ وإلى هذا المعنى أشار أبو تمام الطائي في قوله: وَقالتْ أتَنسَى البَدْرَ قُلْتُ تجلدا ... إذا الشَّمْسُ لم تَغْرُبْ فلا طلع البدْرُ قال أبو اسحاق: ولا شك في أنّ الصَّالحين، مالِكُون لِشَهَوَاتِهِم، مُرَاقِبُون الله تعالى في خَلَواتِهِمْ، مُتَيقِّنُون أن الله عز وجل مُجَازيهمْ على أعمالهم. فلا يخطر نَزْغُ الشيطان ببالهم. ومن هذا المعنى يقول أحد البلغاء منهم، أظنه نابغة بني شيبان: إِنَّ من يركب الفواحش سرّاً ... حين يَخْلو بفعله غير خالي

كيف يخلو وعنده كاتباه ... شاهداه وربنا ذو الجلال وقال الآخر: إذا ما خَلَوْتَ الدهرَ يوماً ... خَلوتَ ولكنْ قُلْ عَلَيَّ رقيبُ ولا تَحْسَبَنّ اللهَ يغفل ساعة ... ولا أَن ما يخْفَى عليه يَغيبُ وقال الآخر في المعنى: ياراكبَ الذّنب أما تستحي ... الله في الخُلوة رَائِيكَا غَرَّكَ منْ ربّك إمهاله ... وَسَتْرُهُ طول مَسَاويكَا وقد قال الله في كتابه العزيز المنير (إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ). فالعَبْدُ الوَرِع الدَّيَّان، يخاف من عقاب الرحمان، يخشى الله تعالى في غيبة الناس عنه، أشد من خشيته، إذا شاهدوه وتدانوا منه. وأثبت هنا من كلامهم في معنى العَفَاف، قطعاَ من النَّظْم السري، واللفظ الأدبي؛ ضَمَّنُوها معنى العفاف، وأباحوا اللَّثْم والارتشاف، تَعَلُّلاً للنفوس الصَّادِية والمُهَج، ولم يروا في ذلك من بأْسٍ وَلا حَرَج. فمنها قطعة للأديب الكامل أبي الوليد بن حزم يقول فيها:

وكَمْ ليلة كادَ المنى يَسْتَفِزُّني ... ولا رِقْبَةٍ دون الأمَاني ولا سَتْرُ وفي ساعدي بدرٌ على غُصن بانةٍ ... يَودّ مكاني بين لبّاتِه البَدْرُ وفي لحْظِهِ كالسُّكْر لا مِنْ مُدَامةٍ ... ولولا اعتراضُ الشكِّ قُلتُ هو السكْرُ وقد سلَبتْهُ الراحُ سَورة كبْره ... وَمَالَ على عطفيه وانقطع العُدْر وبين ضُلُوعي، يعلمُ الله، حَاجةٌ ... طواها عفافي لا كما زعم الغَيْرُ فَلَمْ يكُ الا ما أباحَ لي التُّقى ... ولم يبق إلا أن يحلّ لي الخمرُ وقال أبو الوليد أيضا: وكم ليلةٍ ظافرت في ظلها المنى ... وقد طَرفَتْ من أعين الرُّقَباءِ وفي ساعدي حُلْوُ الشَّمائل مترفٌ ... لعوبٌ بِيَأسي تارة ورجائي أُطارِحُهُ حُلْوَ العتابِ وربما ... تَغَاضَبَ فاسْتَرضَيته بِبُكَائِي وفي لحظه من سورة الكأسِ فَتْرَةٌ ... تَمُتُّ إلى ألحاظه بِوَلاءِ وقد عابَثَتْهُ الرَّاحُ حتَّى رَمَتْ به ... لَقى بين ثِنْيَي بُرْدَتِي وَرِدَائِي على حاجةٍ في النفسِ لو شِئْتُ نِلْتُهَا ... ولكن حمتني عِفَّتِي وَحَيَائِي وقال أبو الحجاج الرمادي: ولَيلةٍ راقبتُ فيها الهوى ... على رقيبٍ غير وسْنانِ والرّاحُ ما تنزل من راحتي ... وقتاً ومن راحة نُدْمَاني

وَرُبَّ يومٍ قَيْظُه مُنضِجٌ ... كأنه أحشاءُ ظَمآنِ أَبْرزَ في خدًَّيه لي رَشحَهُ ... طَلاً على وَردٍ وَسَوْسَانِ وكان في تحليل أَزْرارِه ... أَقْودَ لي منْ أَلِف شَيْطانِ فُتِّحت الجنَّةُ من جَيْبه ... فَبِتّ في دَعوة رِضوانِ مُرُوَّةٌ في الحبِّ تنهى بأنْ ... يُجَاهَرَ اللَّهُ بعصيان وقال أيضا: لَيَالِيَ بِعْتُ العاذلينَ أمانتي ... بفتكي وَوَلّيْتُ الوشاة آذَانِي وإذ لي نَدْمَانان سَاقٍ وَقينة ... رشيقان بالأرواحِ يَمْتزجانِ أَمدّ الى الطّاوُوس في تارةٍ يدي ... وفي تارَةٍ آوي إلى الورشان فكُنْتُ أديرُ الكأسَ حتّى أراهما ... يميلان من سُكْرٍ ويعتدلان ونفضي إلى نومٍ فإن كُنتَ جاهلاً ... مكاني فَوُسْطَى العقد كانَ مكاني فكانا لما في الجسم من رقَّةِ الضَّنَى ... يكادانِ عند الضَّمِّ يَلتقيان فَلَو تُبصِرُ المضنى وبدراهُ حَولهُ ... لقُلْتَ السُّها من حَوْله القمران وما بِيَ فخرٌ بالفُجُور وإنما ... نَصيبُ فجوري الرشْفُ والشفتان وما أبدع قول البحتري في هذا المعنى حيث يقول: بَاتَ نَديماً لي حتّى الصَّبَاحْ ... أغيدَ مجدول مكانِ الوشاحْ

كأنَّما يَضحكُ عَنْ لُؤْلؤٍ ... منضدٍ أوْ بَرَدٍ أو أَقَاحْ تَحْسَبُهُ نًَشْوَانَ مَهْمَا رَنَا ... لِلْفَتْر منْ أجفانِهِ وهو صاحْ بِتُ أفدِّيهِ ولا أرعوي ... لِنهي نَاهٍ عنهُ ولَحْي لاَحْ أَمْزُجُ كأسي بِجَنَا رِيقِهِ ... وإنما أَمْزُجُ راحاً بِرَاحْ يُسَاقَطُ الوَرْدُ عَلَيْنا وقد ... تَبَلَّجَ الصُّبْحَ نسيمُ الرِّياحْ أغضيتُ عن بعض الذي وقد يُتَّقَى ... من حرج في حُبِّه أَو يُباحْ سِحْرُ العُيُونِ النُّجْلِ مُسْتَهْلِكٌ ... لُبِّي وتَوْرِيدُ الخدود المِلاَحْ ومثل هذا في الحسن وتضمين المعنى قول أبي جعفر بن الأبار: عاطيته كأساً كأنَّ سُلافها ... مِنْ رِيقه المعْسُولِ أووَجَنَاتِه حتّى إذا ما السُّكْرُ مالَ بِعِطْفه ... وَعَنَا بِحُكْمِ الوَصْلِ في نشواتِهِ هَصَرَتْ يَدِي منهُ بِغُصْنٍ ناعم ... لمْ أَجْنِ غَيرَ الحِلِّ منْ ثَمَرَاتِهَ وأَطَعْتُ سلطانَ العَفافِ تكَرُّماً ... والمَرْءُ مجبولٌ على عاداتِهِ ومثله أيضا قول ابن فرج الجَيَّانِي: وطائِعةِ الوِصَالِ عَفَفْتُ عَنْها ... ومَا الشيطانُ فيها بِالمُطَاعِ

بَدَتْ في الليل سافرةً فَهانتْ ... دَياجي اللّيل سافِرةَ القِناعِ ومَا مِنْ لحظَةٍ إلا وَفيها ... إلى فِتَنِ القُلُوبِ لها دَوَاعي فَمَلكْت الهَوى جمحاتِ شوْقي ... لأجْريَ في الَعَفَافِ على طِبَاعي وبِتُّ بِها مَبيتَ السَّقْبِ يَظْمَا ... فَيَمْنَعُه الكَعَامُ عَنِ الرَّضَاعِ كذاكَ الرَّوْضُ ما فيه لمثلي ... سِوَى نَظرٍ وشمٍّ منْ مَتَاعِ ولستُ من السُّوائِمِ مُهْمَلاَتٍ ... فأَتَّخِذَ الرِّياضَ منَ المرَاعِي وفي هذا المعنى الشريف، يقول أبو الحسن الحُصْري الكفيف: قَالَتْ وَهَبْتكَ مُهْجتي فَخُذْ ... وَدَعِ الفِراش ونَمْ على فَخِذِي وثَنَتْ إلى مِثْلِ الكَثيبِ يَدي ... فَأَجَبتُها نِعْمَ الأريكةُ ذي وهَمَمْتُ لكن قال لي أَدَبي ... بالله منْ شَيْطانِك اتَّعِذِ قَالَتْ عَفَفْتَ فَعِفْتَ قُلتُ لها ... مُذْ شِئْتُ بِاللَّذَّاتِ لَمْ أَلُذِ وفي هذا المعنى يقول الأديب أبو جعفر الأعمى التطيلي من قصيدة له: فَلَو تراني قد اسْتَسْلَمتُ مُرتَقباً ... مِنْها حنانَ الرضى أو جَفوةَ الغَضَبِ حتّى إذا ما ألانَتْ تلك جانبها ... والقلبُ مهما أرُمْ تَسكينَه يَجِبِ

طَفقتُ أَلثمُ كفّيْها وقد جنحت ... إِليَّ تَضحكُ بين العُجْب والعَجَبِ ثم افترقنا وقد ساءت حَفائظنا ... إن اجْتَمَعْنا ولم نَأثمْ ولم نحب لله مِثليَ ما أدنى سَجيتَه ... من المعالي وأَنآها من الرِّيَبِ كَمْ مأثمٍ مُستلذٍ قد هَمَمْتُ به ... فلم يَدعني له ديني ولا حَسَبِي وقد كرّر أبو جعفر هذا المعنى أيضا حيث يقول: سَرَتْ وَقَدْ وَقَعَ السّاري بجانبه ... والشمسُ تَضْربُ دُهْمَ اللّيل بالبلقِ بَدْرٌ لمُلتَمِسٍ، غُصنٌ لِمُعْتَنِقٍ ... خَمرٌ لمغتَبقٍ، مِسْكٌ لمُنَتِشِقِ وَأَقْبَلَتْ تَحسبُ الظّلْمَاءَ تَكْتُمها ... وقَدْرَمَتْها نُجُومُ الليل بالحَدَقِ والصُّبْحُ يَقْدَحُ في الظلماءِ نائرةً ... كأنها نفْثةُ المصدُورِ عنْ حَنَقِ والشرق يَفْهَقُ والآفاقُ وَاردةٌ ... وأَنْجُمُ الليلِ قد أَيْقَنّ بِالغَرقِ كأنَّما الروضُ أهْداها وَشِيعَهَا ... فاستصحبت لمةً من طيب العَبَق تَتَوَّجَتْ بِالدُّجى فَالشَّعْرُ مِنْ غَسَقٍ ... والخدُّ من شَفَقٍ والثّغر من فَلَقِ أَلْهُو بِمِسْكِ شَذَاها لا أُحَاوِلُ مَا ... وَرَاءَ ذاكَ وَلَوْ حَاوَلْتُ لَمْ أُطِقِ فَبِتُّ أَحْسِبُ أنِّي قَد طرقتُ بِها ... رَوْضاً شَمَمْتُ لها طيباً ولم أَذُقِ وعلى هذا الروي أثبت هنا لأبي الحسن بن الزقاق بعض قصيدة له: زارتك من رقْبةِ الواشي على فَرَق ... حتى تبدَّى وميضُ المرهَفِ الذَّلِق

فخفّض الجَأشُ منها أن ملك يَدي ... نهر يَغَصُّ به الواشون مِنْ شَرَق سكَّنتها بعدما جالت مدامِعُها ... بِمُقْلَتيها فِرنْداً في ظُبا الحَدَقِ فَأَقبلتْ بينَ صَمْتٍ مِنْ خَلاخِلها ... وبين نطق وشاح جَائلٍقَلقِ وأَرسَلَتْ منْ مُثنَّى فرعِها غَسَقا ... في ليلةٍ أَرسلتْ فرعاً من الغَسَقِ تبدو هلالا وَيبْدو حَليُها شُهُباً ... فما تُفَرِّقُ بين الأَرْضِ والأُفقِ غازلتُها والدُّجَى الغربيبُ قد خُلعَتْ ... منهُ على وَجْنتيها حلة الشَّفقِ حتى تقلص ظلُّ الليل وانفجرتْ ... للْفَجْر فيه يَنَابيع من الفلقِ فودعت وعيونُ المزنِ تُسعده ... عند الفراقِ بِدمعٍ واكفٍ غدق وقال أبو الحسن أيضا: مُذْرَقَّ الصُّبْحُ رَاقني الغَسَقُ ... أْحْسَن حَالِي في الدُّجَى الأَرَقُ قدْ ذَهَبَتْ دولةُ العِتَابِ وَقَدْ ... جاءتْ خُيُولُ الأَعْتابِ تَسْتَبقُ وأَشْرَقَ الدَّهْرُ حِينَ أَسْفَر مِنْ ... أُمِّ سُلَيْمان خَدّها الشَّرِقُ جَاريةٌ: بَعضُها، إِذا بَرَزَتْ ... ضَوْءُ صَبَاحٍ، وبَعْضُها غَسَقُ إنْ وَصَلَتْ فالسُّرُور متَّصلٌ ... أَوْ فَارقَتْ فالعَزَاءُ مُفْتَرقُ مَمْشُوقَةٌ القَدِّ بِتُّ مُعْتَنِقاً ... لَهَا، وبَعْضُ الغُصُونِ يَعْتَنِقُ

لَمْيَاءُ تَأْسُو ببردِ ريقَتها ... ما أثرت في فؤادي الحدقُ أَرشفُ منْها مُقَبِّلاً رَتْلاً ... كأَنَّ ماءَ الكُرُومِ أَغْتَبِقُ عَايَنْتُ مِنْ خَصْرِ المهفهف مَا ... أَخْبَر عنهُ وِشَاحُها القَلِقُ وَذُقْتُ منْ ثَغْرها المنظم ما ... حدَّث عنه مِسْواكُها العَبِقُ تقُولُ لي موهناً وقد عَلِمَتْ ... أَنَّ فؤادي منْ هَجْرهَا فَرِقُ لا تَخَف الكاشحين إنْ نَطقُوا ... فيك بِمَيْنٍ وَهَبْهُمُ صَدَقُوا أنت من القلب بالسوادِ فَثِق ... بِحَبْل مَنْ بِالوُشاةِ لا يَثِقُ فَبِتُّ أنهى الهمومَ عن خَلَدي ... بِلَثْمِ خَدٍّ كأَنَّهُ شَفَقُ في جُنْح ليلٍ يكاد يحسدهُ ... في حسْنِه أَو ضِيَائِه الفَلَقُ أَطلع بَدْري وَبدر غَيْهبه ... فاستوت الأرضُ فيه والأفقُ قوله: راقَني الغَسَقُ أي: أعجبني. تقول: راقني الشيء ويرُوقني روقا: إذا أعجبك. قال العُتبيّ: ذكر أعرابي امرأة فقال: تَبْسمُ عن حُمْش اللّثات كأَقاح النبات، فالسعيدُ من ذاقه، والشقي من راقه. أي من أعجبه ولم ينله. وقال ذو الرمة: وسَاعَفَتُ حَاجَاتِ الغَوَاني وَرَاقني ... عَلَى البُخْلِ رَقْرَاقَاتُهُنَّ البلائحُ وقوله: (لمياء) يريد أن لها لَثّةً لَمْيَاء. واللَّمَى: سُمْرَةٌ تضرب إلى السَّواد،

وليست بحمراء وهي الحُوَّةُ، والحُمَّةُ. ولَثَّةٌ حَوَّاء وحَمَّاء. ويكون اللَّمَى أيضا في الشفتين؛ فإذا كان فيهما فهو سُمْرة تخالطها حُمْرة. وقال ذو الرمة: لَمْيَاءُ في شَفَتَيْها حُوَّةٌ لَعَسٌ وقد شرحنا هذا البيت في مكانه، من الجزء الثاني من هذا المجموع، ونبهنا على معناه البديع. وقوله: أَرْشُفُ منها مُقَبَّلاً رَتلاً ..................... يعني؛ فما حسن الثغر مليح الصفة معجبا لمن رآه؛ وإنما يوصف بالرَّتَلِ: الكلامُ السَّهْلُ السَّالمُ من التَّقْعير، الحَسَنُ التَّأليف. يقال: تَرتَّلْ في كَلاَمِكَ: أي حُسْنُه وسهله في بيان. وقال امرؤ القيس: رَاعَتْ فُؤَادكَ إذْ عَرَضْتَ لها ... بدلالِها وَكَلامِها الرَّتْلِ وقال أيضا: مُبَتَّلَةٌ هيْفَاءُ زان حَديثها ... بَهَاءٌ وَتَأْييدُ الخَطِيب المرتلِ

فاستعار أبو الحسن الرَّتْل للفم؛ إذ الكلام منه يبين. وقال بعض المتأخرين: ألا حبَّذا خِلٌّ عزيز وَحَبَّذَا ... كلامٌ لبِنتِ السَّالمي رَتِيلُ وقال أبو الحسن أيضا: وَمِفْتًَانٍ قتولِ الدلِّ ريّا ... يجاذبُ خَصْرَها ردفٌ رداحُ سرت إذْ نَامَتِ الرقباءُ نحوي ... ومسكُ الليل تُمريه الرياحُ وقد غنى الحلِيُّ على طلاها ... بوسواسٍ فجاوبه الوشاحُ يحاذر من عمود الصبح نوراً ... مخافةً أن يُلِمّ به افتِضَاحُ فلم أرقبلها والليلُ داجٍ ... صباحاً بات يَذْعَرُه صَبَاحُ وقال أبو الحسن أيضا رحمه الله: دَعَوْتُ وراء السِّجْفِ منها جِدايَةً ... مَرَاتِعُهافي أضْلُعٍ وَقُلُوبِ تُمسِّحُ عَنْ أجْفَانِها سِنَةَ الكَرى ... بِرَاحَةِ فِضيّ البنانِ خضيبِ فَغَازلتُها والليلُ مُلقٍ جِرانَه ... إلى أن تَمادى نَجْمُهُ لِغُرُوبِ

ونَازَعتُها شًكْوى ألذّ من الكرى ... تُسَكِّنُ من لَذْغٍ بنا وَوَجيبِ فَيَا ليتَ أنَّ النَّسر قُصَّ جَنَاحُهُ ... وًَيَالَيتَ أَنَّ الصُّبحَ غيْرُ قريبٍ قوله: دَعوتُ وراء السَّجفِ منها جِدايةً فالجداية من أولاد الظباء بمنزلة الجدي من أولاد الغنم. يقال للذكر والأنثى جداية. قاله أبو علي، وأنشد لِعنترة: وكَأَنَّمَا التفَتَتْ بِجِيدِ جَدَايَةٍ ... رَشأ مِنَ الغِزْلانِ حُرٍّ أَرثَمِ وقال أبو جعفر بن الأبار: وَمُنعَّمٍ غَضِّ القطافْ ... عَذْبِ الغروب للارتشافْ قد صيغَ من دُرِّ الجَما ... لِ وَصِينَ في صَدَفِ العَفَافْ وسَقَتْه أنديةُ الشبا ... بِ بمائها حتى أنَافْ فَتَرَوَّضَتْ منه الريا ... ضُ وسُلِّفَتْ مِنهُ السُّلاَفْ مَهْما أردتُ وفاقهُ ... يوما تعرّضَ للخِلافْ لَمَّا تَصَدَّى للصُّدُو ... دِ وَمَالَ نحو الإنحرافْ هيَّأتُ مِنْ شَرَكي له ... فِعل اللِّطافِ مِن الظِّرافْ فَسَقَيْتُهُ ماءً بها ... وأدرتُ صافيةَ بِصَافْ حتّى تَرنَّحَ مَائلاً ... كالغُصن مال بِهِ انعِطَافْ

فوردتُ جَنَّةَ نَحْره ... وَنَعيمُها داني القِطافْ وضَممتُ نَاعِمَ قَدِّهِ ... ضَمّ المضاف إلى المضافْ فورِعْتُ في حين الجَنَى ... وكفَفْتُ عن فرق الكَفافْ وَعَصِيتُ سلطانَ الهوى ... وأَطَعتُ سُلطانَ العَفَافْ وقال أبو جعفر أيضا وأحسن: لم تدرِ ما خَلَّدَتْ عَيْناكَ في خَلَدي ... من الغَرامِ وَلا ما كابدْت كبدي أفديك من زائرٍ رَامَ الدنُوَّ فَلم ... يَسْطِعْهُ من غرق في الدَّمْعِ مُتّقد خَافَ العُيونَ فوَافاني عًَلَى عًَجَل ... مُعطّلاَ جيدَهُ إلا مِنَ الغَيَدِ عاطَيْتُهُ الكأسَ فاستحيتْ مُدامتها ... من ذلك الشَّنَبِ المعسولِ والبَرَدِ حتّى إذا غازلَتْ أجفانَهُ سِنةٌ ... وَصَيَّرَتْهُ يد الصَّهْبَاءِ طَوْعَ يَدي أردت توسيدهُ خَدِّي وَقَلَّ لهُ ... فقال كفُّكَ عندي أفضلُ الوُسُدِ فَبَاتًَ في حَرَمٍ لا غَدْرَ يَذْعَرُهُ ... وبِتُّ ظَمآنَ ولم أصدُرْ ولمْ أرِد بَدرٌ ألَمّ وبدرُ التّمِّ ممتحقٌ ... والأفق مُحْلَوْلِكُ الأرْجاء من حسد تَحيّر الليل فيه أين مطلعه ... أمادرى الليلُ أنَّ البدرَ في عضدي وتروى هذه القطعة لادريس بن اليماني، وهي لمن كانت منهما، بديعة

متقنة في معناها، رفيعة مزجت من العفاف، بعذوبة وحلاوة، ولاح عليها من الإبداع نضارة وطلاوة. وقوله في أول القطعة: (ولا ما كابدت كبدي). يقال منه: كَابَدَ يُكابِدُ مُكَابَدَةً. والكَبَد: المشقّةُ والشدة. قال الله تعالى (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ). قال ابن عباس: معناه في شدة من حمله وولادته، ورضاعته ونبت أسنانه، وقيل: يُكَابِدُ أمر الدنيا والآخرة. وهذا قول قتادة، ومعناه ما ذكرنا. وقال الشاعر: لَقيتُهُمْ والمنايا غَيْرُ دافِعَةٍ ... لما أمرت به والمُلْتَقَى كَبَدُ أي شديد، ويقال للخصوم: إنهم لفي كَبَدٍ من أمرهم، وبعضهم يُكَابِدُ بعضا. والرجل يُكَابِدُ الليل، إذا بات ساهراً مغموما. قال الشاعر: أُكَابِدُ هَذا اللّيل حَتَّى كأنما ... عَلَى نجمه أَلاَّ يَغُورَ يَمِينُ وتقول: كابَدْت الليل بِكَابِدٍ شديد؛ أي بِمُكَابَدَة شديدة، قال العجاج: وَلَيْلَةٍ من اللّيالي مَرَّتِ ... كَابَدْتُهَا بكابِدٍ وَجَرَّتِ

وقال لبيد: عينيّ هَلاَّ بَكيتِ أرْبَدَ إِذْ ... قُمْنَا وقام النِّساءُ في كَبَد ويروى (وقام الخصوم في كبد) أي؛ في حزن شديد ومشقة. وأنشد الأصمعي لبعض الخوارج: أَلاَ في اللَّه لاَ في النَّفسِ شالت ... بِداوُدٍ وأسرته الجُذُوعُ إِذَا ما اللّيْل أظلمَ كابدوهُ ... فَأَسْفَر عَنْهُمُ وهمُ رُكُوعُ أطارَ الخوف نومَهم فقاموا ... وأهلُ الأمْنِ في الدنيا هُجُوعُ وحكى بعض الرواة، قال: خرج ذو الرمة، ومزاحم العقيلي من (الجفر) وأخرجا معهما روايا لأهلهما، وكانوا (بالدّهْناء). فجن عليهما الليل، فباتا الى رجل من بني عدي، يقال له جزء بن عبد الله. فلما كان في وسط الليل، أخذ ذو الرمة وجع في بطنه، فمات منه قبل أن يصبح. فخرج

جزء بالروايا حين أصبح، فطرق أهلهما عند العتمة، فنعاه اليهم، فقال مسعود أخو ذو الرمة: نعى لي جزء ذا الرميمة موْهنا ... فبتُّ بِلَيْل إذْ نَعَاه أكابدُه ألا سَوفَ أَبْكي ذا الرميمة حِقبة ... كَمَا لَوْبي الأولى بَكَتْنِي أَوَابِدُهْ إلى الله أشكو لا إلى النَّاس آنني ... ولَيْلَى كانا موجعٌ مات وَاجِدُهُ غَصصْتُ بِرِيقي حين جَاءَ نَعِيُّهُ ... وَمَا المَاءُ حتى حَرَّ في الصَّدْرِ بَارِدُه قول مسعود: ألا سوف أبكي ذا الرميمة حقبةً كقول لبيد يخاطب ابنتيه: إلى الحول ثُمَّ اسمُ السَّلاَمِ عليكما ... وَمَنْ يَبْكِ حَولا كامِلاً فقد اعْتَذَرْ وأخذه أبو تمام الطائي فقال: ظَعَنوا فكان بُكَايَ حَوْلاً بَعْدَهُم ... ثُمَّ ارعَوَيْتُ وذاكَ حُكْمُ لبيدِ وفي حديث حذيفة بن اليماني فيما روى محمد بن قيس عن عمرو ابن مرة، قال: قال قوم لحذيفة: إن خيارنا قوم يكابدون هذا الليل؛ فاذا

نعِسَ أحدهم، ربط جوزه إلى سماء البيت، ثم قام يصلي فقال: حذيفة: قبَّح اللَه قوما أولئك خيارهم. خياركم من لم يترك دنياه لآخرته، ولا آخرته لدنياه. وهذا الذي قال حذيفة، هو قول النبي عليه السلام إلا أنه جاء على التقديم والتأخير. ومنه قول عبد الله بن عمر (احرث لدنياك كأنك تعيش أبدا، واعمل لأخراك كأنك تموت غدا). والحرث والاحتراث؛ اصلاح المال وتثميره. وفي كتاب (الشهاب) للقضاعي: "أصلحوا دنياكم واعملوا لأخراكم". وقد نظم أبو القاسم الألبيري في هذا المعنى قوله، حيث يقول: المالُ ذلٌّ وذُلٌّ ... ألا يرَى لكَ مالُ فاحرصْ كَأنك باقٍ ... فما لِذي الفقْرِ حالُ واقْنع فإنكَ فانٍ ... غداً فكلٌ مُحالُ وقوله: (ربط جَوْزه إلى سماء البيت)؛ أي وسطه. جَوْزُ كل شيء وسطه. والجميع أجْواز. قال الشاعر:

باتَتْ تَنُوشُ الحوض نوشاً من عَلا ... نَوشاً به تقْطع أجْوازَ الفَلاَ أي أوساطها. والنَّوْشُ: التَّنَاوُلُ. قال يعقوب: يقال نَاشَ فلانٌ فلانا ليأخذ برأسه، ونَهَشَ إلى فلان ليأخذ برأسه. وهما سواء. ومثله أيضا: التَْناوُشُ. يقال تَنَاوَشَ القوم: إذا تناول بعضهم بعضا في القتال، وهي المُنَاوَشَة والمُهَاوَشَة. في حديث قيس بن عاصم فيما روى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة عنه قال: "إذا متّ فَغَيِّبُوا قبري عن بكر بن وائل، فإني كنت أُناوِشُهُم". أو قال (أهاوشهم في الجاهلية) وحقيقة المعنى في الهَوَشِ؛ الفَسادُ والاخْتِلاطُ. قاله أبو سليمان الخطابي. ومنه هَوشاتُ الشوق. ومن المناوشة، قوله تعالى (وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ) وقرئ هذا الحرف بالهمز، ويترك الهمز. قرأه نافع بن أبي عامر اليحصبي، وحفص عن عاصم ويعقوب بن خليفة الأعشى،

ويعقوب بن اسحاق الحضرمي بغير همز،. جعلوه مشتقا من ناشَ يَنوشُ؛ إذا تناول. قال الشاعر: كغزلان خذلن لجذع نخل ... تَنُشْنَ الدَّانِيَاتِ من الغُصُونِ وقرأه أبو عمرو. وحمزة والكسائي، وأبو بكر بن عياش عن عاصم بالهمز وتحتمل قراءتهم وجهين: أحدهما: أن يكون من التَّناوُل كالقراءة الأولى. فلما انضمت الواو جاز همزها، كقولهم: أَدْوُرٌ في جمع دار. والوجه الثاني: أن يكون معناه: التَّأخُّر والرَّجُوع. ومن ذلك قول الشاعر: تَمَنَّى أنْ تَؤُوبَ إِلَيَّ ميّ ... وليسَ إلى تَناوُشِها سبيلُ أي: إلى رجوعها. وقال الآخر:

تَمَنَّى نئيشاً أن يكونَ أطاعني ... وقد حدثتْ بعْدَ الأمورِ أُمورُ وقرأت في (النوادر) لأبي علي قول أم ضيغم البلوية في معنى العفاف: وبِتْنا فُوَيْق الحيِّ لا نحنُ منهم ... ولا نحنُ بالأعداء مختلطان وبتنا يقينا ساقطَ الطَّلِّ والنَّدى ... من الليل بُرْدا يُمنة عِطرَانِ نغذ بذكر الله في ذات بيننا ... إذا كان قلبانا بنا يردان ونصدر عن زي العفاف وربّما ... نَقَعْنا غليل النفس بالرَّشَفانِ وقال سعيد بن حميد: زائرٌ زارَنا على غير وعد ... مُخْطَف الكَشْح مُثْقَلُ الأرْدافِ غالَبَ الخوف حينَ غالبه الشو ... قُ وأخفى الهوى وليس بخافي غَضَّ طرفي عنه تُقَى الله واختا ... ر على بَذْلِه بقاء التَّصافي

ثم ولّى والخوف قد هزَّ عِطْفي ... هـ ولم يَخْلُ منْ لِباس العفاف والشَّريف الرضي ممن أوضح معنى العفاف وبيَّنه، وأبدى سره وأعلنه، حيث يقول من أبيات له: بِتْنا ضجيعين في ثوبي هوى وتقى ... يلفنا الشوق من قَرْنٍ إلى قدمِ وبات بارقُ ذاكَ الثَّغْرِ يُوضِحُ لي ... مَواقِعَ اللَّثْمِ في داجِ منَ الظُّلَمِ وباتَت الرِّيح كالغبْرَا تُجاذِبُنا ... على الكثِيبِ فُضولَ الرَّيْطِ واللَّمَمِ وَأَكْتُمُ الصُّبْح عنها وَهْيَ غافلة ... حتَّى تكلَّمَ عصْفورٌ على علَم فقُمتُ أنفضُ بُرْداً ما تعلقه ... غيرُ العفاف وراء الغيْبِ والكَرَمِ قوله: وباتَ بارق ذاك الثغر البيت. كقوله في قطعة أخرى: أبكى ويبْسِمُ والدُّجَى ما بيننا ... حتَّى أضاء بِثَغْرِهِ ودُمُوعي وقوله: (وباتت الريح) البيت، كقول ابن المعتز: والرِّيح تَجذبُ أطراف الرِّداء كما ... أَفْضى الشَّفيقُ إلى تنْبيهِ وَسنانِ وأخذه ابن نباتة فقال:

إذا ما الصُّبْحُ أسْفَرَ نبَّهَتْني ... جَنُوبٌ مسَّها مَسَّ الشفيقِ وأخذ بيت الرضي أبو بكر بن عمار فقال: بحيثُ اتَّخَذْنا الروضَ جاراً يزورنا ... هداياه في أيدي الرِّياحِ النَّواسِمِ تُبَلِّغُنا أنْفاسُه فنَرُدُّها ... بأعْطَرِ أْنْفاسٍ وَأَذْكى لِناسم تسير الينا ثمَّ عنَّا كأنها ... حواسدُ تسعى بيننا بالنَّمائم وقال بعض المتأخرين: فاجتنَيْنا من المُنى كلَّ غضٍّ ... ووصلنا صَبُوحَنا بالغَبُوقِ ثُم بِتْنا نُدير كأْسَ الحُمَيَا ... ورِضاباً يُزْري بصرْف الرَّحيقِ غير أنَّ العَفافَ لم يرضَ خِلاَ ... غيرَ مَصِّ الشفاه والتعنيق قوله: وصلنا صبوحنا بالغبوق فالصَّبوح: شُرْبُ الغداة. والغبوق:

الشُّرْبُ بالعَشِيِّ. وفي نصفِ النَّهَار: القيل. وبين المغرب والعَتَمَةُ الصَّفْحُ والصَّفَحُ بفتح الفاء وبتسكينها. وفي السَّحَر: الجَاشِرِيَّة. قال الشاعر: وندّمانٍ يزيد الكأسَ طيباً ... سَقَيْتُ الجاشريَّة أوْ سَقَاني وهذا الذي قلنا، حكاه أبو العباس المبرد عن البصريين، وحكاه أيضا أبو العباس ثعلب عن الكوفيين، قالا: وكلُّ شراب يُشْرَبُ في أي زمان كان فهو الصَّفْحُ. يقال: أتاني فصفَحْتُه أي فسقيته. وأتاني فأصْفَحْتُهُ؛ أي حرمته وزودته. وسلك هذا المعنى المتقدم بَلَدِيُّنا القاضي أبو الحسن بن لبّال فانطبع فيه حيث قال: ومُهَفْهَفٍ عَبَثَ الشَّمولُ بِقَدِّه ... عبَثَ الفُتُورِِ بِلَحْظِه الوَسْنانِ عَضَّتْ خَلاخِلُهُ وَجالَ وشاحُه ... ولَوى مَآزِرَهُ على كُثْبانِ ما كنتُ أحسبُ قبل رُؤية وجْهِهِ ... أنَّ البُدورَ تدورُُ في الأغصان غازَلْتُهُ حتَّى بَدالي ثَغْرُهُ ... فحسبْتُهُ دُرَّا على مَرْجانِ كم ليلةٍ عانَقْتُهُ فكَأنما ... عانقتُ منْ عِطْفَيْهِ غُصْنَ البانِ

يطْغى ويلعبُ تحت عقدِ سواعدي ... كالمُهْرِ يلعبُ حتى ثَنْي عِنانِ وهذا البيت، مليح المساق، بديع في معنى العناق. وفي معناه يقول أبو الحسن بن الزقاق: ومُرْتَجَّةِ الأعطاف أمَّا قوامُها ... فلَدْنٌ وأمّا رِدْفُها فرداحُ ألمَّت فبات الليلُ من قِصَرٍ بها ... يطيرُ وماغيرُ السُّرُور جَناحُ فبِتُّ وقدْ زارَتْ بأَنْعَمِ ليلةٍ ... تعانقني حتَّى الصَّباح صَباحُ على عاتقي منْ ساعديْها حَمائلُ ... وفي خصرها من ساعديَّ وِشاحُ وهو القائل أيضا في المعنى: وآنسةٍ زارتْ معَ الليلِ مَضْجَعي ... فعانقتُ غصنَ البانِ منها إلى الفجرِ أُسائلُها أينَ الوِشاحُ وقد سرَتْ ... مُعَطَّلَةً منه مُعَطَّرة النشْرِ فقالت وأوْمَتْ للسِّوارِ نَقَلْتُه ... إلى مِعْصَمي لمَّا تقلْقَلَ في خَصري وأحسن ما أذكر في معنى العناق، قول الشاعر، قرأته في (النوادر) لأبي علي: خَلَوتُ فنادَمْتُها ساعَةً ... على مثْلِها يحْسُدُ الحاسِدُ كَأنَّا وثوبُ الدُّجى مُسْبَلٌ ... علينا لمُبْصِرِنا واحدُ

أخذ هذا المعنى عبد الله بن المعتز، فقال: ما أَقْصَرَ الليلَ على الرَّواقِدِ ... وأهْوَنَ السُّقْمَ على العائدِ يفديكَ ما أبقيتَ من مُهْجتي ... لسْتُ لِما أوْليتَ بالجاحِدِ كأنَّني عانقتُ رَيحانةً ... تنَفَّسَتْ في ليْلها الباردِ فلَوترانا في قميص الدُّجى ... حَسبْتَنا منْ جَسَدٍ واحدِ وقول علي بن الجهم أيضا في المعنى: سَقَى اللهُ ليلا ضَمَّنا هَجْعةً ... وأدْنى فُؤاداً من فُؤادٍ مُعَذَّبِ فبتْنا جميعاً لو تُراقُ زُجاجةٌ ... من الخمر فيما بَيْنَنَا لم تسَرَّبِ وقرأت في (النوادر) قول علي بن العباس الرومي في المعنى: أُعانِقُها والنَّفسُ بعدُ مَشُوقَةٌ ... إليها وهَلْ بعدَ العِنَاق تدانِي وألثمُ فاها كيْ تموتَ حرارتي ... فيشتدُّ ما ألْقى منَ الهَيَمانِ وَلَمْ يَكُ مِقْدَارُ الذي بي من الجوى ... ليشفيَه ما ترشُفُ الشَّفتانِ كأنَّ فؤادي ليس يَشْفِي غليله ... سوى أنْ يرى الرُّوحَيْنِ يَمتزجانِ وقال القاضي أبو الحسن رحمه الله:

ألَمَّتْ وما غيرُ الوِشاح وشاحُ ... ولا غيرُ أطرافِ الثُّدِيِّ رِماحُ ولا غيرُ ما فوقَ الروادفِ بانةٌ ... ولا غيرُ ما فوقَ الجُيُوبِ صَباحُ ولا وَرْدَ إلاَّ ما حَوتْ وجناتُها ... ولا غيرَ منظومِ الثُّغورِ أقاحُ فبِتْنا وما تحتَ الوِشاحِ مُحَرَّمٌ ... علينا وما فوقَ الوِشاحِ مُباحُ وكان القاضي أبو الحسن رحمه الله للعلياء سِمَاكاً وسُها، تتيه بمفاخره (شريش) على (حمص) وَتَزْهَى، وكانت له سجايا أعذب من الرَّشفات، وأحلى من النمير والفرات، مبرأة من السهو، منزهة من التكبر والزهو. غذَّته الأصالة بزلالها؛ ورفَّته العفة تحت ظلالها، فرقى من المعالي أعلى هضابها، وبذَّ أتراب الإنابة وجميع أربابِها، لم تعرف له قط صبوة؛ ولا خطت قدماه في زلة خطوة. أعفّ الناس باطنا وظاهرا؛ وأطهرهم أردانا ومآزرا. حامل فقه وآداب؛ متفننا في اللغات والإعراب. جليل المقدار؛ سليم الإعلان والإسرار، عدلاً في أحكامه؛ جزًلا في نقضه وإِبرامه. محلّى بالسكينة والوقار؛ معلما بِسِيمَا الأخيار والأبرار، ملتزماً للتواضع والتأنيس؛ برّا بالرَّائِد والجليس، ومهابة الحال، والصواب في المقال. وليَ القضاء، وهو كاره لخِطته؛ خائف من وطأته، إبقاء منه على صيانته، وحفظا لديانته. وفي ذلك يقول: كنت مذ كنت خائفاً ... أنْ ألِي خُطَّةَ القضا لم أُرِدْها وإنَّما ... ساقها نَحْوِيَّ القضا مع أنه كان - رحمه الله - قاصداً قصد المتورعين؛ سالكاً منهج المشرعين، عارفا بالأحكام وحقائقها؛ حافظا لجلائلها ودقائقها، جاريا في

أحكامه على السنن القويم؛ سالكا لمنهج الشرع المستقيم. صادق اللهجة؛ ساطع شهاب المقالة والحجة، مشكورا بكل لسان؛ مجيبا إلى كل ناء ودانٍ. تلوح أنوار البر على أفعاله؛ وَيُقْتَدَى بصالح أعماله. وكان له نَظم كانتظام الجواهر، وابتسام الأزاهر. وله في ميدان الكلام المطبوع سبْقٌ وظهور، وتصرُّفه في سُهُوله وحُزُونِه مشهور، وقد أثْبَتُّ في هذا المجموع، ما ترتشفُه الأنفس الصَّادية ماءً نميراً، وتتخذه الآذانُ سميراً، ويملأ القلوب سرورا، والعيونَ مهجة ونورا. وله قصائد سلطانيات، ومقاطع إخوانيات، ومزدوجات من النظم والنثر مطبوعات، في أوصاف شتى ومعانٍ مختلفات. طابَ نشرها، وفاحَ عنبرها. أشهر من الفجر إذا تمكَّن الإسفار، وأنور من البدر ليلة الإبدار. فمن ذلك قوله يخاطب بعض إخوانه، وهو الأديب الكاتب أبو الوليد يونس ابن محمد القسطلي: ياخليليَّ بالرِّكابِ سُحَيراً ... عَرِّجَا بالجزيرة الخضراءِ حيث هزَّ الغدِير عِطْفَيْهِ ... مما أفْلَتَتْهُ أناملُ الحصباءِ وانْبَرَى يستحيلُ بين شواطِي ... هِ زُلالاً منْ دُرَّةٍ بيضاءِ

ووَشى القطرُ جانبيه فباهَى ... بأزاهِيره نجومَ السَّماءِ وانْثَنى مِعْطَفُ القضيبِ اخْتِيَالاً ... لغناءِ الحَمامةِ الورْقاءِ وتراءَى أبو الوليد فخرَّتْ ... لِسَنَاهُ كواكبُ الجوزاءِ ورَقَى رتبةَ الوزارَةِ حتَّى ... حلَّ تاجاً بِمَفْرِقِ الوزراء فهنيئا لك الجزيرةُ ماذا ... حُزْت منه من السَّنا والسَّنَاءِ فاحفظيه من الحوادث حتَّى ... تنجلي بيننا وجوهُ اللقاء وقال أيضا يخاطب الفقيه القاضي ابن أخيل: سائِلْ بغُرته الهلالَ المُقْمِرَا ... أَشَذىً تفاوحَ عَرْفُه أم عنْبَرَا وسَلِ البَرَاعةَ في أنامِلِ كَفِّهِ ... شذْراً يصوغُ بطِرسه أم جَوْهَرَا أم حالتِ القِرطاسُ كافوراً بها ... فسرَتْ تَمُجُّ عليه مسكا أذْفَرَا أم صدْرُ غانيةٍ تمزَّقَ جيبُها ... فغَدَتْ تحوكُ الوَشْيَ فيه مُصَوَّرا ولعلَّها رأتِ الوشيجَ لدى الوَغَى ... فحكتْ لراحته الوشيجَ الأسْمَرا يامَنْ تََخَيَّلَ من كتابة أخْيَلٍ ... ... تَدَرْهَمَ نوره وتَدَنَّرَا هلاَّ حسبت به السماء صحيفةً ... والليلَ حِبْراً والكواكبَ أسْطُرَا قاضٍ أتى والحقُّ غُصْنٌ ذابِلٌ ... فسقاه ماء العدْلِ حتَى أثْمَرا

وقال يخاطب الأديب أبا العباس أحمد بن سَيِّد: يا سيدي والزمانُ يَبْلَى ... وعَهْدُ وُدِّي لكمْ جَدِيدُ إنْ فرَّقتْ بيننا اللَّيالي ... فوُدُّكُمْ في الحَشَا عتيدُ وكتب إلى الحجاج صحبة الفقيه أبي بكر بن عبد الله بن حَبَاسَة الشريشي: متَى أقولُ وقد كلَّتْ ركائبُنا ... من السُّرى وارتكاب البيدِ في البُكَرِِ يانائمين على الأكوارِ ويْحكمْ ... شدُّوا المطي بذكر الله في السَّحَرِ أما سَمِعْتُم بِحادينا وقد سَجَعتْ ... وُرْقُ الحمائم فوق الأيْك والسَّمُر هذي البشائِرُ يا حُجّاج قد وجبتْ ... غداً تحطُّونَ بينَ الرُّكْنِ والحجَرِِ وقال أيضا، وكتب بها إلى حمص، وقد حنَّ إلى أحبَّائه ومَعاهده، في ظلالِ أَمْنِها مع إخوانه وأصحابه، وزمان جادَ له بالآمال، ولأيَّامهِ غُرَرٌ وحُجُول، تروقُ العيونَ في البُكر والآصال: سلامٌ على حِمْصٍ وإنْ غيَّر البِلَى ... معَاهِدَ منها نِلتُ فيها الأمانيا وحُقَّ لَهَامِنِّي السَّلامُ لأنَّني ... وردتُ بها ماء الشبيبَةِ صافيا وفي وجَناتِ الدَّهْرِ إذْ ذاكَ رونقٌ ... كما رونَقَ الصَّقْلُ الحُسامَ اليمانيَا

وقال أيضا: إذا أبْصَرَ المحزونُ أرضَ شُذُونَةٍ ... وحسْنَ محيَّاها أفاقَ منَ الحزْنِِ كأنَّ على غيَطانِها ومُتُونِها ... دَبابِيجَ خُضْراً أحْكمتْها يدُ المُزْنِ مذانِبُ تنْدى في مُرُوجٍ كأنها ... عِذَارٌ بِخَدَّيْ ذي جمالٍ وذي حُسْنِ وفي هذا المعنى، من مدح المواطن، والثناء على مبهج الأقطار الأريضَةِ والأماكن كما يثني على إخوان المودة والتصافي. قول معاصره ومراسله أبي عبد الله الرصافي، حيث يقول: كم للصُّدُورِ بِبَرجَهْ ... من انفِساحِ وفُرْجَهْ قُطْرٌ عليه ضمانٌ ... منْ حيثُ ما يُتَوَجَّه إنْ يَبْسُطِ النَّفْسَ أُنْساً ... ويَمْلإ العينَ بَهّجَهْ وقول أبي عبد الله الرصافي أيضا:

خَلِيليَّ ما للرِّيحِ قدْ عَبَقَتْ نَشْرَا ... وما لِرُؤُوسِ الرَّكْبِ قدْ رُنِّحَتْ سُكْرَا هلِ المسكُ مفتُوقاً بِمَدْرَجَةِ الصَّبا ... أمِ القومُ أجْروا منْ بَلَنسيةٍذِكْرَا خليليَّ عُوجابي قليلا فإنَّه ... حديثٌ كبرْدِ الماء في الكبدِ الحرَّى قِفا غيرَ مَأموريْن ولْتَصْدَيَا بها ... على ثقةٍ للمُزْنِ فاسْتَسْقيا القَطْرا بجسر معانٍ والرُّصافة إنَّهُ ... على القطْر أنْ يَسْقِيَ الرُّصافة والقُطْرا بلادي التي ريشَتْ قُوَيْدِمَتي بها ... فُرَيْخاً وآوَتْني قرارتها وكْراَ ومنها: وقالُوا هلِ الفِرْدَوسُ ما قدْ وَصَفْتَهُ ... فقُلْتُ وما الفِرْدَوْسُ في الجنَّة الأخرى بَلَنْسِيَةٌ تلكَ الزَّبَرجَدَةُ التي ... تسيلُ عليها كلُّ لُؤْلُؤَةٍ نَهْراَ هيَ الدُّرَّةُ البيْضاء من حيثُ جِئْتَها ... أضاءتْ ومنْ للدُّرِّ أنْ يُشْبِهَ البَدْرَا خَليليَّ إن أصدر إليها فإنَّها ... هِيَ الوَطَنُ المحبُوبُ أوْ طَنْتها الصَّدْراَ

ولَمْ أطْوِ عنها الخَطْوَ هجراً لها إذَنْ ... فلا لثَمَتْ نعْلي مناكِبَها الخَضْرا ولكنَّ إجْلالاً لِتُربتها التي ... تضُمُّ فتاها النَّدْبَ أوْ كَهْلَها الحرَّا أكارِمُ عاثَ الدَّهْرُ ما شاءَ فيهِمُ ... فبادَتْ لياليهم فهل أشتكي الدَّهْرا تقَضَّوْا فمن نجمٍ هُنالك ساقطٍ ... أَبى الله أنْ يرْعى السًّمَاكَ أو النَّسْرا والقصيد كبير. وقد أثبت منه ما فيه منشرح للصدر. وقال أبو عبد الله أيضا: ولا كالرصافة من منزلٍ ... سقتها الغمائمُ صوْبَ الولِي أحنُّ إليها ومن لي بها ... وأين السريُّ من المَوْصلِ وفي بلنسية يقول الكاتب أبو نصر مثنياً عليها ومتشوقا إليها: سَقى الله عهْداً سالفاً ومودعاً ... أسالَ فُؤادي في المحاجِر أدْمُعَا وحَادَكَ يا روضاً من المُزْنِ واكفاً ... لِتُبْصِرَ عيني منْ نَبَاتكَ مُمْرِعَا وخَصَّ بسُقْياهُ بلنسيةَ المُنى ... وحيَّى مُراداً للأماني ومُرْبِعا معاهدُ عادتْ للجَنائِب ملعباً ... وكانتْ مَقيلاً للسُّرورِ ومربعا زَمَانٌ بنو عبد العزيز وُلاتُها ... وُجُودُهُمْ يحكي السَّحائبَ هُمََّّعا

وقد أرجت منهم وطاب نَسيمها ... كأنَّ فتيق المسك عنهم تَضوَّعا وقدْ كانَ هذا القَطْرُ أزْهَرَ مبْهَجاً ... ترى الزَّهْر في بَطْحائه متضلعا فعادَ ذراهُ مُوحشاً بعدَ أُنْسِهِ ... وأَصْبَحَ منْهُمْ خاليَ الرَّبْع بلْقعَا أطافَ بِهِمْ صرْف الزّمانِ فوَدَّعُوا ... فلا مجْدَ إلاَّ قدْ تَوَلَّى وودَّعا بكيتُ لهم حتَّى القيامة حسرةً ... وحُقَّ لعيْني أنْ تفيضَ وتَهْمَعا وقد كمل هذا الغرض في الجزء الثاني من هذا الكتاب ويا بعد ما بينه وبين قول أبي تمام ذي الاصابة والصواب، في قصيدته الثائية التي ذم في آخرها المنازل المالكية، حيث يقول: والمالكيةُ لم تكُنْ لي منزلاً ... فمقابِر اللَّذاتِ منْ قُبْراثَا لمْ آتِها منْ أيِّ وجه جِئتُها ... إلاَّ حَسِبْتُ بُيُوتَها أجْداثا بَلَدُ الفلاحةِ لو أتاها جرْوَلٌ ... أعني الحطيئة لاغْتدى حرَّاثا تصدَى لها الأذهان بعد صقالها ... وتَرُد ذكْرَانَ العُقُول إناثا أرضٌ خلعْتُ اللهو خَلْعي خاتَمي ... فيما وطلَّقْتُ السُّرُورَ ثلاثا

فصل

فصل جملة من شعر القاضي أبي الحسن رحمه الله في أوصاف شتى. قال: نشَرَتْ ثلاثَ ذوائِبٍ من شَعْرها ... لِتُظلَّني حَذَرَ الوُشاةِ الرُّمَّقِ فكأَنَّني وكَأَنَّها وكَأَنه ... صبْحانِ باتَا تحت ليلٍ مُطْبِقِ وقال في معنى العِناق: لا مِثْلُ ضمِّى عليّاً وهو يُتْحِفُني ... سُلافَةً هيَ بُرْءُ العاشِق الدَّنِفِ عانقْتُهُ ورِداءُ الوصْلِ يَجْمَعُنا ... حتَّى الصَّباحِ عناقَ اللاَّمِ للأَلِفِ أخذ هذا من قول الآخر: يامنْ إذا قرأَ الإنْجِيلَ ظَلَّ لَهُ ... قلْبُ الحنيفِ عن القُرآنِ مُنْصَرِفا رأيْتُ شخصكَ في نومي يُعانِقُني ... كما يُعانِقُ لامُ الكاتِبِ الألِفا وقال في الجَلَم:

وَمُعْتَنِقَين ما اتُّهما بِعِشْقٍ ... وإنْ وُصِفَا بضمٍّ واعتناقِ لعَمْرُ أبيك ما اجتمعا لمعنىً ... سِوى حَالِ القطيعة والفراقِ وفي الخطَّاف: أهْلا بِخُطَّافٍ أتانا زائرٍ ... غردٍ يذكِّرُ بالزمان الباسِمِ لَبِستْ سرابيلَ الصَّباحِ بُطُونُهُ ... وظُهُورُه ثوبَ الظَّلامِ العاتِمِِ وقال يصف الشيب: بكَتْ دَمي أنْ رأتْ مشيبي ... يضحكُ في مفْرِقِ الجَبينِ نَوَّرَ غُصْنَ الشَّبابِ مِنِّي ... هلْ يُنْكَرُ النَّوْرُ في الغصونِ فقلتُ لا تحزني أُسَيْمَا ... ونَشِّفِي أدْمُعَ الجُفُونِ كأنه أشار في البيت الثالث إلى قول ابن الرومي، أومأ إليه بالإيماء الخفي: قدْ يَشيبُ الفتى وليس عجيباً ... أنْ يُرى النورُ في العشيب الرَّطيبِ وفي هذا المعنى يقول الآخر أيضا:

فلا تُنْكري منهُ المشيبَ فإنَّه ... غُبارُ صروفِ الدَّهْر فوقَ قُرونِهِ هَبِيهِ كمثل الرَّوْض لمَّا تَأَزَّرَتْ ... رُباهُ، بَدَا نُوارُهُ في غُصُونِهِ وقال القاضي أيضا: قَوَّسَ الشِّيبُ قَناتي ... بَعْدَ أنْ كانتْ سَوِيَّهْ وغدا يَشدُو برَأْسِي ... أنَا عنوانُ المَنِيَّهْ وقال أيضا في المعنى: تَعَجَّبَتْ أنْ رأَتْ مَشيبي ... يضحكُ في مفرقي سُمَيَّهْ لا تعْجَبي فالبياضُ زِِِيٌّ ... مِنْ زِيِّ قوْمي بني أُمَيَّهْ وقال يصف البدر: أُنظُرْ إلى البَدْرِ في السماء وقدْ ... حَفَّتْ بحَقْوَيْهِ الأَنْجُمُ الزُّهْرُ كأَنَّهُ بركةٌ مُفضَّضَةٌ ... حُفَّ بها منْ جَنابِها زهْرُ وقال أيضا: يا مَنْ أتَى يَخْرُصُ الزَّيتونَ فارغةً ... ويَستدِلُّ على ما فاتَ بالوَرَقِِ أتَعْلَمُ الغيبَ دونَ الناسِ كُلِّهمُ ... لا والذي خلق الإنسانَ منْ عَلَق وإنَّما أتَتْ فيما تَسْتدلُّ بهِ ... كثاقِبِ الدُّر في داجٍ منَ الغسَقِ فَتُبْ إلي اللهِ واحْذَرْ منْ عواقِبِهِ ... (منْ يَرْكبِ البحرَ لا يَأمَن من الغرقِ)

وسأله سائل عن أكل لحم ابن آدم مَيِّتاً. أيجوز للمضطر إليه أم لا؟ فقال: وإذا اضْطُرِرتَ لآدمِيٍّ مَيٍّتٍ ... فلْتَهْرَبَنْ منه هُرُوبَ الآبِقِ فالما لكيُّ يرى سواءً أَكْلُهُ ... مع قتْلِهِ هذا كَلامُ الصَّادِقِ والشافِعيُّ يرى مباحاً أكْلُهُ ... للبائِس المضطر خِيفة عائقِ يَعْتاقهُ منْ جُوعهِ فلَرُبَّما ... يغْتالُهُ فيَمُوتُ مِيتَةَ فاسِقِ وقال أيضا: هاكَ منِّي بيتا سيَكْثُر إن م ... تُّ على أَلْسُنِ الرُّواة اختلافُهْ إنَّما تنْظُر العيونُ لِشَخْصيْ ... ن لِمنْ ترتجيه أوْ منْ تَخافُهْ وقال أيضا: وكلف ذلك في فتى وسيم جزار، كأنه كوكب دريّ من كواكب الأسحار. قد أطلعه الحُسْنُ شمسا في فلكه؛ وأوْمَأَ كل من رآه اليه بِتَمَلُّكه. لا يَنْفكُّ دمْعُ عاشِقِه عن أنْ يَنْهَلَّ أوْ يَنْسكِب، ولا قلْبُه عن غرام ونَصَب. يخلط جده باللعب، ويضحك بين العَجَبِ والعُجْب: يا هِلالا قدْ تَبَدَّى ... فوقَ أَزْرارِ الجُيُوبِ وقضيباً يَتَثَنى ... فوقَ أحْقافِ الكَثيبِ كُنْ كمَا شِئْتَ وَدَعْني ... فيكَ منْ قوْلٍ كَذُوبِ لسْتَ جَزَّاراً ولكنْ ... أنتَ جَزَّارُ القُلوبِ ولمَّا وَرَدَ عليه الخبرُ بتَأخيره عن القَضاء، واستراحه من أمر وَلْيه، ولم يزل فيه مُبْغِضاً، حَمِدَ الله سرّا وَجَهْرا، ومَلأَ الأسماع ثناء عليه وشكراً، كأنه كان خائفا مذعورا، فجاءتْهُ بالآمان البُشْرى، أوْ فقيرا بائسا بالمنزل الرَّحْبِ والقِرى. وسُرَّ

بذلكَ سُرُورَ حاتِم طىء بالضيْف؛ أو العاشِق المهجور بإلمامِ الطَّيْفِ. فعادَ بعْدَ اكتئابه مُستبشراً جَذِلاً. وأنشأ يقول بِلِسانِ السُّرور مُرْتجلا: حُملْتُ على القَضاءِ ولمْ أُرِدْهُ ... وكانَ علَيَّ أثْقَلَ منْ ثبيرِِ فلَمَّا أنْ عُزلْتُ جَعَلْتُ أَشْدُو ... لقدْ أُنْقِذْتُ من شَرٍّ كبيرٍ وهذا المصراع الثاني من قصيدة مهلهل التي أولها: أَلَيْلتنا بِذي جُشُمٍ أَنِيري ... إذا أنْتِ انْقَضَيْتِ فلا تَحُوري وأنْقدني بياض الصبح منها ... لقد أنقذتِ منْ شَرٍّ كبيرٍ شهدت جنازته - رحمة الله عليه وبركاته - في اليوم الثالث، وهو يوم الثلاثاء من شهر ذي القعدة سنة ثلاث وثمانين وخمس مائة وأنا يومئذ غلام يافع بين يَدَيْ أُسْتاذي خاضِع مُتَواضعٌ. مُولَعٌ بالأدَبِ وجَمالِهِ؛ ومَقْتَبِسٌ أنْوارَ العِلْم منْ رجالِه: أقُولُ لسَائِلٍ عنِّي مُلِحّ ... طِلابُ العِلْمِ رَيْحاني وراحِي فخرجت خارج المدينة بعد صلاة العصر، وهي قد ألقت من فيها من أهلِها وساكنيها؛ واجتمع قاصيها إلى دانيها. والناس بينَ باكٍ ملء عينيه، ومسْتَرجعٍ عاضٍّ على يَدَيْه. وصُلي عليه، ثم دُفِن الحلمُ والوَرَعُ معه في قبره، وتعطَّلَ جيدُ الزّمانِ منْ نظْمِه ونَثْرِه.

رجع وحكى محمد بن عرفة عن نفسه قال: دخلتُ على محمد بن داوُود الأصبهاني في مرضِه الَّدي ماتَ منهُ. فقلت له: كيفَ تَجِدُكَ يا سيدي؟ فقال: حُبُّ منْ تَعْلَم أوْردني ما تَرى. فقلت له: كيفَ بالاستِمتاع به مع القُدْرة عليه. فقال: الاستمتاع به علي ضربين: أحدهما: النَّظرُ المُباحُ، والاخر: اللَّذَّةُ المَحْظُورةُ، يَمْنَعْنيها ما حَدَّثَني به أبي، عن أشياخه عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، انه قال: "منْ عَشِقَ فَعَفَّ وَكَتَمَ ومَاتَ فهو شهيد". وفي الحديث عن أبي سعيد الخدري، انه قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم. (العِشْقُ في غير ريبَة كَفَّارةٌ للذُّنوبِ). وكانَ يحي بن معاذ يقول: لو كان لي من الأمر شيء ما عذبت العشاق؛ لان ذنوبهم ذنوب اضطرار، لا ذنوب اختيار. وروى عن النبي عليه السلام، قال: "الصبْرُ ثلاثة: صَبْرُكَ عن المَعْصية، وصبْرُكَ علي المُصيبَة، وصبْرُك على الطََّاعة، فالصبر على المصيبة ثلاث مائة درجة. والصبر على الطاعة ستمائة درجة. والصبر عن المعصية تسعمائة درجة". وقيل ان الله تبارك وتعالي يُمَحِّصُ خطايا أهل الهوى، ويكفر سيئاتهم لطول محنتهم، بطول محبتهم.

وفي هذا المعنى قال المؤمل: يكفي المُحبينَ في الدُّنيا عذابهمُ ... والله لا عذَّبتْهُم بَعْدَها سقرُ وقال بعض الحكماء: (اغلقْ أبوابَ الشَّهواتِ بأَقْفال الزَّهادةِ، وافتح أبوابَ البِرّ بمفاتيح العبادة؛ فإنَّ ذلك يُدْنيكَ من السعادة، وتستوجبُ به من الله الزيادة). وحُكيَ أن رجلا راوَد امرأةً عن نفسها، فقالت له: أما أنّكَ قدْ سَمِعْت الحديث، وقرأت القرآن فأنت أعلم؟ فقال لها: اغلقي أبواب القصر. فأغلقتها، فدنا منها، فقالت له: بقي بابٌ لم أُغْلِقْهُ. قال: أيُّ بابٍ؟ قالت: البابُ الذي بينكَ وبينَ الله، فزالَ عنها وانْصرفَ. وحكى أن رجلا من العرب قال: خرجت في طلب ضالَّة، فاذا أنا بجارية كأنها عَلَم، فراوَدْتُها عن نفسها، فقالت: ويلك. أمالَكَ زاجِرٌ منْ عَقْلٍ، إذْ لمْ يكن لكَ ناهٍ من دينٍ. فقلت لها: والله ما ترانا إلاّ الكواكبُ. فقالت: فأين مُكَوْكِبُها؟ فوالله، لقد زال بِكَلامِها عن نفسي ما كان خَطَرَ بِها. وحكي أن رجلا من أهل (البصرة) عَشِقَ جاريةً مملوكة وكان يعْلمُ ذلك، فعاتبها يوما على ذلك، فقالت له: والله يا مولاي ما كان الاَّ الجميل. ثم انه كَمَن لهما بحيث لمْ يعلمهما، فَسَمِعَهُما يتحدثان ويتشاكَيان، ثم انتحبَ الرجل مَلِيا، وبكى حُبّاً لها. فقالت له لجارية: أكَلُّ هذا الذي بك من حبِّي؟ فقال: أيْ والله فقالت: فَلْيَفْرخْ رَوْعك، ولْتَطِبْ نفسُك؛ فإن الله فرَّجَ عنك، فاصنع بي ما شئت، فانه لا مانع لك. فاشتد بكاؤه، لما سمع قولها

وأنشأ يقول: أمَّا الحرام فلستُ أركب محرما ... وطِلابُ مِثلك في الحلال شديدُ إنَّ امرءاً أمسيت مِلك يمينه ... يقْضي عليك بحكمه لَسَعِيدُ قال: فلما تفرقا من مكانهما، مشي اليه مولاها، وقال له: اني قد وهبت لك فلانة. وسأله عن خبرهما. فقال له: ما كان بيننا يعلم الله. ألا ما قال الشاعر: لا والذي تسجد الجِبالُ لهُ ... مَالِي بما تحت ثوبِها خَبَرُ ولا بِفيها ولا هَمَمْتُ بها ... ما كانَ إلاّ الحديثُ والنظرُ قال: وأحبَّ رجل امرأة، فأفرط في حبها، فلقيها في بعض الأيام. فأعلمها يذلك، فأخبرته أنَّها تجد بِهِ أكثر ممَّا يَجدُ بِها. ثمَّ الْتقيا بعد مدّة، فلم يكن بينهما الا ما أحلَّ الله. ثم بقيا على تلك الحال مُدَّةً طويلة، الى أنْ ماتت المرأة منْ شِدَّة حُبِّ ذلك الفتى. فكان يجيئ إلى قبرها ويُصلِّي عليه. فجاء ذات يوم، وصلى وَقَعَدَ متفكرا، فغَلَبَتْهُ عيناه وهو قاعدٌ عند القبر، فرآها في منامه. فقال لها؛ كيفَ أنت؟ وما لَقِيتِ بعد الموت. فقالت: لَقيتُ خيراً وأنشأتْ تقول: نِعْمَ المحبة يا حَبِّي ونعم هوىً ... حبّ يقود إلى خيرٍ وإحسانِ

فقال: علي ذلك إلى ما صرت إليه. فقالت: إلى نعيمٍ وخيرٍ لا زوال له ... في جنة الخُلْد مُلكٌ ليس بالفاني ثم قال لها أذكريني فإنِّي لست أنساك. ثم قالت: لا والله ما أنْساكَ، ولقد سألتُ الله تعالى قُرْبكَ، فأَعِنِّي على ذلك بالإجْتهاد ثم ولَّتْ عنه. فقال لها: مَتى أراك؟ فقالت له سآتيكَ عن قريب إن شاء الله. فلمْ يعِشْ الفتى بعد ذلك إلاَّ سبعة أيام ومات يرحمه الله. قال: ورأيت في كتاب (الأغاني) عن ابراهيم بن عثمان العُذْري، قال: رأيت عمر بن ميسرة، وهو كهيئة الخيال لا يكلم أحداً. وكان أهله يرون أنه عاشق، فيسألونه عن علته، فيبكي ويقول: يُسائلُني ذُو اللُّبِّ عنْ أصْل عِلَّتي ... وما أنا بالمُبْدي إلى النَّاس علَّتي سأكْتُمُها صَبْراً على حرِّ جَمْرِها ... وأسترها إذ كان في السَّتْرِ راحتي إذا كنتُ قدْ أبْصَرْتُ موضع عِلَّتي ... وكان هَوانيفي مواضِعِ لذتي صبرتُ على ما بي احتسابا ورغبةً ... ولم أكُ أُحْدُوثاتِ أهلي وَخُلَّتِي قال: فما ظَهر فحوى أمره، ولا عَلِم أحدٌ بقصته حتى حضره الموت. فقال: إنَّ التي كان بي من أجْلِها هذا الألمِ، هي فلانة ابنة عمي. والله ما حجَبَني عنها

وألزمني الصبر على الضُّر إلاَّ خوفُ الله تعالى. فمن ابتلى في هذه الدنيا بما ابْتُليتُ به، فلا يكن أحد أوثق عنده بسِرِّه من نفسه. ولولا أن الموت نزل بي هذه الساعة، ما أُعْلِمكم بقصتي، فاقْرؤُوها منِّى السلام. ومات في الحين رحمه الله. قوله: سأكتمها صبراً على حرِّ جمرها كَتْمُ الشيء؛ إخفاؤُه مع الدَّاعي إلى اظهاره. ولا يقال لمن أخفى أمراً لا يدعو إليه داعٍ: كاتِمٌ. ونظيرُ الكِتْمان؛ الإخْفاء والإسرار. يقال: كَتَمَ زيدٌ الأمر يكْتُمُهُ كتْماً، واستَكْتَمَه استكتاماً، وكاتَمَهُ مُكَاتَمَةً، وتَكاتَمَ القوم تكتُّماً. وقال صاحب العين: الكِتْمانُ: نقيض إعلان السِّرِّ. ورجل مِكْتامُ السِّر؛ إذا كان معروفا بذلك. وناقة كَتُوم؛ وهي التي لا ترْغُو إذا ركبها صاحبها: أي لا تَصيح. والجميع الكواتم. وإنما تفعل ذلك لصبرها على السَّير، وإنها لا تضْجَرُ منه، ولا تَسِيمُهُ. وقال الشاعر: ولم تبق إلاّ كل ادماء حرّة ... كواتم لم تضجر ولم تتبلدِ والكَاتِمُ من القِسِيِّ: التي لا ترن. والكاتِمُ أيضا: الخارز. قال الشاعر: فسالتْ دموعُ العين ثم تحدَّرَتْ ... فلِلّه دمعٌ ساكتٌ ونمُومُ

فما شَبَّهَتْ الاّ مزادة كاتم ... وَهَتْ أوْ وَهى منْ بينهن كتُومُ فكاتِم بمعنى خارِز، وكَتُوم بمعنى خَرُوز. وتقول: أكتَمْتُ الرَّجُل؛ إذا وجدْته كاتما لسرِّك. كما تقول: أَحْمَدْتُه. وقال الشاعر: لأ كتمت عبد الله والله عالِمٌ ... بمُستَوْدَعاتٍ ما لهن كَتومُ فمعنى أَكْتَمْتُه: وجدته كَاتِما. ومستودعات يعنى: كلمات مستودعات. وقال الشاعر: لئن كتمت أسماء فينا صنيعة ... فقد تكتم الأرضون والزرع فاسدُ والكثْمانُ يحسُنُ على أحوال، ويقبح علي أحوال أُخَر. فكتمانُ السِّرِّ الذي تضرُّ إذَاعتُه ضرراً لا يستحق بجرم، ولا يُقْصَدُ به نفع واجب حسن. وكتمان السر الذي تعتدل فيه الأمور، يَحْسُنُ فِعْلُهُ وتَرْكُه. وكِتْمانُ العلم والشهادة قبيح في الجملة. وفي الحديث عن عبد الرحمان الحُبُلِّي عن عبد الله بن عمر بن العاصي ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من كتم علما ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار"

وفي الحديث أيضا عن عطاء بن أبي رباح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم "من سئل عن علم يعلمه فكتم الجم بلجام من نار". وقيل: من ورَعِ العالم أن يَتَكَلَّم، ومن ورَعِ الجاهل أن يَسْكت. وعن أبي هريرة أنه قال: لولا آية في كتاب الله ما حدثتكم. وتَلا قول الله تبارك وتعالى (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ). وهذا تغليظ للحال في كتمان علوم الدين. وذكر أبو الحسن الرماني في قوله تبارك وتعالى (ويلعنهم اللاعنون) أربعة أقوال: أولها: أن اللَّاعِنين هم الملائكةُ والمومنون. وعَزَا هذا القول إلى قتادة والربيع وغيرهما. قال: وهو الاختيار لقوله تعالى في وعيد الكفار (أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) فلعنة الله الكاتمين كلعنة الكافرين. القول الثاني: قيل اللاَّعنون دواب الأرض وهوامّها يقول: منعنا المطربمعاصي بني آدم. قال: وهو قول مجاهد وعكرمة. والقائل أن يقول، كيف جاز أن يقال للبهائم وهوام الأرض اللاعنون. وجوابة أنه لما أضيف إليها

فعل من يعقل، عوملت معاملة من يعقل. كما قال (أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ). القول الثالث: اللاَعنون كل شيء، سوى الثَّقَلَيْن والإنس والجن. كذا روى عن ابن عباس فيما حكاه الفراء. القول الرابع: قال ابن مسعود إذا تلاعن المتلاعنان، ويروى الرجلان، رجعت اللعنه على المستحق لها، فان لم يستحقها أحد منهما، رجعت عى اليهود الذين كتموا ما أنزل الله. والمعنى بقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا). الآية. في قول أكثر أهل العلم: أهل الكتاب؛ من اليهود والنصارى. قاله ابن عباس ومجاهد والربيع والحسن وقتادة والسِّدِّي، وجماعة سواهم. وقيل يعني بها كل من كتم ما أنزل الله. وكل من كتم شيئا من علوم الدين. فالوعيد لازم له، لأنه قد فعل مثل فعل أهل الكتاب من اليهود والنصارى. روى عن ابن عباس أن جماعة من الأنصار، سألوا نفراً من اليهود عمّا في التوراة، فكتموهم اياه، فكان ذلك من فعلهم سبب نزول الآية. وقيل: نزل هذا الوعيد فيهم. إذ معلوم من حالهم الكتمان. والكتاب المذكور في الآية. قيل:

هو التوراة والانجيل. وقيل: كل كتاب أنزله الله. وأصل اللَّعْن الابعاد على جهة الطرد. قال الله سبحانه (وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا لَعَنَهُ اللَّهُ) أي أبعده الله. فإذا أخبر الله تعالى أنه لعن عبداً فمعناه الاخبار، فإنه أبعده من رحمته. إذا قيل: لعنه الله، فمعناه الدعاء، كأنه قيل: أبعده الله. ولا يجوز لعن من لا يستحق العقوبة. إذ اللعن في الحكم؛ الإبعاد من رحمة الله بإيجاب العقوبة. فدبره. قال الشماخ: دعوت له القطا ونفيتُ عنهُ ... مَقام الذِّيبِ كالرَّجُلِ اللَّعينِ أرادَ مَقامَ الذئب اللعين. والكِتْمانُ؛ اختيارٌ من الكاتِم وقصد، وليس كالنسيان؛ لأن النسيان اضطرارٌ. وتعلّم العلم واجب ثم العمل به، وهذه الآية التي استقصيت الكلام عليها، مضمنة الزجر عن كتمان علم الدين، والحض عليه والترغيب فيه، وألزم شيء للعالم، بيان ما يعلمه، وافشاؤه وذكره عند من لم يوته الله منه شيئا امتثالا لقوله تعالى (لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ) الآية. ولقول الرسول عليه السلام لأبي هريرة: "يا أبا هريرة علم الناس القرآن وتعلَّمْه فإنك إنْ مِتَّ وأنتَ كذلك زارت الملائكة قبرك كما يزار البيت العتيق،

وعلم الناس سُنَّتي وان كرهوا الحديث بطوله". ومن أحسن ما يذكر هنا وألقيه بما ذكرته، حكاية الحسن بن أبي الحسن البصري مع الحجاج بن يوسف. حكى عبد الملك بن قريب الأصمعي في أخباره عن أبي نعامة، قال: كنا جلوساً ذات يوم عند الحسن في المسجد الجامع؛ فإذا الحجاج بن يوسف قد أقبل على برذون أبيض، وحوله شُرْطُه يسعون، حتى انتهى الى الحَلْقَة، فسلم ثم نزل فجلس بيني وبين الحسن. قال أبو نُعَامَة: وكان الحسن يحدث حديثا فمضى في حديثه، ولم يقطعه من أجل الحجاج حتى فرغ منه. ثم أقبل على الحجاج يسائله، فقال الحجاج: أيها الناس. ان هذا الشيخ مبارك معظم لأمر الله جلّ وعز، عالم بحق أهل القبلة، ناصح لأهل هذي الملة، صاحب استقامة، ونصيحة للعامة. فعليكم بهذا الشيخ. فألزموه واحضروا مجلسه. فان مجلسه مجلس يعرف فضله، وترتجى عاقبته. فلولا الذي لزمنا من هذه البلية، وحق الرعية، لأ حببت مشاهدتكم، وحضور شيخكم. ثم نهض فانصرف؛ فما لبثنا أن جاءت من عنده سفرة عليها أطعمة من كل ضرب. وجاءت أشربة وتحف فوضعت بيننا. فأكل من أكل، ثم رفع ذلك. وقام شيخ كبير، فاستقبل الحسن بوجهه، فسلم ثم قال: يا أبا سعيد؛ شيخ كبير من أهل، الديوان، وعطائى حقير زهيد. وانه لما خرج عطائي كلفت فيه فرسا وسلاحا. وما فيه يحتمل ذلك، ولا فيه فضل من عيالي. وان عليّ لدينا ما أصل إلى الخروج منه. ثم بكى

بكاء شديدا. فرفع الحسن رأسه، فبكى أشد من بكائه، ثم قال: ان سلطاننا هذا أخفر ذمة الله، وتحول عباد الله، وقتلهم علي الدينار والدرهم، وقطعهم عضوا عضوا. أخذه من كل خبيث، وأنفقه في كل سرف مضغة قليلة، وندامة طويلة. أما إذا خرج عدوّ الله، فصاحب مراكب رفافه؛ وسرادقات هفافه؛ وإذا خرج أخوه المسلم فطاويا، راجلا مهموماً، مالهم أراحنا الله منهم. قال: فسعي هذا إلى الحجاج ووالله ما برحنا، حتى جاء حرسيّان، في أعناقهما سيفان. فقالا للحسن: أجب الأمير. قال أبو نعامة: فخفنا والله. وكانت مخوفة. فانطلقت معه أنا وثابت حتى دخلنا على الحجاج، وهو قاعد على سريره، وبيده قضيب يضرب به. والغضب ظاهر في وجهه، فانتهى إليه الحسن، فسلم ووقف بين يديه. فقال له الحجاج: يا حسن. أنت صاحب الكلمات قبيل. قال: نعم، أصلح الله الأمير. قال: فنكس الحجاج رأسه، وأطرق طويلا، ثم رفع رأسه، فقال: أعدهن يا علي. فاعادهن كلهن، ما أسقط منهنّ واحدة. فأطرق الحجاج أيضا طويلا، ثم رفع رأسه، فقال: وما دعاك إلى هذا. قال: ما أخذ الله تبارك وتعالى علينا في كتابه، في قوله (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ) قال: وكان الحسن يفسرها: لتتكلمن بالحق ولتصدقنه بالعمل فأطرق أيضا طويلا، ثم رفع رأسه فقال: اذهب أيها الرجل، فتكلم بما بدا لك، فانما أنت والدٌ في أنفسنا، غير ظنين عندنا ولا متهم؛ بل ناصح لخاصتنا وعامتنا، فليس مثلك يؤاخذ بقول ما كان؛ لأنك ما تريد إلا خيراً. قال: فانصرف الحسن - رحمه الله - الى مجلسه. تمت الحكاية. فهكذا يجب للعالم أن يكون حاله، وتصدق أقواله وأعماله.

قال: وذكر المدائني أن رجلا أحب جارية، فطلب منها قبلة، فأبت عليه، فأنشدها: سألتُ عَطا المكيَّ هل في تَعانُقٍ ... وقبلةِ مُشتاقِ الفؤادِ جُناحُ فقال: معاذَ الله أنْ يُذهب التُّقى ... لتخليص أكبادٍ بِهِنَّ جِراحُ فقالت الجارية: أنت سمعت عطاء. يقول هذا. وسألته عنه فاجابك بهذا. فقال: نعم، فأباحت له ما طلب. وقالت له: اياك أن تتعدى ما أمرك به عطاء. قوله: (مَعَاذَ الله)؛ أي أعوذ به معاذاً. والمعاذُ: المَلْجَأُ؛ لأن معنى: أَعُوذُ بِاللَّهِ: أَلْجَأُ إلى الله، وأستعينه وأستجير به. ومَعَاذ الله منصوب على المصدر، كأنه وضع موضع عوْذاً وعِياذاً وعطاء المكي، هو عطاء بن أبي رباح يكنى أبا محمد، وكان أسود أعور أفطس، أشل أعرج، ثم عمى يعد ذلك. وكان أبوه أسود، وأمه سوداء. اسمها بركة. واسم أبي رباح أَسْلَم مولى آل ابن خثيم القرشي الفهري. قاله البخاري وكان عطاء فصيح اللسان إذا تكلم، يستمع له ويقبل قوله. وقال اسماعيل بن مسلم: كان عطاء يطيل الصمت؛ فإذا تكلم يخيل الينا أنه يؤيد. وكان من القراء. سمع ابن عباس، وأبا هريرة، وأبا سعيد، وابن عمر وجابر بن عبد الله. وروى عنه عمرو بن دينار، وقيس بن

سعد، وحبيب بن ثابث ومالك بن أنس. وتوفي سنة خمس عشرة ومائة وهو ابن ثمان وثمانين سنة. وقال يحيى بن معين حج سبعين حجة وتوفي وله مائة سنة. فأما عطاء بن يسار مولى ميمونة بنت الحارث، زوج النبي صلى الله عليه وسلم، فمدني ويكنى أبا محمد أيضا. وقيل أبا عبد الله، وأخوه سليمان بن يسار، وموسى، وعبد الملك، وعبيد الله أيضا اخوته. وكلهم من أهل الفقه والحديث. أدرك زمان عثمان، وهو صغير. وكان صاحب قصص، ولأبيه يسار عن رسول الله صلي الله عليه وسلم رواية، وكان عطاء من القراء أيضا. وسمع من أبي هريرة وابن عمر وقد جاءت عنه روايات عن عبادة بن الصامت وأبي الدرداء. قال محمد بن يحي بن الحذاء، في كتاب

"التعريف": ولا يعرف له، يعنى عطاء، ادراكهما. وتوفي عبادة سنة أربع وثلاثين بالرملة من الشام، وهو ابن ثنتين وسبعين سنة. روى عن هشام بن عروة، أنه قال: ما رأيت قاضيا خيرا من عطاء بن يسار. وقال مالك رحمه الله؛ بلغني أن عطاء كان يلبس ثوبين مصبوغين بالزعفران. وروى عنه زيد بن أسلم، وعمرو بن دينار وتوفي سنة اثنتين ومائة. وقيل سنة ثلاث. وقيل توفي سنة أربع وتسعين. قال محمد بن يحيى: وهذا أقرب للصواب. وأما عطاء بن السائب بن زيد الثقفي فكوفي، يكنى أبا زيد. أدرك على بن أبي طالب رضي الله عنه، وروى عنه شُعْبَة بن الحجاج، وأبو بكر بن عياش، وحفص بن سليمان. حدث أبو بكر بن عياش عنه، قال: مشيت أنا وأبي مع علي بن أبي طالب. فقال عليٌّ لأبي: منْ هذا؟ فقال: ابني. فمسح رأسي، ودعا لي بالبركة. فما زلتُ أَتعرَّف الخير. وكان من القراء أيضا. أخذ القراءة عن أبي عبد الرحمان السلمي. وحدَّث قاسم بن أَصْبِغ

البَيَّانِي، عن أحمد بن زهير، عن أبيه عن جرير، عن واصل بن سليم. قال: صحبتُ عطاء بن السائب في طريق مكة. فكان يقرأ القرآن في ليلتين. وتوفي رحمه الله سنة ست وثلاثين ومائة. وأما عطاء بن يزيد الليثي، فمدني ويكنى أبا محمد أيضا. وقيل أبا يزيد سمع أبا أيوب، وتميماً الداري، وأبا سعيد الخدري، وأبا هريرة. ولم يذكره أبو عمرو في طبقات القراء. وسمع منه الزهري، وروى مالكَ عن ابن شهاب، عن عطاء، عن عطاء بن يزيد الليثي، عن أبي أيوب الأنصاري، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث" فذكر الحديث. وروى مالك أيضا عن ابن شهاب عن عطاء بن يزيد الليثي عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: "إذا سمعتم النداء فقولوا مثل ما يقول المؤذن".

وتوفي سنة سبع ومائة وهو ابن ثنتين وثمانين سنة وأما عطاء بن عبد الله الخرساني، ويقال عطاء بن مَيْسَرَة. قاله أبو بكر البزاز وغيره، فهو مولى آل المهلب بن أبي صفرة. ويقال مولى المطلب. ويكنى أبا عثمان وقيل أبا الوليد وقيل أبا أيوب. ولد سنة خمسين وتوفي سنة خمس وثلاثين ومائة. وقيل سنة ثلاث وثلاثين ومائة. ودفن ببيت (المقدس). وقال يحيى بن معين: قد روى مالك عن عطاء الخرساني، وعطاء ثقة، قد رأى ابن عمر وسمع منه. وقال عمرو بن علي الفَلاَّس: عطاء ليس به بأس. روى عنه مالك وغيره. وكان عطاء كثير الجهاد إلى بلاد الروم، وكان يقوم من الليل في بلاد الروم، فينادي في خبائه: يا يزيد بن يزيد، ويا عبد الرحمان بن يزيد، ويا هشام بن الغاز. ويا فلان ويا فلان، يعنى من كان حوله ومعه. قوموا. فإن قيام الليل، وصيام النهار، أيسر من مقطعات الحديد، وشراب الصديد، النجا النجا.

قال أبو اسحاق: قد جئت بهذه الأسماء وبعض أخبارها، وإن لم تكن شرط كتابي تشريفا وتتميماً لفوائده؛ واستعذابا لمصادره وموارده. وأرجع إلى اكمال باب الحب، والنهي عن ارتكاب الذَّنْب، واجتنابِ ما فيه سَخْطُ الرَّب. سُئل أبو هريرة عن تأويل قول الله تبارك وتعالى (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ). فقال: (النظرةُ والغَمْزةُ والقُبْلَةُ والمُباشَرةُ). وعن ابن عباس؛ ان اللَّمم كل ما دون الزناء، وعنه أيضا أنه قال: والرجل يُلِمُّ بذنب ثم يَتوب. وقال: ألم تسمع أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: إنْ تغفر اللهُمَّ تغْفر جَما وأيُّ عبد لكَ لا أَلَمَّا

والشعر لأبي خراش الهذلي ومعنى ألماَ: أي لم يُلِمَّ بِذَنْبٍ. والعرب تدخل (لا) على الفعل الماضي، وتقرنها به، فتنوب مناب (لَمْ) إذا قرنت بالفعل المستقبل. قال الله تبارك وتعالى (فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى) أي؛ لم يصدِّق، ولم يصل. يريد فلا صدق بربه ولا صلى له. وقال تعالى (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) أي؛ لم يسلك الطريق الذي فيه النجاة. قاله ابن زيد وعن ابن عباس العقبة: جبل في جهنم وقيل: هو تمثيل معناه: لم يفعل ما أمر به والاقتحام في اللغة: الدخول على شدة وضغط. وقال ذو الأصبع العَدْوَانِي يخاطب ابن عم له: لاهِ ابْنُ عمِّكَ لا أَفْضَلْتَ في حَسَبٍ ... عنِّي ولا أنتَ دَيَّاني فتَخزُوني أي لم تفضل عليّ. (فلا) في هذه المواضع كلها بمعنى (لم)؛ لأن (لم) نفيٌ للفعل الماضي. وهو من عوامل الجزم. والجازم لا يدخل على الفعل الماضي لأنه مبني. رجع وعن مجاهد والحسن أنهما قالا في معني الآية (إِلاَّ اللَّمَم). قالا: هو الذي يأتي الذنب ثم لا يعود.

وعن أبي صالح: اللمم: الزنية ثم يثوب. وقال بعض أهل العلم: اللمم صغار الذنوب وقال نفطويه: اللمم: أن يأتي ذنبا لم بكن له بعادة. وفي الحديث عن الزُّهْري عن سعيد بن المسيب عن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم. قال لها: "يا عائشة إنْ كنتِ ألممتِ بذنْبٍ فاسْتَغْفري الله فإنَّ العبْدَ إذا ألمَّ بذنْبٍ ثمَّ تابَ واستغفرَ الله غَفَر لَهُ". وعن ابن عباس وسئل عن الآية (إلاّ اللمم) فقال ألستم أعراباً. أما سمعتم قوله: وَمَنْ زِيارته لِمَامُ قال سفيان: يريد قول الشاعر: بأهلي منْ تَبْغَضُهُ عزيزٌ ... عليَّ ومنْ زيارتُهُ لِمامُ ويروى تحببه. ومنْ أُمُسِي وأُصْبحُ لا أراهُ ... ويطْرُقُني إذا هَجَعَ النِّيامُ أتنْسى إذْ تُودِّعُنا سُلَيْمَى ... بِفَرْعِ بَشَامَةٍ سُقِيَ البَشام قال: ومثله الإلمام واللَّمة. حكى أحمد بن يحيى ثعلب عن ابن الأعرابي، قال: يقال: أَلْمَمْتُ به إلْماما. وماأتيته إلاَّ لِماما. وقال الشاعر:

لئن آثرتْ بالحبِّ أهل بلادها ... على نازِحٍ منْ أرْضِها لا ألُومُهَا وهلْ يَسْتَوي منْ لا يَرى غيْرَ لَمَّةٍ ... ومنْ هُوَ ثاوٍ عند ليلى مُقيمها والعرب تقول: ما تأتينا إلاّ لِما ما وإلْماما؛ أي في الحين بعد الحين. وقال الشاعر: رِياشي منكم وهَوايَ مَعَكُم ... وإنْ كانت زِيارتكم لِمامَا وقال جرير: كِلاَ يَوْمَيْ أُمامَةَ يومُ صدّ ... وَإنْ لم تَأْتنا إلاَّ لِمَاما وعن الحميدي عن سفيان عن أبي حُسَيْن: اللِّمَامُ: الفينة بعد الفينة. قال صاحب العين: الفينة بعد الفينة. يريد الحين بعد الحين. قال: ولا يكون اللَّمم أن يهمَّ ولا يفعل؛ لأن العرب لا تقول: ألمَّ؛ إلاّ إذا فعل الإتيان؛ لا أنه همَّ به ولم يفعله. قال: واللَّمَمُ في الاستثناء صحيح، لأن الإلمام بالفاحشة فاحشة. فاللَّمَمُ من جنس الفواحش، وهو مستثنى من جملة الكبائر، وسائر الفواحش. وهو فاحشة مغفورة إذا لم يصرّ عليها فاعلها بدليل قوله: (إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ). والمغفرة لا تكون إلاَّ عن ذنب.

رجع ولله درّ القائل: فيا نفسِ ما لَقيتِ منْ لاعِج الهوى ... ويا قلبِ ما جَرَّتْ عليك النَّواظرُ ويا عيني مالي ومَالَكِ كلمَا ... هَمَمْتِ بَوَصْلٍ قام لي منك زاجرُ وان الحجا والصونَ والحِلْم والتُّقى ... لَدَيَّ لِرَبَّاتِ الخُدورِ ضَرائرُ أقولُ وقدْ نَمَّ الحليُّ بحرْسِه ... علينا ولا حتْ للصباحِ تَباشيرُ أيا رَبِّ حتَّى الحليّ مما أخافُه ... وحتَّى بياض الصُبح مما أُحاذِرُ وبِتْنا وباتَ الناسُ ساءتْ ... ظنونُهم وثوبي، ممَّا حرَّم اللهُ، طاهِرُ قوله: (لربّات الخدور ضرائر). الضرائر: جمع ضَرَّة. ومنه قول امرئ القيس: عنيفٍ بِتَجْمِيع الضَّرائر فاحِشٍ وضَرَّةُ الإبْهام: لحمة تحتها، ومثلها ضرّة الضَّرْع. والضَّراء من الضُّرّ. وقومٌ أَضِرَّاء. والضِّرَارُ مصدر ضارَّة. وفي الحديث (لا ضرَرَ ولا ضِرار). ومنه: الضِّرَارُ: أي الضُرُّ. وإذا أضرَّ بالرجل المرض قلت: رجل ضرير، وامرأة ضريرة. والضرير: الرّجل الذَّاهب البصر. والضَّرُورة: اسم لمصدر الاضطرار. وقال صاحب العين: الضَّرُّ والضُّرُّ لغتان. يعني بفتح الضاء وضمها. فإذا

جمعت بين الضَّرِّ والنَّفع: فتحت الضاد. قال الله تعالى: (قُلْ لا أمْلك لِنَفسي نَفْعاً ولا ضَرَّا). وقال ابن دريد الضُّرُّ: الهُزالُ بعينه. وضريرَا الوادي: جانباه وكُلُّ شيء دَنا منك فزاحَمَكَ فقد أضرَّ بك. قال الشاعر: لأمِّ الأرض وَيْلٌ ما أجنتْ ... بحيث أضرَّ بالحَسَنِ السبيلُ ونظير الضُرِّ: الأذى والألم. وأصل الباب: الانتقاض؛ لأن الضَّرَرُ انتقاض الحقِّ. والضريرُ البصر منتقض النور. والضَّرَّتان المرأتان للرجل؛ سميتا بذلك: انتقاض كل واحدة منهما ما كان لضرتها. لأن ما كان للواحدة صار مقتسماً بين الاثنتين. وقوله: أيارَبِّ حتَّى الحليّ مما أخافه البيت. أخذه ابن الزقاق، فقال من أبيات له: وقدْ غَنَّى الحلي على طُلاها ... بِوَسْواسٍ فجاوَبَهُ الوشاحُ

تحاذر منْ عَمود الصُّبحِ نوراً ... مَخافَةَ أن يُلمَّ بنا افتضاح وفي هذا المعنى من العفاف، يقول بعض أهل العصر من قصيدة له: كم ليلة بتنا ونحنُ بمعزلٍ ... عنْ كل واشٍ في الهوى يلْحانِي والليلُ قدْ أرخى السّدول وجنحه ... مذ كان مشتملٌ على الكِتْمانِ وكواكبُ الآفاق تسري وُقْداً ... والرَّاحُ تُطلعُ أنجُما بِبَنانِي ومُنادمي عذبُ المراشفِ أحورٌ ... بالأنْس منه وبالوصالِ حَباني لما رأى ظمئي لخمرةِ ثغره ... مَزَج الكُؤُوسَ بريقه وسَقَانِي وسَقيتُهُ حتى تمايَل عِطْفُه ... والقدُّ لينا مثل خوطِ البانِ وتحيرتْ أجفانه وتمكنتْ ... سنَة الكَرى منْ طرفِه الوسْنانِ وسَّدْتُه عَضُدي وبات مُعانِقي ... وبَرَّدْتُ حرَّ الوجدِ بالرَّشْفانِ ورغبتُ عن فعل اللئام وعفَتي ... تَنْهَى عن الآثام والعصيانِ ما نلتُ إلا ما أباحَ لي التقى ... لو حلت الصَّهباءُ للإنْسانِ في أبيات غير هذه. وفيما أثبتُّ من الحكايات والأخبار، ورقائق هذه الأشعار، ما فيه المقنع والكفاية. ولا يتسع هذا الديوان لاستقصاء الغاية. ويجب على كل من ابتلى بالهوى أن يكتم هواه، ولا يبوح به إلي سواه، وأن يُحذِّر نفسه عواقب ربه، ويشغل بخشيته تعالى شعاب قلبه. ومن ظفر بمن يهوى فليعف، ويتجنب مالا يحل ويكفّ، ويعلم انّ التقى حبل الله؛ فمن تمسك به عصمه، ومن رغب عنه كبته وقصمه. والرفيع من رفع نفسه عن الدنيات، والوضيعُ من مال مع النفس

الأمارة بالسوء الى الشهوات. نسأل الله ربنا أن يعصمنا من الهوى، وأن يحفظنا من المكاره، ويجنبنا البدع والأهواء، ويسلك بنا المحجة البيضاء، ويمنّ علينا بهداه، ويوفقنا الى ما يحبه ويرضاه، ويعمر قلوبنا بمحبته، ويدخلنا في رحمته، ويختم لنا بجنته، بطوله وعزَّته. كمل السفر الأول من النسخة الكبرى من كتاب "كنز الكتاب ومنتخب الآداب" بحمد الله وعونه والصلاة على سيدنا ومولانا محمد نبيه المصطفى وعلي آله وصحبه وسلم تسليما. وفي يوم الجمعة الثالث والعشرين من شهر المحرم مفتتح عام ثلاثة وتسعين وتسعمائة عرف الله بركته وخيره.

§1/1